مشروع: ملتقى القصة القصيرة (التفاعلي)
لحظة ذهبية |
بأقلامهم |
محمد فتحي المقداد
(الجمع والإعداد)
لحظة
ذهبيـــــة
(قراءات
نقدية)
ملتقى
القصة القصيرة (التفاعلي)
2023
تقديم
تحتفي
إدارة ملتقى القصة الإلكتروني(التفاعلي) بالقصة، ويحتفي بها كتابها وعُشَّاقها،
لتأكيد قيمتها وأهميتها كجنس من أجناس الإبداع الأدبيِّ، التي اِخْترعها الإنسان
للتعبير عن أحلامه وآلامه وأوهامه وانتصاراته وهزائمه، وللارتقاء
بحسِّه الجماليِّ، وذوقه الفنيِّ، وتأكيدًا على رغبة الحياة عنده، وتطلُّعاته إلى كلِّ
ما يجعل الوُجود جميلًا.
في
كلِّ يوم يُشارك العالم بهذا الاحتفاء، ويُقدم للقصَّة على مدى العام أعمالًا أدبيَّة
خاصة بأعضاء الملتقى؛ تهدف إلى إبراز ما قدمه الملتقى للأدب العربيِّ في مجال القصَّة،
ولتشجيع الموهوبين على الكتابة في هذا الجنس الأدبيِّ، واتَّسع اهتمامنا؛ ليشمل
الفعاليَّات المتنوِّعة، التي تلتقي عند القصَّة موضوعًا
وهدفًا ورابطة.
فتتجاور
في ملتقى القصة الإلكتروني (التفاعلي)، فقرات أسبوعيَّة مُتعدِّدة منها:
فقرة نصّ "تحت المجهر" وهذه أهمُّ فقرة تقام أسبوعيًّا، ويُطرَح من
خلالها نصًّا لقصة قصيرة، بدون ذكر اسم صاحبه، وتُسلَّط عليه أضواء النَّقد؛ فيُقبِل
عليه كلّ الأعضاء بالنقد والتشريح والتحليل، وأيضًا فقرة "الأمسية الصوتيَّة"،
و"شحذ القفلة" وهي فقرة ممتعة نحرص عليها، حيث نضع نصًّا مقطوعُا،
يُكمله الأعضاء بقفلات مُتنوعة كلٌّ حسب فهمه لما يُناسب سياق النصّ، وأيضًا هناك
"يوم القاصِّ" وهذه الفقرة نهتمُّ خلال ٢٤ ساعة بقصص أحد الأعضاء
نقدًا وتشريحًا، وقد استبدلنا هذه الفقرة بفقرة "تحت المجهر"؛ لأنها
أقلُّ جهدًا على الأعضاء من يوم القاصّ، الذي نطرح فيه عشرة نُصوص لكاتب واحد،
وفقرة "قراءة صورة"، ونقاش حول حياة وأدب قاصٍٍّ وأديب عالميٍّ
أو عربيٍّ، وطباعة كتب مشتركة وترجمات إنجليزيَّة من قصص الأعضاء، ونشرها عالميًّا.
ونهتمُّ
بأخبار، وفعاليَّات الملتقى بنشرها في حسابات الملتقى "تويتر" و"فيسبوك"
و"يوتيوب" ، وعمل أمسيات مشتركة مع المؤسَّسات الثقافيَّة العربيَّة.
منصَّةٌ إبداعية نحرصُ على تطويرها وتحديثها، ونأمل
أن تكون فعاليَّاتنا بمستوى مقام القصَّة عالميًّا، ونُرحِّب بكلِّ من ينضمُّ إلى
هذا الملتقى؛ ليشاركنا هذا الفضاء الرَّحب، ويعيشُ معنا أحداث القصص، وجمالها،
وعالمها المليء بالمتعة والدَّهشة.
وهنا
في هذا الكتاب الإلكتروني نتعاون بروح السُّموِّ والعطاء والمحبة ، والإسهام من
الأعضاء، وإدارة الملتقى، والكاتب "محمد فتحي المقداد" متَّحدين
في تقديم مادَّة فيها دافع وإثراء للحركة النقديَّة، وتقبُّل الرأي والرأي الآخر
بروح رياضيَّة، وأخويَّة، وسُموٍّ ورُقيٍّ بلا حدود .
في
هذا الملتقى للمتلقي مُطلق الحريَّة لنقده للنُّصوص، التي توضع في الفقرات
الأسبوعيَّة، وحريَّة اختيار النصّ لمن يحب قراءته، فالنصوص مطروحة للقارئ سواء كان ناقداً أو مُبدعًا
يكتب القصة، أو هاوٍ للنَّقد؛ فيكون رأيًا انطباعيًّا أو نقديًّا؛ فتكون قراءته
تلك، وكأنَّها نجومٌ مرصَّعةٌ يتزيَّن بها النصّ، ومن حقِّ الكاتب أن يتباهى بما
دار حول نصِّه من كتابات نقديَّة منهجيَّة كانت، أو انطباعيَّة كلّها مقبولة من
جميع القرَّاء.
يقول
الشاعر
الياباني" ماتسو باشو": "الفن الذي لا يتوقف عن التساؤلات الملحّة، ولا التعبير عن انفجارات الذَّات وتشظّيها وتحوّلها إلى علامات استفهام كبيرة تدخل في غالبها بمحور سؤال الذات والكينونة... سؤال الوجود، وفلسفة التعامل معه من زوايا ،وبيئات عدَّة ومُتمايزة، وضاربة في أغوار النَّفس البشريَّة المجبولة على الشكِّ واليقين، ومحاولات تأسيس واقع مُوازٍ لهذا الواقع الذي يمور بكثير من المتناقضات ،ومُثيرات الأسئلة المتعلِّقة بهذا الوجود، وما يصاحبها من ظواهر، ومعانٍ ودلالات؛ فتأتي براعة التعامل مع النَّمط القصصيِّ من خلال قلم مبدع مُتوهِّج بهذه التساؤلات ،وهذا الوعي الحادّ بالحياة ومفرداتها، مع حذق التعامل الماهر الفنيِّ مع تلك المفردات، وتلك الأيقونات التي تُمثّل عناصر الوجود، وتُحرّكها في هذا العالم المختَزل، بما يعمل على سبر غور الحالة الإنسانيَّة في تلك المُعادلة الذهبيَّة للإبداع."
وهذا
ما لمسناه في ملتقى القصَّة الإلكترونيِّ التفاعليِّ. براعة القلم القصصيِّ من
المبدع العربيِّ، الذي يغوص في عوالم النَّفس الإنسانيَّة، إلى القلم الناقد
المبدع، الذي يتمازج نصّه النقديّ مع النصّ القصصيِّ؛ فيُنتِج علاقة أدبيَّة نقديَّة
فنيَّة جماليَّة مُكمِّلة للإبداع ، وموحية لأفكار مُبدعة أخرى، تلك الأقلام
الموهوبة النَّاقدة بمثابة الماء البارد المنعش في يوم قائضٍ حارٍّ، والناقد الجادّ
الذي يتمتَّع بالمعرفة، والوعي النقديِّ، والتذوُّق الأدبيِّ، ويملك أدواته النقديَّة
والأدبيَّة، والفكريَّة؛ فهو كصانع الكلام الذي ينافس نقده للنصِّ الأدبيِّ، الذي
تناوله بالنَّقد والتشريح، وليس أمتع من
القصَّة، إلَّا تشريحها، وتناول زواياها، وتتبُّع ما خلف السُّطور، وطرح الأسئلة
التي يلتقطها النَّاقد بأدواته، فتلك تكون كصَدَفات البحر، حيث نفتحها؛ فنجد
داخلها الجواهر الثَّمينة.
النقد
الأدبيُّ: هو إبداع على إبداع، يخرج النَّاقد بنصِّه النقديِّ نصًّا جديدًا ،
ولذلك يعدُّ النَّاقد هو المبدع الثاني للنصِّ.
يقول
أدونيس: "النقد كالفكر ، أو هو فكر لا يتغذّى وينمو إلا بالتساؤل
المستمر، وهو لذلك يضع نفسه ، لا الأشياء والنصوص وحدها ، موضع تساؤل دائم ، وإعادة
نظر مستمرة . إنه نقيض المنهج المغلق ، وهو لذلك بدءٌ يظل بدءاً".
وبذلك
فإنَّ كلَّ محاولة لفهم الأدب؛ تحمل معها بعض أحكام قِيَميَّة من وجهة نظر القارئ،
الذي يتميَّز بالتفكير النَّاقد، تفكير مُزدهِر
مُنفتِح على عدََّة أفكار، تتمحور حول أساس النصِّ، والقيم الشخصيَّة التي تتضوَّع
من أفكار الكاتب، وبها يتمُّ اتِّباع تفكير محايد، وعقلانيٍّ، وموضوعيٍّ حول الحدث
في النصٍّ.
هنا
في هذه الصَّفحات عدَّة آراء نقديَّة تحليليَّة حول نص "لحظة ذهبية"
للكاتب القدير "محمد فتحي المقداد" كاتب سوريٍّ متميِّز من
الأقلام، التي لها وزنها في السَّاحة الأدبيَّة العربيَّة كاتبًا وناقدًا. كتب
القصَّة ببراعة، واشتغل على النَّقد الأدبيِّ، وله الكثير من الكُتب والإصدارات في
السَّرد العربيِّ.
السعودية
ــــــــــــا 26\ 4\ 2023
الكاتبة.
مريم الحسن. السعودية
مشرفة
ملتقى القصة الإلكتروني (التفاعلي)
المقدِّمة
رسالة
الكاتب هي مآل في كلِّ ما يكتب؛ فلا يمكن لأيِّ نصٍّ مهما طال أو قصُر أن يخلو ممَّا يعتملُ في ذهن الكاتب، أي كاتب على
الإطلاق بلا استثناء.
فالكتابة
عملٌ شاقٌّ بكلِّ المعايير، تستنفذُ روح وعقل وقلب وأعصاب الكاتب. كثير من
القُرَّاء لا يتخيَّلون مَخَاض ميلاد الفكرة، وكيف تستحوذ على دواخل الكاتب..!!،
حتَّى يُرى أنَّه يعيش عالمًا مُوازيًا لعالمه الحقيقيِّ.
غائبٌ
يُلاحِق فكرته في عُزلة؛ ليخلوَ بنفسه؛ باحثًا عن مآلات، ودُروب كيفيَّة تطبيقها
كتابة أدبيَّة، بطريقته وعلى طريقته، وِفْق أسلوبه، مليئًا بما سَكَبَ به شيئًا من
روحه، ولمسته الخاصَّة به، ربَّما هي البصمة الأصليَّة والأصيلة لصاحبها.
أدركتُ
مُؤخَّرًا أنَّ كتابة نصٍّ قصصيٍّ تستهلكُ وقتًا طويلًا، لإنضاجه، وليكونَ نصًّا
مُعتبَرًا بطريقة حَداثيَّة، مُتجاوزًا الحكاية البسيطة المُستهلَكَة، التي تُروى
على ألسنة الصِّغار، أو في المجالس على ألسنة الكبار.
من
هنا رأيتُ أن أكتُب مجموعة قصصيَّة كاملة، تقوم جميع النُّصوص فيها، على قاعدة
زمنية مُدَّتها "دقيقة واحدة فقط"، وهي لونٌ أدبيٌّ مطروحٌ بهذا
الزَّخم للمرَّة الأولى، ولا أعلم إنْ كان هُناك من سَبَق، وكرَّس مجموعة كاملة
بهذا النَّمط؛ فإنْ كان؛ فستُصبحُ تجربتي الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو أكثر.
