الثلاثاء، 7 فبراير 2023

رواية (أصدقاء كوفيد)

رواية

 

 

 

 

 

 

 

 

 


                             

 

 

            أصدقاء كوفيد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                  محمد فتحي المقداد

 

 

 

 

أصدقاء كوفيد

 

 

 

 

رواية

1\ 2\ 2023

 

المملكة الأردنية الهاشمية

رقم الايداع لدى دائرة المكتبة الوطنية

(      )

التصنيف

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


ردمك               ISBN

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإعلام

تحضيرات:

بمختلف أطيافه وأنواعه قام بالتهيئة لفكرة خطورة الوباء، وانتشاره على نطاقات واسعة، ظهور فكرة التباعد والكمامات والعزل للمرضى.

**الفكرة العامة للرواية: انتشار الوباء بشكل مفاجئ على مستوى العالم، ودور وسائل الإعلام وبث الرعب في قلوب مختلف المجتمعات البشرية. (الحمى الإعلامية على مستوى العالم، وأصبح الخوف والتخوّف من أي شيء)

**كيف تكونت فكرة الكورونا\\ الأخبار والسوشيال ميديا\\ أشعلت الخوف والرعب في نفوس البشر.

**تناقل الأخبار على نطاقات واسعة ، وتصدر أخبار الوباء نشرات الأخبار، بحثي أصبح الخبر الأول بشكل دائم.

** تسويق فكرة الكمامات من خلال الترويج لمحاسنها بصد الوباء كحماية مُعوّل عليه حماية حياة من يرتديها(الأنفاس. العطاس. السّعال. الزّكام).

** لذلك جاءت فكرة وضع حواجز شفاف من البلاستيك الشفاف في وسائل النقل بين السائقين ومن يركب معاهم، وفي الصيدليات والمطاعم والمخابز وعلى الكاونترات للموظفين والمحاسبين لا يجوز التواصل معاهم مهما كان الظرف إلا من خلال الحاجة وبحذر شديد وبأقل الدرجات.

**تسويق فكرة التباعد وفرضه بإخلاء كرسي بين كل كرسيين,  في المكاتب وأماكن جلوس الانتظار في الدوائر والمستشفيات والطائرات والباصات، والمساجد متر واحد بين كل مصلي ومصلي,

************************************

 

 

 

 

 

 

 

 

(1)

الزوج (نعيم) وزوجته (أم بدر)، وجارتهم (أم زاهر) صاحبة الشقة التي استغاثت من الفأرة

ذاكرة الإنسان مُؤتَمنة على الحوادث:

ما الذي يجعل المرء يُفرِّق بين نبرة الأصوات عند الإنسان بشكلٍ عامٍّ، رغم كثرتها، يبدو أنَّ ذاكرتنا تختزن كلَّ شيء ممَّا نحتاجه دومًا، وربَّما لا يكون له حاجة إلّا مرَّة واحدة في الحياة.

تسمَّر أمام التلفزيون على مدار ساعات بعصبيَّة غير طبيعيَّة. الرِّيموت كنترول بيده منذ الصَّباح منذ أن رفع رأسه مُعتدلًا جالسًا في فراشه،  أصابعه لم تهدأ حركتها وفق كبسات اِنْمحت أرقامها ذات اللَّون الأبيض، ليحلّ السّواد الأقرب بشكله للوسخ.

صراخ امرأة تستغيث على غير العادة، قادم من الشُقَّة المٌقابلة لشُقَّته في الطَّابق الأوّل من العمارة ذات الطَّوابق الأربعة، لم يتأنَّ أثناء قيامه؛ فتعثَّرت قدمه اليُسرى بطرف السجَّادة ذات اللَّون الخمريِّ العتيقة، لا يُعلَم على وجه التَّحديد من هو مالكها الأوَّل الذي اشتراها من معرض المدينة الكبير المُتخصِّص ببيع الأثاث والمفروشات.

 عندما تناهى صوت الاستغاثة إلى سمعي، حاولتُ جاهدًا اِسْتذكار رقم الدِّفاع المدنيِّ.. بعد مُحاولات سريعة حضَر في ذهني.. أكَّدتُ لنفسي: (911)، بعدما أيقنتُ أنَّه ليس (199). يا إلهي تشابُه الأرقام مُزعِج ومُحرِج في وقت لا خيار لنا فيه من التجريب..!!.

ترنَّح ولم يسقط أرضًا رغم اِنْزلاق رِجْله اليُمنى، ليختلَّ توازنه لكنَّه لم يقع، بل اِسْتطاع بمشيئة قادر تعديل قوامه. خرج حافيًا؛ ليُدركَ مصدر الصَّوت، ممَّا أنساه أن يضع رجله بأيِّ حذاء في العتبة خلف الباب.

بلا وعي اقتحم باب شقَّة جارته المُقابل، ضَرَب بشدَّة على الباب، هدأ صوت الاستغاثة، سمع صوت أقدام سريعة تضرب بلاط الممرِّ قادمة لفتح الباب. ما إن رأت وجهه حتَّى تنفَّست بعُمقٍ، وتستجلبُ الهواء بيديْها صوْب أنفها.

-        ما الذي حدث لكِ، سمعتُ صُراخكِ، لعلَّ الأمر خير..!!؟.

تُشير بيدها فقط للدَّاخل، عندما عجز لسانها عن الكلام، حاولت جاهدة إخراج الكلام، أخيرًا جلسَتْ على الصُّوفاية في الصَّالة قُبالته على الطَّرف الآخر منها. أعاد سؤاله للمرَّة الثانية:

- ما بكِ؟

بصعوبة بالغة نطقت كلمة:

-"فأرة".

- فقط فأرة..!!؟.

هزَّت رأسها إيجابًا، وجسدها ينتفض بارتعاش لم ينقطع:

-"نعم".

أطلقَ ضحكةً لم يُقدِّر مداها، ربَّما وصل رنينُها لشُقَّته، لا بل ليس ربَّما.. إنَّما مُؤكَّد بأنَّه غطَّى على صوت نشرات وتقارير الأخبار، التي ما زالت صادرة مُستمرَّة، ولا أحد يُتابعها، بينما زوجته تُحضِّر طعام الإفطار في المطبخ. بسُخرية ظاهرة بتهوينه للأمر السَّخيف.

لم تستطع تقدير حماسه الفاتر، لأنَّها لم تُفكِّر أصلًا بطريقة السَّاخرة، إلَّا في اليوم الثَّاني أثناء إعدادات التحضير لطبخة الغداء، وهي تُقشِّر حبَّات من البطاطا المُتوسِّطة الحجم، عندما استعادت تفاصيل اليوم السَّابق وما حصل، وكانت بحالة هادئة وفَّرت لها فُرصة تقييم ما حدث بدقَّة. اِبْتسمت لنفسها، ثُمَّ أطلقت ضحكتها مُدوِّيةً، لم يرَها أحدٌ ولا سمعها، فقط أحسَّت بارتداد صوتها إلى أُذُنيْها. أغلبُ الظنِّ: أنَّها سَخِرت من نفسها..!!.  

قال:

-        فأرة لا تستحقَّ كلَّ هذا الصُّراخ، والله..!! هَبَط قلبي. شعرتُ بوقوعه فوق بلاط الممرّ. على كُلٍّ الأمور بسيطة. أين هي الفأرة الآن؟.

- هُناك.

تُشير بيدها إلى غرفة النَّوم:

-رأيتُها دخلت تحت التّخت.

في غرفة نومها اِنْفرد وحده بخُصوصيَّتها، بعدما أغلق الباب لمنع الفأرة من الخروج إلى أماكن أخرى. بدايةً فإنَّ الفأرة هي من انتهكت حُرمة المكان بلا قصد مُؤكّد أرادت النّجاة بحياتها العزيزة عليها، وكسرت حاجز المهابة عندما فتحت مدخلًا مُبرّرًا ل"نعيم" لانتهاكه العَميق.

راح يتفحَّصُ الملابس الدَّاخليَّة المعلَّقة على العُلّاقة المُخصَّصة، انبهر بتعدُّد الألوان وتدرُّجاتها المُنتقاة بذوق أنثويٍّ رفيع، تحسَّسها بتمرير كفِّه عليها، مع إغماضة من عينيْه لشعور غامض اعتراه عرَضِيًّا بلا تخطيط مُسبَق، من غير المعلوم ما الذي كان يدور في خيالاته المُعتمة..!!.

ولا تخلو ساحة الغُرفة الصَّغيرة من بعض الملابس الخاصَّة جدًّا المَرْمِيَّة بلا اِنتظام؛ غَفِلت عنها في غمرة النُّعاس قبل النَّوم، ولم يكن بحسبانها أنَّها ستفتح على نفسها نافذة تَطفُّلٍ مع حدوث المُفاجأة غير السَّارَّة لها، ومُحاولات تلصُّصٍ لم تنته بقتل الفأرة.

 لم تجرؤ على الدُّخول إلى الغرفة لساعة كاملة، وقبل إعلان عجزه بعد رُبْع ساعة من بحثه في الأماكن المُحتَمَلة لاختبائها، وجدها فرصة ذهبيَّة له لفتح الخزانة، واطِّلاعه على جميع ملابسها المكويَّة المُعلَّقة بأناقة، وعطر البخُّور يفوحُ منها، بلا استئذان يتسلَّل، لا بل يُهاجم الأنف؛ ليستقرَّ ويُعشعش به لساعات، أربكته تَصوُّراته، وخيالاته المُنتشية، لم يعُد يُعنيه أمر الفأرة، وتراخت همَّته؛ فجلس على طرف التَّخت لدقائق تراوحت بين الثلاث والخمس، عندما استفاق من شروده في عوالم خاصَّة به وليدة اللَّحظة التَّاريخيَّة، التي لم يكُن  يحلُم بها أبدًا، ولا يُمكن أن يُدركها بتخطيط مُحكَمٍ فيما لو أراد ذلك. أخرجه من ذُهوله صوت امرأته أمّ بدر:

-        وينك يا نعيم الفطور جاهز؟.

من فوره قام مُلبِّيًا نداء زوجته، وقال:

-يا جارتنا أمر الفأرة بحاجة لمصيدة وطُعْمٍ، لاصطيادها، أو نضع لاصقًا على قطع من الكرتون ثلاث أو أربع، ونوزِّعها بأماكن مختلفة من الغُرفة، وسيتوجَّب عليك عدم فتح الباب، لتبقى في الدَّاخل.

- أخافُ إذا ما خرجْتَ؛ سأتركُ البيتَ وأهربُ.

- الأمر لا يستحقُّ كلَّ هذا الخوف، تفضَّلي للإفطار معنا.

- لا.. أشكركَ، ما بنفسي الأكل، اعتدتُ الأكلَ بعد الظُّهر لتأخُّر الأولاد في نومهم، ولا يَصْحون إلَّا مُتأخِّرين.

- عمومًا سأبحثُ لكِ في بيتنا عن اللّاصق الخاصِّ بالفئران، أذكرُ أنَّني اشتريتُ ثلاث لُصاقات خاصَّة جاهزة على شكل ظروف مُغلَقة جاهزة؛ فقد استخدمنا اثنتين منها، وبقي واحد، أتمنَّى أن أجده.

"أمُّ زاهر" لم تستوعب ما حصل، وبعد مرور نصف ساعة على اِسْتغاثتها، الصّدمة كبَّلت جميع قواها العقليَّة والجسديَّة؛ لتجدَ نفسها عاجزةً عن التَّفكير بأيِّ شيء لتغيير الموقف.

أغلقتِ الباب خلف جارها "نعيم". رجعت للجُلوس في الصالة، لتُفاجأ برنين جرس الباب. قامت؛ لتجد ابن جارتهم يدعوها لتناول الإفطار معهم:

-ماما جهَّزت الإفطار.. ها نحن ننتظرُكِ.

-أشكركَ حبيبي، اِذْهب، وسألحقُ بكَ حالًا لن أتأخَّرَ.

دخلتْ للاطمئنان على هندامها بإعادة ترتيبه كما يليق بها، فكَّرت بنفسها: - كيف لي قبول دعوة الصَّبيِّ، وقبل قليل رفضتُ دعوة والده،  خَوْفي من أن تأخذ على خاطرها "أمّ بدر"، وهي فرصة لتبديد توتُّري، ولتستريح أعصابي قليلًا، وسأعتذر عن تناول أيِّ شيءٍ إلَّا كأس شاي فقط.

عادة فإنَّ حدسي لم يُكذِّبْني من قبلُ، بلا شَكٍّ كان شُعورًا مُخيفًا بعد صحوة؛ أُحِسُّ بِعَيْنيِّ (أبو بدر) تتلصَّصان. من فورها قامت تتفقَّد السَّتائر التي لم تُفتح أصلًا، ولم تُمسَّ منذ البارحة، ثمَّ توجَّهت إلى سلَّة الغسيل البلاستيكيَّة الحمراء في زاوية خلف الباب؛ لتحشرَ جميع ملابسها فيها؛ عندما قرَّرت غسلها مرّتين مُتتاليتيْن لمحْوِ نظراته.

وكأنَّها تعتقد بأنَّه خبّأ وجهه خلف قطعة شفَّافة؛ لتبقى نافذةً لِعَيْنيْه يرى منها. وقالت لنفسها: كأنَّهما تُوخِزان قلبي بجريمة اقترفتُها عندما استولى الخوف عليّ، وصرختُ.

"أمُّ بدر" كأنَّها أوقفت، أو منعت أيدي أفراد عائلتها المُتحلِّقين حول المائدة، بتناول أيَّة لُقمة قبل حُضوري. أرسلت ابنها ثانية؛ ليستعجلني. تناقضاتٌ وليدةُ اللَّحظة شوّشَتْ رُؤيتي، بالوقوف أمام خيارَيْن أحلاهما مُرٍّ. إمَّا التَّحامُل على نفسي بمخالفة قَناعاتي، أو التضحية بعلاقة الجوار الذي تربطني بها.. الحيْرة قاتلة.. مع ذلك. سأجيبها

..*.. 

 

 

 

 

(2)

داخل كلَّ إنسان روائح  مُختزَنة، تفوح في وقتها المُناسب.

أليس من العجيب التَّمييز بين رائحة وأخرى..!!، رغم كثرتها ولا تُحصى في الطبيعة والاستخدامات.

اِنْهالت الأفكار توارُدًا على مُخيَّلتي باِزْدحام عجيب، كأنَّها عَجْقَة سيْر في مدينة مُكتظَّة بحركة السيَّارات على مُفترقات الشَّوارع الرَّئيسة، لدرجة أنَّني لم أستطع تحديد أوْلويَّاتي، أو مُخالفة قناعتي بالمجيء لتلبية دعوتها.

لا أدري.. لماذا الخوف مزروع فينا عُمومًا من الآخرين..!!؟.، وحرصنا الشَّديد على رِضاهم، أستغفرُ الله؛ فكثيرًا ما تكون هذه العلاقات لا تُرضي الله أبدًا.

رائحة اِخْتفت من عالمي منذ عشرين عامًا، عَبَقُها القويُّ ما زال عالقًا بأنفي منذ قبل زواجي أيَّام المدرسة.

أتعجَّبُ..!! كيف استطاعت الاِنْسلال من أكوام هائلة تتصارع في مُقدِّمة رأسي.

أذكُر جيِّدًا. قبل خُروجي من البيت، أنَّني ضغطَّتُ على عصَّارة علبة "الهايجين"، رائحتها النفَّاذة لم تُثِر شيئًا فيَّ، ولم أُعِرْهَا أدنى درجة من الاِهْتمام، إلَّا عندما وقعَتْ عيناي على مثيلة العُلبة والمُشابهة لتلك، رائحة أمقُتُها من صميم قلبي، مع ذلك مُجبَرة على اِسْتخدامها، وقاية وخوف ملامسة الأشياء واِنْتقال عدوى "الكورونا".

مُتابعتي للبرامج المُباشرة على القنوات المحليَّة والعربيَّة، سبَّبتْ لي قَلقًا وتوتُّرًا مُضاعفًا،  مُضافًا لمتابعتي أمور الأولاد الحثيثة، وأحيانًا بإجبارهم وبحزمٍ على اِسْتخدام "الهايجين" عند كلِّ خُروجٍ لهم من الحمَّام، وقبل وبعد الطَّعام عند غسل أيديهم.

لا أتوقَّفُ عند تأفُّفهم وقرَفهم من رائحته الشَّبيهة. بطلاء الأظافر "المانكيير" الذي كان ممنوعًا علينا أثناء الدوام.

صُراخ "أمُّ بدر" الطَّارئ على ابنها الصَّغير، لأنَّه دَلَق كأسه، وكأس أخيه الجالس بجانبه.

يا إلهي..!! حالة التَّشابُه بحركاتهم مثل أولادي، يبدو أنَّ الفئات العُمْريَّة في حياة البني آدم  لها مُعطياتها، السُّلوكيَّة حدَّ التَّطابُّق، لم أكُن أعتقدُ كثيرًا بمقولات علماء النَّفس والتربية، التي قرأتها خلال منهاج الدِّراسة الجامعيَّة بتخصُّص التربية.

عقلي وقتها لم يكُن قادرًا على اِسْتيعاب هذه النُّقطة بالذَّات، كنتُ واقعة تحت تأثير فكرة: أنَّ ما قيل من في هذا المجال، وعلى الأخصِّ من عُلماء الشَّرق والغرب، ينطبق على مُجتمعاتهم فقط، ولا ينطبق على مُجتمعنا العربيِّ في المُدُن والأرياف.

لم أُدرِك وقتها السِّيكولوجيَّة البشريَّة العميقة التي أشبعوها تحليلًا وتمحيصًا، ولولا أنَّني كنتُ مُطالَبَةً بحفظها من أجل النَّجاح، لما أتعبتُ دماغي في قراءتها بدقَّة وبُطء كانا بغيضيْن إلى نفسي، مع ذلك نِلتُ المُعدَّل الأعلى في دُفعتي من الزُّملاء الأقلُّ عدَدًا من الزَّميلات، اللَّائي كنُّ يِشكِّلنَ أكثر من سبعين بالمئة من طلَّاب الكُليَّة.

خمدت حِدَّة حركات الأولاد؛ خَوْفًا من أمِّهم بعد إسكاتهم بالتهديد؛ لم أسمع إلَّا صَوْت  اِرْتشاف الشِّفاه للشَّاي، وصوت المَضْغ بأخفَض قليلًا. عَيْنِي ما زالت مُركَّزة على مُذيعة التلفزيون الأنيقة، وتسريحتها الفريدة بجمال تنضيدها.

عندما وضعتُ رأس "أم بدر" بشعرها المنكوش غير المُرتَّب كما يجب عادة، ليس للمقارنة، إنَّما اللَّحظة القاتلة جاءت بي، وهذه أوَّل مرَّة ألاحظُ كَثْرة الشَّيْب عندها، يبدو أنَّ زيارتي غير طبيعيَّة في ظرف اِسْتثنائيٍّ.

قاتل الله ذاك اليوم، الذي بدأنا فيه باستخدام "الهايجين" و"الكمَّامات" قبل شهر، ورائحة "الأسيتون" المخزونة في ذاكرتي، لا من أجل شيء، إلَّا من استقدام أيَّام كُنَّا؛ أيْ أنَّ مُعظم البنات الأصغر والأكبر، نستغلُّ أوقات العُطَل الأُسبوعيَّة، والمُناسبات الرَّسميَّة؛ لتلوين أظافرنا بالأحمر القانئ المُفضَّل، في الأرياف لم تكُن تصلنا باقي الألوان التي ظهرت فيما بعد، بل لم تكُن مرغوبة كثيرًا؛ فكانت مُعظم محلّاَت بيع الإكسسوارات  تُركِّز على الأحمر بأطيافه المُتقاربة.

ليلةُ السَّبتِ، وقبل إقرار السَّبت ضمن العُطلة الأُسبوعيَّة بسنوات، كُنَّا نشتغلُ ساعات طويلة بتنظيف أظافرنا من "المانكيير" بمادَّة "الأسيتون" برائحتَّها النَّفاذة، كأنَّما هي قريبة من مادَّة "البنزين"، تأفُّف أمِّي -رحمها الله- من تعشيش الرَّائحة غير المُحبَّبة لها لساعات في الغرفة.

