الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023

سكلمة. نسخة جديدة (28\11\2023)

رواية

 

 

 

 

 

 

 


              ســـكلمة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محمد فتحي المقداد

 

 

 

 

 

 

ســـــكلمة

رواية

 

 

 

 

 

 

2023

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بيروت

(1)

-"لا هيبة لغُبار اِسْتراح على كَفَنٍ عتيقٍ، ولا فرق، حتَّى وإن كان جديدًا، وَيْل قلبي على عُمرٍ ضُيِّعَ على مَدارج كواليس الظَّلام؛ إِذْ سَرَقته الرِّيح في يوم جُنونِ الهَبوبِ الغاضب، لم يرحم إخلاصًّا بكلمةٍ ناصحةٍ، منذ تَسَلُّلِ الشَّكِّ مع خُيوط اِخْتلاف وُجُهات النَّظر"[1].

ودواخله تعوي بأنينٍ مُتحَشْرجٍ:

-"أين الأشرعةُ التي كانت؟. قيل: إنَّ الزَّمان طَوَاها ببُرود في قاع مُحيط النِّسيان؛ عندما تهاوَتْ بلا عِنادٍ، واِسْتسلمَت للعاصفة..! وأصوات القراصنة المُرعبة المُنفجِرة بِرَهْبَتِها المُخيفة، جاثمة بجوار حُطام الأشرعة في القاع"*.

بتاريخه: 9. نيسان (أبريل) ليلة سقوط بغداد 2003: (بيروت)

الحروب لعنة البشريَّة. هي انقلابٌ حقيقيٌّ على جميع الثوابت والأعراف. من السَّهل إثارة حرب أو إشعال الحرائق في أيَّة بُقعة من العالم، ومن الصُّعوبة بمكان إيقاف اِمْتداداتها، وليس من السَّهل التنبُّؤ بنتائجها غير المحسوبة على الإطلاق.

لعنةُ الحرب لم تُغادر المكان، ذاكرته مازالت تحتفظ بأوشحة قليلة ترتسم بألوان وأشكال بُؤسها على واجهات وجُدران وزوايا شارع الحمرا في وسط بيروت التِّجاريِّ.

صمتُ المكان لا ينفي ضجيجه المُنبعث من جديد في الأذان والعقول ولا يهدأ. القلوبُ تهتزُّ وترتجف، والألسنةُ تُردِّد: "الله لا يعيدها أيَّام الحرب".

سبعة عشر عامًا حفرت مساربها عميقًا في نُفوس أجيالٍ عاصرتْها، أحزانها السَّاكنة في دواخلهم، يبوحون بها بين الحين والآخر لأبنائهم في أحاديثهم العابرة، عندما تعود الذَّاكرة التي لم تتآكل؛ فتدمع عُيون، وأخرى تُجهَشُ بُكاءً على أعزَّاء نهشتهم آلة الحرب المُتوِّحشة.

أحزانٌ لا تفتأ بالظُّهور كلَّما سَنَحَتْ لها الفُرصة؛ فالحرب لم تكُن تُنقِص من أعمار النَّاس، إلَّا مَنْ اِنْقَضَت آجالهم. الآثار المديدة للحروب تُصبحُ تاريخًا يُروى على أَلْسِنة مُعاصريها، أو من قرؤوا عنها في الكتُب أو المجلَّات، أو من سمعُوا شيئًا عنها، وليس من سمعَ أوعى ممَّن رأى وعاين، وهو شاهد العَيان. لا يُمكن مَحْوَ الأحزان خلال يوم وليلة، ولا بسنة أو عشرة. تجفُّ الدُّموع، وتختنق العبرات بالنِّسيان المُؤقَّت، أو بالدَّائم إذا فُقِدت الذَّاكرة.

..*..

 

وفي صالة انتظار مقهى "ويمبي[2]" الشَّهير برمزيَّته لدى الكثير من الكُتَّاب والمُثقَّفين العرب والأجانب على حدٍّ سواء. ذاكرة المكان تُشكِّل جُزءًا لا يتجزَّأ من ذاكرة سكلمة وأصدقائه القُدامى.

الاِرْتباط الرُّوحيِّ والنَّفسيِّ بمكان ما، لا تمحوه عَوادي الأيَّام. المقاهي الحديثة في "شارع الحمرا" ومحيطه جاذبة لنوعيَّة جديدة للزَّبائن، مختلفة بطبيعتها بمعطيات وتكوينات زمن غير ذاك.  يذهب الإنسان بعيدًا في دروب الحياة والنِّسيان، ويترك شيئًا من روحه في مكان أحبَّه، يعود إليه على الأغلب؛ ليستعيد جزءًا من نفسه لتعزيز توازنها، ويُجدِّد ذكرياته، ويتلذَّذ بها. 

كان سكلمة على موعد مع جورج صديق دِرَاسته الجامعيَّة، بعد ثلاثة أيَّام من وجوده في بيروت. اللِّقاءات المُتقاربة أو المُتباعدة لم تنقطع بينهما، كلَّما سَنَحت الفُرصة بتواجدهما معًا في بيروت، على مدار سنوات ناهزت الاثنين والأربعين عامًا، منذ دُخولهما إلى الجامعة الأمريكيَّة 1961م، جمعتهما زمالة الجامعة الاختلاف ما بيْن كُليَّتَيْ دراسات العلوم السياسيَّة والعلاقات الدُّوليَّة، والصَّحافة والإعلام.

..*..

 

 

 

 

 

 

 

طلَبَ فنجان قهوته السَّادة قبل وصول صديقه بنصف ساعة، اِسْتخرَج دفترًا متوسَّط الحجم من حقيبة يده المُرافقة له في كلِّ مكان، عاد الجرسون؛ فلم ينتبه لوقوفه بجانب الطَّاولة عندما وَضَع أمامه فنجان القهوة؛ إلى أن سمع الجَرْسُون:

-"تفضَّل يا أُستاذ".

لم يستطع الردَّ على تحيَّة الجَرْسُون، إلَّا بإيماءة من رأسه بحركات بطيئة تنبئ عن تعب صاحبها. رفع رأسه، وتوقَّف عن كتابة آخر كلمة في السَّطر بعد أن وضَعَ نُقطة، وأغلقها بقوسيْن صغيريْن.

نظر إليه بنظرات زائغة لم يتبيَّن شكله جيِّدًا، بعد أن اِسْتدار الجَرْسُون بخطوات سريعة لمتابعة طلبات باقي الزَّبائن المُنتظرين وصوله بفارغ الصَّبر، نادى سكلمة عليه؛ ليعتذر له عن عدم ترحيبه به بحرارة، ظنًّا منه أنَّه يعرفه قبل ذلك.

..*..

 

المكان مهجوس بأرواح تسكنه حسب اعتقاد سكلمة، وردَّد ذلك مرارًا على مسامع أصدقائه القُدامى، والجُدُد في جلسات سابقة جمعته بهم على فترات مُتُقاربة مرَّة، وأخرى كثيرة مُتباعدة:

-"خُطوات خالد عُلوان لا أستطيعُ كيف أصفها كلَّما تذكَّرتها، وكما أتخيَّلها وأتصوَّرها بذهني. لا أظنُّ إلَّا أنَّه كان رابط الجأش، وهو يتقدَّم بخُطوات واثقة نحو هدفه، وهو يُشهر نفسه مُسدَّسه بشكلٍ مفاجئ، عندما أصبح الضَّابط الإسرائيليِّ ومُرافقيْه من الجنود هدفًا مشروعًا، ولم يتردَّد بالضَّغط على الزِّناد لينتهي كلِّ شيء إلى الأبد،  الغُزاة دنَّسوا ببساطيرهم طَهَارة المكان، ونجَّسته دماؤهم العَفِنة.

ما الذي جاء بهم من هُناك ليحتلُّوا بَيْروت، أوَّل عاصمة عربيَّة تسقط سُقوطًا غير مسبوق، اِنْتهاك سيادة، واِغْتصاب إرادة.

ما معنى أن يجلس هذا الضَّابط عَلَنًا في مكانٍ عامٍّ. هُنا.. هُنا.. على هذه الطَّاولة بالذَّات، ومن شِدَّة صَلَفِه أصرََّ على دفع فاتورته بالشِّيْكِلُ العُملة الإسرائيليَّة.

وبهذه النُّقطة بالضَّبط, لا يُخالجني أدْنى شكٍّ أنَّه يستهزئ بنا، ويتحدَّانا جميعًا بلا اِسْتثناء، أحيانًا يُخالطني شُعورٌ بثقل الهواء المُلوَّث بأنفاسهم الكريهة، ودُخَّان سجائرهم على جهازي التنفُّسي بعد كلِّ هذه السِّنين.

أظنُّ أنَّ قَتَامَة عَدَسَتَيْ نظَّارة الرِّيبان السَّوداء، كانت غِشاوةً أَعْمَت بصيرته عن رُؤية المكان الكَارِه له، ولا فكَّر إلَّا أنَّ الجميع اِسْتسلموا لجبروته، يا لها من نظَّارات رائعة أبرزته بتفاخُره للعَيَان؛ صَوَّبت أنْظار أبناء البلد تجاهه.

فلو قُدِّر لي اِسْتقبال من أمري ما اِسْتَدْبرتُ؛ لاِشْتريْتُ المقهى حتَّى أقْلِبَه مُتْحَفًا ذا قيمة تاريخيَّة، وأقمتُ نَصْبًا تِذكاريَّا رُخاميًّا، ويعتليه تمثالٌ برونزيٌّ من أجل خالد، ومهما كانت كِلْفته الماديَّة وعلى حسابي الخاصِّ؛ ليبقى شاهدًا وحارسًا أمينًا لذاكرة المُستقبَل.

يتربَّعُ هنا أمام عينيِّ على ناصية زاوية الرَّصيف المُمتدّة أمام الويمبي، وسأجعلُ وجهه صوْب الغرب باتِّجاه البحر؛ ليرصُد القراصنة ويواجههم بملامحه العابسة بغضب؛ وليقرأ قراصنة الشَّرق بوقفة شموخه الصَّلبة كصخرة بيروت أنَّهم أخطؤوا هدفهم.

ها.. يا إلهي..! كأنَّ وقْع خُطُواته تقرعُ سمعي، وهو يتقدَّم بخطوات ثابتة ليُردي الضَّابط اليهوديّ وجنوده مُجندَلين يتمرَّغون بدمائهم في النقطة ذاتها التي أجلس عليها، وكأنَّهم ما زالوا تحت قدميَّ.. زَنَاخَة دمائهم تسلَّلت إلى أنفي.

هل غادرت روح خالد المكان؟.

هل سيموت المكان بعد ذلك؟.

سيبقى التِّمثال حارسًا للمكان. ولم يكُن التّمثال إلَّا سوى أمنية تُخالط عقل سكلمة فقط؛ فكلَّما تطاول العهد بحادثة ما، تتآكل الذَّاكرة شيئًا فشيئًا، ثمَّ تُنسى إذا بقيت حكاية تتناقلها الألسُن، التَّوثيق أهمُّ نقطة مفصليَّة لأيِّ أمر كان.  

ومن أجل تنفيذ ذلك، لكنتُ قد اتَّخذتُ كلَّ الوسائل المُمكنة وغير المُمكنة، لاِقْناع أو إجبار  بلديَّة بيروت على تسمية السَّاحة الصَّغيرة باسم خالد عُلوان، أُسْوة بالأمير الوليد بن طلال حينما أَجْبَر رئيس الحكومة "رفيق الحريري" وشركته "سوليدير" على إعادة تمثال جدِّه "رياض الصُّلح" إلى مكانه في السَّاحة التي تحمل اسمه، أثناء فترة إعادة الإعمار لوسط بيروت التِّجاريِّ. 

 الغُزاة العابرون زائلون لامحالة، وما اِسْتقرَّ على الأرصفة إلَّا غُبار أحذيتهم، وبعد مُغادرتهم ستتولَّى الرِّيح الأمر، وتذروه شَذَر مَذَر، وستمحو له أيَّ أثر، لا يبقى إلَّا ذكرى في ذاكرة مُعاصريهم، وتاريخًا مقروءًا في الكُتُب. خالد علوان وأمثاله علامات مُضيئة تُرفَع لهم القُبَّعات اِحْترامًا، حتَّى وإن كُنَّا مُختلفيْن في وجهة كلِّ بانتمائه الحزبيِّ والسِّياسيِّ، إنَّما نحن مع الوطن وإن اِخْتلفنا، لكنَّنا لن نفترق على الوطن، بل من أجله".

..*..

 

فقرتان مليئتان بمشاعر القهر والخيبة والإحباط واليأس، اِنْتفاخ جفنيْه المُحْمَّريْن كجمرة من نار، على مدار أسبوع لم يذُق طعم النَّوم كما عهده السَّابق المُنتظم بمواعيد نومه وطعامه. التَّدخين والقهوة على مدار السَّاعة حرق للأعصاب مستمرّ، صُدُود نفسه عن الطَّعام عُمومًا إلَّا إذا دَاهَمه شعور قاهر بالجوع، لا يأكل إلَّا أقلَّ القليل.

الاستعداد للِّقاء أخرجه من كَسَله وجَزَعه، حاول تبديل مَظْهره بحلاقة دقنه التي مضى عليه أسبوع، أو ربَّما وَصَل الأمر لعشر أيَّام، حتَّى أنَّ شعر رأسه المُتوسِّط بطوله لم يُسرِّحه، إلَّا مرَّتين.

حينما نَزَل من جناحه في الفندق إلى تناول طعام الفُطور مرَّة، وأخرى للغداء، وأغلب الوَجَبات تأتيه إلى مكان إقامته، ولم يستجب لجرس وتنبيهات هاتفه النقَّال التي تطلبه. كان يرى أرقامًا دُوَليَّة ومَحليَّة من جهات وأصدقاء. عدد قليل جدًّا منها ومعدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة التي ردَّ عليها. إلَّا ثلاث مُكالمات واحدة منها مع جورج.

قَلَب صفحة جديدة من الدَّفتر، وهي الصَّفحة الثانية التي كتبها منذ وصوله إلى بيروت قبل أسبوع، وكتب:

-"(مديح الوطن.كهجاء الوطن\\مهنة مثل باقي المهن)[3].

الأدوات.. ستبقى الأدوات فاعلة إلى حين اِنْتهاء صلاحيَّتها. الأدوات تَأْتمِر بإرادة سَيِّدها.. تخدُم، وتسمعُ، وتُطيعُ، وتُنفِّذُ المطلوب بِدقَّة وحِذَر وصَمْت"[4]. ــ

توقَّفت كأنَّما راودته فكرة. شَفَط نفَسًا عميقًا؛ مَلأ فَمَه بدُخان سيجاره الكُوبيِّ. اِنْتبه لوصول جورج يدخُل من بوَّابة المقهى. الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحًا.

عِناقٌ طويل بعد سَنتين على آخر لقاء بينهما كان في باريس. لقاءات الأحبَّة وإنْ تباعدت لا تَبرُد ولا تجفّ، تبقى حارَّة نديَّة بلهفة الشَّوق والحنين.

..*..

 

رائحة السِّيجار تختلط بعطره الخاصّ "الشَّانيل"، شكَّلا حوله بحالة هُلاميَّة صنعت عُزلَتِه عن مُحيطه، ولم تلفِتْ اِنْتباهه.

ضحكاتُ السيِّداتُ الجالساتُ هُناك في الزَّاوية المُطلَّة على الرَّصيف، ولا اللَّواتي على الطَّاولات المُقابلة له، أو القريبة من طاولته.

بعد السَّلام..، والأسئلة المعتادة عن الحال والأحوال. انتبه جورج للدَّفتر على الطَّاولة وتناوله، بعد إشارة إيجاب من رأس سكلمة بالسَّماح. صداقة بلا حدود.. بلا حواجز، ببساطة وبلا تكلُّف اِعْتادا ذلك منذ أيَّام الجامعة، لم يتغيَّر شيء على طباعهما عندما يجتمعان في أيِّ مكان من الكرة الأرضيَّة.

اِرْتسمت على وجه جورج ضحكة حزينة بِالكَادِ كَشَفت عن بَياض أسنانه اللُّؤُلُئِيِّ. هزّ رأسه بتعجُّب، وهو يرفع حاجبيْه للأعلى إلى ما فوق إطار نظَّارته الذَّهبيِّ. وقال:

-"اِسْم الله عليكْ.. نَفسكَ مفتوحة على الكتابة".

-" مُجرّد خاطرة لتنفيس الاِحْتقان الدَّاخليِّ".

انخرط بالقراءة بصوْتٍ يسمعه سكلمة. ويتوقَّف عند نهاية كلِّ فقرة. يصمُتُ لِبِضْع دقائق قبل البدء بأخرى. سكلمة لا يدري ما يدور في ذِهْن صديقه في لحظة صَمْتِه، ولم يُتعب نفسَه بتوقُّع ما سيقول.

بقِيَ الدَّفتر بيده يتحرَّك كيفما تحرَّكت على وَقْع نَزَقِ الكلمات الغاضبة. الجرسون بعدما تلقَّى إشارة من عين سكلمة، بلباقة وأدب وقف بصبره العجيب، لباقته لم تسمح له بالتدخُّل لمعرفة طلب جورج المُنفعل. بل جمد مكانه، وكان الانتظار سيِّد الموقف؛ فهو أسيرُ رغبة الزَّبون وإن خالفت طبيعة عمله الدَّؤوب بلا توقُّف.

كثيرًا ما يكونُ الاستغراق في لُجَّة الانفعال؛ ليأخذ صاحبه في غيبوبة تفصله عن محيطه؛ فلا يسمع ما يُقال، ولا يرى أيَّة حركة مع توقٌّف ملاحظته للأشياء.   

جاءت حالة جورج كَرَدٍّ، ونتيجة طبيعيَّة لما فَهِم ممَّا قرأه في الدَّفتر، وقال:

-"أفهمُ من كلامكَ: ‏أنَّ الاِنزواء والتراجُع للخلف رغم أنَّهما نَتَاج ظُروف قاهرة.. لا طاقة لنا بمقاومتها، أو التَّخفيف من شِدَّة وطئتها، وقساوة مُعطياتها. معنى ذلكَ أن نصمُت..! وهل الصَّمتُ، ودفنُ الرأس في الرِّمال هو الحلُّ..!؟".

-"ليس بالضَّبط كما تقول، ولكنَّ الحرب بهذه الهمجيَّة أقوى منَّا جميعًا. بصراحة. وللمرَّة الأولى أقولها لكَ حصريًّا: تعبتُ.. وتعبتُ".

-"برأيكَ، وهل تحتاج لاِسْتراحة المُحارب..!".

-"لا.. لا أبدًا.. أعتقدُ أنَّه آَنَ للفارس أن يترجَّلَ، ويُعلن...". قاطعه قبل إكمال جُملته بلا استئذان منه، وكأنَّهُ خمَّن تكملة كلامه. بتوتُّر بدا على ملامح وجهه الغاضبة من شيء مجهول، غطَّى على فرحة اللِّقاء بينهما.

-"أرجوك يا سكلمة.. ثمَّ أرجوكَ. لا تقُلها، كنتُ أظنُّ أنَّني الوحيد الذي يُفكّرُ؛ ليعلنَها للعالم بملء إرادته".

-"وما الذي ننتظرهُ بعد هذا السُّقوط المُريع والمُخزي، ربَّما فكَّرتُ بالاِنْتحار مرَّات عديدة، للخلاص من الكآبة والحزن واليأس، باِنْطفاء بغداد آخر شمعة عربيَّة.. اِنْطفاء العراق يعني نهاية العرب، ولا أمَل بتاتًا.. ولن تقوم لنا قيامة بعد هذا.. فظاعة الشُّعور بالسُّقوط تنهشُ قلبي بلا رحمة".

-"وهل هذا هو سكلمة..!! الرَّجل المعروف بعناده المعهود ولو على خطأ، وعناده لا يُقارن إلَّا بصخرة صمَّاء، تستعصي على عوامل الطّبيعة مهما كانت عاتية، وصقيلة ملساء يستحيل على ذرَّات الغُبار النَّاعم اِسْتيطان سطحها.

وا أسفاه..!! على زمان كنَّا فيه وكان لنا.. وعلى حاضر تسرَّب من بين أصابعنا، ولا حيلة نملكها لضبطه".

الأسى والحزن ظاهر في لهجة جورج بالتأسِّي على ماضيه في الواجهة الإعلاميَّة في لُبنان الفاعلة المُؤثّرة بطروحات ذات لهجة مُنكسِرَة ناضحة بالحُزن، هناك موضوع يشغل ذهنه لرفد حركة الحوار مع سكلمة في جلستهما النَّادرة باستثنائيَّتها، قد تكون لقاءهما الأخير، شعور غريب خالجه بإحساس مجهول المصدر والرُّؤية، هناك شيء غامض ولا دليل عليه، بالفعل هذه المرّة كان اللِّقاء باردًا، مشوبًا بالحزن، آثار التَّعب على وجهيهما، لهجتهما قلقلة، لم يستطيعا القبض على مصدر الإزعاج لكلِّ منهما، أو الإفصاح عن مكنوناتهما المُحبطَة، الحديث المُتشعِّب كان جريئًا بملامسته ثوابت كانت مُقدَّسة إلى وقت قريب، تغيُّر الظُّروف بدَّلت المعايير لرؤية جديدة للقضايا، ليتابع:

-" على وجه التَّحديد لا أستطيعُ معرفة سببٍ معقولٍ؛ لتذكُّر مقولة المرحوم "كمال جنبلاط": (إذا خُيِّر أحدكم بين حِزبه وضميره، فَعلَيْه أن يتركَ حِزبه، وأن يتبعَ ضميره؛ لأنَّ الإنسان يُمكن أن يعيشَ بلا حزبٍ، لكنَّه لا يستطيعُ أن يحيا بلا ضمير)".

-"وهل تعتقدُ، أنَّه خَرَج من اتِّحاده الاِشْتراكيِّ مُنحازًا لضميره؟".

-" بكلِّ تأكيد يا صديقي كان موقفُه أفصَحَ وُضوحًا من الشَّمس في رابعة النَّهار؛ عندما عادى الجميع دِفاعًا عن لُبنان، والقضيَّة الفلسطينيَّة. ضميرُه صنَعَ أعداءه الذين اِشْتغلوا على تنحيته من طريقهم، لكنَّهم لم يتَّفِقوا على اِغْتياله. 

معلومٌ أنَّ إسرائيلَ العدوّ الأوَّل المُتضرِّر من وُقوفه إلى جانب قضيّة فلسطين، وجماعة الموارنة رأوا فيه تهديدًا لوجودهم، وسوريا التي لم تحتمل نفوذه الواسع في لبنان؛ فالمنافسة لا تقبل شريكيْن قويَّيْن (كمال جنبلاط وحافظ الأسد)، كان يُمكن أن يتقاسما الكعكة عن تَراضٍ بينهما، إنَّما لابدَّ من إزاحة أحدهما؛ فكان أن أزاحوه، وأسْكَتوا صوته إلى الأبد، رغم أنَّه كان على عداء مُباشر مع المسيحيين الموارنة تأييدًا للفلسطينيِّين، ولم يتردَّد بتوجيه اِتِّهاماته العلنيَّة للموارنة  بوقوفهم مع "إسرائيل" لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، وخصوصًا الوعود التي أعطيت لــ"بيار الجميِّل" ومن بعده لابنه "بشير"، ولـ"كميل شمعون" مع بدء الحرب الأهليَّة، والاشتغال على مسار إعادة تعريب الموارنة ليستعيدوا مكانتهم التاريخية كطائفة أولى في لبنان؛ عندها يتمّ القضاء على المقاومة الفلسطينيَّة، واِسْتمرَّ كمال ثابتًا على موقفه حتَّى مقتله، ونظريًّا ومنطقيًا أنَّ الموارنة هم أكثر المُتضرِّرين منه، لكنَّ الطَّلقة الأخيرة جاءت من غيرهم". قال جورج

-"أستاذ جورج.. آنَ الأوانُ لأنحاز إلى ضميري مثله، ولو أنَّه جاء مُتأخِّرًا، سأذكرُ موقفه عام 1967 إلى جانب مصر وسوريا والأردنّ، وتأييده اللَّامحدود للقضيَّة الفلسطينيَّة.

بعدها بسنوات أصبحَ أمينًا عامًّا للجبهة العربيَّة من أجل الثَّورة الفلسطينيَّة. وتصدَّى للمؤامرة الصُّهيونيَّة الاِنْعزاليَّة في لبنان، وقاد نضال الحركة الوطنيَّة اللُّبنانيَّة مُعلنًا برنامجه الإصلاحيِّ بإنهاء الطّائفيَّة السياسيَّة اللُّبنانيَّة، وتأسيس المجلس المركزيِّ للأحزاب الوطنيَّة التقدميَّة العربيَّة".

-"بِشَرفي إنَّه لَشيْءٌ مُحيِّر.. سياسة بلا شَرَف، وسياسيُّون لا مبدأ لهم".

-"هكذا هي منذ الأزل. المصالح أوَّلًا.. ولا قيمة للنوايا الحسنة، ولا للعواطف الصَّادقة في مقامات السِّياسة. أستاذ جورج لا تُؤاخذني أو تُسجِّل عليَّ ملاحظة،  ربمَّا تتندَّر بها عليَّ، وأنا لا أطيق ذلك ضحك جورج بصوت عالٍ- ولا أدري كيف اِسْتطاع قلبي اِحْتمال هذه المُتناقضات طوال هذه السِّنين أثناء خدمتي في أروقة صِنَاعة القرار بمطبخنا السِّياسيِّ، ولم يغفر له حافظ الأسد تحدِّيه عندما قال له: دخولكَ إلى  لبنان يعني أنَّ إسرائيل ستجدُ مُبرِّراتها للتدخُّل، كما رفض مشروع الكونفدراليَّة التي تجمع سوريا ولبنان والأردن، التي كانت تهدف لإنهاء الثَّورة الفلسطينيَّة".

قسمٌ غير كبير فقط من رُواَّد الويمبي اِنْتبه إلى مصدر الضَّحِك، الذي اِخْترق أسماعهم رغم قرقرة النَّراجيل، وقرقعة أحجار النَّرْد عندما تنثرها بغضب يدُ لاعبٍ مقهورٍ من خَسَارته، صُراخُ الباعة العابرين أمام المقهى، والذين مَنْ هم على الرَّصيف في الجهة المُقابلة للمقهى، الأصوات تُضفي صبغة خاصَّة على المكان، بشعور نابض بالتجدُّد بلا توقُّف مهما كانت الظُّروف. الاِسْتمرار صيغة الحياة المقبولة بجميع الظُّروف. وعليْه تُبنى آمال طامحة، وتتبدَّد أحلام مقهورة.

تتعالى سَحَابة دُخان من فَمِ جورج فور أن رفع وجهه للأعلى، وكأنَّه ضَاقَ بسقف المقهى المائل بلونه للأصفر، وفي بعض الزَّوايا إلى العسليِّ، والأغمق قليلًا البُنيِّ، وعقَّب على كلام صديقه سكلمة:

-"تخيَّل أنَّني ذات مرَّة كتبتُ هذا الكلام ليس بِحَرْفيَّته. بل قريبًا منه في الحوادث في الذِكرى العشرين لاِغْتيال كمال جنبلاط، شعرتُ وقتها بأنَّ الهواء بلا أوكسجين في لُبنان، والحلقة بدأت تضيق حول عُنُقي، كوابيسُ اللَّيل السَّوداء سرقَتِ النَّوم من عينيَّ على مدار شهر كامل، بعدها غادرتُ خمس سنوات إلى باريس. كما تعلم، ومن هُناك تابعتُ كِتاباتي إلى الحوادث، وغيرها من المجلَّات والجرائد العربيَّة".

رأس جورج الضَّخم يتربَّع فوق منكبيْن عريضيْن كأبي الهوْل. جَهَامَة وجهه تُكتَنَز فيها أسرار العالم أجمع. شارباه يتدليَّان على فمه وجوانبه، السَّواد والبياض يتقاسماه مُناصفةً، كما هي الحقائق تندلق على مساحة وطن المُتناقضات.

بشرته الحنطيَّة تتآلف مع طبيعة تكوينات جغرافيَّة جسمه الطَّويل، بدلة الجينز تُضفي عليه مَظْهرًا لافتًا بأناقته، وتُغطِّي رقبته خصلات شعره المُسترسل باِنْسيابيَّة تستجيب لنسائم الهواء اللَّطيفة بنُعومتها ورِقَّتها، يده لا تهدأ طيلة الوقت برفع الغُرَّة للأعلى كلَّما نزلت على عينيْه.

نبرات صوته غير منفصله عن نظراته الحادَّة، وهو يتحدَّث بصوته الجهوريِّ الضَّائع في لُجَّة اِخْتلاطات المكان الواسع المُريح، كفُّه الواسعة تتحرَّك بإيماءات مُتوافِقة بتآلُفٍ مع تعابير وتقاطيع وجهه التي تختصر كلَّ ما قيل، أو سَيُقال عن الكاريزما لفلان أو فلان.

وتابع حديثه، وسكلمة ساهِمٌ بنظراته من غير المعلوم أين تتركَّز:

-"وأخطَرُ ما في حياتي أنَّني أقفُ أمام بُوَّابة كبيرة لا أستطيعُ وُلوجَها، وعاجز عن طَرْقِها فضلًا عن فتحها، ليتَها تُفتح تِلْقائيًّا من ذاتها. لو سألتني: لماذا؟. لقلتُ لكَ بكلِّ تأكيدٍ؛ لأنَّها بُوَّابة ذاتي، ولا علاقة لأحد بشأنها؛ فهي تهمُّني وَحْدي، وخاصَّتي، ولن أسمحَ بعُبورها لأيٍّ كان مهما الأمر فظيعًا وقاسيًا. ولو كرَّرتَ السُّؤال ثانيةً: لماذا؟. بلا تردُّدٍ: إنَّ مواجهة الذَّات أصعبُ اللَّحظات في حياتي، أخافُ الصَّدمة المُوجعة. لكنَّ الذي لا بُدَّ منه حاصلٌ لا محالة.

تتراءى لي على الدَّوام صورة مُعلِّمي الأوَّل سليم اللَّوزي لروحه السَّلام، ولترقُد بأمان، حينما كنتُ أوَّل الواصلين إلى المستشفى؛ بعدما تلقَّيْتُ نبأ العُثور على جُثَّته في أحراج منطقة عَرَمُون جنوب بيروت- من مركز الدَّرَك. يا إلهي.. منظر غير معقول أبدًا!!. في قسم إسعاف الطَّوارئ. خلعوا عنه ثيابه، لتشريح الجُثَّة، رأيتُ طُيوفَ الألوان الحمراء القاتمة والدّاكنة السَّوداء من آثار التَّعذيب الوحشيِّ الذي تعرَّض له. عيناي جامدتان كقطعة حَجَر صُوَّانيٍّ، تصلَّب جفناهما فلا يقويان على أن يَرِفَّا بأدنى حركة تستجيب لدواعي الحُزن والبُكاء، صدمةُ المنظر أَلْجمَت الكلام في فمي، وفقدتُ شجاعتي، وأظنُّ فُقدان رُجولتي وقتها، وتوقَّف عقلي عن التُفكير بأيِّ شيء.  شللٌ تامٌّ حاق بي، غدا شَكْلي ليس بأكثر من هيكل تمثال على شكل إنسان.

بصراحة أكثر ما حَزَّ بنفسي وآلمني، وحرق قلبي لمشهد خارج عن تصوُّرات العقل والإدراك: حَرْقوا يده بمادَّة الأسيد، وانسلخ العظم عن لحمه الذَّائب في قذارة أوعيتهم الصَّدئة، إذ تعكس صورة وجوههم المتوحِّشة، المُتطابقة مع وجوه الذِّئاب، وهي الرِّسالة الواضحة لكلِّ قلمٍ حُرٍّ يعلو صوته صارخًا في وجه الظُّلم، ويقول للظالم: يا ظالم بصوت تهتزُّ له جَنَبات الكَوْن".

توقَّف عن الكلام فجأة، غُصَّة تحشرجت في حلقه كادت تخنق أنفاسه، تناول كأس الماء من على الطَّاولة، اِنْسكب منه شيئًا طال دفتر صديقه سكلمة، بسرعة جفَّفه بورقة منديل.

اِنْتبه سكلمة من ذُهوله، ليُكمل بدوره؛ ليحكي حقيقة مشاعره تجاه قضيَّة كمال جنبلاط وسليم اللَّوزي، وكأنَّه أراد تخليص ضميره من كلام بقي حبيس صدره لسنوات طويلة:

-"للتاريخ يا صديقي سأقولها بصدق، وبإمكانك تثبيتها والحديث بها، ونقلها عن لساني: أعلمُ عِلْم اليقين أنَّ قرار تصفيتهما صَدَر من عندنا؛ لأنَّهما تخطَّيا الخُطوط الحمراء، ولامسا الممنوع وغير المسموح. تغيير الخُطوط المرسومة كالكُفر بالله".           

..*..

 

بداية عملي بالصَّحافة في مجلة الحوادث. هل تذكُر ذلك؟. البدايات صعبة بالنسبة لي، في الأشهر الأولى عملتُ كمُتدرِّبٍ في المُتابعة والتّنسيق بقسم الأخبار. لقائي الأوَّل بالمعلِّم سليم؛ حينما طلبني بعد الظُّهر في اليوم الثّاني لدوامي.

رأيتُه بمهابةٍ نادرةٍ لا تُشبه إلَّا مهابة أبي بِصَرامتها، اِبْتسامته السَّاحرة سابقت نظرات عينيْه المشغولتَيْن بمُطالعة ورقة كانت بيده. لو قُدِّر لي تِعْداد ضَرَبات قلبي المُتسارعة بجُنون، لا أظنُّ إلَّا أنَّها ناهزت المليون خلال النِّصف ساعة التي جلستها معه.

قيل لي وقتها من أحد زملائي لا أذكُر اِسْمه على وجه التحديد: "بالفعل إنّك محظوظ يا جورج، لحصولِكَ على وقت ثمين لم يُتَحْ لنا قبلكَ". غمرتني نشوة داخليَّة بارتياح عميق، قتَلَ كثيرًا من هواجسي غير المُبرَّرة، وهدأت مخاوفي القلقة.  

