إضاءة
على رواية
(أحلام
خلف القضبان. للروائيّ جمال المسالمة). سوريا.
بقلم
الروائي- محمد فتحي المقداد
الواقعُ مَعينٌ لا ينضب من الحوادث والحكايا، وهو
مرتع واسع زمانًا ومكانًا للكّتاب والأدباء، ليغمسون أقلامهم بقوّة وجرأة فيما
يلتقطون من قصص وأفكار، لمعالجتها بالطريقة المناسبة لهم، وعلى طريقتهم، وكلٌّ حسب
مقدرته ومعرفته الأدبيّة.
والرواية
التي بين أيدينا "أحلام خلف القضبان" للمهندس "جمال
المسالمة"، هي العمل الروائيّ الأوّل، لوحظ انعكاس حرفته الهندسيّة على
طريقة تناوله المنطقيّ، والمتسلسل لبناء قاعدة الرواية، انطلاقًا من وسط قرية
"المرج"، لا نتوقّف كثيرًا أمام التسمية بقدر رمزيّتها،
وانتمائها لمكان أقام عليه أساس روايته المتين.
وبتأويلات
القراءة، واستشفاف المشاهد الخفيّة المُستخلَصة فيما ورائيّة السرديَّة الروائيّة،
إلى قضيّة الرّيف والمدينة، وإشكاليّة التفاوت الهائل بالخدمات العامّة، ولا نقول
بالإهمال التامّ، بل الخدمات بأقلّها القليل غير الوافي والكافي، ولا مستكمل لأدوات
ومبررات العيش الكريم.
والكاتب
يُعيد للأذهان هذا الموضوع للمقدّمة، ويأخذنا معه إلى أجواء القرية ببساطتها،
وطبيعة علاقاتها المُتشابكة المُتشابهة المُتشاركة لفضاءات روايته المكانيّة،
ليجعل منها مسرحًا لحركة أبطاله، وعرض لفعاليّاتهم بمقاربات تُحاكي الواقع،
وتناقلاته بوضوح تامّ مباشر، وبهذا يكون قد سلّم مفاتيح عمله الروائي للقارئ.
ساحة القرية
الصغيرة جاءت صورة مصغّرة كاشفة للخفايا والخبايا، والصراعات والتنافسات، وحصرًا
من دكّان "أبو علي". بتحريك الحدث نحو افتتاح الصيدلية، والشاب الصيدلي
الوافد الجديد للقرية، والانتقال لخطوبة الشاب "أحمد" الموظف بوزارة
الأوقاف، لواحدة من بنات القرية، وتدخّل عمّها لخطبتها لابنه "ظافر"
الموظف كمعلم في مدرسة القرية، وهذا العرف الاجتماعي "بنت العم لابن
عمّها". ومع مجيء الصيدلية، تجرّأت البنت "سعاد" على مناقشة النساء
حول طبيعة أجسامهن المترهلة، لإهمالهن بأنفسهن وتكاد أن هذه النقطة ميزة لكثير من
نساء الأرياف العاملات في الحقول الزراعية بمساعدة أزواجهن، ولإعالة عوائلهنّ
الفقيرة.
وبالعودة
لموضوع عنوان الرواية "أحلام خلف القضبان" ثلاث كلمات بصيغتها
الاسميّة، جديرة بالتوقّف في رحابها، بمحاولة سلوك دروب التأويل، للقبض على بعض
دلالتها الممتدة بجذورها داخل العمل الروائيّ.
فكلمة
"أحلام" هي الأولى من العنوان؛ تحيلنا لشيء من فلسفة الأحلام،
حيث أنّها حق مُتاح لجميع البشر على حدّ سواء، فقيرهم وغنيهم، والقويّ والضّعيف، الحاكم
والمحكوم، والسيّد والمسود. وخلقت الأحلام لا لتتحقّق، إنّما هي من دوافع الأمل
للاستمرار بالحياة، بتمنية النّفس بالأفضل والأجمل.
