محمد فتحي المقداد: الكاتب الذي هدم الجدار الرابع بين الأدب والحياة
في عتمة المشهد الثقافي الذي يُعيد تدوير نفسه، حيث تتشابه الأصوات وتتناسخ الحكايات، ينبثق محمد فتحي المقداد مثل ومضة في العتم، لا ليمشي بين الكلمات، بل ليخترقها.
إنه ليس كاتبًا فحسب، بل حدث أدبي، ظاهرة تمشي على قدمين، يمارس الكتابة كما يمارس الحرفي طقسه المقدّس؛ بنَفَس من يخطّ على الرمل وهو يعلم أن الموج قادم، لكنه يكتب بكل ما فيه.
حين تستمع إلى المقداد، أو تقرأه، لا تكون أمام تجربة أدبية مألوفة، بل أمام خريطة حسّية لزمن مكسور، أمام رجل لا يكتب من "برج عاجي"، بل من صالون حلاقة، حيث الشفرة تلامس الرأس، والكلمة تلامس الذاكرة.
هو روائي، ناقد، مؤرخ، وصانع جسور. لكنه قبل كل هذا، هو كائن يقظ بالأسئلة.
الحبر الذي لا يجفّ: سردٌ يقاوم النسيان
روايات المقداد ليست بناءات سردية فحسب، بل أجهزة قياسٍ دقيقة لتقلّبات النفس البشرية. هو لا يروي ما حدث، بل يفتح الجرح ليرى كيف ينزف المعنى.
في "الطريق إلى الزعتري" لا نقرأ قصة لاجئ، بل نقرأ سقوط الإنسان من خارطة الأمان إلى جغرافيا الفقد. هناك، في طيّات الخيمة، تكمن رواية أكبر من اللجوء؛ روايةٌ عن الحنين الذي صار خنجراً، عن الوطن الذي تحوّل إلى ذاكرة قابلة للاشتعال.
أما "دوّامة الأوغاد" فهي ليست رواية، بل كتيّب مواجهة، مانيفستو سردي يخلع أقنعة الزيف، ليقول: الأدب لا يهادن. الأدب يقاتل.
في رواياته، تتحوّل الفكرة إلى جسد، ويتحوّل القارئ إلى شريك في الحفر لا متلقٍ سلبي. هو لا يكتب لينقل الواقع، بل ليخلقه من جديد واقعٌ موازي، أكثر صدقًا من الحقيقة.
كأن النقد عين ثالثة
في كتبه النقدية: "حديث المنجز"، "إضاءات أدبية"، و"قراءات روائية"، نكتشف المقداد الذي يقرأ النصوص كما تُقرأ الخرائط السرية. لا يكتب من علُ، بل ينزل إلى قلب النص، ويجالس أبطاله، وينازع مؤلفه.
هو ناقد لا يعيد تفكيك النص فحسب، بل يعيد بناؤه على مرأى منا. وكأن كل قراءة لديه محاولة إنقاذ للنص من سطحه، ومحاولة إنقاذ للقارئ من قراءته الكسولة.
في زمن بات النقد فيه إعلانًا مقنّعًا أو تصفية حسابات، يأتي المقداد ليعيد للنقد هيبته: تأمل، حوار، شراكة معرفية.
الحوار كفعل تحرّر، والتراث كهوية مستدامة
في أعماله الحوارية، نكتشف جانبًا مختلفًا: المقداد المحاور الذي لا يستدرج الإجابات، بل يفجّر الأسئلة. حواراته ليست مقابلات، بل طقوس كشف، يسلّط الضوء لا على ما قيل، بل على ما لم يُقَل.
أما مشروعه التراثي، فهو لا ينطلق من الحنين، بل من الإيمان بأن من لا يُمسك بجذوره، يُقتلع بهدوء. في "الكلمات المنقرضة"، و"الوجيز في الأمثال الحورانية"، لا نجد فقط توثيقًا، بل محاولة لإعادة الذاكرة إلى التداول، كما لو أنه يقول: "لن أسمح لنفسي أن أكون الحلقة المفقودة بين الماضي والمستقبل."
الروائي الذي لم يتخلّ عن الشارع
هناك كُتّاب يرتبون مقاعدهم في الندوات ويُبرّدون نصوصهم في رفوف المكتبات، وهناك المقداد، الكاتب الذي ما زال يسمع الشارع، ويمسح العرق عن جبين اللغة.
هو مثالٌ نادر لـالكاتب الذي لا يكتب عن الإنسان فقط، بل يكتب مع الإنسان، وبالإنسان، وللإنسان.
رجلٌ حمل مهنة الحلاقة لا كوصمة، بل كامتياز أدبي، فحول صالونه إلى مختبر بشري للقصص، ومسرح شعبي للتأمل.
خاتمة ليست نهاية: محمد فتحي المقداد كمشروع وعي
حين نقرأ المقداد، لا نقرأ كاتبًا فقط، بل نُجرّب الكتابة من جديد، نتأمّل النص كأننا نلامس جلده، ونتساءل عن حدود الحبر: هل يكتب؟ أم يُنزف؟
إنه من الكُتّاب الذين يعيدون تعريف وظيفة الأدب في عصر الاستهلاك والتشظي. هو ليس ساردًا للأحداث، بل حفّار مجازات، وكاشف أقنعة، وصانع هوية.
هو مرآة الزمن، لكنه لا يعكسه فقط، بل يُحطمه، ويُعيد تركيبه، حتى يرى القارئ نفسه كما لم يعرفها من قبل.
محمد فتحي المقداد، الكاتب الذي لا يخاف من الغوص في المجهول، لأنه ببساطة: لا يكتب من أجل النجاة، بل يكتب كي يجعلنا نحيا.