وقتها لم أكُن أشعُرُ بالغثيان الذي كانت تُعانيه، لكنَّها تكتمُ غيظها من أجل راحتي، فَطِنْتُ مُؤخَّرًا للأمر، وبعد سنوات طويلة؛ عندما صار عندي أولاد، وكَبُروا قليلًا.

ما إن وَطِئَت قَدَمي اليُمنى عتبة بيت جارتي "أم بدر"، حتَّى سبقت رائحة "الأسيتون" إِذْنَها لي بالدُّخول بعد أن قرعتُ الجرس. من حُسن حَظِّي أنَّني وجدتُ كُرسيًّا بلاستيكيًّا فارغًا في عتبة الصَّالة.

جلستُ أطالعُ ظهره المُنحني على السُّفرة، الشَّبيه بنزلة "الرِّينبو" في عمَّان، ولن أتردَّدَ بالاِنْزلاق عليه مرّات، لأروي نَهَم الطُّفولة من جديد في نفسي؛ فلو كان كما تخيَّلْتُه "الزُّحْلَيْقة" الآلة التي يتزحلق عليها الأطفال في الحدائق وأماكن النُّزهات.

لاحظتُ حركات أُذنيْه؛ تستجيبان لحركة المَضْغ الدَّائمة بين فَكَّيْه، سُرعة هُبوطهما وصُعودهما؛ ذكَّرتني بشبكة "رادار" بلدة "النُّعيْمة"، الواقعة قبل وُصُولنا إلى مدينة "درعا" من جهة الشَّرق بأربعة أو خمسة كيلومترات على أكثر تعديل.

كان يستحوِذُ شَغَفَنا قبل قُدومنا، ووصولنا للنُّقطة التي تُتيح لنا معاينة حركته المُنتظمة الدَّؤوبة بلا توقُّف. للأسف فإنَّ أُذنيْ "نعيم" غير مشغولتيْنِ بشيء ذي قيمة. أفتقد التَّركيز لهذا التَّشبيه الذي أخذني خيالي إليه.

وهل كان ذاك "الرَّادار" مصدر اِرْتياحٍ لقُلوبِ النَّاس عُمومًا، وطُمأنينة لنُفوسهم؛ كُنَّا نفتخر به لحماية أجوائنا من الطَّيران الإسرائيليِّ المُعادي، ولا يغيب هذا عن الألسنة في الأحاديث العامَّة والخاصَّة.

من غير المُمكن أنَّه(هو وأُذُنيْه) اجتمعا في ذهني على لا شيء، وهذا مُستبعَدٌ على الإطلاق؛ فكلُّ سبَبٍ مُتربطٌ بمُسبِّبٍ، وحديث النَّفس مهما علا أو هَبَط، أو توغَّل في تَفَحُّشِهِ؛ لن نُحاسَبَ عليه ما دام حَبِيسَ صُدُورنا في حيِّز التفكير؛ فَلأذرع ساحات الشُّكوك والظُّنون جيئة وذهابًا بِحُريَّة تامَّة. يبدو أنَّ تشابههما -(هو وأذنيْه)- بالحركات الفارغة غير ذات الجدوى لا غير.

يا إلهي..!! كيف ظهرت هذه الرّائحة بعد اِخْتفائها مُدَّة طويلة. هل يُعقل أنَّ "أم بدر" اِسْتخدمتِ "الأسيتون" لإزالة  طلاء "المانكيير" عن أظافرها؟.

على الطَّاولة الصَّغيرة بجانب شاشة التلفزيون علبة "الهايجين" مليئة، كأنَّها جديدة لم تُستعمَل من قبل. بعد إفساحها مكانًا؛ لأجلس بجانبها على المائدة. اِعْتذرتُ بشدَّة عن تناول أيِّ شيءٍ سوى كأس من الشَّاي.

تَملْمَلَ الأولاد لِيَتَواسَعُوا في جلستهم على راحتهم؛ لِيَنفكُّوا من ضَغْطهم المُتقارب، ممَّا يجعل أيديهم تتشابك، أو تتصادم، وهي تحمل كاسات الشَّاي المُبرَّد سَلَفًا.

وسأتعجَّل بِشُرْب كأسي، وأُغادر قبل اِنْتهائهم من الطَّعام؛ لأتفادى نظرات "نعيم" الزَّائغة حسب تغليب ظنِّي بذلك، لا بل المُؤكَّدة.

كيف لي أن أزيلها من ملابسي، حتَّى لو غسلتُهنَّ سَبْعًا، وإحداهُنَّ بالتُّراب. فضلًا عن المرَّتيْن المُقرَّرتيْن بِذهني.

قامت من جلستها لتُقدِّم لي كأس الشَّاي. قبل أن تمتدَّ يدها لي لمناولتي، ضغطت على عصَّارة "الهايجين"، ومسحت ظاهر كفَّيْها وباطنهما إلى الرُّسُغَيْن؛ كي تُعقِّمهما من أثر الطَّعام. قبل صبِّ الشَّاي من الإبريق، وتُقدِّمه لي.  

أظنُّها بالغت في الاِحْتياطات لِطَمْأنتي؛ فاحت من جديدة رائحة "الهايجين". يا لقلب أمِّي الرَّحيم بي يوم كُنتُ، وكانت تتأفَّفُ من فظاعة نفس هذه الرّائحة -"الأسيتون"- بِصَمْتٍ، وهو يقتحم أنفها بفجاجة، ورِئَتيْها بلا رحمة. فقلت لها:

-       ظننتُ أنَّها رائحة "الأسيتون"..!! يا "أم بدر"

-       لا والله يا "أمَّ زاهر" غشَّشني الحجم العائليّ لهذه الماركة، وكان ضمن قائمة العُروض الترويجيِّة في "المول" الشَّهْريَّة. كما تعلمين؛ فإنَّ إعلانهم يتزامن في كلِّ مرَّة مع استلام رواتب المُوظَّفين. العُبوة السَّابقة كانت برائحة اللَّيمون، رائحتها ألطف من هذه.

كالموسيقى كلماتُ "أمّ زاهر" تقع على سمعه مُنغَّمةً بِرَنين رغبةٍ مكبوتةٍ، كأزيز مِرْجَلٍ بدرجة الغليان في داخله. يستطيبُ العزف. يتمنَّى لو يستمرّ ولا ينقطع.

دائمًا ما يكون الشَّيطان هو البادئ.. هذه المرَّة سأُبادِئ ُ بِرَمْي صنَّارَتي في بَحْرها الواسع.. أشكُّ أن يعلَقَ بها شيء.. وأشكُّ أن لا تَصْطاد أبدًا.. وأشكُّ أن لا تعلقَ هي.. وأشك أنَّني غير عالقٍ.. بل غارق إلى ما فوق أُذُنيَّ.

على الشَّيْطان أن يستمع لحديثي، ويُصْغي باِهْتمام.. سأنتقلُ إلى مقام الأستاذ.

لأتخلَّص من التَّلْمذة العالقة بي منذ بدايات حياتي. أخذتُ هذه النُّقطة اِقْتباسًا من الأستاذ "جودت" جارنا في الطَّابق الأرضيِّ، ولا أنفي إعجابي الشَّديد بخبراته العريقة في شتَّى مجالات الحياة.

فليذهب وجه زوجتي إلى الجحيم، عندما حرَّكتِ المرآة باتجاه آخر. حَرَمِتني -الله يحرمها من ريحة الجنَّة- من تأمُّلاتي القصيرة لوجه "أمّ زاهر" الصَّبوح الجالب للخير، لا وجه للمقارنة بين وجهها النِّكَدِيِّ.

سأدفعُ نصف عمري، لو اِستطعتُ معرفة ما كان يدور في رأسها، وهي تتأمَّل ظَهْري، وماذا لو كُنَّا نتشاركُ أمنيةَ اللِّقاء اللّذيذ؟. لا أشكُّ أبدًا أنَّها اللَّحظة الذهبيَّة في حياتي على الإطلاق..!! وسأشرب الشَّاي من سُرَّتها ما دُمتُ حيًّا. لا يُمكنه التَّعبير الحُرّ إلَّا فيما بينه وبين نفسه. ظاهره مُنهمِكٌ بمضغٍ الطَّعام، وزوجته تُحاول قراءة ملامحه على المنحى المُختلف عن المألوف، شكوكها به على حدِّ زعمها، حتَّى وهما غارقان في الأحضان.

وَجْهًا لوَجْهٍ معها، بقصدٍ أن لا يتحوَّل بوجهه للخلف، خوفًا من إثارة أدنى درجة للشكِّ عند "أم بدر". 

لا تخيبُ نظراتُها في اِسْتقراء ملامح وجهه الغامضة في اللَّحظة القاتلة؛ فتستطيعُ فكَّ الرُّموز فيما لو أرادت، أو أحسَّتْ بشيء غير طبيعيٍّ.

ليتَ كَأْسَكِ يا "أمَّ زاهر" تنبع ولا تنتهي. حَيْرتي تنهشُني، آآآه.. لو اِسْتطعتُ معرفة لون لباسها الدَّاخليِّ، لكنتُ عرفتُ تلكَ التَّفاصيل الخفيَّة، حتَّى ولو كنتُ أنظرُ إليها من ثقب الفأرة الذي دخلت منه.

كأنَّما رقبته تشنَّجت. خاف من ألمها، إذا ما اِسْتدار؛ لرؤية قَفَاها عندما خرجت، قَرْعُ خُطُواتها بخفَّة وَطْأَتِها الطَّاوُوسيَّة؛ كأنَّها تتبختر في مِشْيتها  في قلبي.

"أم بدر" قامت لتوديع جارتها. قدماها قادتاها إلى المطبخ لمُتابعة العمل. ثارت هواجسها الهاجعة في تقييم ما حصل خلال السَّاعة الماضية:

-       يا لعقول الثَّعالب المٌندسَّة في رؤوس الرِّجال. ضاعت منِّي العُقدة الماسكة ُ للحدث، لن تمرَّ الأمورُ هكذا بسلام، سأتابعُ كشف الخبايا بهدوء تامٍّ، وبنَفَسٍ بطيء. لم أعرف شيئًا عن قصَّة الفأرة، وهل هي بالفعل حقيقيَّة، أمْ أنَّ الموضوع مُفتَعَلٌ من الأساس؟، للقاء جرى بينهما في وضح النَّهار، وتحت أعيُن، وعلى مَسمَعٍ من الجميع. سأتحرَّى بطريقتي وعلى طريقتي.

تُحاول "أم زاهر" التهرُّب والفرار من عينيِّ اللَّاصقتيْن بها كما تعتقدُ، ذهبَتْ بعيدًا في اِسْتِدْرار ذاكرتها، وسأهربُ من نفسي للنَّجاة، لا.. لا ليس كذلك، إنَّما لأتناسى الورطة التي وقعتُ فيها؛ إلى ما حدث مع أخي الأكبر أثناء عودته من "درعا" بعد انتهاء دوامه من الوظيفة: كان رجل وامرأة من السُّيَّاح الأجانب يجلسان في الكُرسيِّ الذي أمامه، تباطأت سُرعة باص "الفِيَات"، مُحرِّكه يئنِّ من الحمل الثَّقيل، المُتآلف مع الصُّعود الحادِّ، وخيط الدُّخان الأسود خلفه مصحوبًا برائحة الدِّيزل غير مُكتمل الاِحْتراق. كأنَّه يشدُّ الباص للخلف بقصد إيقافه.

أخرج الأجنبيُّ كاميراته، وقام بتوجيهها صوْب الرَّادار؛ لاِلْتقاط صُوَرٍ للموقع العسكريِّ، اِمْتدَّت يدُ أخي؛ لتُشكِّل حائلًا بين العدسة والموقع، وليؤُشِّر للأجنبيِّ بيده، في قمَّة اِنفعاله، لم يستحضر من اللُّغة الإنجليزيَّة سوى كلمة: "NO" صورة، "NO" تصوير.

بعد سنوات كلَّما تذكَّر الحادثة، يُبدي أشدَّ النَّدم كيف فاتته الفطنة وقتها، بتسليم الأجنبيِّ إلى الشُّرطة؛ لتتَّخذ بحقِّه الإجراءات اللازمة، ويعتقد جازمًا: "أنَّ كُلَّ السُيَّاح هُمْ جواسيس"، ولم يستطع أحدٌ إثناءه عن اِعْتقاده، أو التراجُع عن فكرته. رَحمكِ الله يا أُمِّي.. و يا أخي. بمنديلها تُجفِّفُ عَينيْها بِحَذرٍ من تَسْويد مُحيطهما بأثر الكُّحْل.

 

..*..

 

 

 

 

 

 

 

 

(3)

هايجين

نعيم أبو بدر، مع الأستاذ جودت مدرس اللغة العربية، في حديث أثناء لقاء في شقة الأستاذ في الدَّور الأرضيّ

   -"الهلع يفرض شروطه بقوَّة، لا يتوقَّف اِحترامًا للمخاوف، بلا اِستئذانٍ يقتحمُ السَّاحات؛ فإنْ اِسْتطاع دوام الاِسْتيطان في غياب التَّفاؤل؛ فلن يتردَّدَ لحظةً واحدةً".

هذا ما كان يُردِّده جارنا القاطن في الدَّوْر الأرضيِّ، المُدرِّس السَّابق للغة العربيَّة هناكَ في البلد، قبل لجوئنا إلى الأُردنِّ.

الأستاذ جودت خمسينيٌّ بل بزيادة خمس سنين فوقها كما تحكي ملامحه، إذا صدَقَتْ دِقَّة ظُنوني أنَّنا متقاربان بأعمارنا ومن نفس الجيل، رغم أنَّني لم أسأله، ولم تُحدِّثني نفسي بذلك، لأنَّ يقينًا داخليٌّ. يقول لي: أنَّنا من نفس دورة البكالوريا لعام 1985.

هو من قرية بعيدة عن قريتي، لم يكُن لنا شرف التعارف إلَّا هُنا، جمعتنا الغُربة في هذه العمارة. العيش فيها مختلف عن أسلوب حياة الفلَّاحين هنا وهناك في الأرياف ميِّزتُها البُيوت المُستقلَّة.

إشعار رسالة تطبيق "الواتساب" من زوجتي؛ أشغلني عن مُتابعة حديثي مع الأستاذ  للحظات.

بينما هو قام إلى الحمَّام، وتركَ فُنجان قهوته، ولفَّ خُرطوم الأركيلة (النارجيلة) الأحمر على جسمها النُّحاسيِّ الأصفر، ليُصبح كَزِنَّارٍ يُخصِّر أوساط الفتيات يعتصرهنَّ بشدَّة:

-       "أين أنتَ يا نعيم؟".

-       جالس مع الأستاذ جودت، هل تريدين شيئًا؟.

-       "لا.. لا فقط لأطمئنَّ عنكَ".

عاد، والمِنْشفة بيده يُجفِّفُ وجهه ويديْه، وراء الباب علَّاقة ملابس بِلَوْنِها الذَّهبيِّ مُثبَّتة على الجدار، علَّق عليها المنشفة. أرى شَفَتيْه تتحرَّكان بِتَمْتاتٍ، لم أتبيَّن ما يقول بدقَّة، على ما أظنُّ: أنَّه يستغفر، ويدعو بعد الوُضوء، ما زالت بقايا رُطوبة تُبلِّلُ قدَميْه لم يكترث لتنشيفهما.

وقف أمام النَّافذة المُطلَّة على الشَّارع، صوتُ سيَّارة إسعاف مُسرعة بصفيرها الذي يُصِمُّ الآذان. مسموع لمسافات، بعد أن قطعت شارعنا إلى الحارة المُجاورة. أقول له، ولا أعرف على وجه اليقين. هل سمعَ ما قلتُ، أمْ أنَّ ذِهْنه كانَ مشغولًا بشيءٍ ما.

آهٍ..! لو أوتيتُ قُدرةً التشكُّلِ والتخفِّي؛ لحاولتُ الدُّخول إلى دماغه لمعرفة رأيه فيما قلتُ، وأتحرَّجُ من سُؤالي له عمَّا يشغلُ تفكيره هذه اللَّحظة. رفعتُ وتيرةَ صوْتي قليلًا أكثر من المُتعارَف عليه:

-آسف أستاذ "جودت" على مُقاطعتكَ قبل ذهابكَ إلى الحمَّام. لعنةُ الهواتف مُقْلِقة، لا أدري كيف كنَّا نعيشُ قبل هذه الفترة بلا هواتف نقَّالة. كنَّا سُعداء.. ألا تذكُر..!!، ونحن نتجاذب أطراف الأحاديث  المختلفة في سهراتنا، ومجالسنا، بينما اليَوْم اِسْتحوذَت علينا؛ فجعلتنا مُدْمِنين عليها، لا نستطيع الاستغناء عنها للحظة واحدة.

أطلق الأستاذ ضحكة دَوَّى صَدَاها بأرجاء شُقَّته، وضرب كفًّا بكفٍّ، قبل أن يستعيدَ خُرطوم الأركيلة، وقال بِلُغةٍ مليئةٍ بالأسَى:

-رَحِم الله أيَّامًا..!! غَدَت ذكرياتٍ؛ تتآكلُ شيئًا فشيئًا مع تقدُّمنا بسنوات تنطفئ فيها شُموع أعمارنا، ولا تكتفي إلَّا بتحريق قُلوبنا باستمرار، وعلى مدار السَّاعة يا "أبا بدر"، وتقضُّ مضاجع راحتنا، على الأقلِّ كنَّا نَنْعمُ بالهدوء. ننامُ ونصحو وأعصابنا مرتاحة، ذكرى أيَّامنا توجعُ قلبي، كلَّما عَنَّ منها شيءٌ منها على بالي.

صوت قرقرة الأركيلة حلَّ مكان صوت الأستاذ، سَكَتَ؛ ليسحب نفَسًا عميقًا. مع بدء كلامه انطلقت سُحُب دخَّان المُعسَّل، هذه الرَّائحة جاذبة لي، لا أَمَلُّ من تشمُّمِها بعمق طوال الوقت، وأتمنَّى لو أنَّني كنتُ أدخَّنها، يقولون:

-"أنَّ الأركيلة أرحم من تدخين السَّجائر".

كلام بكلام لم تثبُت صحَّته، كونه لم يصدُر عن جهة علميَّة أو صحيَّة. كلُّها تنفي أيَّة فائدة تُذكر لجميع أنواع الدُّخَّان.

تنحنح الأُستاذ بشدَّة، كأنَّما ليُزيح لُزوجة البلغم من حُنجرته، وتابع، وأنا أستمعُ له بكلِّ جوارحي، مُنصِتًا بِشَغفٍ لِسَبْر ما تَيسَّر من حياته ممَّا سيحكيه لي.

كنتُ أظنُّ تماسكه الصَّلب، حتَّى ونحن في ظرف الحَظْر الطَّارئ، لمستُ هشاشته من خلال حديثه، كأنَّما يستخرجُ هَشاشَتي لينثرها بين يديَّ:

-حَيْرتي طالَتْ التشكُّك في كلِّ شيْءٍ حوْلي يا "أبا بدرٍ". الكتاب يسقط من يدي، أترُكُه وأسعى من فوري لغسل يديَّ لمدَّة عشرين ثانية، بُرودة الماء تُرعِش دواخلي اِهْتزازًا.

والله يا أستاذ إنَّ عُلَب سائل (الهايجين) في أكثر من مكان في البيت عند المدخل، وعلى الطاولة بجانب التلفزيون، وقبل وجبات الأكل أعتصرها؛ لتعقيم الأيدي قبل البدء بتناول أوَّل لقمة، وبعد الاِنْتهاء من الطَّعام.

"هايجين" كلمة جديدة على قامُوسي، تداولتها الألسن مُؤخَّرًا بشكلٍ مُفاجئٍ، لم أسمع بها من قبل.