منذ زمان ليس بالقصير، تُقلقني فِكْرة فريدة؛ تستوطن عقلي لا تغادر مكانها أبدًا.

-"قسمًا بالله إنَّكَ حيَّرتني، وأنت أبو الأفكار يا جورج. ولو قَلِق العالم كلَّه، لا يُمكن أن تقلق". وأطلقها ضحكة، ليست بقدر ضحكة صديقه قبل قليل.

-"صِدْقًا. بلا لَفٍّ ولا دَوَرانٍ عليكَ يا سكلمة. شُعوري الدَّائم، بأنَّني أتشابه بِمُشكلتي مع سيَّارة المرسيدس".

-وما معنى المرسيدس بالذَّات يا رجُل؟".

 -"المرسيدس؛ لأنَّها كانت شاهدة عَيانٍ على كلِّ الاِغْتيالات التي وقعت في لُبنان على الأخَصِّ والشَّرق الأوسط عُمومًا، شهدتُ قبل ذلك اِغتيال الرّئيس رشيد كرامي، وسماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد".

-"من الرَّائع يا جورج أن نكون شاهديْن على العصر على الأقلِّ إن لم نكُن شُهود زور، أو مثل (عبد السميع عبد البصير -عادل إمام- في مسرحيّة شاهد ما شافش حاجة)، عندما نحكي، نحكي عن عِلْمٍ ببواطن الأمور، ولا ندَّعي كاذبين. نَهْرِفُ بما لا نعرف".

-"الجريمة لا تنقضي بالتقادُم، يحدُث أن ننسى، وفي لحظة فارقة تأتي ذاكرة المآسي عندما تأتي بأثر رجعيٍّ؛ فبرغم من مُضِيِّ ثلاثة وعشرين عامًا على مقتل المُعلِّم سليم، بين فترة وأخرى تتجدَّدُ صورة يده اليُمنى المحروقة بالأسيد أمام عيْنيَّ، بشاعة يقشعرُّ منها بَدَني، ويقف شعر رأسي كلَّما تذكَّرت المشهد".

-"لن يتركوا صحفيًا ولا مُعارضًا، وإن كان شاعرًا أو أديبًا، وما قبل سنتَيْن من الآن أتذكُر ما حصل للروائيِّ نبيل سليمان باعتداء مجهولين عليه في بيته في اللّاذقيَّة؟، عندما اِفْتتح فيه مُنتدًى ثقافيًّا للحِوار حوْل فكرة المُجتمع المدنيِّ في سوريا. بالطَّبع كانت نهاية المنتدى بوقف جميع فعاليَّاته، بعدما نقلوه إلى المستشفى".

-"إنَّها سياسة تكميم الأفواه يا سكلمة..!".

-"ليس تكميمها فقط. بل المطلوب حقيقة: إسكاتها للأبد..!، كما أسكتَ الإسرائيليُّون صوت غسَّان كنفاني من قَبْل، ولا تزال كلمة جولدا مائير بتعقيبها على مقتله بوَقاحتها الكريهة، تصمُّ الآذان لمن سمعها أوَّل مرَّة بتصريحها الشَّهير، وكذلك من قرأه في الجريدة أو في كتاب ما، لن ينسى روح الشَّماتة التي أظهرتها، وما تردَّدتْ أو نَدِمَتْ أمام عدسات الكاميرات، ولو من باب التَّمثيل أمام الرَّأي العامِّ العالميِّ، وما حَسبَتْ حِسابًا للاِنْتقادات اللَّاذعة لقذارة كلامها الفجِّ، ولا لصفحات التاريخ.

لا أشكُّ بأنَّ لعنة الأجيال ستلاحقها ولو بعد مئات السِّنين: (اليوم تخلَّصنا من لِواءٍ فكريٍّ مُسلَّح).بكلِّ أسف بدا بلهجة سكلمة فيما قال.

-"شوف هالخبريَّة..! الريِّس رشيد حينما رفَضَ تحذير الحارس الخاصّ به. العميد المُتقاعِد جمال الموَّاس المُرافق ا للرَّئيس الشَّهيد رشيد كرامي، وقد سمعتُ منه ذلك مُباشرة: ("أبلغتُ "الأفندي" بضرورة عدم اِنْطلاق الطَّائرة التي تُقلَّه أُسْبوعيًّا من طرابلس إلى بيروت من قاعدة "أَدْمَا"، بل يمكن اِنْطلاق الطَّائرة من قاعدة عسكريَّة في بيروت، وهذا أضمن.

لكنّ الرَّئيس الشَّهيد رَفَضَ ما أبلغتُه به قائلاً: "هل تَشُكُّون في الجيْش اللُّبنانيِّ..؟ فأنا لا أقبلُ هذا الكلام". *

-" ليس بغريب ما ذكرْتَ يا جورج، وكأنَّ التاريخ يُعيد نفسه. فمثلما حصل للرَّئيس رياض الصُّلح بالضَّبط، عندما (تمّ تحذيره من أنّ جِهاتٍ تسعى إلى اِغتياله، ونُصِح بتأجيل زيارته للعاصمة الأُردنيَّة عمّان؛ فكان جوابه: "هل يجرؤون على فعل ذلك أثناء زيارة رسميَّة لدولة شقيقة..!؟"[5].

 

وجع الماضي يسترجع ذكريات مأزومة بأوجاع تتربَّص زمن اِسْتعادتها؛ لتجديد مواسم الأحزان، ولِتبُثَّ دُروس الخوْف في نفوس الشُّجعان، وتنثُر في طريقهم  الأشواكَ لِتثنيهم عن مُواصلة المِشْوار.

سكلمة وجورج وَجْهان لِعُملة واحدة، كِلَاهما بإمكانه تكملة رواية أيّ موضوع أو حادثة رُويَت منذ البداية. أو أيَّة دلالة عليه. ويتشابهان حدَّ التطابُق مع الحكيمَيْن "جورج حبش" و "وديع حدَّاد" كلاهما من جيل واحد يتطابقان مع فارق بسيط لا يتعدَّى الأشهر بميلادهما، ومن خرِّيجي الجامعة الأمريكية ببيروت، وتتلمذا على يديّ "قُسطنطين زريق" الذي كان أستاذًا في نفس الجامعة، ورئيسًا لها لسنوات طويلة، وتعلمَّا كما تعلَّم منه جميعُ دُعاة القوميَّة العربيَّة والعُروبة؛ فالجميع مدينون له بما وصلوا إليه من أمجاد قوميَّة.

بسهولة يستعيد أحدهما ما بدأه صاحبه أو جليسه. كأنَّهما كتابٌ مُتسلسل على شكل روايةٍ مُتقنةٍ، بل الأصحُّ دِقَّةً أنَّ: جورج رواية وحده، وسكلمة رواية أُخرى شبيهة. ربَّما يكمِّلان بعضهما حدَّ التطابُق التامِّ.

طبيعة علاقتهما لم تتأثَّر بعوامل السِّياسة المُتناقضة في مَسار كلٍّ منهما؛ فوظيفة سكلمة كمُستشار في ديوان رئاسة الجمهوريَّة في سوريَّا، وعمل الصَّحافيِّ جورج في الصُّحُف اللُّبنانيَّة بطبيعته المُعارضة للوجود السُّوريِّ في لبنان.

طروحاته الجريئة بوضوحها حِيَال سوريَّا كنظامٍ، وليس كشعبٍ، فكما علاقته مع سكلمة، هي مع جميع المُستويات الثقافيَّة السوريَّة والعربيَّة. فهل التَّنافُر السَّاكن دقائق الحياة مع كلِّ فردٍ، هو تفصيل شارحٌ لدقائق دروس المُتناقضات  المعشعشة في الدَّواخل؟.

ولماذا يظنُّ البعضُ أنَّ مِخْيالهم الواسع المُنطلق في رحابة الواقع دائمًا على حقٍّ؟.

ورُبِّما يضيق الوقت باِنْتحار الدَّقائق الحَرِجة، على مَذْبح الخَيْبات التي تتخفّى خلف بوارق الأمل، وما تتداوله ألسنةُ النَّاس من مقالات وحكايا وأمثال شَعبيَّة، لم تكُن لتأتيَ، وترسخَ على أطراف ألسنتهم، إلَّا ليُطلقونها إذْ يَرَوْن الضَّرورة لذلك، وما قيل: (شو لَمْ المَتعُوس على خايب الرَّجا). تذكَّر سكلمة هذا المثل، وأراد تطبيقه على حالتهما الرَّاهنة. ثانية اِنْطلقت ضحكة جورج هذه المرَّة بانسيابيَّة غير معهودة، وبعد أن امتلأ جفنيْه بالدُّموع، سأل:

-"برأيكَ يا صديقي من منَّا المتعوس، ومن خايب الرّجا؟".

-"لو أردتُ وتجرَّأتُ على قوْل الحقيقة: إنَّني أحملُ الصِّفَتيْن معًا، وأنتَ يا جورج كذلك تحملهُما أيضًا".

-"كلامكَ فيه الكثير من الصِّحَّة، لقد تشابهنا بكلِّ شيء كتوأميْن مُتماثليْن. وُلِدْنا مع ثوْرة القَسَّام في الستِّ والثلاثين، ودرسنا بنفس الجامعة، وكُنَّا مُؤثِّرين في مجالنا الوظيفيِّ كلٌّ حسْبَ موقعه الذي كان..". قال جورج.

-"ولا تنسى أنَّ كِلَيْنا أعزب؛ فنكون قد شكَّلنا ثُنائيًّا مُرادفًا للثُنائيِّ الأشهَر عربيًّا بعزوبيَّته: الرَّئيس رشيد كرامي، والرَّئيس ياسر عرفات. عندما تزوَّحا القضيَّة، ونحن تزوَّجنا العزوبيَّة؛ فكان قَدَرُنا مصنوعًا على مقاسنا..!". بلهجة بَدَت بملامحها المليئة بالأسَى على وجه سكلمة أثناء كلامه.

-"وها نحن في آخر النَّهار عند غروب شبابنا، تُسدَل السِّتارة، ويحلُّ الظَّلام، وكأنَّنا لم نكُن بالأمس القريب..!".

-"سبعٌ وستُّون عامًا ألا تكفينا..!".

-"تخيَّل يا سكلمة  هذا العمر الذي نحكي عنه، فإنَّ الأضواء والشُّهرة حرقتنا، حرمتنا من نَوْم اللَّيالي لمُلاحقة الأحداث، هذا حالي وحال أمثالي ممَّن امتهنوا الصَّحافة والإعلام، وصَدَق من سمَّاها مهنة المتاعب.

والنَّاس عند الصَّباح يتوجَّهون لأجهزة الرَّاديو والتلفزيون لمعرفة الأخبار، بعد أن يكونوا قد ناموا جيِّدًا، وشخيرهم كان يُحيل صمت غُرف نومهم الهادئة الغارقة بالأحلام والظَّلام إلى ضجيج.

بينما تتَّسِع حَدَقاتُنا ويحمرُّ البياض حولها، ونشفُط المزيد من القهوة، ونُشعل السِّيجارة من أُختِها قبل اِنْطفائها. يا لها من أيَّام حرَّقت أعصابنا بنيران مُتابعة أيِّ حدَثٍ على مُستوى العالم، والأكثر إيذاءً لمشاعرنا ما كان يحدُث في بلادنا".

الاِنْفعال بلهجة جورج واضح تمامًا؛ فمن يسمعه أو يراه من على بُعد مسافة لا يحتاج إلى تَخمين ذلك، يلحظ ملامحه المُتكِّدرة، وعصبيَّة حركاته يديْه مُتزامنة مع كلامه المُستمرِّ.

بينما ينفثُ دخان سيجاره الكوبيِّ، ويتلمَّظ على طعم القهوة في فَمِه، وزادت مرارتها على مرارة بحَسْرَة حديث الذِّكريات، غير آبِهٍ بِشُرود سكلمة. وتابع:

-"تخيَّلْ كأنَّ لُبنان كُتِبَ عليه أن يبقى ساحة صِراعٍ دائمٍ لمحيطه ومُتغيَّراته، واِهْتزازاته الصَّاعدة والهابطة، وفضاء لتنفيس حرارة الغَلَيان الدَّاخليِّ. حتَّى تكوين ديمقراطيَّتنا مُفصَّلة تفصيلًا فضفاضًا لا تضيق على أيِّ مَقاسٍ مهما كان، ولا بأيِّ فعلٍ أو كلام أو رأيٍ أو تَصرُّف".

بلهجة تَهكُمِيَّة قال سكلمة:

-"كم وَددتُ لو كانت قطعة صغيرة من ديمقراطيَّتكم عندنا، لا شكَّ بأنَّ ديمقراطيَّة لُبنان فريدة، وأجيز لنفسي وصفها: بديمقراطيَّة الشَّرق..!!".

-"كأنَّكَ يا سكلمة تعزفُ على وَتَر الأسى في قلبي، بل إنَّها ديمقراطيَّة رَخْوة زَيِّ المطَّاط، والبلد يمطُّوه على مَقَاسات جعلت منه مَشَاعًا مُباحًا بلا أبواب ضابطة لحركة من يَعبُر ويخرُج، وصارت وجهة لجميع القادمين من الشَّرق أو الغرب".

-"نعم صحيح.. تمامًا كما ذكرتَ، فقد رَحلُوا من بلادهم إلى هنا، مُحمَّلين بمشاكلهم المنظورة وغير المنظورة التي أقلقت البلد، وقلبت حياته".

-أُقسِمُ يا سكلمة بأنَّ بلَدَنا أصبح مثل بيت دعارة مفتوحًا ليل نهار؛ لإطفاء الشَّهوات المُتواثِبة في عقول أصحابها، ومقبرة مَغْبُونة الحظِّ بأكوام ميَّتة من الرَّغبات الجامحة.

مِثْل كلِّ هارب من دَوْلته يأتينا، وكلَّ متآمر على بلده يُخطِّط لعمل اِنْقلابٍ عسكريٍّ، ينطلق من هنا، بعد حصوله على الدَّعم من جهات مشبوهة، وكلُّ من أراد تهريب المُخدِّرات، أو تزوير العُمْلة؛ يبتدئ من هنا. ولك أن تتخيَّل مجيء الإمام موسى الصَّدر في الخمسينيَّات، عندما رسَّخ التغيير الذي جاء من أجله، وعمَّقه ليتجذَّر بأرضنا الصغيرة بجُغرافيَّتها الضيِّقة ذات الموارد الضَّئيلة غير الكافية لأهلها الأصليين.

رَحَل إلى رِحَاب ربِّه، بعد أن أسَّس جُمهوريَّته النَّاشئة داخل دَوْلتنا،  وتركها تنمو، حتَّى كادت أو على وشَك اِبْتلاع لُبنان بأكمله.

جاؤوا من خلف البِحار، ورحَّلوا معهم مشاكلهم. ذهبُوا وتركوها لنا نتصارع عليها أو من أجلها، أليسَ من الغرابة أنَّ جميع البشر لهم مصالح عندنا..! يعني لو نحنا دولة عُظمى مو هَيْك..! شيء مُحيِّر".

-"أيضًا جمال عبد النَّاصر امتدَّت يده، لتدفع بفؤاد شهاب رئيسًا للجمهورَّية، وكأنَّ الجنرالات يبحثون عن بعضهم، يفهمون كلمة السرِّ المُشتركة. يعني تخيَّل أنَّ ذلك حَدَث بعد سنتيْن من مجيء الصَّدر إلى لُبنان..!، رغم أنَّ شهاب يوصف بالقائد الأكثر عروبة. لصلاته المُميَّزة بعبد النَّاصر وحلفائه في لبنان، لكنَّه في الوقت نفسه ضغط على الفلسطينييِّن بقوَّة.. سياسة بلا أخلاق، عروبي ويقف ضدَّ الأخوة الفلسطينييِّن، وما تفسيركَ يا جورج باللِّقاء الشَّهير الذي جرى بين عبد النَّاصر وفؤاد شهاب في خيمة من الصَّفيح على الحُدود السُّوريَّة اللُّبنانيَّة، كانت نصفها في لبنان ونصفها الآخر في سوريَّا.. أليس هذا مدعاة للعجب..!". قال سكلمة.

-"ذهب جمال عبد النَّاصر إلى لقاء ربِّه، وأبقى لنا حِزْبًا ناصِريًّا قويًّا وله ميلشياته العسكريَّة، وأجمل ما بقي في لُبنان من آثاره هو "جامعة بيروت العربيَّة"؛ أرادها نديدًا للجامعة الأمريكيَّة؛ تُخرِّج أنصارًا له في البلاد العربيَّة، يقودون بلادهم وِفْق رُؤيته النَّاصريَّة؛ لاستبدال خِرّيجي الأمريكيَّة الذين يقودون بلادهم، ويُسيِّرون دفَّة الحكم، وأنا وأنتَ منهم يا سكملة".

-"أرى أنَّهم جعلوا من لُبنان مُستنقَعًا أفرغُوا فيه فوائض أوساخهم؛ فصارت وباءً مُدمِّرًا كآلة دَمارٍ شاملٍ مُفخَّخة؛ يُتوقَّع اِنفجارها في أيَّة لحظة".

..*..

 

 

السّاحات المفتوحة ممرٌّ للعابرين بلا قُيود، - سكلمة يقرأُ من دَفْتره صفحات مكتوبة بخطٍّ جميلٍ بلونٍ أسود، يبدو أنَّها بقلم حبر سائل- قد تُرحِّب بهم، يرحلون وآثار أقدام تبقى عالقةً شاهدةً، تقول: "كانوا هنا".

السَّاحة الصَّغيرة أمام المقهى مليئة بالزَّبائن الجالسين إلى طاولاتهم، حركة السيَّارات باتِّجاه واحد لا تتوقَّف. ضجيجُها يُغطَّى على جَلَبة أحاديث الزَّبائن القابعين داخل الويمبي، ولعب الوَرَق والنَّرد.

الجادَّات في منطقة الحمرا ضيِّقة بمعظمها لا تستوعب مساريْن ذهابًا وإيَّابًا في آن معًا، الوسط التجاريِّ تخطيطه قديم لا يصلح لهذا الزَّمن مع تعدُّد وكثرة وسائل النقل الخاصَّة والعامَّة، والاختناقات المُروريَّة أصبحت لازمة ومُتلازمة وسط بيْروت التِّجاريِّ، كثيرون من أصحاب السيَّارات يتجنَّبون المجيء و العبور الطَّارئ  من الوسط؛ لأنَّه محرقة لأوقاتهم، وتأخيرًا لمواعيدهم.

الأيدي لا تتوقَّف بحركتها الدَّؤوبة النَّشيطة بالدَقِّ بقوَّة على الطَّاولة بعصبيَّة ونزَق؛ إذا ما رَمَت ورق اللَّعب الخاسر من يدها، ولا حَجَرَيْ "الشِّيْش بيْش" يَتَدحرَجان بجميع اِحْتمالاتهما، والعُيونُ تُلاحقُ حركاتهما، والأنفاسُ تتوقَّف لمعركة الرَّقم الذي سيستقرَّان عليهما؛ لتحديد مصير من سيكون الرَّابح، ومن هو الخاسر.

بعد أن رَشَف جورج من فُنجان قهوته، شَفَط نفَسًا عميقًا من سيجاره الكوبيِّ، اِحْتفظ بدخَّانه في فمه، إنَّما كانت خُيوط الدخَّان تخرج من فُتْحَتيْ أنفه ببطء، بمنظر يذكِّر بالقطار القديم المُسيَّر بوقود الفحم الحجريِّ،  ينفُث من مُقدِّمته دُخانًا أبيض كالبخار.

ما إنْ اِلْتقط سكلمة نَفَسه بِسَكْتَةٍ خفيفة، حتَّى بادر جورج للتأكيد على نفس الفِكْرة التي قرأها سكلمة للتوِّ من دفتره، يبدو أنَّها إرهاصاتٌ، أو محاولة لكتابة مُذكَّراته، ولن يكتبها أبدًا؛ اِسْتنادًا إلى تصريحاتٍ سابقة له في هذا المجال.

عندما سُئل مِرَارًا حول هذه المسألة، لكنَّها أَغْرَت جورج بمُتابعة العزف على وَتَر سكلمة. بكلام من النَّادر التَّصريح به إلَّا في حالات اِسْتثنائيَّة:

-"الحظُّ لُعبة الأُمنيات. قد يأتي أو لا يأتي، ليس بالضَّرورة أنْ لا يبتسم لِشَخصٍ إلَّا مرَّة واحدة في حياته، بالمُقابل هُناك من لا يبتسم له أبدًا ولا لمرَّة واحدة.

لعنةُ الحظِّ كلعنة السَّاحات المفتوحة على رأيكَ يا سكلمة. كانوا يقولون في العادة عن شيء، أو إنسان ما أصابه النَّحس: (أصابته لعنة  الفراعنة)، يعني أنَّها ليست لعنة الحظِّ التي أصابت لُبنان، وجعلت منه ساحةً لا بل ميدانًا واسِعًا. وبالأصحِّ هي لعنةُ الدِّيمقراطيَّة الهشَّة.

الدَّولة الرَّخوة تتميَّز بقابليَّتها الفظيعة لاحتواء جميع المُتناقضات، كالإسفنجة تمتصُّ كلَّ رَشْحٍ ورُطوبة، لا أعتقدُ أنَّ دولة في العالم تمتلك رصيد لُبنان من المُتناقضات، ربَّما أنَّ موسوعة "غينس"، لو فَطِنَت لهذه النُّقطة، أو أنَّ أحدًا أراد تسجيلها، قد تُصنِّفه الأوَّل عالميًّا".

سكلمة صامتٌ عيناه تدوران في رأسه بحركة لولبيَّة، لا تستقرَّان على نقطة واحدة في أيٍّ من زوايا المقهى، أو عبر نوافذه، وبوَّابته المُطلَّة على الشِّارع. اكتفى بالاِسْتماع لكلام صديقه، غير معروف إذا كان يتابعه باهتمام، أو أنَّ ذهنه مشغول بأمرٍ آخرٍ بعيدٍ عن جلستهما.

...*..

 

أذكُر أنَّ الأخوينُ رحباني كتبا بعد النَّكْسة للقُدس زهرة المدائن، ولا أظنُّ إلَّا أنَّها كانت نبوءة الرَّحابنة. بالفعل لا أستطيع السَّيطرة على مشاعري المُختلطة في لحظة انفجار غضبي وإحباطي: (الغضب السَّاطع آَتٍ.. سَأمُرُّ على الأحزان)، اِنْفلتَ كلَّ غضب الدُّنيا وقتها علينا، والتنِّينَاتُ تنفخ نارها من كلِّ الاتِّجاهات، حرقتنا بلا رحمة، لم يبق لون للرُّعب إلَّا تجرَّعناه. قال جورج.

تحرَّكَ سكلمة في مكانه بحركة لا إراديَّة، مُبدِيًا اِنْفعاله. قاطع جورج:

-"حينما أسمعُ كلمة النكسة  أختها التي قبلها النكبة يقشعرُّ جسمي، وتنكتم آفاق الحياة في عينيَّ، ويرتجف قلبي بخفقان باهتزاز يهزُّ كِياني من الأساس. سامَحَ الله العرَّاب قسطنطين زريق أستاذنا، برأيي أنَّ حينما ابتكر هذا المصطلح كان من باب الأتيكيت المقبول. على حالٍ مُوارَاةٍ ذكيَّةٍ؛ ابتعدت بنفوس العرب عن فكرة الهزيمة؛ لكي لا يشعروا بعُقدة الذَّنب، ويجلدوا أنفسهم بسياط النَّدَم، ويفعلوا فِعْلَة الكُسَعيِّ.

لن أسيء الظنِّ به أبدًا، إنَّما على الأغلب أراد إقالة العثرة، وبثّ الأمل من جديد في نفوس من سبقونا، لنأتي ونسير على نهجهم.

وقد وقعنا ذات مرَّة في معمعة المُصطلحات، وقت انطلق الإعلام بتسليط الأضواء والدقِّ  وقرع طبول الخوف والرُّعب من كلمة الإرهاب؛ فصارت موضة العقد الأخير من القرن العشرين.

وقتها كلَّفنا الرَّئيس بكتابة أبحاث ودراسات عن الإرهاب وتاريخه وجذوره وأصوله، اِخْتار ثلاثة من بين فريق المُستشارين، ولم يلجأ للأكاديميين من أستاذة الجامعات، وكانت تستهويه هذه المعلومات حتَّى العَظُم. أخيرًا بعد عمل شاقٍّ دؤوب؛ خرجنا بنتيجة تليق بجُهدنا، وكان لي الفضل شخصيًّا بِنَحْتِ مُصطَلَح "سلام الشُّجعان".  الأقوياء المُنتصرون يصنعون السَّلام على طريقتهم. الضُّعفاء المهزومون يقبلون ما يُملى عليهم طَوْعًا أو كُرهًا.

قمَّة سعادتنا تكلَّلت بخطاب شهير له بإحدى المُناسبات، واِنْهالت عليه طلبات المقابلات التلفزيونيَّة والصَّحفية والإعلاميَّة من وسائل عربيَّة وعالميَّة. لم يترك كلمة ممَّا كتبا، وشرح بما فيه الكفاية ممَّا أرضى غروري وشعوري بنشوة فرحٍ عارمةٍ.

مُشكلة المُصطلحات بحَرْفيَّتها ودلالاتها الدَّقيقة. خُذ مثلًا قرار الأمم المُتَّحدة الشَّهير "242" بعد حرب الأيَّام الستَّة 1967 ، حينما صاغوا الفقرة أ: (اِنْسحاب القوَّات الإسرائيليَّة من الأراضي التي اُحْتِلَّت في النِّزاع الأخير)، وقضيَّة حذف (أل) التعريف من كلمة (الأراضي)، ونكَّروها تمهيدًا لنكران أبشع وأفظع، وليُصبِح تفسيرها مطَّاطًا بلا معنى، وضاعت الضِّفَّة الغربيَّة بأكملها ضحيَّة لمحو أل التَّعريف، ولحقت بما ضاع ببركة القرار (181) على خلفيَّة الوعد المشؤوم.

..*..

 

(الغضب السَّاطع آتٍ.. سأمُرُّ على الأحزان). بحُرقة كرَّر جورج العبارة: "الأحزان أهلكت قلبي، سحقت عظامي، وأتلفت أعصابي".

بصوت مسموع لمعظم زبائن الطَّاولات القريبة منه. كلامه لفت نظر أحد إلَّا رجُلًا عجوزًا قابعًا في زاوية الويمبي الداخليَّة المُعتمة قليلًا، وجهه بدا شاحبًا، عيناه غائرتان للدَّاخل، تدوران بحركات مُتباطئة خلف النظَّارة السَّميكة، يسحب دخانه من غُليون خشبيِّ قديم ما زال زاهيًا، ويعتمر على رأسه قُبَّعة حديث، رفع حاجبيْه فوق مستوى النَّظارة. تُحدِّثه نفسه المُشاركة بحديث يعني له شيئًا لا يعرفه إلَّا هو بالذَّات، شنَّف أُذنيْه لمُتابعة حديثهما. قام من مكانه مُتثاقلًا إلى طاولة فارغة أقرب ما تكون لهما لتمكينه من سماعهما، وإذا لزم الأمر ربَّما يتدخَّل لمُشاركتهما. لم يفعل؛ مُؤثِرًا الاِنْطواء على نفسه. يسترقُ النَّظرات الخاطفة إليهما، ويرفع عدستي النظَّارة ليتأكد من رؤيته، أُذُناه تشتغلان بطاقتهما القُصوى لالتقاط حروف الهمس إن خفّضا وتيرة صوتهما، بالضَّبط كأفعال المُخبريِن المُحترفين المُكلَّفين بمُراقبة أحدٍ ما.  

منذ 1968مع أوَّل عمليّة قام الفلسطينيُّون بها في الجنوب؛ كانت صراعًا مُسلَّحًا ضد إسرائيل منذ 1968على الأراضي اللُّبنانيَّة، وانتقام إسرائيل بعمليَّة اللَّيطاني، وتفجير الفردان، ومذبحة تل الزَّعتر والكرنتينا. ومجزرة صبرا وشاتيلا. وحرب المُخيَّمات، والاغتيالات العديدة لشخصيَّات مختلفة الانتماء والتوجهات.

  وتتفجَّر الحرب أهلية لبنانية شاملة على مدار سبعة عشر من 1975، حتى خروج الُمنظَّمة إلى تونس بعد الاجتياح الإسرائيلي 1982.

الحرب طوفان جارف يجتاح كلَّ مَنْ يقف بطريقه. لا أحد يستطيع  الصُّمود أمامه. موضوع حيَّرني طويلًا جورج يحكي- لماذا تركوا بلدانهم وجاؤوا لبنان لتصارعوا؟. ولماذا يخوض لبنان حروب غيره؟. ولماذا أصحاب القضيَّة ورفاق السِّلاح من إخواننا الفلسطينييِّن خاضوا "حرب الأخوة"؟. مُبرَّرٌ لهم محاربة العدو بوسائلهم المُتاحة. أصابنا المثل: (قاعد بحضنه.. وينتف بدقنه). غلطتهم كرَّروها ثانية هُنا بمنافسة الدَّولة والأحزاب والطَّوائف، مثلما فعلوا سابقًا في عمَّان. يطول الكلام ولا ينتهي عند حدِّ. هذا وغيره مُؤْسٍ ومهما قيل سيبقى هناك الكثير الذي لم يُقَل.    

..*..

 

 

 

اسْتحوذَت مشاهد شاشة التلفزيون كبيرة الحجم على اِهْتمامه، تشدُّ انتباهه إليها عُنوة, فقال من غير انتظار أن يسمعه جورج، وكأنَّه يُحاكي نفسه:

-"إشارة محطَّة الجزيرة أصبحت الأشهر على الإطلاق على مُستوى العالم، نافستِ القَنوات الأجنبيَّة في نقلها الحيِّ والمُباشر لحظة وقوع الحدث. يصلني صَوْت المُذيع واضحًا من السَّهل تمييز كلامه عن خليط الكلام المُتداخِل.

لكنَّ الإعلام العسكريِّ الأمريكي لعب دوره الفعَّال في معركة سقوط بغداد، لم يسمحوا بنقل أيَّة مشاهد إلَّا المنقولة عن طاقمهم العسكريِّ، كلُّ شيء مدروس بعناية. توقُّف جميع فترات العرض على مشهد الرافعة والحبل يتدلَّى منها لخلع تمثال الرَّئيس، وكأنَّها إيماءة ذكيَّة لتقول للناس: ها نحن خلعناه وأعدمناه، وعندما سقطَ أرضًا كانت المطارق الحديديَّة والأزاميل الحادَّة تنتظر الانتقام بتحطيمه، والأقدام تتسابق لوطء ما تناثر من فتات القِطَع الصَّغيرة، كلُّ ذلك ترافق مع الهُتافات المُبتهجة بهذا الحدث، وأقذع الشَّتائم التي تعجز عنها قواميس اللُّغة عن الإتيان بجزء منها.

يا إلهي..!! يا لعجبي من هذه المفارقة الصَّادمة، للأيدي الحاملة للمطارق أدوات التحطيم، بالأمس كانت تُصفِّق للقائد واِنْتصاراته، والحناجر والألسنة لا تتردَّد بالهُتاف له ولإنجازاته.

عيناي لا تُصدِّقان ما يجري، بين عشيَّة وضُحاها يجري هذا الانقلاب والتحوُّل عكس الاتِّجاه بمئة وثمانين درجة. تدخَّل جورج مُقاطعًا:

-"بل تصحيحًا لكلامكَ يا سكلمة: بل ثلاثمئة وستِّين درجة، أعتقدُ أنَّ الأمر أعقَدَ بكثير ممَّا هو مُتوقَّع بمئات المرَّات، وبعد كلِّ هذه السَّنوات. ما زلتُ أتساءل نفس تساؤل الرَّئيس "جمال عبد النَّاصر"، وأظنُّه كان مُحِقًّا في ذلك: (لماذا لم يتمكَّن البعثيُّون في سوريّا والعراق من الوحدة، عندما حكموا بغداد ودمشق..!؟) ها هو الشَّيء بالشَّيء يُذكَر، وأجزمُ بأحقيَّة مقولة "ميلان كونديرا": (إنَّ تخريب الذَّاكرة ضربٌ من طُموح السِّياسيِّ، وفخٌّ ناجحٌ للشَّعب الغافِل).

تستفزّني ذاكرتي، واستفزاز الذَّاكرة ليس سهلًا؛ الملك حُسيْن -رحمه الله- بَذَل قُصارى على مدار فترة زمنيَّة، لإقناع الرَّئيسيْن، وفي نهاية المطاف اِستطاع عقد اِجْتماع سِريٍّ  للغاية بين الأسد وصدَّام؛ اِسْتمرَّ  إحدى عشرة ساعة في صالة خاصَّة، وأخلى لهما الجوَّ؛ ليتصارحا؛ ليحلَّا خلافاتهما إن اِسْتطاعا التنازُل عن عنجهيَّتهما المُقزِّزة. العُقَد النفسيَّة شديدة التَّعقيد، قسمًا بالله لو جيء بأعظم أطبَّاء النَّفس في العالم أجمَع، لوقفوا حائرين، ولما تردَّدوا بإعلان عجزهم، ولم يبق بأيديهم علاجًا لهما إلَّا الكَيِّ لأنَّه آخر الطبِّ.

في غرفة مجاورة يتقلَّب على جمر الانتظار بفارغ الصَّبر، ومن شدّة حرصه على السريَّة كان يوصل المشروبات والطَّعام لهما من خلف الباب. ضجيجهما الغاضب يخترق حاجز الصَّمت؛ ليصله في الغرفة المجاورة. وما فَقَد الأمل في إصلاح تصدُّعات عميقة من الصَّعب رأبهاأأأ، كان مديدًا بصبره كصبر أيُّوب".