ومن
خلال اشتراكي بـــ "مُلتقى القصّة القصيرة" الإلكتروني، من خلال
تطبيق "الواتساب"، تعرَّفتُ إلى مجموعة رائعة مُميَّزة من
كُتَّاب القصَّة القصيرة من مختلف رُبوع الوطن العربيِّ.
وفي
لحظة صفاء ذهنيٍّ داهمتني خلال الأيَّام الأخيرة من منتصف الموسم الرَّمضانيِّ
لعام 1444\2023 رغبة؛ لنشر نصّ "لحظة ذهبيّة" حيث نال العديد من
القراءات النقديَّة، وللاحتفاظ بجُهود الأخوة والأخوات من الكُتَّاب والنُّقَّاد
الذين تداخلوا؛ أحببتُ تثبيت هذه اللَّحظات العابرة لِسِيَاق الحاضر إلى المُستقبل،
في هذا الكتاب الذي سيحمل عنوانًا له (لحظة ذهبيَّة).
وتحيَّة
لملتقى القصة الإلكتروني (التفاعلي)، ولمؤسسه الأستاذ "هاني الحجي"،
والقائمين عليه وعلى الأخصّ القاصَّة "مريم الحسن"ـ وإلى الأخوة
والأخوات الزملاء الأعضاء جميعًا. مع فائق الاحترام لجهودهم الدَّؤوبة في خدمة
الثقافة.
الأردن
ـــــــــا 22\4\2023
الروائيّ
والقاصّ: محمد فتحي المقداد
مآلات
اللّحظة (اللّقطة)
وتعاضدات
استعاراتها الحسيَّة والمعنويَّة
في
نص " لحظة ذهبية. للقاص محمد فتحي
المقداد"
بقلم.
بسام الحروري. اليمن.
في
ثنايا مساحات نصوص القصّ، يبحث القارئ الحصيف دومًا، عن لقطة فنيّة مشرقة، وهي
لحظة تجلّي، أكثر منها لقطة، أو لحظة إشراقة أو تنوير، تنفتح عن حبكة أو أزمة ما، وليس
بالضرورة أن تتربَّع هذه اللَّحظة في خاتمة النصِّ، بما تحمله من دلالات إيحائيَّة
روحيَّة أو حسيَّة.
فقد نجدها في أوّل خيط القصّ، أو في وسطه، أو في
أي جزئيّة منه، فيما تتعاضد مع لحظة أخرى، لتعزَّزها، وتُسهم في ترابط هذا المعنى،
أو تلك الدلالة، فتتقاطع مع أختها في نقاط مشتركة تُعبِّر عن حالة مُعيَّنة، تتجسَّد
في موضع ما من النصّ، بصورة حسيَّة جماليَّة
وإيحائيَّة، في سياق رمزيٍّ بلاغيٍّ مُستعار ، بالمقابل نجد لقطةً أخرى
معنويَّة تُؤسِّس لأنساق معيَّنة تلامس شغاف الرُّوح والوجدان؛ فتتماهى مع أختها،
وتتناصّ معها لتكتمل دلالة النصّ، بغضِّ النَّظر عن نوعيَّة هذا التجلِّي
وهنا
تترابط تلك اللَّقطات بسياق تكامليٍّ كما أسلفت؛ فتتعاضد جزئيَّات الموقف والحدث، وهو
ما يرومُُه الكاتب، ويريده لنصِّه
والصُّورة
"اللَّقطة" أداة جماليَّة، ولحظة بصريَّة مُهمَّة، يستعيضُ بها
الكاتب في التعبير عن موقف ما، حتَّى لا يُسهِب في الشَّرح ووصف المشاعر، إزاء هذا
الموقف في لحظة، وحالة وجدانيَّة عابرة مُكثَّفة الدلالة.
لكنَّها
تستحقُّ أن تُروى، وتُوثَّق في صورة مماثلة، أو قريبة الشَّبه من المُشبَّه به،
كأن تكون لحظة زمنيَّة تأمليَّة في ظواهر الطَّبيعة وصورها، إذ تختزل الحالة، ومشاعر
اللَّحظة التي تنتاب البطل، أو شُخوص النصّ عامّة، الأمر الذي يتطلَّب حرفيَّة
وذكاء يحسب لكاتب النصِّ أو عليه.
والنصّ
الذي نحن بصدده من جنس القصَّة القصيرة؛ يفتتح لقطته الأولى بكلمة(حالة)،
والحالة بنت اللَّحظة، تُؤطِّر بـــ(فوتوغرافيا) الشُّعور والإحساس، وإذن؛
فهي حالة عارضة تُترجمها الجوارح والملامح؛ فحالة النَّشوة والحُبور حين تغشَّت
بطل القصَّة، نتيجة فَوْزه بمنحة أدبيَّة؛ منحت مطلع النصّ عند استهلاله، حيويَّة
وديناميكيَّة؛ مهَّدت للمرحلة القادمة، وما بُنيَت عليه تراتبيَّة وتداعيات
المشاهد القادمة، التي جسَّدتها اللَّقطات، حين بدت صورها تكبُر رُويدًا رُويدًا،
وهو ما يوسِّع مسؤوليَّة النَّجاح والشُّهرة، لدى البطل التي ضمَّنها الكاتب نصّه،
عبر فلاشات مُتداعية، تتعاضد، لتكمل في مشهدها الفسيفسائيِّ، الرُّؤية التي يخلص
عبرها الكاتب في لقطاته هذه إلى الهدف العامِّ، وقد رصَّ هذه الفلاشات بشكل مُوازييكيٍّ
تراتُبيٍّ وبلاغيٍّ بديع ، حيث بدا فيها من الجزء إلى الكلِّ. مثل:
(حالة
من النَّشوة والحُبور تغشَّته/على وقع خبر فوْزه/منحة المشروع
القوميِّ للإبداع / سيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته على الإطلاق
/أحلام النَّجاح والشُّهرة على مستوى القُطر ).
ثمَّ استعرض الكاتب بالمقابل لقطات المُنغِّصات
التي تُؤرِّق البطل، وتحرمه النَّوم طوال ليلة كاملة، كمفارقة رصدها الكاتب
للموازنة في حياة البطل، وعلى شاكلة (مونولوج) وصراع داخلي ناعم. مثل:
(تنبيهات
لفت النظر /الإنذارات القديمة/ النوم الذي غادره كامل ساعات ليلته / قراره
الأخير/. معرجا على تعامل مديره الفظّ في العمل وعقليَّته)، ومثل:
(مديري عقليَّته جامدة، غير قابلة للتطوُّر/
عصبيُّ المزاج/. جادّ وحرفيٌّ/ يلقي أوامره على الموظِّفين شبيهة بالعسكريَّة).
إلى
جانب لقطة ظهور خيال مديره على صفحة الماء، وهي إشارة إلى أنَّه اقتحم عليه خَلْوته
الأثيرة. مثل: (بينما يتراءى له وجه المدير بملامحه الصارمة).
أما
في المقطع التالي؛ فقد تعاضدت فيه الكثير من لقطات اللَّحظة، التي رمز بها الكاتب
إلى مآلٍ مُعيَّن من خلال توظيف اِسْتعاراتها البلاغيَّة الحسيَّة والمعنويَّة/
اللَّحظيَّة كترميزات أبرق بها إلى ذهنيَّة القارئ؛ لتصبَّ جميعها في صُلب المعنى،
وكتمهيد إشاريٍّ مُبطَّنٍ لما سيحدث لاحقًا.
فمثلًا
"اللَّحظة الذهبيَّة" التي تضمَّنها عنوان النصِّ، تعاضدت بلقطة
أخرى، وهي مُحاولة البطل في لحظة الغروب مُلاحقة قرص الشَّمس الذهبيِّ بيده، وهو
في قمَّة النَّشوة؛ لتحقيق حلمه الهارب منه إلى الأفق قبل أن يَؤول إلى غياب، ثمَّ
تكاملت معه لحظة أخرى حين هوى، واِهْتَّزت قدماه، ولم يفلح باستعادة توازنه.
وكأنَّ
الكاتب أراد أن يقول لنا: أنَّ القدر لن يمهله إلى تحقيق حلمه، حتَّى يرى النُّور
، حيث أنَّه كان يقف على حافَّة جُرف، حين اِهْتزَّ وفَقَدَ توازنه، أفلت منه قرص
الشَّمس الذهبيِّ/ الحلم وغاب، وهو ترميز
للهاوية والنهاية والسُّقوط، كما أن ترديد البطل للأُغنية تعاضدت هي الأخرى مع
تتابع الصور، تشترك في اللَّحظة الذهبيَّة حيث أخذت الشَّمس النَّصيب الوافر في
الصُّورة البلاغيَّة، سواء في التشبيه أو المُشبَّه به، وهي الحالة الذهبيَّة،
سواء كانت ماثلة للعيان أم لحظة شعوريَّة من خلال ترداده لمقطع الأغنية (لكتب
اسمك يا بلادي ..ع الشمس اللي ما بتغيب).
إلى
جانب إصراره على كتابتها على رمال الشَّاطئ التي سيمحوها الموج، إلى جانب لقطة
تكسر الموج على الصُّخور، وكذلك الأمل من الاِنْتهاء من إكمال الرِّواية قبل فصل
الخريف؛ فلقطة تكسر الأمواج، تشي بتكسر أمل ما، أو ضياعه، وهو الرِّواية، كذلك
صورة الخريف توحي بالصُّفرة، وموت الأوراق وسُقوطها، وهو ما يتقاطع مع مصير الشَّمس
ولونها ، الصُّفرة والغياب، وكلّها مآلات تتواتر؛ لتشي بالنِّهاية التي سيلقاها
البطل، النِّهاية المأساويَّة من خلال الاِنْتحار ، والأسْوَأ من ذلك ضياع مُنجزه
الحُلُم وذهابه إلى غيره، وهو المُدقِّق اللَّغويّ الذي أشرتُ له سلَفًا.
فكانت
لحظة سَطْوِ المُدقِّق على الرِّواية لحظة ذهبيَّة نزقة بالنسبة له، وقد لاحظنا
كيف أنَّه قبل أن يستولي ذلك المُدقِّق على المُنجَز، ويُثبِّت اِسْمه على الزاوية
بالخط العريض، سبقت هذه الفعلة مراسيم، أو طقوس خاصَّة بهذا المُدقِّق نَسَجَها،
ووثَّقها كاتب النصِّ بحرفيَّة، وهي لحظات ولقطات ذات دلالة، عَنَتِ الكثير للمُدقِّق؛
أبانت عن نواياه. مثل: (من فوره أزاح
السَّتائر بنزق، وسمح للهواء والضُّوء باستباحة المكان، فاستطاع استعراض شريط حياة
الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئَتيْه بالأوكسجين، وطرد ثاني أوكسيد الكربون من
صدره بفرح، وثبَّت اِسْمه على الزَّاوية بالخطِّ العريض).
وإذن فهذه اللقطات والفلاشات المُتسارعة المُكثَّفة
الدلالة. قال من خلالها المُؤلِّف الكثير، وبأسلوب فنيٍّ وسَلِسٍ مُوثِّقًا اللَّحظة
بمداد الرمزيَّة.