سألتُ أبنائي للتأكُّد من نُطق الكلمة على وجهها الصَّحيح، حتَّى إذا اِضْطررتُ لِلتلفُّظ بها أمام أحد؛ لأدرأ عن نفسي سُخريته منِّي، ولو كان ذلك في سرِّه لا أُطيق ذلك، وإنْ لم يكن ليُظهره إلَّا في غيابي بعد اِفْتراقنا. أو سيتندَّر عليَّ أمام أصدقائه بما شاءَ له ذهنُه من تزييد للموقف؛ لاِسْتدرار ضحكاتهم. يستهلكون الضَّحِك مجَّانًا على حسابي.

كنتُ قبل ذلك أُصاب بالصُّداع عند رُجوعي للبيْت، من رائحة أرجُل الأولاد بعد عودتهم من المدارس؛ فألجأُ لاِسْتخدام صلاحيَّاتي بإصدار أمرٍ فوريٍّ وقسريٍّ، بتوجُّههم إلى الغسيل بالصَّابون.

تذمُّرٌ، واِحْتجاجٌ غير معقول يكون منهم، يرفعون أرجلهم إلى أُنُوفهم يتشمَّمُونها مع جواربهم؛ فكلٌّ منهم يسعى لِنَفي التُّهمة عن نفسه، ودِرْءًا لقمع الرَّائحة الكريهة على الجميع القيام بعمليَّة الغسيل تحت إشرافي مُباشرة، وأنا أقفُ فوْق رُؤوسهم. للتأكُّد.

في الصَّيف أو غيره؛ أُجُبَر على اِسْتنشاق روائح تعلُق في أنفي، كما روائح زرائب الماعز أو الغنم والبقر والحمير، أهمُّ مكان في بيوت الفلّاَحين أيَّام زمان؛ فحياتهم كانت مُرتبطةً بهذه الحيوانات، بينما أنا حياتي مُرتبطة بعملي في المدرسة.

-"يا إلهي..!! منذ متى، وهذا الرَّجل لم يستحمّ". الأستاذ يُغمغم بكلمات التقطتُ فحواها، مع تقطيب جبينه أشعرني بقرفه من سيرة، ثمَّ قال بنبرة غير التي كانت قبل قليل:

-"شيء مُخجِلٌ يا "أبا بدر" رغم كلّ إرشادات المُعلِّمين النَّظافة في المدارس، ووسائل الإعلام المسموعة والمقروءة بتركيز شديد، من المُفتَرَض أن تُصبح النَّظافة جزء أساسي لا يتجزَّأ من حياة النَّاس جميعًا بلا استثناء، مثلها مثل الفاتحة التي لا تجوز الصَّلاة إلَّا بها، ما زال هناك فاصلٌ كبير بين الإرشادات والتَّطبيق العمليِّ، ومن غير المعقول أن تضع فوق رأس كلِّ مُواطن شرطيّ؛ للتأكُّد من نظافتهم".   

ذكَّرني كلامه هذا؛ بيوم ذهابنا لتجديد ورقة المُفوضيَّة. هُناك في الخيْمة الكبيرة المُكتظَّة بانتظارنا، بجُموعنا المحشورة على مقاعد خشبيَّة صَلْدة. أصوات الأولاد يعلو على أصوات أمَّهاتهم المُتجاورات على المقاعد، الألْسُن لا تهدأ أبدًا، ولو اِهْتممتُ باستجماع ما يصلُ إليَّ من فائض الكلام المُتناثر من حَوْلي، أستطيعُ حصر مواضيعه بالضَّبط، وجميعها تتركَّز على مواضيع المعيشة:

الكوبونات، وبصمة العيْن، ومساعدات اليونيسف لبعض العائلات، والعائلات المحرومة منها، والكشف الدَّوْري كلَّ سنة من فِرَق التَّقييم التي تقوم بزيارات للبيوت، ومُعاينة أحوال اللَّاجئين عُمومًا، وعن انتظار مقابلات إعادة التوطين في الدُّول الأجنبيَّة.

أعود بعد شرودي إلى كلام الأستاذ:

-تداعيات أفكار تنتابني مُستحوذةً على قَرَفي من الموقف المُخجِل من الزَّبُون، الذي دخل ليشتري باكيت دُخَّان من البقَّالة، التي كنتُ أعملُ فيها قبل فترة الحظر الشَّامل.

أُعزِّي نفسي بما تناقلته كُتُب التَّاريخ عن الأوربيِّين؛ حين وصل المُهاجرون منهم الأوائل إلى أمريكا على متن سفينة (المايفلاور)، أوائل القرن الـ17، كانوا يتميَّزون برائحتهم الخاصَّة، ولم يكن هؤلاء الأوروبيُّون يَستحمُّون بانتظام.

أفقتُ على دهشتي من موقف قرأته منذ زمان في مجلَّة طبيبكَ الشهريَّة:

"إنَّ الملك لويس الـرَّابع عشر، ملك فرنسا خلال القرن الـ17، لم يستحم سوى ثلاث مرَّات في حياته بالكامل".

   أغلبُ ظنِّي يا أُستاذ، وإنَّ كثيرًا من الظنِّ ليس بإثمٍ:

-"أنّها كانت بناء على نصيحة الطَّبيب لعلاج تشنُّجاتٍ ألمَّت به، وليس من أجل نظافته الشخصيَّة."

اِبْتسمَ الأستاذ، ولم يُشعرني بضجره من مُقاطعتي لحديثه. يبدو أنَّه اِسْتحْسَن تعقيبي. وتابع:

- في المُقابل ذكر الطَّبيب (غسَّان حتاحت) صاحب المقال: "أنَّ العروس في دمشق كانت تذهب مع النِّساء إلى الحمَّام العامِّ في السُّوق، ومن كثرة الفَرْك والتَّدليك؛ يتخرَّش جلدها؛ فكان بعضهنَّ تأتيها الحرارة، والحُمَّى من اِلْتهاب جلدها المسحوج، والمُتخرِّش.

فالاعتقاد السَّائد وقتها، أنَّ هناكَ ممَّن كُنَّ في الحمَّام عليها الدَّورة الشَّهريَّة؛ فكان لا بدَّ من العلاج بالبخُّور والأعشاب والرُّقية والحُجُب، خوفًا من أن يتلبَّسها الجنِّ ".

اِبْتعدتُ كثيرًا.. كدتُ أنْسى قِصَّتي مع الهايجين، قبل فرض الحظر على خروجنا، كلَّما عُدتُ إلى البيت، تزْكُمُني رائحةُ المشافي اِسْتقرَّت فيه، تشابهت الرَّّوائح عليَّ كما تشابه البقر على بني إسرائيل. منقوع الخضار بالماء والملح الخلِّ، رائحة "الكلوروكس" في الحمَّامات.

ضاعت من ذاكرتي رائحة عطري "الجاكومو" النَّاعم المُفضَّل، والـ"ون مان شو"، اِسْتوطنت حاسَّة شمِّي الرَّوائح الطَّارئة علينا بفجاجة، اِحْتملتُها على مَضَض مُكْرَهًا، لا خيار آخر أميلُ إليه فرارًا من الوضع.

   اِسْتسلمتُ للأمر بلا احتجاج، ولا تأفُّف.

قَهرٌ داخليٌّ أصابني بالمَغْص الدَّائم، والتشنُّجات المعويَّة، وشعوري بأنَّ حاسَّة شمِّي تَلِفَتْ، ولن أنعم بها ثانية. واصلتُ العزف على أُمْنِيتي باِنْتهاء الحظر عمَّا قريب، وعودة الحياة إلى طبيعتها، كما هي أُمْنيات النَّاس جميعًا.

 لكنَّ فَرْحتي العظيمة، بتعلُّم كلمةٍ أجنبيَّةٍ جديدةْ؛ أُردّدها في حِوَاراتي مع أصدقائي ومعارفي، أتفاخر بلفظة كلمة غريبة أضفتها على قاموسي، تعرّفتُها من أبنائي لضرورتها في الوقت الحالي.

 

لاستكمال المشهد ببعض الرُّتوشات حول بعض قضايا لاستكمال جلستهما، بعدما طلبت زوجة نعيم منه الحضور للبيت لأمر مهم.

..*..

 

دون كيشوت

نعيم أبو بدر- في جلسته مع الأستاذ جودت

بعض اللَّحظات تحفر اسمها عميقًا في جدران الذّاكرة، ربَّما لفرادتها، أو لنُدرتِها..، ويصعب نسيانها أو محوها.

جلستي هذه مع  الأستاذ جودت لم تحدث لو لم يكُن الحظر، توقَّفت جميع الأعمال ما عدا المخابز ومحلَّات بيع الخضار والفواكه، والبقاليَّات لساعات محدودة، وفيما بعد فتحت بعض المطاعم التي رخَّصوا لها بفتح أبوابها لكن بلا استقبال زبائن في صالاتها التي بقيت مغلقة، وممنوع منعًا باتًّا تناول الأكل فيها، وكان يتمُّ بيعهم من خلال شركة "طلبات" للتوصيل، توقّف جميعنا هنا في العمارة عن العمل، فرصة لم تحدث لنا منذ ما يقرب من ثمان سنوات عند مجيئنا.

الأجيال المُتقاربة بالعمر تفهم نغمة بعضها بارتياح.

لا أدري على وجه التَّحديد سبب أو أسباب ارتياحي للتعامل مع "الأستاذ جودت"، منذ أوَّل لقاء بيننا في هذه العمارة نشأت حالة ارتياح مُتبادل بيننا.

جرت العادة التي انتقلت معنا من بلادنا، أنَّ من يسكن ببيت جديد، وإن كان مُستأجرًا، تنهال عليه زيارة الجيران للتعرُّف، وللاطمئنان عليهم، وتقديم العوْن لهم بمختلف أشكاله وأنواعه، كما أنَّ كل جار عليه تقديم نِزالة وهو طعام غداء أو عشاء، حسب الوقت المُتاح، ولكن هذا الطَّعام في الكُتب والأدبيَّات هو طعام "الوكيرة"، وهومن باب التواصل الإيجابيِّ بين الجيران، وإزالة الهمِّ والوحشة عن نفوسهم، بتهوين الأمور عليهم.

لمتابعة الجلسة مع الأستاذ جودت

الأستاذ جودت يتكلَّم بطريقة موحية، بعيدًا عن التذمُّر المُباشر من فكرة الحظر الشَّامل في المنازل.

-       لا أرى تشبيهًا أليَقُ بصديق لا مُبالٍ أبدًا بأخبار الكُورونا إلَّا بـ(دون كيشوت)، ويعتبر ذلك من الكذب الذي تريد وكالات الأنباء، متآمرة مع القنوات الفضائيّات لتسويقه، وبثّ الرّعب في نفوسنا. لا ألومه أبدًا فيما ذهب إليه؛ فيما بعد ذلك أصبح الأمر أخطر ممّا يفوق التصّور، وانتقل الموضوع من مجرّد فيروس ضرب بعض مناطق الصّين، إلى ظاهرة وبائيّة؛ ضربت العالم بين الشّرق والغرب بدوله الكُبرى والصُّغرى بلا تفريق، لكنَّ الأمر الغريب، وبعد أيَّام أعادني الأمر إلى نظريّة المؤامرة في ذهن صديقي، الذي لا يمرّ عليه أيّ خبر أو قصَّة إلَّا من غربال المؤامرة الكونيَّة علينا نحن العرب بالخُصوص.

أبو بدر نعيم:

-       وصلني على الواتساب العديد من مقاطع الفيديو، يُشير مُصمِّموها فيها إلى مؤامرة غاز السَّارين الذي ضربته أميركا في أفغانستان، وللجوار الجغرافي القريب من الصِّين، وحصول الضّرر لهم، وبعض التحليلات، ذهبت إلى أنَّ الاستثمار الصّينيّ في الوباء؛ فاشترت أسهم الشَّركات الاستثماريَّة فيها بأسعار الفُجُل. 

الأستاذ جودت:

-       حتّى ذهبوا أكثر من ذلك بتساؤلات لا نهاية لها من التأويلات والتحليلات التي تحظى بقليل من المنطقيَّة والكثير من اللَّا معقوليَّة، أين ذهب الإرهاب، الذي توقَّفت آليَّاته على وقع الكورونا؟.

 

للاشتغال عليه:

أرى صديقي الأستاذ، زاده الله بسطة في الجسم طولًا وعرضًا، ملامح رجولة نبطيّة نابضة بالحياة، سنوات العقود الخمسة والنصف، لم تزده إلّا إشراقًا في حياته، مُنعكسًا وضاءة قمر أبدر في منتصف كلّ شهر. يحيل أيّامنا بياضًا وصفاء روح ونفس. 

   عملي اليوميّ في الصّالون؛ يُملي عليّ مُتابعة المحطّات للتسلية في أغلب الوقت، ولإزاحة القلق والزهق من ساحات سجني في المحلّ طيلة النّهار. أحسدُ المساء.. ومن يُمضونه تأمّلًا واستنشاقًا لهواء نظيف يملؤون بهم صدورهم. وإذا كانا حبيبان.. تتلّهف نفسي إلى بداية زواجي قبل أربعة وثلاثين عامًا، أيدينا مُتشابكة تأبّطًا.. نغوص في هُيامنا بانسجام عميق في بحار الرومانسيّة، تأخذنا أفكارنا بعيدًا في متاهات لا عقلانيّة عن الحياة. 

  صديقي غير متابع إلّا الأخبار السياسيّة الموجعة للقلب المُتلفة للأعصاب، سجائره على مدار السّاعة بتواتر الأخبار المُتجدّدة، كنتُ أتمنّى أن أجد عنده أذّنًا صاغية لي، ولو لمرّة واحدة في السّنَة، هو في واد وأنا في آخر، تحذيراتي الجديّة له بالالتزام في بيته، ثارت ثائرته انفجارًا في وجهي، لم أكُن أتوقّعها:

-"وماذا تريد منّي، أن أحبس نفسي؛ لأموت اختناقًا، وليتوقّف قلبي قهرًا وكَمَدًا، يا رجل اتّق الله فيّ، فهمتُ عليك من المرّة الأولى، كلامك مُكرّر حفظتُ الكليشة والديباجة عن ظهر قلب، ولو أنّك معلّم مدرسة وأنا تلميذ عندك لحفظت درسك المُعاد كلّ يوم. لا أريد أن أقدّم امتحانًا عن الكورونا".

   صمتٌ الصدمة ترافق مع حرارة جوابه غير الُمتوقّع. أفقدني القُدرة على الردّ عليه فورًا، خوفي على استمرار علاقتنا الممتدّة لسنوات، من السّهل أن أخسر صديقًا، لكن ليس أن أعثر على غيره. لم أتمالك نفسي، بِتَلْويم نفسي على حرصي الشّديد من أن يُصاب بسوء.

   الموقف أعادني لذلك الرّجل البّائس الإسباني، الذي تمثّل حالة أبطال وفرسانًا مغامرين يصنعون المعجزات، بقتال التنانين والعمالقة، ويحضون بتقبيل أيادي الأميرات، فأطلق على نفسه (دون كيشوت)، وراح يجوب قُرى الأرياف على ظهر حصانه مع صديق له.

   خياله الواسع صنع له العدوّ المُتوهّم في طواحين الهواء. النّاس لم ينتظروا حتّى تنتهي المهزلة، بل أدركوا مَكْمَن مُشكلته, اصطدموا بجنون العظمة المُتولّد لديه؛ فرسموا مخطّطهم لإعادته إلى سريره.

   في ساعة من ساعات العّزلة بعدما فُرضت رسميًّا، الخبر الذي ما كنتُ أودّ سماعه: "نقل صديقي إلى المشفى".  فهل غباء (دون كيشوت) انتقلت عدواه إليه؟.  وما فائدة إدراك (دون كيشوت) المُتأخّر بلا جدوى ما قام به؟.  فات الأوان..!! موت صديقي على  سريره.. ماثل بطل الطّواحين بمثل نهايته.

   لم تُجد دموعي نفعًا، حزني عليه انضاف إلى قهري بموته وحيدًا، ولم أستطع إلقاء النظرة الأخيرة عليه. ولا واجب العزاء لأهله، إلّا عبر الواتساب.  

..*..

 

التباعد

التباعد في كل شيء اعتبارا من الجلوس والتعاطي، والتعامل عن بُعد، (المكاتب – السيارات- ووسائل النقل العام- والاصطفاف على الدور والشراء والكمامات والعزل للمرضى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحظر و الحجر

الحظر بعدم الخروج وتوقف عجلة الحياة وجميع النشاطات وصفارات الإنذار (توقيت الحظر) وفترات السماح بالخروج لشراء الأغراض والتعليم عن بعد- إغلاق دور العبادة والمساجد وصالات الأفراح والقاعات وأماكن التجمعات بشكل عام، حتى المسجد الحرام (الكعبة) أغلقوا المسجد.

 

الخطوة الأولى

   تراكمت الخُطى على عتبة البيت، لا أكترثُ بتعدادها، تجمّعت أكوامًا كادت أن تسُدّ منافذ خيالي عند البوابة، لا خُطّة لديّ على الأقلّ الآن بشأنها، لم تكتمل رؤيتي كيف سأتخلّص منها، في الماضي كان الموبايل يعدّها؛ فيتشكّل خوفٌ في داخلي من هذا الإحصاء الدقيق، بعض الأحيان كنتُ أتلفّت حولي وإلى الخلف، هاجس أنّ مُخبرًا يتعقّبني مُسجّلًا كُلّ شيء في تقريره. 
  استمتعتُ بالحظر مُختليًا بنفسي أكثر من اللّازم. ارتاح لساني من كثرة الثرثرة والكلام مع الزبائن في الصّالون، ساعات طويلة لا يتحرّك بكلمة واحدة، أتذكّر فجأة أنّني نسيتُ نفسي في مغارة صمتها، أستوحشُ من وحدتي. مرّة بدأت بالكلام بصوت مسموع، استغراقي في لُجّة من أفكار غريبة موهمة بالخوف، لم أحسّ بوجود زوجتي وهي تُنظّف الغرفة من حولي، بُهِتَتْ مما سمعت، توقّفت خلفي لتتأكّد لمن أتوجّه بخطابي، تجمدّت حركتها لحظات، تساءلتُ:

-"ما بك هل جُننت..!!؟".

-"لا أبدًا.. فقط أُجرّبُ صوتي".

   تتلمّس جبيني متأكّدة من موجة حرارة مقترنة بحُمّى داهمتني عل غير إرادة منّي؛ فاختلّ توازني:

-"اسم الله عليه.. هالأيّام صارت بتخوّف".  

-"لا تقلقي عزيزتي أنا بخير ".

   بعد كلّ هذه الفترة من الجلوس في البيت، وانعدام الحركة بحدّها الأدنى إلى الحمّام أو الغرفة الأخرى لتناول الأكل، والرّجوع إلى السّرير التلحّف لاتّقاء لسعات البرد؛ التي ما زالت تسري في أوصالي، وأحس بها تنخر عظامي. أطالبُ أولادي باستمرار إذا ما تخفّفوا من ألبستهم بتثقيلها.

   أتذكّر آخر خطواتي قبل شهر كانت على بُوابة الشّقة، المشكلة في أوّل خطوة تدوسها قدماي في مشوار قادم، أحلام الخروج من العُزلة تُراودني على مدار السّاعة. أخوف ما أخاف منه، نسيان كيفيّة المشي، وأعود لتعلمّه من جديد كطفل يتهادى عند وقوفه منتصبًا، وصعوبة نقل رجله بخطوة، ليُتبعها بالأخرى. قرّرتُ شراء عُكّاز، أتّكئ عليها ولا أهشّ بها شيء سوى الذّباب الذي يقتحمني بلزوجة كريهة. ولا مآرب لي فيها أبدًا، كي لا أهدّد السّلم العالمي. مشكلتي الآن..!! من أين أحصلُ على عُكّاز، فالمحلّات التجاريّة جميعها مُغلق عدا التي تبيع المواد الغذائيّة فقط. 