اِسْتلم سكلمة دفَّة الحديث مُجدَّدًا وتابع:

-"بالله عليكَ يا جورج لو قُدِّرَ لكَ إجراء مُقابلة صحفيَّة مع الرَّئيس جمال عبدالنَّاصر. فهل كان سيخطُر ببالكَ سؤاله: لماذا لم يُحاول تجسير الهوَّة بين دمشق وبغداد، لوضعهما على طريق التَّقارُب مبدئيًّا، ومن ثمَّ يجيء دور الوحدة، استكمالًا لمشروعه في تأجيج فكرة الوحدة العربيَّة، وهو القُطب القوميُّ الأبرز عربيًّا. هل كنتَ ستردَّدُ في هكذا طرح؟. الحقيقة تَسوخُ ذوَبانًا بين عبد النَّاصر والبعثيِّين.

أيُّهما المؤمن بالوحدة العربيَّة؟.

أخوَف ما أخافُ منه: أنَّهما لا يُؤمنان بها أصلًا..!!، وتلك مصيبة إذا صدقت ظُنوني. يعني ذلك أنَّ الأمة العربيَّة من المُحيط إلى الخليج كانت في وَهْمٍ، وغياب تامِّ عن الوعي بحقيقة ما يجري على المسرح.

لاحِظْ معي أنَّ الملك "حُسيْن" حاول، ولم يدَّخر جُهدًا بتقريب وُجُهات النَّظر بين الزَّعميْن "حافظ الأسد وصدَّام حسين" لمواجهة الطَّاعون القادم من الشَّرق. الحياة مواقف ستُذكر عاجلًا أم آجِلًا. لنَعُد لقضيَّة إغراق المُتابع بهذه النُّقطة وتفاعلات النَّاس، ولا تتوانى قناة الجزيرة بنقل الحدث العاجل خلال دقائق من موقعه. لتُوتِّر الأجواء، وتزيد من حدّة القلق، أعتقدُ جازمًا أنَّ القنوات الإخباريَّة ووكالات الأنباء لا تتناقل إلَّا الأخبار والمآسي والموت الدَّمار؛ وهي سبب رئيس للإصابة بالجلطة العصبيَّة والدماغيَّة.

أستغربُ لماذا لا تستنفر هيئات الرّعاية الصحيَّة لتحذير المواطنين من التقليل من خطر متابعة الأخبار، مثلما فَعَلتْ مع منتجات الدخَّان بمختلف أنواعه".

..*..

استمرار حركات يديْه. مرَّة بالمسح على شعره، أو على شاربه، الذي ما فَتِئ يمتصَّه لداخل فَمِه؛ لتنظيفه ممَّا علق به بعد اِرْتشائه من فنجان قهوته، والمَسْح حول فَمِه بمنديل وَرَقيِّ.

لابدَّ أنَّ حديث جورج قبل قليل اِسْتثاره لصراحته الفَجَّة. مُؤكَّدٌ أنَّها ستفتح عليه أعشاش الدَّبابير. بعد تجرُّئه بالتَّصريح عن جمهوريَّة الصَّدر. ولمَّا أيقنَ من سلامة مَوْقفه؛ فيما لو تكلَّم بما يتوافَق مع ما سَمِعه من صديقه بخُصوص لبُنان، بكلام غير مسبوق منه قطٌّ. اِبْتسمَ اِبْتسامةً بالكاد اِرْتسمت على فمه؛ فقال:

-"أمرٌ لا يختلف عليه اِثْنان يمتلكان أقلَّ درجات العقل، أنَّ البلد الرَّخوة صارت ساحة لجمهوريَّات الموْز، وما من لعنة هُناك أفظع من هذا..! يعني ماذا ننتظر من  نظامٍ سياسيٍّ أنشأت اِسْتقلاله إرادة البريطانيِّين.

لم يتوان "الجنرال سبيرز" البريطاني باستخدام حِنكَتِه القويَّة، وبمهارة أجْبَر الفرنسيِّين -المُوالين للألمان- المُنتدِبين على لُبنان بعد سقوط "خطِّ ماجينو"، وعلى الأخصِّ بعد عمليَّة "إنزال النُّورماندي" الذي نجح بتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني النَّازي، ومجيء الجنرال ديغول المُوالي للإنكليز والأمريكان؛ أيضًا تغيَّرت سياسة فرنسا الدِّيغُوليَّة بالنسبة لمُستعمراتها، واِنْقلب أعلى فرنسا إلى أسفلها والعكس صحيح؛ لِيتخلُّوا عن أنصارهم القُدامى في لُبنان، لمصلحة أنصار بريطانيا "بشارة الخوري" و"رياض الصلح".

-"كلامك لا يختلف عليه اِثْنان يا سكلمة، وهذه النُّقطة لفتَت اِنْتباهي لشيء مُهمِّ، وكأنَّ جمهوريَّة الصَّدِر، مهَّدت لنشوء بل كانت مُقدِّمة صالحة لتجربة أولى ناجحة، مهَّدت لجمهوريَّة الفاكهاني برئاسة الختيار أبو عمَّار كما يُلقِّبونه، وبعدها جمهوريَّة عنجر بقيادة غازي كنعان".

-"اِخْتلفتِ الأهداف والأجندات والرُّؤى، وهذا ما اِسْتدعى التَّنافُس في جُغرافيا ضيَّقة. عند التَّنازُع على الجُغرافيا فالنُّقطة تختلف بأهميَّتها عن تلك البعيدة عنها مترًا واحدًا.

الجميع يتقاتلون لإرواء ظَمَئِهم واَحْتواء الجُغرافيا. من يُسيطر عليها سيكتُبُ تاريخه عليها، وينزِع تاريخها القديم؛ فيستبدله بآخر جديد من صُنْعه، أو يقوم بمحاولة تعديله وتحريفه لمصلحته.

الجُغرافيا تُحقِّق أحلام القادة والزُّعماء، ولا جُغرافيا بلا أهميَّة أبدًا، تكتسب القَدَاسة إذا تحوَّلت إلى وطنٍ غارق بأدبيَّات ذات أبعاد تاريخيَّة، وإن كانت مُنطوية على مُتناقضات أساسيَّة.

برأيي أنَّه من المُستحيل اِحْتمال ضخامة المشاريع التي تفوق حجم وإمكانيَّات لُبنان بعشرات المرَّات".

بلهجة طافحة بالأسى والحُرقة خرجت كلمات جورج من أعماقه المحروقة، فمن رأى ليس كمن سمع. هو رأى وعَايَن؛ فكان شاهِدَ عَيانٍ، موقِنٌ باستحقاق كلِّ كلمةٍ ينطقُها، وبِصَواب أيِّ حُكمٍ سيُطلقه على أيِّ أمر، لا ينتظر سماع رأيٍ آخَر أو مشورة أحد لمعرفة ما حصل، ومن غير المُحتَمَل إطلاقًا زحزحة قناعاته لتغيير رأيه، ولو قَيْد أُنمُلَةٍ بعيدًا عن ذلك.  

-"آلام الوطن لا تتركنا نرتاح، فإذا تألَّم مرضنا جميعًا. مثلًا جاء الفِلسطينيُّون بمختلف تنظيماتهم؛ ليبنوا جمهوريَّتهم هنا في الفاكهاني بقيادة الخِتْيار ياسر عرفات، حينما فَشِلوا في إقامتها الأردنُّ، وبطبيعة الحال من غير المُمكن أن تسمح لهم سوريا بذلك، على الرَّغم من أنَّها تساعدهم، وتدعمهم لوجستيًّا.

خلافات التَّنظيمات داخل منظَّمة التَّحرير، جَعَل من سلاحهم يعكس اِتَّجاهه لصدور إخوتهم، والمُشكلة أنَّ جميعهم يريدون تحرير فلسطين.                      

..*..

 

 

من غريب الصُّدَف أن تتوافق الظُّروف وتتآلَف؛ لتخلق حالة جديدة، ومن العجيب كيف اِستْطاعت الصُّدفة السَّماح بمرور سيَّارة بشارع الحمرا من أمام الويمبي، والأعجب المُدهِش ذلك السَّائق الشَّارد بأفكاره..!.

الضَّجَر يرسمُ لوحة من القلق على ملامح وجهه. عيناه زائغتان بنظراتهما السَّاهمة بلا مُبالاة بالتَّركيز على نُقطة على نقطة مُعيَّنة. اكتظاظ السيَّارات سبَّب اختناقًا مُروريًّا.

احتجاجات السَّائقين الآخرين جعلت شتائمهم تتمازج متآلفة الهدف مع انطلاق زمامير سيَّاراتهم ذات الأصوات المتنافرة، تعالت نسبة الضَّجيج بلغت حدَّها الأقصى.

بينما حجم ذلك السِّائق لا يقلَّ ضخامة عن فرس النَّهر، ومازال صامتًا، غير مُبالٍ بمحيطه الهائج الغاضب. من غير المعلوم إن كان يعي معاني الأغنية المُنطلقة من راديو مركبته. بصوت "جوليا بطرس" بنبرته الحادَّة التي اخترقت كتلة الضَّجيج في الشَّارع وصلت إلى داخل صالة الويمبي:

(غابت شمس الحق\\وصار الفجر غروب

وصدر الشَّرف انشق\\وتسكَّرتْ دروب)

انتبه جورج من استغراقه بأبعاد الحديث المُتداول بينهما، عندما التقطت أُذُناه صوت جوليا؛ توقَّف عن حديثه. بينما كَرَعَا ضحكة مزدوجة منه ومن سكلمة، ولم يكُن هناك هو مُضحِكٌ.

سكلمة: "شُعوري أنّ ما أضحكني. أضحككَ..!".

جورج: "على الأغلب..!"، وأطلَقَ سُحُب دُخان سيجاره الكوبيِّ، نفس اللَّحظة شهدت انطلاق دخَّان السِّيجار من فم سكلمة.

"أُقسِمُ يا سكلمة أنَّ ما أضحكني هو العبارة: (صدر الشَّرق انشق)، للوهلة الأولى ذهب تفكيري  إلى شرق بيروت، بأنّه قذف بجميع بَشَره وسيَّاراتهم إلى هُنا، والسيَّارات جاءت تتدحرج مُسرعة لتلبية نداء جوليا، وانظر الدُّروب التي تسَكَّرَت جميعها، وصارت الأزمة الكُبرى والمُروريَّة جُزء منها.

تذكَّرتُ الشَّاعر كاتب هذه الكلمات، إذا أسعفتني ذاكرتي أنَّ اسمه "نبيل أبو عبدو"، جمعتني الصُّدَف ذات مرَّة به  بأحد الاحتفالات مع هاروت.

سكلمة: "من هاروت..!؟".

جورج: "هاروت فازليان" مايسترو الفرقة الموسيقيَّة التي تعزف لجوليا، وهو عازف عالمي، ومشهور جدًّا الخارج، ونال تقدير وإعجاب العالم السيمفوني الأوبِّرالي".

هزَّ سكلمة رأسه استحسانًا للمعلومة الجديدة، الوافدة إلى عالمه المُترَع تُخمة بمعارف ومعلومات موصَد عليها بأقفاله السريَّة، وغير مُتاحة للتداول بأي شكلٍ  كان، وهو لا يقلُّ أهميَّة عن البنك الدَّولي المُستحوذ على مُعظم أموال العالم.

تابع جورج:

-"الشَّيء بالشَّيء يُذكَر. شوف جوليا كيف رجَّعتنا للجنوب غصبًا عنَّا..! هاي البنت جنوبيَّة من صور، وكأنّها أليسار عندما تركت صور وهاجرت إلى قُرطاج، بينما جوليا هاجرت لبيروت ومن صغرها كانت تُغنِّي مع جوقة مدرسة الرَّاهبات الورديَّة, بس الظُّروف قادتها إلى طريق الشُّهرة. أخوها زياد موسيقي ومُلحِّن. لقاؤه مع "نبيل أبو عبدو" صنعا مجدًا للجُغرافيا.

فأصبح الجنوب أيقونة عربيَّة، اِنْتشلته من غياهب النِّسيان والإهمال ليتصدَّر المشهد العالميِّ، ومن متاهات الأخبار بإحصاء أعداد القتلى، وحجم الدَّمار بعد كلِّ غارة إسرائيليَّة، وصلحت الأغنية لكل جنوب في العالم، من جنوب لبنان وحصرًا من الشَّقيف و أرنون، إلى جنوب العراق وملحمة  أم قصر والنَّاصريَّة.

كأنّ هاي البنت مخلوقة أصلًا من رحم المُقاومة. سألتُها ذات مرَّة؛ فأجابتني بطريقة طريفة: (إنَّ أمِّي فلسطينيَّة الهويَّة من أصول أرمنيَّة).

على سبيل المِزاح أجبتُها من فوري: "أتوقَّعُ يا جوليا أنَّ جدَّكِ لأمَّكِ  كان من الطِّنشاق أو الهنشاق". اِسْتحسنت مُلاحظتي: "يعني أنَّكِ جنوبيَّة، وأمَّك أرضعتكِ حليبها الفلسطينيِّ والأرمنيِّ، ولا شيء يأتي عبثًا. يعني يا جوليا لم تُخلَقي هكذا مثل الآخرين. بل من خليط مُتمازج فيك، وكلّ الخُيوط امتدَّت من أقاصي الدُّنيا وقريبها؛ لتُكوِّن عُقدتها فيكِ".

كان حديثي ذاك الوقت مصد سعادة لها، رأيتُ ذلك يتراقصُ في عينيْها الجميلتيْن، وعلامات الفرح تملأ وجهها بمعاني الإصرار والتحدِّي.

سكلمة: "أوَّل مرَّة أعرف هذه المعلومة عنها. كنتُ التقيتها مرَّة في دمشق في أحد الاحتفالات بشكل عابر على هامش معرض دمشق الدُّوليِ، قبل دُخولها للمسرح بنصف ساعة، سلام وكلام مجاملات وإطراء، لم أذكُر أكثر من ذلك، ولا حتَّى في أيِّ عام كان".

..*..

 

 

 

الحرب والموت صديقان متآلفان بتناغُمٍ، فإذا حضر أحدهما حضر الآخر حتمًا من أجل وليمة الدَّمار، ولا حياة مع الحرب لأنَّهما تُناقضهما، كلاهما عدُوَّان لا يلتقيان".

-"أستاذ جورج. لو تأمَّلتَ حال الحكيم "جورج حبش" وقد تَرَك الحِكْمة وتطبيب الأجساد المريضة، وتوغَّل في السِّياسة. حقيقة من جِهَتي فأنا من أشدِّ المُعجبين ببراعته وذكائه، لا شكَّ أنَّه من الأفذاذ بمواهبه القياديَّة.

حينما أنشأ حركة القوميِّين العرب، وبسرعة اِنْتشر التَّنظيم إلى معظم الدُّول العربيَّة، وامتدَّ نفوذ الحكيم إلى اليمن الجُنوبيَّ، وبعد يأسه من تجربة العمل في دمشق خاصَّة بعد الاِنْفصال؛ ولأنَّه محسوبٌ على عبدالنَّاصر، تمَّت مُلاحقته، ومن ثمَّ قُبِض عليه وحُبِس؛ اِلْتَفَّ على الرَّئيس جمال عبد النَّاصر، ومنذ أوَّل لقاء بينهما، طالبه بدعم الكفاح المُسلَّح في جُنوب اليمن وفلسطين، وبحنكته أقنع الرَّئيس ووافق على تدريب عسكريٍّ لمقاتلين فلسطينييِّن، مع حُزمة مِنَحٍ دِراسيَّة في الجامعات المصريَّة.

ولم تنتظر طويلًا أَذرُع الاِسْتخبارات المصريَّة للتدخُّل المُباشر؛ فامتدَّت لمُناصرة الجبهة الوطنيَّة بقيادة "قحطان الشَّعبي"، إلى أن اِسْتقرَّ لها الأمر بالاِنْفراد بساحتها في عَدَن؛ حيث لم يستطيعوا دمجها بجبهة التحرير اليمنيَّة بزعامة "عبدالله الأصنج".

-"أصحبتُ على قناعة تامَّة يا سكلمة، بأنَّ الحكيم ببراعته اِكْتَشف الطُّموحات القياديَّة العظيمة لدى الرَّئيس، ففتح له بُوَّابة السَّاحة اليمنيَّة وتركه يدخلها وحده، لإرواء ظمأ العظمة المُتأجِّجَة في عقل الرَّئيس، بصناعة صفحة من الأمجاد؛ لتكون مُستنقعًا يغرق فيه الجيش المصريُّ فيما بعد".

-"طيِّب برأيك أنَّ الحكيم حبش وَرَّط الرَّئيس عبدالنَّاصر..!؟. شوف الحكيم وديع حداد  أيضًا كزميله الطَّبيب في الجامعة الأمريكيَّة الحكيم جورج حبش، تَرَك الطبَّ والحكمة، ونَبِغ في التَّخطيط للعمليَّات العسكريَّة ضدَّ الأهداف والمصالح الإسرائيليَّة داخل فلسطين وفي أيَّة بُقعة من العالم.

بينما كان وديع الصَّافي  يُغنِّى أشهر أغنياته: (خضرة يا بلادي خضرة..)، على وقْع عمليَّات الحكيم وديع بخطف الطَّائرات والاغتيالات والتَّفجيرات، وبعد كلِّ عمليَّة يقوم بها، تنتقم إسرائيل  من لُبنان عِقابًا جماعيًّا؛ لتحرق الأخضر واليابس.

ويعجبني إصرار وديع الصَّافي بمطالبته المُستمرَّة بإعادة الإعمار: (عمِّر يا معلِّم العمار..). شوف الفرق بين الحكيم عندما يجيب الخراب، واستجابة الخليج لنداء الفنَّان وديع ليدفع بِسَخاء وطيب خاطر أُجرة المِعْمار".

-"بالفعل شيء غير معقول أستاذ سكلمة.. الحِكْمة توقَّفت جميع طرقها، ونصائحها أمام طُموحات المنافسة والسَّيْطرة؛ فلم يكتَفِ الحكيمان برؤيتها الثوريَّة لتحرير فِلسطين، التفتوا للمُناحَرة مع رفيق الطَّريق والسِّلاح ياسر عرفات وغيره، أو على الأصحِّ هو لم يُطِق منافستهم على الزَّعامة، واِسْتدارت بُندقيَّتهم عكس الاتِّجاه، ضاعَتْ بوصلتهم.

والنَّار اِشْتعلت لحرق ساحتنا، واِحْترقنا. كنَّا معهم في تحرير فلسطين، ولمّا ضَلَّت بُندقيَّتهم هَدَفَها الحقيقيِّ خالفناهم. بُوصِلتنا ما زالت تؤشِّرُ صَوْب فِلسطين".

بِحَماسٍ عاد سكلمة للكلام:

-"الحربُ مَوْتٌ وخَرابٌ... والفنُّ ذوْقٌ وحياة. المُحاربون مشغولون كلَّ وقتهم  بالتَّخطيط، ينامُون على أحلام النَّصر المفقود، أو على متاهة النَّصر، والهموم تُثقل كواهلهم. الفَنَّانون ينامونَ من تَعَبٍ يرسُم دروب الحياة، وبثّ روح الفرح والتفاؤل والأمل.

الحكيم وديع هجر الحكمة ووداعته، ليشتغل بالحرب والخطف، وتباعَد وجه التَّماثُل مع المُطرب وديع، وهو يُطرب النَّاس بوداعة وجهه البشوش.

من السَّهل قراءة البِشرَ في وجهه الطَّافح بمساحة الحبِّ، التي غطَّت ساحتنا وما حولها من السَّاحات العربيَّة، ولَأْلَاء صلعته يُثير نشوة الحياة في رؤوسٍ اِنْسجمت؛ فتمايَلَت طربًا مع عَزْفه. بينما اِفْتَقَدت صلعةُ الحكيم التعاطُف، رغم وداعة ملامح وجهه البريئة بظاهرها، وتحتها تُخفي ما تُخفي".

..*..

 

سكلمة انفتحت قريحته على الكلام بطلاقةٍ غير معهودةٍ بطبعِهِ في الاِنْطلاق في الأحاديث مثلما هو الآن، نشطت ذاكرته بعدما كان قد أعلن لصديقه جورج عن تَعَبه. فقال:

-"برأيي لأنَّ جمال لُبنان بمُتَناقِضاته التي تبدو بظاهرها مُتنافرة،  وتعلم يا جورج كم كنتُ مُعارضًا  لتيَّار سعيد عقل المجنون غير المقبول بمواقفه المُعلنة والعُدوانيَّة من الفلسطينيِّين والقضيَّة، ولم يكُن يتحرَّج من التصريح بذلك بمقابلاته التلفزيونيَّة ولقاءاته.

هذا الكلام لا ينفي باِحْترامه كشاعر كبير؛ اِحْترامًا لشآميَّاته التي لم يكتُب الشُّعراء السُّوريُّون مثلها على الإطلاق. بطبعي أميل إلى الحُكم على كلِّ موقف على حِدَة، ولا آخُذ بالحكم على المواقف بالجُملة".

اِنْتبهَ جورج من شروده، واِسْتغلَّ سُكُوت سكلمة، ليقول:

-"وماذا سأفعل مع مُعلِّمِنا قُسطنطين زريق؛ عندما بثَّ فينا روحه وعقيدته الرَّاسخة بالقوميَّة العربيَّة، اِتَّبعناه؛ وصِرْنا كما أتباع الأنبياء، تشرَّبنا أراؤه، وحفظنا أقواله؛ لنكون أئمَّةً ودُعاةً على مختلف المنابر العديدة في أيِّ مكان هبطنا إليه، ولم نتنازل عن آرائنا، ولم نُزاوِد بها على الآخرين.

ووفاء له، لم أكُن أنقطعُ عن جلساته الأُسبوعيَّة التي اِسْتمرَّت إلى آخر حياته تقريبًا، إلَّا لأمرٍ خارجٍ عن إرادتي، إمَّا بسفر أو عمل لا يحتمل التأجيل إذا تعارض مع يوم جلستنا معه، وكانت فرصة للقاء الأصدقاء القُدامَى، والتعرُّف إلى المُتَتلمِذين الجُدُد على يديْه على قِلَّتِهم، ونَدْرَتِهم.

التطوُّرات المُتلاحقة على السَّاحة العربيَّة والعالميَّة؛ لم تترك فُرصةً لاِلْتقاط الأنفاس، للبحث عن المبادئ والأفكار، أرى أنَّ الأكثريَّة تنزع نحو الاِنْتهازيَّة السِّياسيَّة، المُنطوية تحت سِتار الدِّيماغوجيَّة  لتصيُّد المنافع والفُرَص؛ إطلاقًا أنا لستُ ضدَّ الفلسطينيِّين بذاتهم، ولستُ أُوافق موقف سعيد عقل المُتطرِّف ضِدَّهم بأيِّ شكلٍ كان، بينما كان مَوْقفي واضحًا ضدَّ الوُجود السَّوري في لُبنان، وتحوُّل مساره، وسبب مجيئه تحت مِلاءَة شرعيَّة الجامعة العربيَّة، وبإجماع الأمَّة العربيَّة، ليكون قُوَّة رَدْعٍ لإسرائيل التي تعتدي علينا وقتما تشاء، وصَدِّ عُدوانها عن لُبنان والمحافظة على سِيادته.

لكنَّ جمهوريَّة عنجر تضَّخمت، وتضخَّم دور قائدها الجنرال غازي كنعان، وساعده الأيمن الجنرال رُستم غزالة، إلى أن أفرَغُوا جموع نِطَاف فُحولتهم العسكريَّة، وجرَّبوا كافَّة أساليبهم القبيحة فينا، لهذا أستطيعُ التَّفريق بين حُكَّام جُمهوريَّات الموز، الأقوى والأعتى بينهم على الإطلاق جمهوريَّة عنجر، إلى أن اِلْتَهَمَتْنا جميعًا بلا اِسْتثناء، وتناغمها مع جُمهوريَّة الصَّدْر الأقرب محبَّة بزواج غير مُعلن".

تناول جورج كأس الماء من على الطَّاولة، سمع صوت اِزْدراده لجُرعةٍ رطَّبت حلقه النَّاشف، وقال:

-"العَمَى بِعُيونهم.. العَمَى.. شيء يُنشِّف الرِّيق غَصْبًا عنَّا".

بدأ سكلمة يتململ في كُرسيِّه، قام واقفًا مَاطًّا ذِرَاعيْه للأعلى، مُترافِقًا مع بثِّه لتنهيدة أنعشت أعماقه، عاد للجُلوس، ليُجاري حديث صديقه:

-"على كُلٍّ تبقى المُراهنة على تيَّار الوعي الرَّشيد؛ ليُنتِجَ مواقف صادَّة لتيارات التفلُّت من الاِلْتزامات، والاِسْتحقاقات الوطنيَّة في جميع بلادنا". سكت فجأة، كأنّما نضُب الكلام في دَوَاخله. وقال:

-"يكفينا يا جورج.. تعبنا.. (تعب المشوار من خطواتي وخطواتك تعب المشوار) على رأي فؤاد غازي".

يرفع يده لاستطلاع الوقت من ساعته (الرُّولكس) المُذهَّبة المُختفية تحت كُمِّ جاكيت المُخمَل الأسود، اللِّباس المُفضَّل لسكلمة، كما تروق له بَدْلات الكُتَّان الرَّسميَّة ذات الماركات العالميَّة، مثل (بيير كاردان وفيرسا تشي، ويس سانت لورانت). وقال:

-"ثلاث ساعات منذ مجيئك في الحادية عشرة، وأنا وصلتُ قبل موعدنا بنصف ساعة، اِشْتياقًا للويمبي على الأخصِّ، لأجلس مع روحي فقط. الآنَ أشعرُ بجوع، ما رأيكَ بالغداء كفُرصة لنستمتع معًا، فقد مَلَلتُ من أكْل الفُندق، جَايْ على بَالي أكل لُبنانيّ. تبُّولة وحمُّص وفول من زمان ما أكلتُ هيْك شَغْلات.

والآن باجتماعنا اِكْتملت الرَّغبة عندي، واِنْفتحت شهيَّتي لمذاقِ الأكل البَيْروتي اللَّذيذ، الذي لا يعلوه على الإطلاق إلَّا المذاق الدِّمشقيِّ الشَّهير".                         

..*..

 

 

 

كما قلتُ لكَ قبل قليل يا جورج:

-"لقد مَلَلْتُ من أكل الفُندق رغم تنوّع الأطعمة الفاخرة. يقولون: إنَّ الشِّيف وطاقمه في الــ(سان جورج) من أرقى الطبَّاخين على مُستوى العالم، وأخبروني بأنَّ المطعم في الفندق على ما أذكُر، أو قرأتُ على مدخل المطعم أنَّه حائز على نَجمَتَيْ (ميشلان)".

-"هل بِبَالكَ الذَّهاب إلى مكان مُعيَّن لتغيير الجو؛ لعلَّه يُغيُّر شيئًا فينا". قال جورج.

سكلمة يميل للبساطة في الحياة هذه الفترة، سنين طويلة كان مُحاطًا بالرِّعاية والاهتمام، وضعه الوظيفيِّ كان يُملي عليه بروتوكولًا مرسومًا، لا يُمكن مخالفته حسب الأعراف الدُبلوماسِيَّة التي أغرقته طيلة فترة وظيفته منذ بدايته في وزارة الخارجيَّة لسنوات، وتلاها بعد ذلك بانتقاله إلى ديوان رئاسة الجُمهوريَّة، بناء على طلب رئيس الجُمهوريَّة له بالاسم.

بعد إنهاء خدماته المُفاجئ بدأ إحساسه بالفراغ، واِنْعزاله طوعيًّا مُنطويًا على نفسه بفقدان أهميَّته، ولمَّا شاع خبر: أنَّ الرَّئيس غضب عليه لأمر مجهول، ولا يعرفه إلَّا أخصَّ الخواصِّ، اِنْقطعت خُيوط العلاقات الكثيرة مع المسؤولين في الدَّولة على مُختلف المُستويات، فهجروه، ونسوه مُطلقًا، واِنْمحى من ذاكرتهم، ولم تجرؤ ألسنتهم على النُّطْقِ باسمه إلَّا سرًّا وبِتَكتُّمٍ، وكأنَّه لم يكُن يومًا ذا أهميَّة لهم، وبما كانوا يظهرونه من الاِحْترام الشَّديد له، كلُّ ذلك ذَهَب أدراج الرِّياح.

اِشتياق البساطة لمغادرة قُيود الحياة المُعقَّدة بِكَثرة حِساباتها الدَّقيقة للأشخاص والمواقف، لا مجال للخطأ، ولو بنسبة بسيطة جدًّا أثناء التنفيذ. الخطأ قاتل، ولن تُتاح الفُرصة ثانية لتعديل المسار، إلَّا في نِطَاق ضيِّق، أو حالات نادرة لأسباب اِسْتثنائيَّة موجبة.

التفلُّتُ إلى رحاب الحريَّة شَوْق وتَوْق نُفوس جانِحَةٍ للاستمتاع بطريقة مُختلفة عمَّا هو مُعتاد. ردَّ سكلمة على سؤال جورج:

-"شوارع بيروت العتيقة وفيَّة لتاريخها، بعضها حافَظَ على وضعه لمئة عام منذ بداية القرن الماضي، مُثقلة بذكريات عابريها، وكِلَانا عبرناها مثل غيرنا، وتركنا أجمل ذكريات الشَّباب منذ أيَّام الدِّراسة الجامعيَّة، بمرورنا هذا فإنَّنا نتعاهدُها؛ فتجدَّدُ الدِّماء في عُروقنا".

-"أفهمُ من كَلامِكَ يا سكلمة، أنَّكَ لا ترغبُ بمغادرة وسط بيروت إلى أطرافها التي تعجُّ بالمطاعم والمتنزَّهات والمقاهي، وإطلالاتها الفريدة".

هزَّ رأسه سكلمة برأسه علامة الموافقة، وأغضى بعينيْه لدقيقة نحو الأرض، ظنَّ جورج كأنَّما يبحثُ عن غرضٍ وقَع منه، ثمَّ رفع رأسه مُركِّزًا عينيْه بنظراتٍ كَسِيرةٍ بعينيْ جورج.

داهمه شعور غريب بأن هذا اللِّقاء ربَّما سيكون الأخير، وأن لا لقاء بعده ثانية، بينما تترقرقُ دمعةُ على جفنيْه. بنبرة خفيضة بالكاد يسمعها جورج:

-"لا أريدُ المُغادرة إلَّا مُكرَهًا، كما غادرتُ الشَّام مُجبَرًا، وتعرف يا جورج جميع الظُّروف الماضية، ولا فائدة من إعادة الكلام فيها الآن، ولكنِّي أريد أن أملأ بطني من خَيْرات بيروت وأكلها، الذي أشتهيه، كان خياري الطبيعيِّ الإقامة في بيروت، ولكنّه مسار المرض والعلاج غيَّر حياتي وفرض عليَّ المُغادرة، للتَّعافي من الآثار النفسيَّة والجسديَّة التي دَاهَمتني، ولن أستسلمَ لها على الإطلاق. أحبُّ الحياة، وسأحاول السَّعيَ لها ومن أجلها ومن جديد أيضًا". 

صدمة الكلام ألجمت لَسَان جورج عن الكلام، بل صَمتَ على الإطلاق، بينما تأجَّجت رغبة مُتابعة الكلام عند سكلمة:

-"سأخبركَ يا جورج بأمْرٍ أثَّر بنفسي، وأقلقني على مدار أشهر قضيتُها بتفكير عميق، حتَّى استطعتُ اتِّخاذ قراري الأخير.

دُعيتُ لحضور اِفْتتاح معرضٍ فنيٍّ أواخر العام الماضي لأحد الأصدقاء، ولِحُسن الصُّدفة؛ فقد اِلْتقيتُ هُناك بطبيب نفسيٍّ، شعرتُ وقتها بوخز ضميري عندما تمنَّعت ذاكرتي عن فتح أيِّ أبوابها أو نوافذها، عاب اسمه تمامًا.

طيلة لقائنا على مدار ساعات في المعرض والكافيه؛ تجنَّبتُ محاولة ذكره باسمه وكانت كلمة الدُّكتور قد أنقذتني، ولمَّا كان الكلام عن أخيه أيضًا لجأتُ لكلمة القاضي. كلُّ الخيانات في العلاقات مشروعة، إلَّا خيانات الذَّاكرة لأنَّها زهايمر مُبكِّر، أدركتُ وقتها بتآكلها بشكلٍ فظيع.

كنتُ قد تعرَّفتُ إليه عن طريق صديق مُشترَكٍ بيننا، حينما كلَّمني الصَّديق: من أجل التَوسُّط لأخٍ للطَّبيب النفسيِّ، الذي تقدَّم لمُسابقة أعلنَتْ عنها وزارة العدل؛ لانتقاء قُضاةٍ جُدُدٍ؛ لرفد وترميم جهازها القضائيِّ, ووقع الاِخْتيار على أخيه.

بعد ذلك أخذُوا مَوْعدًا لزيارتي؛ جاء ثلاثتهم صديقي والطَّبيب وأخيه القاضي الجديد. وكان لقاءً مليئًا بالمُجاملات والشُّكْر من شِدَّة فرحتهم. ولردِّ الجميل بالجميل.

..*..

 

بعد التِّجوال في المعرض واِسْتماع لشرحٍ مُستَفيضٍ من الفنَّان الصَّديق، الذي أُكِنُّ الكثير من المحبَّة والاِحْترام، ويُبادلني نفس الشُّعور. شجَّعتني دعوتُه بشكلٍ شَخصيٍّ؛ عندما اتَّصل بي مُشدَّدًا على حُضوري. كان ذلك في بداية الشَّهر التاسع من العام الماضي، قُبيْل اِفتتاح المدارس بقليل.

لباقته الآسِرَهْ؛ لم تترك لي عُذرًا إلَّا بالحُضور، ومشاركته فرحته بمعرضه الأوَّل، الذي حصل على المُوافقة على إقامته في مكتبة الأسد  إلَّا بعد جُهدٍ جَهِيدٍ، في صرح ثقافيٍّ كهذا من العِيار الثَّقيل.

أُمنية يندُر تحقيقها بالطُّرق العاديَّة. الأمر يحتاج لوساطات ذات نفوذ، ودعم من جهات مسؤولة؛ تُيسِّر له الأمر مع وزارة الثَّقافة، والجهات الأمنيَّة كذلك.  

