الممحاة (2)
بقلم الروائي - محمد فتحي المقداد
الصديق سلطان أخبرني: "لم أحبّ ممحاة قلم الرّصاص يومًا ما، وفي صغري كلما اشتريتُ قلمًا أقضمُها بأسناني".
- "ألهذه الدرجة تُحبّها..!؟".
- "لا.. لا.. أبدًا، لا أحبّ أن أرسم خطًا وأمحوه، بل أطوّره لبناء فكرة جديدة، لذلك تحوّلتُ لاستخدام أقلام الحبر الناشف خاصّة الأسود منها، مُناكاة بقلم الرّصاص".
-" أنا على العكس منكَ تمامًا، مازلتُ أُكِنّ الاحترام لقلم الرّصاص؛ لأنّه ثابتٌ على صدقه فيما يكتب، بلا تزويق وتلوين، على خلاف الكتابات المتلوّنة حسب المواقف".
ابتعدتُ كثيرًا عن الممحاة الملازمة لقلم الرّصاص، وأراها كأنّها عين رقيبِ أمنيّ على ما نكتُب؛ يملّ من الأفكار ومن أصحابها، أو أن يتسرّب شيئًا منها خارج الإطار؛ فتكون بكامل لياقتها استعدادًا للمحو في سبيل التعتيم والتجهيل.
للإنصاف سأكونُ حسن الظنّ بنواياها، وأرى أنّها حريصة على حياتي فيما أكتبُ على الأخصّ حينما كنتُ مُتحمّسًا للحياة في طور الشباب الأوّل، لأنّني بلعتُ الطّعم مثل أبناء جيلي ومن هم يكبرونني بسنوات عمريّة، ممن كانوا يمتهنون الخطابات والتنظير لفكر حزب البعث، ومن خلال منهاج التربية القوميّة في مرحلتي الإعداديّة والثانويّة، وقبلها كان اسمها كتاب الوطنيّة.
حقيقة حفظتُ موضوع النقد والنقد الذّاتي، وهو أهم المنطلقات النظريّة الكُتيّب الصغير بحجمه، الكبير بشروحاته الموسوعيّة.
الممحاة.. شكرًا لها.. تحيّة لها.. تحيّة ثانية من القلب، لولاها لكنتُ ذهبتُ في رحلة اللاعودة إلى خلف الشّمس، ولعلّ الذّباب الأزرق لم يكن ليعرف مصيري، ومن الممكن أن أكون ذهبتُ ضحيّة في سجن تدمر، أو في المزّة، أو في كركون الشيخ حسن، وانمحى خبري من ذاكرة أبناء بلدتي بُصرى، وآخر لسان يذكرني.. لسان أمّي.. وآخر دمعة تُسكب من أجلي دمعتها، ولكن بعد موتها، مؤكّدً أنّ ذكري انطمس معها في قبرها. ولانتهى خبري قبل عصر الفيسبوك والواتساب
.... يتبع ....