وكلمة
"خلف" هي الثانية بترتيبها جاءت بعد الأحلام، لتعطي الوجه الآخر
غير المُعلن، الذي ستكون الأحلام خلفه، لنفاجأ بالكلمة الثالثة "القضبان"
بفظاظتها وخشونتها القائمة على حجز الحريّات، وهي الواجهة الواضحة من السّجون
والزّنازين، لا شكّ أن فضاء السّجن المكاني مغلق، على خلاف وضديّة فضاء القرية
المفتوح بلا حدود نحو جميع الاتّجاهات، وفضاء القرية تربة صالحة لنموّ الأحلام وتطاولها،
بينما فضاء السجن مقبرة للأحياء وأحلامهم، وبيئة فاسدة تنمو فيها الطحلبيّات
الفاسدة كاليأس والقنوط والقهر وموت الرّغبة بالحياة، باستعجال قابض الأرواح
للخلاص من الكآبة والحزن.
وبذلك
من المفترض بعد موجة هذه الاستنتاجات أن يكون العنوان عتبة للرواية، وهو رواية
فكرة قامت عليها السرديَّة بمجملها، أو بتعبير أوضح وفي الحالة المُثلى أنّ
العنوان رواية كاملة مختصرة لتأتي بهذا الشكل، وهذا ما نستطيع القول عنه بالعنوان
القويّ، الواضح بدلالاته وهو ما ينطبق ويتطابق مع فكرة وأحداث رواية "أحلام
خلف القضبان".
لتحكي قصّة
الصيدلي "سمير" وتجربة السّجن والتحقيق والتعذيب لسنوات طويلة،
بتهمة الانتساب لحزب محظور، وهو الجناح اليميني لحزب البعث العربي الإشتراكي، وهو
بهذا المعنى سجين سياسيّ سابق، هذا ما فتحه مجيء "معتز" عنصر أمن
الدولة بعد افتتاح "سمير"
للصيدليّة. الأمر الذي يستدعي إجراء دراسات أمنيّة عنه، ومسح سياسي، وهذا الأمر
والإجراء مُتّبع في جميع أوجه النّشاط في سوريّا قديمًا وحديثًا.
وفي
هذا الاستعراض الوجيز لرواية "أحلام خلف القضبان" التي تُصنّف من
المدرسة الواقعيّة في الأدب، وهي محاولة نقل الواقع من الحقل الماديّ، إلى الحقل المعنويّ
الفكريّ.
لغة
الرواية واضحة فصيحة بتراتبات سليمة سبكًا للمعاني، بتوليفتها النحوية والإملائية والتعبيرية،
كما أنّها جاءت من زمن سابق وعلى الأغلب قبل الألفية الثالثة، على محمل الذاكرة
المختزنة لدى المهندس "جمال المسالمة" مثله مثل جميع السّوريّين، بنفس طريقة
التفكير والمُعاناة واحدة، ولم أجد غرابة أثناء مطالعتي للرواية لأنّني عايشتُ
الفترة نفسها بحلوها ومُرّها، وبذلك تُعتبر وثيقة دامعة بصدقيّتها، وبنظرة بسيطة
لمل اصطُلح عليه ب"أدب السّجون" وفي الحالة السورية على الأخصّ،
فإن جميع الأعمال الروائية المنشورة من الكتاب والأدباء السوريين، وهم ممّن جربّوا
السّجون، وعلى اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجيّة الحزبية ما بين الإسلاميين
والشيوعيين والبعثيين والناصريين، وبمقارنة تقاطع المعلومات فيما بينهم، فكل ما كُتب
مُتشابهًا، فرواية "القوقعة. مصطفى خليفة" وكل ما قرأته من روايات عن سجن
تدمر، لم يخرج عن سياقها إلّا بأسلوب الكتابة فقط، وبهذا المنحى يمكن تجنيس رواية
"أحلام خلف القضبان" بأنّها من صنف أدب السجون في معظم سرديّتها الروائية،
فتكون كشاهد حيّ على العصر. والله الموفق للحق والصّواب.
9/ 7/
2023