الطَّبيب إلى جانبي لم يتركني لحظة واحدة، يستمع كما أستمع للشُّروحات، والنُّكات والقَفَشات من التشكيليَّات العريقات؛ كنَّا آخذين وَجْهًا على بعضنا بلا تحرُّج، أعرفُ بعضَهُنَّ من أيَّام العزِّ.. أيَّام الوظيفة.

..*..

 

ثلاثةُ أرباع السَّاعة بعد الخامسة مساءً على قصِّ الشَّريط من قِبَل مندوب وزيرة الثَّقافة، ومن السِّباحة في عوالم فلسفة الألوان والظِّلال القاتمة والفاتحة، والإضاءة الكاشفة والمُموَّهة، والأشكال التي تستعصي على أمهر السَّحرة والعرَّافين تفسيرها، ولم أجد لها أثرًا إلَّا في عقل الرسَّام، وفي نادرة لمحاولة فَهْمٍ للوحة غامضة غموض ليلة شتائيَّة باردة انقطعت فيها الكُّهرباء.

سألته ببراءة ظاهرة رغم إضماري الخُبث:

-"ما الفائدة للجُمهور من أمثالي برؤيته، ومشاهدته للوحة لا يُفهَم منها شيء، ولا مفتاح فيها للتأويل بأيِّ اِتِّجاه، فما قيمة اللَّوحة إذا لم تترك أثرًا في النَّفس، بل وتجذبني لها لأحكي عنها للآخرين، وأحاول تفسيرها على غير علم".

ضحِكَ بشكلٍ هِستيريٍّ. رآه الحاضرون، اِنْدهشُوا له. وقال بعد أن مسح الدَّموع من عَيْنيْه بمنديل ورقيٍّ؛ اِسْتخرجه من أحد جُيوب السُّترة عديمة الأكمام، ذات اللَّون الأسود الباهِت قليلًا:

-"أستاذ سكلمة. ها أنت تتكلَّم عن اللَّوحة بملء إرادتكَ، وأسمعتَ ممَّن هم حَوْلكَ. هذا يكفيني..!".

فارتفع ضغطي، وتفصَّد جبيني مُتعرِّقًا لتتكوَّن حُبيبات من العرق؛ اضطرَّني الأمر لاستخراج كومة مناديل ورقيَّة من جيْب الجاكيت. مُؤكَّد أنَّ اِحمرار وجهي لاحظه كلَّ من رآني من الحُضور، كما رأيته أثناء خروجي في مرآة كانت بجانب الباب الرَّئيس للصَّالة".

شعور بالضِّيق جَثَم على صدري فجأة، يبدو أنَّ كلامه صَدَمني، وأصابتني حالة من الإرباكِ، أُحرِجتُ جدًّا جدًّا. قبل ذلكَ لم يكُن ليمرَّ مثل هذا الموقف التَّافه بهذه السُّهولة.

عندما ظننتُ خُروجه عن سِيَاق لَبَاقته المعهودة، واِنْفلتَتِ اللَّحظة المُتفجِّرة من بين يديْه؛ لم أَسْتطع مُجاراتِه بالحِوار ولا بالردِّ عليه، غادَرْتني الرَّغبة بالمُتابعة؛ قرَّرتُ الاِسْتئذان منه.

بل اِنْتهزتُ فُرصة اِنْشغاله مع فنَّانة مشهورة جدًّا ذات شخصيَّة جذَّابة، غاب عنِّي اسْمُها تمامًا، خانتني ذاكرتي، ولم تُسعفني بتذكُّره أبدًا، بعد أن أجهدت نفسي لدقائق بلا جدوى. جمال شعرها الأشقر المُنسدل لمُحاذاة وِرْكَيْها المُكتنزيْن المُتكوِّريْن ببنطلون الجينز الأسود. أغناني عن اِسْمها، فقلتُ: "وما سيزيدني لو عرفتُه..!؟".

غادرتُ المكان بهدوء برفقة الطَّبيب عند اِقْتراب السَّادسة مساء، بعد خُروجنا لموقف السيَّارات الخاصِّ بزوَّار وموظَّفي المكتبة الشَّبيهة بالقلعة، تنَّفستُ بِعُمقِ تراخت أعضائي المشدودة، لاحظنا أنَّ الجوَّ يميل للبرودة قليلًا.

النَّسيم اللَّطيف يملأ ساحة الأمويِّين ومحيطها، قادمًا من تلقاء الرَّبوة الدَّائمة الاعتدال بحرارتها الأقلّ عن وسط دمشق ومحيطها.

لا أدري ربَّما أكون قد جَنَيْت على الدُّكتور، بمُناصرة مَوْقِفي، ولم يتركني أنصرفُ وَحْدي.

اِقْتَرحَ عليَّ بالذَّهاب إلى مكان هادئ:

-"ما رأيكَ بقهوة (أبو شفيق) قريبة من هُنا على اِعْتبار أنَّنا قريبون جدًّا من الرَّبوة". اِقْتراحُه غير جذَّاب، لم يَلقَ رغبة منِّي بالتَّجاوب معه.

الأماكن المفتوحة صارت تُسبِّب لي الضِّيق، وصرتُ أميلُ للأماكن المُغلقة والمحدودة، والرَّسميَّة أكثر، لم يكُن في ذهني إلَّا ذاك المكان المُحبَّب إلى نفسي ولا أملُّه أبدًا.

فقلت:

-"سنذهب إلى كافيه فُندق الشَّام".

لم تبدُر منه أيَّة معارضة، تهلَّلَ وجهُه لمَّا سَمِع رغبتي بوجهة مُعيَّنة، ومكان مُريح بالنِّسبة لي. وجه الطَّبيب رسالة موحية بمعان يصعب تفسيرها بشكل مُباشر. بشاشة ترسم البسمة الدَّائمة على وجهه الطافح المعجون بسُمْرَتِه، عيناه العسليَّان تتَّقِدان ذكاءً، تتَّفقان مع صَمْته بإيحاء عميقٍ يصعُب تفسيره، وقبل صُدور أيِّ كلامٍ منه، وشاربه المحفوف بإتْقانٍ. رسالة مُطمئنة مبدئيًّا لمنْ يلتقيه لأوَّل مرَّة قبل أن يتعامل معه.

طبعُه هادئ أساسًا من غير تصنُّع؛ يتوافق بتناسُب معقول مع مِهنته في الطبِّ النَّفسيِّ. شكله مُريح لمرضاه، طوله المُتوسِّط مُتواطئة مع رخامة صوته الهادئ بنعومته الخفيضة بِخَفَرٍ؛ أقربُ بنبرته لفتاة خجولةٍ حَيِيَّةٍ في العشرينيَّات من عمرها.

على مدار ساعتين ونصف من جلستنا في الكافيه، وبعد نقاش المُكاشفة مع الطَّبيب، كنتُ في غاية الاِرْتياح أخرجتُ معظَم ما اِسْتطعتُ إخراجه بلا حرَج من مكنونات نفسي التي أتعبتني في حياتي، وأحالت أيَّامي قلقًا دائمًا.

عندما فهم حالتي بالضَّبط، بسبب صراحتي بالإجابات بلا تحرُّج أو خوف من أيِّ شيء.

في النِّهاية صمتَ لخمس دقائق بالضَّبط، يبدو أنَّه كان يستجمع أفكاره؛ توقَّعتُ: ليُعطيني رأيه، وفي قرارة نفسي أنَّه سيُجاملني، ولا يقول إلَّا ما يُرضيني، إلى أن فوجئت بشجاعته فيما سمعتُ منه في النِّهاية، رغم أنَّ شكله غيرُ موح بأدنى درجات الإقدام والمغامرة والشَّجاعة. آخرُ عبارة قالها قبل مغادرتنا المكان بدقيقتيْن، انتبهتُ للسَّاعة وهي تقترب من الثّامنة والنِّصف مساءً:

-"صديقي أنتَ بحاجة لعلاج، يُؤسفني إخباركَ بأنَّ حالتكَ غير مُطمئنة بتاتًا، وخوفًا من تدهور صِحَّتكَ مُستقبَلًا، نصيحتي بالعلاج".

تماسكتُ ولم أُبدِ أي تأثُّر، أظنُّ أنَّ ملامح وجهي أوحتْ له بلا مُبالاة، ولم يظهر أي تغيُّر، بل اِبْتسمتُ بكلِّ ثقةٍ، كنتُ أشبه بإسْفنجة امتصَّتْ كميَّة الماء المُندلقة على سجَّادة غُرفة الضُّيوف.

شكرتُه من أعماق قلبي؛ فقد أَسْدى لي أعظمَ خِدمة في حياتي بِنَصيحته الذَّهبيَّة؛ فقد جاءت في وقتها المُناسب؛ لإخراجي من قُمْقُمٍ حُبِستُ فيه بين جدران نفسي، في عزلة اِخْتياريَّة لم يكُن بدٌّ منها، واِسْتطاب لي الحبس فيه بين مخاوفي وهواجسي؛ حتَّى أصبحت مُتلازِمَةٍ منسوجة مع جمع من المُتلازمات التي تستحقُّ العلاج من عقابيلها.

تبدو المُشكلة فينا بالضَّبط. وهل برأيكَ يا جورج  أنَّه من السُّهولة بمكان؛ تكوين قناعة بأمر ما بمجرَّد طروئه على بالكَ، أو بسماع كلام عابر.

هزَّ جورج برأسه ذات اليمين واليسار وتلاها بحركة للأعلى مُترافقة مع حركة حاجبيه للأعلى. فَهِمَ سكلمة أنَّه يُوافقه في رأيه, وتابع: من أصعب الأمور التي مررتُ بها، الاستسلام بسهولة لفكرة المرض النفسيِِّ، الذي يُعَدُّ في مجتمعاتنا بمختلف مستوياتها عيبًا، ومثير لسُخرية وتندُّر الآخرين أثناء نوبات الخوض في مستنقعات النميمة القذرة التي لا غِنَى عنها، على خلاف الغربيِّين؛ فهُم يعتبرون هذا الأمر عاديًّا وسليمًا ولا شيء فيه؛ وذلك من أجل صحَّتهم النفسيَّة التي يعتنون بها كما صحتَّهم البدنيَّة، لتسيير شؤون حياتهم وفق  رُؤيتهم الدَّقيقة.

الحديثُ المُستفيضُ بالنِّقاشات مع الطَّبيب كان وسيلةً لإقناعي، لشعوري بخطئي. كنتُ أظنُّ بأنَّني مُعافىً، ولستُ بحاجةٍ حتَّى لمُجرَّد اِسْتشارة ولو على سبيل الاِسْتئناس بالرَّأي، ولم أكُن لأتخيَّل بمُجرَّد التفكير بهذه المسألة أبدًا.. أبدًا.

أخيرًا حزمتُ أمري.. واتَّخذتُ قراري بعد تفكير، وتداول مع نفسي لأيَّام، أخيرًا تلاشى الخوف، واِنْحسر التردُّد، وحلَّت الطُّمأنينة بدَلَ الوسوسة. ثبتَتِ الرُّؤية يا صديقي: أنا بالفعل مريض.. أصبحتُ على يقينٍ من ذلك، وبملء إرادتي وأنا بكامل قِواي العقليَّة أقولها وليسمع العالم كلَّه: أنَّني بحاجة للعلاج.

أقسمُ يا سكلمة:

-"بأنَّ جميع ما سمعتُ منكَ؛ رأيتُه ينطبقُ على حالي، التي لا تفرُق كثيرًا على حالتكَ بجميع مُعطياتها وجُزئيَّاتها، حتَّى في المرض تطابقنا ضحكَ باستهتار- لا أدري هل سنموتُ في ذات المكان والزَّمان..!، ولا أستبعدُ دفننا في قبر واحد، وعلى شاهِدَتِه سيضعون رمز الهلال والصَّليب؛ لنبدأ هناك بجولة جديدة  من حِوارٍ طويل بين الأديان برعاية ملائكيَّة..!.

أخيرًا لابدَّ لي شكركَ على ما خبَّرتني به؛ فقد شجَّعتني للَّحاق بك بعد فترة كي أُنهي بعض الأمور العالقة منذ زمان بعيد؛ فلن أتركها هذه المرَّة كما لم تكُن واردة في حُسباني، خاصَّة أمور التَّرِكَات والميراث مع إخوتي، لا بدَّ من حسمها والبدء بإنجازها".   

..*..

 

لم يطُل بي  التفكير مسافات زمنيَّة ما زال سكلمة مُسترسلًا بحديث-؛ لاتِّخاذ قراري المصيريِّ كي أنقِذَ نفسي، بعد وصولي إلى البيْت عند التَّاسعة، تناولتُ سندويشة جُبنة مع كأس من الشَّاي، وأسلمتُ نفسي للفراش عند العاشرة، ليلتها نمتُ بعُمقٍ لم أنعَمْ به منذ زمَنٍ طويل.

أبو سكلمة وقف أمام سريري، يده  تُلمِّسُ على جبيني، أحسستُ بنعومة يده الطريَّة القديمة في صغري -بنبرة جادَّة- قال: (اِسْتمِعْ لنصيحة الدُّكتور، ولا تُهمل نفسكَ).

هول المُفاجأة أَلْجَم لِسَاني، واِخْتفى طيفُه قبل أن أرُدَّ عليه. ودِدُّتُ لو اِسْتطعتُ تقبيل يده. غادرني؛ وأخَذَ النَّوم من عينيَّ معه. اِنْتبهتُ لساعة الحائط على الجِدار المُقابل لسريري؛ عقاربُها تشيرُ إلى الخامسة صَباحًا.

مع أوَّل رشفة من فنجان قهوتي لهذا الصَّباح المُشرِق، ترافَقَ مع صَوْت فيروز المُختلف هذا اليوم عن غيره من الصَّباحات. اتِّفاق غير مُعلَن بين الإذاعات ببدء موسمها الصباحيِّ لكلِّ يوم بأغانيها على مدار ساعتيْن تقريبًا. رُطوبة الجوِّ النديَّة؛ أغرقتني في عوالم الذِّكريات، ولم يَطُل الوقت باتِّخاذ قرار السَّفر، القناعة سبقته بالتشكُّل فسهَّلت الأمر.

كان يتوجَّب عليَّ إجراء اتِّصالٍ هاتفيٍّ مع جِهَة ما. عند التَّاسعة صباحًا بعد اِبْتداء دوام الدَّوائر الحُكوميَّة في الثَّامنة؛ لإخبارِهِمْ بِنِيَّتي للسَّفر للعلاج، بناء على نصيحة الطَّبيب النَّفسيِّ.

رجعتُ للاِسْترخاء في سريري؛ نعُمتُ بارتياحٍ عجيبٍ هذه المرَّة على خلاف الأيَّام السَّابقة، ومن غير تعجُّل بانتظار موعد الاِتِّصال. النَّوم داعَب جفنيَّ بغفوة سرقتني من واقعي؛ ليعود أبي بكامل هَيْبته، وجلال مَهابَته، وقال: (وفَّقكَ الله يا سكلمة, تابع قَراركَ الصَّائِبْ، واعتني بِنفسكَ جيِّدًا..!).

تململتُ بِحَركاتٍ أستطيعُ بها الاِنْقلاب إلى جَنْبي الأيسر، بعد  شعوري بِخَدر يَسْري بِكَفِّي اليُسْرى، فَرَكْتُها برفْقٍ بحركات قليلة، وعُدتُ لِغَفوتي؛ آمِلًا بعودة أبي للمرَّة الثالثة.

..*..

 

كانت المسافة التي مشياها من الويمبي إلى المطعم قد استوعبت حديثهما على مدار ثلث ساعة، خطواتهما المُتباطئة غير المُتعجِّلة جعلت الوقت أخذ عشر دقائق إضافيَّة، فيما لو كانت عَجْلَى.  

انسجامهما حد الاستغراق بتكملة حديثهما؛ أذهلهما، وجعلهما منفصلين حِسيًّا عن أصوات البَّاعة وزمامير السَّيارات، وأصوات مكابحها إذا ما اعترضها طارئ لتلافي حادث، ولم يلفت انتباههما أي من الجميلات بألبستهن الرَّبيعيَّة الزّاهية، ومُقدِّماتهنَّ العامرة بنجودها وهضابها الجُغرافيَّة، ولا بأنواع العطر الفوَّاح عندما يقتحم الخصوصيَّة، ولا يعترف بها. وما توقَّفا عند ضحكة من إحداهن عندما حكى لها خطيبها أو صديقها نُكتة، لم يسمعها غيرها لأنَّ أحدًا لم يُشاركها ضحكتها.

حرارة الجوِّ الرَّبيعي المُعتدلة في بيروت في شهر نيسان من كلِّ عامٍ لم تتجاوز بمعدلاتها الخمس والعشرين درجة فهرنهايت، وفي أغلب الأحيان أخفَضُ من ذلك وتتراوح حوالي العشرين أو أقلَّ بقليل.

نيسان يغلب الانفتاح على الحياة والاِنْطلاق في رحابها. الدِّفء اللَّطيف بطبيعته مُريح للنُّفوس، ومُشجِّع لممارسة المشي باطمئنان، ما عدا بعض التقلُّبات عند المساء فيميل الجوّ للبرودة. نيسان مِزاجه مُتقلِّبُ كما مزاج السِّياسة غير المُستقرَّة عادة.

سكلمة مُسترسِلٌ بحديثه السيَّال كتدفُّق نهر فاض في نيسان، بقوله: -"حكمتي المُفضَّلة في الحياة: (من تأنَّى نال ما تمنَّى)، لم أكُن مُتعجِّلًا على شيء في حياتي كلّها، تمهَّلتُ جدًّا.. امتلكتُ نَفَسًا بطيئًا، درَبتُ نفسي خلال عملي مع الرَّئيس، الفترة الطَّويلة التي قضيْتُها قريبًا منه أفادتني بالتريُّث لأيِّ أمر مهما كان صغيرًا أم كان كبيرًا. الأمر سيَّان، المُراهنة على صبر الانتظار وتسرُّب الزَّمن، لأنَّ الزَّمن كفيل بحلِّ أعظم المُشكلات تعقيدًا وتشابُكًا، هذه النُّقطة أفادتني كثيرًا، فكلُّ الأمور جاءتني فيما بعد طائعة راضخة أمام قدميَّ، ما دُمتُ ممسكًا بالخيوط أحركُّها كما يروق لي".

كأنَّ كلام سكلمة تحرُّش مُستفزٌّ لجورج، عندما تحفَّز للكلام، كأنَّ الفُرصة مُواتية لقذف المكنونات المُكدَّسة في دواخله بأكوام تفوق حجم الشَّرق الأوسط بأكمله:

-"أُجيد الانتظار بلا ملَلٍ، كثيرًا ما سمعت ممَّن هم حوْلي يتهامسون وغضبهم باد من حركات شفاههم وأيديهم وتعابير وجوههم: على أنَّني بطيء في التَّفكير حدَّ الشَّلَل. ربَّما أظنُّ أنَّ منشأ ذلك هو ترتيب الأفكار يحتاج للهدوء، لإتاحة مساحة واسعة لرؤية ناضجة.

أولى دروس السِّياسة التي تعلَّمناها ووَعَيْناهَا بدقَّة: أنَّ قطف الثِّمار ربَّما يتأخر عن موعده المحسوب بسبب الظروف المناخيَّة مثلًا، وفي السِّياسة قطف النَّتائج بعد مُقدِّمات طويلة عريضة؛ من المُمكن جدًّا تحتاج لسنوات قادمة، بحاجة الاِنْتظار بأعصاب باردة، أبرَد من أعصاب الإنكليز".

لم يفطنا لمسافة الطَّريق، شعورهما غامر بالمشوار النَّادر ولن يتكرَّر بمثل هذه العفويَّة، بلا تخطيطٍ مُسبَقٍ بعيدٍ عن التكلُّف، والمُبالغة في التَّحضير والإعداد لبروتوكول الاِسْتقبال والضِّيافة.

البساطة في التعامل تُضفي حميميَّة على اللَّحظات، وتمحي مُنغصِّاتها السَّوداء، وتفتح آفاق النَّفس للترويح والاِنْبساط. اِقْتناص الفرح مهارة لا يُجيدها إلَّا الأذكياء؛ إذا اِسْتطاعوا التخلُّص من كاريزماتهم بسهولة.   

..*..

 

انقضت ساعات اللِّقاء بنقاشات طالَت الحرب، والتحالُف الدوليِّ غير المسبوق في التَّاريخ على العراق، وتجييش العالم ضدَّه. عفويَّة العلاقة بين الأشخاص تُضفي عليها الصِّدق. امتزاج الفرح والسُّرور بالحزن واليأس بآن واحد. هما لا يعرفان أنَّهما يتشاركان الحالة نفسها إلَّا لحظة الوداع الأخير. يستحيل تحديد موعد آخر استنتجا ذلك واِسْتقَرَّ في نفسيهما. تبدُّل الظروف والمُعطيات بعد تراخي يديهما عن الإمساك بحبال طالما كانت مشدودة عليها. جاء آخرون وسحبوها ببساطة. إنَّما أقوى الرِّوايات قالت بسحب البِّساط من تحتهما.   

جورج ما زال مُستمتعًا بلقاء صديقه سكلمة، والذي بدوره يبدو بهيجًا إلى حدٍّ ما باجتماعها.

تأفَّف سكلمة من الفراغ الذي يُعانيه تجميد وظيفته كمستشار في ديوان رئاسة الجمهوريَّة قبل سنوات، بعد اِجْتماع المطبخ السياسيِّ لدراسة الموقف تجاه قضيّة دُخول الجيش العراقيِّ باحتلال الكُويْت.

سكلمة بكلِّ ثقة من صَوَاب مَوْقفه، أعلنَ رأيه صراحةً:

-"بأنَّه يجب الوقوف مع العراق، أو على الحِيَاد في أسوأ الحالات. لكنَّ هذه المرَّة الأولى والأخيرة، عندما هبَّتِ الرِّياح بما لا تشتهي السُّفُن".

وفي تقريره الكتابيِّ الذي قدَّمه:

-"ليس من الحكمة إرسال الجنود السُّوريِّين إلى حفر الباطن وعرعر،  والوقوف مع الأمريكان، ومن أجل ماذا سيموت شبابنا؟. أمهاتهم وزوجاتهم بحاجتهم. القضيَّة ليست قضيّتنا.. لا ناقة لنا فيها ولا جَمَل"[6].

رئيس الدِّيوان المكلَّف باستلام نتيجة تقارير اللِّجنة الاِسْتشاريَّة، ويشتغل على تلخيص جميع  الأوراق بخصوص مناقشة الموقف وبحث جميع الاحتمالات بصراحة تامَّة، وبلا تحفُّظ.

لفتت انتباهه عبارة: (ليس من الحكمة). القلم ذو اللَّوْن الأزرق بيده وضع تحتها خطًّا، وأعاد بيده جيئة وذهابًا مرَّات؛ لتعميق اللَّون كي يتَّضح بجلاء، لتقع عليْه عين السيِّد الرَّئيس من أوَّل نظرة على الورقة، وضلَّلها بِلَون فُوسفوريِّ، وكتب على الحاشية عبارة لتأييد وجهة نظره: (إذا كان ليس من الحكمة رأينا، هذا يعني أنّنا متهوّرون وخاطئون). وأتبعها بتوقيعه.

في اليوم التَّالي صدر أمر:

"بتجميد وظيفة سكلمة، ويُترَك مكانه شاغِرًا لحين انتهاء القضيَّة، وتُصرَف له كافَّة رواتبه ومُستحقَّاته، كما لو أنَّه على رأس عمله".

-"تخيَّل يا صديقي أنَّني اِسْتَمَتُّ للحصول على مقابلة الرَّئيس لخمس دقائق فقط، لمعرفة السَّبب باتِّخاذه لقراره. لم يُسمَح لي بالوصول حتَّى لمُدير مكتبه. جاءتني التَّعليمات دُفعة واحدة، ومُقتضبة باختصار شديد، فهمتُ الأمر بانتهاء صلاحيَّتي. لم أعُد للمحاولة ثانية".

تسلَّمتُ نُسخةً من الأمر الإداريِّ بتوقيع الرَّئيس باللَّون الأحمر، وهو المسؤول الوحيد هو المُخوَّل بالتوقيع بالأحمر فقط في سوريَّا. تمَّ إيصالها إلى بيتي عن طريق مُراسلٍ يعملُ هناك، بعد ثلاثة أيَّام من صدوره.

..*..

 

وداعًا بيروت:

"بيروت تتَّسِع للجميع ولثرثراتهم ونَزَقهم ونَزَواتهم. اِعْتادت خلافاتهم بصبر وأناة، ولا تضيقُ ذَرْعًا، ولا تنبذُ أحدًا. في بيروتَ لا حِسَاب على الثرثرة.

في دمشقَ فاتورةُ الثَّرثرة باهظة الثَّمن.  وعلى رأي "نزار قباني": (يا ستَّ الدُّنيا يا بيروت). بالضَّبْط هي مثلُ الأُمِّ ستٌّ لِلكُلِّ. قلبُها كبيرٌ يستوعبُ مُشاغَبة أبنائها ورفاقهم، وعلى رأي أحدهم: (لبنان كالعقار ينام، ولا يموت)

ولا أعرفُ سرَّ حُبِّ نزار العميق لبيروت: (ليس للحُبِّ ببيروتَ خرائط.. اِبْحثي عن فُندقٍ لا يسأل العُشَّاق عن أسمائهم، فإن الحُبَّ في بيروت مثل الله في كلِّ مكان). من شَرِبَ ماءها، واِسْتنشقَ هواءَها عشقها. سيعود لها اشتياقًا حرَّاقًا ولو بعد حين".

ما إنْ انتهى سكلمة من كتابة الكلمة الأخيرة من خاطرته تحت عنوان: وداعًا بيروت. دفتره رفيقه الدَّائم المُرتحِل معه أينما حلَّ. راح يتأمَّل بطاقة السَّفر للتأكُّد من صحَّة المعلومات ورقم وتوقيت رحلته. بعد اِقْتراح صديقه جورج بتبديل وِجْهَة سفره من باريس إلى لُوزان في سويسرا، وبعد إقامته لشهر سيغادر إلى باريس.

أعادها إلى المُغلَّف، وشكر الشَّاب الأنيق الذي ما زال ينتظر. اِسْتخرج ورقة المئة دولار ناوله، انعقد لسان الشَّاب ظنَّ أنَّه سيطلب منه جلب أو شراء بعض الحاجات، فوجئ حينما مدَّ سكلمة يده، بقوله: "هاي إكراميَّة لكَ". غادَرَ الشَّابُّ، ونشط لسانه بترديد كلمات الشُّكر والثَّناء على جَزالة البقشيش غير المُنتظَر.

قبل أن ينام في آخر اللَّيْل، أَوْدَع بطاقة سفره، وجواز سفره مع دفتره الأثير على نفسه، في حقيبة (السَّامسونايت)، وحرَّك دواليب الأرقام السريَّة، وركنها على طاولة بوسط الغرفة قُبالة سريره. 

..*..

 

 

 

 

الفصل الثاني رواية سكلمة

 

مدينة لوزان. سويسرا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لوزان:

سكلمة. الإقامة في فندق بوريفاج. لوزان

وقالت البُحيْرة على لسان سكلمة:

-"ما لعنة الأوطان إلَّا الموْت المُحتَّم؛ إِذْ تتبرعم الأرواح وتحيا في ديار بعيدة، النُّفوس المُتعبة لا راحة لها في ظلِّ الأشواق والحنين.

تبتعد الخيالات غوْصًا في لُجَّة المعقول واللَّامعقول، والحلال والحرام، وفي الكُفر والإيمان، والشَّكِّ واليقين. اِنْفلاتٌ بلا حُدودٍ غير مُلتَزِمٍ، وغير مُحايِد. والأسوأ هو الفهم الرَّديء لأيَّة قضيَّة سيُعقِّدُ الأمور، ويُغلق نوافذ الُحلول السَّهلة والمنطقيَّة والمُتاحة"[7].  

الأسبوع الأوَّل كان فُرصة نادرة لاختلاء سكلمة بنفسه، للاِسْتراحة والاِسْترخاء. قبل مجيء موعده المُؤكَّد مع الطَّبيب النَّفسيِّ "نشوان" الذي تربطه بجورج علاقة جِوَار في سكنه مُقابل بيت جورج في أحد ضواحي بيروت؛ فأنشأ صداقة متينة؛ منذ أيَّام دِراسته في الجامعة الأمريكيَّة.

..*..

الإقامة قُبالة بُحيْرة جُنيف (ليمان) هُروب من رواسب سميكة، فُرصة لاِسْتعادة ممَّا تبقَّى صالحًا من مشاعره وأحاسيسه. كنتُ حبيسَ أروقة المكاتب خلف السَّتائر المُزدوَجَة البطائِن. اِهْتراء أعصاب فظيع سوَّد أيّاَمي. حجب المُتعة والرَّفاه عن ساحات حياتي الطَّويلة.

العملُ المكتبيُّ سِجنٌ اِختياريٌّ.

البروتوكول الخاصِّ بوظيفتي حارس يقظ لا ينام بمُراقبتي؛ فصرتُ رقيبًا أمارس التدقيق والتفتيش على أيَّة حركة وكلمة من المُمكن أن تصدُر عنِّي، وضعت على فَمِي ليس قفلًا واحدًا، بل أقفالًا تنوءُ بحملها العُصبة من الرِّجال الأشدَّاء. مؤلمٌ أن يُراقب المرء نفسه، ويخاف من حاله، إذ يُتوقَّع الوشاية بنفسه ذات يوم ما.

الأماكن الحسَّاسة قبور مُنتقاة بعناية للحياة. الآخرون يتمنَّون وظيفة لهم فيها، لو يدرون..! لما سَمَحُوا لأنفسهم بالسَّعي إليها، ولا بمُجرَّد التَّفكير. أظُّن جازمًا أنّضهم وصلوا لدرجة الانبهار مثلما انبهر النَّاس بقارون وأمواله وزينته حينما رأوه، (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ. قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[8]. ومن أُعطي شيئًا عليه الدَّفع بأشياء.

..*..

 

عيناي على مدار السَّاعة تبتعدان عن شُرْفة جناح (السُّويتْ) الفاخر،  في فندق (بوريفاج) لتأمُّل سطح البُحيْرة. زُرقتها المُثيرة كما زُرقة السَّماء، ساحات فسيحة مُريحة لتسرح القلوب والأرواح، تصل بينهما النَّظرات المُستوحية من معانيهما راحة وطُمأنينة، وإذا ما ضاق سطح البُحيرة على نفس؛ انطلقت إلى رحاب السَّماء رافعة يديها وعينيها.

مُخطِئٌ من ظنَّ أنَّ الأماكن لا تتعاشق. بناء الفندق والبُحيرة صديقان أزليَّان في حالة عشق دائم. بعلاقة تبادُليَّة بلا انقطاع. حبٌّ صامتٌ متلازم بتفاعل هادئ بين عناصر المكان.

صباحًا الشمسُ تدفع بظلِّ بوريفاج ليرتسم على وجه البُحيرة السَّاكن، وبعد منتصف النَّهار إلى قُبيْل المغيب بقليل؛ لا تبخل الشَّمس بإرسال نورها إلى واجهة الفندق الغاصَّة بالزَّخارف الدَّقيقة، ولا تتركُ وجه البُّحيرة طيلة اليوم. فُرصة البُحيرة لتُرسل بريقها الفِضيِّ لمعانقة وجه بوريفاج؛ فهي لا تحتمل فراقه لساعات اللَّيل حين تختفي ملامح البشر؛ يعود لِيُرسل إليْها أضواءه المُلوَّنة.

الحبُّ الصَّامت.. لا يعني الفراغ واللَّاشيء. حالات الصَّمت تتواثب على فِرَاش العَتْمة دوْمًا.

 طوابقه الستَّة المبنيَّة على طراز مِعْمار القُرون الوُسطى، أشبه بمنظر القُصور الملكيَّة. (خير الأمور أوسطها) قالها سكلمة لجورج عندما سأله: "في أيِّ طابق تريدُ أن تسكن؟". تأكَّد جورج، ومن فوره ثبَّت الحجز: "يعني الطَّابق الثالث؟". اِهْتزاز رأس سكلمة للأسفل بِحركَتيْن؛ علامة المُوافقة مع السُّكوت.

بعد وُصُولي مطار لوزان، والانتقال إلى الفندق لم يُعكِّر مزاجي أيَّ شيء أبدًا، دقَّة المواعيد والتَّنظيم الدَّقيق لعمليَّة التَّفتيش السَّريعة، وختم جواز سفري لم يستغرق أكثر من رُبع ساعة حتَّى كُنتُ خارج صالة القادمين.

رائحة النَّظافة تشدُ الرُّوح بقوَّة، لطافة موظَّفي الجمارك والأمن لافتة للانتباه، واِبْتساماتهم الثَّابتة، وبشاشة وجوههم مَبعَثُ راحة وطُمـأنينة، هم حريصون على ذلك، اِعْتادوا رؤية وجوه بأشكال مختلفة من كلِّ أنحاء العالم.

القادمون جيوبهم مُتخَمة بالأموال، جاؤوا من أجل الرَّفاه، المال مُقابل الرَّفاه مصدر نابض مُتجدِّد رافد للدَّخل القوميِّ للدُّوَل الفاهمة بتسويق كل شيء. جميعهم ينتظرون الصَّيف موسم المواسم عندهم.

فخامة المكان أكَّدت السَّبَب الحقيقيِّ وراء اِخْتيار جورج للبوريفاج. لولا أنَّه جرَّب سابقًا النُزول فيه لما شجَّعني على ذلك. تاريخ عريق منذ إنشائه (1861) ، أكثر من مئة وأربعين عامًا مضَت على تدشينه، كم سبقني من نُزلاء فيه من الملوك والرُّؤساء والفنَّانين ومشاهير العالم، وها أنا آخرهم.

التاريخ يُكتَب هنا بأيدٍ تلبس القُفَّازات البيضاء ذات الملمس النَّاعم؛ لشُعوب تقطن أقاصي المعمورة القاطنة في القارَّات الأخرى. ستائر السِّياحة تحجُب وُجوه المُجتمعين الحريصين على سريَّة جلساتهم بعيدًا عن أعين الصَّحافيِّين الفُضوليِّين والفضائحيِّين.

