حقيبة بيت العائلة
قصة قصيرة
بقلم. محمد فتحي المقداد
لم يبْدُ عليه الاهتمام أثناء تفقّده لمحتويات الحقيبة البُنيَّة اللَّون المُنتفِخة الأحشاء بالرَّسائل والأوراق منذ عشرين عامًا، القابعة في مُستودَع الجهة الخلفيَّة لبيت العائلة القديم. الظَّلام لا يُفارقها بعد الحادث الأليم على الأوتستراد الدوليّ. عندما تصادف توقّف سائق شاحنة النّقل الكبيرة، ونزل لقضاء حاجته في نفس مكان الحادث الذي وقع قبل يومين من مروره، عَلْتها طبقات الغُبار والأتربة المُتطايرة وفيها انطمرت أحلام للشاب حسام بالحصول على منحة الدراسة الجامعيّة، وتبدّد انتطاره ثمّ طَواها النِّسيان، ولم تمسّها يدٌ إلَّا يد ابنته الصُّغرى حينما أمَرَتْها أمّها وقتذاك بأخذ الحقيبة إلى هناك:
-"يا سارة خُذي هذه الحقيبة للمستودع، لا حاجة لبقائها هنا".
- بلا تردّد ولا تأفُّف: "حاضر يا أمّي".
اِتّفاق الورثة على بيْع بيت العائلة المُشتَرك؛ اِشْتراه تاجر عقار شهير بعد مُساومات وإغراءات وتهديدات مُبطَّنة، وكان قد أخذ جولة تفقديَّة، ومن عادته نبش الأشياء المُهمَلة والقديمة، ورَوُوا عنه عبارة ترددّت على لسانه أكثر من مرّة:
-"كثيرًا ما ينسون أشياء مفيدة، وذات قيمة في جيوب الملابس والحقائب النّسائيّة العتيقة، يرمونها لضجرهم منها. في صغري اِشْتريتُ بنطال جينز من إحدى محلّات الألبسة الأوربيّة المُستعملة (البالة)، في غرفة المقاسات جرّبت قياس خصره الذي توافق تمامًا. المفاجأة عندما دسَسْتُ يدي في أحد جُيوبه لتلقط مئة دولار، نقلتها إلى محفظتي في البنطال القديم، حتّى لا يشعر البائع ويأخذها، وربّما لن يتمّ الاتّفاق على السّعر فأخسر الصّفقة".
في المُستودع الخلفيّ المهجور، وقعتْ عيناه على حقيبة الرّسائل التي ما زالت على وضع يد البنت سارة. نَفَض عنها تراكمات الزّمان، تأبَّطها بحرص إلى أن اِسْتقرّت في صندوق سيّارتهَ.
وحسب شخص، وأظنُّ بحسده لتاجر العقارات الشّهير، حينما سمع بصفقة شراء بيت سائق الشّاحنة، أسرَّ لبعض أصدقائه:
-"السبب الحقيقيّ لثراء هذا التاجر الذي أصبح من أهمِّ تُجّار البلد هو أنّه في أيَّام فقره كان دائم التردُّد على المزابل وحاويات القمامة، بعد منتصف اللّيل. ومرّة فتّش ألبسة وأغراض شخص شحّاد قضى نحبه في البرد الشديد، نثر فرشته المهترئة فانتثرت بين يديه خمس رُزَم من المصاري من فئة الخمسمئة ليرة".
مؤكّدٌ أنّ أحدهم أطلق من بين شفتيْه صفيرًا، أكادُ أسمع صفيره أثناء الكتابة، عندما رفع حاجبيْه للأعلى وصَفَق يدًا بيد، وقال:
-"سبحان الله المُعطي.. يعني هالثروة أساسها ذلك الشحَّاد؟".
حسب تصريحات السِّمسار: "في نيَّته إقامة عمارة طابقيَّة مكان البيت، بلمسة عصريّة بواجهاتها الزُّجاجيَّة القاتمة العاكسة للضُوء والشّمس". وتمَّت الصّفقة. ظهيرة اليوم الثَّاني كان موقع البيت ساحة تُرابيَّة، الجرَّافات والآليَّات الثَّقيلة لم تترك شيئًا غير مُكترثة بتاريخ البيت. بلا رحمة جرفت الذكريات والأحلام وما تبقَّى من سَقْط المَتاع، اِنْمحى كلُّ أثر، أشعَّة الشَّمس اللَّاهبة لم تتوانَ عن تسخين المكان، والرّيح ماضية بإثارة مَوْجات الغُبار المُتتالية، تتطاير لتُشكّل طبقات على نوافذ البيوت في المحيط وأبوابهم. الجوارُ مُتأفّفٌ بصمت لا رغبة عندهم برفع أصوات الاِحْتجاج، ولا نيَّة بتقديم شكوى جماعيَّة إلى بلديَّة المدينة. بإجماع قالوا:
-"الشَّكوى لله. سنصبر.. ها نحن صامدون".
على أطراف المدينة البعيدة وحصرًا في الجهة الجنوبيّة الشّرقيّة يقع مكَبُّ النّفايات الذي أصبح موطنًا لتجمُّعات من عشوائيَّات الصّفيح وبقايا المُخلّفات؛ تضمُّ المُشرّدين العاطلين عن العمل والمُنحرفين والمُتعاطين. نشأت هناك سلطات أخرى غير رسميّة فرضت هَيْبتها وقانونها بقوّة عضلاتها.
ضربة فأس لم تكن قويّة بما يكفي لانهيار كَومَة من المُخلّفات؛ لتحدُث المفاجأة للمرّة الأولى لحسام الذي يعمل هنا منذ خمس سنوات وأكثر.
"ما هذا..! يا إلهي، رسائل غير معقول أن يرمي أحدهم بهذه الكميّة!" أعادها للحقيبة المُنفتقة ووضعها بكيس آخر. حملها إلى كوخه غير البعيد من هنا. مع أضواء آخر النّهار أصابته نشوة طارئة تسرّبت لقراءتها. عاوَدهُ فُقدان رغبة القراءة والكتابة التي كانت عشقه.
توالى فتح الرسائل واحدة تِلوَ الأخرى، وانفتحت نافذة تزامنت مع آخر حُصونه المُوشكة على الاِنْهيار، أثناء قراءته للرّسالة العاشرة:
-"السيّد حسام، بعد الاطّلاع على أوراقكَ التي تقدّمتَ بها للجامعة من أجل الحُصول على منحة لدراسة الهندسة، نُعلمكَ عن موافقتنا، وقبولك للعام الدراسيّ القادم بعد إجراء المُقابلات اللّازمة".
تحجّرتْ يده على الورقة التي دعكها بقوّة كفّه الخشنة. لاكَتْها أسنانه غير آبِهٍ بطعم الحبر والعفن. داهمَهُ مغصٌ شديد وانتهى كلّ شيء مع توقّف أنفاسه.