إنَّها
تغيُّرات وتبدُّلات اللَّحظة، وحُلول شيء مكان آخر، واِنْزياحه من مكانه؛ فصورة
إزاحة السَّتائر بِنَزَق، والسَّماح للهواء بالدُّخول، بالمُقابل تعاضدها مع لقطة
أخرى قريبة منها وهي: (وملأ رئتيه
بالأوكسجين ، وطرد ثاني أوكسيد الكربون من صدره بفرح) بمعنى (التجديد
والتغيير) إنَّها تموضع حالة مكان أخرى.
كنوع
من الاِسْتلاب الرُّوحيِّ، والمعنويِّ، الذي سيتبلور لاحقًا إلى اِسْتلاب ملموس، اِسْتلاب
عالم الأديب الرَّاحل، وخلوته التي لمحها المُدقِّق في لحظة زمنيَّة فاصلة، بين
نبأ النَّعْي والسَّطو "خلوة في مقبرة" كصورة تمهد للرَّحيل،
وكخلوة أبديَّة في مثواه الأخير /القبر، ولتظلَّ المقبرة، بحسب الرَّوائيّ المغربي
"محمد شكري" في روايته "الخبز الحافي": (أفضل
مكانًا للجلوس، إذ يصبح فيها النَّاس أقلّ إزعاجًا لبعضهم البعض).
ثمَّ يصوِّر الكاتب المشهد من خلال هذه اللَّقطات
السرديَّة: (تأكَّد خبر موت الكاتب، قالوا: إنَّه اِنْتحر دمعتان حارَّتان
سقطتا من عينيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان، فأصبحت صفحة باهتة جدًّا،
لم يبق الا أثرًا من سواد الحبر بلا معالم
واضحة كقبر دارس..)
بينما تطل صورة "القبر الدَّارس"
على ثنايا الورق نتيجة الدَّمع الكاذب من عينيِّ المُدقِّق التي مَحَت العنوان،
الذي أصبح أثرًا بعد عيْن؛ فكانت صورة أخرى لِنَعْيٍ آخر يتقاطع مع صورة النَّعي
الحقيقيِّ لذات الكاتب، لكنَّه هنا على الورق إنَّه نعيٌ مجازيٌّ لمنجزه، الذي نَزَعه
المُدقِّق عن جلده الحقيقيِّ، ونَسَبَهُ زورًا له، وما تلك الدَّمعات المُزيَّفات،
التي مَحَت العنوان، إلَّا لقطة مُماثلة لافتراس واغتصاب، ذلك المُنجَز الأدبيّ
المُتمثِّل في الرِّواية الوليدة، وهي أشبه بدمعات التِّمساح حين يذرفها، وهو
يلتهم فريسته، والتي بالمقابل لا تحتمل معان الحزن الحقيقيِّ، أو البكاء على
الفريسة.
و يا لها من مُفارقات ذكيَّة تُحسَب للقاصِّ
المقداد، إنَّها اِلْتقاطات ذكيَّة لمَّاحة، وماكرة هذه المفارقات.
ثمَّ
نأتي للقطة السَّطْو على حُظوة الأديب الراحل، ومكانته الأدبيَّة؛ لتُعزِّز هذه
اللَّحظة الذهبيَّة، وتبعاتها الحسيَّة في حياة المُدقِّق، وجاءت في السِّياق لقطة
(استباحة المكان) التي يجب التوقُّف عندها، ووضع أكثر من خطٍّ أحمرٍ تحتها قبل مُجاوزتها؛
لتُؤكِّد على حيْثيَّة سَبْق الاِصْرار والترصُّد؛ فهي اِسْتباحة للمكان/ المكانة/
الرواية / مكانة الأديب من قِبَل المُدقَّق، أضف إلى ذلك لقطة اِسْتعراض شريط حياة
الرَّجل بدقيقة، هي في حقيقتها صورة أخرى من صور الاِسْتلاب تتعاضد مع لقطة الاِسْتلاب
السَّابقة في طيِّ هذا الشَّريط الذي يحوي عُمُرًا بإنجازاته في دقيقة واحدة، وهي
قليلة جدًّا ولا تفيه حقه، بينما الرَّجل عاشها بالطُّول والعرض، كنوع من الغُبْن
والظُّلم الذي ألحقه به إلى جانب سرقة مُنجَزه/الرِّواية، ولكلّ على مستوى مساحات
رقعة النصِّ لحظته الذهبيَّة، التي وثَّقت بطريقة، أو بأخرى ما بين بَصَر اللَّحظة،
وعَيْن اللَّقطة، واِخْتلاف روحها ومعناها من شخص لآخر من أبطال النصِّ؛ فكما
للفوز بمنجَزٍ، أو جائزةْ طعم الفرح للسطو
كذلك طعم النَّزَق.
***
وإليكم
النص المقصود بالدراسة
لحظةٌ
ذهبيَّةٌ
(قصة
قصيرة)
بقلم.
محمد فتحي المقداد
حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع
خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في
حياته على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند
مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر
تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع
نفسه في المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى
الصَّباح. قراره الأخير:
- "مديري عقليَّته جامدة غير قابلة
للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يلقي أوامره على الموظفين
شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له.
مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا
قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا".
اجتماع
ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى
العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية
الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية،
وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
"لَكْتُبْ
اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ"
أخيرًا. وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ
عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا من أصوات الأمواج المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ.
يده تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه
بعنادٍ.
هَوَى. اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه.
مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع
البحر بخطّ الرُّقعة. بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو
كان يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ
الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ
اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا الانتهاء من رواية
"خَلوةٌ في مِحْبَرة" قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف
طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل
مع نفسه:
- "كيف كتبها الروائيُّ..! "خَلوةٌ في مَقْبرة" ؟، لا شكَّ
بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ
العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها "خَلوةٌ في مِحبَرة".
رنينُ
الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
- "تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب. قالوا:
إنّه انتحر".
دمعتان
حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً
جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرٌ من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج
الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
من
فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛
فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين،
وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية
بالخطّ العريض.
5/
4/ 2023
***
قراءة
نقدية لنص القصة القصيرة
(لحظة
ذهبية. للقاص. محمد فتحي المقداد )
بقلم.
القاص. ظافر الجبيري. السعودية
نص (لحظة ذهبية)
للأستاذ "محمد فتحي المقداد" من النصوص التي استوقفتني مؤخرًا،
فإضافة إلى بنائه المتقن، لاحظت قدرة الكاتب الروائي الأستاذ محمد المقداد على التعبير عن طموح الكاتب ومعاناته في آن.
يبدو النص من القراءة الأولى عن موظف أصابته
حرفته الكتابة كمال يقال، وهو يجاهد كي
ينال فرصته، متجنبًا ما يجعل مديره ينزل
به الملاحظات إن لم يحظ بالتقدير منه!
(لحظة ذهبية) قصة قصيرة
تتبدّى للقراءة المتأنية
نصًّا في داخله نص أو يمكن القول إنه( نص عن نص) لروائي يحلم بإنجاز رواية؛ و الحلم، كالعادة، من الأمور
الجميلة الذي تراود كل كاتب، أي البحث عن
النجاح في كتابة عمل خالد ينجز فيه كل طموحاته ليعوض بعض الإخفاقات ومنها
التجاهل لموهبته من المدير الصارم الذي
ملأ ملف الموظف المبدع بالإنذارات. كيف لا يحقق ذلك أو لا يتشبث بفرصته أو لحظته الذهبية وقد فاز
بالفرصة عبر ( المشروع القومي للإبداع؟ ).
(خلوة في محبرة، أو في مقبرة ) هو
العنوان الذي ورد في قصة لحظة ذهبية
و من الناحية الفنية فقد ظهرت فيه
ملامح جهد كبير من كاتبه، ولا تخلو اِشتغالات النص الكبرى من إحالات على الوجود
والوطن و حالة الاعتراف بالموهبة وسهولة ضياع الحقوق، .فالأغنية التي تترد على
لسان البطل تُعزّز من ذلك الشعور "لكتب اسمك يا بلادي ع
الشّمس اللي ما بتغيب".
التقنية السردية أو التكنيك القصصي الذي استعمله الكاتب نراه في مفاصل
النص وبنيته، فالبطل يعاني ويسعى
لمنجزه ضمن حالة الإبداع التي تتلبسه
للوصول إلى الاعتراف بموهبته من قبل مديره و من قبل مسؤولي الإبداع في الوطن. وفي
الحفل المنتظر للإعلان عن الفائزين بالمشروع القومي للإبداع، لم تمض دقائق على حضور البطل وانتظار حلمه بالفوز حتى
هوى الكاتب البطل! سقط في البحر مرددا
أغنيته الأثيرة للوطن.. وأشيع لاحقًا أنه
انتحر، و قد استغل المدقّق في دار النشر هذا الأمر ليسطو على العمل (خلوة في مقبرة)
محولا إياه إلى (خلوة في محبرة)
فسراق الإبداع لا يقلون خطرا عن سراق الأوطان،
إذ نرى
المدقق غير الأمين يذرف دموعا
كاذبة ثم يضع اسمه على الكتاب!.
ومما أثار أعجابي في النص جملة "سمح
للهواء باستباحة الغرفة..." وهي لقطة جميلة جدًا تغنينا مثلًا عن: سمح لنفسه باستباحة العمل والسطو على مجهود غيره.
فهل النص
يرمز لاستباحة شيء آخر غير الكتاب!؟ ربما، وهو ما أشرت إليه فيه بدء
حديثي، وإلامَ يرمز بخط الرقعة؟
أإلى الانتماء العربي فقط؟ أم يلمّح إلى
أن هذا الخط هو الأنسب للكتابة تحت الماء!؟
حيث ترتفع اليد عن السّطر أثناء الكتابة بصورة أقل من غيره من أنواع الخطوط..!
ربما، ولكن حسب ظني فالخط الديواني أقرب لهذه الجزئية !
لا أدري لمَ طرأ على بالي فكرة عنوان (المدقق
الخائن) على طريقة (المترجم الخائن)؟
فحالة المبدع في الوطن العربي تكتنفها التحديات والمصاعب الكبرى، فحياة البطل
من خلال مقدمة القصة تذكرنا
بالشاعر "بدر شاكر السيّاب" وقد نُشرت قبل فترة صورةٌ من
الأرشيف عن تنبيه إداري له أو لفت نظر صدر بحقه من مديره في العمل بسبب
تأخره عن العمل!
● قبل الختام، أقترح
على الكاتب ذكر أو إيجاد اسم
للبطل- الموظف ليعطي مزيدًا من الاقتراب
من(عالم النص عن النص ) وليزداد التكامل بين عناصره في ملامسة الوعي بالراهن، فاللصوص لهم أسماء يسعون بها بيننا،
ويعملون ضد الإنسان لحرمانه من التقدير
الذي يستحقه أو ذلك المجد الذي أوشك أن يناله، لكن البطل الأديب خسر اللحظة المنتظرة لحظ عاثر أو لانتحار أو لأمر آخر.
لا غنى لي
عن القول إن قراءة المزيد من قصص وأعمال الأستاذ "محمد فتحي المقداد" تدخلني
إلى عالمه الكتابي والإلمام بمشروعه الذي
يخلص له بتفانٍ ودأب ما يجعله في مصاف الكتاب العرب المرموقين.
***
رد
من. محمد فتحي المقداد:
دكتورنا
الغالي ظافر. يسعد أوقاتك بكل خير.. تأملت قراءتك طويلا.. حيث كانت محيطة بأفكار
النص، وممسكة بأعصابه برهافة مليئة وبالإحساس الواعي بقيمة الفكرة، وبقيمة كلّ
مفردة من كلمات النصّ. قراءة كاشفة أفصحت عن مسالك ودروب النصّ. والإحالات
والالتفاتات. شكرًا لك على التوجيه(بتسمية أبطال القصة لإعطاء مصداقيّة أكثر). كأنّ
الأمر مقصود؛ لتجنُّب تشابه الحالات، وربَّما ينطبق أيّ اسم على شخص ما، تشابهت
حالته مع الاسم المكتوب.. وهذا ما لا نريده بدل أن نكون أصحاب رسالة. سنصبح مُتَّهمين
بقضايا. ممكن تجنّبها بأقلّ التكاليف.. تحيّاتي لك وتقديري.. دمت متألّقًا دائمًا.
وتقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال......***
النص
المقصود بالقراءة
لحظةٌ
ذهبيَّةٌ.(قصة قصيرة) .بقلم. محمد فتحي المقداد
حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع
خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في
حياته على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند
مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر
تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع
نفسه في المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى
الصَّباح. قراره الأخير:
- "مديري عقليَّته جامدة غير قابلة
للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يلقي أوامره على الموظفين
شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له.
مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا
قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا".
اجتماع
ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى
العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية
الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية،
وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
"لَكْتُبْ
اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ"
أخيرًا. وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ
عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا من أصوات الأمواج المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ.
يده تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه
بعنادٍ.
هَوَى. اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه.
مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع
البحر بخطّ الرُّقعة. بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو كان
يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ
الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ
اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا الانتهاء من رواية
"خَلوةٌ في مِحْبَرة" قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف
طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل
مع نفسه:
- "كيف كتبها الروائيُّ..! "خَلوةٌ في مَقْبرة" ؟، لا شكَّ
بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ
العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها "خَلوةٌ في مِحبَرة".
رنينُ
الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
- "تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب. قالوا:
إنّه انتحر".
دمعتان
حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً
جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرٌ من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج
الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
من
فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛
فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين،
وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية
بالخطّ العريض.
5/
4/ 2023
***
قراءة
نقدية لنص
(لحظة
ذهبية. لمحمد فتحي المقداد).
بقلم.
عبد القادر الغامدي. السعودية
قصّة
نفسيّة بامتيازات الوصول إلى المكان الذي طالما تمناه الروائيّ، وما تخلّل ذلك من
تحديّات كثيرة، كان أوّلها اعتراف ذلك المدير المُتسلّط الذي لا يسمع سوى صوته،
ولا يرى أحدًا سوى ذاته المُتعالية على الكلِّ.
النصُّ
يموج بالحركة المُتوالية بدءًا من نقطة الانطلاق صوب الحياة، التي يأملها مواجهًا
مديره كأنموذج لأوّل تحدٍّ حقيقيِّ، مرورًا بعقبات مجتمعيّة يراها في ذاته
المقهورة المسلوبة من مجتمع لا يعترف بالنَّوابغ المُبدعين.
ما جعله
ينفرد بذاته أمام صديقه الكبير (البحر) الذي اِنْغمس في جوفه مُردِّدا حلمه في
هيئة أنشودة وطنيَّة؛ يرى فيها نفسه المواطن، الذي يستحقّ تكريمه من قبل وطنه
الكبير، الذي كان البحر جزءًا منه، وهو يرى صورة مديره في جوفه، وربَّما جوف البحر
معهـ بحلم غريب مدهش (عناق مديره)..!
تنتهي
القصَّة بتساؤلات يضعها القاصّ، وافتراضات موته غرقًا أو انتحارًا.
ما جعل
حياة الروائيِّ كلها عبارة عن لحظات في المقبرة، التي يراها المدقِّق محبرته، التي اِنْغمس فيها في خلوة، لم يقطعها
سوى جوف الوطن، البحر الذي كان به أرحم.
لتنتهي
القصَّة بشعور الأمان الواهم، الذي جعل ذلك المدقّق يكتب اسمه على الرّواية في
لحظة أمان كاذبة، وما علم أنّ المحبرة هي البحر، وأنّ البحر قد خلَّد اسم ذلك
الروائيّ العظيم، بعد أن نأت الشَّمس بذاتها بعيدًا، وكأنَّها تقول: البحر أقرب
لاحتضانكَ من ضوء الشَّمس..!!
ملحوظة
أسلوب الاستثناء المفرَغ في نظري هي الأصوب، فلا تأويل مع مَوْجود.
***
رد
من: محمد فتحي المقداد:
أسعد
الله أوقاتك بكلّ خير أستاذ عبد القادر.. لا شكّ ان العوامل النفسيّة كانت جزءًا
أصيلا من تأثيث النصّ.. إضافة للعوامل الأخرى، التي ذكرتها الشَّمس والبحر والحبر
والمقبرة والكاتب ومديره، المدقّق اللَّغوي ودار النَّشر.. والحياة بين الخلود
والفناء.. والأمانة والسَّرقة.. إنَّ هذا التكافل والتعاضد من الإحالات والتأويلات
شكَّل مساحة واسعة للتأويل.. تحياتي لك وتقديري.. دمت متألّقًا دائمًا وأبدًا....
***
النص
المقصود بالقراءة النقدية:
لحظةٌ
ذهبيَّةٌ. (قصة قصيرة). بقلم. محمد فتحي
المقداد
حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع
خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في
حياته على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند
مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر
تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع
نفسه في المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى
الصَّباح. قراره الأخير:
- "مديري عقليَّته جامدة غير قابلة
للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يلقي أوامره على الموظفين
شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له.
مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا
قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا".
اجتماع
ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى
العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية
الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية،
وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
"لَكْتُبْ
اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ"
أخيرًا. وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ
عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا من أصوات الأمواج المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ.
يده تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه
بعنادٍ.
هَوَى. اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه.
مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع
البحر بخطّ الرُّقعة. بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو كان
يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ
الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ
اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا الانتهاء من رواية
"خَلوةٌ في مِحْبَرة" قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف
طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل
مع نفسه:
- "كيف كتبها الروائيُّ..! "خَلوةٌ في مَقْبرة" ؟، لا شكَّ
بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ
العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها "خَلوةٌ في مِحبَرة".
رنينُ
الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
- "تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب. قالوا:
إنّه انتحر".
دمعتان
حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً
جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرٌ من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج
الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
من
فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛
فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين،
وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية
بالخطّ العريض.
5/
4/ 2023
قراءة
على نصّ "لحظة ذهبية"
بقلم.
حصة البو حيمد. السعودية
نصٌّ
جميل رغم أنَّني تُهْتُ في القراءة الأولى، بين دور البطل والمدقِّق اللّغويّ،
وبعد القراءة الثانية فهمت، ونصُّ عميق المغزى، من حيث تكهّنات المحيطين،
وتفسيراتهم الذاتيَّة لما يحدث؛ فقد اتَّهموا الروائيّ؛ بأنّه مُنتحِر، وهو حسب ما
فهمت أنَّه سقَط رغماً، وهو إيحاء لسقوطه من الاعتبار والتكريم، وأيضاً تلميح للسَّرقات
الأدبيَّة، وما أدراك ما السَّرقات وتبعاتها. أعتقدُ أنَّ كلمة( أثر) في الجملة: لم
يبقَ إلا أثرٌ مرفوعة للفاعلية؛ لأنَّ الجملة الاستثنائيَّة منفيَّة، وغير مُكتملة
الأركان، بمعنى أنّ المُستثنى منه غير موجود. تحيتي للمبدع / الأستاذ محمد المقداد
.... ***
رد
من: محمد فتحي المقداد
أديبتنا
الراقية. أ. حصة.. أسعد الله أوقاتك بكل خير.. سعدت بقراءتك الفاحصة الكاشفة لجوانب
مُهمَّة في النصِّ القصصيِّ.. الأديب الواعي الخبير مثلك. قادر على كشف عيوب
وأخطاء غير منظورة.. كلُّ الشّكر على الانتباه للخطأ النحويّ، وأصلحتُهُ عندي على
الملف.. نوازع وأطماع البشر توازعت نقاطًا أساسيّة في القصّة.. تحيّاتي لك
وتقديري.. وتقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
***
النص
المقصود بالقراءة:
لحظةٌ
ذهبيَّةٌ. (قصة قصيرة) . بقلم. محمد فتحي المقداد
حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع
خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في
حياته على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند
مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر
تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع
نفسه في المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى
الصَّباح. قراره الأخير:
- "مديري عقليَّته جامدة غير قابلة
للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يلقي أوامره على الموظفين
شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له.
مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا
قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا".
اجتماع
ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى
العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية
الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية،
وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
"لَكْتُبْ
اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ"
أخيرًا. وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ
عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا من أصوات الأمواج المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ.
يده تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه
بعنادٍ.
هَوَى. اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه.
مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع
البحر بخطّ الرُّقعة. بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو
كان يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ
الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ
اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا الانتهاء من رواية
"خَلوةٌ في مِحْبَرة" قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف
طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل
مع نفسه:
- "كيف كتبها الروائيُّ..! "خَلوةٌ في مَقْبرة" ؟، لا شكَّ
بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ
العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها "خَلوةٌ في مِحبَرة".
رنينُ
الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
- "تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب. قالوا:
إنّه انتحر".
دمعتان
حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً
جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرٌ من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج
الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
من
فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛
فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين،
وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية
بالخطّ العريض.
***
قراءة
نقدية لنص "لحظة ذهبية".
للروائي
والناقد السوري محمد فتحي المقداد.
بقلم:
حسين سالم صالح الوحيشي. اليمن
يمكن
تصنيفها على أنها قصّة قصيرة في فن الخيال الأدبيّ، وذلك لأنّ القصّة تحتوي على
أحداث خياليَّة ورمزية، وتُركّز على الرِّسالة، أو المعنى الذي يحمله النصّ، بدلًا
من الحبكة الدراميَّة الكبيرة، أو تطوُّر الشخصيَّات.
وبما
أنّها قصّة قصيرة تحتوي على رسالة ومعنى عميق، فإنّها يُمكن أن تصنَّف أيضًا كقصة
قصيرة في فنِّ الأدب الرمزيِّ، أو الأدب الفلسفيَّ.
*الأوقات:
وقت
الدّوام، المساء وقت النَّوم الذي لم يستطع النَّوم فيه، اليوم الثاني، حتّى
المغرب وقت ذهاب الشَّمس، فصل الخريف. في رواية "لحظة ذهبيّة"،
يتمّ اِسْتخدام الأوقات المذكورة في القصّة؛ لإبراز المزيد من الرمزيَّة والمعاني؛
فالوقت المذكور خلال الدَّوام يرمز إلى الرُّوتين اليوميّ، والحياة الرَّتيبة.
التي يعيشها الموظَّف الشَّاب في عمله، ويعكس الوقت المذكور في المساء وقت النوم،
الذي لم يستطع النَّوم فيه. حالة عدم الارتياح، والقلق التي يشعر بها الموظَّف؛
بسبب التنمُّر، والاستهتار الذي يُواجهه في عمله.
ومن
خلال ذكر اليوم الثاني، يتم تسليط الضُّوء على مدى تكرار هذه الحالة من التنمُّر
والاستهتار، والوقت المذكور حتَّى المغرب، ووقت ذهاب الشَّمس؛ يعكس النِّهاية
والانتهاء، والتحول الذي يحدث في حياة الموظَّف الشَّاب، حيث يتعلَّم كيفيَّة التَّعامُل
مع المُدير المتنمِّر، والمواجهة والخروج من هذا الوضع.
أما
فصل الخريف، فيرمز إلى المرحلة الانتقاليَّة بين الصَّيف والشِّتاء، ويمكن تفسيره
كتشبيه لحالة الموظَّف الشَّاب الذي يواجه تحوُّلًا في حياته، ويخرج من فصل
الاستهتار والتنمُّر إلى فصل جديد، فصل جَنْي الثِّمار من الثِّقة بالنفس والتحوُّل.
*الأفراد:
الموظَّف
الشَّاب المُهمِل والمتكاسل، صاحب الملف المليء بِلَفْت النَّظر وبالإنذارات، "المدير
عقليَّته جامدة غير قابلة للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا.
يُلقي أوامره على الموظَّفين شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من
الآن فصاعدًا لن أكترثَ له، الوزيرُ مادام قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف
باسمي، وآمن بِمَوْهبتي لمَّا قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي
طلبًا".
النَّاشِر
المُتابع، والمتآمر المُزوِّر لإنجازات من مات. المُدقِّقُ اللَّغويُّ دائِبُ النَّقد
والتذمُّر من كثرة الأخطاء الإملائيَّة والنحويَّة غير راضٍ عن نفسه، ولا نجرؤ
نسبة تذمُّره، لأنَّه يمكن أن يَدُسَّ السُمَّ بالعسل ، لابدَ أن نتملَّق له , مثل
أن يكتب "خَلوةٌ في مَقْبرة". في قصَّة الموظَّف الشَّاب الذي يعمل في مكتب
حكوميٍّ، ويتعرَّض للتنمُّر والاستهتار من قبل مديره المتنمِّر.
والوزير
الذي يُعطي المِنَح والمقابلات اللَّغويَّة، ويوحي الكاتب أنَّ المِنَح تُعطى، لمن
يستحقَّها، وهذا يدل على وطنيَّة الوزير وجَوْدة السُّلطة الحاكمة.
على
مدى أحداث الرِّواية، تتطوَّر شخصيَّة الموظَّف الشَّاب، وتتحوَّل من شخص خجول، ومُتردِّد
إلى شخصيَّة قويَّة ومُستقلَّة، حيث يتعلَّم كيفيَّة التعامل مع المُدير المتنمِّر،
وكيف سيوجِّهه، ويبدأ في التفكير في مستقبله، وفي اِتِّخاذ خطوات للخروج من الوضع
الذي يعيشه.
أمَّا
المدير المتنمِّر؛ فتظهر شخصيَّته بوضوح، كشخصيَّة شايب فاقدة للتفاهم والعطاء،
وهذا يدلُّ على فساد في النِّظام الوظيفيِّ لا لِسُلطته، ويتصرَّف بطريقة مهينة
تجاه الموظَّف الشَّاب، أمَّا الوزير الذي يُعطي المنح والمقابلات اللغويَّة؛
فيتمتَّع بسلطة كبيرة ويتصرَّف على طريقته.
أخيرًا،
المُقتَحِم اللغويِّ، الذي يرى نفسه أفضل من الكُتَّاب والمؤلِّفين، يتميَّز بشخصيَّة
مُتعجرِفَة ومُتحامِلة، ويحاول تصحيح أعمال الكُتَّاب والمؤلِّفين، وتحسينها،
وتقديم نصائح لهم، بينما في الواقع يكون هدفه تعزيز ثقته بنفسه، وإثبات أنَّه أفضل
منهم.
*الأماكن:
المكتب،
البيت، على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ عميقٍ، حيث الأمواج والصُّخور المُتكسِّرة
، الغرق بعمق البحر، المطبعة.
في
رواية "لحظة ذهبية"، تُستَخدَم الأماكن المذكورة في القصّة؛
لإضفاء الرمزيَّة، والتعبير عن حالة الشخصيَّات، والمتناقضات النفسيَّة والجنسيَّة.
في
المكتب، تظهر الرمزيَّة النفسيَّة للحياة الرَّتيبة، والمُملَّة التي يعيشها الموظَّف
الشَّاب، والتي تُضايقه، وتجعله يشعر بالقلق والتوتُّر.
أمَّا
البيت، فتُمثِّل الرمزيَّة الجنسيَّة والأمان والرَّاحة، وتعبيرًا عن الرَّغبة الدَّائمة
لدى الموظَّف الشَّاب في العودة إلى بيته والاسترخاء.
أمَّا
المكان على الشَّاطئ، وعند حافة جُرف عميق، فتُمثِّل الرمزيَّة النفسيَّة للخطر
والتحدِّي والمُغامرة، وتعكس الرَّغبة في الهروب من الواقع اليوميِّ، والبحث عن
الحريَّة والاستقلاليَّة.
وفي
المطبعة، تظهر التناقضات النفسيَّة والجسديَّة، هذا المكان ليصنع، ويطبع الكتب
والمطبوعات، ولكنَّ هذا المكان يرمز أيضًا إلى القيود، والتحكُّم، والإجهاد الذي
يشعر به الموظَّف في عمله.
أمَّا
الغرق بعمق البحر؛ فيمثِّل الرمزيَّة النفسيَّة للغرق في الأحاسيس، والمشاعر، والصُّعوبات
التي يُواجهها الموظَّف الشَّاب في حياته، وتعكس الرَّغبة في الهروب من هذه الصُّعوبات،
والانغماس في العالم الخياليِّ والمجهول.
*الألفاظ والمعاني:
النشوة
الحبور تغشاة، القُطر، إضبارته، لتطمر، جدال، التنسيب، مادام ، لسانه لم يملَّ من إعادة
الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه: اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من
فمه . طين قاع البحر , الرمل على قاع البحر ، "خَلوةٌ
في مِحْبَرة" رحاب العنوان
في
رواية "لحظة ذهبية"، تستخدم الألفاظ الجماليَّة والحسيَّة؛ لتعبِّر
عن المزيد من المعاني النفسيَّة والجنسيَّة والثقافيَّة والدينيَّة، وخاصَّة
الألفاظ ذات الصِّفات الحيويَّة الهلاميَّة. مثل البصق والتَّفْل، وطيب البحر،
والخلوة في المحبرة.
في
العبارة "النشوة الحبور تغشاه", تستخدم الألفاظ الجماليَّة
للتعبير عن الشُّعور بالفرح والسعادة الذي يشعر به الموظف الشَّاب، عندما ينجح في
تحقيق طموحاته.
وفي
العبارة "القطر، إضبارته، لتطمر"، تُستخدَم الألفاظ الحسيَّة
للتعبير عن الحالة المتوتِّرة، التي يشعر بها الموظَّف الشَّاب؛ بسبب التنمُّر،
والاستهتار الذي يتعرَّض له في عمله.
وفي
عبارة "جدال، التنسيب، مادام، لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية"،
تُستخدَم الألفاظ الجماليَّة للتعبير عن الحالة الدَّائمة للموظَّف الشَّاب في
مكان عمله، حيث يبقى يتحدَّث، ويجادل في محاولة لتغيير الظُّروف السيِّئة التي
يعيشها.
وفي
العبارة "خَلوةٌ في مِحْبَرة"، تستخدمُ الألفاظ الجماليَّة للتعبير
عن الحالة النفسيَّة للموظَّف الشَّاب، الذي يشعر بالوحدة والانزواء في مكان
العمل، ويُعتَبر هذا التعبير رمزًا؛ للبحث عن الاِنْفراد والتأمُّل في الذَّات.
وفي
العبارة "اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه"، تستخدم الألفاظ الحسيَّة
للتعبير عن الحالة الجسديَّة للمُوظف الشَّاب، الذي يشعر بالتوتُّر، والتوتُّر
العالي، ويصف هذا التعبير ردَّ الفعل جسديًّا بشكلٍ ملحوظ من جانب الموظَّف.
وفي
العبارة "طين قاع البحر، الرمل على قاع البحر"، تستخدم الألفاظ
الجماليَّة للتعبير عن الجمال الطبيعيِّ، والأمان الذي يشعر به الموظَّف الشَّاب
عندما يقف على الشاطئ، ويشير إلى الرمزيَّة الثقافيَّة للشَّاطئ كمكان للاِسْترخاء
والاستجمام.
وأخيرًا،
في عبارة "طيب البحر"، تستخدم الألفاظ الجماليَّة للتعبير عن
الجمال الرُّوحيِّ والرُّوحانيّ، والرمزيّة الدينيَّة للبحر كمصدر للسَّلام والتآلُف
والروحانيَّة
.
*الحدث أو الانتحار:
يذهب
إلى العمل، يُبشِّر بفوزه بالمنحة الثقافيَّة، الحصول على منحة، المشروع سيتفرَّغ بموجبه
لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته على الإطلاق ، يتذكَّر الماضي والروتين البائس، يفرح
بالانتصار والتحرُّر من المدير، "أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر،
والحُظوة عند مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر
والثناء، لِتَطمُر تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا
جِدالٍ".
في
رواية "لحظة ذهبيّة"، يظهر الحوار الذَّاتي للبطل بوضوح من خلال
تفاصيل يومه، وأفكاره وأحلامه وتطلُّعاته.
يبدأ
الحوار الذاتيّ بتأكيد أهميَّة العمل، والتفرُّغ للعمل الأدبيِّ الأهمِّ في حياته،
ويتذكَّر الماضي والرُّوتين البائس الذي يعيشه في عمله الحاليّ.
يفرح
البطل بالانتصار والتحرُّر من المدير، ويحلم بالنَّجاح والشُّهرة، والحظِّ الجيِّد
والتقدير والثناء، وهذا يعكس الرَّغبة النفسيَّة والجنسيَّة في الاعتراف والتقدير
والنَّجاح.
وفي
نهاية الرِّواية، يشعر البطل بالرضا والإنجاز؛ بسبب حصوله على المنحة الثقافيَّة،
وتحقيق أحلامه وتطلُّعاته. يتَّضح أنَّ الحوار الذاتيّ للبطل؛ يُركّز على الأمل
والتفاؤل والتطلُّع إلى المستقبل، وعلى النَّجاح، والتحرُّر من الرُّوتين البائس،
والحصول على الإنجازات الكبيرة.
*حدث أم انتحار:
يذهب
إلى الشَّاطئ ، يعقد اجتماع ، يقف عل حافة جرف مُخاطرًا
يصرخُ
وينظر.. يرتدّ الصَّدى ، يتابع قرص الشَّمس الذاهب، ووقف يستمع أصوات الأمواج المُتكسِّرة
على الصُّخور في الأسفل. لم ينتحر، وإنَّما هَوَى. "اِهْتزّت
قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه . مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد
الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع البحر بخطّ الرُّقعة
.
بينما
يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة ، بنفسه لو كان يستطيعُ عِناقه".
يتسلَّق
يتعلَّق به لنجاة، ومع ذلك فهو يكرهه، ويتمنَّى أن يتُفَّه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ
تَفَّةٍ من فمه. يمكن تفسير الحدث الذي وقع في الرِّواية بأكثر
من طريقة، ولكن يمكن فهمه كرمزيَّة لمحاولة البطل الخروج من الرُّوتين المُملّ،
والتقيُّد بالقيود التي يفرضها عليه النظام الاجتماعيّ، والمؤسَّسات الرسميَّة.
قد
يرمز الاجتماع الذي عُقِد إلى محاولة البطل للتواصل مع الآخرين، والبحث عن الدَّعم
والمساعدة، وربمَّا يرمز الوقوف على حافة الجرف إلى رغبته في المغامرة، والالتزام
بشيء يتعدَّى القيود المفروضة عليه.
وربما
تكون الرمزيَّة الأكثر وضوحًا هي الكتابة على طين قاع البحر، فقد يرمز ذلك إلى
رغبة البطل في الحريَّة، والتحرُّر من القيود، والتعبير عما يريده بلا قيود أو
حواجز.
بالنسبة
للحدث الذي حدث عندما هوى البطل من على حافَّة الجُرف، يمكن فهمه كرمزيَّة لفشل
محاولات البطل في الهروب من الرُّوتين والقيود، وربَّما يشير إلى الصُّعوبات التي
يواجهها الفرد في تحقيق الحريَّة الشخصيَّة، والتحرُّر من القيود الاجتماعيَّة
والنفسيَّة.
وربما
يعكس هذا الحدث أيضًا صعوبة البطل في التأقلم مع المتغيِّرات، والتحدِّيات الجديدة،
والتغيِّيرات التي يواجهها في حياته.
يمكن
تفسير نهاية القصة في رواية "لحظة ذهبية" بأنَّها تحمل رمزيَّة
الفشل والانتكاسة، وتأكيد على أنَّ الحياة قد تكون قاسية ومليئة بالمصاعب
والتحديات التي يصعب التعامل معها. يمكن أن يكون الكاتب الذي ينتحر رمزًا للأشخاص،
الذين يشعرون بالإحباط واليأس، والعجز عن التغلُّب على الصِّعاب.
ومن
خلال تغيير عنوان الرواية من "خَلوةٌ في مَقْبرة" إلى "خَلوةٌ
في مِحبَرة"، يمكن فهمه كرمزيَّة؛ لتحول الكاتب من الكتابة في مكان مُظلم،
ومُحطَّم مثل المقبرة إلى الكتابة في مكان، يُمثّل الأمل والتجدد والإبداع مثل
المحبرة.
ولكن
بعد الخبر المفجع عن انتحار الكاتب، تصبح الصَّفحة باهتة وفارغة، ممّا يشير إلى أنّ
العمل الذي قام به الكاتب، قد فَقَد معناه، وقيمته بسبب فعلته النهائيَّة.
ويمكن
أن يكون تغيير العنوان وحذف اسم الكاتب من الرِّواية رمزًا لضرورة تحويل الانتباه
من الفرد إلى العمل الذي قام به، وأنّ الإنجازات الحقيقيّة تكمن في الإبداع والتميّز،
وليس في الشُّهرة أو الاسم المشهور.
وربّما
تشير نهاية القصّة أيضًا إلى ضرورة الحفاظ على الصِّدق، والأخلاق والمبادئ الأساسيَّة
في الحياة، وعدم الوصول إلى مرحلة اليأس، والانحطاط الذي يمكن أن يؤدّي إلى نتائج
كارثيّة.
العملُ
الروائيُّ الذي انتهى منه الكاتب قبل عام؛ قرّرت دار النَّشر طباعته.
-
"كيف
كتبها الروائيُّ..! "خَلوةٌ في
مَقْبرة" ؟، هذيان
لا
شكَّ بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن
الخطِّ العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها "خَلوةٌ في مِحبَرة".
رنينُ
الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
-
"تأكَّدَ
خبرُ موتِ الكاتب.
قالوا:
إنّه انتحر".
دمعتان
حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة
باهتةً جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرًا من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ.
وليُخرج الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
ينمحي
اسم الكاتب وتؤول لغيرة. هتَكَ عرض القصّة بلا رقيب أو حسيب. ما أنذله.
"من
فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛
فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين،
وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية
بالخطّ العريض".
النهاية
مجتمع بيروقراطيّ روتينيّ تحكمه إضبارة، وتنمُّر المدير على الموظفين اليائسين
المهملين. إلّا من بعض المحاولة، أو المخاطر، ولو أنه ضرب الحظ معه، وفاز بالمنحة
من المحاولة، ومات من سذاجة المخاطرة، قبل أن يردَّ الصَّاع صاعَيْن على المُدير
الشَّايب المعاند المتنمِّر.
لم
يجد على الشاطئ أصحابًا، ولم يسمع إلَّا أصداء، وأصوات الأمواج الهادرة، والصُّخور
الحادَّة المُتشرِّخة والمُخادعة المُتفتِّتة.
*الألفاظ والمعاني:
طين
قاع البحر والرمل على قاع البحر ، "خَلوةٌ في مِحْبَرة" رحاب
العنوان؛ نجد بالألف اللَّمحات الجنسيَّة العميقة النَّشوة الحُبور تغشَّاه، القُطُر،
إضبارته، لتطمر، مادام ، لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق
بجزء حَيَويٍّ من فمه : اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه
أيتفُّ
الأغنية العالقة بجزء حيويٍّ صمغيٍّ بفمه؟. أيستلذَّه أم يكرهه؟. وما زال ذك
الجزاء الحيوي بفمه. أيعلَقُ بالمدير؛ لينقذه
أم
يتفَّه هو الآخر؟.
ألفاظ
ومعانٍ أخرى: إضبارة، التَّنسيب: معنى وألفاظ إداريّة شامية.
*جدل:
يتناول
النصّ موضوعات مهمّه، يتميّز النصّ بأسلوب سرديٍّ بسيط وهجومي، يلقي الضوء على
الحالة النفسيَّة، والعاطفيَّة للشخصيَّة الرّئيسة، وكيف يتفاعل مع الأحداث التي
تحدث له.
من
الناحية الفنيَّة، يتميَّز النصّ بالوصف، والانتقاء اللُّغويّ الجيّد
.
كما
يتميّز بالتناوب بين الفعل والوصف، ممّا يُضفي على النصّ حيويَّة وتشويقًا. من الناحية النفسيَّة، تمثّل الشخصيّة الرّئيسة حالة الطُّموح،
والاهتمام الذاتّي، والتحدّي مثل الطموح والحظّ، والحلم والموت والإبداع الذي
يواجهه الإنسان في حياته. والتعامل مع الآخرين.
يتمثّل
المدير في هذا النصّ، كشخصيّة تخوض صراعًا مع الشخصيّة الرّئيسة، وتعكس القوّة
والسّلطة التي يتملّكها المدير في العمل.
ويعكس
النصّ أيضًا التوتّر العاطفيّ، والذي يمكن أن يؤدّي إلى الانتحار. فهل هو اِنْتحر أم
سقط؟. من الناحية الأدبية، يعتبر هذا النصّ قصّة قصيرة جيّدة، ويحتوي على العديد
من المواضيع الأدبيّة المهمة.
يتميّز
بقوّة الرّسالة التي يحملها النصّ، إنّ "لحظةٌ ذهبيَّةٌ" لــ
"محمد فتحي المقداد"؛ يدور حول موضوع الطّموح، والأحلام، وكيف
يمكن للإنجازات الشخصيّة؛ أن تُصبح مصدرًا للنّشوة والفخر الذّاتيّ.
التي
قد تحول دون تحقيق هذه الطّموحات. كما يتطرّق النصّ إلى موضوع الخسارة، والانتحار،
والتّضحية بالحياة من أجل إنجازات الشخصيّة وتحقيق الأحلام.
*كيف
تريدني أن أسالك عن الموضوع أعلاه من الناحية النقديَّة:
الموضوع
الرّئيس لرواية "لحظة ذهبية" هو الحريّة الفرديّة والتضحية، وكيف
تؤثّر هذه القيم على حياة الأفراد وعلاقاتهم. وتتمحور الرّسالة الرّئيسة، التي يحُاول
المؤلّف إيصالها للقارئ: حول أنّ الحريّة الفرديّة ليست مجرّد حقّ، بل هي مسؤوليّة
تتطلّب تضحيات: وقرارات صعبة.
وتشير
الرّواية إلى أن المسؤوليّة الاجتماعيّة، والأخلاقيّة تأتي مع الحرية، وأنّه يجب
على الأفراد تحمّل مسؤوليّاتهم والتضحية من أجل الآخرين، والمجتمع الذي يعيشون
فيه. كما يؤكّد المؤلّف على أهميّة الذاكرة والتاريخ في فهم الحاضر وبناء المستقبل.
وفيمايلي
القضايا الاجتماعيّة التي تتناولها رواية "لحظة ذهبية" وكيف يتعامل
المؤلّف معها:
قضيّة
الحريّة، والاستقلاليّة الفرديّة، وكيف يمكن للأفراد الوصول إلى الحريّة، والتحكم
في حياتهم، وتحقيق طموحاتهم وأحلامهم.
قضيّة
التعليم والثقافة، ودورهما في تشكيل الشخصيّة، وتطوّر الفرد والمجتمع.
قضية
العلاقات الإنسانيّة، وأثرها على حياة الأفراد وقراراتهم، وكيف يمكن للعلاقات
الإيجابيّة أن تساعد الأفراد على التغلّب على التحديّات وتحقيق النّجاح.
يتعامل
المؤلف مع هذه القضايا بشكل واضح وصريح، ويستخدم الأحداث والشخصيّات في الرواية؛
لتسليط الضوء على هذه القضايا، وإيصال رسالتها إلى القارئ بشكل فعّال. ويعتمد
المؤلّف على الواقعيّة، والإنسانيّة في تعامله مع هذه القضايا، ويظهر التفاعل بين
الشخصيّات، والتأثير الذي تتركه هذه القضايا في حياتهم وقراراتهم، ممّا يجعل
القارئ يتعاطف معهم ويفهم رؤية المؤلّف لهذه القضايا.
بالنسبة
للرّواية، فإنّ المؤلّف يتناول موضوع الحريّة الفرديّة، والتضحية بشكل عام من خلال
شخصيّات مختلفة في الرّواية، ويستخدم الأحداث، والتفاعلات بين الشخصيّات لإظهار
أهميّة الحريّة الفرديّة، والتضحية في تحقيق الأهداف، والتغيير في المجتمع.
*التشبيه والتصوير اللفظي:
يستخدم
المؤلّف التّشبيه، والتصوير اللّفظيّ؛ لإيصال الأفكار والمشاعر بشكل أكثر قوّة
وجاذبيّة، ممّا يُساعد على توصيل الرّسالة الرّئيسة للرّواية بشكل أكثر فعاليّة.
*الرمزية:
يستخدم
المؤلّف الرّموز في الرّواية للإشارة إلى معانٍ مُعيّنة، ممّا يساعد في توصيل الرّسالة
الرئيسة للرّواية بشكل أكثر عمقًا وتأثيرًا.
وتساعد
هذه الأساليب الأدبيّة على توصيل الرّسالة الرئيسة للرّواية بشكل أكثر فعاليّة،
حيث تساعد على إيصال المشاعر، والأفكار، والرّؤى بشكل قويّ وجذّاب، وتجذب اهتمام
القارئ وتجعله يشعر بالتعاطف والتأثُّر بالأحداث، والشخصيّات في الرّواية.
*بناء القصة:
يجب أن يشمل النصّ مقدّمة، وتطوّرًا، ونهاية مأساويّة، كما أنّه كان هناك
توازنًا بين الوصف والحوار والأحداث. ويبدو أن عنوان القصّة "لحظة ذهبيّة"؛
يشير إلى أنّ القصّة؛ قد تركّز على لحظة حاسمة في حياة الشخصيّة الرّئيسة.
*العناصر الرئيسية: فإن العناصر
الأساسيّة للقصة اشتملت على الشخصيّات، والقصّة، والمكان، والزّمان. وكانت الشخصيّات
متعدّدة الأبعاد، وذات مصداقيّة، وتتفاعل بشكل معقول مع الأحداث في القصّة.
واحتوت
القصّة على عدّة أحداث مثيرة للاهتمام، وتحرّكت القصّة إلى الأمام. وكان المكان
والزمان موضوعيْن بشكل جيّد ويُدَعِّمان القصّة.
وبالنسبة
للإخفاقات الأدبيَّة أو اللّغويَّة؛ فهي قد تشمل الأخطاء النحويَّة والإملائيَّة. ومع
ذلك، يجب ملاحظة أنّ التقييم الحقيقيّ لأيّ قصّة؛ يعتمد على العديد من العوامل
الأخرى، بما في ذلك الموضوع، والأسلوب والغرض والجمهور.
***
الإدهاش
في قصة (لحظة ذهبية)
للروائي
والقاص محمد فتحي المقداد
بقلم
الأديب. رائد العمري. الأردنّ
كالمعتاد
والمتتبّع لطريقة سرديّة كاتبنا "المقداد" في نصوصهِ ورواياته
المتعددة يجدُ أنَّهُ كاتبٌ مثيرٌ للدهشةِ التي يزرعها في كتاباته السرديةِ أو
النقديّةِ، بطريقةٍ سلسةٍ تَنمُّ عن ثقافتهِ العاليةِ، وفكرهِ النيِّرِ، وخاصّةً
عندَ من يعرفهُ جيّدًا؛ فهوَ لا يُضيّعُ برهةً من وقتِ فراغٍ إلّا ويستغلّهُ في
القراءة، أو الانشغالِ بالبحثِ في صالونهِ الذي تحوَّلَ من صالونِ حلاقةٍ عادي إلى
صالونٍ أدبيِّ اعتادَ عددٌ من مثّقفي محافظةِ إربدَ، وقُراها أن يلتقوا فيهِ
قاصدينَ الترويحَ عن أنفسهم ببعضٍ من الأدبِ، وتداول ما وجدَهُ المقدادُ أو أهديَ
لهُ من إصداراتٍ أدبيّة، ونقديّة جديدة، أو لتدارسِ نصٍّ فكريٍّ جديدٍ، أو مؤلّفٍ
لأحدهم، وكم حظيتُ بأن أكونَ أحدَ هؤلاءِ الروادِ لهذا الصّالونِ لأهذِّبَ من
فكريَ كما أُهذب من شعرِ رأسي في نفسِ المكانِ مع نفسِ الشخصِ الذي برعَ في
المُهمتين.
وبعدَ هذهِ المقدمة مررتُ كعادتي لأتجرَّعَ
فنجانًا من الفكرِ والمتعةِ الأدبيةِ، مرورًا بفنجانِ القهوةِ التي اعتدتُ أن
أشربها مع السُّكَّرِ إلا أنَْ يديهِ وحوارَهُ يشعرني دائما بأنها حلوة رغمَ أنَّ
السُّكَّرَ لم يعرف لها طريقا... وهذهِ المرة بعثَ لي بنصٍ تحتَ عنوانِ "لحظة
ذهبية" فبدأتُ ألتهمُ الأحداثَ التي كانت تمامًا كسحرِ فنجانِ قهوتي،
بعدما بدأتُ أبحَثُ عن فحوى العنوانِ الذي أدهشَني، والذي جعلني أبحَثُ عن هذهِ
اللّحظةِ التي غالت الذهبَ، وساوتهُ قيمةً إن لم تزد عليه... ظننتُ أنَّني للوهلةِ
الأولى وجدتها عندَ شخصيةِ القصةِ البطل الروائي الذي فازَ بجائزِة "المشروع
القومي للإبداع" لموظّفٍ بسيطٍ يُحبُّ عالمَ الأدبِ والإبداعِ ، ثمَّ
لأتحوَّلَ عنها إلى حدثٍ جديدٍ وهو كيفَ سيقابلُ هذا الموظفُ مديرَهُ الذي كانَ
يظلمهُ ويُكثرُ عليهِ بالعقوباتِ والتنبيهاتِ والتوبيخِ، فرصةٌ ذهبيةٌ لردِّ
الاعتبارِ أمامَهُ بعدما نقلنا من مشهديّتهِ الأولى من نشوةِ الفوزِ الذهبيّة،
لنشوةِ ردِّ الاعتبارِ، بل وتعدَّاها إلى نشوةِ تجاهلِ مديرهِ؛ ممّا يجعلُكَ
تحتارُ أيّها اللّحظة الذهبيّةُ الأهمِّ التي جاءت في عنوانِ قصَّتهِ هذه؟.
إلّا
أنَّني لا أتسرَّعُ بالحكمِ في النقدِ الأدبيِّ على نصٍّ أنشغلُ فيهِ، فتابعتُ السَّيرَ
والانغماسَ في متنِ النصِّ مبحرًا معهُ، ومُدقِّقا لكلِّ مفردةٍ فيهِ بدهشةِ
العارفِ الغارقِ باللذّةِ بحذرٍ شديدٍ.
المشهدُ
الثالث أخذنا معهُ نحوَ السّاحلِ حيثُ عُقدَ الاجتماعُ مع مَن قُبِلَت مشاريعهم
الإبداعيّة؛ ليبحرَ فينا الكاتب مع لحظةٍ مغايرةٍ للمشهديْنِ السّابقينِ، رغمَ
أنَّهُ مرتبطٌ بحدثِ فوزهِ بالمشروعِ القوميّ، وأحلامِ هذا الموظّفِ، وهُنا كانت
الدّهشةُ في فقْدِ هذا المبدعِ لاتّزانهِ، ومُتابعِتهِ أحلامهِ دونَ وعيٍّ، ليسيرَ
نحوَ البحرِ، ويحاولَ أن يلتقطَ قُرصَ الشّمسِ الذهبيّةِ ليصطادها؛ فهي كما يوحي
النصُّ باتت أصغرَ من أحلامهِ، وليغوصَ والِجًا إلى قعرِ البحرِ، وقد تلاطمتهُ
الأمواجُ، والجديرُ بالذّكرِ تردَادُ هذا الموظّفِ الحالمِ، وتمسُّكهِ بأغنيتهِ
المفضَّلةِ التي دأبَ عليها: "لكتب اسمك يا بلادي.. عالشمسِ إلِّي ما
بتغيب" حتّى غابَ هوَ عنها - أقصد الشمس- وهو يلاحقها ويغرق رغمَ إصرارهِ
على كتابةِ كلماتِ أغنيتهِ على طينِ
المحيطِ بخطٍ الرقعةٍ وبشكلّ عريضٍ واضح؛ ليُدخلنا في دهشةٍ جديدة حقيقيةٍ، ثمَّ
لنظنَ أنّها لحظتهُ الذهبيّة في نشوتهِ الجديدةِ هذه، وقد غابَ، ولم يعد منهُ إلّا
صدى صوتهِ مع صوتِ الأمواجِ المتلاطمة.
ثمَّ
ينتقلُ بنا "المقدادُ" نحوَ مشهدٍ جديدٍ في غرفةِ المدقّقِ اللّغويّ
لروايةِ الكاتبِ الفائزةِ والتي انشغلَ في عنوانها مندهشًا في جماليتها، ودائبًا على أن ينهيها قبلَ فصلِ
الخريف، بعدَما قَرَّرت دارُ النشرِ طباعتها.
للآنَ
يبدو الحدثُ عاديًّا بطبيعتهِ وعفويّتهِ، إلى أن يظهَرَ توقّفُ المدقّقِ اللغويِّ مُندهشًا
عندَ عنوانِ الروايةِ: "خلوة في مقبرة" معتقدًا بأنَّ الروائيّ
أخطأ في التعبيرِ، أو أنَّهُ دخلَ في لحظةٍ سوداويّةٍ، كما وصفها بظلامِ الغرفةِ،
عندما قرَّرَ أن تكونَ الخلوةُ في مقبرةٍ عنوانًا لروايتهِ، التي يذكرُ المدققُ
انزياحًا فيهِ عن السّياق العامّ؛ متَّهمًا الروائيَّ بالهذيانِ في اختيارهِ لهذا
العنوانِ، ثمَّ ليُقرِرَ أن يغيّرهُ ويُثبِّته إلى "خلوة في محبرة"،
وهنا كانَ لا بُدَّ لي أن أتوقّفَ كثيرًا.
ماذا
أرادَ "المقدادُ" في هذا المشهد؟ ولماذا هذا التركيزُ والتغييرُ
في العنوانِ؟. وما هي الدَّلالاتِ الذي يريدها هذا الكاتب المدهش من هذهِ العناوين
التي أعدتُ جملتها مراتٍ، وقد امتلأتُ بالدّهشةِ قبلَ أن أتابعَ القراءة، ثمَّ
لأدخلَ في حدثِ انقطاعِ هذهِ الخلوةِ مع المدقّقِ اللغويِّ، والعناوينِ باتّصالٍ
من صاحبِ دارِ النشرِ؛ ينقلُ لهُ خبرَ موتِ المؤلّفِ، والادّعاء من البعضِ أنَّهُ
انتحرَ، وهنا يدخلُ بمدى تأثرِ المدقّقِ بهذا الخبرِ الذي ذرفَ عليهِ دمعتينِ ثمَّ
دمعتينِ أخريينِ؛ تولَّتا تدميرِ صفحةٍ العنوانِ كما هُيّئ لي، ومحوَ اسمِ الروائيّ
وأثرهِ، ثمَّ ليُثبِّتَ لي سببَ توقّفي عندَ طرحِ عنوانِ الرّواية التي كانت من
الروائيّ "خلوة في مقبرة" والذي كانَ يُعبِّرُ فيهِ "المقداد"
عن خلوةِ الروائي بعدَ الجلسةِ الأولى للاجتماعِ، وانجرافهِ مع الأمواجِ؛ ليكونَ
قعر البحرِ مقبرةً لهُ ولأحلامهِ وأثرهِ، وبينَ العنوانِ الذي وضعَهُ المدقّقُ
اللغويّ "خلوةٌ في محبَرة" والذي يَدلُّ على فعلةِ هذا المدقّقِ،
الذي خلا في محبرتهِ مع الرّوايةِ بعدَ موتِ الرّوائيّ؛ ليسرقَ الروايةَ، ويكتبَ
اسمهُ عليها بكلِّ فرحٍ؛ مُزيحًا السّتارَ عن سوداويّةِ العنوانِ بكلِّ بذاءةٍ
بعدما لم يعد "المقداد" يصفهُ بالمدقّقِ اللغويّ بل بلقبِ
الكاتبِ؛ لأنّه ثبَّتَ اسمهُ هوَ على الرِّوايةِ بعدَ وفاةِ صاحبها، وتغيير
العنوانِ.
وهنا
كانت الفرصةُ الذهبيّة الحقيقة الرَّابحة في هذهِ القصّةِ، وهنا كانت الدهشةُ
والقفلةُ عندَ "المقدادِ" في قصّتهِ ترجعني لحديثٍ سابقٍ بيننا
عن مُدقّقٍ لغويٍّ، يستبحِ نصوصَ الآخرينَ، ويسرِقها بحجّةِ النَّقدِ والتصويب،
وعرفتُ أنَّ صديقيَ هذا روائيٌّ وكاتبٌ مدهشٌ ومختلفٌ، مع مُيولي لو أنَّ "المقدادَ"
عكسَ في المشهدِ الأخيرِ بدلًا من إزاحةِ السّتارِ؛ ليدخلَ النّورِ لو أغلقَ
الستارَ؛ ليناسبَ حدث سرقةِ إبداع الآخر، الذي دائمًا ما يكونُ في الظلام، وكذلكَ
بدخولِ الأوكسجين، وطرد ثاني أكسيد الكربون، لو بدّلها؛ لتدلَّ على المرضِ
والفسادِ، ولكن قد يكونُ قصد "المقداد" على السَّرقةِ بالنّورِ
دونَ حياء، وظنِّ السارقِ أنَّهُ على صوابَ وأنّهُ غيرُ فاسد.. وهنا اكتملت الدّهشة
والنظرة الخاطفة المُقدَّمةِ منّي لهذا النصِّ القصصيّ الجميل والمدهش. مُعتذرًا
للقارئ، إن كنتُ أخطأتُ في تحليلي أو قصورِ نظرتي، ولكنَّهُ رأيي، الذي أُلهِمتُهُ؛
فإن كانَ صوابًا فالله الموفَّق، وإن كنتُ مُخطئًا، أو مُقصِّرا فمن نفسيَ
القاصرة.
***
وإليكم النص المقصود بالدراسة
لحظةٌ ذهبيَّةٌ. (قصة قصيرة) .بقلم. محمد
فتحي المقداد
حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع خبر
فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته
على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند مديره
المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر تنبيهات
لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع نفسه في
المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى الصَّباح.
قراره الأخير:
- "مديري
عقليَّته جامدة غير قابلة للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا.
يلقي أوامره على الموظفين شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن
فصاعدًا لن أكترثَ له. مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف
باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي
طلبًا".
اجتماع ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع
الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء
الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر.
لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
"لَكْتُبْ اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما
بِتْغيبْ"
أخيرًا. وقف
على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا
من أصوات الأمواج المُتكسِّرة على
الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ. يده
تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه بعنادٍ.
هَوَى.
اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه. مازال لسانُه يُعاند صوت البحر
بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع البحر بخطّ الرُّقعة. بينما
يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو كان يستطيعُ عِناقه، بينما
اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار
النَّشر طباعته. المُدقِّقُ اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا
الانتهاء من رواية "خَلوةٌ في مِحْبَرة" قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن،
وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل مع نفسه:
- "كيف
كتبها الروائيُّ..! "خَلوةٌ في
مَقْبرة" ؟، لا شكَّ بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ
اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها
"خَلوةٌ في مِحبَرة".
رنينُ الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
- "تأكَّدَ
خبرُ موتِ الكاتب. قالوا: إنّه انتحر".
دمعتان حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما
أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرٌ من سواد الحبر،
بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
من فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء
والضُّوء باِسْتباحة المكان؛ فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة،
وملأ رِئتيْه بالأوكسجين، وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت
اِسْمه على الرِّواية بالخطّ العريض. ***
الكاتب محمد فتحي المقداد في سطور
*(محمد فتحي المقداد) من مواليد 1964 بصرى الشام جنوب سورية من محافظة
درعا. ناشط ثقافي مُتعدّد المواهب الأدبية، إضافة لعمله الأساسي بمهنة حلّاق.
*عضو اتحاد الكتاب السوريين الأحرار. عضو اتحاد الكتاب الأردنيين. عضو
رابطة الكتاب السوريين بباريس. عضو البيت الثقافي العربي في الأردن. مدير تحرير
موقع آفاق حرة الإلكتروني.
*فقد أنجز العديد من الأعمال الأدبية، حملت عناوين لكتابات في الرواية
والقصة القصيرة والقصيرة جدًا والخواطر والمقالة. نشر منها ستة أعمال ورقية، ونشر
جزء منها إلكترونيًا، وما تبقى ما زال مخطوطًا طي الأدراج.
..*..
المؤلفات
1-كتاب (شاهد على
العتمة) طبع 2015 في بغداد.
2-رواية (دوامة
الأوغاد) طبعت 2016 في الأردن.
3-كتاب (مقالات ملفقة ج1) طبع
2017في الأردن.
4-رواية (الطريق إلى
الزعتري) طبعت 2018 في الأردن.
5-رواية (فوق الأرض)
طبعت في 2019 في الأردن.
6-مجموعة
أقاصيص(بتوقيت بصرى) طبعت في 2020 في الأردن.
7- كتاب خواطر (أقوال
غير مأثورة).
8- كتاب خواطر (بلا
مقدمات)
9- كتاب خواطر (على
قارعة خاطر)
10- كتاب مقالات نقد
أدبي (إضاءات أدبية).
11- كتاب تراث (رقص
السنابل)
12- مجموعة قصصية
(قربان الكورونا) خاصة في أدب العزلة زمن الكورونا.
13- حوارات متنوعة
بعنوان (على كرسي الاعتراف).
14- قراءات أدبية
سورية\ ج1
15- قراءات في الأدب
العربي الأفريقي
16- قراءات أدبية
سورية ولبنانية\ ج2
17-المحرر الثقافي
.ج1. (بطاقات تعريفية بكتب صدرت حديثًا)
18- تقديمات لكُتُب.
19- قراءات في الرواية
الأردنية.
20- قراءات في الأدب
الأردني الحديث
21- حديث المنجز
22- قراءات في الشعر الأردني الحديث
23-قراءات روائية في الأدب
العالمي
24- (بين بوابتين)
رواية تسجيلية.
25- (تراجانا) رواية
فنتازيا تاريخية متزاوجة مع الواقع بإسقاطاتها.
26- (دع الأزهار
تتفتح) رواية بين الماضي والحاضر.
27- (زوايا دائرية)
مجموعة قصة قصيرة.
28- (رؤوس مدببة)
مجموعة قصة قصيرة
29- (سراب الشاخصات)
مجموعة قصة قصيرة جدا \ق.ق.ج.
30- (قيل وقال) مجموعة
قصة قصيرة جدا \ ق.ق.ج.
31- (مياسم) خواطر أدب
نثري.
32- (جدّي المقداد)
سيرة الصحابي الجليل المقداد بن عمرو.
33- (الوجيز في
الأمثال الحورانية) تراث حوراني.
34- (الكلمات المنقرضة
من اللهجة الحورانية).
35- (مقالات ملفقة ج2)
26- (دقيقة واحدة)
مجموعة قصة قصيرة.
37- رواية خيمة في قصر
بعبدا
38- رواية خلف الباب
39- قراءات في الأدب
العربي الحديث.
40- كتاب قراءة في
رواية يابانية ((1Q84 للروائي هاروكي
موراكامي
41- كتاب خواطر (كيف،
وكاف وياء وفاء).
42- موسوعة (دليل آفاق
حرة للأدباء والكتاب العرب) خمسة أجزاء، بالتعاون محمد الأديب محمد حسين الصوالحة.
43- كتاب: حوارات في المنفى (حوارات أدبية).
44- رواية: (بنسيون
الشارع الخلفي)
45- كتاب (حوارات
سورية في المنفى)
*دراسات كتبت عن أعماله:
-بحث (الواقعية في الأدب العربي. أنموذجًا
رواية دوامة الأوغاد- للروائي محمد فتحي المقداد) تقدم به الباحث طالب عبد
المهدي الفراية في جامعة مؤتة، خلال دراسته الماجستير.
- "أدب اللجوء" بحث كتبه الكاتب والباحث محمد زعل السّلوم، لصالح
مركز حرمون للدراسات، ودخلت كتابات الروائي محمد فتحي المقداد (كتاب شاهد على
العتمة, ورواية الطريق إلى الزعتري) ضمن بحث أدب اللجوء هذا المصطلح الذي قُنن
نتيجة ظروف الحرب في سوريا والمنطقة.
-بحث لنيل شهادة الماجستير في جامعة مؤتة، تقدم به الباحث مالك الصرايرة،
بعنوان (الأزمة السورية وانعكاسها على الأدب في بداية الألفية الثالثة- رواية
الطريق إلى الزعتري للروائي محمد فتحي المقداد).
- بحث لنيل رسالة الماجستير
بعنوان(أثر الحرب في تشكيل صورة المرأة في الرواية السورية دراسة في نماذج مختارة)
تقدمت به الطالبة: "سلسبيل الزبون" في جامعة العلوم الإسلاميّة في
الأردن، وكانت رواية (الطريق إلى الزعتري- للروائي محمد فتحي المقداد) إحدى
النماذج المختارة. تحت إشراف الأستاذ الدكتور: "موفق مقدادي". ومناقشة
الأستاذ الدكتور: "عماد الضمور"
* كتب العديد من الدراسات النقدية عن مجموعة أعماله الأدبية المطبوعة،
قدّمها أدباء ونقّاد عرب . كما صدرت له العديد من النصوص في كتب مشتركة عربيًّا،
ونال العديد من شهادات التقدير، والتكريمات خلال مشاركاته من الهيآات الثقافية
الواقعية والافتراضية. ونشر الكثير من أعماله في المجلات والجرائد الورقية
والإلكترونية.
*له العديد من المقابلات الحوارية
التلفزيونية، على قناة الأورينت، قناة العربي وسوريا، وقناة الرافدين، وقناة
الحوار، وقناة الغد وغيرها.
*وقريبًا- تحت الطبع رواية (خيمة في قصر بعبدا) دخول في محاولة إشاعة مفهوم
السّلم الاجتماعي بين الشعبين السوري واللبناني على ضوء ما حصل في ظروف الحرب
واللجوء، بعيدًا عن مخرجات السياسة القذرة.
-تحت الطبع رواية (خلف الباب) الخاصَّة بحياة اللَّاجئين في المخيَّم.
* عمل على جمع وإعداد (دليل آفاق حرة) للأدباء والكتاب العرب، بأجزائه
الخمسة التي وثقت لألف اسم أديب وكاتب عربي، وهذا العمل يعدُّ موسوعة عربيَّة.
بالتعاون مع الأستاذ محمد حسين الصوالحة من الأردن، مؤسس ومدير موقع وصحيفة آفاق
حرة.
***
ملاحظة: هناك العديد من المشاريع الكتابية التي يجري الاشتغال عليها. سترى
النور قريبًا.
الفهرس
الموضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع رقم الصفحة
تقديم الأديبة: مريم الحسن 5
مقدمة: محمد فتحي المقداد 12
قراءة الأستاذ: بسام الحروري 15
قراءة الأستاذ القاصّ: ظافر الجبيري 30
قراءة الأستاذ: عبدالقادر الغامدي 38
قراءة الأديبة: حصة البو حيمد 46
قراءة الناقد:
حسين سالم صالح الوحيشي 52
قراءة الأديب: رائد العمري 76
الكاتب:
"محمد فتحي المقداد" في سطور 87
*..*=*..*=*..*
تم
بحمد الله وتوفيقه
كتاب
"لحظة
ذهبية"
(قراءات
نقدية على نص لحظة ذهبية- للكاتب محمد فتحي المقداد)
عمّان.
الأردن ــــــــــــا 1\5\2023