 (حاز فندق بوريفاج على سمعة طيبة، لكونه أحد الفنادق المُفضَّلة في أوروبا، من ناحية الخدمة، والجودة العالية التي يُقدِّمها.  يمتدُّ على مساحة عشرة هكتارات من الحدائق، فوق ضفاف بُحيْرة جُنيْف في مدينة لوزان، وتتميِّز أبنيته بأناقتها من طراز حقبة الاِشْتراكيَّة.

وهي تحبسُ الأنفاس بإطلالة عبر البُحيْرة على جبال الألب الفرنسيَّة المهيبة. يُقدِّم التَّصميمُ المعماريُّ الفاخر، والقطع الأثريَّة تجربة فريدة من نوعها من الماضي المجيد؛ سيعيشها الضُّيوف في كلَّ الأماكن العامَّة والخاصَّة.

 من ناحية أخرى يشعر الضُّيوف بأنَّهم في المنزل على الفَوْر، وذلك بفضل طاقم المُوظَّفين الودودُ واللَّطيف، والذي يضم خدمة بوَّاب تُديرها الإناث، وهي وحيدة من نوعها في سويسرا)[9].

صالة الاستقبال لوحة فنيَّة باهرة  بكلِّ المعايير؛ تحكي سيرة الفخامة الفائقة لعراقة المكان بلا استئذان. كان جورج على حقٍّ. ليتنا كُنَّا سويَّة، سأتَّصل به لأُشجِّعه على الاِلْتحاق بي. شعوري عميق يُراودني بأنَّ روح أبي ساكنة بالمكان، من غير المُستَبعد أنَّ مُعلِّمنا الرَّئيس  نَزَل ذات يوم بوريفاج أو قريبًا منه.

لا أدري ما الذي أخذني إلى الظنِّ الأقرَب بأحد أوجُهِهِ لليقين. أثر الخُطوات راسخٌ في لوزان وجُنيْف، ومدينة "إيفيان" شريكتهما الفرنسية بُحيرة جنيف (ليمان)، مدُنٌ حافظة أسرار مُديري العالم ومُشغِّليه.

..*..

 

 

 

 

 

 

 

على شُرفة بوريفاج

 

سكلمة : يجلس في شرفة بوريفاج. لوزان.

الشُّرفاتُ نوافذُ رَاسِلةٌ ومُرسِلةٌ. بيوتٌ بلا شُرُفاتٍ قُبورٌ حُبْلى بالأسرار، وتُطفِئ أنوار الأرواح. والشُّرُفاتُ وسيلةُ تواصُلٍ مُنفتِحةٍ على الشَّارع بتفاعلاته إيجابًا وسلبًا.

وما بين الاِنْفتاح والاِنْكفاء مسافاتٌ مُتناقضاتٌ بمُعطياتٍ مُتقاربةٍ مُتباعدةٍ بآنٍ واحد. الشرفةُ مُتآخِيةٌ مع الطَّريق والمُحيط بكامل جُغرافِيَّته.

سَرحَت عينا سكلمة في متاهات الجبال المُطلّة على بُحيْرة جُنيْف (ليمان) الواسعة المُمتدَّة. أسرابُ النَّوارس البَيْضاء تهبط لتغوص تحت الماء بحركات بهلوانيّة مُتشابهة، وتعلو ثانية، كأنها تُضيّع وقتها في اللّعب، وتتزاحم الغربان السُّود، فهل كان الصِّراع  عُنصُريًّا بين البيض والسُّود.

غريزة البقاء دافع رئيس للبحث الدّؤوب عن الطَّعام. ومن أجل الطَّعام تحدُث صراعات ومعارك؛ لا رحمة ولا تفاهُم في صراع البقاء؛ فتشتَبِك المناقير الحادّة لاستخلاص ما سُلِب منها بالقوَّة. قانونٌ أزليٌّ: (ما أخِذ بالقُوّة. لا يُسترَدُّ إلّا بالقوَّة). وعلى السّطح قوارب التجديف واليخوت الفارهة تذهب بجولات مأجورة للسُيّاح.

من الشُرفة اليُمنى المُحاذية لشُرفته، اِنْفلتَت رائحة عطر من عِقال حَيِّزها المكانيِّ؛  لتقتحم أنف سكلمة، ومن يجلسون في أماكن أخرى قريبة. الاِسْتئذان ليس من عادة العطر، ولا ينتظر الموافقة؛ يحتلُّ الأُنُوف شاء صاحبُها أمْ أبَى.

رغبةٌ عارمةٌ تأجَّجت بنشوة اِشْتهاء بنفس سكلمة، خيال اِمرأة خرجت من الحمّام من فورها، تلف المنشفة على أسفل وسطها. حبيبات الماء تتناثر على صدرها كحبّات لؤلؤ على سطح طاولة يخضع لفحص دقيق بعين شاريها.

تخيّل أنّها "ماري شيلي"  عندما جاءت من بريطانيا، وأعجبتها الإقامة في لوزان؛ لتكتُب روايتها "فرانكشاين" الأشهر على الإطلاق، وأنّها نامت مع عشيقها "بيرسي شيلي" الذي تزوَّجته بعد ذلك، وتمرّغت بأحضانه على ذات السَّرير الذي ينام عليه، وعلى نفس الكُرسيِّ الذي يجلس عليه الآن.

لولا أنَّها بمجيئها وسبقت بإقامتها هنا، تاريخ تأسيس بوريفاج قبل قرابة السِّتَّة عقود. لكانت قد صدقت أوهام سكلمة وخيالاته المهزوزة، المُتزامنة من اِهْتزاز رُعاشٍ مُفاجِئِ، انتفضت أعضاء جسده بحركة عنيفة، كأنّما أصابه مسٌّ من الجنَّ.

يدٌ حانية بكفِّها السَّميكة والضّخمة. تخشَّب ثانية، واِنْعقد لِسْانه بلا أدنى حركة. رأى بطَرَف عينه  خاتم أبيه الفِضيِّ ذي الخَرَزة العَسَليَّة الكبيرة المُوشَّاة ببياضٍ على شكل خيْطٍ رفيعٍ مُتعرِّجٍ مُشِعٍّ من داخلها، ممتدٌّ من أسفلها إلى رأسها المُدَّبب؛ على شكل القِباب المملوكيَّة الشّامخة في دمشق والقاهرة. 

..*..

 

 

 

 

عبقريَّة المكان تخلق خيالات مُبهِرة، وتفتح شهيَّة التَّفكير، وتُتيح فُرصة للتأمُّلات العميقة، وإعادة تقييم الذَّات وعلاقتها مع صاحبها، وفي تشابكاتها وتعالُقاتها مع محيطها الكونيِّ بأطيافه العديدة.

من موقعه الثَّابت على شُّرفة بوريفاج. يبدو أنَّه غارِقٌ مُستَغرِقٌ في لُجَّة الموسيقا العربيَّة، يُطلقها جهاز حاسوبه(اللَّابتوب) رفيقه الدّائم أينما حلَّ واِرْتحَل.

تتوالد الأفكار والأسئلة منهمرة مثل المطر هنا، بعد سنوات عجاف في دمشق. مع تردُّدات الأنغام تخيَّل الموسيقا الألماني عندما جاء إلى جنيف المُقابلة لمدينة لوزان، من غير الممكن رؤية الشَّاليه في الشَّمال على ضفاف بُحيرة جُنيْف؛ الذي نزل فيه لِيُلْهِمَ "ديفيد بوي" إبداع ثُلاثيَّته العالميَّة (ثُلاثيَّة برلين).

طبيعته الرُّومانسيَّة لم تُلاحظ على سلوكه الجادِّ حدَّ الصَّرامة في وظيفته، وأمام زائريه ومعارفه الذين يقصدونه لخدمة مُعيَّنة أو بطلب لتسهيل أمر ما لهم، وما أكثر.

عاش خلف أقنعة مُتعدِّدة الألوان، أناقته الفائقة بمظهرها، كان يعرف متى يبتسم.. ومتى يهزُّ رأسه كي لا يُطلق لسانه في جدال أو ترديد كلام غير مرغوب فيه. دماثة خُلُقه حجبت الأقنعة عن الأعيُن والآذان المُتطفِّلة.

في بيته بعد عودته إليه يُغلق بابه بإحكام ويتأكَّد من ذلك، يغلق هواتفه النقَّالة، إلَّا خطًّا واحدًا لا يُمكن إغلاقه أبدًا مهما كانت الظُّروف والأحوال الخطُّ السَّاخن-، هنا يخلع جميع الأقنعة والملابس، وبمُجرَّد ضغطة كبسة آلة تشغيل الأقراص المُدمجة، تنطلق موسيقا "مونانور" الهادئة في أغلب الأحيان، يتمدَّد على الكَنَبة بعد خلع ملابسه، يغفو وقتًا غير مُحدَّد ليُريح أعصابه إذا لم يكُن مُتربطًا بموعد. كان هذا المنوال الروتينيّ قبل إيقافه عن العمل.

بعد ذلك انقلبت حياته رأسًا على عقب، معظم أيّامه تتشابه في رتابتها وهدوئها، فتحوَّلت إلى روتين مرَضيٍّ، الموسيقى الهادئة طيلة ساعات النَّهار لا تهدأ أثناء صحوه خلال النَّهار وفي ساعات اللَّيل المتأخِّرة، ينقل إلى رومانسيَّات أمِّ كلثوم وفريد ومحمد عبد الوهَّاب.

لم يترك الكآبة تستولي عليه طيلة فترة احتجابه عن الجمهور، جاءته هديَّة من السَّماء لإرواء نهمه من القراءات المُؤجَّلة من قبْل، مكتبته الضّخمة عامرة بالألبومات الموسيقيَّة، وبالموسوعات والكتب والمجلَّات العلميَّة والتاريخيَّة والسِّياسيَّة والأدبيَّة، ومحبَّته الفائقة للأعمال الرَّوائيَّة العربيَّة والمُترجمة أو بلغات مثل الفرنسيَّة والإنكليزيَّة؛ فقد احتلَّت أرفُفًا بأكملها.

خلال سفراته الكثيرة إلَّا السِريَّة والخاطفة ووقتها القليل المحدود؛ فَتسوُّق الكُتب جزء أصيل من برنامج زيارته في البلد الذي يذهب إليه.

نشطت تداعيات ذاكرته، اِسْتعاد أجزاء كانت مفقودة منه. ما السِرُّ في لوزان..! ولماذا قصدها الإنكليز على الوجه الخُصوص: "ماري شيلي"، و "اللُّورد بايرون"، وعشيقها "بيرسي شيلي"؛ ليعملوا رهانًا مُختلفًا عن رِهَانات السِّباقات والمُباريات. رهانٌ لمن يستطيع كتابة أفضل وأقوى رواية رُعْبٍ أُسطوريَّة..! غير مسبوقة.

هذه البنت ماري شيلي- ذات الثمانية عشر ربيعًا فازت بروايتها "فرانكشتاين" الأشهر عالميًّا. مازالت القصَّة ماثلة في ذهن سكلمة، مع اِنْطلاق دُخان سيجاره الكوبيِّ في أجواء الشُّرفة؛ ليُشكِّل خُطوطًا هارمونيَّة تتصاعد وتتماوج بهدوء مع الموسيقا.

عيناه ساهمتان بعيدًا عن البُحيرة لتذهب في الجبال المقابلة من جهة جنيف، كأنّه يبحث عن الوحش الأسطوريَّ فرانكشتاين، أو (إله النار الجديد)، وكانت "ماري شيلي" تقصد من روايتها بِتَأليه بطلها. "فيكتور فرانكشتاين" الشَّابُّ العالِم وفي مختبره يتمكَّن من خلال تجربة علميَّة من صنع مخلوق عاقل غريب، يُشار إليه بالوحش الذي يتحدث ذات يوم إلى العالِم "فيكتور فرانكنشتاين". قائلًا:

-(كنتُ يجب أن أكونَ آدَمَ الخاصّ بك، لكنِّي بَدَلًا من ذلك كنتُ المَلَاك السيِّىء). هرب الوحش بعد أن جعل حياة "فيكتور فرانكنشتاين" جحيمًا ومأساة دائمة، وأُصيب بالمرض، ثمَّ عاد إلى منزله بعد علاجه وتعافيه.

عندما علم بقتل أخيه ويليام. عند وصوله إلى جنيف رأى المخلوق الوحش بالقُرب من مسرح الجريمة يتسلق أحد الجبال، ممَّا دفعه إلى الاعتقاد بأن المخلوق الذي صنعه هو المسؤول عن جريمة مقتل أخيه.

اِعتزل فيكتور الحياة مُنعزلًا كراهب زاهدٍ بين الجبال، كان حزينًا لشُعوره  بعُقدَة الذَّنب، وبأنَّه المسؤول عن أحزان وعذابات الآخرين المُتضرِّرين من المخلوق الغريب، الذي رأى انعكاس شكله في بركة ماء؛ أدرك أنَّ مظهره الجسديِّ كان مُختلفًا وبشعًا. أرعبه شكله مثلما تذكَّر بأنَّه مَصدَر الرُّعب للبشر العاديِّين.

عاد المخلوق لرُشده، وطلب من فيكتور أن يخلُق له رفيقة أنثى مثله. وقال له: "أنَّه كائنٌ حيٌّ/ ولديه الحق في السَّعادة".

وعده المخلوق بأنَّه سيختفي هو وأنثاه في البريَّة في أمريكا الجُنوبيَّة، ولن يعود للظهور مرة أخرى إذا وافق فيكتور على طلبه. وقام بتهديد فيكتور إذا ما رفض طلبه، وسيقتل أصدقاءه المُتبقِّين وأحبائه، وألَّا يتوقف عن الإجرام والفَتْكِ والعبث بحياته الخاصَّة حتَّى يُدمِّره تمامًا.

..*..

 

 

 

جورج أين أنت الآن يا جورج.. ليتنا معًا هنا، لتكتمل مُتعة الرِّحلة. أتذكَّر كلامك عن لوزان أم المُتعة والمتاحف، والنُّقطة الأهمّ عندما ركَّزت على أنَّها جاذبة مُستَقطِبة للطَّاقات.

قبل كلامك كنتُ أجهل معرفة الأسباب التي من أجلها غادر "تشارلي شابلن" بريطانيا بلده الأصليِّ إلى أمريكا؛ لِيُصبح مُواطنًا أمريكيًّا مشهورًا، ومُطارَدًا خلال المرحلة المكارثِيَّة بتُهمة اِنْتمائه للشُّيوعيَّة، ولم يُسمَح له بالعودة إلى الولايات المُتَّحدة؛ فقرَّر الإقامة في سويسرا حتَّى وفاته في مدينة "فيفي" بجوار بحيرة ليمان (جنيف).

العطاء لا ينتظر مُقابلًا. لفظته بلاده طريدًا؛ فاحتضنته هذه البلاد،   واكتسبت المنطقة شهرة أوسع، حينما خلَّدوا ذِكْره بتمثالٍ برونزيِّ تذكاريِّ على كورنيش فيفي مقابل البُحيرة، ولم يكتفوا بهذا، بل قاموا بتحويل منزله إلى مُتحَفٍ بالاتِّفاق مع أبنائه الورثة، واِحْتوى جميع مُتعلَّقات حياته ومهنته بالتَّمثيل، من العصا والقُبّضة وحذائه. عبارته الشَّهيرة موثَّقة على لوحة ستنالس ستيل مؤطَّرة يحميها بللور شفَّاف:

(إنَّ فنِّي هو فنٌّ من أجل الشَّعب). التاريخ يُحنَّط هُنا، ولا يُعاد بأيِّ شكل وعلى أي شكلٍ كان. ثبُتَ الأمر جليًّا، وبما لا يدُع مجالًا للشكِّ أنَّ: التَّاريخ لا يُمكن أن يُعيد نفسه مهما حصل. قناعة الكثيرين.. على أيٍّ أساس بَنَوْهَا..!.

سكلمة تبتعد عيناه صوْب الجهة الفرنسيَّة لبحيرة جنيف (ليمان)، وقريبًا من مدينة جُنيف، ويتخيَّل "فلاديمير لينين" قائد الحزب البَلْشفِيِّ الرُّوسيِّ، وصانع الثورة البلشفية، جاء واستأجر شاليهًا مؤقَّتًا قبل إقامته النهائيَّة في مدينة زيورخ السويسريَّة، وعند وصوله صرَّح للسُّلَطات: (لستُ هاربًا من الجُنديَّة، ولا مُنشقًّا، ولكنَّني مُهاجرٌ سياسيٌّ). ثمَّ تمكَّن من الحصول على اللُّجوء دون مواجهة صعوبات؛ ليتمكَّن من إعداد بعض الكُتُب، واستخدام المراجع اللازمة من مكتبتها المركزيَّة، وقد أنجز كتابه الشَّهير "الإمبرياليَّة"، وعدَّها المرتبة الأعلى من الرأسماليَّة.

لتتأجَّج في نفسه ثوريتَّه على أُسُس مذهبه اللِّينينيِّ السِّياسيِّ؛ ويرفع شعاره: (الأرض والخبز والسلام)،  ولم يستطع إقناع رفاقه السويسريِّين بضرورة القيام بتمرُّدٍ بروليتاريِّ، وعندما يئس منهم وصفهم بــ "الاجتماعيِّين السِّلميِّين السويسريِّين"، وبــ "النذل السَّفيه".

 عاد إلى روسيا مع تغيُّر الظُّروف السياسيَّة فيها، وبعد سنتين من عودته؛ تكلَّلت جُهوده مع رفاقه البلاشفة من تأسيس دولة "الاتِّحاد السُّوفييتيِّ"؛ المُتلاشية عن خارطة العالم بعد سبعين سنة مع مجيء (غلانستوت غورباتشوف؛ القائمة على الاِنْفتاح والشفافيَّة في أنشطة جميع المُؤسَّسات الحكومية، وحُريَّة الحصول على المعلومات، واعتقد بأنَّها ستُساعد على التخفيف من الفساد المُستشري في الطَّبقات العُليا بالحزب الشيوعي والحكومة السُّوفياتيَّة، وتخفيف التَّعسف في اِستخدام السُّلطة الإداريَّة في اللِّجنة المركزيَّة السُّوفيتيَّة)[10].

وكان اِنهيار جدار برلين هو الِمسْمارَ الأخيرَ الصَّدِئَ القويَّ، الذي دُقَّ في نَعْش دولة "الاتِّحاد السُّوفييتي" القُطب الثَّاني الذي كان بعد أمريكا.

..*..

 

 

 

 

(المتحف الأولمبي)

 

 

 

 

سكلمة:

سأستغلُّ الفراغ هذه الأيَّام قبل موعدي مع الطَّبيب نَشْوان. بالفعل أن: (الوقت كالسَّيف إن لم تقطعه قطعك). يا لنشاط ذاكرتي باِسْتحضار أشياء حفظتُها منذ صِغَري أيَّام المدرسة..!

الفُرص غير مُتاحة في أيِّ وقتٍ. لو كنتُ أدْري أنّ الوضع بهذه الصّيغة هنا، لكنتُ ألححت على جورج بمُرافقتي، بكلِّ تأكيد سيكتمل المشهد بصُحبته.

من المرَّات النَّادرة أن أجِدَ نفسي داخل المكان الغريب، منذ الوهلة الأولى عندما رأيتُ كلَّ هذه الأشياء الجديدة، صُدمتُ بمعرفتها غير المسبوقة، خالطتني مشاعر غريبة، لم يتَّضح أيَّ مَلْمَح أستطيعُ به تحديد ما أصابني.

الصّدمة المُفاجِئة قاتلة على الأغلب. ربَّما قتلت الدَّهشةَ في نفسي، وفتكَتْ بلساني؛ فاِرْتَخت أعصاب فَكَّيَّ بذُهول لدقائق، بعدها اِسْتعدتُ وعيي، والتَّدقيق بإنْعامِ النَّظَر بطريقة مُختلفة.

يدٌ خفيَّةٌ هزَّتني بِرفْق؛ انتبهت للخاتم ذي الخرزة العسليَّة كبيرة الحجم المُوشَّحة بالبياض، قلَّ نظيرها لا تتشابه مع أيِّ فَصٍّ مُركَّب على خاتمٍ فِضِيٍّ أبدًا، لم تقع عيني  على شكلها الهرميِّ الأشبه بقُبَّة تكيَّة مملوكيَّة مُفلطحة.

اِقْشعرَّ جسدي. اِهتزَّت أعضاء جسمي بعُنفٍ لم أعهده من قبل، خِلتُ أنَّ المرأتَيْن اللَّتان تمشيان خلفي قد لاحَظَتا ذلك، لكنَّني لم ألحظ أدنى تغيير بوتيرة كلامهما باللَّغة الإنكليزيَّة؛ يبدو أنَّهما صديقتان رياضيَّتان، أو عاشقتان للرِّياضة.

منذ دُخولي في مُنعطف الطَّريق المُؤدِّي للمتحف قبل مئتيْ متر تقريبًا؛ أؤكِّدُ اِسْتغراقهما بنفس الموضوع. خجلتُ فيما بيني وبين نفسي من اِرْتباكي، ولم أجِد مُبرِّرًا لما حصلَ؛ فبأيِّ مُبرِّرٍ فيما لو قررتُ الاِعتذارْ منهما عن حركات ارتعاشي اللاإراديَّة..!! وهل مُهتمَّتان بمُراقبتي؟ 

وما علاقتهما بذلك؟.

وهل بالفعل يعنيهما ما حصل لي؟.

الغُرباء يتجاوزن أشياء كثير، يتخفَّفون ممَّا يُثقلهم، ويُعيق حركتهم، ويستزف وقتهم. أجزُم بأنَّ أكثر من في هذا المكان غُرباء مثلي، لا أحد يعرفُ أحدًا. عابرون مثلي لا يعنيهم إلَّا مُخطَّطهم، وأهدافهم التي جاؤوا من أجلها من بلادهم البعيدة.

ما زالت خُطواتي ثابتة مُنتظمة بلا تغيير يُذكَر. أوه..! -غير معقول- إنَّه خاتَمُ أبي  المُميَّز من بين خواتم العالم جميعًا-رحمه الله- واليدُ أيضًا يدُ أبي.

اِنْحرفتُ بجسمي لألتفتَ، ورفعت رأسي لأصل مستوى وجهه الوسيم وشاربه الضّخم المفتول، وطربوشه الأحمر ذي الشُّربُوشَة الحريريَّة السَّوداء.

بَرُدَ حماسي كأنَّما اِغْترف أحدهم دَلْوَ ماءٍ ضخمٍ من البُحيرة؛ لِيدْلِقَه فوق رأسي. حالة إحباط أفسدت عليَّ لمساتُ يد أبي الحانية.

خيبة لا يُنافسها إلَّا رفيف أسراب النَّوارس تعلو، وتهبط على وجه الماء الرّاكد لتتولَّد تموجَّات لطيفة مُتوتِّرة، طبيعة تشكُّلاتها مثل أَثْلام الأرض المحروثة حديثًا.

تتشابك الطُّيور بأنواعها المختلفة ، وتستشعر دفء الجوِّ مع بِداية شهر نيسان، واِنْفجار ربيع الحياة بلا اِسْتئذان ينتفض الكون بأجمعه؛ لاستقبال الموسم السياحيِّ المُستمِرِّ حتَّى نهاية الخريف.

المرأتان مازالتا مُحافظتان على اِنْسجام خُطواتهما المُتوافقة مع حديثهما المُستمرِّ بلا توقُّفٍ، ولا اِهتمام بي أو بأيِّ شيء يُصادفهما، وكأنِّي لا أمشي أمامهما ولا تفصلني عنهما سوى عدَّة أمتار.

بدا لي أنَّهما صديقتان إحداهما من إنكلترة على أغلب الظنِّ، وذات البشرة البيضاء، والشَّعْر الأشقر، والعينيْن الزَّرقاوَيْن، بلا ريْبٍ شكلها يُفصح عن هُويَّتها.

دقَّقتُ في شكلهما، نفسي مَالَتْ لمُكوِّنات المرأة ذات الملامح الكاريبيَّة الشَّامخة بطولها كنخلة تَدْمُريَّة، تفيَّأت زنُّوبيا بظلِّها يومًا ما. طولها صالح ليجعل منها لاعبة كُرة سَلَّة، ليتها كما أظنُّ..!.    

..*..

 

 

لماذا لوزان بالذّات؟.

بالفِعْل لا أستطيعُ تحديد سبب اِخْتياري للمجيء إليها. ولماذا غيَّرتُ وِجْهَتي من باريس إليها؛ عندما استقبلتُ اِقْتراح جورج برحابة صَدْرٍ وبلا نِقَاش؟.

زُرتُ مُدُنًا لا تُعدُّ ولا تُحصى في القارَّات الخَمْس، بتكليفٍ أو بمُهمَّةٍ رسميَّةٍ سِريَّةٍ لم يُعلن عنها، وأغلبها كانت قبل وأثناء الاِتِّفاق على المُشاركة في مُؤتمر مَدريد للسَّلام، ومقابلة من يقومون بعملٍ جبَّارٍ؛ للإفراج عن الرَّهائن المُختَطَفين في لُبنان، وعقد صفقات سِريَّة معهم بما يتوافق مع مصالحنا العُليا، ونُحافظ على أمْنِنا القوميِّ في سوريا، وأخرى علنيَّة؛ لمُرافقة الوُفود لدول أخرى لبحث العلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة والتَّعاون الأمنيِّ؛ لأكتب تقريري الخاصِّ للسيِّد الرَّئيس بناء على تكليفي منه بشكلٍ شخصيٍّ.

ليس من السُّهولة نَيْل ثِقَته؛ فقد كان دقيقًا بمُلاحظاته وشُكوكه بأدنى شيء يبدو له. كثيرًا ما راجعتُ نفسي؛ لأتأكَّد من أنَّني لستُ أمام "ديكارت" الذي أطلق مقولته، بعد دراسات وأبحاث قام بها على مدار سنوات طويلة: (أنا أشُكُّ، وأعلمُ أنَّني أشُكُّ، وبالتالي أنا أُفكِّر، وما دُمتُ أُفكِّر؛ فأنا مَوْجود)؛ لتتوارد أسئلتي حوْل شُكوك "ديكارت" الفظيعة التي أخذها كما يُقال عن الإمام "أبي حامد الغزالي"، وعبارته الشهيرة: (الشكُّ أولى مراتب اليقين)، التي صارت قاعدة علميَّة يستندُ إليها جميعُ الدَّارسين والباحثين.

زاد على خبرتي ما اِكْتسبته من خبرة الرَّئيس العريقة الشكَّاكة بأدنى حركة. فاقَ كلَّ ما تعلَّمتُه من مدرسة الدَّولة العميقة، بل أصبحتُ كإسفنجة توجَّب عليها اِمْتصاص فوائض شُكوك الآخرين.

أظنُّ أنَّ الشكَّ تحوَّل عندي إلى حالة مرضيَّة. كثير من الشُّكوك لا مُبرِّر لها على الإطلاق.

علمتُ بطريق الصُّدفة من أقرب المُقرَّبين من دائرة الرَّئيس الخاصَّة، أثناء دردشة قصيرة بخصوص العمل: "أنَّه لم يكُن ليدخل مكانًا، أيَّ مكان الإطلاق قبل تفتيشه ثلاث مرَّات، حتِّى غُرفة نومه يتوجَّب (التشييك) عليها أيضًا".

سَيْطرة الخوْف والشكِّ بأبسط الأشياء؛ الحيطة والحذر واجب في جميع الحالات، لكن أن يتحوَّل ليُصبح هاجسًا دائمًا. كارثيَّة الخوف وضع لا يُسكَت عليه.

تحوُّلٌ إجباريٌّ إلى الهوَس الاِكْتئابيِّ، الذي قلَّما ينجو منه إنسان، وإن تمتَّع بكامل قواه وقُدراته العقليَّة، لكنَّه بحاجة لطبيب مُعالج.

المرأتان خلفي تقتربان بخطواتهما منِّي. حَذَري الزَّائد ولَّدَ شُحنة خوف مُفاجئة؛ حرَّضتني على التفكير الجدِّي بالهُروب من أمامهما، والتَّواري خلف جُذوع الأشجار الضَّخمة القائمة على جانبَيْ الطَّريق.

هذا ما لمَّح لي به الطَّبيب النفسيِّ في جلستنا بمقهى فُندق الشَّام، وقتها لم آخُذ الموضوع على محمل الجدِّ، وأذكرُ أنَّه وردت كلمة "البارانويا" على لسانه مقصودة:

-(أستاذ سكلمة بكلِّ أسفٍ. يجب أن أُخبركَ بحقيقة مُعاناتِكَ مع "البارانويا").

اِسْتنتجتُ وقتها من حوارنا:

-"بأنَّ كَثْرة المحاذير والتشديد على الاِحْتياطات الوِقائيَّة؛ جاءت نتيجةً لعملي الوظيفيِّ في دائرة صُنع القرار. الطبيعة السِريَّة الفائقة والاحتياطات أكثر بكثير من عمل فَرْع أمنيٍّ".

تجاوزتني المرأتان بخُطواتهما الثَّابتة بِسُرعتها، مُقابل خُطواتي المُتباطئة بقصد الاِسْتمتاع بقفاهما واِرْتجاجات رِدْفيْهِما، وكيفيَّة مَشْيهما وتمايلهما.

فشل ظنِّي، وخابَ تمامًا؛ إذ لم أحصل على مُتعَةٍ تمنَّيْتُها، ولم يتقارب ما تخيَّلتُه مع مشيتهما الرَّتيبة ذات النَّسق الرياضيِّ الخالص الخالي من روح الأنوثة.

..*..

 

 

 

 

 

 

 

 

سكلمة أمام بوابة المتحف الأولمبي:

 

 

وجهًا لوجهٍ أمام بُوَّابة المُتحَف الأولمبيِّ العظيمة بتفاصيلها المُتناسقة، تحكي سيرة المكان قبل دُخوله. أخذتُ نَفَسًا عميقًا بعد مِشْوارٍ لطيفٍ من بوريفاج لم يتجاوز النصف ساعة أو أقلَّ بمشيتي البطيئة، السَّاعة تُشير إلى العاشرة صباحًا.

الهدوء يُخيِّم على المكان، النَّسائم المُنعشة تُداعب الأغصان برفق. حفيفها اللَّطيف يحكي سيرة الحُبِّ والحياة في صباحات باِمْتداداتٍ واسعة تشرحُ الصَّدر.

أثناء طريق عودتي مساء إلى الفُندُق؛ حاولت اِسْترجاع مُشاهداتي وقبل ذلك تذَّكرت فيما بعد امتصاص صدمة الانبهار غير المُتوقَّعة، لم أكن أتخيَّله أصلًا. بعد انفصالي عن الطَّريق الرَّئيسة الممتدة من بوريفاج على امتداد كورنيش البُحيْرة، إلى التفرُّع المُؤدِّي إلى المتحف الأولمبيِّ المُتربِّع على أعلى تلَّة يطل على البحيرة.

شلال صناعي فريد يستقبل الزائر الأيدي الخبيرة بصنع الجمال حفرت بصمتها عميقًا في المكان. يحار العقل واللِّسان بوصفه، ولا يدري كيف سيبدأ. ولا من أين سيبدأ..!!. إرادة التغيير صانعة المعجزات. الإصرار على النَّجاح وُصولٌ واثِقٌ آمِنٌ إلى قمَّة الإنجاز.

البِساطُ الأخضر المُتموِّج هُبوطًا وصُعودًا مع اِنْثناءات واِنْحناءات، تُظلِّلُه الأشجار الشَّامخة عاليًا في السَّماء.

المُجَّسمات المُتناثرة على جانِبَيْ الطَّريق حارسة لزاويتها التي تتربَّع عليها، و اللَّوحات الكبيرة بإطاراتها الحافظة تُضفي أُلفة للعابرين من أمامها، ولا تترُك الزَّائر نهبًا للتحليل والتأويل، بل جاءت الكتابات والتواريخ أمامها تفسيرًا ثابتًا.

صناعة الحضارة بحاجة لمخطِّطين وأيدٍ خبيرة ماهرة. في حالات كثيرة يعجز اللِّسان عن التعبير والوصف، ما زلت مأخوذًا بجمال المسافة الفاصلة قبل البدء بصعود الدَّرجات إلى القمَّة حيت يربضُ المتحف، ببطء خطواتي غير المُتعجِّلة، أتاحت لي ملاحظة الكتابات ذات اللَّون والمحفورة على حافَّة الدَّرجة الأولى، تاريخ أولى دورات الأولمبياد واسم البلد الذي أقيمت فيه، لم يتوقَّف الأمر بل تابعت الكتابة مع كل صعود لدرجة أعلى. العناية بالتفاصيل موهبة لا يُتقنها الكثيرون.

ما إن وضعتُ رجلي على الدَّرجة الأخيرة، حتَّى اِرْتسم وجه أبي بجلال طلعته البهيَّة المعهودة. هَالَني شارباه المعقوفان للأعلى بطولهما المُمتدِّ من زاوية الواجهة اليُمنى للمُتحَف إلى اليُسرى المُقابلة لها. وعلى مدخل البُوَّابة الرَّئيسة اِنطبعَتْ ابتسامتُهُ.

توقَّفتُ لالتقاط أنفاسي للحظات. الأنفاس هنا حاجة ثانية لا توصف، هواء نادر النَّقاء مُثقل بنكهة البُحيرة، الإيحاء بحاجة صفاء نفس ونقاء روح، إحساس غريب بإنزال حُمولات الماضي عن كاهلي المُثقَل بأعباء لا جدوى منها الآن.   

اِسْتبشرتُ خيرًا، وسيبقى الأمل قائمًا يتراقص أمام الأعيُن، وتهتزُّ القلوب فَرَحًا على إيقاعاته المنفردة. رغم الظَّلام الدّامِس، وضياع البُوصلة والجهات، ولا من شمعة تُرتَجى في آخِر النَّفق؛ سنبقى مُصرّين بيقين لا يُخالطه أدنى بأنّ هناك بقايا أمل. ها هي خطواتي تخطو بثبات نحوه.