جارنا في العمارة المقابلة علاقته ممتازة، فلا ينقطع السّلام بيننا عندما كنّا نلتقي صُدفة أثناء خروجنا المُتزامن مع بعض، فأبتسم له مع إلقاء التحيّة، كثيرًا ما يردّ بصوت عالٍ، دون رفع رأسه ليراني، حفظ نبرة صوتي، فيردّ التحيّة مشفوعة بلقبي، إلى أن أقترِبَ منه لتشجيعه، والشدّ من أزره. والإشادة بقوّته وشبابه؛ فيتهلّل البِشْر على وجهه. يتنفّس بعمق، يُحاول جاهدًا تعديل انحناءة ظهره، والاستناد على السّياج، ويفترُ فمه الأدْرَد بابتسامة عريضة تنبئ عن ارتياحه، ويقول:

-"يا عمّي الشّباب.. شباب القلب، يا حسرتي على رُكبي لا

تحملني، أيّام الشّباب والقوّة أتبعني العمل الشّاق في الباطون، وهذه النّتيجة كما ترى..!!؟. 

   ازدحام الأفكار بأوليّات أوّل يوم، من أين أبدأ..!!؟.  فلأجرّب هِمّتي بتمهّل. خَطَر لي استعارة عُكاز من جارنا العجوز، أتوقّع أنّ لديْه أخرى احتياطيّة غير التي يستخدمها، أو قديمة عنده رماها في مُستودع الأغراض الخفيفة القديمة  فوق الخزانة أو تحت التّخت.

طال الحظر ليتأكّدوا من انتهاء الوباء، حالتي وصلت حدّها الأقصى على احتمال الوضع. قلق على مدار السّاعة، تأخّر الوقت.. وأنا جالس إلى حاسوبي؛ أتابع مواقع الأنترنت بقراءات ودردشات. فطنتُ لاحتقان البول، بدل رُجوعي إلى الغرفة، تسلّلتُ بحذر لفتح الباب الخارجيّ، نزلتّ الدّرج على رؤوس أصابعي، الطّريق الفرعيّة لا تسلكها الدّوريّات السّاهرة، قلت لنفسي: 

-"لا يُمكن أن يكونوا سهرانين إلى هذه السّاعة". 

   خرقتُ قناعتي بيقظتهم الدّائمة، فلأُتابع مشواري. نصفُ ساعة عادلت عمري، وأنا أتنفّس ملء رئتيّ هواء نقيًّا، هاجسي المُتعب بتحضير جواب مُقنع:

-"ماذا لو داهمتني دوريّة بشكل مفاجئ..!!؟". 

حِرْتُ تفكيرًا.. مشيتُ ومشيتُ بِنَهم جوع مُزْمِن.. الشوارع الفرعيّة في منطقتنا استغرقني بلا إحساس بالوقت، أشرقت الشّمس، وما زلتُ أمشي إلى أن وصلت العاشرة، موعد السّماح بالخروج بشكل آمن. عدتُ إلى البيت، مازال الصّمتُ يُخيّم عليه.

***

 

كاسندرا

   تآكلت آثار النّاس على دروب هذه المدينة العامرة بعد إطلاق صفّارة الإنذار؛ فهل انشّقت الأرض عنهم.. وابتلعتهم في مثل ساعات الذّروة؟. على مدار أيّام أفتقدُ الضّجيج، قبل ذلك كنتُ أتمنّى توقّفه للحظات من اللّيل؛ لأنعم بنوم هادئ ترتاح فيه أعصابي المُرهقة على الدوام. هل المدينة كرهتنا..!!  عاقبتنا؛ فحرمتنا جميع مرافقها..!!؟.

   رَهَبُوتُ المقابر المُظلمة نشر أوشحته على المكان، كأنّ الأموات توازعوها آخِذًا كلّ حصّته منها وذهب. عبر النّافذة تسترسل نظراتي بعيدًا في اللّا شيء المجهول. خِلْتُ لحظتي هذه مُتدثّرة بالموت الأسود في عينيّ.  ظنونٌ تساورني بفرحة الطّريق من عابره، من أثقالهم وأحمالهم.. من صراخهم وزعيقهم.. كآبة اللّصوص بتعطّل نشاطاتهم. البيوت يحرسها أهلها. دوريّات الشّرطة لا تترك زاوية، ولا مُفترقًا إلّا آخذين موقعهم فيه. سيّاراتهم تجوب الأنحاء بحثًا عن مخالفي الأوامر. 

   بساط الذكريات يأخذني على متن أثيره، إلى ما قبل بداية الألفيّة الثانية بسنوات، أيّام موضة المسلسلات المكسيكيّة، هوَسٌ غير طبيعيّ اجتاح المُجتمع بمعظم فئاته العمريّ. خلوّ الشّوارع أمر لفتَ انتباهي آنذاك. ما الذي يحدُث يا جماعة الخير، قالوا:

-"كاسندرا".

-"ومن هذه الكاسندرا؟".

   اكتسبت شعبيّة طاغية، مُنافسة للمسلسلات البدويّة الأقدم (رأس غليص -ووضحة وابن عجلان)، هذا الأشهر التي تعلقّت بها قلوبنا، بفارغ الصّبر كنّا ننتظر  موعد البثّ، أيّامها كان التلفزيون بالأسود والأبيض، وليس من العيب أن يذهب الجيران وأهل الحارة، لمن كان عندهم هذا الجهاز السّحري بكلّ أريحيّة ببساطة وبلا تعقيد، الذي غيّر أنماط حياتنا، كان ثورة اجتماعيّة حقيقيّة. تعادل ثورة تقنيّات الموبايلات مع مطلع القرن الواحد والعشرين.

   من المُضحك المُبكي اختلاف مواعيد السّفر المقرّرة والمؤكّدة، بعد انتهاء إجازتي السنويّة أثناء عملي في (أبو ظبي)، تزامنت مع عودة المُدرّسين في آخر الشّهر الثّامن إلى وظائفهم على نفس الرّحلة، وافتتاح معرض دمشق. لأمر تقنيّ خارج عن سيطرة مكتب السّفريّات في درعا، طال انتظارنا من العاشرة صباحًا إلى الحادية عشر ليلًا حتى انطلقنا.

   كثرة التُساؤلات الضّجرة، تآكل صبر المسافرين جميعًا.. التأفّف لا ينفعنا، خيارنا الصّبر ، في لحظة أضحكتنا رغم مرارة قهرنا، وتعب أجسامنا غير الطبيعيّ. أحد المُدرّسين سائلًا موظّف المكتب قبل الرابعة عصرًا:

-"متى سيأتي الباص..!!؟".

-"أخبرونا أن الباص انطلق من دمشق إلينا".

-"يعني إذا ذهبنا وحضرنا كاسندرا، ورجعنا يكون قد وصل!!؟".

   انقلبت الحالة إلى نشوة عارمة استفقنا على كلام ولغط عمّ صالة المكتب الواسعة وخارجها، موضة التلفزيونات في المكاتب المحلّات لم تن قد انتشرت وقتها.

شاب هناك في طرف الطرف المُقابل، تنحنح بصوت عالٍ، نبّهنا إليه، قال:

-"سأخبركم أنّه في أحد  القُرى - تباعد الوقت أنساني اسمها-الجنازة تركوها في المسجد، وحدّد المؤّذن الموعد الصّلاة عليها، بعد انتهاء كاسندرا".

   تبدّد السّأم والملل، بانطلاقنا في حكايا لم تكُن لتخطر على بالنا. أحاديث جانبيّة ألهتنا ساعة من الزّمن. ونعود نجترّ إرهاقنا حتّى مجيء الحافلة.  صفّارة الإنذار في السّادسة مساء من كلّ يوم، صارت تسترعي انتباهي لمعاينة السّاعة لابتداء منع الخروج، ولزوم البيوت؛ تستعيدني إلى بداية الحرب في سوريّة 2011. الشّوارع في بصرى بعد كانت تخلو من العابرين. انتشار الخوف على نطاقات واسعة، انقطاع الكهرباء أرجعنا إلى العصور الحجريّة. فلا وسائل تسلية أبدًا، استحالت التلفزيونات والموبايلات والهواتف الأرضيّة أدوات لا حياة فيها، مثل أموات فارقت أجسادهم الأرواح. تنقلب المدينة ليلًا إلى ساحة رعب مرتعًا للأشباح.

في إربد. فارغة إلّا من أعمدة الشّوارع تنير الطّرقات، وصفير سيّارات الدّفاع المدني أو النّجدة، يُرسل لي رسالة اطمئنان أنّ شيئًا هناك في الخارج يتحرّك، أو ضجيج سيّارة يمتلك سائقها تصريح خروج.

   حصار مُرفّه بأدواته مع الأنترنت، شعوري الدّائم بضيق يكتم أنفاسي، حركاتي محدودة، خدر مفاصلي أمام الحاسوب الشّخصيّ لساعات ما بعد منتصف اللّيل، اختلال مواعيد النّوم والطعام والخروج إلى الحمّام. آخر عهدي بالموبايل قبل النّوم، وأوّل عناق لي معه بتفتّح عينيّ في الصّباح.

***

 

ضيف على الهوا

   جمح الخيال بي بعيدًا خارج الحدود المعقولة، تواردت أسراب من الأفكار المُتوهّمة، شعورٌ طاغٍ  سيطر عليّ ساعات بعد الاتّصال المُفاجئ من مُنسّقة البرامج في محّطة فضائيّة غير مشهورة عندي، لم أسمع بها من قبل؛ على الفور بحثت عن (الرّيموت كنترول)، خلال دقائق وجدتها.. وأثبّتُها على قائمة المفضّلات.

-"حضرتُك الأديب المعروف؟".

-"أنا بذاته. لكن كيف وصلت إلى رقم هاتفي".

-"في الحقيقة الفضل يعود (للفيسبوك)، بطريقة الصّدفة كنتُ أبحث عن مادّة من أجل التّحضير لبرنامجي، عن العُزلة في زمن الوباء، وهموم وقضايا النّاس اليوميّة خلال فترة الحظر، وبمساعدة (العم جوجل), ظهر لي اسمك، واطّلعتُ على كتاباتك في هذا المجال، فتواصلت مع صديق مُشترك بيننا، فكان حلّ مُعضلتي عنده".

-"مرحبًا بك سيّدتي.. على الرّحب والسّعة.. بكلّ سرور أعطيكِ مُوافقتي..!!".

   نبراتُ صوتها النديّ ما فارقتني أبدًا، مُخيّلتي راسمةً صورة افتراضيّة فائقة الجمال لوجهها، لتتطابق بذهني لوحةً مُشعّة نورًا، حذاقة أصحاب الإعلام باختيار نوعيّة الوجوه التي تُطلّ علينا على مدار السّاعة، تشاركنا حياتنا الدّاخليّة في البيوت، نشأت بيننا ألفة ننظر  برنامج المذيعة الصّبوحة الوجه.

أستعجلُ عقارب السّاعة أن تمضي بوتيرة سرعة مُضاعفة؛ الانتظار حرّقني لأكون أمام الملاك على الهواء مُباشرة عبر السّكايب. تزاحمتني الأفكار.. اختياري للبدلة التي سأظهر بها، طريقة تسريحة شعري (بالجلّ) أو على طبيعتها. أمام المرآة تسمّرتُ لأستبق  ملامح وجهي اطمئنانًا، اصطنعتُ أكثر من طريقة لابتسامتي تتناسب مع ظهوري الأوّل على وسيلة إعلاميّة، كنتُ أتمنّاه.. حتّى لو أظهر في (ريبورتاج) في سوق الخُضرة، أو مُمثّل (كومبارس).

-"يا إلهي.. أأنا في حلم أو علم..!! فُرصة جاءتني على طبق من ذَهَب، لن تضيع هذه المرّة كما ضاعت سابقتها قبل سنتيْن حينما انتهى شحن (الموبايل)، ما زلتُ أقضم أصابعي ندمًا كما (الكُسَعِيِّ).

   نصف ساعة تفصلنا عن بداية شارة البرنامج، تفقّدتُ لباسي وتلميع وجهي بالكريم الخاصّ استعرته من زوجتي؛ بعدما حلقتُ ذقني هذه المرّة أكثر من مرّة؛ للتأكّد من نعومتها غير العادية. ابني ساعدني في تجهيز (اللّابتوب) على الطّاولة، جاهزيّة كاملة، أعصابي مُتّوتّرة، كيف سيكون ظهوري الأوّل عبر فضائيّة..!!؟.

   ظهرت شارة البرنامج مصحوبة بموسيقى هادئة، ظهرت المذيعة الهرمة بوجهها غير المألوف عندي، ابتسامتها تخرجُ بصعوبة مُتزاحمة مع أكوام الأصباغ. قدّمتني على أنّني خبير استراتيجيّ بقضايا وباء الكورونا، لافتة إلى كتاباتي التي ناقشت العديد من قضايا الحظر، والحاثّة على الالتزام بالقرارات الصّادرة من الجهات المُختّصة، من أجل السّلامة والصّحة العامّة.

ختمت كلامها:

-"هذه الشخصيّة المُشرقة نموذج الالتزام، والتعريف بالمخاطر المُحتملة من خرق الحظر،  أشكرك ضيفنا الكريم، وسأنتقل للأستاذ المُشارك معنا في الأستوديو".

   هطول مطر بلّلني بعد اختفاء صورتي عن الشّاشة، وانصراف المُذيعة إلى ضيفها. استفقتُ على صوت صفّارة سيّارة الدّفاع المدنيّ قبل الشّروق بقليل. أسرعتُ لتبديل ملابسي قبل كلّ شيء.

-"تفاصيل فرحتي لم تكتمل حتّى في الحلم..!!".

***

 

 

 

 

(أدب العزلة زمن الكورونا)

 

هلوسات الحظر

   بيادر الحرمان تمتلئ ساحاتها بأكداس الهموم..، ولا تنقضي..!!. تتقلّص الحياة شيئًا فشيئًا، وتنحسر الفضاءات الرّحبة إلى الغرفة والبيت فقط، تضيق الرُّؤية خلف الجدران، وحمايات النوافذ الحديديّة والبلّلور.

  تتماهي صور الورود المتمايلة مع نسائم المساء العليل، وروائحها في ذهني مع رائحة رشّة العطر من القارورة. حرمان لم أكن لأحلم به في حياتي أبدًا.

  النّور الوهّاج ليلًا يبدو مُعتمًا، لا أمل أين يكون القمر  مَغزًى لنظراتي وتأمّلاتي، كانت تتجسّد الحبيبة سُكناها في القمر، يتطابق وجهها مع قرصه المُستدير  يبثّ سحره الأخّاذ في روحي، فيستديم تعلّق نظراتي. السّكون البهيّ الذي أنتظره على الدّوام؛ انقلب ليلًا طويلًا؛ كأنّما توقّفت فيه عقارب السّاعة عنادًا، بطيئة تسير الهُويْنى غير آبهة بحالي أبدًا، تروقني فكرة تحطيم السّاعة والاستراحة من عناء مُراقبتها، وهي لا تستجيب لمطلبي الوحيد منها زيادة سُرعتها..!!.

   عدلتُ عن الفكرة لضبط مواعيدي مُستقبلًا. تُداهمني جيوش التساؤلات:

"منذ وعيتُ أخبروني عن المُستقبل، في المدرسة قرأت عنه، خدمتُ واجبي للوطن سنتين ونصف، ضاعوا من المستقبل، وإن كنتُ أظنّ أنّني قدّمتُ قُربانًا، بعد خمسة عقود أسعى بحثًا جاهدًا عن معالم المستقبل.. يا لهفتي.. كم كنتُ مغفّلًا.. حين بلعتُ الطُّعْم مقتنعًا.. اقرأ واجتهد؛ لتكون شيئًا في المستقبل. سافرتُ اغترابًا لسنوات ما بين شرق وغرب.. وما زال حلم الغفلة يستحوذني.. تزوّجت وأنجبت وربّيْتُ وصاروا رجالًا.. تركوني وراحوا منطلقين من النقطة التي ابتدأت منها في رحلة تُشابه رحلة بحثي.. نفسي لم تُطاوعني إخبارهم بالنّتيجة السّراب الذي ركضتُ إليه، ولم أصِلهُ..!!".

  لا أدري على وجه الدّقّة..!! هل سيصلون هم..!! هل المُشكلة تكمن عندي..!! أين العُطل..!!؟.

  إذا استطعتُ مُجدّدا حلّ هذه الألغاز أتوقّع أنّني استطعت وضع إجابة واحدة منها أمام جيوش الأسئلة المنهمرة مدرارة كالمطر، لأقهر ظنوني، ولو لمرّة  واحدة في الحياة؛ فتموت آخر الشّكوك في قلبي.

   فكّروني.. وأمّ كلثوم تُحاول إخراجي بعيدًا إلى آفاق خارج الغرفة.

   أستفيقُ على حالي، وما زلتُ مُرابطًا أمام جهاز حاسوبي أستجدي الكلمات؛ استجابة لتدوين صفحة واحدة، فقط كجزء من سجلٍّ طويل مليء بالخيبات التي حطّمت كلّ تفاؤل، واستمطرت سوداويّة متآلفة مع كآبة الحظر والوحدة، أظنّ أنّني بعد انتهاء الحظر بحاجة لمراجعة طبيب نفسي من داء التوحّد.

   كلمة سمعتها من جارتنا أثناء حديثها عن ابنها الصّغير مع زوجتي في جلسة تزاور ،خرقتا فيه الحظر، خروجًا من السّأم والملل.. لا.. لا أظنّ أنّهما خرقتا الحظر.. تذكّرتُ أنّه كان خلال فترة السّماح من العاشرة صباحًا إلى السادسة مساء، أنّه يُعاني من التوحّد، لم يمرّ الموضوع بذهني مرور السّلام؛ فكان (العمّ جوجل) ينتظرني بلا ملل ولا كلل بالإجابة عن جميع ما دار بذهني، تشابه عُزلتي مع حالة ابن جارتنا، أخافتني أن أكون مُصابًا بمتلازمة (داون) وأنا لا أدري.

***

 

اليويو

   يا لطفولة لم أعشها..!! خُلقت هكذا لا أدري على وجه الدّقة؛ ما هي أوّل كلمة نطقتُها؛ لكن من خلال إحساسي العميق: "ماما.. بابا"، حالة نسيان رهيب استفقتُ منها في الصفّ الأوّل على المُعلّم وكتاب القراءة، من جديد.. استعدتُ ذاكرتي لأكتب أوّل كلمة في حياتي: "ماما.. بابا". 

   لم يكن عندي كيس أو كرتونة للألعاب مليئة بالألعاب المختلفة؛ لأحتار بأيّ منها ألهو، أو أُحطّم أكثرها في حالة غضب ممزوجة بالملل السّريع منها، درّاجة ذات الثلاثة دواليب بمقعدها الخشبيً القاسي، لونها الأحمر شوّه ذاكرتي، ووَسَمها تشاؤمًا منها، وأضاع عليّ متعة مُراقبة قوس قُزح، ومحاولة قيادتي لها الفاشلة بين الأحجار الناتئة كرؤوس الشّياطين في ساحة بيتنا الترابيّة، وخارج البيت الأزقّة والطّرق لم تكن مُعبّدة بالزّفت الأسود بتوقيت بُصرى آنذاك. 

إلى الآن لم أُدرك ميلي الشديد لعود الثقّاب برأسه الأحمر المُدبّب الصّغير؛ المُغري بإشعال الحرائق للورق ومخلّفات الأشياء. تخويف شديد من النّار بألسنتها التي لا ترحم. وانتهت صلاة عيد الأضحى لأدخل في حالة بُكاء وفقدان حذائي البلاستيكيّ بلونه الأحمر.. يا لتعاستي.. البِشرُ يرسم خطوط على وجوههم، وهم خارجون من بُوابة الجامع، عبارات متبادلة بالتهاني والأمنيات، ودموعي لم تتوقّّف، تُعاند حيرتي الحزينة، وأنا أبحث مع بعض الذين يكبرونني بسنوات، كنتُ جازمًا أن لا طفل آخر في القرية كلّها يمتلكُ هذا اللّون؛ لأنّ أبي أحضره من الشّام على حدّ زعمي. وصلتُ البيت حافيًا خائبًا من يومها فقدتُ إحساس فرحة في العيد.

   نوبة شرودي بعيدة في مجاهل طفولة بعيدة من هنا بمسافة نصف قرن، ضجيج الأولاد ومناكفاتهم المُتأجّجة على مدار السّاعة، حُرموا كما حُرمت الخروج من البيت، التزامًا بالحظر المفروض علينا خوفًا من الوباء كورونا الخطير.

   أنا في وادٍ آخر أخذني طوفانه الرّبيعيّ في مثل هذه الأيّام التي أعيشها الآن داخل البيْت، اجترار القديم المُحبّب إليّ. خجلي يمنعني من الكلام مع أبنائي؛ لاستغرابهم..!! كلّما يسألونني عن صغري، وضحكاتهم الواخزة قلبي على حرمان معظم أبناء جيل ذاك الوقت، وما بعده من رفاهيّة امتلاك الألعاب الغالية.

   الوقتُ يمرّ بطيئًا.. ديمومة الموبايل بين يديّ ملّلتني. كثرة البحلقة في شاشته أتعبت عينيّ، أعود للكتاب، والتلفزيون، ومداعبة الأولاد اللّاهين في مشاريعهم اللامتناهية، وابتعادهم عن عالمنا في البيت.

   أغرتني لعبة جديدة للمرّة الأولى في حياتي تقع بين يديّ، سمعتُ كثيرًا في سنوات سابقة  كلمة (اليويو) تتردّد على ألسنة الأولاد. فُقداني رغبة السّؤال عنها ظنًّا منّي، وما هذا الشيء الذي سأضيفه لموسوعة معارفي؟. غرابة الاسم أشعرتني يومها بتفاهته.

   اليوم غيّرتُ رأيي عندما عثرت قدمي بخيط غليظ، مربوط ببكرة كادت إسقاطي أرضًا، والنتيجة معلومة سلفًا على الأقلّ رضّ السّاق، أو الكتف، وملازمة الفراش، والمُداومة على المُسكّنات ؛لإسكات الآلام المُبرحة المانعة من النّوم ليلًا، والرّاحة وحريّة الحركة نهارًا.

   صراخي ملأ البيت، مما أخرَجَ الأولاد من عوالم انسجامهم مع ألعابهم المُحبّبة إليهم، عدا لعبة (ببجي)، التي أجبرت ابني على حذفها قسرًا، ومنعته من تنزيلها ثانية، إلى أن أخبرني بأنّه سيبيعها بمبلغ معقول سيساعدني به؛ لتجاوز عقبة مصروف العائلة المُثقل لي فترة توقّفي عن العمل، دهشتي مما أخبرني به أزالت غضبي من (اليويو).

   بدأت أولى تجاربي عليه، إغراء غير طبيعيّ، ساعات أمضيتُها بعدما أتقنتُ فنّها؛ بتوازن ارتفاع اليد مع اهتزازاتها؛ كموج البحر الخفيف المتوّتر، مما يُسرّع حركة دوران دولاب اليويو الجميل. ضاعت سُخرية زوجتي إهمالًا مع انسجامي التامّ، مثل ذاك اليوم  قبل نهاية الألفيّة الثانية بشرائي لعبة (الأتاري)؛ عند عودتي من (أبو ظبي) بإجازة الصّيف.

   ساعات طويلة أجلسُ اللّعب ببرنامج الطّائرات بمراحله العديدة بمستوياتها، مرّات قليلة وصلت فيه للنهائي. انسجامي لفت انتباهها، جلَستْ للمرّة الأولى تُراقبني، رغبة التّجريب بإلحاح قادتها لمُجالستي ساعات، نسيت تساؤلاتها قبل ذلك:

-"لماذا اشتريتها..!! لسنا بحاجة لها.. عندنا أوليّات غيرها؟".

-"من أجل الصبيّ..!! ابننا الوحيد آنذاك".

-"مازال صغيرًا لا يُدرك معنى اللّعبة، ولا يستطيع التعامل معها، لو أجّلتها حتّى يكبُر قليلًا..!!".

-"ها نحن نلعبُ بها.. وعندما يكبُر نعطيها له".

   مهارة اللّعب بالأصابع، بداية كانت على تمرين الوُسطى؛ لتجاوز ألم خفيف في مفصلها يمنعني من طيّها للآخر. منذ ذاك اليوم عندما أشرتُ بحركتها المفهومة تلك لأمر ما..!!، جلستُ مُستندًا للجدار، تداخلت أصابع الكّفيْن بتشابك، وتدوير الإبهاميْن بحركة لولبيّة للأمام تارة، وتبديلها معاكسة للخلف، جعلتني أتذكّر زميلي الطّالب في الصفّ التّاسع، وهو يقف أمام الطلّاب بانتظار فراغ الأستاذ من الاستماع لإجابات من حفظوا الدّرس.

    انبته الأستاذ لحركة أصابعه المماثلة لي الآن، وسأله:

-"ألا تعرف غير هذه..!!؟".

السّؤال خفّف من توتّره؛ ظنًّا منه بنجاته من العقاب الجسديّ؛ لتقصيره في واجبه، فأجاب بجديّة:

-"نعم أستاذ، أعرفُ أيضًا بهذا الشّكل".

   وبدأ بلفّ إبهاميْه عكس الحركة الأولى. كتمنا ضحكنا، ومازال مكتومًا في صدري إلى الآن؛ فالعصا بيد الأستاذ لا ترحم، لمن يخرج عن مسار الدّرس، أو يُحاول.

  إزهاق الوقت مُهمّة عملٌ شاقّ؛ صعّبت عليّ تعبئة وقتي بأشياء جديدة، جرّبتُ وجرّبتُ، راودتني لعبة (البَبْجي)، وما سمعتُ عنها، موقفي الجازم من ابني حازم، ومنعه منها؛ أخذني للتفكير بتجريب اللّعب فيها بعد نومهم، لكنّني أستسلم للنّوم بلا مُقاومة، وهم مازالوا يقظين. وفي النّهار لا يذهبون إلى المدارس، وصاروا مثل بلاد الأجانب يتعلّمون عن بُعد.

***

(أدب العزلة في زمن الكورونا)

 

سامحوني.. أنا في الحمّام

   لقاء العيون في المدينة عابر سريع. مئات الوجوه صافحتني كشريط سينمائيّ قديم من أيّام (شارلي شابلن)، خلال مشوار صغير لم يستغرق أكثر من خمس دقائق للوصول إلى ذلك المكان، أستحثُّ خُطاي إسراعًا للوصول إلى جسر فكتوريا؛ لتخفيف ما يضغط في بطني يريد الخروج، سندويشة فلافل تناولتها وقوفًا أمام مطعم الصغير قريبًا من مقهى الحجاز في دمشق.  

   ومن باب المجاز كلّما آتي هذا المكان أو شبيهه، أعتقدُ أنّني داخل إلى سجن، أبواب غُرَفه العديدة على الجانبين، والتي لا تتعدّى بمساحتها المتر طولًا وعرضَا، أبوابها مُتقابلة وهي أفضل من أبواب الزنازين لأنّها تُفسح لمساحة فارغة منفتحة إلى الخارج من تحت الباب ومن أعلاه.

   في وسط المدينة قضاء الحاجة (التبوّل والتغوّط) مُشكلة عظيمة، أماكن الحمّامات العامّة مُتباعدة، والوصول إليها يحتاج لحساب الوقت. اصطفاف الأبنية، والمحلّات التجاريّة المُتراصّة؛ لم يترك فسحة، ولو كخُرم إبرة من الممكن اللّجوء إليها في حالة الاضطرار  لمثل هذا الأمر.

    من إن وطئت يُسراي الباب الرّئيس المُعاكس لاتّجاه الشّارع العامّ، حتّى استقبلتني رائحة.. لا بل روائح لا يُمكن تصنفها، ولا أعتقدُ أنّ أعتى مُختبرات التحاليل الطبيّة المُتقدّمة تقنيًّا تستطيع تفكيك رموزها إلى عناصر معروفة لديهم. ولو أنّ فيروس الكورونا مرّ من هنا.. لقُضي عليه نهائيًّا ونقطع خطره عن البشريّة.

   قطعة منديل ورقيّ ما زلتُ قابضّا عليها؛ بعدما مسحتُ بها حول فمي آثار الطعام، ولم أفطن لرميها في  واحدة من سلّات المهملات المعلقة على بعض الأعمدة بجانب الرّصيف. من فوري وضعتها على أنفي اتّقاء الرّوائح المُقرفة.

الخطوة الأخرى نقلتُ جسمي بكامله داخل ممرّ بعرض متر تقريبًا، في نهاتيه شكل شيء يشبه طاولة مُتهالكة، خلفها يقبع رجلٌ أشعث الشّعر الأشيب، عُثنونه طويلُ لم يَمَسّه مقصّ حلّاق منذ زمن طويل، بُقع الأوساخ المُتراكمة على جاكيته وسرواله؛ شكّلت خارطة فقر بائس أثارت اشمئزازي. 

   حيّيْتُه بصوت مسموع، شفتاه لم تتحرّكا.. ردّ عليّ بهزّة واحدة من رأسه فقط.  يجلس على بقايا كُرسيّ من أيّام المماليك. هكذا يبدو..!!. في هذا الرّجل كلّ شيء قديم، دُخان سجائره لوّن شعر شاربيْه بالأصفر مع أجزاء من شعر الدقن وحاجبيْه. لا يختلف كثيرًا بشكله عن عمارات هذه المنطقة الدّاكنة من سُخام السيّارات.  

   في نهاية الممرّ فُسحة أوسع مرّتين منه. ثلاثة أشخاص ورابعهم أنا؛ نصطفّ بانتظار دَوْر الدّخول.. أحدهم عابس. تغضنات وجهه تنبئ عن ازدحامه الشديد.. كلّ قليل يطرق الباب الذي أمامه ُمباشرة .. نحنحة.. يتلوها.. انفجار هائل يطير له صوابي.. أنفاس مقهورة تتأوّه صادرة من زنزانة على الطرف، طشطشة ماء تنذر عن اقتراب انتهاء محنة أحدهم... روائح حوّلت مزاجي من متفائل إلى اكتئابي.. لا فائدة من وضع يدي ومعها قطعة المنديل على أنفي لصدّها.

   دخل المزنوق بحركة سريعة مُرتبكة؛ ارتطام الباب الحديديُ كما صوت باب السّجن المركزيّ، وكأنّه سجّان غاضب، أغلق الباب بقوّة خوف انفتاحه، ويخرج أحد مسجونيه.

   الواقف أمامي وجهه يتلوّن احمرارًا مع قتامة واضحة، فخذاه يصطّكان بتناغم مع تأوّهات صادرة من أعماقه، لكن لا حيلة له، إلّا المُصابرة لانفتاح باب الفرج يأتي من خارج آخر. نوبة مغصٍٍ جعلتني أنطوي للأمام، وأشدّ على بطني بكلتا يديّ.  مازال تأتي أصوات الانفجارات من داخل ساحات المعارك، متناغمة بقوّة صوتها، وأخرى بشذوذ بعضها عن المعتاد، كبرميل ترميه طائرة على حيّ سكنيّ انتقامًا من أهله.  

   دقائق حسبتُها دهرًا من العذاب. تُغالبُني الغازات انفلاتًا، الحياء من ضحك وسخرية الآخرين منعني. وذلك العجوز خلف طاولته يتناول النّقود، لا يكترثُ لشيء مما يحدثُ حوله، يسحب دُخان سيجارته الدّائمة الاشتعال، شغلتني ظنوني الكثيرة به، رغم أنّ أكثرها ليس بإثم.  والدقائق تمرّ  بطيئة بسرعة النملة.

***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نافذة على كورونا

   ما إن صدر أمر حظر التِّجوال المُتوقّع لضرورته القُصوى؛ منعًا من تفشّي الوباء على نطاق واسع، خوفًا من خروجه عن دائرة السّيطرة كما حدث في إيطاليا؛ فسيكون مالا تُحمَدُ عُقباه.

   كنتُ أحدّث نفسي بهذا الأمر، وأتمنّاه على أصحاب القرار أن يفرضوه. لم أتفاجأ عندما أخبرني الأولاد به، الذين تركوا هواتفهم لمتابعة الأخبار على القنوات المحليّة، تلبّسهم الخوف.. تحذيرات مُتتالية، غسل الأيدي بالصّابون لمدّة عشرين ثانية، عقب كلّ مُلامسة لأيّ شيء، عبوة (الهايجين).

   حازم لم يستغنِ عنها بجانب رأسه وقريبًا منه على الدّوام، وكان يضعها في جيبته أينما ذهب قبل فرض الحظر في البيوت. كلّ قليل يصبُّ منها نقاطًا على يديْه، ويفركهما ببعضهما.

   تروقني حركاته الروتينيّة بهذه السّلاسة، لكنّه لا يتردّد في إبداء استيائه من ريم أخته الصّغرى عندما تمتدّ يدها إلى عُلبة (الهايجين) الخاصّة به دون استئذان منه، ويصرخ بأعلى صوته، إذا امتّدت يد أحدهم إلى كأسه المُخصّصة لشرب الماء، وكذلك المنشفة القطنيّة.

   بدوري لا أتردّد بالتدخّل كما الأمم المُتحّدة بإرسال جنودها ذوي القُبّعات الزرقاء إلى  بؤر النّزاعات المُصطنعة في العالم بمباركة دوليّة. أضحك من أعماقي المُتعبة المكتئبة.

   وأنا أُمثّل دوري بفضّ الخلاف المُفتعل بين حازم وريم، مُتدّخلّا بصلاحيّاتي.. استنادًا لما أمثّله كربّ أسرة، المُتماثلة مع صلاحيّات المنظّمة الأمميّة، بقرار فوريٍّ منّي مُترجَلٍ بلا تخطيط ولا مُوافقات بالأغلبيّة الخاضعة للتصويت ظاهرًا المُتوافق مع توجّهات الدّول العظمى.     

   يعمّ الهدوء المكان لبعض لحظات وتُنسى مشكلتهم، لنتراكض إلى الشّبابيك مع سماعنا لصفّارة سيّارة النّجدة، ويعلو صوت مُكبّر الصّوت فيها على شخص كان يمشي عند منعطف للطريق الرّئيسة، أعطى ساقاه للريح هروبًا، الدوريّة تتّجه بسرعة فائقة باتّجاهه، اختفى كومض البرق بين دروب وأزقّة الحارة العديدة.

   الشُّبّاك نعمة كبيرة في مثل وضعنا، رغم شفافيّة البلّلور  يبقى حاجزًا لانطلاق البصر في جميع الاتّجاهات، ويصعب إخراج الرأس خارج نطاقه، إلّا بإزاحته وفتح الظّرفة مع الخارجيّة ذات الشّبك الخفيف المانعة للنّاموس والذّباب صيفًا.

   أوه..!! يا إلهي..!!

   تراكم المُختزَن القديم  في خيالي.. توارد أفكار أخذني بعيدًا، لذلك السّجين الذي يُزاحم زميله على النّافذة الصغيرة لرؤية الوجوه القادمة من الخارج، لعلّه يرى فيها أملًا قادمًا من الخارج، علمه يقينًا أن لا أحد يأتي لزيارته.

 سنوات حُكمه المؤبّد حصدت ما تبقّى من عمره مع والدته. آخر من كان يزوره في هذه الدّنيا. 

    أيّام خدمتي حضرتني جلسة جمعتني بعسكريّ استُدعي للخدمة الاحتياطيّة المؤقّتة، لا أذكر ما هي الأزمة التي استنفرت قوى الجيش السوريّ فيها لاستدعاء المدنيّين، وتعبئة النّقص المُتوقّع في الكوادر التي تُكلّف في مهمّات لوجستيّة ذات طبيعة حربيّة.

   وضاءة وجهه المُدوّر ما زالت تتلألأ في مُخيّلتي وما بَهُت وهَجُها، نبرات صوته تأتيني من مسافة  أربعة عقود، مع اهتزازة من رأسه، وهو يشير للقمر حامدًا لله بصوت مرتفع لنسمعه. يُعلمّنا درسًا بليغًا في رؤية الوجود من حولنا بنعمه العديدة.

   أظنّ أنّ ألفة الأشياء تجعلها عاديّة في نظرنا؛ فإذا افتقدناها.. يبدأ بحثنا عن قيمتها بشكل حقيقيّ. وقال:

-"أيّام الاعتقال كنَّا نتناوب على رفع بعضنا لدقيقة واحدة على الأكتاف؛ ليتوازى نظرنا مع الكُوّة الصغيرة المُتساوية بارتفاعها لسطح الأرض فوقنا، لم نكُن لنُفوّت رؤيتنا لضوء القمر، فُسحة عظيمة لنا تأخذنا بعيدًا إلى أهلنا، وتُحرّقنا أشواقنا لهم، وأشدّ ألمي وأنا أتصوّر أمّي ودموعها، وحُزنها الدّائم عليّ، وفي كلّ يوم عند قرع الباب كانت تتوقّع من يأتيها بخبر يريح قلبها المحزون".

   نظرتُ إليه مَليّا، مـتأمّلًا قسماته الفرحة بالحياة، وللغبيّ مثلي بسؤال الجاهل:

-"وماذا يعني كان يعني لكم وقتها.. وأنت تحت الأرض في السّجن؟ ها نحن نراه سويًّا الآن..!!".

   ضحك طويلًا واصبعه تشير للقمر.. بعد هذه المُدّة الطويلة أرثي لحالي وقتها أمام ذلك الشّاب الذي كان يكبُرني بسنوات تتعدّى العشر. وتابع:

-"مواضبتنا الدوريّة لمراقبة القمر.. نُحسّ منها أنّنا مقيمون على قيد هذه الحياة.. والعالم في الخارج لم ينمح.. قطار الحياة يسير.. النّاس فوق مشغولون بأعمالهم وصراعاتهم وأفراحهم وأحزانهم، كنّا نرجع بعد هذه الحفلة نحتسي آلامنا.. نلعق المِبرَد الخشن فتُدمى ألسنتنا، وتتورّم شفاهنا، نخرج من إسار الجُدران الصّلبة الكئيبة برطوبتها، أنا من جهتي كنتُ أتلمّس أعضائي واحدًا تلو الآخر، ونبضي عالٍ رغم انخفاض درجات الحرارة، التي ترتفع على وهج أنفاسنا المُتوقّدة لممارسة البقاء". 

   استرسالي البعيد في مجاهل الذّاكرة على وقع صمت الغُرفة أمام حاسوبي. حالة العسكريّ ذاك تُسيطر على مشاعري، صراخ حازم وريم الذي لا ينتهي، كسر قيود حواجزي العديدة، لأتوجّه إلى الغرفة الأخرى لفض الاشتباك النّاشىء. ودوري لا يعدو أن يكون كالحَكَم في مصارعة الدّيكة.

***

 

صفّارة الكورونا

  

ارتجّت الجهات الأربع على حين غِرّة، جفلت أعصابي.. للحظة انْخطّف عقلي مُتوقّفًا عن التفكير بأيّ شيء على الإطلاق، صوتٌ صادمٌ لم أتبيّن مصدره.. قويٌّ. خُيّل لي أنّ مُنطلَقَه داخل أُذُنيّ، اهتزاز الرّعبة أرعشَ كافّة أعضائي.

   ساقايَ لم يعودا يحتملان ضآلة جسمي الهَزِل.. هَمَمْتُ بافتراش الرّصيف.. وقْعُ أقدام تتراكض من مسافة ليس بالبعيدة.. أصوات ولغط لم أتبيّن وجوه أصحابها.. الظلام ينشر أرديته السّوداء مُستعجلًا طرد آخر ذيول النّهار.

   صوت واضح مُخاطبًا أحدهم نه:

-"صفّارة الإنذار".

   هدأت ضربات قلبي المُتسارعة. أنفاسي استعادت تدفّقها الطبيعيّ في الاتّجاهيْن. استقرّ توازني كعادته.. حثثتُ الخُطى بالوصول إلى البيت، أتطلّعُ إلى السّاعة:

-"أوه..!!.. إنّها السّادسة، ما الذي أنساني الموعد الذي ردّدته زوجتي والأولاد مرارًا قبل خروجي من البيت لشراء بعض الخبز والخضراوات؟. وما سأفعل مع طابور طويل اصطفافًا على الدّور.. الوقت محدود.. وطالب الحاجة أعمى".

   وصل المُتراكضون قريبًا منّي، أحدهم استعجَلَني مغادرة المكان بسرعة:

-"الدوريّات تملأ الشّوارع لتطبيق حظر التجوال على المخالفين.. يا عم!!".

   منذ سنوات طويلة لم أسمع هذه النغمة الطويلة المُرعبة بوقعها على نفسي، تتشابه الأزمات بمعطياتها.. وتختلف بمُخرجاتها. مرحلة الوباء هذه حربٌ حقيقيّة عليه.. جهود إدارة الأزمة عظيمة تستديم اللّيل والنّهار؛ لإيقاف المدّ والحدّ من انتشاره المُتربّص بنا ببطء، خلافًا لاجتياح المغول الخاطف السّاحق. قاتل الله المغول وأيّامهم..!! ما الذي جلب ذكرهم على بالي؟.

   لا.. لا الكورونا هذه الأيّام لا تُصدّق.. قيل أنهم كانوا يذكرون المغوليّ خُفية في أنفسهم؛ فيفتحون الباب؛ ليجدوه واقفًا مُتهيّئًا لاقتحامه بهمجيّته المعروفة.

   في حرب الثلاث والسبعين وقت رمضان، كنتُ طفلًا صغيرًا في الصفّ الثالث.. الآن تآكلت ذاكرته بعد أكثر من أربعين عامًا، لم يبق منها إلّا الخوف المزروع فيه أصلًا من حكايا الغولة، وكلب الحديد الذي يأكل الأولاد المُشاغبين لأمّهاتهم، والشّرطي الذي أتى وأخذ من الحارة من لم يلتزموا بنصائح وتعليمات الجدّة.

   وما تسلّل ليستكنّ في قلبي من تحذير عموميّ.. إذا كان الكلام يخصّ شيئًا من شؤون الدّولة، يقولون:

-"اسْكتوا للحيطان أذان..!!".

   ياااه..!! كأنّي ذهبتُ بعيدًا في متاهات، الصّوت شتّتني مِزَقًا في مجاهل الذّاكرة البعيدة أيّامها نصبوا صفّارة إنذار يدويّه على سطح الحمّام الرّومانيّ الأثريّ وسط القرية الملفوفة بالهدوء قُبالة مركز الجيش الشّعبيّ، لا ضجيج سيّارات ولا هدير محرّكات. منذ أن أدارت يد خليل قصير القامة ضئيل الحجم، للآن لم أزدد إلّا عجبًا لتساؤل منذ ذاك الوقت، وما زلتُ بلا إجابته:

"سبب اختيار شخص لمثل هذه المُهمّة بهذا المواصفات؟، وما إن يرتفع ساعده للأعلى لتدوير الجهاز المنتصب على ثلاث قوائم.. ترتفع قدماه على رؤوس أصابعه. وجهه الصّغير الضّعيف يزداد احتقانًا.. اسودادًا.. ازرقاقًا.

   شدقاه مُنتفخان بالهواء يختزنه فيهما؛ ليستطيع فَتلْ (المانويل) يُدوّرَه باستمرار لبضع دقائق؛ لتعمّ بسوء طالعها أرجاء القرية وتتبارك الأسماع بزعيقها المُؤْذِنِ بالموت القادم. حذر .. ترقّبٌ.. غارات الطيران الإسرائيليّ قادمة.. الله وحده أين ستصبّ غضبها..!!.

   نتأهّب على سطوح المنازل بصدور عارية مُتابعين حركة ومناورات الطائرات إذا ما حدث. مثل ذاك الاشتباك الذي رأيته ما زال ماثلّا شيئًا منه في ذاكرتي.. صراع بين الفانتوم والميغ 17.

   صافرة الدوريّة تقترب من موقعي.. لو أنّ الأرض تنشقّ، وتبتلعني كي لا أكون في عِداد خارقي الحجر الصحيّ اللّازم في البيوت، فالحجز والسّجن نتيجة حتميّة مع تراخي خًطواتي التعبى من الوقوف لساعات أمام المخبز.

   أسعفتني المسافة القصيرة بالوصول إلى نهاية الشّارع، وسلوك زواريب ضيّقة تمهّلتُ خُطواتي.. شهقتُ بنَهمٍ نَفَسًا عميقًا.. صوت صافرة الدوريّة جاوزني بمسافة آمنة.

   لابدّ من سيجارة تُكلّل رحلة العذاب.. رفعتُ الكمّامة القماشيّة الزرقاء الخفيفة، سحُب الدّخان انطلقت من فمي عزلتني بحاجز كثيف زاد من غبَش الغروب. اطمأننتُ أن لا أحد يراني أخافه هذه المرّة. أنزلتُ أحمال الأغراض والمُؤَن من يديّ على الأرض، لفرك أذنيّ من الصّمم المؤقّت.

***

 

 

 

 

 

فيروس كورونا

وصلت الأمور إلى النهاية، ولا مجال للتراجع عمّا كنتُ أفكّر به. اتّخذ الطبيب قراره الأخير، بعد احتجازي في الحجر الصّحّي بمستشفى (المُواساة) الحكوميّ. لعدّة أيّام كنتُ معزولًا فيها عن البشر جميعًا، نعمتُ فيها بالخلوة، فسحة أتاحتني لنفسي. جاءت في لحظة كنت فيها بأمسّ الحاجة للابتعاد عن البشر جميعًا، فقد تمنّيتُ الحصول على مثل هذه الفرصة الثّمينة، والقيّمة فلم تُتَح لي أبدًا، والظروف المحيطة غالبًا ما تتكاتف مُعلنة تآمرها عليّ.

   على غير العادة، وبشكل مفاجئ داهمتني نوبة عُطاس أتعبت أعصابي، ترافقت مع سيلان أنفي. اضطررتُ لتناول حبّات (البندول) من العيار الثقيل، خفّفت حدّة الحرارة التي تناوبتني على دفعات، على مدار يومين، وأنا في مُعاناة لا يعلم مداها إلّا الله.

   نصائح مُتعاقبة بالذّهاب إلى طبيب عام عيادته في طرف الحارة المقابل لنا. رغم الاحتياطات المُعتادة من شرب اللّيمون، والثّوم مع اللّبن. في هذه الوقعة كلّ ذلك لم يكن له نتائج ملموسة إلّا آنيّة، وما هي إلّا نصف ساعة، واشتدّت وطأة الحُمّى أكثر من سابقتها.

   افتقدني جارنا، وما فطنتُ إلّا بالباب يُقرع، فتحوا له، ورأى ما رأى من حالي، جاءته النّخوة، فقال:

-                                                                                                                                                                                               "جهّز نفسك حتى أحضر السيّارة، سآخذك إلى الطبيب القريب منّا".

-                                                                                                                                                                                               "لا أحبّ الذّهاب أبدًا، أنا بخير..!!".

-                                                                                                                                                                                               "حالتك غير مطمئنة، أفزعني شُحوب وجهك مثل حبّة اللّيمون الذّابلة".

   رجَحَت كفّه اقتراحه تضامنًا مع أمنيات زوجتي وأولادي، فتعاضدوا ضدّ عزيمتي الخائرة، وهمّتي الواهنة. لم يكن بُدٌّ من الاستجابة لهم.

   الطبيب منتصب أمامي سرير الفحص بحذر، لبس قفّازات مطاطيّة في يديْه، وكمّامة على أنفه، أعادني منظره، إلى بكيّن وشوارعها المزدحمة بالنّاس، ونصف وجوههم مغطّاة ككائنات فضائيّة غزت كوكبنا مؤخّرًا.

   سمّاعته تتحرّك على صدري، وميزان الحرارة في فمي، وجهاز قياس الضّغط على ساعدي. جبينه مُقطّب، وخطوط جبهته كأنّما هي أقنية حفرتها مياه السّيول. حاجباه معقودان متلاصقان، هزّ رأسه، وقال:

- "إلى المشفى فورًا".

صرخت زوجتي:

-                                                                                                                                                                                               "لشو المشفى..؟".-

-                                                                                                                                                                                                الطبيب: "اشتباه بأعراض الفيروس كورونا".

   الأوامر صارمة في قسم الحجر، الأطباء والممرّضون يتعاملون معي بحذر شديد. تعقيم، لباس خاصّ يغطّيهم بشكل كامل.

   حمدتُ الله على الفرصة المُتاحة، جاءتني على طبق من ذهب. فأكملتُ مما كان مكسورًا عليّ من قراءات في رواية (طواحين بيروت)، ومسرحيّة (مغامرة المملوك جابر)، ومسرحيّة (ليل العبيد) .صباح اليوم الثاني كنتُ على أحرّ من الجمر؛ بانتظار جولة الأطبّاء الاستشاريٍّين.

   قرؤوا ملفّي المُحتوي على تحاليل الدمّ والبول، وصور الأشّعة، وقياس معدّلات السّكر والضغط. قلّبوا أوراقه مرّتيْن، تشاورا فيما باللّغة الإنكليزيّة، واتّخذوا قرارهم. فهمتُ القليل مما قالوا.

   أشاروا للطبيب المقيم بعزلي في الدرجة الثانية. لخطورة حالتي، وخوفًا من انتشار العدوى. أيقنتُ أنّني على وشك الهلاك؛ استدعيتُ فكرة خطيرة من مجاهل النسيان كنت مُعرضًا عنها، لخوفي الشديد من أحد علم أنّني أفكّر بها، وهي مشروع كتاب لم أكتب فيه سطرًا واحدًا، رغم أن جميع فصوله، وحيثيّاته ماثلة في ذهني؛ فقلت لنفسي:

-                                                                                                                                                                                               "مادامت حالتي ميؤوس منها، ونهايتي قريبة في أية ساعة يأخذونني إلى قبري، سأكتبها في الحال، ونشرتها على الفيسبوك: قريبًا في المكتبات طالعوا كتابي الجديد بعنوان (الإنسان في فكر السلطان الذي لا يعترف بحقوق الإنسان).

   استفقتُ بعد منتصف اللّيل مرعوبًا، أبحثُ عن هاتفي النّقال لأحذف ما نشرته قبل أن ينتشر على الملأ، ويراه أعوان السّلطان.  طلبتُ من زوجتي كأس ماء بلّلتُ به جفاف حلقي. هدّأت من رَوْعي.  ورجعتُ إلى منامي بعمق.

*** 

 

أحلام مؤجّلة

 

   منذ سنوات، وأنا مقيمٌ على ناصية حلم لم يتحقّق بعدما تجاوزتُ العقد الخامس بسنة واحدة فقط، ولماذا أحلمُ.. ويقيني أنّه لن يتحقّق؟. التفاؤل والانطلاق في ميادينه، جعلني أنطلقُ بلا توقّف، أو التفات للخلف بنظرة، رغم الفشل.

   أهو الأمل الزّائف..!! الذي لم أرّ منه سوى بريق المُستقبل السّراب، تعبتُ عبثًا وأنا راكضٌ خلفه، وهو أمامي هارب كالغزال من النمر المفترس السّاعي بكلّ ما أوتي من قوّة للإمساك به.

   وماذا لو تجدّد حُلمي من جديد، حصاري في البيت عزلًا جماعيًّا إجباريًّا بعد القرارات الصّارمة خوفًا من عدوى فيروس (الكورونا)، بإغلاق المحلّات التّجاريّة والمقاهي والمطاعم والمساجد والصّالات الأفراح، التجمّعات في الأماكن العامّة، ووسائل الإعلام التواصل الاجتماعي، أصابتني بالإحباط والقهر.      

   وللهروب من الحالة عاودني حلمي القديم، والخروج من قوقعتي إلى العالم الخارجيّ، بدأتُ رحلة بحث دؤوبة على شبكة الأنترنت، عن موضوع لا يخطر على بال الكثيرين من أصدقائي، فإن علموا بذلك، ستنفجر قلوبهم ضحكًا عليّ، وأخوَفُ ما يُخيفني سلاطة ألسنة البعض منهم، أتوقّع أنّها لن ترحمني تشريحًا وتسفيهًا وتقريعًا، وربّما وصموني بالانتهازيّة، والهمالة ميلًا لترك الاجتهاد السّعي الجادّ لاكتساب الرّزق من عمل شريف.

   منذ الفجر يتناوبني التّفكير الجدّي بهذه المسألة المؤرّقة، الصمت يلّفني على مدار السّاعة، الأولاد يسألونني، فأجيبهم باقتضاب شديد، وبصوت خافتٍ أشير إليهم إذا ما شاغبوا، وزوجتي لا تفتأ تسألني كلّما عنّ لها الأمر بعد عودتها من المطبخ، حينما تراني ساكنًا بهيئة غير معتادة عليها:

-"ما بك عزيزي.. هل يؤلمك شيء؟ ما الذي يشغل بالك؟".

-"في الحقيقة أتفكّر بما سأكتبُ اليوم؟".

   سكتت على مضض.. وهي تريد أن تخبرني عن عدد الإصابات المعلن عنها من وزارة الصّحة، وعن المؤتمر الصحفيّ، ووزير التموين الذي طمأن النّاس عن توفّر الموادّ الغذائيّة والمحروقات لأشهر قابلة. كلام كثير قالته.. لكّني لم أعِ كثيره.. سحبني قارب تفكيري مع موجه العاتي، للانعزال الآخر من أجل ما أفكّر به.

  أهملتُ اليوم بأكمله رسائل الواتساب، ولم أسجّل ظهور على حالتي، وكان أحد الأصدقاء أخبرني منذ زمان مضى:

-"إذا أردتَ رفع العتب عنكَ من أصدقائك، وهم بانتظار الردّ منك..!!".

-"كلّ الشّكر لك.. وأنت تُخرجني من دائرة الحرج، ولإبعادي عن الاضطرار للكذب والاعتذار".

-"ما عليكَ إلّا فصل بيانات هاتفك، وبعد ذلك ادخل إلى المحادثات على الواتساب والماسنجر، فتراها جميعًا، ولن يعرف أحدٌ بنشاط حالتك".

   اليوم طبّقت توصيته بعد سنة من علمي بها منه. وانسحبتُ إلى غرفتي من الصّالة والتلفزيون والأولاد. جلستُ وجهًا لوجه مع حُلُمي، وبعد قرار جرئ اتّخذته بعد الإفطار المُتأخّر وتناولي لحبّات السّكري، حان الوقت، وبدأت:

   ماذا لو تقدّّم مليونير عربي، أو أجنبي، ولا يهمّ حتّى وإن كان يهوديًّا؛ لتبنّي كاتب روائيٍّ مثلي، مازال في بداية مشواره، يسعى جاهدًا لتوفير لقمة العيش لأبنائه بعد كدّ وتعب على مدار السّاعة، والإيفاء بمطالباتهم اليوميّة بمصروفهم، ويعتبرونه دينًا مُستحقّ الأداء إن قصّرتُ يومًا معهم. وكثيرًا ما أضطّر للاعتذار لهم عن نسياني المُتعمّد منّي.

   سأنشر إعلانًا مأجورًا على الجوجل، وحسب صديقي الخبير  الذي تولّى هذه المُهمّة، فإنّه سينشره على منصّات اجتماعية باللّغات العالميّة، كنتُ أطمح أن يكون إعلاني باللّغة العربيّة. قال:

-"المليونيريّة العرب لا يمكن أن يصرفوا عليك قرشًا، ولو من باب الصّدقة أو الزّكاة. المهمّ اكتب لي طلبك، لأترجمه إلى الإنجليزية والفرنسيّة والإسبانيّة والصينيّة والألمانيّة".

-"دخليك..!!  استثني الصينيّة.. أنت تعرف الصّين وبلاوي الكورونا التي صدّرتها إلى العالم..!!".

   مئات الأميال التي تفصلني عن صديقي الخبير المقيم في بريطانية، هاجر إليه ضمن فئات إعادة التوطين، فهو هناك يمتلك (فيزا كارد) وحسابًا بنكيًّا، لكي يدخل إلى متجر جوجل للإعلان.

   على مدار أسبوع والأحلام تتقافز في مخيّلتي، وكأنّني حصلتُ على موافقة مليونير، وقرّرتُ دعوة أصدقائي إلى حفل توقيع روايتي الأخيرة في صالة كبيرة مأجورة، وبتغطية إعلاميّة مدفوعة الأجر من فضائيّة مشهورة لعمل تقرير عن الأمسية، وسأوظّف مجموعة من شركة علاقات عامّة له خبرة فائقة في تلميعي إعلاميًّا، وسأحظى بأن يكون احتفالي تحت رعاية وزير  على الأقلّ، ودعوة كافّة الفعاليّات والأسماء المشهورة الأكاديميّة والأدبيّة، ليكونوا في مقدّمة الصّالة، والكاميرا التلفزيونيّة تتجوّل بحرفيّة عالية في التركيز على الوجوه.  والبريستيج مهمّ جدًا لي في مثل هذه المواقف التاريخيّة النّادرة، التي لن تتكرّر ثانية، لأنّها ستبقى مدار اهتمام المنبهرين بالحدث مدّة طويلة، وسيذكرونها في مجالسهم ونواديهم.

   أمّا دار النّشر فقد وعدني مديرها، أنّه سينتظر شهرًا قادمًا بعد الضجّة الإعلاميّة في الصحف والمواقع التي له علاقات متينة مع معظم مدرائها ومساعديهم، حتّى يتقدّم بالرواية إلى جائزة البوكر العربيّة، وحسبما أخبرني بأن منشوراته الروايّة لكتُاب عرب فازت للسنة الثالثة على التوالي، على شرط وقّعتُ عليه، أن يكون عشرين بالمئة من نصيبه، وخمس عشرين لأناس يعملون مع المنظّمة.

   وسأشتري البدلة والحذاء الذي سأظهر فيهما من محلّات (بيير كاردان)، وزجاجة عطر (الشّانيل نايْنتي) الفرنسي. أرسل لي التّاجر بطلبها خصوصًا على حسابي، لأنّها نفقت من المحلّ الشّهير. وتركتُ ترتيبات الحفل من الضّيافة وصنع الدّروع وشهادات التّقدير إلى اللّجنة المُنظّمة.

   طارت الفكرة من رأسي على وقع صوت زوجتي وهي تُخبرني، بوصول رسالة القسائم الغذائيّة (الكوبونات) من مفوضّية اللّاجئين. انتبهتُ، بينما يدي امتدّت لحكّ رأسي بشدّة.

***

 

شركاء الكورونا

   "إنّها للطمأنينة فحسب" بهذه الكلمات أنهى صديقي مكالمته غير المنتظرة بعد انقطاع لأكثر من سنتين، لا أدري ما الذي ذكّره بي في هذه اللّحظة العصيبة. ضيق فُسحة الزّمان والمكان، قلّصت مساحة الدّنيا بعينيّ إلى خُرم إبرة.

   تنبيهات الواتساب على مدار السّاعة لا تتوقّف، مقاطع فيديو عديدة لا أستطيع رؤية غالبيّتها، سيلٌ جارفٌ من النّكات.. التحليلات.. كلام الهمبكة. أشياء تأتيني خارج دائرة اهتمامي لا تعنيني لا بكثير ولا بقليل.

   ما إن انتهى المؤتمر الصحفيّ على التلفزيون الأردنيّ لخليّة الأزمة، بإعلان عزل مدينة إربد القصبة عن محيطها من القرى المجاورة، حتّى انهالت عليّ الاتّصالات مُستفسرةً عن أحوالنا، وهل ما زلنا على قيد الحياة؟.    

   الأزمة مُلك الجميع شركاء فاعلين فيها، الشّركاء تجاريًّا يَدْأبون على تنمية شراكتهم للمزيد من الانتشار والأرباح. سُئلت من صديق مُستغربًا فيما ذهبتُ إليه في معرض حديث هاتفيّ معه:

- "كيف هذا؟."

- "في الحقيقة أنّها جمعتنا أوّلًا على هدف واحد، مقاومة الفيروس مهمّة كلّ فرد فينا بالمحافظة على التعليمات، وأساليب الوقاية بعدم الاقتراب والمصافحة والتّقبيل في اللّقاءات والتجمّعات، ولبس الكمّامات والقفّازّات المطاطيّة، والمسح الدّائم بسوائل المُعقّمات".

   تنهّدّتُ بعمق تعبٍ داخليّ مُفاجىء، أنفاسي الحرّى سخونتها أحرقت الأثير المُتباعد مع صديقي المنصتُ لجوابي باهتمام؛ أحسستُ أنّه مُبالِغٌ فيه، وتابعتُ بعد استرخاء أعضائي بارتياح:

-  " هذا على صعيد، أمّا الخوف أعادنا لطبيعتنا البشريّة المغامرة اللّامبالية، والقلق على مصائر أولادنا وعائلاتنا، والحجر داخل البيوت والتزامنا فيها، أتى طوْعًا بدافع الخوف من العدوى".

- الآن فهمت قصدك يا صديقي..!! رغم أنّي أعرف هذه الأشياء البسيطة، لكنّها كانت غائبة عن ذهني، كما أنّي لا أستطيع ترتيب أفكاري بطريقة عرضك لتكون موضوعًا يحمل فكرة، أرى أنّها توجيهيّة".

- "أشكرك.. كما أنّ العالم تقارب في مُستويات الخوف التي لم تَعُد نصيبنا نحن العرب فقط، بل الهلع في الدول المُتقدّمة لأوّل مرّة بهذه الطّريقة، رغم إمكانيّاتهم الماديّة التي تفوقنا بآلاف المرّات، شعوري الآن أنّ قدراتهم النوويّة والعسكريّة وقفت عاجزة، كما نحن لم نقف متفرّجين مُظهرين عجزّا أبدًا، انظر للمبادرات هنا على مستوى المملكة، وقوّة زخمها بجديّة وحزم على تنفيذ العزل ولو كان ذلك بالقوّة، وهذا كان سبقًا لا مثيل له منذ بداية اكتشاف أوّل حالة كورونا في البلاد من القادمين الذين كانوا على سفر في الخارج".

   داخَلَني شعور بتراخي اهتمام صديقي على الجانب الآخر.. تنحنحتُ كأنّ حازوقة غصّ بها حلقي، لإشعاره بتعبي، من فوره بادرني:

-  "سلامات.. سلامات.. يبدو أنّي سبّبتُ لك التّعب سامحني.. إلى اللّقاء".

-  " بأمان الله.. إلى اللّقاء".

   سأكملُ كلامي.. ولو لنفسي..!! لأبرئها أمام التّاريخ فيما لو عادت المرحلة لا سمح الله: 

-  "حالتنا الآن كأصحاب السّفينة التي خرقها الخضر في رحلته بصحبة نبيّ الله موسى المُتعجّل بالتوقّف عند ظاهر فعل الخضر عليهما السّلام، رغم تنبيهه المُشدّد لموسى بعدم استطاعته، وتأكيد من نبيّ الله بالصّبر مهما كلّف الأمر.. تعجّل استخلاص الحكمة من أفعال الخضر، يبدو أنّها كانت درسًا بالصّبر والتأنّي.. اليوم نتلقّاه كما نبيّ الله موسى. لكن بالتزامنا بالأوامر بُغية صحّتنا..!!". 

   إنّها للطمأنينة فحسب..!! خاتمة أوّل اتّصال وردني، ربّما كان لتذكيري أنّني مَدينٌ له بمبلغ ماليّ صغير، أعتقدُ أنّ خوفه هذه المرّة مُبرّر، ظنًّا منه بموتي.. وإنّ أكثر الظنّ ليس بإثم.. على خلاف حالة الخوف العامّ على كلّ المُستويات.

   كثيرون تتوقّف مصالحهم الصّغيرة أمام معركة الحياة الكُبرى، كمن يُحاول وضع العُصْيِ في العجلة مَنعًا لتحرّكها وتوقيفها من جديد عند أنانيّة مُفرطة. التّعامي عن التضحيات العظيمة للشّعوب أمام الخطر الدّاهم.

   بعفويّة بسيطة أغلقتُ الهاتف، هذا القدّر يكفيني هذ اليوم.. أتْخِمتُ كلامًا مُكرّرًا بلا طائل سوى إضاعة الوقت، رجوعي إلى قراءتي رواية (رسمتُ خطًّا في الرّمال هاني الرّاهب) هو الحلّ الدّائم.   

***

 

 

 (أدب العزلة في زمن الكورونا)

 

قلق كُورُوني

   منذ الشّهر الفائت قالها صديقي الشّاعر: "قلق انا". بعدها لا أدري ما الذي أصابني..!!؟. تفكير دائم استغرقني جلوسًا حبيسًا في قمقم. شارد الذّهن في لا شيء من الصعب تحديد ما هيّته، لم أتبيّن موقفي حقيقة هل من شيء يُنكّد عيشي أو خلافه.

   الواتساب يأتيني على مدار السّاعة بسيل جارف من الرّسائل التحذيريّة والوعظيّة والفكاهيّة والتحليليّة والتركيبيّة والتكعيبيّة والرمزيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة. إضافة لمقاطع الفيديو وفيها ما فيها. جميعها سبّبت إرباكات في ذهني، وانخفاض مستوى استيعابي لحدّ الأدنى قريبًا الصّفر. وأغلقت مساحة التّفكير التي كانت تُمكّنني سابقًا من الإفلات هروبًا في ممثل هذه المعامع، رغم أنّي لستُ من خائضي داحس والغبراء.

   وكما يُقال: (الفاضي بيعمل قاضي) أو (قِلّة الشُّغل بتعلّم التّطريز)، ما زاد الطين بلّة كرم وسخاء شركات الاتّصالات بإعلاناتها العظيمة: (اشْحنْ خطّك، والدّفع لاحقًا).. كرمها الحاتميّ البارحة جاء مُتجلّيًا في عزّ أزمتي الماليّة والمعنويّة، أرسلوا لي مساعدة لتعزيز صمودي في عُزلة الحجر عشرين (جيجا)، رصيدي من حُزمتي الشهريّة على وشك النفاد. ومُشكلتي الكبيرة إذا انقضت باقي (الميجات) القليلة آخر الاشتراك.

   لا أدري كيف أُسْدي شُكري لهم، لا أعرف وسيلة لمكافأتهم على فطنتهم ودرايتهم في حاجاتي الأساسيّة. فكيف بي إذا انقطعت على العالم الخارجيّ، صمت جهاز هاتفي النقّال عن صفير الإشعارات.. ليس القلق وحده ساعتها ما يستوطنني.. بل ستتقاطر قافلة اليأس والإحباط وقلّة الحيلة، وعلى رأي سميرة توفيق:

-(لا بُوكِلْ ولا بَشْرَب.. بسْ أطّلعْ بِعْيوني).

   اختلاطات في ذهني أمغصتني بشدّة في بطني. لم تألُ جُهدًا زوجتي بإسعافاتها الأوليّة لي، صنعت كوبًا ساخنًا من الزعتر البرّي، ومازال الألم مُستمّرًّا.. أتبعته بآخر من الميرميّة. الوضع تأزّم إلى حالة إسهال شديد لم ألحق نفسي بالتناوب على الحمّام كلّ دقيقة. لو لا التزاحم العائلي على هذا المرفق الهامّ الوحيد في البيت، لاتّخذتُ قرارًا سياديًّا بالإقامة فيه خلال هذه الأزمة الطارئة المتآمرة مع حصاري الإجباريّ المعلوم. المحالّ التجاريّة مُغلقة تحت طائلة المخالفة والغرامة والإغلاق. الصيدليّات بداية أغلقت أبوابها في الأيّام الأولى متوافقة مع حالتي الطّارئة؛ تنفيذًا لتعليمات الحظر المؤقّت.

   هواجس تحوطني من كلّ جانب تتقاطر تَتْرى مُستوطنة جميع ساحاتي، لتنسدّ كلّ المنافذ أمام عينيّ، أظلم الفضاء.. جُدران الغرفة ضاقت كالقبر ما عاد فيها مُتسّع لي. بحث شامل دؤوب عن حبّة مَنسيّة ضائعة في أسفل كيسٍ مهترئٍ يحتوي على عُلَب أدوية فارغة استخدمناها سابقًا. أوهمتنا برصيدنا القوميّ من الأدوية المُستدام وجودها في العادة كاحتياطيٍّ استراتيجيّ.

   لم تستسلم للوضع الرّاهن بضيقه، وقلّة الحيلة. تذكّرتْ أنّها نسيتْ أنّها كانت تُخبّئ حبّة موز للبنت الصّغيرة أثناء وجودها في المدرسة ذاك اليوم قبل أسبوع. وجدت الموزة كأنّها حبّة باذنجان، لبست سوادها حُزنًا على حالي. أطعمتني بيدها الحنونة في مثل هذه المواقف عند عجزي.

   لمّا شعرت أنّ حبّة الموز الواحدة لا تكفي لإمساك مَعِدَتي، أغارت على المطبخ، لتأتيني بعد ذلك بكأس لبن مُثَوّم، شربته على مضض بعد إلحاحها الشديد بإكماله. نفسي تأبى قبول هذه الكميّة بشكل مُباشر. لم تنس سلق حبّات بطاطا، حسب قولها:

-"هذا دواك وعلى الله شِفاك، عليك بالنّوم بعد تناول البطاطا؛ ليرتاح جسمك تهدأ أعصابك".

   استجابتي لأوامرها كانت سريعة هذه المرّة، على خلاف ما كان أيّام ما قبل حصار الكورونا، استغربتْ ما لمست فيَّ من مطاوعتي لها، يبدو أنّها لم تشعر بضعفي أمام خبرتها بتطبيبي..!!.

   لم تتوقّف قاطرات الأحلام تدفّقًا أغرقتني عميقًا في نوم على جانب واحد لم أتزحزح عنه، شعوري بالخدر الشديد.. أسراب نملٍ تسري من ساعدي حتّى خنصر قدمي. كأشواك الصّبار تملأ جسدي أثناء سَطْوِنا الشقيّ على بيت جيراننا لاقتناص حبّات تتلألأ استواء بلونها الذهبيّ. مخاطرة محفوفة بنخز الأشواك على مدار أيّام، صحوتُ مُعتدِلًا في جلستي، يدٌ حانية ناولتني كأس ماء، لم أستطع رفعها بيدي، بلهفة متسائلة:

-"ما بك يا حبيبي.. بماذا تشعر؟"

-"لا شيء سوى أنّ جنبي مُتيبّس كحطبة، ونَمْل يسري تحت جلدي".

   لمسات ناعمة تُدلّكني بحنان، زيت الزيتون سهّل مهمّة انزلاقها على ساعدي، البنت الصّغيرة تصرخ في الغرفة الأخرى، تنادى على أختها الأكبر المستغرقة أمام أفلام الكرتون على التلفزيون. يستمرّ الصّراخ، ويدها لا تتعب من تمسيجي بهمّة.

   انقضت هذه المرحلة، وجاءتني بكأس شاي ثقّلتها لمؤازرة الموز والبطاطا، وإعطاء نتيجة مُرضية شعرت بتحّسن.. دبّت الحرارة في جسدي مُجدّدًا.. تناولتُ الهاتف لم أصبر على فراقه طويلًا.

***

(أدب العزلة في زمن الكورونا)

 

فوائد الكورونا

      لا أدري لماذا يأتيني الإلهام، وأتذكّر واجب الكتابة لديّ مع انطلاق صفّارة الإنذار كلّ يوم عند السّادسة، وأتعجّل أمري كأنّ الحظر مفروض على صفحات (الوورد) أيضًا. قلمي المُتِلكّئ استجابة لما يحوك في رأسي من أفكار؛ يتقّظ فجأة مُتدارِكًا تقصيره الذي اعتاده سائر أيّامه وقبل ذلك الحين.

   في صغري جميع المُعلّمين في الصّفوف الابتدائيّة والإعداديّة، لم يدّخروا جُهدًا في تلقيننا المعلومات، حتّى ولو استلزم الأمر استخدام القوّة في كثير من الأحيان، عبارتهم الذهبيّة المُكرّرة على  سمعي على مدار سنوات المقاعد الدراسيّة:

-(لا تُؤجّل عمل اليوم إلى الغد).

    وما زال التأجيل طبعًا لا يتزحزح عن حاله إلى الممات، إلّا في حالة الإلحاح والملاحقة. من فوري فتحت صفحة (الأوفيس). دوّنتُ العنوان متزامنًا مع دخول ابني بطلب لي، قرأ العنوان، فوائد الكورونا.

   باستغراب الدّهشة المفاجئ المخالف لما استقرّ في ذهنه من الحذر وتعليمات الحظر وعدم الاقتراب، ومفهوم الخطر الوبائي الدّاهم, تساءل:

-"وهل للكورونا فوائد برأيك..؟".

   -"بكلّ تأكيد لكلّ شيء فوائد وأضرار. ليس الفائدة بالمرض بحدّ ذاته، بل عرفنا جميعًا من تحذير مخاطره، وإجبار أنفسنا على العُزلة، والعزلة من نتائج المرض".

  هزّ رأسه لا أدري هل اقنع بكلامي، أو سمعني أم لا.. وهل راق له؟. وتابعت:

-"ألا ترى أنّها جمعتنا في البيت بشكل دائم، وهذا الأمر افتقدناه منذ زمان، هموم العيش وصعوبات الحياة فرضت عليّ مثلًا غادرة البيت منذ الصّباح حتّى اللّيل، وكأن الكرة الأرضيّة تشتاق استراحتها من لهو البشر، والسّماء تتوق لدعاء البشر بعد نسيان في متاهات الحياة".

   استغراقي في الشّرح أخذني بعيدًا بتركيز فاصل عن محيطي، وتتراكض الأفكار إلى شفتيّ بتزاحم على الخروج:

-"من أعظم الفوائد يا بنيّ صفاء الجو، واستنشاقنا للهواء النظيف، خاصّة  سكّان المدُن عامّة بمعاناتهم الطّويلة من معدّلات التلوّث الهائلة المهلكة للصحّة، ومُسبّبة لأمراض الجهاز التنفّسي، وتلف الأعصاب، كذلك دعنا نستمتع بنعمة الهدوء من الضجيج العالي المرهق للنفس والقلب.

   من مراقبتي واطلاعي على ما يصلني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كوّنت رأيًا جديدًا. ازدادت دوافع الإيمان وعاد الكثير ممن كانوا ضائعين في زحمة الحياة إلى ربّهم بالدّعاء والطّاعة"

   صحوْتُ من سكرة استغراقي، لأجدني مُوجّهًا حديثي إلى نفسي، شعور مداهم بالتفاهة وأنا أكلّم نفسي، الحمد لله أنّ زوجتي لم تقترب من زاويتي، بكلّ تأكيد لتعاظمت شكوكها بقدراتي العقليّة، لتتأكد شكوها القديمة بجنوني، والحالات المزاجيّة الصعبة التي تأتيني بشكل متباعد. 

  يا لك من ولد شقيّ تركني وحيدًا بلا مبالاة لسماع إجابتي على تساؤلك، أجيال نافدة الصّبر.. عجولة في طلب مقدّرات الحياة بلا تعب وعناء.. ولا جهد ومشقّة، تتخيّل أن هناك من سيقدّم لها كلّ شيء على طبق من ذهب. 

  رجعتُ إلى صفحتي أفكّر من جديد لوصل من انقطع من تسلسل كان في ذهني لترتيب الموضوع. فنحان القهوة على يمني رشفتُ منه تغيّر طعم فمي من مرارة استقرّت به منذ دويّ صوت الصفّارة.   

   ليته استمع لباقي كلامي، لكنّه موضوع وانفتح. سأكمل ما استحضرني من فوائد الكورونا، الأهم على الإطلاق.. تجدّد همّتي إلى القراءات المُؤجّلة من زمان، وتشوّقي لها تَسَاوَق انْغماسًا بمشاغل المعيشة التي لا ترحم من كثرة طلباتها. معظم أرباب البيوت لا يرجعون إلّا وقت النّوم للاستراحة والطّعام، أعمارهم تفنى على صخور جامدة سَحَلَتْ عواطفهم.

   من جديد عاد الولد لشكوى لا تنقطع على مدار السّاعة من أخته. تسلسل أفكاري توقّف عند هذا الحدّ، فَوْرَة غضبي كادت تُودي بآخر تماسكٍ لأعصابي التّالفة أصلًا، لولا استعادة رُشدي في اللّحظة الأخيرة، شعور حنان غامر طغى بقطع سَوْرتي عن هذا الكائن الصّغير .

   استدرتُ بكُليتّي إليه مُحتضنًا جسمه الضّئيل، بَشَشْتُ بوجهه، وقبّلته بحرارة، وأنا أستمع لشكايته ماسحًا لدموعه، استرضيتُه. ومضى إلى شأنه من جديد. رجعتُ عازمًا أن لا أؤجّل إنهاء كتابتي إلى غد، شعوري بالإنهاك الجسدي.. جلوسي لساعات طويلة أمام الحاسوب شاقني للعودة إلى الفراش.

***

 

 

(أدب العزلة في زمن الكورونا)

 

آخر الأنفاس

   اللّحظات الأخيرة مليئة بالمفاجآت تأتي على حين غِرّة غير آبهة بمعطيات سابقة أو لاحقة. هكذا هي كالسّكين قاطعة في قرارها ماضية لتشكيل حالة جديدة يُبنى عليها الكثير.

   نداءات المُنظّمات العربيّة والدوليّة المُنادية بحقوق الإنسان، اصطدمت بجدار قاسٍ من العنّتِ وعدم القبول لدى مسؤولي النّظام بالإفراج عن الرّجل الذي قضى سنينًا كثيرة من عمره في سُجونهم.  مُناشدات من دول العالم على اختلاف مواقعها أطلقت في حملات النّاشطين بلا فائدة تُذكر. وباء الكورونا حرّك الإنسانيّة من جديد لتلتفّ مُجدّدًا للتصدّي توعويًا وعمليًّا للوقاية من مخاطر انتشاره.

   محاصرٌ بأحمال هموم بحجم الوطن رُهنت حُريّته به. جرأتُه لم تدع له مجالًا للعيش إلّا في زنزانة منذ سنوات، تُهمة التآمر على الوطن جاهزة كالبصمة. عمره تهرّأ بطيئًا تحت وطأة ظلام ورطوبة الجدران، وهجُ أفكاره يُعاكس سوء وضعه عندًا صلبًا بيقين ثابت لا يتزحزح.

   ذُبالة أنفاسه الحرّى تتردّد كموجات صقيع المنخفض القطبيّ. شُحوب خريفيٌّ استوطن معالم وجهه النّاتئة الهابطة انهدامًا، تبدّلت ملامحه عن صورته تلك المستقرّة في أذهان قارئيه أيّام نشر مقالته اليوميّة في الجريدة الرّسميّة، خفت بريق نجمه مستنفذًا طاقته على مدار سنين مقيّدًا في سجنه.

   لو مشى الآن في أيّ من شوارع دمشق المألوفة له لما لاحظ وجوده أحد، يمرون به ولا يحفلون به، شكله تغيّر تمامًا عكس صورته بمئة وثمانين درجة.

   سعالٌ استدامه طوال يوم كامل موشّى بخيوط حمراء، يا إلهي..!! قادتني إلى الشاعر السيّاب الذي كان في مثل حالة عبدالرّؤوف، حينما وصل السيّاب إلى تلك الحالة في مستشفى الصّباح الكُويتي، قال:

(الدّاءُ يُثلج راحتي، ويُطفئ الغَد.. في خيالي

ويَشُلّ أنفاسي..، ويُطلقها كأنفاس الذُّبال

كم ليلة ناديتُ باسمك أيّها الموت الرّهيب..

وددتُ أن طلع الشّروق عليّ إن مال الغروب).

   طلع الشّروق ومال الحُزن مع شهيق اهتزّت له الجدران. ذُهول ألجم ألسنة بقيّة النّزلاء معه، انطفأ المصباح المُتوهّج في عالمهم. دموعهم حرّى أحرقت سوط الجلّاد، بلعنات مُستدامة.

   صرخات .. تلو صرخات.. كلّت أيديهم الواهنة من القرع على الباب الصّلد، اهتزّت الجدران والعسكريّ الحارس، لم تهتزّ شعرة واحدة في مفرق رأسه.  في موعد توزيع الطّعام. جاء غاضبًا، مُتسائلًا:

-"مَن الذي كان يصرخ..!!؟"

جميعهم بصوت واحد نزع  داء الخوف من العقاب المُنتظر:

-"نحن"

-"إيه..!! في نيّتكم أن تعملوا إضراب..!!؟".

جماعيًّا بصوت واحد:

-"بكلّ تأكيد.. لا".

-"لكان شو طلبكم؟".

-"مات رفيقنا عبدالرّؤوف، كان بحاجة لإسعاف منذ البارحة".

العسكريّ بعنجهيّة صَلِفَةِ، فتح الباب:

-"أخرجوه إلى الممرّ.. غدًا في الصّباح تأتي سيّارة التمريض؛ فتأخذه. إذا اشتبهوا أنّه كان مصابًا بالكورونا، احتمال كبير أن  يتّخذوا قرارهم بحَرْق الجُثّة..!!".

   قرقعة الأقفال دوّت في القبو بإغلاق الباب عليهم من جديد. صوت خطوات الحارس آخر خرق للصمت. السّجناء احتسوا مرارة واقعهم. دخلوا في إضراب حقيقيّ.  طعامهم على حاله لم يُمسّ.

***

(أدب العزلة في زمن الكورونا)  

 

يدُ القدر

   عيون الجالسين على طرف الطّريق تنغرس في وجهي تلاحقني بعدما قطعتهم بمسافة. العابرون مُسرعي الخُطى يتفرّسونني بشراسة شرهة.

   أَنعطفُ يمينًا إلى الشّارع الآخر الموازي للأوّل، لُهاث أنفاسي أتعبني، ساعة الهاتف النقّال لم أترك النّظر إليها كلّ قليل، تمرّ الدَّقائق سريعة تنهب الوقت، أحثُّ نفسي بالسّرعة لحاق بموعدي مع الطّبيب الذي أنتظره منذ أسبوع. خلال فترة السّماح لنا بالخروج من منازلنا، بعد تخفيف حالة الحظر العامّ.

   العُيون هنا ما زالت تُطالعني باستغراب. عاينتُ وجهي على شاشة الموبايل السوداء، انعكس عليها ظلّي مع ضوء الشّمس، كأنّها مرآة.

   توقّفتُ للحظة. لا شيء يبدو على ملامحي استرعى كلّ ما لاحظتُ خلال عبوري للشارعيْن، تأكّدتُ من ترتيب هندامي ولياقته المعهودة، لم أتخلّف عنها، هذا أنا.. لا جديد.. ولا غريب هكذا تبيّن لي.

   ثارت عاصفة من التّخمينات في داخلي، تحليلاتي لم تصل إلى نتيجة واضحة لديّ، هواجس كثيرة تباعدت، وتقاربت بزمانها ومكانها. شعورٌ داهمٌ عطّل جميع منافذ تفكيري بالاتّجاه الصحيح، اختلطت الأمور.

   وصلتُ بُوابة العيادة بموعدي المُحدّد، ترافقت أولى خطواتي عتبة الصّالة مع نداء السكرتيرة على اسمي، ما إن وصلتُ على بُعد خطوة من طاولتها، وقفت صارخة بعصبيّة أجفلت سكون المرضى، خرقت دائرة الصمت، توقّف حركة الأيدي والأصابع التي تمسك بالموبايلات، صوّبوا أعينهم كحراب غُرست في جسدي المُنهك من المشوار الطّويل، الطبيب مُستغربًا أمرًا لم يحصل معه طيلة سنواته العشرين في مهنته. فاغر فاه, حاجباه قفزا للأعلى ليرسما قوسيْن على مقدّمة صلعته الجرداء تمامًا. تتدلّى السّمّاعة على صدره، حارت الكلمات تتلجلج بين شفتيه، لا تستطيع الخروج بوضوح ليسأل.

   لحظة ذهول فاجأتني بصدمتها غير المُتوقّعة أبدًا. مَبهوتٌ، تخشّب لساني، أستحلبُ ريقي ترطيبًا للجفاف الطّارئ في الحال.

   تشير أصابعها باتّجاهي وعينيّها تُصوّبهما نحو الطبيب، إلى هذه اللّحظة لم تنطق بكلمة واحدة ذات دلالة على شيء ما، ربّما تريحني، وتُزيل عنّي وقع المصيبة العظيمة.

   بخطوات مُتسارعة نحوي.. الطبيب قادني من يدي إلى غرفة صغيرة مجاورة لغرفته فارغة إلّا من كرسيّ بلاستيكيّ، وسرير معاينة. أشار عليّ بالجلوس، واستدار خارجًا، أغلق الباب خلفه من دون أن ينبس بكلمة واحدة:

-"يا إلهي ما هذه الورطة التي وقعت فيها، ما الذي فعلته بنفسي، ليتني تجاهلتُ الموعد والمجيء بمثل يوم النّحس هذا".

   عشر دقائق فصلتني عن عوالمي السّابقة واللّاحقة، خدّرت أعصابي بجمود صقيع قطبيّ، تسمّرت جُلوسًا مكاني، عيناي تدوران في زوايا الغرفة، السّتارة تغطّي الجزء الأكبر من النّافذة، تسمح بدخول ضوء معقول.

   أصوات من بالصّالة نقاشٌ مختلط، كلّ اثنين يتكلّمان شيئًا ما، لم تتكوّن عندي فكرة واضحة عن كلامهم، لعلّها تُذهِب عنّي هوْل الصدمة،

   الباب يُقرَع، يُطلّ شبحٌ بملابسه البلاستيكيّة الزرقاء، كأنّه قادم مع سكّان الفضاء لغزو كوكبنا، من يقف وجه الطّبيب مُصفّرًا كليمونة نضجت على أمّها. لم تُغادره ملامح الحيرة المكسوّة بالخوف.

   تقدّم الكائن مع مُساعده، اقتاداني، بعدما وصلني صوته الأوّل من خلف كمّامة على فمه، وقناعًا بلاستيكيًّا شفّافًا حاجزًا بين وجهه وبين المحيط.

-"شرّف معنا.. يا أخ".

-"إلى أين.. ومن أنتم..!!؟".

-"إلى الحَجْر الصحّي".

   على الطّرف الأيسر من مدخل العيادة، رأيتُ صورة، كأنّها منسوخة عن شكلي حدّ التّطابق، أيقنتُ أنّ صاحب هذه الصّورة مطلوب.

   هناك في المكان المُخصّص، خضعتُ لاستجواب غير مسبوق في حياتي، دقيق لدرجة إحصاء أنفاسي من يوم أن كنتُ في بطنْ أمّي، طلبوا منّي جواز سفري الذي قدمتُ به من دولة أجنبيّة تفشّى فيها الوباء بشكل كبير.

   تنفّستُ بعمق، ارتياح سرّى في أعصابي هدوءًا طارئًا. أيقنت أن لبْسًا في الأمر، مثل تشابه الأسماء عندنا في سوريّة، الذي ذهب ضحيّته أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل. انطلق لساني من عقاله بطلاقة:

-"أصلًا أنا لاجئ لا أمتلكُ جواز سفر، ولم أسافر خارج الأردنّ منذ مجيئي إليها قبل سبع سنوات".

-" غير ممكن.. أبدًا مو معقول.. هل تهزأ منّا حتّى تفلت، يا أخي الأمر خطر عليك وعلى الآخرين، يجب أن تخضع للفحص والحجر لمدّة أسبوعين، وبعدها يُنظر في أمرك".

   أبرزتُ بطاقتي الأمنيّة.. تأكّدوا من سلامتها وجهة صدورها، تغيّر الموقف مئة وثمانين ودرجة. ذهول غير مُتوقّع.. فشل جهودهم الحثيثة بحثًا عن شبيهي. قرّروا بعد مُشاورات:

-"بما أنّكَ وصلتَ هنا؛ ستبقى عندنا في العزل نطمئن على صحّتك، وكيف وقد صدر الإعلان عن العثور عليك".

-"يا جماعة الخير كلّ الشكر لجهودكم وحرصكم على حياتي، أولادي وعائلتي بانتظاري، لأرجع لهم بطعام الغداء، وما يكفيهم مؤونة الغدّ".

-"لا تبتئس.. سيصلك طردٌ غذائيٌ، وكافّة مُستلزمات العائلة فترة غيابك عنهم، وما يزيد عن حاجتهم".

   من جديد تنفّستُ بعمق، تذكّرتُ أنّني كنتُ سأستدين مبلغًا من صديق قديم، بعدها سأشتري القليل مما يكفي بقاءنا على قيد الحياة.

***

 

(أدب العزلة في زمن الكورونا)  

 

كسر الحظر

   أفكار الولدنة المُتباعدة عن زماني هذا لم تُغادرني، لذّة النّشوة فيها تُعاودني بين فيْنة وأخرى. خوفي شديد.. سرٌّ أتكتّم عليه بيني وبين نفسي، ماذا لو علمت زوجتي وأولادي، بطريقة تفكيري، وحنيني الدّائم إلى تلك الأيّام؟. 

   اختلفت الظّروف، انعكست طريقة حسابي للأمور، قناع الهيبة والرّزانة لا أنزعه ولو للحظة واحدة، إلّا في الحمّام، أو إذا أقفلتُ باب الغُرفة على نفسي. الثقب الذي يدخل فيه المفتاح، يثير اشمئزازي من وجوده في هذا الموقع رغم ضرورته التي لا غنى عنها. عندي حساسيّة مُطلقة من عين تُرسلُ نظراتها إليّ أثناء تبديل ملابسي. إغلاقها باعث استقرار؛ لملاقاة جسدي الغائب عنّي، المُتواري خلف ألوان وماركات الألبسة المختلفة.

   في غفلة انشغال عائلتي انتظارًا لموجز خليّة الأزمة، والتطوّرات المُستجّدة. لهفة الترقّب.. العيون مُصوّبة إلى الشّاشة.. بانتظار تصريح وزير الصّحة فقط، هذا الذي يهمّ شريحتنا الاجتماعيّة.

   جدران غرفتي عَزَلتني في مأمن مؤقّت.

ماذا لو خرقتُ الحظر..!!؟.

ماذا لو شاهدني ابني، وأنا مثَلُه الأعلى؟.

   لم يطُل اتّخاذ قراري، أدرتُ المفتاح عكس اتّجاهه، حريّة بلا رقابة، نسيتُ نظرات قِنَاعي المقهور، عبر النّافذة أرسلت نظراتي على امتداد الأفق المفتوح أمامي. الشّمس مُنسحبة من الميدان، خلّفت شفقها يشيّعها إلى مُستقرّها. الشّوارع خالية تمامًا بعد صفير الإنذار.    

   اختفت الحركة.. خيّم الهدوء الإجباريّ على المكان. إغراءٌ داخليٌّ مُنبىءٌ عن خرق عظيم يُسجّله تاريخي بمخالفة الأوامر الصّارمة. اعترافي العلنيّ هذا وشاية بي. رتابة استحوذت على قطار عمري بُطْءًا حدّ الجمود. طيب الحركة والمغامرة صديقة المُقامرة.

   لحظة تحرّري توقّف معها تفكيري، خطفة سريعة.. اصطدم رأسي بالبلّلور الشّفاف اللّعين، اقشعرّ بدني.. توقّف شعر رأسي. أحببتُ شفافيّته مع المطر النّازف خيرًا، وقلبي يتراقص طربًا على أصوات ارتطامها به. 

ما الذي قاد ذهني إلى المعصية الآن؟.

ما وجه الشّبه بين فعلتي ومعصية الربّ؟.

   بعصبيّة سحبتُ ظرْفَة النّافذة. التواصل مُباشر مع الخارج بلا عوائق. لم أُهمِل مُراقبة المكان وجواره، خبرة قديمة نستقصي بها خلوّ كُرُوم التيّن والعنب من نواطيرها المُجاورة لمدينتي بُصرى.

   أريد التحليق خارج الزّمان مددتُ رقبتي القصيرة خارج جوّ الغُرفة، لأوّل مرّة أستنشق هواء بحريّة تامّة بلا رقيب. تحرّرت أثقال جسمي لأسبح كريشة في سموات.

   تبخّرت فيزيائيّة ضاع ثقل جسمي، لأصبح كرجل فقد وزنه، تمسّكتُ بأهدب السّتارة الواهية، جاذبيّة الأرض فقدت خاصيّتها، إذا خرجتُ من نافذتي لن أعود.

   ليس لديّ حلم الاستقرار في أيّة بُقعة من الكرة الأرضيّة، إلّا العودة إلى مسقط رأسي، لأحصل على قبر أرتاح فيه.

   قرعٌ على الباب، ارتبك موقفي.. لبستُ قناعي، مسحتُ آثار الرّيبة والشكّ، مرآة الخزانة أكّدت سلامة مظهري، أوه.. يا لغباوتي!!. كيف لم أنتبه لرصدها كافّة حركاتي بدقّة؟. 

   تفاهة إغلاق الباب لم تمنع الخَوَافي من المُتابعة نيابة عن عائلتي. يبدو أنّ الموجز الصحفي انتهى للتوّ.

***

مراجعــــات

   الميزان أوّل شيء تُشير المُمرّضة به إليّ في كلّ مرّة أدخلُ مكتبها في بداية كلّ مراجعة لي لمنظمّة (أطبّاء بلا حدود)، خشيتي من مخالفة أوامرها؛ من فوري أستجيبُ أيضًا بالجلوس على الكُرسيّ المُخصّص لقياس الضّغط. لا أدري لماذا أحاول إظهار التزامي بإشاراتها..!!؟. ولم يخطر ببالي مرّة التمرّد عليها.. أو بالتلكّؤ في تنفيذ ما تطلب منّي. بينما هي منشغلة في تسجيل بيانات قراءاتها، وملاحظاتها عن تطوّرات حالتي المُراقبَة بدقّة تامّة، ولا تلتفتُ لي لانهماكها في عملها.. بينما أمتثلُ لإشارتها بالخروج والانتظار من جديد لموعد دخولي على مكتب الطبيب. حتّى وصول إضبارتي (الملف) إليه، وهي دائمة السّمن في حجمها ووزنها المُتزايد كل مرّة آتيهم من إضافة معلومات جديدة لها.

   في صغري لم أعتد الالتزام بالدّور على باب الفرن في الصّباح الباكر قبل ذهابي إلى المدرسة، لأنّه لم يكن هناك دور، باءت جميع مُحاولات المصلحين في تخفيف المُزاحمة على الكُوّة الصغيرة، المسدود ولا يظهر منها، كان تحتها مباشر تاج عمود أثريّ هو الضّمان لي ولأمثالي الصّعود إليه والتجمهر فوقه، بتلاصق عجيب لا يخلو من مضايقات.

   في العام 1986 قدمتُ إلى الأردنّ للعمل فيها بمهنتي، التغيير مهمٌّ بالاختلاف عمّا اعتدتُه هناك في بلدي، كثيرًا ما سمعتُ عبارة هناك: "إذا تعلمّنا الالتزام بالدّور.. سنرتقي". باب الفرن كان مدرسة مختلفة بدروسها، تعلّمنا أنواع السّباب والشّتائم، والتشابك بالألسنة غالبًا ما يتطوّر إلى عِراك بالأيدي، في بعض الأحيان كان أحدهم يسحب موس الكبّاس أو الكندرجيّة، السّكّينة الرقيقة المغلفّة بالجلد يتجنّدون بها تحت حزام البنطلونات.

   المرّة التي حدث فيها انقلاب بمفهوم بيع الخبز، عندما كتبوا لائحة فوق الفتحة التي يخرج منها الخبر: الرجاء الالتزام بالدّور، امتدّ الصفّ بالتواءاته كأفعى تتلوّى في زحفها. الفكرة عظيمة أن أنتظم في صفّ مع أمثالي، الخروقات المُتكرّرة من النّافذين كالشّرطة والأمن والموظفيّن وأقارب البائع وجيرانه، وجيران أبناء خالته. قهري لم يتبدّد إلى الآن منذ ذاك الوقت، أنّ بيع الخبز توقّف، وانتهى العمل في الفرن مع انقطاع التيّار الكهربائي، رجعتُ خاليَ الوِفاض، وأذيال الخيبة تتجرجرُ خلفي مثيرة نوبات التأنيب والتذمّر من كيفيّة تأمين خبزنا لهذا اليوم، الحلّ في رحلة أخرى للاقتراض من الجيران. يداهمني الوقتُ.. وأسرعُ للحاق بالدّوام والسّاعة تقترب من الثامنة.. العقوبة تنتظرني..!!.. وحلم الرّغيف لإسكات جوعي.. سال مع دموعي.

   مجيء حظر الكورونا مفروض بالقوّة، عدم خروجي من البيت خوفًا أن أخالف القانون، كي لا أتورّط في عقوباته الصّارمة، خطر لي تقبّل الأمر على غير هذا المنحى، فلماذا لا يكون الموضوع يأخذ بُعدًا فلسفيّا في أحاديثي خاصّة مع جماعة المُثّقفين أصدقائي وغيرهم. دائمًا ما أعرب لهم عن سروري على أني مُلتزم، ولن أخرق الحظر مهما كان الأمر.

   ذهبتُ تطرّفًا في آرائي: "الحصار حياة جديدة، خارج الحدود لتحطيم الملل والضّجر، المُتناوب سعيًا لاحتلال ساحات الفرح في قلبي". أردتُ إبراز البُعد الجماليّ لعدم خروجي مُتذرّعًا بالالتزام قسرًا. أضحكُ من نفسي سرًّا بحقيقة ما أُخفيه في داخلي. سأضرب عرض الحائط كلّ التعليمات والأوامر لولا الخوف مانعي.

   استدركتُ حساباتي بجردة بسيطة، مقارنًا بين السرّ والإعلان، أصابني الخوف حقيقة رغم أنّي أجلسُ مع نفسي فقط، وحديثي بها لا يتعدّى حدود شفتيّ، ماذا لو عرف الوزير "سعد جابر" بهرطقاتي الانتهازية..!!؟.. بلا نقاش.. ولا جدل أبدًا.. سيقول: "أن السّبب المباشر لتخييب أمله بإعلانه المُتكرّر المتفائل مُراهنًا على وعي الشّعب..!!.. وأنّني أعملّ على توهين وإضعاف وعي الجماهير". زوابع الأفكار سحيتني بعيدًا، إلى اللّعنات التي ستلاحقني حتّى مماتي، كما "عرس إربد" الذي اشتهر عالمياً، ودخل موسوعة "غينيس"، و"السائق" القادم من الخارج حاملًا للفيروس مُتسيّبًا بنكبة جديدة بعد أيّام من الفرح الغامر بنظافة البلد من الإصابات. وماذا لو اتّخذ قرارًا بتقديمي للمحاكة بتهمة التجديف..!!؟.

   الآن أدركتُ فداحة الذي أفكر فيه، قرّرتُ أن أكون رسول الالتزام على وسائل التواصل، وأقيلُ عثرة اليائسين، والمُحبَطين، مُخالفًا للمتأفّفين المُتذمّرين من كلّ شيء.. شاحِنًا وشاحِذًا رؤيتهم للأمل القادم عمّا قريب.. مُظهرًا لهم محاسن الالتزام الذي لم أطيقه يومًا.. منذ ذلك التاريخ أيّام باب فرن البلديّة في "بُصرى الشام" الذي اندثرت آثاره الآن مع سرير بنت الملك من همجيّة الحرب. لن أحتسي دموع النّدم ثانية؛ فلأكُن في المقدّمة.. ولن أتأخّر كما أيّام المدرسة من أجل الخبز.. وأعاقَبُ وأنا طاوٍ، على جوعي. رجعتُ إلى باب الفرن للتزاحم في اليوم التالي.

***

 

المطعوم

المطعوم بين التكذيب والتصديق، حالة من التشويش والجدل بين المؤيدين والمعارضين للمطعوم. (المطعوم القاتل)، (الشرائح داخل المطعوم)، (فقدان الذاكرة والإصابة بالزهايمر)، (ارتخاء الأعصاب).