 

عيناي مُركزتان على الدوائر الخمس المُتشابكة بألوان الطّيف. شعار ألعاب الأولمبياد رمز القارَّات الخمس. الأعمدة الأربعة عن يمين ويسار المدخل كلُّها بلا بلا تيجان على رؤوسها، فهي مُنطلقة بلا حدود إلى السَّماء، وقواعدها داخل حوضين مليئين بالمياه نُسُغ حياة بمدايات لا تذوي، ولا تموت مع تتالي الأيَّام.

أرقام رامزة لتاريخ كلِّ دورة ألعاب؛ منذ انطلاقتها الأولى 1896في أثينا محفورة على واجهات الأعمدة تتدرَّج بالعدِّ التصاعُديِّ من الأسفل للأعلى. ومؤشِّر للأرقام القياسيَّة في الوثب الأعلى من شبكة كرة الطَّائرة بسنتمتر واحد. ما هذا الإبداع..!!

المقاعد تنتشر بين مسافات غير مُتباعدة. أكثرها مشغول بمن يُريح نفسه، وقليلها فارغ. زوَّار يقومون لمُتابعة خطَّ سيرهم، وآخرون يلتقطون  أنفاسهم على المقاعد.

..*..

 

 

 

سكلمة داخل المتحف:

فرادة المتحف بموقعه المُميّز في وسط المدينة. وبإطلالته السَّاحرة على بحيرة جنيف (ليمان)، وليس ببعيد عنه عدة أماكن سياحية مثل حديقة "منتزه المدينة" الشهير، التي تحتضن الفيللا مقر الاتحاد الدوليِّ الأولمبي منذ 1922، والمتحف من أجمل المقاصد السِّياحيَّة ليس في لوزان.

على مدار أيَّام السَّنة لا تتوقُّف أفواج السُّيَّاح بالتدفُّق إلى المدينة للرعاية الصحيَّة والاستشفاء، والقاعات الفسيحة عامرة بالمؤتمرات الرياضية والثقافية، وحركة الأسواق ناشطة ومُزدهرة، مثل باقي المعالم السِّياحيِّة الشهيرة المختلفة كالكنائس والبُحيْرات والمتاحف العديدة سِمَة لوزان العالميَّة.

بوضع قدمي على عتبة الصَّالة؛ اِسْتقبلتني أناقة الموظِّفين بلباسهم الأنيق والمُوحَّد، والباجات تتدلَّى على صدورهم فيها معلوماتهم الأساسيَّة، وشِعاراتٍ مُثبَّتةٍ بدبابيس بأعلى ياقات جاكيتاتهم الكُحْليَّة.

رائحة عطر نفَّاذة تقود الزَّائر عُنوةً إليها. على بُعد خُطوتيْن من المدخل ابتسامة المُوظَّفة الأنيقة اِسْتدرجتني إليها، رحبَّت بنبرة ناعمة أشبه بزقزقة صغار العصافير. بريق عينيْها الخضراويْن آسِران حدَّ الذُّهول. أجبتها بالإنكليزيَّة:

-"ثانكس".

شرَحَت لي قائلةً:

-"المُتحَف مكانٌ سِياحيٌّ مُناسِبٌ لمُحبِّي، وأنصار، ومُشجِّعي الرِّياضة. مجموعة مَبَانِيه تضمُّ أكثر من مئة ألف قطعة رياضيَّة، ويُعَدَّ أكبر أرشيف للألعاب الرياضيِّة الأولمبيَّة حول العالم".

 تناولت تذكرة الدُّخول بعد دفع العشرين فرنكًا رسم الدُّخول من خلال الجهاز الخاص لهذه الغاية، و على رفٍّ أنيق فوق طاولة عليها (بروشورات) فيها معلومات وشروحات وافية عن جميع أقسام المُتحَف باللُّغة الإنكليزيَّة. أخذتُ نُسخًا من جميعها، تحتوي على كلِّ شيءٍ يخصُّ الأقسام والقاعات. ودُوِّن على غلاف الصَّفحة الأولى من أيٍّ منها أوقات الدَّوام من التاسعة صباحًا لغاية السَّادسة مساء.

..*..

جلستُ على مقعَدٍ في طرَف صالة الاِسْتقبال؛ لمُطالعةٍ سريعةٍ للنَّشرات؛ ليستقرَّ رأيي بِدايةً للتوقُّف عند العُروض المرئيَّة للتعرُّف على أولويَّات زيارتي. من أين سيبتدئ مِشْواري.

مؤكَّدٌ أنَّها ستحكي عن تاريخ المُتحَف والألعاب الموجودة. مشهديَّاتٌ يتزاوجُ فيها الفنُّ الرَّاقي مع الحضارة. ليْتَ الوقت يُسعفني لمُتابعة بعضًا من الأفلام الوثائقيَّة الخاصَّة بالألعاب الأولمبيِّة بكامل تنوُّعاتها.

تذكَّرت عَدَم مُيولي الجارفة للرِّياضة بشكلٍ عامٍّ، ولا أستطيع تحديد الأسباب التي قادتني للمكان هذا، ربَّما هو اِسْم "سامارانش"، أو معرفتي السَّابقة به. الرَّغبات والأماني لا تُلبَّى إلَّا بخوض التجربة.

حينما قرأتُ عن الأماكن السِّياحيَّة في لوزان قبل مجيئي إلى هُنا، تحرَّكت أيضًا هواجس الوطن المفقود في قلبي، لعلِّي أجدُ ذكره هنا، وبحثًا عن المِصْداقيَّة والحِيَاديَّة في سويسرا البلد الحِياديِّ، الذي يفتح صدره لكلِّ بني البشر.

فهل الغَرْب لهم وحدهم..! وما الذي يُمثِّله شرقُنا الأوْسَطيِّ والعَربيِّ، وعلى وجه الخُصوص سوريَّا، حينما اِحْتضنت دورة ألعاب المُتوسِّط، وهل انتهى الحَدَث بنهاية الفعاليَّات..!، وصار طَيَّ مدارِجِ النِّسيان، أمْ إنَّهم وثَّقوه مع دَوْرات الأولمبياد الشَّبيهة في الدُّوَل الأُوروبيَّة..! وغيرها.

توقَّفتُ أمام عبارة لــ"راشيل كالو" بخصوص المُتحَف:

(إنَّ كِبَار السِنِّ يُقدِّرون المُتحَف الأولمبيِّ، لأنَّهم غالبًا ما يستعيدون فيه ذكرياتهم. أمَّا الشُّبَّان؛ فيكتشفون فيه في المُقابل أشياء جديدة، كما يبحثون فيه عن الأغراض التي اِسْتعملها أو اِرْتداها أبطالهم، إنَّه مُتحَف لجميع الطَّبقات الاجتماعيَّة ولكلِّ الفِئات العُمريَّة)[11].

..*..

 

 

انبعثت هِمَّةٌ جديدةٌ للبحث في صالة معروضات دَوْرات الأولمبياد منذ تأسيسها المُرقمَّة والمُنَسَّقة بـإتقانٍ؛ لتسهيل مُعايَنَتها بلا مشاكل وتعقيدات. تحرَّك الدَّم لإثباتُ الذَّات العربيَّة أوَّلًا، وإيجاد الذَّاتُ السُّوريَّة عندي الآن؛ هي مُهمَّة قَوْميَّة بالنِّسبة لوجودي في هذا المكان الأُسطوريِّ، الخارج عن سياق المألوف والمعروف. لم يُعجزني البحث عن أرقام وتواريخ الدَّوْرات؛ ففي خلال دقائق كنتُ أمامَ شعارَ دَوْرتنا.

اِنْتَشيْتُ بِفَرحٍ غامِرٍ بَدَّد قَلَقي، وأحزاني المكتومة في ظُلُمات لا يعلم مَدَاها إلَّا الله. اِنتفَضَتْ دواخلي بِرَعشة أنعشت دَوْرتي الدَّمويَّة الخامِلة منذ سنين، ولم أشعر بمثل ما أشعرُ به في هذه اللَّحظة الفارقة من تاريخي الطَّويل في أروقة صناعة القرار.

آهٍ.. وألف آهٍ..!!

أتمنَّى لو كان الرَّئيس على قَيْد الحياة، لما تردَّدتُ أبدًا من فَوْري بالاتِّصال على الخطِّ السَّاخن؛ لأزفَّ له فرحتي التي لا توصَف؛ أعلمُ كم ستكون فرحته أيضًا..!!.

ومن يدري. ربَّما أنَّ المعلومة ستفيده في لقاءاته مع السَّفير والدُّبلوماسيِّين السويسريِّين إذا ما اِجْتمع بهم ذات يوْمٍ.

..*..

 

 

على ما أذكُر. أنَّه لمَّا وصَلتِ الاِقْتراحاتُ إلى ديوان الرِّئاسة بشأن شعار الدَّورة، والمُنَسَّبة من مكتب الرِّياضة في القيادة القُطريَّة للحِزِب، من بين العديد من المشاريع المُقدَّمة من الاتِّحاد الرِّياضيِّ.

تمَّت المُوافقة على الشِّعار الذي صمَّمه الفنَّان "عبد القادر أرناؤوط"

وقتها جرى نقاشٌ مُوَسَّع باستفاضته بتحليل رؤَّى الفنَّانين ورُؤاهم، وفلسفة كلٍّ منهم للمناحي المنظورة والخفيَّة لمشروعه، وفي النِّهاية جرى تقييم جميع الأعمال من قبل اللِّجان المُتخصِّصة والمُكلَّفة.

وتُرِكَ أمرُ الاِخْتيار الأخير للرَّئيس، بعدما اِطَّلع عليها جميعًا، واِسْتمع؛ باهتمامٍ بالغٍ لخبير أكاديميِّ؛ قدِمَ من كُليَّة الفنون الجميلة في جامعة دمشق.

جيء به، لشرح تفسيراته ورُؤاه أمام السيِّد الرَّئيس. المعروف عنه دِقَّة المُلاحظة، واِهْتمامه بتفاصيل التَّفاصيل، والأبعاد والأهداف القريبة والبعيدة. به حساباته الخاصَّة به.

تكوين الرَّأي ليس من السُّهولة بمكان، القرار الصَّائب يأتي بعد دراسة متأنِّية بكلِّ الأحوال. وفيما قُدِّم من شروحات فسَّرت مشروع عبدالقادر، الذي ابتدأ بأعلاه باسم مدينة اللَّاذقيَّة باللُّغة العربيَّة وتحتها بالإنكليزيَّة بمثابة هُويَّة الدَّورة. تركيز على الثَّوابت المُعلَنة التي لا يُمكن تجاهلها، يجب حضورها في أيَّة مُناسبة.

في المنتصف الحلقات الثلاث المُتداخلة تُمثِّل برمزيَّة للقارَّات الثلاث المُطلَّة على البحر المُتوسِّط المُتمثِّل بلونه الأزرق المُغَطِّي للأرضيَّة، أمَّا السَّفينة الشِّراعيَّة تُمثِّل الحضارة الفينيقيَّة العريقة؛ الضَّاربة بجذورها الأصيلة العميقة في أرجاء مُحيط المُتوسِّط والعالم القديم. تتجلَّى في التصميم فلسفةٌ فارِهَةٌ الذَّوق جسَّدت ثقافة الفنَّان.

واِعْتُمدَ الشِّعار من قبلنا بعد توقيع السيِّد الرَّئيس عليه، وثمَّ أُرسل ثانية للِّجنة الأولمبيَّة لاِعتماده، ونالت رِضَاهم وقبولهم، وعند مُوافقة "سامارانش" النهائيَّة؛ أصبح الشِّعار المُعتَمد للدَّورة.

..*..

 

 

 

 

 

جولة داخل المتحف. الأدوار الثلاثة

 

 

ليس في لوزان وحدها تجتمع أسرار العالم، بل إنَّ الاتِّحاد السَّويسري بكامل كانتُوناتِه الإداريَّة حفيظة على الأسرار، موطن الهدوء والغُموض، لا حِرص لديهم لمتابعة خصوصيَّات الآخرين، يأتون هنا ويذهبون، لكنَّ تبقى منهم أشياء مُهمَّة؛ فلا يخافون عليها.. أليس عجيبًا ذلك..!؟.

الصَّالة فسيحة لا تضيق بأعداد الزائرين المُتزايدين بالمجيء تِباعًا خلال ساعات النَّهار، من التَّاسعة صباحًا حتَّى السادسة مساء بانتظام بلا تقديم أو تأخير.

إدارة المُتحَف لم تتوقَّف عند حدّ المعروضات المُقرَّرة حول تاريخ الألعاب الأولمبيَّة، بل اشتغلت على تطوير المُتاح بين يديْها لتكون شريكًا ثقافيًّا بتقديم ما بين عرضيْن إلى ثلاثة عُروض تتشابك ما بين العلم والفنِّ والثَّقافة، ولم ينسوا هُواة الطَّوابع البريديَّة والنُقود والعملات؛  فقاموا بتخصيص قاعتيْن عرضت هذه الأشياء. فكرة الاستثمار والتسويق مُتأصِّلة في فهمهم المُختلف للعمل، و قابليَّة عرض أي شيء للبيع والشِّراء، لاستدرار الأرباح. بلد مثل سويسرا بلد قاريٌّ غير مُطلَّة على البحر.

طبيعة جُغرافيَّتها الجبليةَّ؛ كانت نعمة لهم باعتمادهم على السّياحة وخدماتها كمصدر أساسيٍّ من مصادر الدَّخل القوميِّ.   

ثباتُ المواعيد اِسْتقرار نفسيّ نشعر به نحنُ القادمون من بلاد، لا تُقيمُ وزنًا حقيقيَّا لقيمة الوقت والمواعيد. المُوظَّفون هنا لا يتركون أمكان عملهم للذهاب إلى السُّوق، لشراء أغراض بيوتهم، ولا إلى الفُرن لشراء ربطة خُبز، ولا من يلتهي بشُرب العصائر أو كأس الشَّاي أو فُنجان قهوته بعد تناول سندويشة فلافل مثل عندنا.

حيرة المرء من أين سيبتدئ جولته، الشَّاشات السِّينمائيَّة التفاعلية تُسهِّل كلَّ أمر يخطر  ببال، واللَّوحات الكبيرة لأجمل اللَّقطات الجامدة والمُتحرِّكة بعدسات المُصوِّرين منها القديم بالأسود والأبيض، والجديد المُلوَّن المُنتقاة من مختلف الدَّورات.

كما أنَّ اللَّوحات الإرشاديَّة فيها معلومات مُهمَّة، عن حفلات الافتتاح، والشُّعْلات الأولمبيَّة بأشكالها المُختلفة، وأبرز الأحداث الرِّياضيَّة وتواريخها، كأنَّ تخصيص الصَّالة لهذه المواضيع، وتسهيل تناولها بغاية السُّهولة، والبحث عنها من خلال دائرة إلكترونيَّة مُغلقة خاصَّة بالمُتحَف فقط؛ لتُشكِّل وثيقة تاريخيَّة للرياضيِّين والألعاب والأرقام القياسيَّة المُسجَّلة، ولم ينسوا نصيب الحُكَّام لكلِّ لعبة، ولا المُعلِّقين ولا المُصوِّرين أصحاب العيون المُختلفة برؤيتها للمشاهد.

وفي هذا القسم لاحظتُ وجود مكتبة تحتوي على أشرطة فيديو، وأرشيفات فوتوغرافية، وسمعيَّة هامَّة، ممَّا يُسهِّل  مُهمَّة طلبة المدارس والجامعات والباحثين الأكاديميِّين المُتخصِّصين في الإعلام الرِّياضيِّ.

..*..

 

استغراقي بالمتابعة وتدقيق المُشاهدة بالتَّركيز على نُقاط جديدة، أجهل الكثير من جوانبها، ولأكثر من ساعة حتَّى اِسْتطعتُ الصُّعود إلى الدَّوْر الثَّاني، الذي أخذ وقتًا أظنُّ اِقْترب من وقت الدَّوْر الأرضيِّ، ابتدأتُ بالقسم الخاصِّ بالأدوات الرِّياضيَّة، والأزياء خلال السِّنين الأخيرة، ومُقارنتها مع ما كان قبل مئة سنة. وذلك من خلال شاشات لعرض الصُّوَر والألعاب واللَّقطات المُثيرة. مع تطوُّر التقنيَّات وبجميع اللُّغات؛ انتفى دوْر الدَّليل السِّياحيِّ، في بلادنا ما زالت مهنة مُحترمة تحظى باهتمام الشَّباب والدًّارسين للغات والترجمة، لأنَّها تُدرُّ دخلًا مُمتازًا؛ سواء كانت الوظيفة مع القطَّاع الخاصِّ أو العامِّ على حدٍّ سواء، مُقارنة مع باقي الوظائف الحُكوميَّة بمحدوديَّة راتبها.   

  تابعت جولتي للدَّوْر الثُّالث، المُثير للمشاعر الإنسانيَّة المُتفاعلة من صور حركات الرِّياضيِّين بروحهم الرِّياضيَّة المَرِحة التي يتمتَّعون بها، الخاسر يُصافح الرَّابح بابتسامة، أذكُر التقارير القادمة إلى ديوان الرِّئاسة من اللِّجنة الرِّياضيَّة في القيادة القُطريَّة المرفوعة لهم من رئاسة الاتِّحاد الرِّياضيِّ، حوْل العِرَاكات المُتكرِّرة بعد مُباريات كُرة القدم، وأكثرها إثارة المُترافقة مع أيَّة مُباراة لنادي الاتِّحاد الحلبِّي، وقصَّة سكَّة القطار وحجارتها التي بحجم قبضة اليد؛ لمنع انجراف وتآكُل التُربة، كانت تملأ جيوب مُشجِّعي الاتِّحاد، وتتسرَّب إلى باقي المُشجّعين الآخرين.

فإذا ما خسروا، أو لم يُعجبهم التحكيم ولو حدث عن طريق الخطأ، تبدأ حفلة الاشتباكات بالأيدي وبقذف السُّباب والشَّتائم ليتطوَّر الأمر إلى التَّراشُق بالحجارة، العنف المُتبادل يخرج عن قدرة سيطرة دوريَّات الشُّرطة العسكريَّة والمدنيَّة المُتواجدة لحفظ النِّظام.

كم هم مساكين عُمال سكَّة الحديد ومستخدمي النَّادي، بإعادة جمع الحجارة من أرض الملعب، وإعادتها إلى مكانها حول الخطِّ الحديديِّ للقطار. عنف الملاعب ظاهرة عالميَّة لا تنجو منها أمَّة، هَوَس المُشجِّعين يصل بهم إلى درجة مَرَضِيَّة؛ تحتاج لعلاج نفسيِّ.

واِنْتقلتُ إلى مشاهدة طرق التغذية، والنّظام الغذائيِّ، وسكن اللَّاعبين، ولوحات كبيرة تجمع أجسام الرِّياضيِّين لكلِّ لعبة من الجنسيْن للنساء والرِّجال، وقسم آخر خاصّ بالميداليَّات بأشكالها وتاريخها، وفئاتها الذهبيَّة والفِضيَّة والبرونزيَّة. 

الشَّاشات التفاعليَّة تعرض مُحتوياتها بلا انقطاع على مدار السَّاعة، ولو طلب زائر مُراجعة أيَّة معلومة، لا يُكلَّفه إلَّا ضغطة بأصبعه على الكيبورد الكمبيوتري المُتوزِّع بجميع زوايا الصَّالات التحتانيَّة أو الفوقانيَّة. بهذه الطَّريقة جعلوا من المُتحَف فكرة فريدة ليجعلوا منه مركزًا للدِّراسات الرياضيَّة.

..*..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سكلمة الاستراحة بعد الجولة في المتحف

 

 

ساعات نسيتُ فيها تعبي وإرهاقي الجسديِّ، جولة ليست قليلة أبدًا مقارنة بقلَّة نشاطي وحركتي المحدودة في الأشهر الأخير قبل مُغادرتي البلد إلى بيروت ثم لوزان.

نشاط مجهول الهُويَّة غير مسبوق دبَّ في أوصالي منذ ثلاث سنوات على الأقلِّ من وِحدتي الشَّبيهة بالإقامة الجبريَّة، العلاقات الاجتماعيَّة محدودة جدًّا جدًّا، القراءة أخذت نصيبًا ممتازًا من فوائض أوقات الفراغ القاتلة، قراءاتي المُؤجَّلة جاءت فُرصتها لي على طبق من ذهب، فكانت فترة ذهبيَّة من فترات حياتي، لا تُشبهها إلَّا دراستي في الجامعة الأمريكيَّة في بيروت، ذُروَة نشاطي النَّهِم للمُطالعة والقراءة في اتِّجاهات بعيدة عن تخصُّصي في العلوم السياسيَّة والعلاقات الدُّوليَّة؛ فقرأت الفلسفة والتَّاريخ والأديان والآداب العربيَّة والأجنبيَّة، كنتُ مجنون قراءة.

القراءة غذاء العقل، وفي بعض الأحيان يُخالجني شُعور عميق بِتَعفُّن مُخِّي؛ عندما تطول فترة اِنشغالي عن القراءة. لا يعود لي اِستقرار روحي إلَّا مع الكِّتاب.

فُرصتي  للاسترخاء في إحدى المقاهي ذات التصميمات البديعة الموجودة في المُتحَف، لتناول العصائر اللَّذيذة الطَّازجة والمنعشة القهوة؛ خرجت  إلى رحاب الحديقة الأولمبيَّة القريبة من المُتحَف، مُتعة الجُلوس والاستمتاع بما أراه على ضِفَّة البُحيْرة نقطة اِسْتقطاب سياحيَّة غاية في الرَّوعة.

تشجَّعتُ لشراء تذكارٍ فقط شعار دورتنا الأولمبيَّة، مع قُرصٍ مُدمَجٍ لحفلة الاِفْتتاح، مؤكَّدٌ أنه يحتوي على أغنية الفنان" نعيم حمدي" (جميلة حقًّا، مرحبًا بكم  في سوريَّا)، وترجمتها: (Truly Lovely Welcome to syria).

..*..

 

 

 

 

للكلام حول دورة ألعاب المتوسط

 

 

 

دورة ألعاب المتوسط العاشرة. اللاذقيَّة 1987

 

أخذتني الذَّاكرة إلى أيَّام تحضيرنا لدورة ألعاب المتوسط العاشرة في اللاذقية 1987وقبلها بسنوات خمس. كان أوّل اجتماع لي مع (خوّان أنطونيو سامارانش) واللَّجنة المرافقة له، للاتِّفاق على الخطوط الرَّئيسة والفرعيَّة للأبنية والإنشاءات، وما إن اِنْتهت اللِّجان من التوقيع على مُذكَّرة المشروع، حملتُ ملف البروتوكول بكامل حيثيَّاته إلى مكتب الرِّئاسة.

لم يتردَّد السيِّد الرَّئيس "حافظ الأسد" بالتوقيع والموافقة الفوريَّة على المشروع، يبدو أنَّه كان بانتظاره كفرصة نادرة لإدراج سوريَّا على خارطة الرِّياضة العالميَّة.

وأصدر أوامره لرئاسة الوزراء والقيادة القطريَّة للحزب في اِجْتماعه الأُسبوعيِّ معهم، لإعطاء التَّوجيهات لمسؤولي الاتِّحاد الرِّياضيِّ السُّوريِّ للمباشرة بالعمل منذ تلك اللِّحظة. بُوشِر العمل على قدم وساق، بعد وضع حجر الأساس من قِبَل مُحافظ اللَّاذقيَّة، وقصِّ الشَّريط إيذانًا بالمُباشرة، بمناسبة احتفالات القُطُر بعيد الجَلاء.  

بمجرَّد تحديد الأماكن التي قرَّرتُ زيارتها، حاولتُ أخذ فكرة عامّة مُبسّطة عن المتحف أوَّلًا، وليس هناك من وسيلة بين يديَّ إلَّا نافذة العمّ "جوجل". الأبُ الروحيُّ للمعرفة والحُصول على المعلومة السَّريعة لُزوم عصر السُّرعة.

أتوقَّعُ أنَّني تأخَّرتُ كثيرًا عن لوزان. شُعوري بروح أبي العالقةٌ فيها، دِفْء روح المكان تتوهَّج بداخلي. تولدَّت طاقة ونشاط تآلفان بتوافق مع وجه "سامارانش" يُرحِّب بي من جديد، ملامحه لم تتغيَّر كثيرًا إلَّا من بعض عوامل العشرين سنة أو يزيد، التي مَضَت على لقائنا الأوَّل في دمشق.

عظمة هذا الرَّجُل تطبعُ بَصْمَتها في لوزان؛ تحقيقًا لحُلُم البارون الفرنسيِّ "بيير دوكوبرتان" بإنشاء مُتحَف للرِّياضة،  ولكنَّ الحرب العالميَّة الأولى ضيّعته؛ عندها قام بنقل مقرِّ اللِّجنة الأولمبيَّة إلى هُنا في لوزان.

كان مُؤمنًا بخدمة البشريَّة من خلال الرِّياضة كنشاط أساسيٍّ مُشجِّعٍ لترويج ثقافة السَّلام، والتواصل الهادف والبنَّاء بين الشُّعوب والأُمَم.

..*..

 

"أبي" و"سامارانش" يستقبلاني عند بوَّابة المُتحَف ببشاشة وَجْهَيْهما. شيءٌ عظيمٌ حقيقةً نوَّر قلبي. طَيْفُهما غَمَرني بمشاعر عميقة لطَّفت من حِدَّة قَلَقي، وخفَّفت من آلام وحدتي، وتغيّر مفهومي لملء الفراغ فقط، إلى قضيَّة معرفيَّة ستُضيف معلومات جديدة لي، وأستعيدُ بها ممَّا اِنْمحى؛ تداعياتُ ذاكرتي نشطت باستدعاءات لحوادث ما تخيَّلتُ التفكير بها، وما كانت لتطرأ على بالي.

يقولون: (الفطنة مراجل).

أمرٌ حضر بذهني الآن، كان غائبًا عن تفكيري لسنوات طويلة، وكيف أنَّ زملائي من مُسْتَشاري الدِّيوان، ولا أحدًا من دهاقنة مسؤولي الاتحاد الرياضيّ، رغم تاريخهم الحافل في قيادة الحركة الرِّياضيَّة زمانًا طويلًا، لم يُفكَّروا بذلك؟، ولم يُطرَح مشروع إنشاء مُتحَف خاصٍّ للرِّياضة في سوريَّا على غِرار هذا المُتحَف. ولو أنَّ أحدَنا تقدَّم باِقْتراح للسيِّد الرَّئيس؛ لوافق على الفوْر بلا تردُّد.

الفكرة الرِّياديَّة بِسَبْقِها. أمَّا أن يكون لها شبيهًا في الشَّرق الأوسط؛ عندها تُعتَبَر عاديَّة. أصحاب الأفكار الخلَّاقة استثنائيُّون في زمانهم. يسبقون أجيالهم بمسافات لا تُدرَك بسهولة.

رَسَخ اعتقاد في عقولنا بأنّ المتاحف تُنشَأ للآثار والتراث فقط. إمكانيَّات بلدنا الفائقة بِغِنَى مواردها، وقادرة على تدوير الأفكار إلى واقع عمليٍّ في ظلِّ إرادة صادقة للنَّهوض والتقدُّم. 

..*..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لقاء الصدفة مع السَّفير الجزائري بدمشق، في صالة الفندق بوريفاج.

يحدُث أن تتواءم الظُّروف، وتأتي بها الصُّدفة المحضة؛ لتسرق أو لتُقلِّل لحظات الفرح من حياتنا على نُدرَتها، ومحيطات من القلق والخوف والتوتُّر نسبح بها.

شعور الغَرَق والموت يرسُم أشباحًا تتناوشنا بمخالبها المعقوفة على شكل خُطَّافات، لا ترحم من وَقَع في قبضتها. كلُّ المُحاولات للإفلات مؤكَّدٌ فشلها.

مساء رجعتُ من جَوْلتي الفَارِهة في مُتحَف الأولمبياد إلى بوريفاج محلَّ إقامتي، التي أخذت معظم ساعات النهار. كنتُ مع آخر الزُوَّار الخارجين، وأغلقوا الأبواب خلفنا مباشرة. بتقديس واحترام يبدؤون ساعات عملهم إلى حين انتهائها بآخر دقيقة.

ولو أنَّ دوام الموظفين تمدَّد لساعات مُنتصَف اللَّيل؛ لتابعتُ، ولما حدّثتني نفسي بالمُغادرة. نشاطٌ مجهولٌ دبَّ في أوصالي على خلاف الأيَّام السَّابقة.

رغبةٌ مُلحَّةٌ تتفلَّتُ في صدري؛ للخُروج من إسار الوِحدَة والرُّوتين. ليتنا معًا - أنا وجورج- نتشاركُ لحظات الفرح. لمستُ أنَّه كان مُتعَبًا مثلي، عندما أظهر تماسكه، ومعنويَّاته العالية مثلما خبرته وعرفتُه في أيَّام الشَّباب، كأنَّه يتصنَّع ذلك؛ ليرفع من معنويَّاتي المُنهارة، ولأبقى.. لا بل لنبقى معًا واقفيْن - أنا وهو-؛ لكي لا نتهاوى. التَّهاوي نذير السُّقوط.

آهٍ..! لو كان أمامي هذه اللَّحظة؛ لاحتضنتُه، وعصرته بين ذراعيَّ، وأسمع بأُذنيَّ طقطقة عِظَامه، ولقبّلته بِشَغَف، لاختياره - لوزان- الذي دفعني إليها دَفْعًا، ولم ينتظر موافقتي أو رفضي.

وقع اِخْتياري على طاولة فارغة قريبة من النَّافذة المُطلَّة على البُحيْرة. الانفتاح للخارج اِنطلاق للرَّوح لتتوثَّب، وتتأرجحَ على أُرجوحة الفرح، كي أرمي خلفها زبالة، ومُخلَّفات حقبة اِمْتَّدت لسنوات العمل الوظيفيِّ؛ أريد التخلُّص منها للأبد، وإن اِسْتطعتُ، أو قُدِّر لي لأثقلتُها بصخرةٍ من الحجم الكبير، ورميها في قاع البُحيرة، فتستقرَّ هُناك فلا أذُنٌ سمعت.. ولا عينُ دَمَعَتْ.

شخص قادم نحوي فور أن وَطِئَت قدَمَه بُوَّابة (الكوفي شوب) الرَّئيسة، تخربطت حساباتي، تكالبت الشُّكوك، شخص غريب يسير نحوي، تسارعت نبضات قلبي، إفرازات الأدرينالين في حالتها القُصوى. يا إلهي..!! ما الذي يريده منِّي؟. هل هو عربيٌّ أم أجنبيٌّ، سحنته فيها تواشيح عربيَّة. تهيأتُ لأسوأ الاحتمالات، لم يخطر ببالي الآن، إلَّا موضوع الاغتيال. تصوَّرت مسدسه المُدجَّج بكاتم الصَّوت، الذي يُخرِسُ كلَّ الأصوات المُعارِضَة، أو المُغرِّدة خارج السِّرب. أستبعدُ هذا الاحتمال. لم يمض على مُغادرتي دمشق سوى أسبوعين تقريبًا، لو كنتُ مطلوبًا لهم؛ لما سمحُوا بمُغادرتي، وإعطائي الإذن بالسَّفر. ساختْ كلُّ شكوكي وتطايرت مع إطلاق تحيَّته  بالعربيَّة:

-"السَّلام عليكم أستاذ سكلمة، كيف الحال، لم تتغيَّر كثيرًا، ما زالت صورتك الماثلة بذهني كما هي، لم يطرأ عليها تغييرات كثيرة".

فاجأني بحرارة السَّلام، ومدَّ رقبته للمعانقة، ويده اليُمنى تُمسكُ بيدي. يا إلهي الرَّجُل يعرفني حقَّ المعرفة..!!. تنفَّستُ بارتياح مع أخذي للشهيق، وامتلأت رِئتيَّ بالأوكسجين المُرطَّب بأثر البُحيْرة، وأطلقتُ زفيرًا قاتلًا مشحونًا بثاني أوكسيد الكربون.   

خانتني ذاكرتي هذه المرَّة. خجلت من نفسي. لم أستطع التنكُّر له، ولم أجرؤ  على سؤاله: "من هو؟". بفِطْنَتِه اِسْتدركَ حَرَجي؛ كأنَّه على يقين أنَّني نَسيْته لطول العهد بلقائنا. ببساطة شديدة أراد تذكيري بطريقة مُهذَّبة. بصوت ناعم، وبلكنة مغاربيَّة لم تتحدَّد هُويَّتها:

-"الله .. الله على أيَّام دمشق.. إنَّها لأجملُ أيَّام حياتي في العمل الدُبلوماسيِّ على الإطلاق. كنتُ سعيدًا بلقائِكَ في حفل اِفْتتاح دَوْرة ألعاب المُتوسِّط في اللَّاذقَّية، جئتُ وطاقم سفارتنا بأكمله للوقوف على شؤون فريقنا الجزائري الأولمبيِّ المُتأهِّل للمُشاركة مع الفِرَق الثمان عشرة".

اِبْتسمتُ له، لمُوَارَاة مُشكلتي وحَرَجي، لكنَّني والحمد لله، تذكَّرتُ أنَّه السَّفير الجزائريِّ، الذي لا يُمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال معرفة اِسْمه، وقتها لم يكن قد مضى على وظيفتي في ديوان الرِّئاسة الخمس سَنَوات، أو ما يُقاربها.

بعد سنتين من لقائنا الأوَّل، حدث لقاء ثانٍ، حينما اِنْتهت مُهمَّته كسفير جاء للوداع حسب ترتيبات البروتوكول، اِسْتقبلناه في وزارة الخارجيَّة، وعلى ما أذكُر أنَّه لم يتمكَّن من مُقابلة الرَّئيس؛ لانشغاله باستقبال المبعوث الأمريكيِّ للشَّرق الأوسط على ما أظنَّ أنَّه "فيليب حبيب"، إذا لم تخُنِّي ذاكرتي.    

تجدَّد التَّرحيب بيننا، وعلى سجيَّته البسيطة؛ اِنْخرط في حديث عن فترة إنهاء خدماته من السِّلك الدُّبلوماسيِّ، عند انقلاب العسكريِّين على الرَّئيس الشَّاذلي بن جديد وإجباره على الاستقالة والتنازل عن رئاسة الجمهوريَّة الجزائريَّة؛ لإيقاف خيار الصَّناديق الشفَّافة والسَّير بالمسار الدِّيمقراطي، بعد فوز الجبهة الإسلاميَّة للإنقاذ في الانتخابات البرلمانيَّة بأغلبيَّة ساحقة، وغادرتُ الجزائر للإقامة في فرنسا في اللَّحظة القاتلة، قبل اعتقالي مع المجموعة المحسوبة على الرَّئيس الشَّاذلي، ومنذُ ذلك التَّاريخ ما زلتُ هناك. هذه الأيَّام عطلة الأولاد من المدارس والجامعات؛ أفسحت لنا زيارة لوزان.مراجعة

-"مرحبًا سعادة السَّفير، سعيد بلقائك غير المُنتظر، وحدها الصُّدفة جمعتنا من غير ميعاد، وقد سبقتني بتذكيري بأوَّل لقاء بيننا، والتَّشابه مع لقائنا الآن. وماذا ستقول عن خبري الطَّازج، وهو بخصوص محور الرِّياضة، عندما قدمت قبل أيَّام إلى لوزان، عرفت بمُتحَف الأولمبياد هنا، وقرَّرت زيارته، وقبل قليل كانت عودتي، وجدتُ بنفسي همَّة ونشاطًا؛ فرغبتُ بالجلوس هنا، وكأنَّ الأقدار تسوقني إليكَ، وتسوقكَ إليَّ ".

-"حيَّاك الله أستاذ سكلمة. وأنت أين صارت أيَّامكَ؟".

-"لا أُخفيكَ يا سعادة السَّفير، بأنَّني تركتُ الوظيفة في ظُروف اِسْتثنائيَّة، وقت عمليَّة درع الصَّحراء، لتحرير الكويت. قبلكَ تقريبًا بسنتين، لأنَّني أبديتُ رأيي المُعارض لتدخُّل سوريَّا العَسكريِّ، والتحالف مع الأمريكان، كنتُ أريدُ أن يكون الحلُّ عربيًّا عربيًّا".

لدقائق خيَّم الصَّمت على جلستنا، اِشْتهيتُ فنجان قهوة المساء المُعتاد؛ طابت لي الجلسة والحديث. طلبت القهوة التركيَّة لنا، الجلسة بلا قهوة تبقى جافَّة لا روح فيها، أيضًا قهوة من غير تدخين كالطَّعام بلا مِلْح.

على كُلٍّ لا بأس. اتِّفاق سريع أبرمه الصَّمت بيننا خلال لحظة، لتجديد عُرى الصَّداقة، وتعميق معرفتنا ببعض، الفترة القادمة بعد لوزان ستكون في باريس محلَّ إقامتي الدَّائم، وسنلتقي حتمًا، كلانا بحاجة هذه الجلسة من أجل المُستقبَل.

-"أستاذ سكلمة لم يخطُر ببالي أبدًا أن نلتقي ثانية بعد كلِّ هذه السِّنين الطَّويلة. الأقدار تسير بنا نحو مُبتغاها من غير دراية ولا تدبير منَّا، نحنُ مُسيَّرون في قضايا كثيرة، لا نملك إلَّا الاستسلام لجبروتها. سبحان الله..! من نظرتي الأولى عَصَفَ ذهني مُباشرة نحو دمشق، قادتني رغبتي وأشواقي إليكَ بلا تردُّدٍ؛ لاقتحام خلوتكَ، سامحني..!".

انطلقت ضحكة سكلمة مُنخفِضَة التردُّد، وقال:

-"لا .. لا أبدًا يا صديقي، على العكس تمامًا، سعادتي عظيمة بكَ".

..*..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للكلام حول الحرب وسقوط بغداد، وعودة بالذاكرة إلى ألعاب المتوسط، وشؤون الجزائر

أحضرت القهوة النَّادلة الشَّقراء ذات العينيْن الخضراويْن، وربطة شعرها الأشقر الفاتح على شكل ذيْل الحصان، بأناقة مُميَّزة. كلُّ شيء فيها مُتناسق، حتّى اِبْتسامتها حقيقيَّة، الشُّعور الدَّاخليّ يقول ذلك، والذي لا يُمكن لأحد أن يُحاسَب أو يُحاسِب عليه.

تأمَّلتُ يدها الرَّقيقة البيضاء كالثَّلج، عندما أنزلت الصِّينيَّة اللَّامعة على وسط الطَّاولة، ثمَّ تناولت الدلَّة النُّحاسيَّة الصَّفراء لتصُبَّ أوَّل فنجان لي ووضعته أمامي، وكرَّرت ذلك مع السَّفير.

طالت فترة الصَّمت لدقائق، كأنَّما أصاب السَّفير ما أصابني بذهاب عقلي خلفها، وعينيَّ ترقُبان خُطواتها الموزونة، ولمعة ساقيْها الطَّويلتيْن، تنُّورتها الخضراء مع الجاكيت بنفس اللَّون يعطيان قفاها مهابة، تنفلتُ سيالة المشاعر والتصوُّرات لتندلق كطبق قشطة دسمة خلف أُنوثتها الطَّاغية، جذَّابة على عكس المرأتيْن الرِّياضيَّتيْن اللَّتيْن صادفتهما أثناء ذهابي صباحًا للمُتحَف.

السَّفير ارتشفَ أوَّل رشفة من فُنجانه، وقال:

-"منذ فترة انتهيْت من قراءة مُذكَّرات (جيمس بيكر) قرأت النُسخة المُترجمة للفرنسيّة، لفت اِنْتباهي بعبارته الشَّهيرة: (الأسد جعلني أرفعُ الراية البيضاء)، توقَّفتُ طويلًا عندها قبل متابعة القراءة، لتتبيَّن حقيقة الأمر، بعبارته المُفسِّرة للأولى: (هكذا كانت مباحثاتي لمدة 63 ساعة مع الأسد، إنَّها سياسة فقع المثانة)، ويسرد حادثة غريبة غير معهودة في الأعراف الدُّبلوماسيَّة المعروفة، ولم يحدُث معي مثلما حدث معه خلال اجتماعه، وكان معه سفيرهم في دمشق.

الاجتماع امتدَّ لتسع ساعات وستٍّ وأربعين دقيقة. في غرفة خانقة لا تُطاق. هواؤها فاسد، لا يسري فيها سوى النَّزر اليسير من الهواء المُكيَّف، نوافذها مُغلَقة بستائر سميكة زيتونيَّة اللَّون، وبعد مرور ستِّ ساعات على بدء الاِجْتماع، ألحَّ نداء قضاء الحاجة الطبيعيَّة على السَّفير، ويحتاج الذَّهاب للضَّرورة القُصوى إلى الحمّام.

وَقَع السَّفير في إحراج، كتب ورقة وناولها لجيمس بيكر، يطلب منه السَّماح له بالخروج إلى الحمَّام، فأعطاه الإذن بالخروج بحجَّة إجراء مكالمة هاتفيَّة، لم يرُق الأمر للأسد، وبدت على وجهه علامات التوتُّر، وأشار لوزير خارجيَّة بالخروج مع السَّفير، ويقول بيكر: (أخبرتُ الأسد عن سبب خروجه؛ فانفجر الأسد ضاحكاً).

بعد ساعة استسلم أيضًا بيكر، وتابع حديثه: (بعد أكثر من ساعة، سحبتُ منديلاً أبيض اللَّون، ولوحت به للأسد، وأعلنتُ اِسْتسلامي، وقلتُ: عليَّ أن أذهب إلى الحَّمام).

السَّفير أعادني إلى مُعاناتنا في الخدمة الوظيفيَّة، الدَّوام الطَّويل الذي لا يعترف بأوقات رسميَّة للعمل، الأمر خارج القانون وخارج كلَّ تصوُّر، تسرَّبت مآسي  المتاعب والصُّعوبات؛ رُجوعًا لاقتحام لحظة فَرَحي الرّاهنة؛ فقلتُ:

-"سعادة السَّفير، ليس غريبًا لو أخبركَ بأمر قد حَدَث معي بالذَّات؛ فعندما يكون الرَّئيس في المكتب، لا يستطيع أحد منَّا المُغادرة. أغلب الأحيان يبقى في المكتب لمدَّة ثماني عشرة ساعة مُتواصلة".

-"في الحقيقة أمرٌ مُرهِق له، ولطاقم العمل".

-" لا تستغرب يا سعادة السَّفير، إذا أخبرتُكَ: بأنَّ زميلًا لي خَرَج من المرحاض مذعورًا، وأكمل باقي حاجته ببنطاله المُنحَسِر للأسفل نحو رُكبَتيْه، حينما رنَّ الجرس في مكتبه، ومن سرعته اِرْتبكَ.. ونَسِي تشطيف نفسه. عَدَّل هندامه كيفما اِتَّفق، وكان شكله الكراكوزيِّ باعثًا على الضَّحِك المُفتَقَد من أيَّامنا، الممنوع علينا مُمارسته في محيطنا، كلٌّ منَّا مشغول بمهامِّ كثيرة تمنعنا من حكِّ رؤوسنا".

-"يااااه..!! ألهذه الدَّرجة؟".

-"يعني لا يُلام لا جيمس بيكر، ولا هنري كيسنجر".   

رائحة القهوة عابقة بمحيطنا، تختلط مع روائح ناعمة؛ تأتي من جميع الاتِّجاهات المُحيطة بنا من الطَّاولات القريبة، والجَلَسات الحميمة المُنزوية في الجهة المُقابلة لي مُباشرة.

رائحة القهوة ذكَّرت سكلمة بموقف مُحرِجٍ، ولا يستطيع الكلام به عَلَنًا أمام السَّفير، رائحتها تُشبه التي كانت تدخُل لضيوف الرَّئيس، لكنَّها لم تستطع تلطيف الجوِّ المُنكَتِم، ولا تلطيف رائحة الأنفاس المختلطة، يُحسِّ بها من يدنو منه.

الرَّئيس دائمًا لم يكُن ليقترب من ضيفه أو مُحاوِره، يبدو أن الأمر بعد كلام القذَّافي- سبَّب له عُقدة نفسيَّة، وهذا الأمر لم يُطرَح للعلَن أبدًا، إلَّا حينما فَجَّر الرَّئيس معمَّر القذَّافي قُنبلة من العِيَار الثَّقيل في نَوْبة غضبٍ شديدة، إثْر خلاف نشَب بينهما.

حين نَفَد صبر القذَّافي من مُطالبة الأسد بالدُّيون البالغة مئتي مليون دولار؛ التي  دفعها القذَّافي لشقيق الرَّئيس "رفعت الأسد"؛ مُقابل خروجه من سوريَّا. بعد الخلاف الذي حصل بينهما، والذي وصفه إليه "باتريك سيل" بحرب الأخويْن.

وجاءت فُرصة اِنْعقاد مؤتمر مدريد للسَّلام، وكانت الفُرصة الذَّهبيَّة للقذَّافي، لضرب عُصفوريْن بحجر واحد. كلام كثير فيه اِحْتجاج وسُخرية من المُؤتَمر، وبطريقة غير لائقة بل وسُوقِيَّة، بعيدة عن الأعراف، واللَّباقة الدُّبلوماسيَّة؛ فصبَّ جام غضبه دُفعة واحدة  على الأسد، ومُستهزئًا به، وبشكلٍّ شخصيٍّ. قال:

-(إنَّ حافظ الأسد يُصِرُّ على إعطائنا مُحاضرات في السِّياسة، تكون طويلة جدًّا، وقد تمتدُّ لساعات عند لقاء لنا معه. ولكن من الممكن أن نصبر عليه، ونتحمَّل كلماته الفارغة، أمَّا رائحة فَمِه، وأنفاسه حين يتحدَّث؛ فهي المُشكلة الحقيقيَّة التي لا يُمكِن تحمُّلها).

يبدو أنَّ السَّاعات الطَّويلة التي يستغرقها أيَّ بالجلوس خلف الطَّاولة في أيِّ عمل، ولا يُدخِل الطَّعام أو الشَّراب إلى جَوْفه؛ يُسبِّبُ جفاف الفم، وتنتشر الرَّائحة للخارج، وبقايا الطَّعام بين الأسنان، أو أنَّ هناك أسنان منخورة أو مُتعفِّنة، أو مُشكلة تتعلَّق بالمريء، والدَّسَّام الرَّاجع عند فم المعدة. وعلى ما أذكُر أنَّ هذا يُعرَف طبيًّا: بـــ(داء عبد الملك) نسبة إلى الخليفة الأمويِّ (عبد الملك بن مروان). المُشكلة الأفظع: أنَّ صاحب هذا المرض، لا يَعرِف بإصابته لعدم تمكُّنه من شمِّ الرَّائحة التي تستوطن الأنف حدَّ الإدمان.

وقتها تضايق جدًّا الرَّئيس من كلام القذَّافي، واِحْتَجَب لأيَّام لم يأت فيها للمكتب.

قيل لنا: (أنَّه مُرهَق جدًّا. والطَّبيب الخاصّ فَرَض عليه نَقَاهة إجباريَّة، وعدم مُمارسة أيّ عمل أو بذل أدنى جُهد، كي يستطيع اِسْتعادة صحَّته).

كثير من البشر يُعانون من (البَخْر) رائحة الفم الكريهة، الأمر عادي وفي غاية السُّهولة وهو من تفاعلات الجسد البشريَّ مع الحياة ذات الاستحقاقات.

مُحبُّو العندليب الأسمر "عبدالحليم حافظ" اِشْمأزُّوا، وغضبوا من تصريحات "مريم فخرالدين": (أنَّها كانت تضجَرُ من رائحة فم العندليب الكريهة)؛ وقت تصوير فيلمهما الشَّهير "حكاية حب"، و"نادية لطفي" كانت تناول البصل كي لا يُقبِّلها عبد الحليم؛ فلا تستطيع احتمال رائحة الأدوية المُنبعثة من فمه. فكيف سيكون حال العندليب، لو سمع كلامهما عنه؟. لا أشكُّ أبدًا باعتزاله للنَّاس والغناء. المشاهير يفرحون ويحزنون ويضعفون كباقي البشر، وليسوا مخلوقات (سُوبَّرمانيَّة) أو قادمة من الفضاء. ضريبة الشُّهرة يجب أن يدفعوا فاتورتها الباهظة من أعمارهم وراحتهم وخُصوصيَّاتهم.  

السَّفير قام من مكانه، وقال ضاحكًا، وبلا حَرَج:

-"لن أرفع الرَّاية البَيْضاء أمامكَ، كما رفعها جيمس بيكر، لا أقوى على التَحمُّل أكثر من ذلك؛ لأنَّ السُّكَّري لا يسمح لي بالصَّبر لفترة أطول، وفي بعض الحالات نصحني الطَّبيب بكبسولات مُدِرَّة للبَوْل، المشاكل الصحيَّة تمنعنا من مُمارسة حياتنا بشكلٍ طبيعيٍّ، كلَّما تقدَّمنا بالعمر سنة وراء سنة؛ نفقِدُ شيئًا من المزايا الجسديَّة التي نتمتَّع بها، ويبقى كيس الأدوية رفيقنا الدَّائم، ونُصبِح خُبراء بأسماء الأدوية، ومُواصفتها، وعياراتها، وخوَّاصها، ولا مُتعَة للحياة مع التوجُّع والتألُّم".

هَززتُ رأسي مُعلنًا مُوافقتي على كلامه. شيَّعته بنظراتي إلى أن اِنْعطف نحو الحمَّامات، وغادر الصَّالة البديعة بتماثيلها، وتُحفها المُحيَّرة للعقل، الذَّوق الرَّفيع باِخْتيارها؛ لتُناسب غالبيَّة الأذواق، وخبرة دقيقة بوضعها في المكان المُناسب.

أوه.. يا لها من مفارقة..!!.

كثيرًا ما تمرُّ بعض الأشياء البسيطة بسُهولة، وتتدحرجُ كالكُرَة بعيدًا من أمام عَيْنيْ شخصٍ ذكيٍّ، ولا يلتفتُ لها ولا لدحرجتها، أو يُفكِّر بشيء من التدقيق، أو يشكُّ في حركتها. صَدَقوا بقولهم: (لكلِّ جوادٍ كَبْوَة، ولكلِّ سيفٍ نَبْوَة)

لا أشكُّ في أنَّ كلام "القذَّافي" كان قاسيًا جدًّا. ما أصعب تحقير شخص علانيَّةً أمام جَمْع من النَّاس؛ ينكفِئُ المُحَقَّر مُنطويًا على نفسه؛ يحتسي مرارة غضبه المكبوت.

الكلامُ أذيَّةٌ جرحت قلب الرَّئيس، ربَّما سبَّب له عُقدة مُزمنة، اِنْسحبَت آثارُها على سُلوكاته في بقيّة حياته، بعدها اِشْتُهِر بعُزلته في مكتبه، والاِنْشغال بمتابعة أدقِّ الأمور بالبلد والاجراءات الدَّاخليَّة، وسلَّم ملفَّ لُبنان لنائبه "عبدالحليم خدَّام"، الذي أمسَكَ بجميع الأوراق بيده، وكان يتصرَّف فيها كحاكم مُطلَق.

أخيرًا ضَجَّ السَّاسَة اللُّبنانيُّون بتذمُّرهم وشكاويهم، من فَظَاظته وتعاليه بالتعامل معهم بفوقيَّة، وبذاءة لسانه بألفاظ لا تليق بسياسيٍّ مثله، كان يومًا ما وزيرًا للخارجيَّة- قائد الدُّبلوماسيَّة السُّوريَّة، ووصل الأمر به لشتيمتهم في الاِجْتماعات الخاصَّة. يفرض عليهم تنفيذ الأوامر والتعليمات التي يُمليها بلا اِعْتراض، ووصلت أصواتهم المُتذمّرة مَسامِع الرَّئيس؛ ليعود، ويسحب الملفَّ من خدَّام، وقد نُقِلَ: أنَّه كان يُخاطِب، وينادي الرَّئيس "إلياس الهراوي": (أستاذ إلياس) بنبرة تصغير.

اِحْتجاب الرَّئيس عن الجميع له مُبرِّرات وجيهه، تدهور وضعه الصِّحيِّ، وحاجة للرَّاحة والاستجمام، والتخفُّف من ضُغوط العمل المكتبيِّ المُرهِق.

اِزْدادت عصبيَّته بشكلٍ واضحٍ في تعاملاته اليوميَّة مع المُلاصقين له مباشرة في مكتبه -أبو سليم وجماعته-، وصارت بحكم العادة المألوفة على مدار سنوات، وكان يدير الدَّولة جميعها بالهاتف، لا رغبة عنده  بلقاء أحدٍ، ما دامت الأمور ماشية روتينيًّا، بلا تعقيدات، فلا حاجة لأيِّ لقاء.

..*..

 

كان سكلمة خالي الفُؤاد من أيِّ شيء يستطيع التَّفكير به، أثناء فترة غياب السَّفير إلى الحمَّام، إلَّا من الإعجاب بذكائه الفطريِّ، وتلقائيَّته بالتعامل، وببساطة تجرأ وبلا خجل أو إحراج، اِسْتطاع الإعلان عن رغبته بالذَهاب إلى الحمَّام.

"أظنُّ أنَّه يهزأ بنظريَّة فقع المثانة، ولا يُقيم وزنًا لها، اِحْتباسُ البَوْل قاتل على المدى البعيد.  تخلّى بسهولة عن فُنجان قهوته، وطُقُوس شُربها المُقدَّسة، التي يدَّعيها البعض باِفْتعال جُنونيٍّ، ويُلزمون أنفسهم بما لا يلزم". يُحدِّث سكلمة نفسه.

الصحَّة أوَّلًا، وأهمُّ ما في الحياة إطلاقًا، يبدو لي أنَّه شِعار السَّفير الذي يلتزمُ به، ويُحافظ عليه بانتظام، مهما كانت الظُّروف المُحيطة به.

رغبه مُلحَّة تولَّدت للتوِّ عند سكلمة للقيام إلى الشُّرفة المُطلَّة على البُحيْرة.

دهشة طارئة، وكأنَّه للمرَّة الأولى يُشاهدها. اللَّيْل خيَّم على وجه البُحيْرة، يبدو ساكنًا لمن يَرَاه من مسافة أبعَد عن الضِّفاف الضَّاجَّة بصَخَب المقاهي. مُرتادوا المكان يتحدّثون بلا انقطاع، أمَّا الجالسون وحدهم يتأمَّلون اِنْعكاسات الضُّوء، يَخالُونَها تغتصِبُ سطحها باِلْتصاقها العجيب بتمازج بين الأطياف، يصعُب التَّفريق بين أيَّة جُزئيَّةٍ صغيرةٍ كانت أم كبيرة.

الأضواء القريبة والبعيدة تتماوج ألوانها باِهْتزازاتٍ على وَقْع معزوفة أزليّة؛ يُؤدِّيها "كورال الطّبيعة" الصَّامت، إلَّا من حركات إيمائيَّة مُنسجِمَة مع توتُّرات المياه المُتموِّجة بفعل النَّسائم اللَّطيفة.

الأضواء جُيوشٌ مُنتصرة تَكتَسِح ساحات الظلَّام، وتمحقها؛ ترفضُ التَّهميش والاِخْتباء وراءه. ولا تتوانى عن غَرْز ألسنتها عميقًا في باطن البُحيْرة.

يا لها من فكرة جريئة اِقْتحمت لحظتي.. يا إلهي..!! يا لَرَوعتكَ يالفَراهيدي: (كتبتُ بِخطّي ما ترى في دفاتري عن النّاس في عصري، وعن كُلّ غابرٍ، ولولا عَزائي أنّه غير خالد على الأرض؛ لاستودعتُه في المقابر).

يالواقحتي.. كيف ذكرتُ الفراهيدي بكُنيته دون ذكر اِسْمه "الخليل بن أحمد الفراهيدي" على الأقلّ تأدُّبًا، وتوقيرًا لأُسْطونٍ من أساطينِ لُغتنا.

مقولته مُلهمة لي، تُؤكِّد أنّني على صَواب فيما كتبتُه عن جلستنا في بيروت  أنا وجورج. وما الذي سأنتظرُ بعد أن قطعتُ شَوْطًا من السّنين التي تجاوزت الستِّين.

أعتقدُ جازمًا:

-"حانَتْ العودة للنَّفس ببطء شديد، لاِنْسجامها مع مُتغيِّرات، ومُستجدَّات حياتي الحاليَّة، بإعادة النَّظر بما مضى الحافل بالخفايا المجهولة، وما يُقال للعُمومِ في وادٍ، والحقائق في وادٍ آخر بعيد كلَّ البُعد عن سابقه، سأحاول الكتابة لتوثيق ما أستطيعُ البَوْح به، ليُصبحً مُتاحًا تتداوله أيدي القُرَّاء". أتوقَّعُ أنَّ ما مررتُ به خلال مسيرتي العمليَّة؛ يُعادل عُمُر نبيّ الله نوحٍ -عليه السّلام- الألف إلَّا الخمسين عامًا.

..*..

 

ما زلتُ أزهو بفرحٍ غامرٍ؛ عندما أتذكَّر الحفاوة والاِحْترام، الذي استقبلونا به عند وصولنا إلى مدينة اللَّاذقيَّة. وقتها، لَفَتَ اِنْتباهي العناية الفائقة بالترتيبات الدَّقيقة، وكلّ شيء كان مدروسًا جيِّدًا. المهامُّ مُوزَّعة على فريق عمل مُتكامل مُستَعِدٍّ؛ لتلقِّي الأوامر من المسؤولين عنهم، يفهمون عليهم بالإشارة. هكذا لاحظتُ من خلال النَّظرة العابرة.

السَّفير مُنهمكٌ في اِسْتعادة فَرَحه المُتفَجِّر في عيْنيْه هذه اللَّحظة، وأنا أُركِّزُ عينيَّ بعينيْه، لا أقدِرْ على تحوُّلهما عنه، ولو باِسْتراق نظرةٍ خاطفةٍ، أو رَمْشة عيْن إلى جهة أخرى.

توقُّعاتي مُنفتِحة على اِحْتمالات، وتوقُّعات ما سيتحوَّل إليه حديثه الشيِّق، ومُتهيِّئ له، وهو يُداعب خيالاتي وذكرياتي الرَّائعة، اِسْتحضرتُ شريطها المَرْكون في زاوية من زوايا الذَّاكرة المُتوقِّدة، ولم يتسرَّب إليها النِّسيان على الرَّغم من العوامل المُساعدة لمحوها للأبد. عندنا كلُّ شيءٍ للأبد، ولا مناص لنا من مقولة الأبديَّة، وقد أصبحتْ مُصطلَحًا دَالًّا علينا بالضَّبط.

السَّفيرُ مُسترسِلٌ بكلامه، وكم أبدى إعجابه واِحْترامه وأشواقه لدمشق، وعيتُ عبارته: "وأكبرُ يقيني أنَّ قطعةً من قلبي باقية هناك في دمشق، ولم أشعر باِنْتمائي الحقيقيِّ للعُروبة إلَّا فيها".

لم أردَّ عليه إلَّا بِصَمْتي؛ مُوهِمًا له باِنْسجامي مع حديثه، وأستمعُ جيِّدًا وباهتمام. ما زال متابعًا الحديث:

أدركتُ سرَّ اِخْتيار الأمير عبدالقادر لمنفاه القَسريِّ أن يكون بدمشق. وقد عثرتُ في كثير من المراجع المُعاصرة له ممَّن تناولوا سيرته: أنَّهم لقَّبوه هُناكَ بالأمير الشَّاميِّ؛ إكرامًا وإجلالًا له، ولعلمه الذي بَذَله لطلبة العِلم في الجامع الأُمويِّ.  

(وعند قُدومه دمشق اِسْتقبلوه اِسْتقبال الفاتحين. دخل الأمير دمشق تتقدَّمه وحدة عسكريَّة رمزيَّة، وفرقة موسيقيَّة، وتداول النَّاس وقتها: "أنَّه منذ مدخل صلاح الدين، لم يدخل دمشق زعيمٌ أو قائدٌ بمثل ما دخلها الأمير عبد القادر من محبَّة وحفاوة "، وفور وصول الأمير توجَّه إلى ضريح الشَّيخ الأكبر محيي الدِّين بن عربي)*[12]

سعادة السَّفير لو سمحتَ لي بالإضافة على ما تفضَّلت به، أهل دمشق أكبروا مُبادَرة الأمير؛ بإخماد الفتنة الطائفيَّة بين المسلمين والمسيحيِّين في حيِّ باب توما الدِّمشقيِّ بأكثريَّته المسيحيَّة.

نعم أستاذ سكلمة أعلم هذه النُّقطة، وكنتُ سأُعرِّجُ عليها، لقد قرأتُ باهتمام سيرته في دمشق، ومرَّات زُرت مقام الشِّيخ الأكبر "محيي الدِّين بن عربي" في جبل قاسيون المُطلِّ من علياء شُموخه الأبديِّ على دمشق وغوطتيْها الشرقيَّة والغربيَّة.

تيمُّنَا بالمكان الذي احتوى على قبر الأمير حينما اختار أن يُدفَن فيه، وأدهشتني الصِّلة الرُّوحيَّة بينهما في عالم الأثير؛ لأنَّه فَوْر وصوله دمشق؛ قرَّر زيارة قبر الشيخ الأكبر، ولم  تَفُتْني فضيلة زيارة "مغارة الدمِّ" بجوار قبرهما.

يا إلهي..!! لا أستطيعُ وصف حقيقة مشاعري في ذلك المكان، وأنَّا أتخيَّل "هابيل" يتخبَّط بدمه، يُعتَقَد أنَّ جبل قاسيون ما زال فاغِرًا فاهُ دهشة، ودموعه تقطرُ حُزنًا من سقف المغارة، عندما شارك نبيِّ الله آدم -عليه السَّلام- حُزنه على ابنه "هابيل". السَّفير مُنهمِكٌ  بحرارة في حديثه بلا توقُّفٍ.

بينما دُموعي تُغالبني حُزنًا ليس على هابيل.

يا لسذاجتي..!!

كيف ضاعت كلُّ هذه السِّنين من عُمُري، جَرْيًا وراء المناصب والشُّهرة الفارغة، وها أنا وحيد؛ أُطارح عُقَدي النفسيَّة، ووحدتي، وغُربتي.

منذ موت أبي حلمي باشا- ليلة الاِنْفصال بين مصر وسوريَّا، بموته فقدتُ عمود حياتي الذي يحتمل اِتِّكائي عليه، وجاء موت أمِّي  سعاد بعده بأشهر قليلة، لأرى فراغًا حلَّ بالدُّنيا من أيِّ مفهوم، ممكن الاِسْتناد إليه؛ فصارت الحياة عبثًا لا تحملُ معها معاني الحُبِّ والحنان، وعِبئًا ثقيلًا أفرغ مُحتوى رغبتي بمواصلة الحياة، وسقطت الدُّنيا من عينيَّ حتَّى رأيتها لا تُعادل قِشْرة بصلة.

شعورٌ طاغٍ بالأحزان تتكالبُ عليَّ بلا رحمة. عامُ حُزنٍ مضى لم أُشفَ من ألم فراق أبي، وإذ بالآلام تتجدَّد بفراق أمِّي.. يا لها من مأساة  ثقيلة عليَّ؛ هدَّمَت دواخل نفسي، وهزَّت كياني من الجُذور بعُمقٍ.

تساءلتُ كثيرًا: كيف لي بمواجهة أعباء الحياة الثَّقيلة بِمُفردي، دون مُعين أو سنَد بعد الله، وأين سأجدُ صدرًا بعد صدر أمِّي؛ أُمرِّغُ وجهي ورأسي فيه؛ لأرتوي منه أمانًا مفقودًا؟.

وفي حياة أبي، وقبل وفاته بخمس سنوات. كان موت أخي الأكبر؛ مفاجأةٌ صحوْتُ فيها على اِنْفرادي بِوحْدَتي؛ حينها فقدتُ جُزءًا من قلبي.

يا مسكين يا ناجي..، نام صحيحًا بكامل عافيته، ولم يُعرَف سببًا وجيهًا لموته، تكهَّنوا بموته على أنَّه سَكْتَة قلبيَّة حادَّة، ومع مَوْتِ أُختي وجيهة بعده بسنتين، لم يبق إلَّا حضرتي من سلالة أبي.

بفراقهما الأبديِّ لم تبق أمامي أيَّة مسؤوليَّة تجاههما ولا غيرهما، تابعتُ بلا حُدود مُنطلقًا كما يحلو لي، فلا اِلْتزام بمواعيد عائليَّة، ولا أعياد ميلادها، ولا زيارات عائليَّة، ولا أيَّة مظاهر للحياة الاجتماعيَّة، سوى من أبناء عُمومة أبي لا ألتقيهم إلَّا نادرًا وعلى فترات مُتباعدة جدًّا، وفي السَّنوات الأخيرة اِنْقطعت علاقتي بهم جميعًا، مسؤوليَّاتي الوظيفيَّة؛ اِلْتهمت وقتي، ولم تترك لي أيَّة فُسْحةٍ لِأَحُكَّ رأسي.

تبلَّدت أحاسيسي بالحياة من حَوْلي، فلا أقيمُ وزنًا للتواصل الاجتماعيِّ مع المُحيط الطبيعيِّ من الأهل والجيران، وأصدقاء العائلة، وعلى الأخصِّ ممَّن تبقَّى من أصدقاء حلمي باشا، كما كان يُحبُّ مناداته باِسْمه مُرْفَقًا بباشا، كنتُ بريقًا مُتأجِّجًا في عيْنيْه مليئًا بالفَرَح.  

لا أدري سببًا وجيهًا لتدفُّق الذِّكريات الحزينة دُفعة واحدة، عندما ذَكَر السَّفير مغارة الدمِّ، والشَّيْخ الأكبر. تتالي الأحزان، في مواعيد تختارها على هَواهَا بلا اِسْتئذان. نُصبح عبيدًا لها، وتحت رحمة سياطها نتلوَّى، تجعلنا ذُواءً كَهَشيم نباتات يابسة تلعبُ بها الرِّياح كيفما شاءت.  

كم كنتُ أفتَقِدُ رُوحانيَّات الشَّام الشَّهيرة المُميِّزة لها عن جميع مُدُن الشَّرق، وقد سمعتُ عنها كثيرًا..!!. كنتُ قريبًا منها، وبعيدًا في آنٍ معًا. الأيَّام لن تعود؛ لأعود إلى روحٍ اِفْتقدتُّها.

..*..

 

حفلة افتتاح الدورة:

        

السَّفير يتحدَّث مع سكلمة

 

قبل أيَّام. تخيَّل  يا أُستاذ سكلمة. أنَّ زوجتي حدَّثتني طويلًا عن سُرورها الكَامِن في قلبها؛ عندما رافقتني لحضور اِفتتاح دورة ألعاب المُتوسِّط. كنَّا وقتها عروسيْن لم يمض على زَواجِنا العام الواحد، وما زلنا عاشقيْن كعُصفوريْن يتقافزان من غُصنٍ إلى آخر، ولا يتوانيان عن الصّدح تغزُّلًا وعِشقًا، وقتها حجزوا لنا جناحًا فَخمًا في ميريديان اللَّاذقيَّة.

لأبقى قريبًا من فريقنا الأولمبي المُشارك بعدد لا بأس به،  أربعة وستُّون رجلًا، مقابل عدد مُتواضع لأربع نساء فقط، من المُهمِّ بقائي لأقف على بعض مُعاناتهم، وتذليل بعض المصاعب والعقبات التي ربَّما ستواجههم، وبالتشاور مع الإداريَّين والمُدرِّبين.

وحصلت على (5ميداليات ذهبية. و3فضية. و4 برونزية)

وجدنا فرصة لبعض الوقت؛ فنزلنا المدينة، وتجوَّلنا في أسواقها واِلْتقيْنا العديد من النَّاس، واِشْترينا بعض الذِّكريات من هُناك، وما زالت زوجتي تحتفظُ بصندوق خشبيِّ صغير؛ مُخصَّص لتقديم الحلوى والسَّكاكر، مُصدَّف بالوَدَع والقواقع الصَّغيرة. شكله التُّراثيِّ مثار إعجاب زوَّارنا وضيوفنا يلمسونه بأيديهم، ويُدقِّقون النَّظر بتشكيلاته الفنيَّة على الغطاء والجوانب. غالبًا ما يسألون عن مصدره، ومن أين اِشْتريناه؟.

يا إلهي كم تكون جذلى بفرحها الطَّافح..!! ألمح ذلك في عينيْها، وتُردِّد:

-(هذا من ذكريات الزَّمن الجميل التي لا تُنسى، حينها كان الشَّباب والصحَّة، وهي أجمل أيَّام حياتي على الإطلاق، لم أتجاوز في ذاك الوقت الخامسة والعشرين من عمري).

لذَّة الذِّكريات كالحلوى اللَّذيذة يدوم طعمها في الفمِّ. كُلَّما تَعتَّقَت صارت خمرًا تُسْكِر العُمُر عندما تَرِدُ ولو عرَضًا، ولا يصحو مِنْ سَكْرتِه مَنْ إذا اِسْتحوذته. تذوي الأيَّام في عُيوننا، تحيا وتنتشي على وَقْع الذِّكريات.

..*..

 

 

تم بناء مدينة رياضية جديدة خصيصاً لهذه المناسبة حيث تعد واحدة من أكبر المجمعات الرياضية في سوريا وفي منطقة المتوسط في تلك الفترة، وضمت ملاعباً رياضية وصالات ومسابح وقاعات وحدائق طبقاً للمواصفات الأولمبية، وما قاله خوان أنطونيو سمارانش رئيس اللجنة الأولمبية الدولية.

        قام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بافتتاح الدورة بالقائه خطابًا ترحيبيًا بالدول المشاركة، وقام نجله باسل الأسد آنذاك بالقاء كلمة الرياضيين في الحفل. تضمن الافتتاح لوحات استعراضية وغنائية وفلكلورية وتراثية ورقصات شعبية مثلت التاريخ السوري والهيمنة الفينيقية على المتوسط ونشر الأبجدية والعلم في العالم والتاريخ الحديث وشارك فيها ما يزيد عن 25000 شخص تم تنظيمهم من قبل الاتحاد الرياضي حيث كان المشاركون يمثلون مدارس اللاذقية وجامعة تشرين وضباط الكلية البحرية وفعاليات أخرى.

 

           حادثة فارقة\\ في المباراة الافتتاحية التي جمعت المنتخبين السوري والتركي، ضمن منافسات "دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط" عام 1987، قام حكم المباراة بطرد اللاعب السوري سامر درويش على خلفية خطأ ارتكبه بحق أحد اللاعبين الأتراك.

فور مغادرة درويش الملعب، "استقبله" المدير الفني للمنتخب آنذاك، فاروق سريّة، بصفعة على وجهه، ما تزال محفورة في ذاكرة كل من شاهدها. "برّر" سريّة ذلك التصرف لاحقاً بالقول: "أنا أحب سامر درويش، وأتعامل معه كابن لي". كرة القدم، تسييساً صارماً قتالياً "نضالياً"، بخلاف البلدان التي ما تزال في مراحل ما قبل الدولة، تهرب منها إلى "الأمة العربية" حيناً، وإلى "المقاومة" و"الصمود" و"التصدي" أحياناً أخرى. لا تمكن قراءة صفعة سريّة لدرويش من دون ملاحظة هذه المسائل.

الأب الذي يحب ابنه. المدرب الذي يحب اللاعب. "الأب القائد" الذي "يعطف" على "المجتمع" ما يضطره إلى ضربه على الأقل، أو سحله وتعذيب بعض أبنائه، ليردع أبناءً آخرين عن "الانحراف" والتأثر بالمشاريع الخارجية، أو خوفاً على "الوطن" من أن يبدو بمظهر معاكس "لما هو عليه". "الوطن مقدس" و"منزّه" عن كل ما من شأنه أن "يدنّسه"، حتى لو كان خطأً كروياً وبطاقةً حمراء تستدعي صفعة أمام الكاميرات العالمية الناقلة للمباراة، صفعة تقول للعالم: نحن لا نرتكب الأخطاء وإذا ارتكبناها.. نصححها!

ذكريات السوريين مع كرة القدم في بلدهم هي أبعد ما تكون عن "المتعة" التي يعيشها غيرهم مع اللعبة، وأقرب ما تكون إلى "نشرات الأخبار" في التلفزيون الرسمي وبرنامج "بناة الأجيال". في كل مباراة دولية على أرض "الوطن"، تنتصب صورة كبيرة، على الأقل، لحافظ الأسد أو لابنه، في أعلى المدرجات، يرافقها صوت معلّق رياضي لا يكف عن الهتاف باسم الأسد واسم سوريا طوال فترة المباراة. وإذا حصلَ وسجّل المنتخب السوري هدفاً في مرمى الخصم يرتفع صوت المعلّق: "جول لسوريا الأسد".

منقول عن(عن موقع سوريا. سوريا وملاعب ما قبل الدولة: عن كرة القدم بوصفها "سياسة:

(بقلم. عبدالله أمين الحلاق). موقع سوريا.")

 

        وبالنسبة لأهم الميداليات وهي ميدالية كرة القدم فقد استطاع المنتخب السوري الحصول على المركز الأول  والميدالية الذهبية بفوزه على المنتخب الفرنسي بنتيجة 2-1 سجّل هدفي سوريا المهاجمان نزار محروس ووليد أبو السل (من ضربة جزاء)

عرفت الدورة قوة عربية جديدة في ألعاب القوى وهي المغرب بـ 6 ميداليات ذهبية: 2 لسعيد عويطة (500 متر و 1500 متر) و 2 لفاطمة عوام (1500 متر و 3000 متر) وميدالية لنوال المتوكل (400 متر حواجز)، أيضا شهدت إنجاز مصري: ثنائية محمد علي رشوان في الجودو.

..*..

 

 

لوزان. قصر رومين

 

 

++معلومات عن قصر رومين++

 

قصر رومين يقع فى مدينة لوزان السويسريه الجميله، وترجع ملكية قصر رومين الى النبيل الروسى غابرييل دى رومين، الذى قام بدفع 1,5 مليون فرنك سويسرى لإقامة مبنى يتمتع الناس برؤيته، وعلى الرغم ان قصر رومين تم افتتاحه فى 3 نوفمبر 1902 الا ان البناء ظل مستمراً حتى عام 1904م، ويضم قصر رومين مكتبة جامعه لوزان إضافه الى عدد من المجموعات العلمية و الفنية، كما يضم قصر رومين متحف الفنون الجميلة و متحف الاثار و التاريخ ومتحف التاريخ الجيولوجى و متحف الحيوان، و الجدير بالذكر ان متحف الحيوان يضم أكبر قرش ابيض محشو فى العالم.

....

أثريات في سويسرا palais de rumine قصر رومینیوم تم بناء القصر في عام 1900 بفضل التوكيل الخاص لجابرييل دي رومين ، ويضم مجموعة من المباني الجامعة والمكتبة ومتاحف الفنون الجميلة والعلوم. يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر على طراز عصر النهضة الفلورنسي في لوزان ، سويسرا.

تم افتتاح المبنى في 3 نوفمبر 1902 ، على الرغم من أن أعمال البناء استمرت حتى عام 1904.

في 24 يوليو 1923 ، تم توقيع معاهدة لوزان في Palais de Rumine

في المرافق مثل مكتبة جامعة لوزان ، والمجموعات العلمية والفنية التي تنتمي إلى كانتون فود. في الثمانينيات ، انتقلت الجامعة إلى موقعها الحالي على ضفاف بحيرة جنيف بسبب عدم وجود مساحة كافية

....

عامي 1892 و 1902 ، بتكليف من المحسن الروسي المولدوفي غابرييل دي رومين ، الذي رغب في التبرع بمبنى متعدد الوظائف للمدينة.صمم المهندس المعماري غاسبار أندريه القصر ، الذي يتميز بواجهة أنيقة مع أعمدة كورنثية وقبة مركزية مهيبة. جمالها المعماري وعظمتها يجعلانها واحدة من مناطق الجذب الرئيسية في لوزان.يضم Palais de Rumine العديد من المتاحف والمؤسسات الثقافية الهامة. في الداخل ، يمكنك زيارة متحف الفنون الجميلة ومتحف الجيولوجيا ومتحف التاريخ الطبيعي ومتحف التاريخ ومتحف Aula Magna التابع لجامعة لوزان.

يقدم متحف الفنون الجميلة ، بمجموعته الغنية من الأعمال الفنية التي تتراوح من عصر النهضة إلى العصر المعاصر ، نظرة عامة رائعة على التاريخ الفني. من ناحية أخرى ، يقدم متحف الجيولوجيا ومتحف التاريخ الطبيعي معروضات توضح الثراء الجيولوجي والطبيعي للمنطقة.يعد Palais de Rumine أيضًا مكانًا للاجتماعات والفعاليات الثقافية. غالبًا ما تستخدم Aula Magna في الحفلات الموسيقية والمؤتمرات والعروض المسرحية ، مما يوفر بيئة فريدة ورائعة.تعد زيارة Palais de Rumine في لوزان تجربة توفر الانغماس في ثقافة وفن وتاريخ المدينة. المبنى نفسه هو تحفة معمارية ، بينما المتاحف في الداخل تقدم مجموعة واسعة من المعروضات التي ترضي عشاق الفن والعلوم والتاريخ.

مع موقعه المركزي ، يمثل Palais de Rumine أيضًا معلمًا مهمًا في المدينة ، حيث يوفر مساحة ثقافية تروق للزوار والمقيمين على حد سواء. إذا كنت تخطط لزيارة لوزان ، فلا تفوت الفرصة للاستمتاع بهذا القصر الرائع واستكشاف مجموعات المتاحف الرائعة

 

......................

قبل التعرف على متحف التاريخ في لوزان يمكن الذكر أن مدينة لوزان من أهم واجهات السياحية السويسرية التي عليك زيارتها عند سفرك إلى سويسرا.

لأنها تعتبر مدينة سياحية عريقة تحمل بين أحيائها ما يسر الناظرين من معالم وحدائق ومطاعم وأيضا الأسواق بالإضافة إلى الخدمات الفندقية المميزة التي يقدمها عدد كبير من الفنادق الموجودة في محيط وداخل المدينة.

فإذا سألت أي زائر للمدينة عن أجمل المعالم التي ينصحك بزيارتها بالتأكيد سيذكر لك متحف التاريخ في لوزان حيث يعتبر المتحف نقطة جذب كبيرة للسياح . يذكر بأن المتحف فتح أبوابه أمام الزوار في أواخر 1906

بعد جمعه لأقدم وأندر الخرائط والمخططات والآثار. حيث يحتوي المتحف على 550 ألف قطعة أثرية تعبر عن تاريخ المدينة منذ أكثر من 300 سنة ماضية.

*الأنشطة التي يمكن القيام بها في متحف التاريخ بمدينة لوزان:

في البداية عند دخولك إلى المتحف ما عليك إلا التأمل بالتحف الفنية الموجودة في المكان؛ فإذا كنت مهتم بالكتب ستجد الكتب التاريخية. أما بالنسبة لمحبي الهندسة المعمارية فستجد في المبنى ما يجذبك له، ولم ينسى المتحف المهتمين بالأزياء فهو أيقونة للأزياء التاريخية .

يمكنك التعرف على الحضارات القديمة التي يهتم بها المتحف عن طريق المقتنيات الموجودة فيه والتي تعود إلى الحضارة البيزنطية والفارسية والرومانية واليونانية.

تستطيع القيام بجولة بين الأزياء القديمة والأواني المنزلية التي تعكس ثقافة البلاد القديمة

يمكنك التقاط الصور لكل ما يلفت نظرك بجماله وروعته من تحف أثرية أو لوحات فسيفسائية ولا تنسى أن تاخذ صور لك ولأصدقائك أو عائلتك في المتحف كصور تذكارية.

كما لو كنت من محبي زيارة المعالم الدينية التاريخية فيمكنك عند الانتهاء من الجولة زيارة كاتدرائية لوزان التي تعتبر من أشهر وأقدم الكنائس في المدينة والتي تقع بالقرب من المتحف.

في الختام وبعد الانتهاء من الرحلة بإمكانك الجلوس بإحدى المطاعم الموجودة بالقرب من المتحف والتي تقدم أشهى الأطعمة وألذ المشروبات.

..*..

لوزان. (بحيرة سوفابلان)

تقع بحيرة سوفابلان لوزان Lake Sauvablen, Lausanne في مدينة لوزان السويسرية وهي بحيرة صناعية تم افتتاحها عام 1888م. تعتبر مدينة لوزان واحدة من أجمل المدن السياحية في سويسرا غناها بالمعالم التاريخية مثل المتحف الأولمبي والمتحف التاريخي. علاوة على ذلك المعالم السياحية الطبيعية كالحدائق مثل الحديقة النباتية في لوزان والجبال والبحيرات كبحيرة سوفلان والتي سنتحدث عنها اليوم. تعتبر البحيرة واحدة من أجمل المعالم التي يمكن زيارتها في مدينة لوزان . وتعتبر واحد من أهم المصادر المائية للمدينة .

*الأنشطة التي يمكن القيام بها في بحيرة سوفابلان لوزان:

-أولاً وفي بداية الجولة ما عليك سوى التجول أنت والعائلة أو الأصدقاء واستكشاف جمال المكان كما ويمكنك التأمل في المكان للهدوء و الراحة التي تجدها فيه.

-ثانياً تستطيع القيام بجولة في الزوارق الخشبية الموجودة في البحيرة والاستمتاع بجمال وسحر المكان

بالإضافة إلى ذلك يمكنك اصطياد الأسماك الموجودة بالبحيرة للحصول واحدة.

يمكنكم زيارة حديقة الحيوانات الريفية الصغيرة والبسيطة التي تضم عدد من الحيوانات النادرة كالبقرة الرمادية. إضافة إلى بعض الأسماء الصينية واليابانية الملونة والساطعانات. بعد ذلك عليك تجربة الصعود على برج سوفابلان المكون من 151 درجة للاستمتاع بالمنظر البانورامي للمدينة حيث ستصنف هذا المشهد كأجمل المشاهد التي رأيتها على الإطلاق.

وأثناء الجولة كاملة لا تنسى التقاط الصور التذكارية لك وللعائلة او الأصدقاء في كل نشاط تقومون به في بحيرة سوفابلان فزيارتك للمكان بأي فصل بالسنة سيكون تجربة ممتعة ومميزة.

..*..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لوزان. (الحديقة النباتيَّة)

الحديقة النباتية في لوزان من اجمل المنزهات الطبيعية و افضل اماكن السياحة والترفيه في لوزان سويسرا. حيث تجذب الزوار من السياح المحليين والخارجيين لما فيها من طبيعة ساحرة خلابة ، فهي المكان الأمثل للاستجمام والاسترخاء.

بالاضافة لما توفره من أعداد هائلة من أنواع النباتات الاستوائية والمتوسطية التي يبلغ عددها اليوم 14000 نوع من النباتات وتمتد الحديقة النباتية على مساحة 2 هكتار، وتم تأسيس الحديقة عام 1593 لذا تعتبر من أقدم حدائق لوزان.

* النشاطات في الحديقة النباتية في لوزان:

من اروع النشاطات التي يقوم بها زوار الحديقة النباتية هي القيام بجولة استكشافية والتعرف على انواع النباتات وفوائدها، كما من الضروري التمتع بمشاهدة الزهور والورود والاشجار الخضراء والتقاط الصور التذكارية في الحديقة النباتية.

زيارة القسم الزراعي والبيوت البلاستيكية والتي ستتيح لك فرصة التعرف على طرق الزراعة وانتاج الخضار والفواكه البلاستيكية، كما يمكنكم برفقة الاهل والاصحاب الجلوس في مقهى الحديقة النباتية وتناول وجبة الطعام او احدى المشروبات الباردة او الساخنة.

في الختام تعتبر الحديقة النباتية في لوزان من الاماكن الطبيعية النادرة حول العالم إلا أنها مملة نوعاً ما للعوائل التي لديها أطفال. فهي للأسف لا توفر قسم العاب خاص بالأطفال، ولكن يمكن تسلية الاطفال من خلال اصطحاب الالعاب الخاصة بهم الى الحديقة.

..*..

 

 

 

 

 

 

 

سيكون الكلام حول  خدمته وخواطره مع الرئيس حافظ الأسد

 

رغم يقيني على أنَّ جورج يعرف ما نسيتُ إخباره به، ولا أظنُّ بصحفيٍّ بوزنه المهنيِّ عميق الخبرة، ومُطَّلِع بحُكم طبيعة عمله، وعلاقاته المُتشَّعبة، لا أشكُّ بمعرفته بأسرار كثيرة كالتي أحتفظُ بها، لا يمُكن طرحها بأيِّ مكان، إلَّا في نطاقات ضيِّقة جدًّا جدًّا ومأمونة، لأنّها بمثابة أسرار تمسُّ الأمن القوميِّ.    

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في المصحة بسويسرا مع الطبيب شنوان

 

الجلسة الأولى:

سكلمة..

أوّل مرّة  سمعتُ اسم "سكلمة"، وأنا أُغالبُ نفسي بعنادٍ بالضَّغط على دواخلي، خوفًا من اِنْفلاتٍ لضحكة مكتومة.. كانت ستحرجني بلا مُبرّر، وربّما تُغيّر وِجْهة الجلسة بعد طول موعد امتدَّ لشهر، حتَّى استطاع الوصول "سكلمة" إلى هذه الغرفة.

ما إن اِنتهيتُ من سؤالي الاعتياديِّ لكلِّ مريض أو زائر للمصحّة للمرّة الأولى، من الضَّروريِّ بداية الحُصول بل اِقْتناص المعلومة المفتاح، لجعل الحديث يجري بيننا بأريحيّة تامّة. سأقوم بالتعريف بنفسي:

-"مرحبا بكَ.. أنا الطَّبيب شنوان كبير الأطبَّاء، ورئيس هذا المركز.

أيّ قادم جديد إلينا تتناوشه الوساوس والخوف والوجَل. لا بدَّ من الشُّعور العارم بالطمأنينة والأمان.

بخبرتي الطَّويلة المُمتدَّة على مساحة خمسة عشر عامًا، جُلُّها قضيْتُها خارج القُطر، قبل عودتي للبلاد لخدمة أبناء بلدي قبل خمس سنوات".

الطَّبيب مُرتبكٌ على غير عادته، خلال عمله الطَّويل في مجاله كمُعالجٍ نفسي للحالات المختلفة التي تمرُّ به، يبدو أنَّ غرابة الاسم أربكته. على كُلٍّ لابدَّ من البداية. يُخاطب نفسه.

تنحنح بنعومة، وقبضة يده اليمنى امتدَّت بحركة آليَّة لتُشكِّل سدًّا على فمه، فيما يده اليُسرى حكَّ بها مُؤخِّرة رأسه، ثم امتدَّت لمقدمة الرأس لترفع غُرَّته الشَّقراء  المُوشَّاة بالقليل من الخُصَل البيضاء المائلة للون الفِضيِّ. أعاد تركيز نظَّارته ذات الإطار الذهبيِّ فوق أنفه، كأنَّه استعاد توازنه بهذه الحركات. بلا مُقدَّمات انطلق بسؤاله:

- "أخ سكلمة قبل الدُّخول في صلب  الموضوع الذي جئت من اجله إلى هنا، استوقفتني غرابة اِسْمكَ، لم أستطع استجماع أيِّ معنى له في ذهنه، عدم المُؤاخذة في سؤالي، أعتقدُ أنَّكَ تتفهَّمُ قصدي".

- "بكلِّ تأكيد يا دُكتور لسْتَ أوَّل من يُبدي اِسْتغرابه لاسمي، ولا تُصدِّق..!! لو قُلتُ لكَ أنَّني في بعض الأيَّام أتعرَّض لأكثر من موقف في هذا الخصوص".

ندَّت ابتسامة رضا على شفتي الطَّبيب نشوان؛ خفَّفت اِحْمرار خدَّيه المُتورّديْن كحبَّة البندورة المُشبَعة بنضجها، ومسح على جبينه بمنديل ورقيٍّ.

- "الحمد لله.. طمأنتني الآن".

- "في الحقيقة سأروي لكَ هذه النُّقطة من أوَّلها خُطوة بخُطوة، حتَّى تأخذ فكرة واضحة".

- "بكلِّ سُرور، وكُلِّي آذانٌ مُصغيةٌ لكَ يا أخ سكلمة".

- "كان أبي رحمه الله تعالى مُفكِّرًا عظيمًا في مصافِّ العقَّاد وطه حُسين ونجيب محفوظ، أراد وضع بصمته المُميَّزة من خلال اسم ولد البِكْر، وكان يطربُ وينتشي؛ حينما يُنادى عليه وعلى الأخصِّ إذا بالفُصحى يا أبا سكلمة- على الرَّغم أنّني لستُ الولد البكر لأبي".

الطَّبيب يرفع حاجبيْه، ويفتح عينيْه على اِتِّساعهما مُندهشًا:

- "أفهمُ من كلامك أنَّ اِسمكَ هو خياره الأفضل..!!".

- "بكلِّ تأكيد كما أخبرتُكَ يا دُكتور؛ فقد كان من يسمعُه للمرَّة الأولى، لا يُمكن أن ينساه أبدًا".

الطبيب ينسى نفسه، وينفغر فمه انفراجًا ليسمح لنُسيْمات الهواء المُتدفِّقة عبر النُّافذة المنفتحة على حديقة مليئة بالأشجار ونباتات الزِّينة، يأخذُ نفَسًا عميقًا، وقال:

-" المُهمُّ.. أريدُ منكَ يا أخ سكلمة، لو استطعتَ  أن تشرح لي، ما المعنى الذي دار بذهن والدكَ في ذاك الزَّمان!؟".

سكلمة شاردٌ بنظراته بين لون السَّماء الزرقاء المتماوجة مع الأخضر المُتشكِّل من أغصان الأشجار. زقزقةُ العصافير تضيفُ بُعدًا آخر لجوِّ الغُرفة المُعشعش بالكآبة التَّاريخيَّة، وبأمراض النَّاس الذين جلسوا على نفس الكُرسيِّ العتيق. المكان اِعْتاده الأطبَّاء لخصوصيَّة وظيفتهم في المصحَّات والعيادات النفسيَّة.

لدقائق بقي سكلمة صامتًا، ظنَّ الطَّبيب أنَّه لم يسمع كلامه، فتنحنح بطريقة مُفتعلة؛ لتنبيهه. بالفعل عاد بنظراته مُحدِّقًا بوجه الطَّبيب، الذي أحسَّ بوخز خفيف على وجنتيْه. وتابع:

-"في الحقيقة يا دُكتور، وما هو ثابتٌ بالدَّليل القطعيِّ، أن العبارات المكتوبة على حوافِّ شهادة ميلادي، وبخطِّ والدي رحمه الله- الواضح أنَّه اختار حرف السِّين لإضافته إلى لفظ "كلمة" وليكون لصيقًا بها، مُؤاخِيًا بينهما بحنكته ودرايته، والسِّين حسب فلسفة والدي: رمزٌ للسُّؤال، وللتسويف والتأجيل للمستقبل القريب والبعيد، ولأنَّها إحدى الأداتيْن (سين وسَوْف) اللَّتيْن تدخُلان على الفعل المُضارع.

لكن الذي لم أتوقَّعه أنَّ والدي رحمه الله- كيف اِسْتطاع لصق السِّين باسْمٍ، وهي لا تدخُل إلَّا على الفعل المُضارع، وكأنَّه أرادني أن أكون كملته ورسالته للمُستقبل المُعشعش بذهنه، ولا يعرف طبيعته ومواصفاته.

-"أفهمُ من شرحِكَ يا أخ سكلمة، أنّ والدكَ كان مُختلفًا في ذاك الزّمان السّحيق، عن محيطه وجميع أقرانه، ولكن لي اعتراض أن الكلمة غير مطروقة أبدًا، كما تعلم أنّني قد درستُ الطبَّ الإكلينكيِّ جنبًا إلى جنب مع الطبِّ النفسيَّ للعلاقة الوطيدة بين النَّفس واِنعاكاستها  السلبيَّة في الغالب  على الجسم الإنسانيِّ عُمومًا، وعلى ما أذكُر أن كلمة "سكلمة" تُطلق على: (الأمعاء الغليظة ذات الشَّكل الأُفعوانيِّ) سكلمة يفتح عينيْه على اتِّساعهما، وكأنَّه غير مُصدِّق لكلام الطبيب-، وفي موضوعنا الطِّبيِّ أيضًا على ما أذكُر- فإنَّ ما يأتي بمعنى الكلمة كذلك هو: (مُلتقى عظم مُقدِّمة الرأس ومؤخِّرته، وما يتحرَّكُ من رأس الطِّفل. يتحرّكُ وهو فراغ) وهو ما يُسمَّى (اليافوخ)، وينطقه عامَّة النَّاس: (النَّافوخ)".

وتوقَّف الطَّبيب عن الكلام، وأرسل نظراته عبر النَّافذة إلى خارج المكتب، وراح يحكُّ شعره الأشقر المختلط بالأشيب مُناصفة، يُضفى مهابة على وجهه، ويُشكِّل قناعًا كاريزميًّا مُوحٍ بشكلِ عالِمٍ كبير.

كـأنَّما يبحث عن شيء في ذهنه، أو داهمته فكرة طارئة خارج سياق الجلسة الأولى لسبر أغوار المريض "سكلمة".

وما زالت تتَّسع دوائر الدَّهشة على وجه سكلمة، ولم يستطع مُجادلة الطبيب بكلمة واحدة، انعقد لسانه عن الكلام وتَبلَّمَ تمامًا، كأنَّه صُدِمَ.

وتابع الطَّبيب بنبرة مُنكسرة تحشرجت كلماتُها في فمه، تشي بحزن قديم كان مخبوءًا في مجاهل ذاكرته القديمة، ولم يستطع مُغالبة دمعة عنيدة طفرت من عينه الُيمنى، ثمَّ تلتها أخرى من اليُسرى، ممَّا اضطرَّه لسحب عدد من المناديل الورقيَّة، لتجفيف دمعتين لم يُمهلهما لتنحدرا على وجنتيْه:

- "ولأزيدنَّكَ بيتًا من الشِّعر، وزيادة الخير خير. كما يُقال: في صغري كنتُ أسمع سِتِّي أمَّ أبي: تحكي هذه الكلمة لأختي الصَّغيرة في أحد الأعياد، حينما اشترت لها أمِّي فُستانًا بلون مُتدرِّج أو مُتفرِّع من لون الزّهر، حاليًّا أعتقدُ أنَّهم يُطلقون على هذا اللَّون لفظة (فوشي). ولا زلتُ أذكُر مقولة جدَّتي لأختي: (ما تبلى هَلْ آمة تِءْبِرْني لَبَّاسة السَّكْلَمة) كلُّ الاِحْتمالات واردة.

لا أطالبكَ أن تُصدّق ولا تُكذِّب أيّ شيء تسمعه، ولا تنس ترحيله إلى مُستودعات الذَّاكرة إلى حين اللُّزوم.

أعتقدُ أنَّ الزَّمان هو الكفيل بالحكم عليه، والزَّمن هو أعظم النُقَّاد على الإطلاق، ولا ثَبَات لأفعال البشر. التقلُّب والتبدُّل سِمَةٌ بارزة في حياتهم. فمن الصَّعب تكوين رأيٍ جازمٍ قاطعٍ، إنَّما تستمرُّ العلاقات بالاِسْتحسان والمودَّة، وبالتَّغاضي عن مساوئ ممَّن نُحبُّ".

أخيرًا أراد الخُروج من هوْل المُفاجأة غير المُتوقَّعة، وليُعطي صورة للطَّبيب أنَّه غير مُكترث لكلامه.    

-"بطبيعة الحال يا دكتور لو سمحَ لكَ الوقت، وأسعفَتْكَ هذه الجلسة بطولة البال، والاستماع لما سأشرحه، ربَّما يأتي المساء ويحلُّ الظَّلام ولن أنتهي، ولكَ أن تُصدّقني لو أردتَ. بل أتمنَّى عليكَ أن تفهمني.

في أيَّام وظيفتي وقبل تقاعُدي؛ كنتُ أحظى باهتمامٍ واسعٍ لدى جميع الفِئَات. قَسَمًا بالله..! هاتفي لم يكن ليهدأ لا في ليْلٍ ولا نَهارٍ.

منذ سنوات صَمَتَ هاتفي نهائيًّا، وكأنّه جهازُ خِلْيويٍّ لا يحمل شريحة ذات رقم، وأنَّ أحدًا ممَّن خدمتهم لا يعرفه، ولا يذكر إلحاحه الدَّائم برجاء تنفيذ ما يريد".

-" أُفْ.. أُفْ، أتوقَّع أنَّكَ خلال ساعة ستحكي رواية. على كُلٍّ خُذ راحتكَ بالحديث والاِسْترسال بالصُّورة التي تراها مُناسبة، ولن أُقاطعكَ يا أخ سكلمة.

الوضع يُحتِّم عليَّ الاِسْتماع والإنْصات لكَ، وباهتمام؛ المُهمَّة التي أقوم بها صعبة جدًّا، من الممكن أستخلصُ من كَوْمة الكلام عبارة واحدة فقط، وذلك على سبيل الإحاطة بالحالة من جوانب غير منظورة، وتجنُّبًا للأسئلة المُباشرة التقليديَّة".

سكلمة يرفع رأسه ليُحدِّق بوجه الطَّبيب شنوان يتأمَّله بعُمقٍ، نظراته لم تُثِر ريبةً بنفس الطَّبيب، ولم يُعِرْهَا أدنى اِهْتمام، لأنَّه لم يتوقَّع رِدَّة فعلٍ مريضةٍ، لأنَّه يفترض اِسْتسلامه وعدم قُدرته على تقييم الطَّبيب؛ فَحَالته المُضطربة لا تسمح له بذلك. يقول بنفسه. بينما الدكتور مُنشَغِل بتعبئة خانات الملفِّ الضروريَّة:

-"طيِّب.. ها هو نفسه يحمل اِسْم شنوان، وما شنوان؟، ما المعنى أنَّ اِسْمي فقط الغريب..!! هو أيضًا لا يقلُّ غَرَابة عنِّي؛ فلماذا لا أتوجَّه له بسؤاله نفس السُّؤال..!!، كما أنَّ ملامحه البريئة مُوحِية بأنَّه غير قادر على التعامُل مع حالتي، وفهمها بشكلٍ دقيقٍ، مع هذا سَأُتابع معه".

ترجَّل الطَّبيب واقفًا بطوله المُتوسِّط، وأخَذَ نفَسًا عميقًا. راح ينفثُه ببطءٍ عبر النَّافذة، أخرج معه ضغطه الذي يُعانيه. جلساتُ العلاج مُرهِقة جدًّا تستهلكُ قُدُراته الدََّاخليَّة، وتُحطِّم الحياة من حَوْله؛ فكثيرًا ما عبَّر عن ذلك:

-"كلُّ ما تقع عيْني عليه إمَّا رماديّ أو أسود، كأنَّ قائمة الألوان العديدة اِنْمحت من حياتي".

 

في نهاية كل جلسة سيكتب الدكتور شنوان ملاحظاته

ملاحظات الدكتور:

 

 

..*..

 

الجلسة الثانية

سكلمة سيرة والده، ولن يذكر اسمه بل (والدي)

والدي كان رجل دولة حقيقيّ، عالم ببواطن الأمور، عاصر السلطان "عبدالحميد"، وحاز على ثقته شبه الكاملة، بإمكانك القول:" كان ساعده الأيمن، يعتمد عليه في الأمور الصغيرة والكبيرة". عندما لمس فيه الإخلاص، وآنَس فيه الأمانة، و النيّة الصّادقة.

الخمس سنوات الأخيرة قبل سقوط السُّلطان هي الفترة الذهبيَّة في خدمته العسكريَّة التي قضاها مُتنقِّلًا بين الولايات كضابط في الجيش العُثمانيِّ، ومن ثمّ كَحَاكم إداريٍّ بوظيفة مُتصرِّف لمُتصرفيّة جبل لبنان.

 

.. *..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



*ملاحظة: هاتان الفقرتان من صنع مؤلف الرواية، ضرورة السَّرد على لسان البطل "سكلمة" هو ما استدعى وضعها داخل قوسين

 

[2] ملحوظة: إنَّ مقرَّ مقهى الويمبي في شارع الحمرا في بيروت، الذي شهد على هذه الواقعة التاريخية المسماة باسمه، غير موجود حاليًا، ويقال أن أحدهم اشتراه، وحوَّله لمحلًّ لبيع الأحذية، فيما افتتح مقهى آخر في نفس الشَّارع باسم الويمبي. كما العمارة بأكملها هُدمت وأنشئت مكانها عمارةLOFT) ). كما أنَّ بلدية بيروت اعتمدت تسمية السّاحة الصَّغيرة أمام موقع مقهى الويمبي القديم، باسم "خالد علوان"، وعلَّقت لوحة إيضاحيَّة لذلك. (من مصادر الأنترنت، وبتوثَّق من المتابعة مع الروائي محمد إقبال حرب. البيروتي الإقامة).

 

[3]. الشاعر محمود درويش .

[4].المؤلف محمد فتحي المقداد

[5] *نقلا عن مقال زياد عيتاني. لموقع أساس ميديا

[6] مقولة المؤلف محمد فتحي المقداد على لسان بطل الرواية

.[7] الفقرة المُظفَّرة على لسان بطل الرواية سكلمة من كتابة المؤلف.

[8]. سورة القصص آية 79 من القرآن الكريم.

[9]. وصف لفندق بوريفاج لوزان منقول عن موقع (Booking.com) السياحي. بتصرُّف.

[10]. منقول بتصرُّف عن موقع ويكيبيديا الإلكتروني.

[11] منقول عن موقع سائح الإلكتروني، من مقالة حول تعريفية بمتحف لوزان للألعاب الأولمبية.

[12]*نقلًا عن بحث الأستاذ منذر محمد الحايك، بعنوان (عبدالقادر الأمير الشام). المنشور في المجلة العربية والدراسات الإنسانية والاجتماعية. العدد1 2022. والفقرة بين الظفرين نقلها عن  كتاب(منتخبات تواريخ دمشق،2\1974، محمد أديب الحصني، دار الآفاق العربية، القاهرة\1979.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق