الجمعة، 30 مايو 2025

صندوق بريد رواية (نسخة جديدة 1\6\2025)

 

رواية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


       صندوق بريد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محمد فتحي المقداد

 

 

 

 

صندوق بريد

 

رواية

 

 

 

2025

 

 

التصنيف

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إنَّ الموت يعشقُ

 فجأةً، مثلي.

وإنَّ الموتَ، مثلي،

لا يُحبُّ الاِنْتظار".

محمود درويش

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


(1)

 

يذرَعُ ساحة البَيْت إلى باب الدَّار؛ ثمَّ يعود إلى غُرفته، بِخُطوات واسعة بطيئة، كأنَّما يُؤدِّي مُهِمَّة قياس لقطعة من الأرض بدقَّة مُتناهية. يبدو نَزَقَه من خَبْط الأرض بقدمه خَبْطًا.

أمُّه تُسرع لِفَتح النَّافذة لاِسْتطلاع الأمر، تُزيحُ الظَّرفة اليُمنى ذات الشَّبك النَّاعم؛ تتعجَّب من خُطُواته المُتسارعة شيئًا فشيئًا، بعد أن كانت بطيئة. حاجباها يرتفعان للأعلى، تتَّسِع حَدَقتاها إلى حَدِّهِما الأقصى، وهما تُلاحقان خُطواته لحظة بلحظة.

تتهدَّل شفتها السُّفلى؛ لِتَشِفَّ عن بياض أسنانها ذات اللَّوْن اللُّؤلئيِّ، لم يخطُر لها مناداته إِذْ زَمَّت شَفَتيْها.. تراجعت خُطوة للوراء. ظنَّت أنَّها صرخت عليه: "يا مِهيار". حاولت جاهدة التذكُّر. حلقها ناشف، ولسانها جافّ.

-"مُؤكَّدٌ أنَّني لم أفعل، ولم تسمع أُذُناي أيَّ كلام، لو فعلتُ لجاءني ردَّه".

أدخلَتْ رأسها داخل حيِّز الغرفة. عادت لمُتابعة جَوْلتها الدَوْريَّة في مثل صباح كلِّ يوم للتنظيف، وترتيب الأشياء في مكانها المُعتاد. 

قَلِقَت من تأخُّر زَوْجها ليلة البارحة إلى ما بعد الواحدة ليلًا، كانت باِنْتظار مُكالمته التي لم تأْتِها، شرَّقت بأفكارها وغرَّبت، ولم ترْسُ على برِّ الأمان. إذْ لم يستقرَّ عقلها الصَّاخب على رأيٍ. عَيْناها لم تَبْرحَا سَقْف الغُرفة، وكلَّما سمِعَت صَوْتًا خفيفًا، تقوم إلى النَّافذة.

بنفسها لو سألَتْ اِبْنها مهيار عن سبب توتُّره وقلقه الباديان عليه. فَطِنَت لاِنْشغالها بأمر تأخُّر زوجها، الذي مازال نائمًا، كما أنَّ أعمال البيْت الضروريَّة؛ أَلْهَتْها عن مُغالبة نفسها باِسْتباق الحدَث. تركته نائمًا حتَّى يصحو من تلقاء نفسه؛ فقالت لنفسها: (يا خَبَرْ اليوم تِشْتَريه بِمَصَاري، بُكْرة يأتيكَ بِبَلاش)*[1].

..*..

 

 

كأنَّ الاِنْتظار ينتقم منِّي هذا الصَّباح.. اِخْتلاطاتُ العُبور إلى الزَّمن الماضي من نافذة الذَّاكرة، شوَّشت ذِهْنِيَّتي. اِرْتباكٌ أضاع ترتيب الأوليَّات، ليس صحيحًا أنَّني غير مَعْنيٍّ بحالتي. مُؤكَّدٌ أنَّ ما أنتظرهُ يستحقُّ الاِنْتظار. مهيار يقول لنفسه.

تأفُّفٌ طيلة اليوم على غير عادته، لا يلوي على شيء أثناء خُروجه من غُرفته ودخوله ثانية. لو كنتُ على مَوْعد مُسبَقٍ، أو باِنْتظار "غودو" ربَّما يأتي، رغم يقيني باِسْتحالة ذلك، ولكن من باب الترجِّي. اِحْتراقُ وقتي على مِذْبَح الاِنْتظار؛ يُشعِل حرارة دمي. فوائض الوقت بلا حساب هنا.

وعلى غير مَوْعدٍ مُسبَق؛ جاءني كلام من (الصَّوت الدَّاخليِّ)، فمي مُغلَق، لساني لم يتحرَّك، يا إلهي..!! لم أسمعُه بأُذُنيَّ. أحسُّ اِهْتزاز موجات صوته في صدري. شعرتُ بحرارة الصِّيوانَيْن المُتعرِّقيْن حينما مسحتهما بالمنديل.

أجفلني بنبرته الحادَّة؛ فنَخَزتْ قلبي الذي خفق بشدَّة، لو اِنْتبهتْ أُمِّي للاحظت حركات قَفَصي الصَّدريِّ، وسَمِعتْ حشرجة أنفاسي المُتقطِّعة، كنتُ على وَشَك الاِخْتناق، هيَّا قُم بلهجة آمرة- تباطأتُ لاِسْتجماع بعضي المُتناثر المُتشَظِّي. انتبهتُ. عندما كرَّرها:

-"هيَّا قُم يا رجُل، واُنْظر هناك عند البوَّابة من ينتظركَ. بربِّكَ أخبرني..!، سأفعل لوجه الله، إنَّه "محمود درويش"*[2]، صرَخَ بي: (هيَّا اِصْحَ من غَفْوتكَ). اِنْتشَلَني من وَهْدَةٍ كادت أن تبتلعني. أوه.. يا لَبَلاهتي..!! كيف نسيتُ التَّرحيب به؟.

لقاء مُتلهِّفٌ له من زمان.. أيُعقَلُ تصرُّفي.. يا لحماقتي..!!. اِنْتبَهتُ جيِّدًا، تابَعَ كلامه: (في الاِنْتظار، يُصيبُني هَوَسٌ برصد الاِحْتمالات الكثيرة: رُبَّما نَسِيَتْ حقيبتها الصَّغيرة في القطار، فضاع عنواني، وضاع الهاتف المحمول، فانْقطَعَت شهيَّتها. وقالت: لا نصيب له من المطر الخفيف).

اِخْتفت صورة الطَّيف مع صمتٍ مُطبِقٍ فرضه الصَّوت الدَّاخليِّ على نفسه.. تلمَّستُ جسدي؛ لأتأكَّد أنَّني في الحقيقة، ولستُ في حلُم، حالما حاولتُ النَّظر إلى وجهه.

عَضَضْتُ على اِصْبعي؛ كِدُت آكُلها من شدَّة النَّدم. آلمتني. أشَدُّ ألمًا من عضَّة "الكُسَعيّ" لاِصْبَعِه *[3] ، على ما فاته من التفريط، والتعجُّل بكسر قَوْسه في نَوْبة غَضَبه، ويأسه من السَّهم الذي صَنعه بنفسه، من النَّبتة التي رَعَاها بنفسه لفترة طويلة، وتعهدَّها بالسِّقاية والرِّعاية، ظنًّا منه أنَّها لم تنفعه لصيد الغُزلان.

بأعلى صَوْته، ويأتيه الصَّدى من روابي البادية الواسعة: (يا لَلْلَّعنة..!!). رأى الغُزْلان المُجَندَلة مع اِنْجلاء سُجُف الظَّلام. مالي ومال "الكُسَعيّ"، لولا ذلك "الفرزدق"*[4]  المنحوس؛ عندما طلَّق زوجته (نُوَّار)، التي كان يحبُّها؛ فأنْشَدِ ندَمًا على تعجُّله:

      نَدِمْتُ نَدَامَــــــــــــــــــةَ الكُســـَـــــــعِيِّ لمَّا                غَدَت مِنّـــِـــــــــــــي مُطَلَّقَةً نَـــوَّارُ

      وَكانَتْ جَنَّتي، فَخَرَجْتُ منها                  كآدمَ حِيـــــــــنَ لَجّ بِهِ الضِّرَارُ

سأتأكَّدُ بطريقتي. هل سَمِعتْ أمِّي صرخة "درويش": "هيَّا اِصْحَ من غفوتكَ"؟. وهل سمِعَتْ صدى صرخة الكُسَعيِّ؟.

لكنَّها مشغولة بقضيَّة أبي النَّائم.. وتحسبُ ألفَ حسابٍ؛ خَوْفًا من أن يقوم بفِعْلة "الفرزدق" مع زوجته نُوَّار، كأنَّها في صميم نفسها تلعنه، لو أنَّها عرفَتْ بِفِعْلَته..!! كما لَعَنَتْه نُوَّار في زمانِها الغابر، ومع ذلك فَلَن أفعلها، وأُخبِرها بخبره؛ كي لا يتأجَّج لهيبُ حَيْرتها، وشكوكها بذاك الغارق بأحلامه. أبي مُستَدفِئٌ في فراشه، غطيطُه محصورٌ داخل غُرفة نومهما، لا يصدُر شيئًا منه، لذلك لم أسمعه قطٌّ. موانعٌ لِحَواجِز الكِتْمان المُحيطة بخصوصيَّتهما؛ تَصُدُّ تطفُّلي، عندما كنتُ أحاول في صِغَري.

النِّساء مُتشابهات بطريقة التَّفكير... حتَّى، وإنْ عَلَتْ إحداهُنَّ بمقامها العِلْميِّ والاِجْتماعيِّ والوظيفيِّ. لا غرابة في ذلك، ولا جديد. تتوارُد سُيول الأفكار، من عوالم ذكرياتي البالِغَة القِدَم.

وسائل النَّقل العامَّة بيئة مِثاليَّة لِتوارُدات الأفكار المُنهالة على أذهان الرُّكَّاب. لتعداد الصُّور والمشاهد والحكايات، ومُجريات غير مُتوَّقعة تُفجِّر المفاجآت.

(الصَّوت الدَّاخليِّ):

-"ما هذه الآراء العُنصريَّة بوصفكَ للنِّساء يا مهيار، ستقوم الدُّنيا من الجمعيَّات النسويَّة في العالم بين الشَّرق والغرب على حدٍّ سواء..!!  خَبِّئها لنفسكَ، قسمًا بالله سترى العالم النَّسويَّ، ومعه مُنافقي الرِّجال يقفون صفًّا واحدًا، وقد اجتمعوا على غير موْعد مُسبَق، إلَّا على عداوتكَ، وليجدوا قضيَّة جديدة؛ لتعزيز نضالهم غير المُبرَّر ضدَّ الرِّجال، لإنصاف، وتمكين النِّساء".

-"تمكينُهُنَّ من أيِّ شيء؟".

-"من رِقاب الرِّجال؟".

-"سأخبركَ بفكرةٍ جهنميَّةٍ ستجدُ صداها عالميًّا، وستنبري وكالات الأنباء والفضائيَّات مُتسابقة إليكَ؛ لاِسْتضافَتِكَ".

-"هاتِ.. لأرى ما وراءكَ؟".

-"أن تُعلن عن جمعيَّة خاصَّة بالرِّجال فقط. وتمنع اِنْضمام النِّساء إليها، ولا تحت ظرف مهما كان، وتجعل الذُّكورة وجهًا لوجه مقابل النسويَّة المُفرطة".

-"وبعد ذلك؟".

-"واجعل أوَّل هَدَف لكَ هو: إنصاف الرِّجال من ظُلم النِّساء، وستجد صدى صوتكَ يتردَّد حَوْل العالم، وربَّما تأتي مُنظَّمة مُتطرِّفة ما، وتُؤمن بقضيَّتكَ، وطروحاتكَ؛ فتتضامَنُ معكَ، وتُناصرُكَ".

-"أيضًا.. وماذا بعد ذلك؟".

-"إذا واظبت بالاِشْتغال على هذه القضيَّة، أتنَّبأُ لكَ بمستقبل باهر، وستكون على مدار السَّاعة تحت الأضواء، ويُخلَّد ذِكرُكَ على المُستوى العالميِّ، ويُصبِح اِسْمك في مُواجهة اسم "فرويد"، و"قاسم أمين" و"هُدى شعراوي". على قدَر حجم الخُصومة مع المُنظِّرين للنسويَّة، تكون شُهرتكَ أعظم وأرسَخ. القضايا الكبيرة تحتاج لخصومات أكبر)".

اِنْقطعَت فجأة سُيولٌ من تَداعِيَات الأفكار؛ المُنْثَالة على ذهن مهيار أثناء عودته للبيت. شُعور التَّعب أنهَكَ قُواهُ الجسديَّة، فكانت رغبته المُلحَّة بالعودة إلى بيته بالسَّرفيس؛ بعد نهاية حضوره الحفل المركزيِّ بمناسبة عيد الجلاء، المُناسبة العزيزة على قُلوب جميع السُّوريين، يُحيونها بإظهار حُبِّهم للبلد.

وتحت ضغط ورقابة من الجِهَات الأمنيَّة، يتوجَّب على مُدراء دوائر الدَّولة بحشد مُوظَّفيهم، ويكون التركيز الأهمُّ على طُلَّاب المدارس والجامعات. المسافة الطَّويلة من أمام "محطَّة الحجاز"؛ تنطلق الحُشود مُنحدِرةً باتِّجاه "سميراس"، ومن تحت جسر فكتوريا تتدفَّق المسيرة، وتُتابع إلى ساحة "يوسف العظمة" (ساحة مبنى المُحافظة)، وصولًا إلى ساحة "السَّبع بحرات" من أمام البنك المركزيِّ، ثمَّ تعبُرها يمينًا؛ باِتِّجاه صالة الفَيْحاء تقاطُع شارع بغداد والثَّورة. في هذا المكان المُحدَّد لتجمُّع القيادتيْن القوميَّة والقُطريَّة للحزب، وأحزاب الجبهة الوطنيَّة التقدُّميَّة، والوزراء والمسؤولين الأمنيِّين والمدنيِّين، المطلوب تواجدهم؛ لاِنْتظار لحظة وصول موكب الرِّئاسة.

في العادة ما يحرص السيِّد الرَّئيس على الحضور؛ لإلقاء الخِطاب التاريخيِّ والمُطوَّل، الحامل لرؤاه للمرحلة الحاضرة والمُستقبليَّة. وفي البُيوت تُتابع  فئاتُ الشَّعب من غير المُوظَّفين لدى الدَّولة؛ البثَّ المُباشر منذ ساعات ما قبل الظُّهر.

مُكبِّرات الصَّوت تملأ الشَّوارع والسَّاحات، التي تُزيِّنها الأعلام، وصور القائد، وتتعالى بالأغاني الوطنيَّة والحماسيَّة. حِرَاساتُ مُشدَّدة خوْفًا واِحْتياطًا؛ لسلامة المسيرة من الخَوَنة والعُملاء.

..*..

 

 

 

(2)

 

كلَّما حانتْ اِلتفاتة عفوَّية بِطرَف عَيْني للمرَّة الأولى..، وكي أكونَ صادِقًا؛ لا ليست عفويَّة أبدًا بعدما لاحظتُ؛ تحديقها في وجهي بتركيز شديد مُتعمَّدٍ؛ لَفَتَت اِنْتباهي؛ لتصطدم نظَراتي بنظَرَات عَيْنيْها الواسِعَتيْن، ترسُم خُطوطهما الكُحلة السَّوداء، والمَسْكَرة التي جعلت الأهداب مُنتَصِبة كحُرَّاس على أُهبَةِ الاِسْتعداد؛ للاِنْقضاض على أيِّ مُتهوِّر تُسوِّل له وساوسه اِقْتحام المكان المُحرَّم؛ فزادهتهما اِتِّساعًا على اتِّساع مُشجِّعٍ؛ لتبادل النَّظرات البريئة سفيرة القُلوب والأشواق، وإيصال الرَّسائل المُشفَّرة بأمان.

..*..

 

 

طبيعة التراجُع مُتلازمتي المُحْرِجَة في مواقف كثيرة، أقرب إلى حالة الطُّفولة الجاهلة بتحليل كلِّ نظرة على حِدَة، لا أقْصِد الهزيمة المُرَّة بذاتها، والكريهة إلى نفسي. لا أدري على وَجْه الدقَّة؛ فلماذا لا أُطيق الاِنْهزام لا جُزئيًّا ولا كُلِيًّا.

تعلَّمتُ التراجُع التكتيكيِّ، كالصيَّاد الماهر؛ يحتال بوسائله الخادعة، والمُضلِّلة للظَّفر بفريسته. وحتَّى لا أُفهَم خطأً، ويلجأ البعض للتأويل على طريقته, وكيفما يشاء..! بأنَّني مُصاب بمتلازمة (التراجُع الذَّيْلي)*[5]، وأنَّ جِسْمي مُشوَّهٌ بِعُيوب خَلْقيَّة.

(الصَّوت الدَّاخليِّ):

-    "يا غشيم.. أليسَ التراجُع هزيمة، حتَّى وإن اِسْتُبدِلَت المُسميَّات بألفاظ أخفُّ وطأةً، وألطف بوقعها على السَّمع؟".

-"إنَّما  بكلِّ المعايير لا أحتملُ مِثْل هذا التَّفكير، حتَّى وإن كنتُ لا أعرفُ ما في قرارة نُفوسهم. فإذا كانت الهزيمة بهذا الهَوْل على مُواطِن فقير مِثْلي؛ فكيف بقادة الجُيوش الجرَّارة المُهيَّأة للدِّفاع عن الوطن؟.

لا أظُنُّ ذلك إلَّا من بعض الحَسَدَة، الذين يرْقُبونني؛ لتصيُّد هَفَواتي.. يا إلهي ..! كيف تركُوا شُؤونهم، وخاصَّة حياتهم؛ ليصرفوا كامل طاقتهم في سبيلي، ويملؤون ساحتي بأشباحهم المُتَخفِّيَة، كالمُخْبرين المُتصيِّدين لكلِّ حركة أتحرَّكها، أو كلمة يَبْنُون عليها آمال، وقُصور أحلامهم المريضة. شعور بالاِضْطهاد مُسَيْطر على دَوَاخلي، لا بل ثِقَلَهم على نفسي كجُيوش اِحْتلالٍ؛ اِسْتباحت ساحاتي بلا رحمة، واِسْتوطنتها بشكلٍ دائم".

..*..

 

 

لا أدري على وجه الحقيقة ما الذي سأفعله، حيرةٌ مُشوِّشة للعقل.. فلم أُحدِّد مَوْقفي منهم جميعًا، ولم أعمل فرْزًا لتحييد الأصدقاء العاديِّين، من غيرهم من الأصدقاء الموثوقين. بل ألتقيهم جميعًا بلا اِسْتثناء أثناء خُروجي، ورُجوعي إلى البيت، وفي السُّوق والمقهى والحديقة.

معظم ساعات نهاري أقضيها خارِجًا من البيْت، مُحاوِلًا قطع حالة الوِحْدة القاتلة؛ بعد إحالتي على التقاعُد الإجباريِّ لِبُلوغي الستِّين. حركتي الدَّائمة على مدار اليوم، تُيَسِّر لي سبيل النَّوم، وقتل هواجس قلق اللَّيل المُخيفة؛ عندما تأخذني بعيدًا.. بعيدًا؛ وُصُولًا إلى حَوافِّ الكُفر؛ أُشفِقُ على شَيْطاني الذي زَهِق مِنِّي، وهو يجلسُ مُسْتَمِعًا مُنصِتًا لإمْلاءاتي الجديدة على مسامعه، وغير المعروفة لديْه سابقًا.

شُكُوكي لا حدَّ لها..! مُعدَّلاتها اِرْتقت حدًّا لا يُطاق أبدًا، في الواقع أنَّني لم أُخبِر أحدًا بأيِّ شيء يفتح بابًا، أو مَنفَذًا سيكونُ مُدخَلًا سَهْلًا للنَّفاذ، للحقيقة المُستقِرّة في قلبي وعقلي؛ فلَوْ أنَّ علماء النَّفس، اِمْتلكوا الإمكانات العلميَّة المُتقدِّمة الحاليَّة، ربَّما سيُمكِّنهم من اِستغلال ثَرْوتي، ونصيبي من الخَوْف والقهر؛ ولبَدَوْتُ ضعيفًا أمامهم؛ يقتادونني كطفلٍ مُسالمٍ لا يُقاوم. شيءٌ طبيعيٌّ شُعوري النَّاضِحِ بالتوتُّر في بعض المواقف الاِجْتماعيَّة، وعلى الأخصِّ في مثل اللَّحظة هذه.

قلق بالغ.. اِرْتباك.. شعور بالحَرَج بسبب الخَوْف؛ من أن أكونَ مُراقَبًا، وكي لا أَظلِمَ حظِّي. ربَّما لا تكون هذه المخلوقة مُكلَّفة بمُراقبتي، إنَّما خَوْفي من أن تحكُم تصرُّفي بالسَلبيَّة.

..*..

 

إذا زالت الأقنعة عن وجهي، والأغطية المُزيَّفة. جازمًا أعتقدُ: بأنَّ الاِنْكشاف للآخرين؛ لا يقلُّ درجة عن الموْت المشؤومِ بشَمَاتَةٍ. لم أُخبِر أحدًا بطبيعة مخاوفي، وشُكوكي حِيال أيَّة نظرة، أو اِبْتسامة اِلْتقطُّها من أيِّ شخص يُقابلني، أو تقع عَيْني عليه، حتَّى وإن كان الأمر بطريق الصُّدفة.

الخوف ينهش قلبي.. يكاد يلتهمه، ويقتلني؛ عندما أسمعُ ممَّن يُطلقون عليَّ صِفَة جيِّدة: "شكَّاك". التي ستُضاف إلى سِجِلِّي المليء بالصِّفات والألقاب. حقيقة، وبِدُون لَفٍّ ودَوَران، أتعجَّبُ من مهارتهم في اِبْتكار هذه الأشياء عنِّي..!، أحسدهم على ذاكرتهم السيَّالة؛ بمخزونات هائلة من النُّكات والهَمْبَكه*[6] على الآخرين.

ولن أُذيع سِرًّا إذا وصفتهم، ولن أبْخَل.. ولن أخجَل؛ إذا أخبرتُ جُمهوري بوصفي لهم: "بأنَّهم مُبدِعون". في مرَّات عديدة يَنقُل لي أحفادي: ما قيل ويُقال عنِّي في الحارة من الجيران، وغيرهم بلا اِسْتثناء، الذين لا يتورَّعون عن قَذْفي كلَّ يوم بحكاية جديدة لا أساس لها من الصِحَّة، ولم أسمع بها من قبل، رغم أنَّني صاحبها كما يزعمون.

ذكاء الأحفاد وَقَّاد بِلَمحاتهم، وتلميحاتهم. لم يخطُر ببالي ما يتمتَّعون به من قُدرات بالتنبُّؤ؛ بحيث يتوقَّعون ما سيُقالُ مُستقبَلًا عنِّي، عندما تبيَّن فيما بعد من صِدْق حَدَسِهم، ثمَّ ينخرطون في نَوْبات من الفرح، والمرح، والقهقهة، كأنَّهم ينتظرون هذه اللَّحظة؛ لإفراغ شُحناتهم بمُداعبتي، بل بمُشاكستي، لعلمهم يقينًا بِسُروري بِهِم، واِحْتفائي بفرحهم.

(الصَّوت الدَّاخليِّ):

-    "أنا آسف.. حقيقة أنا آسف. لم أنتبه لخطأ فادح أثناء الكتابة للرِّواية، لقد وقعتُ في خطأ شنيعٍ.. يا إلهي..!! كيف غادرتني الفطنة، بأنَّ أبناء مهيار لم يتزوَّجوا، وما زالوا يدرسون في الجامعة. كيف حدَثَ الاِلْتباس بإقحام الأحفاد؟. الإشكال بأنَّ هذا الكلام كان في سياق حديث طويل بين مهيار مع صديقه "فطين" من أيَّام الطُّفولة والدِّراسة، ثمَّ تفرَّقت بهم سُبُل الحياة؛ فتباعدوا عن حارتهم القديمة، وصارت لقاءاتهم على فترات مُتباعدة. عُمومًا. اِسْتطعتُ اِسْتدراكَ الأمر قبل فَوَات الأوان". 

..*..

أمَّا قصة بأنَّني كلَّ يوم أحرقُ ما كتبته بالأمس؛ فقد أربكتني، وأزعجتني بطريقة مُؤلمة. الاِفْتراء سكِّين تُقطِّع دواخل المُفتَرى عليه. وتقضي على حماسه، إن لم تُغيِّر مسار حياته بعكس الاتِّجاه، كما حصل لأُناسٍ أعرفهم، وآخرين سمعتُ عنهم.

(الصَّوت الدَّاخلي) :

-"لا تبتئِس أبدًا. دعهم يقولون ما يحلو لهم. معذورون لأنَّهم لا يعرفون: بأنَّ التفكير عملٌّ شاقٌّ، ولا بمدى اِسْتهلاك وقتكَ، وصحَّتكَ يا مهيار، إضافة للأوراق والأقلام، ولا فناجين القهوة والدُّخَّان؛ جميعها تذهب هباء منثورًا".

قاتَلَ الله من أخبرهم بهذه الأُكذوبة الحاقدة، التي اِخْتلقوها من أوهامهم، وبنات أفكارهم المريضة، ولا أساس لها على الإطلاق. ببساطة شديدة، لأنَّها لم تحدُث أصلًا.

برأيي أنَّ جُموح خيالاتهم الواهمة، وسوء الظنِّ، ولا أستبعِدُ؛ بأنَّهم مُكلَّفون بمُراقبتي، وعلى الأغلب تطوُّعهم مجَّانًا لتنفيذ غاياتهم الدَّنيئة، ومن دون تكليف من أيَّة جهة أمنيَّة.

شعوري الغالب بكراهيَّتهم لي، وشُعورهم المُوارِب على الأقلِّ؛ بعدم الترحيب بوجودي في نفس الحارة التي تجمعنا. شعور الكراهيَّة يتخطَّى كلَّ التقييمات، لعدم اِسْتطاعة أيٍّ منَّا توصيفه بشكلٍ دقيق.

(الصَّوت الدَّاخلي):

-"ليس بغريبٍ ما أسمعه منكَ يا مهيار، بما يُقال ويُحكى عنكَ. فقد وَرَد  بأنَّه لمَّا ضاقت صُروف الحياة على أبي "حيَّان التوحيديِّ"، وتبدَّلت هناءة الأيَّام بِنَحْسِها، ووجد أنَّ كُتُبَه لم تنفعه جمعها وأحرقها، ولم ينجُ من مجزرة الحريق غير ما نُقِل، أو تمَّ نسخه قبل إحراقها"*[7].

- وقد سمعتُ أنَّ الشَّاعر "سليمان العيسى" بعد حرب حُزيران 1967، أصابته صدمة الهزيمة، وبأنَّه عاش وَهْمًا أيديولوجيًّا، ولا فائدة من جميع أشعار وقصائد القوميَّة، فالشُعور بالخديعة يولِّد شعورًا باليأس والإحباط، وفي حالات نادرة يُولِّد شعورًا مُغايرًا بالدَّفع للنُّهوض من جديد، ومُتابعة المسيرة، كما حَدَث لسليمان العيسى. ومقولته الشَّهيرة: (من كتبتُ لهم خذلوني، فلأكتُب للأطفال حُلُم المُستقبل. بصراحة. أخبرني أحد الأصدقاء جمَعَتهُ جلسة عابرة بالشَّاعر. نفى نفيًا قاطِعًا لقضيَّة حرق كتُبُه، وأنَّها مُلفقَّة قوْلًا واحدًا)".

(الصَّوتُ الدَاخليِّ):

-    "قريبًا من هذا، فقد سوَّق فيلم "المصير"[8]؛ لفكرة حَرْق كُتُب العالم والفيلسوف "ابن رُشُد" الأندلسيِّ.  فصراع الجديد مع القديم دائم منذ الأزل، بالضَّبط كالذي دار ما بين توجُّه "ابن رُشُد" الفكريِّ المُنادي بالاِجْتهاد، وما بين التوجُّه الفكريِّ المُتمثِّل بالشَّيْخ "رياض" السلفيِّ الجامد. لينتهي هذا الصِّراع بإحراق كُتب "ابن رُشُد". و بالرَّغم من حرق الكتب إلَّا أن نُسَخًا منها حُفِظت في مصر".

-    "منذ سنوات على ما أذكُر، كنتُ قد قرأتُ نقدًا موضوعيًّا لفيلم المصير في أحد المجلَّات، نسيتُ اسمها.. الأمور مختلطة بذهني. بأنَّ المادَّة التاريخيَّة شوَّهها الفيلم بطريقة سيِّئة، حتَّى قيل بأنَّ المُخرِج تقصَّد ذلكَ، ليتوافق مع ما هو مطلوب من مواجهة الإرهاب الموجة المحمومة، التي ركبها من ركبها في سبيل المكاسب"*[9].

(الصَّوت الدَّاخليّ)

-    "ما يُؤلمني. أن لا أحد يبحث عن الحقيقة، بِقَدَر ما يبحث عن تحقيق ذاته. بنظرة تأمليَّة بسيطة؛ فإنَّ الدَّولة العباسيَّة*[10] كانت تعتني بالعلوم والتَّصنيفات العلميَّة والفلسفيَّة والدينيَّة، فكيف بها تأمُر بحرق الكُتُب؟".

..*..

لا أشكُّ إلَّا في جارَتِنا، التي ما فَتِئَت ترمي بسهامها إلى قلبي العصيِّ على رَمِيَّتِها، على الرَّغم من أنَّها صديقة لزوجتي شادن. ثُلوجُه القُطبيَّة لا تروق لها.

هي في وادٍ وأنا في وادٍ، إنَّهما في الواقع مُتباعدان كبُعد المشرقَيْن. سياسة القُلوب لا ضوابط لها، كَجُمُوح الخيول في فضاءات الحريَّة عندما تنطلق بلا حدود في البراري الشَّاسعة.

 تذكَّرتُ أثناء تململي في جلستي على المقعد، يجب أن أتهيَّأ تمهيدًا للنُّزول، الاِنْهماك في الثرثرة جعلت السَّائق لا يتنبه لطلبي بالتوقُّف. شتائمه القبيحة لا تليقُ بتلك المرأة المسكينة.

لَيْتها ماتَتْ من فَوْرها..!. لَيْتني لم أتواجَد في المكان الخطأ؛ لأُجْبَر على الاِسْتماع لمثل هذا (الشُّوفير)، يتكلَّم بحقِّها كلامًا ساقطًا، ناضِحًا بالقَرَف والغَثَيَان، ولا أظنُّها إلَّا شريفةً بريئةً ممَّا قال.

ما يحزُّ بنفسي: أنَّني أضعَفُ من الاِنْتصار لها، ولا أقوى على ذلك، ولو بكلمة واحدة؛ أمام غَضَب هذا الثَّوْر الهائج. كأنَّه في مُباراة دوليَّة لأقبح وأسوأ العِبَارات.

البنتُ تتمَلْمَلُ، لِتُوازن جلستها. بِطَرف عَيْني لاحظتُ حركتها. هل أُصيبتْ بغريزة القطيع..! أو داء التقليد لحركاتي دون فاصلٍ زمنيٍّ، ولا حاولتْ إخفاء حركتها، كي لا أُلاحظها، شعرتُ بإحراجها؛ عندما قبَضَتْ على نظرتي الخاطفة بِطَرَف عَيْنِي.

..*..

 

أوه..! لا مجال لِنَفْي شُكوكي بها، أثناء عَوْدتي إلى البَيْت، وتِجْوالي عبر الشَّوارع التي مررتُ بها؛ رُبَّما تكونُ مُكَلَّفةً من جِهَة ما.. بمُتابعتي. بنفسي لو أعلمُ: ما الذي ستكتبه في تقريرها، أو ما ستقوله لو كان شفاهيًّا.

كنتُ مُدرِكًا لخُطواتها خَلْفي. عندها.. توقَّفتُ أمام واجهة زُجاجيَّة لامعة لأحد محلَّات الملابس، مُتكِّئًا على جَذْع شجرة، تَنْتَصِب وسط رصيف المُشاة، لم أفطَنْ..! إلَّا أنَّها تُسنِدُ كَتِفِها على يمين الجَذِع الضَّخم الأُسطوانيُّ الشَّكل. حجمه يُعادل على وجه التقريب.. حجم مُحيط برميل الماء الكبير.

تشتَّتَ تركيزي بمُتابعة، واِسْتعراض الملابس من خلف الزُّجاج المُتلألِئ بأضواء (السُّبوتات) المُلوَّنَة، وأُخرى ذات ومِيضٍ دَوْريٍّ بتناوباتها المُنتَظَمة  بلا أَدْنى خَلَلٍ. أصواتُ مُولِّدات الكُهرباء تصمُّ الآذان على مَدَار ساعات النَّهار، وقِسْطًا ليس وافرًا من اللَّيل.

أصواتُ العابرين تختلط بتمازُج عجيب. مُهِمَّة المُخبرين صعبة، لا يكادون يُميِّزون جُملة مُتكاملة حَوْل موضوع مُعيَّن. اِرْتفاع وتيرة الأصوات تتشابكُ مع ضجيج السيَّارات؛ تجعلهم عاجزين عن فَرْز الكلام المُنتَقِد لأداء الدَّولة، وتأفُّف المُتأفِّفين من ضيق العَيْش، وذات اليدِّ.

الحربُ الداخليَّةُ لعنةُ عَقْل العسكر. حالة اِنْقلابيَّة على قِيَم المُجتمع. تُخلخِلُ الاِسْتقرار النَّفسيِّ والرُّوحيِّ والعائليِّ.

جميع الحروب فيها مُنتصِرٌ ومهزوم. أمَّا في بلدنا فكُلُّنا خاسر. أبناؤنا يُحاربون بعضُهم بعضًا؛ فقتلى النِّظام شُهداء في إعلامه، وقتلى المُعارضة عصابات إرهابيَّة.

فهل يُسمَّى اِنْتصارُ الدَّوْلة على شعبها؛ اِنْتصارًا؟.

أم قَمْعًا، وتشريدًا، وتدميرًا؟.

تساؤلات  كثيرة ومُثيرة؛ تشغل بالي، وتحتاج لإجابات وافية شافية. الحربُ ضيَّقت دُروبَ ومساربَ الحياة، وأطفأت أنوار مَسْرحها؛ فلا بصيص أمل إلَّا إذا توقَّفت الحروب نهائيًّا، لِيَتوقَّف معها جُنون العقل المُعتَلِّ بالسَّيْطرة، وتكريس أوهام الزَّعامة. حقيقة الحياة مُرتبطة بالحكمة، والحُبِّ، والتَّسامُح، وحُسن الإدارة، وغير ذلك فالجميع خاسِرٌ بلا شكٍّ.

تنحْنَحَتْ بطريقتها؛ كأنَّها تُنظِّف حُنجرتها من البلغم المُتجمِّع؛ بفعل سُكُوتها لساعات من غير أن تُكلِّم أحدًا. سمعتُها بعد أن تهيَّأت واِسْتعدَّت:

-"مساء الخير أُستاذ مهيار. منذ زمان أتحيَّن الفُرصة للقائك والكلام معاكَ. سعيدةٌ بكَ أُستاذ".

رفعتُ حاجبي الأيْمَن، بينما يدي اليُسرى اِمْتدَّت مُلبِّية لرغبة الهَرْش بِفَروَة رأسي؛ كأنَّها تُعينني على تذكُّر، أو اِسْترجاع ذكرى ضائعة في مجاهل ذاكرتي العتيقة. أوه..!! هذا الوجه غير غريب عنِّي أبدًا؛ أجزمُ بذلك. مُؤكَّد أنَّني رأيته ذات مرَّة. لكن أين ومتى..! هنا المُعضلة بنسيان الأسماء مع حفظ الملامح جميعها أو بعضها.   

..*..

 

ملامحها مألوفة.. على كُلٍّ لا يهُمُّ إنْ كانت مجهولةً تمامًا. بلا شكٍّ وأظُنُّ أنَّها مُكلَّفةٌ من جهة أمنيَّة ما بمُراقبتي؛ تترصَّدني، أو تتعامل مع أجهزة عالميَّة (سي. آي. إي) أو (كي. جي. بي) أو (موساد)؛  هنا الورطة الأخطر على الإطلاق.

وماذا لو كانوا يُخطِّطون لاِخْتطافي..!؟.

وماذا لو قرَّروا اِغْتيالي..!؟.

وفي أحسن التَّقديرات أن يوقعوا بي في حبائل مصائدهم بتجنيدي..!؟.

سأُحاوِل جُهدي ما اِسْتطعتُ إلى ذلكَ سبيلا؛ بالتراجُع ليس خُطوة للوراء، بل خُطواتٍ، لأصرفَها عن طريقي.. لتتركني وشأني.

..*..

 

شُعورٌ مُفاجئٌ بِمَغْصٍ مَعَويٍّ خفيف؛ عزَّز فكرة الهروب والتهرُّب منها، بحركة لا إراديَّة اِمْتدَّت يدي للضَّغط على مُقدِّمة بَطْني، بعد أن أدَّت مُهمَّتها بحكِّ فروة رأسي. أطلقتُ زفرةً، أتبعْتُها بتأوُّهاتٍ: "آه.. آه".

كأنَّها أحسَّتْ بتقلُّصات بَطْني، واِنْتقلت إليها حُمَّى تشنُّجاتي، بَدَت على وجهها علامات قَلَق وتخوُّف؛ فبادَرَتْ بقولها:

-"سلامتُكَ أُستاذ، بماذا أستطيعُ مُساعدتكَ.. بماذا تُحِسُّ.. ما الذي يُؤلمكَ.. هل تشعر بوجَعٍ؟". لم تكد الكلمات تتجاوز شفتيَّ، بنبرة خفيفة.. مُؤكَّد أنَّها سمعت:

-"أشكُرُكِ.. نَوْبة مَغْصٍ خفيفة، يبدو أنَّني أخذتُ كميَّة بَرْد أثناء اِسْتحمامي، لم أستطع تشغيل المدفأة، كانت جرَّة الغاز فارغة، وبائع الغاز منذ يوميْن يُواعدني. اِنْتظرتُه، وأخلفتُ مواعيدي مع أصدقائي، للأسف كلُّهم كذَّابين، مَلَلْتُ من كثرة مُكالماتي.. التي لم يردَّ إلَّا على واحدة منها، بنفسي..!، ولو لمرَّة واحدة أن يصْدُقوا. تقريبًا جميع معاليم المِهَن؛ كأنَّهم مُتَّفِقون على أن لا يَصْدُقوا مع أنفسهم أو معنا".

- "والله يا أُستاذ مهيار. نفس المُشكلة التي نُعاني منها جميعًا، لستَ وحدَكَ من يُعاني منهم، مُوزِّع المازوت منذ أُسبوع دفعنا له المصاري.. وما زِلْنا ننتظر حُصَّتنا السَّنويَّة المُخصَّصة بموجب دفتر العائلة، حتَّى أنَّه لم يعُد يردُّ على مُكالماتنا، عندما نريد الاِسْتفسار عن مَوْعدنا".

-"أظنُّ والله أعلم، وعلى الأغلب أنَّه قام بسحب مُخصَّصاتِكُم، وغيرها من مُخصَّصات الزَّبائن الآخرين، وباعها بالسُّوق السَّوْداء.

سمعتُ بأنَّهم -مُوزِّعو المازوت- يذهبون إلى مناطق مُحدَّدة، مثلًا عند نهاية أوتوستراد المزَّة، وعند بداية أوتوستراد دمشق بيروت أيضًا، بعد مُفترَق طريق المُعضَّميَّة قريبًا من مركز اِنْطلاق السُّومريَّة، هناك يبيعون ما معهم لسيَّارات النَّقل الخارجيِّ العابرة إلى لُبنان، وعلى الأخصِّ البرَّادات والشَّاحنات الكبيرة".

-"هل هذا الكلام أكيد يا أُستاذ؟".

-"يعني ليس أكيدًا بالضَّبط، لكن على الأغلب أنَّه شبه مُؤكَّد، سمعتُ ذلك من أصدقاء موثوقين".

هزَّت رأسها بأسفٍ، وبدأت تبحث عن هاتفها النقَّال في جُيوب جاكيتها الشَّتويِّ. لمَّا رأيتُ اِرْتباكها. أشرتُ باِصْبعي:

-"رُبَّما بالشَّنطة؟".

..*..

 

فطِنَتْ. فَتَحَتْها بعصبيَّة، تناولت الجهاز مُباشرةً. أجرَتْ مُكالمة: "خَبِّريني عن (أبو سامر) بيَّاع المازوت، على أساس أنَّ مَوْعدنا هذا اليوم، بعد طول اِنْتظار ومُماطلة".

لا أستطيعُ تحديد من الذي يُكلِّمها على الطَّرَف الآخر هُناك في بيتها. لكن من لهجتها، وعلى ما فَهِمْتُ من لهجة جوابها على السُّؤال، يبدو أنَّها أمُّها، أو أختُها؛ حسب تقديري.

لم يخطُر ببالي أن تكون صديقتها، التي تتقاسم معها السَّكن في شُقَّة صغيرة في مساكن برزة، إلَّا عندما أخبرتني:

-"هذه صديقتي. زميلة السَّكن في برزة".

-"أوه.. يا آنسة! قبل سنوات سكنتُ هناك".

-"عنجد.. أستاذ؟".

-"آه. والله..!؟.

-"وأين؟".

-"في عمارات المساكن الجاهزة المُواجهة مباشرة لمستشفى ابن النَّفيس".

-"وأنتِ؟".

-"لا.. شُقَّتي على الطَّرَف الآخر قريبًا من مُفتَرق طريق (برزة البلد) و(عِشْ الوَرْوَرْ)*[11]".

-"يعني من شُقَق المساكن المُسبَقة الصُّنُع؟".

..*..

 

اللَّعنة.. نسيتُ وَجَع المغص، وحَذَري المعهود، ما الذي جعلني أنفتِحُ على الحديث معها.. أخافُ.. بعد قليل من أن نَفُوت بالخُصوصيَّات، لا أريدُ التمدُّد بالكلام. أو الذَّهاب إلى مساحات أبعَدَ بكثير من مُجاملات لقاء عابر.

سأحاولُ التملُّص بأيَّة وسيلة كانت؛ لقد اِقْتَحَمَتْني بسؤالها غير المُتوقَّع بجرأة غير مألوفة: "إلى أين ستذهب يا أُستاذ؟".

-"أكيد إلى بَيْتي، مُضطَّر للعودة بسرعة، فقد خرجتُ منذ الصَّباح، وتأخَّرتُ".

-"كنتُ أتمنَّى الحديث المُطوَّل معاكَ، منذ زمن أتحيَّنُ الفُرصة للقاء على اِنْفراد، وحتَّى اِسْتطعتُ اِسْتجماع شجاعتي في هذه اللَّحظة المُناسبة حسب تقديري للموقف".

-"شو هالحكي..!".

باِسْتغراب غير مُنتَظر، رفَعَ القُبَّعة السَّوداء، التي عادة ما يعتَمِرها مُعظم المُثقَّفين والشُّعراء والكُتَّاب، الذين يميلون للتميُّز؛ باِسْتجلاب أنظار الآخرين إليهم.

صارت مثل أشكال هذه القُبَّعات علامة محجوزة لهم، أو الشَّعر الطَّويل المُستَرسِل على سجيَّته، والمُشعَّث المنفوش يتركونه بلا تمشيط، دليل وقتهم المشغول دومًا، أو أيَّ تنسيق يليق بمقاماتهم الرَّفيعة المحسودين عليها، والحُظوة على السَّاحة الثقافيَّة، والتي يتمنَّاها الكثيرون؛ عند رؤية صُوَرِهم على صفحات المجلَّات، والجرائد اليوميَّة، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئيَّة.

أمَّا الألوان المُختلفة غير المألوفة على نِطَاق واسع؛ صارت هذه الأشياء رموز دلالة على جُمهور الفنَّانين التشكيليِّين على الأخصِّ، وبعض كُتَّاب العمود اليوميِّ.

عَجَبًا من أين خُلِقت هذه المُعجبَة الجديدة الضالَّة.. حتَّى الوقت الضَّائع لا أمتلكه، هذه اللَّحظة القاتلة التي لا أطيقها أبدًا، وما الذي دَهَاهَا؛ لتنضمَّ إلى جمُوع جُمهوري المُعجَب بروايتي التي لم أكتُب غيرها، فهل يُعقَل أن يكون الرَّوائيُّ المغمور من خلال مُؤلَّفه الأوَّل قد اكتَسَب شُهرة واسعة، ويلفتُ أنظار القُرَّاء، والله لشيء يبعث على السُّرور، إذا كان ظنِّي بمكانه، هذا بفضل النُّسَخ  المُنتَشِرة على ما تبقَّى من بَسْطات بَيْع  الكُتُب في زوايا قليلة من المدينة، وساهَمَ المقال الذي كتبه أحد النُقّاد في الجريدة بشُهرتي.

في أوقات الحُروب يسعى النَّاس من أجل البقاء، يتشبَّثون بأهداب الحياة، آملًا بالنَّجاة من المحرَقة، يبحثون عن خُبز وماء فقط.. تنكمش طُموحاتهم بحدودها الدُّنيا، ويؤجِّلونها للوقت المُناسب مُستقبَلًا، بعد اِنْتهاء الحرب. تراجَعَ كلُّ شيءٍ إلى الوراء، حتَّى أصبح الكتاب سلعة ثانويَّة، تضاءل الاِهْتمام به أمام رغيف الخُبز.

الخُبز أوَّلًا في أوقات الأزمات.. الرَّغيف والكتاب ضِدَّان لا يلتقيان، ومع كُلِّ الحُبِّ للكِتَاب.. ستبقى الأولويَّة للرَّغيف. البُطون الجائعة تُريد خُبزًا لا كِتابًا..!! الكِتَاب رفاه أمام الجوع.

-"كلُّ الشُّكر لكِ عزيزتي على طيب مشاعركِ. ها نحن على اِنْفراد. تفضَّلي خُذي حُريَّتكِ؛ فالحديث كما تشائينَ، وتتمنِّينَ، الوقتُ مُتاحٌ لكِ بحدود ساعة كاملة".

-"يا سيِّدي لا يصلُح الحديث والنِّقاشُ في الشَّارع. النَّاس عابرون، وضجيجهم مُشتِّتٌ للاِنْتباه والتركيز..، سنبحَثُ عن مكانٍ هادئٍ نجلسُ فيه، لنستطيع التفكير بهدوء".

-"ربَّما سأعتذرُ منكِ اِمْتدَّت يده لِتَفقُّد محفظته للأسف نسيتُ محفظة نُقودي في جَيْبة الجاكيت الذي ما زال مُعلَّقًا".

-" أستاذ. رجائي ألَّا تفهمني خطأً. سأدعوكَ على حسابي، في نيَّتي الدَّفْع، لو كانت جلستنا في مقهى أو مطعم".

-" كلُّ الشُّكر لكِ. لا أودُّ إحْراجكِ".

-" لا.. ولَوْ..!! السَّعادة تغمرني.. تفضَّل".

يسيران جنبًا إلى جَنْب، يقطعان إلى نهاية الشَّارع الضيِّق نسبيًّا بِمَسْرَبه الأُحاديِّ، ويقفان على ناصية الطَّريق المُزدوَج ذهابًا وإيَّابًا، تمدُّ يدها بإشارات لإيقاف سيَّارة أجرة.

-"يا إلهي.. شو هالبنت جريئة..! لكن كيف لي بسؤالها عن اِسْمها، وعن عملها.. لا مفرَّ  من خطئي  الذي يتكرَّر؛ ففي كلَّ مرَّة أقَعُ بنفس المُستنقَع، على الرَّغم من أنَّ الحمار وهو حيوان، إذا وقع في حُفرة، ففي المرَّة الثانية يبتعد عنها. كان لِزامًا عليَّ سُؤالها، لأعرِفَ أين ستأخذَني وتذهَبَ بي، قبل رُكوب تاكسي الأجرة معها.

..*..

 

صُوَر الملابس بأشكالها المختلفة، وألوانها الجميلة الزَّاهية؛ مازالت ماثِلةً أمام عيْنيَّ، بينما السَّيارة تنهبُ الطَّريق بسرعة بلا توقُّف. الطُّرُق جميعها تقريبًا شِبْه خالية من الحركة؛ السيَّارات العابرة لها قليلة، مُعظَم السَّائقين يشكون من الغلاء الفاحش في أسعار البنزين، فلا يتحرَّكون بآليَّاتهم، إلَّا للضَّرورة القُصوى جدًّا. التَّكاليف باهظة بشكل جُنونيٍّ.

يا لها من مُفارقة..! فمنذ سنوات لم يدخل خِزانة ملابسي قميص جديد، ولا بِنْطال، حتَّى الجوارب العتيقة بألوانها الباهتة، والمُخزَّقة عند رؤوس أصابع قدَميَّ. أُخطِّطُ منذ زمن لشراء مجموعة منها، لأرمي المُهترئ وأستغني عنه. البنتُ لم تتوقَّف عن الكلام، مُسترسلة في أحاديث. أدركتُ بعضًا من عباراتها على ما أظنُّ: "إنَّني مُتابِعةٌ لكَ". "أنا قارئةٌ نَهِمَة". "أكتُبُ بعض الخواطر". "أحاولُ كتابة القصَّة القصيرة".

أستمعُ لها من غير اِهْتمام. لم أجد الرَّغبة باِسْتلام دفَّة الحديث عن أيِّ شيء إطلاقًا.. لكنَّها لم تترُك لي فُرصةً، إلَّا أن أبقى مُستمِعًا، لم تنتظر كلامي للردِّ أو للتعليق، أو الاِسْتماع لرأيي، أو مُشاركتها بكلمة تشجيع، بل تابعتُ عَرْضَ حِكايتها بلا اِنْقطاع. خَطَر لي.. إنْ هي توقَّفت لاِلْتقاط أنفاسها، أو اِبْتلاع ريقها المُتحَلِّب في فَمِها.

أراها كلَّ دقيقة أو اِثْنتيْن تمسح مُحيط فَمِها؛ كان بِوُدِّي شُكرها لأنَّها أراحتني، إذ لم تُفسِح ليَ المُشاركة، لشُعوري بالتَّعب والغَثَيان. كلُّ الكلام سيبقى فارغًا بلا معنى، إذا لم يلقَ أُذُنًا صاغية. ثرثري كما تشائين. عندما تأكَّدين من إفراغ الشُّحنةِ الزَّائدة، أو العُقدة المكتومة بداخلكِ؛ ستَسْكُتين من تلقاء نفسكِ.

..*..

 

السَّائق ضغَطَ على المكابح بقوَّة. لِصَوْت العَجَلات صريرٌ مميَّز رنَّ في أُذُنيَّ. توقَّفتِ البنت عن الكلام.. أصابها الذُّهول، بعد أن صرخَتْ بصوت طُفوليٍّ مخنوقٍ. اِنْتبهتُ..، وشددتُ من قبضتي؛ اِنْغرزت أظافري في كفِّي، كأنَّني قابضٌ على شيء. تلمَّستُ بيدي الأخرى وجهي؛ للتأكُّد من عدم إصابته، الذي لم يرتطم بسنَّادة الكرسيِّ الأماميِّ.. هكذا خُيِّل لي.

صَوْت السَّائق رطَّب قلوبنا:

-"العَمَى بِعُيونها.. العَمَى. لم أتوقَّع أن تقطع الطَّريق ببطء سُرعة السُّلحفاة، وتتمايل بجسمها.. تتأرجح على الجِهَتَيْن مثل فرس النَّهر". كلامه نبَّهني لمُتابعة المرأة. لاحقتُها بنظراتي.. رأيتُها كُتْلَة لحم تتدحرجُ على إسفلت الشَّارع.

تابعَتِ السَّيْر بخُطوات غير مُنتَظَمة إلى وُجْهتِها.. بلا اِكْتراث، وكأنَّ شيئًا لم يحدُث أبدًا. أظنُّ أنَّها صمَّاء؛ لم تسمع شتائم السَّائق، وبما نَعْتَها بأوسَخِ الأوصاف، لا أدري..! هل تليق بها وتستحقُّها.. على الأغلب بأنَّه ظلمها. والله أعلم..!!

كما أنا محظوظ هذا اليوم مع سائق الحافلة الصَّغيرة ومع هذا الآخر. كأنَّهما جُبِلَا من طينةٍ واحدةٍ، أو تلقَّنوا الشَّتائم على يد مُدرِّبين مَهرة في دورات تدريبيَّة.

تابع السَّائق ضغطه على دوَّاسة البنزين؛ يبدو أنَّه اِستعاد أنفاسه، ورباطة جأشه. تنفَّس بِنَزَق شديد، وشَفَط نفسًا عميقًا، وضاق صدره من تضخُّم رئتيْه المُنتفختيْن. ظننتُ أنَّه اِلْتَهم كميَّة وافرة من الغُبار الذي أثارته دواليب السيَّارة قبل قليل.

توقَّعتُ سَيْلًا من تعقيبه، لكنَّه خيَّب ظنِّي بصمته المُطبِق، لا أدري هل نَسِي ما حدَث بهذه السُّرعة..!، أمْ أراد التَّناسي عن قصْدٍ، ما يجولُ في رأسه يصعبُ معرفته، إلَّا إذا دخلتُ إلى تلافيف دماغه.

البنتُ ما زالت بجانبي صامتة بذُهول، لم تَنْبِس ببنت شفة.

فهل اِبْتلعت كَوْمة كلامها الذي لم تقُله؟.

فماذا لو قرَّرت مُتابعة ثرثرتها؟.

كأنَّ لسانها تخشَّب في فَمِها، أو فقدت رغبتها بالكلام.. ليتها تُعتِقَني لوجه الله..!!، وتعتذر بأيَّة طريقة، بتأجيل مِشْوارِنا الذي دَعَتْني إليه.. لَيْتها..!.. لَيْتها تفعل.

راودت مهيار فكرة التراجع عن مُتابعة مِشْواره مع البِنْت؛ كانت وليدة اللَّحظة. بسرعة، ومن غير اِنْتظار، وبلا مُقدِّمات، ومن غير تفكير أو تخطيط؛ وجَّه كلامه للسَّائق: "من فضلك توقَّف هُنا". فَتَح الباب ونَزَل.. لم يلتفت للبنت خلفه. تركها غارفة في ذهولها.

..*..

 

 

 

 

 

 

(3)

 

(الصَّوت الداخليِّ)

-"بلا شكٍّ إذا اِنْشغل البال بشيءٍ ما، حتَّى لو كان تافِهًا وبلا قيمة؛ ينتفي الرُّكون إلى الذِّكريات المُنهالة على الذِّهن من عوالي أزمانها المُنصَرِمة".

حالة ضيق اِجْتاحت مهيار لينقطع عن حاضره، كي يعود إلى قبل سنوات في لحظة فارقة من اختلاف الحياة الكُلِّي عمَّا سبق. بفارغ الصَّبر كان باِنْتظار الأشهُر القليلة القادمة، التي تفصله عن نهاية العام. لينعم بالحريَّة، والتحرُّر من قيود الوظيفة، على مسامع أصدقائه كم حكى لهم عن مشاريعه المُؤجَّلة، وطُموحاته ليبدأ من جديد، عند اِنْتهاء خدمته بِسِلْك الوظائف المدنيَّة في الدَّولة.

أحلامُ ما بعد التقاعُد تتواثب أمام عَيْنيَّ. ضجيجها لا يهدأ في عقلي المُضطَرِب. قلقٌ نفسيٌّ دائمُ يقضُّ مضجعي طيلة الوقت إذا خَلَوْت لنفسي، ضبابيَّة المرحلة القادمة، أخوَفُ ما أخاف أن تكون الأسوأ. كثيرون من الأصدقاء الذين سبقوني إليها، اِنْكفؤوا مُنْطَوين على أنفسهم، لا يخرجون إلَّا لضرورة الحاجة المُلِحَّة.

لا.. لا أبدًا، سأكونُ مُختَلِفًا؛ كي لا أصل إلى مرحلة الشُّعور بالهبائِيَّة المُفرِطَة عديمة النَّفع. أؤكِّدُ لنفسي أوَّلًا بأنَّني أحملُ مشروعي، الذي حلمتُ به طويلًا.

اِنْشغالُ وقتي لم يُفسِح المجال لممارسة الكتابة، مثلًا كتابة رواية بحاجة للتفرُّغ، مع وجود الاِسْتعداد والقابليَّة؛ لإتاحة التفكير باِسْتحضار ما أستطيعُ من ذكريات عَمَلي؛ منذ بداية حياتي الوظيفيَّة في سِلْك البريد، فقد كلَّفوني بِمُهمَّة ساعي بريد.

بعد التدريب الذي حصلتُ عليه بخُصوص هذه المِهْنة المُتعِبة جَسَديًّا، لكنَّ لذَّة الفرح والسَّعادة والبشاشة عند أصحاب الرَّسائل، الذين ينتظرون بفارغ الصَّبر، وعلى أحرِّ من الجَمْر؛ تُذيبُ جميع متاعبي الجسديَّة والنفسيَّة، وتتحوَّل عَكْسًا إلى همِّة ونشاط، بِمُعاودة زَفَاف الفَرَح إلى الأزقَّة والحارات والبُيوت من جديد.

(الصَّوت الدَّاخليِّ):

-"أكثَر المسائل لا تحتاج للمزيد من التَّعَب؛ من أجل فهمها على شكلها الصَّحيح. ولا إلى تأويل وتدليل.. بينما الأقلُّ منها، هي التي تحتاج للشَّرح والتأويل، للتدليل على بعضٍ من غُموضها، وتَيْسير سُبُل فَهْمها، حتَّى يمكن تطبيقها على أرض الواقع".

..*..

 

مع تجدُّد الصَّباحات بِنَبْض الحياة، تتجدَّد مشاعري اِتِّقادًا، لقيادة الدرَّاجة الهوائيَّة المُخصصَّة لتوزيع الرَّسائل. لِبَاسي الرَّسمي شبيه الشَّكل بلباس الشُّرطة المدنيَّة، لا أطيقه لِثِقَله المعنويِّ على نفسي ومشاعري، إلَّا أنَّ الأزرق الفاتح، والقريب من الرَّماديِّ الفاتح، باِخْتلاف لونه كان يُهوِّن عليَّ. أمَّا القُبَّعة فَلَها حديث آخر، لا أُطيقُ نفسي إذا نظرتُ في مرآةٍ، وكانت تعتلي رأسي، شَكْلي لا يختلف عن شكل الشُّرطيِّ، لا يفصلني عنه سوى اللَّوْن فقط، ممَّا يُسهم في تباعُد مساريْنا الوظيفيَّيْن، القُبَّعة صَيْفًا تُعرِّق فَرْوَة رأسي، وفي أيَّام اِشْتداد الحرارة لا أُطيقها؛ فأُعلِّقها على مِقْوَد الدرَّاجة الهوائيَّة، أو داخل الحقيبة الجلديَّة، إذا كانت فارغة من محتوياتها.

ومع مجيء فصل الشِّتاء؛ فالأمر مع البرد مُختَلِف، ولا يقلُّ إيلامًا في نفسي.. بل أشدَّ من الصَّيْف. البردُ قاتلٌ شَرِسٌ لا يرحم، لولا الرَّقابة المُتخفِّية الباحثة عن مُخالفات الموظَّفين مِثْلي؛ لنسَّقتُ القُبَّعة التي كانُوا يُطلقون عليها العَمْرة من اِسْتخدامي اليوميّْ كُلِيًّا.

(الصّوْت الدَّاخليِّ):

-"ومن غريب الصُّدَف المُؤلِمَة يا مهيار، هل تذكُر بيْنما أنتَ تتهيَّأ للاِنْطلاق من مركز البريد مُحمَّلًا بالسَّعادة والأشواق المُتلهِّفَة المُنتظَرَة؛ لمعرفَة أخبار الأحبَّة المُسافرين. الأمُّ تنتظر نسمة هواء تُخبرها فَرحًا، عن اِبْنها الغائب منذ سنتيْن، والبنتُ المخطوبة لا تُغادِر شُبَّاك غُرفتها؛ عَيْناها مُصَوَّبتان على نهاية الزُّقاق المُتفرِّع من ساحة الحارة، باِنْتظار مجيئكَ".

-"نعم أذكُر ولا أنسى.. خيرًا فعلتَ بتذكيري بدقائق ربَّما تضيع في زحمة التَّفكير بأمور مُلِحَّة..!!". 

..*..

 

 

 

 

(4)

 

وما إن اِنْطلقتُ بدرَّاجتي الهوائيَّة غير بعيد عن المركز، وعند مُنعطَفٍ حادٍّ فقدتُ السَّيْطرة عليها، عندما تلقَّيْت صَدْمةً مُتوسِّطةً من (تاكسي) أُجْرة، إذْ اِلْتفَّ بسُرعة غيْر مسموح بها في مثل هذه المناطق الشَّعبيَّة، داخل المناطق السَّكنيَّة.

بعد الفحص والتَّصوير الشُّعاعيِّ؛ لم تتطوَّر حالتي والحمد لله- إلى كَسْر ساقي التي تمزَّقت عضلاتها. أمَّا اليد اليُمنى؛ فقد اِنْكسر فيها أحد نُتوأَيْ المِعصَم المُمسك بالكفِّ.

حصلتُ على إجازةٍ إجباريَّةٍ لمدَّة شهر؛ حتَّى مَوْعد فَكِّ جبيرة الجِبْس عن المِرفَق والمِعصَم. ووقَّع الطَّبيب المُعالِج عند مُراجعتي للمُستشفى على تجديد إجازتي لشهر آخر، مُبرِّرًا ذلك لضرورة التماثُل التامِّ للشِّفاء، والحاجة الماسَّة لجلسات مُكثَّفة من العلاج الطبيعيِّ.

شهران مليئان بالملَلِ والكَسَل، خاصَّة بعد الفترة الأولى من الحادث، زيارات التَّهنئة بالسَّلامة من الأهل، والجيران، والأصدقاء، وزملاء الوظيفة، وبعض زملاء الدِّراسة؛ ممَّن سمعوا عن الحادث.

(الصَّوْت الدَّاخليِّ):

لم يتردَّد بالتدخُّل الدَّائم.  في داخله ظانًّا بذاكرة مهيار ظنَّ السُّوء، بينما ما يُظهر الشَّفقة على وضعه. هل هي اِزدواجيَّة التعامُل بوجهيْن  

-" حتَّى الهدايا العَيْنيَّة والرمزيَّة لم تستطِع تبديد الفراغ..!! يا مهيار. أسوأ شيء في الحياة البطالة، والتوقُّف عن الحركة والعمل، تُطفئ مُتعة وبهجة الأيَّام، التي تمرُّ كَنَسمة عابرة ولا تتركُ أثَرًا، على خِلَاف نسيم الشَّرق، الذي تغنَّى به الشُّعراء، إذ يُهيِّج مشاعرهم؛ فتهتزُّ قُلوبهم طَرَبًا؛ وأطلقُوا تسميتهم: (نسيم الصَّبَا)".

..*..

 

رحم الله القائل: (وخير جليس في الأنام كتاب)*[12]؛ فقد صَدَق بحقٍّ وحقيقة. اِتَّجهتُ لاِسْتثمار شهيَّتي المُتلهِّفة منذ زمان لوقت الفراغ؛ لإشباع نَهَم قراءة الكُتُب، ومُطالعة المجلَّات.

جاءتني الفُرصة هديَّة القَدَر على طَبَق من ذَهَب، لا بل مِنْحةً غيَّرت مجرى حياتي، بما أحدَثَت من اِنْفتاح عوالم غير مُتوقَّعة، وفتَّقت نوافذ الرُّؤى للاِنْطلاق، والتحليق في متاهات الخيال.

مكتبةُ المرحوم أبي منذ أن غادَرَنا إلى رحاب ربِّه قبل سنة؛ عَلَاها الغُبار. الحزن يحوطُها كسياجٍ عازلٍ مانعٍ من الاِقْتراب. أَنِسْتُ بالكتُب، وأنِسَتْ بي. رددتُ غُربَتي على غُربَتِها؛ فكانت من أجمل، وأحلى فَتَرات حياتي إطلاقًا. إذ نقلتُ جُلَّ مُحتويات المكتبة إلى بيتي، فأنا الوحيد في أسرتنا المُهتمُّ بالقراءة، بينما أخي مُنصرف إلى أعماله التجاريَّة.

صرتُ أجلس السَّاعات العديدة مع أيِّ موضوع، تباعد عنِّي القلق والترقُّب؛ بعد حُلول الفَرَح والتفاؤل في ساحاتي، لذَّةُ العُزلة.. صفاءُ ذِهْنٍ، وهدوء نَفْسٍ سَعْيًا في دُروب اليقين؛ لِيَعضُد يقينٍ ثابتٍ بِصَواب الطَّريق، الشَّبيهة بطريق السَّالكين العارفين بربِّهم.

..*..

 

خلْف كلِّ مِحْنةٍ تتبدَّى تجليَّات المِنْحة، ففي الحِكَمة قيل: (مَنْ ظَنَّ اِنْفكاكَ لُطْفِه عن قَدَره، فذلك لِقُصور نَظَره. "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لما يَشَاءُ")*[13]. ربَّاهُ لم يقصُر نَظَري عن رحمة قَدَركَ، بما أدركتُ بعضًا من خفايا ألْطافِكَ تحوطني.

(الصَّوْت الداخلي):

-"ليس سهلًا أن تتَّخذ قرارًا بكتابة رواية، وبطلها أنا بالذَّات.. مهيار سيكون بطل رواية..!! يا لها فكرة مُتهوِّرة، وأن يضع من نفسه بطلًا أيضًا لمُغامرة. وبما يُمثِّل حجم البطل، وأهميَّته في الأعمال الأدبيَّة، تنبع بمثل الحجم الذي يُمثِّله من القضايا الأخلاقيَّة التي يحملها، ويقف خلفها بثبات".

سَرحَت أفكار مهيار في سهول الذِّكريات بحديث مليء بالحنين، يتمنَّى لو عادت به الأيَّام. تداعيات حديث الذِّكريات مُحبَّبة للنفس تستغرق الوقت، لتخطف التفكير في عوالم الماضي:

-"داخلي مُكتظٌّ بالذِّكريات والحنين للأيَّام الخوالي. الضَّحِكات، والاِبْتسامات الخجولة من اللَّواتي يستلمن رسائلهنَّ، وقد أنْفَقْن اِنْتظارَهُنَّ على مدارج الأمل، ولا يزال رنينُ الشَّهقات ماثِلًا لا يُغادر سَمْعي.

بعض الشَّهقات المُؤثِّرة حفرت مساربها عميقًا في قلبي. خاصَّة إذا ترافقت بدمعة حزينة. لا تُنسى أبدًا. أتألَّم كما ألمهنَّ؛ إذا تسرَّبت فكرةُ أنَّني حامل الآلام والأخبار المُزعِجَة لهنَّ، أُصاب باِكْتئابٍ مُكثَّفٍ لا يُغادرني، إلَّا مع بسمة، وتقبيل الرِّسالة، عندما تتناولها يد ناعمة.

لا أمَلُّ من كَثْرة التَّساؤُلات ممَّن يُصادفني في أيَّة زاوية من البلد، لا أضيقُ بأسئلتهم الكثيرة المُتشابهة، أُجيبُ بلساني، واِبْتسامتي المُترافقة مع اِهْتزاز للأعلى أو إلى الجانبَيْن، إذا لم يكن هناك أيَّ شيء لهم. وإذا الاِهْتزاز كان للأسفل؛ اِبْتساماتهم تغمرُني من رأسي حتَّى أسفل قدميَّ.

من عجيب الصُّدفة وجود من لا يُبالون، ولا يتلهَّفون على فتح الرِّسالة؛ كانوا يَطْوُونها؛ لِتستقرَّ في جَيْبة القميص أو الجاكيت".

..*..

 

يطول اِسْترسال مهيار، وينسى نفسه بانسياق وانسياب خلف سراب ذكريات تُعاوده بتناوبات بيت فترة وأخرى:

-"هناكَ عجوزٌ دائمة الجُلوس على كُرسيِّها. تَطِلُّ من نافذة غُرفتها ذات الشَّبك الحديديٍّ المتين، المفتوحة على مدخل الحارة. ويومًا بعد يوم، أظنُّ أنَّها لم تغادر مكانها أبدًا.

لا تملُّ من الاِنْتظار، ولا من سُؤالي؛ فإذا مررتُ بها، ثُمَّ رجعتُ من نفس الطَّريق بعد ساعة أو نصف ساعة، ستُعيد سؤالها.. فإذا ما غابت ذات مرَّةٍ يشغلني غيابها؛ اِعْتدتُ هذا الوضع. ألفِتُ نظراتها بمُراقبة من يدخل إلى الحارة، فإذا غابت مرَّة يُداهمني شعور، بغياب الحارس البَّاعث على القلق، لا أدري من أيِّ شيء، أكيد من المجهول. كان عليَّ إذا جاءتها  رسالة من اِبْنها طالب الهندسة. الغائب في  إحدى دُوَل أوروبَّا الشرقيَّة، ترفع رأسها للأعلى، وتنثر فرحتها بين يديَّ.. وعلى وجهي.

نظراتُها تمرُّ من جانبي، وأنا أجلسُ على الحافَّة الإسمنتيَّة في الشَّارع. أرى عَيْنيْها تنظران في اللَّاشيء، تتشاركان مع العابرين فضاء الشَّارع. أقرأ بصوتٍ عالٍ، كي تصل الكلماتُ إلى مسمعها بشكل جيِّد. الجميع يسمعونني ولا يتوقَّفون، أعمالهم، ومواعيدهم تنتظرهم هناك في مكان ما".

.. *..

 

 

أُؤكِّد لمن سيقرأُ ما سَبق وما لَحَق من روايتي؛ سأجعلُ من نفسي بَطَلها الأوحد، لن أتنازل عن دَوْري الرَّئيس، حتَّى ولو كان للرَّاوي المُوازي، الذي سيحكي عنِّي، وينقلَ عن لساني.

(الصَّوت الدَّاخليِّ):

-"هي روايتكَ ولكنَّها بقلمي وقلمكَ، نتاجنا مُجتمعيْن، أُبرِّر لنفسي التدخُّل.. فلا تظُنَّنَ بأنَّكِ وحدَك يا مهيار.. إنَّنا معًا.. نعم معًا بلا ريْب..!!".

يُتابع مهيار غير مُكتَرِثٍ:"

-"بخاطري. لو أستطيعُ تقدير مشاعركم، ومعرفة ما ستقولون عنِّي..! وما سيكتُبُ النقَّاد؟. على الأغلب سأكونُ مُغادِرًا إلى رحاب ربِّي، أو في متاهات عُمُر طويل في مرحلة الزَّهايْمَر. لا يهمَّ ما سيُقال ومهما كان.

لن أنفَعِل، أو أتفاعل إن اِمْتدحُوا أو قُدُحُوا؛ فالأمر سَيَّان. ساعتها يتساوى كلُّ شيء في نَظَري، إذْ أنَّ البلاهة ستُعزِّز مَوْقفي. اِسْتحقاقات العُمُر ستُعفيني من ألم، وَوَخْز نَقْد المُنتقدين، ولن أفرح لمدْح المُعجبين".

(الصَّوت الدَّاخليِّ):

-"فإذا كَتَب شخصٌ تجربته في مُحاولة تَذْويتِ سيرته، وتعميم تجربته، فيما لو اِسْتطاع؛ فلن يكون حِياديًّا. بعيدٌ كلَّ البُعْد عن الحياديَّة الجادَّة؛ فهو مُنْحازُ، ونصُّه غير بريء، ويريد بثَّ فضائله، وتأطير صُورته المُشْرِقة في عُيون القُرَّاء.

الأمر المرفوض كُلِيًّا. الحيادُ مَطلَب أساسيٌّ عادلٌ رغم صُعوبته، ولا أظنُّ بأنَّ مهيار قادرٌ على الاِلْتزام بالمعايير المطلوبة. ونصحته لوجه الله: (لا تكن كاتبًا؛ إنَّها طريقة حياة سيِّئة. لن تجني منها سوى الفقر والوحدة. لِذَا، إن كُنتَ شَغُوفًا بكلِّ هذه الأمور، أيْ أنَّكَ تتوقُ إليها بِشدَّة، فافعلها. لكن لا تتوقَّع شيئًا من أحد..!!)".*[14].

مهيار يردُّ بنفسه على صوته الدَّاخليِّ مُبرِّرًا مُيوله:

-"مُعاناة الفراغ عزَّزت لديَّ إمكانيَّة حواري مع نفسي أوَّلًا، ولكي لا يبقى تفكيري كُتلة منعزلة في صمتها، مِلت للبوْح تلبية لاِنْفعالاتي، ولم يكُن ذلك من قبيل الرَّفاه، بقدر ما هو اِسْتجابة لنداء روحي، الذي قادني لفكرة الكتابة.

أُحاوِل جاهدًا، وقبل أن تفلِتَ الفُرصة من بين يديَّ. البحث عن الإنسان الهارب من القُيود، ليُعزِّز ذاته بالاِنْدماج المُنسَجِم مع طبيعة مُحيطه. هُروبي إلى هذه المساحة كي لا أُنفِق عمُري هدرًا؛ مثل(سرفانتس) عندما قضى جُلَّ حياته بمُحاربة طواحين الهواء *[15]؛ لإبراد حرارة تفكيري الذي يتصارع مع الآخر بحثًا عن معنى، لأنَّ المعنى الذي أبحثُ عنه؛ أيقنتُ من وجوده فِيَّ.. نعم فِيَّ بالذَّات".

(الصَّوْت الدَّاخليّ) هامسًا لنفسه بعد أن اِنْتحى زاوية بعيدة عن زاوية مهيار:

-"عندما لا تتوفَّر مساحة كافية من الزَّمن والمكان لقيام مهيار بالكتابة، يُصبِح لِزامًا عليَّ؛ تحويل أقرب الزََََََََََََّوايا إلى مُعتزَلٍ بديلٍ للكتابة والتوثيق نيابة عنه. أتنفَّسُ معه، ويتنفَّس معي كلَّ فكرةٍ وكلَّ تجربة. نحن اِمْتداد روحيٌّ لمسار واحد، لأكون شاهد ثَباتٍ على لحظة التحدِّي مع الذَّات من أجل النتيجة الملموسة، بتذليل جميع المُعوِّقات في هذا الحيِّز المحدود من جانب، واللَّا محدود من جوانب أخرى.

لا شيء يُقيِّد الخيال. الإبداع والتميُّز والنَّجاح بحاجة لتضحيات، مع ضرورة الصَّبر والتأنِّي؛ للوصول إلى ما يُلبِّي طُموحات مهيار، لهذا كنت أعملُ باِسْتمرار لبناء مُنجَزَه الرَّوائيّ، الحاوي اِنْفعالاتنا معًا، من أجل الاِسْتقرار والتواصل معًا لإنجاز العمل".

(الصّوت الدَّاخليِّ) يتابع: مهيار غاضبٌ؛ عندما عَرَف حقيقة رأيي، جاء رَدُّه عليَّ، وقد سمعتُه بوضوح:

-"يا رجل دَعْني من المُهاتَرات التي تختلقها ضِدِّي، وسأكتبُ روايتي، اِفْعلْ ما يبدو لكَ. لن أكترثَ لكلامكَ. يا رجُل إنَّ الحياد في حالات، يكونُ أعنَفَ أنواع التدخُّل وأخطرها، وأقلَّ أخلاقيَّة، وأكثرها اِنْتهازيَّة؛ فلو قصَّرتُ لا سمح الله عن المُبادرة؛ لإنقاذ طِفْل أو طِفْلة من براثِن وَحْشٍ بَشَريٍّ في حالة تحرُّش، أو قتل، أو أن تباطأتُ، وتخاذلتُ عن كَفِّ أذى من مجنون، أو مهوُوسٍ لتحطيم كلِّ ما يأتي في طريقه، ويصادفه.

مثلًا بأن يُدمِّر حديقة بالحرق، أو التكسير؛ فلن أُجازف بأن  أبقى حِياديًّا حِيال أيَّة جريمة تقترفها يداه، وتُزيِّنها رُعونته في عَيْنيْه؛ ساعتها. سأكون شريكًا، والموقف الأخلاقيِّ لن يُعفيني من المسؤوليَّة.

إنَّما هو فضيلة إذا اِنْتصرتُ، أو ناصرتُ الحقَّ في معركته مع الباطل، ورذيلة إذا ما أكثرتُ جُموع الباطل على الحقِّ. وهو ذكاء، وحُمْقٌ في الصِّراع بين الظَّالم وظالِمٍ مثله، وبين الظَّالم والمظلوم".

وتابع بحسرة تنهشه بلا رحمة:

-"بعدما سمعتُ هذا الردَّ منه مهيار-؛ سأصمتُ، ولن أتدخَّل ثانية. أيقنتُ بعُمق وَعْيِه، وإدراكه لطبيعة مساره الأخلاقيِّ، الذي سيكون أحد حوامل محاور النصِّ الروائيِّ المُنتَظَر، والجدار الواقي من الجُنوح في مُنحَدَر المواقف اللّاَ أخلاقيَّة".

..*..

 

طبيعيٌّ أن يكون أيَّ مُنتَجٍ ثقافيٍّ، هو بناء على فِكْرة تغلغلت في ذهن كاتب، واِسْتبدَّت به، بسيْطرتها واِسْتحواذها عليه؛ لتجعله في حالة مخاض عسير لحين ولادتها، وخُروجها للعَلَن، لتُصبِح تحت مجهر القراءة، وبذلك تكون المادَّة الثقافيَّة؛ الاِبْنة الشَرعيَّة المُمثِّلة بشكلٍ حقيقيٍّ لصاحبها، وهي التعبير الصَّادق عن دواخله؛ فَجَوْدتها، أو رداءتها بشكلها النِّهائيِّ، تتبع لِقُدرات كاتبها العالية، أو المُتدنِّية، وغِنَى قاموسه اللُّغويِّ، ومَدَى فَهْمِه العميق لِتَخصُّصه الذي يخوض غمار الكتابة فيه.

تتجدَّد الصَّباحات بلا توقُّف تتدفَّق مع نذير الفَجْر من يوم، كأنَّها وجه الأيَّام الذي يُقبل به باسمًا. الكتابة رغبة ملحةٌ. حنينٌ واِشْتياق للتركيز والصَّفاء، والقلم والورقة؛ قَيْد عاصم من إفلات وضياع الأفكار ذات الطَّبيعة المُتَفَلِّتة، التي لو كانت بالذِّهن فقط؛ فإذا ما طرأت يجب تقييدها مُباشرة، لضمان عدم هُروبها، وربَّما لن تعود إلى الأبد. الأفكار كالعصافير لا تتوانى عن الطَّيران، والاِبْتعاد في فضاءات مفتوحة بلا قيود.

..*..

 

(الصَّوْت الدَّاخليِّ):

-"على رأي الأمريكان أبناء العمِّ سام، بتفكيرهم الرَّأسماليِّ: بأنَّ كلَّ شيء في الحياة قابل للتعلُّم، ولا شيء مَيْؤوس منه. بناء على هذا المنحى؛ يجوزُ لمهيار كتابة روايته، التي يريد. سأتركه وشأنه، لأنَّني مُؤمِنٌ بقدرته، وعلى أقلِّ التقديرات أتعاون معه بالنُّصح.

لقد سمعتُ كثيرًا عن تعليم الكِلاب، والحمام، والقُرود، والقِطَط، حتَّى البراغيث، التي لا تُرى إلَّا بالعَيْن المُجرَّدة والنَّمْل. جميعها وَجدَتْ مُدرِّبين مَهَرة، حاذقين بِحرفَتِهم، فجلبَتْ لهم الأموال الطَّائلة.

فلا ضَيْر على مهيار من تجريب مهاراته، وإذا لم يُجرِّب؛ فلن أستطيعَ الحُكْم عليْه بالنَّجاح أو الفشل، ولي أن أتخيَّل، وأسبح في سماوات الخيال، كما أراد لنا  البُجَيْرَمي*[16] بطلبه المُتكرِّر من مُشاهديه عبر شاشة التلفزيون: (تخيَّلْ يا رعاكَ الله)، كنتُ  من سأكتُب عنه..!! سأتراجع قليلًا إلى الوراء، لأفسح له المَجال وسأكتفي فقط بمُراقبة ما يكتُب من مُسوَّدات، وأبقى قائم على تذكيره بأمور يحتاجها في صياغاته النِّهائيَّة".

.. *..

 

(الصَّوت الدّاخليِّ):

-"لذَّة العَوْدة بحجم لَوْعة الشَّوْق. مرَّت الأيَّام السِتُّون بطيئة، كأنَّ الزَّمان تقادم على تُروس ساعاتها فَصدِئَت؛  بشكلٍ روتينيٍّ أَوْقفَ عقاربها عن الدَّوران. كُن على يقينٍ يا مهيار بأنَّ قِطار الزَّمن لا ينتظرُ طويلًا في محطَّاته، رحلاته لا تهدأ ذهابًا وإيَّابًا".

مكتبات البيوت الشَّخصيَّة واحات وارفة، تفرشُ نفسها كساحات معرفيَّة، لا تبخل على من يقصدها، ولا تتبرَّم بحال من الأحوال إذا عَلَاها الغُبار زمانًا لم يفتحها أحد، ولم ينهل شيئًا من مناهلها. ثابتة على وفائها بلا تبديل ولا تغيير، ولا تتأثَّر بموت صاحبها؛ لأنَّها تعلم أنَّها ستؤولُ تَرِكةً إلى الوارثين، وتبقى في مكانها اللَّائق في صدارة المجالس؛ تُضفي على المكان مهابة العلم والعُلماء.

مكتبة أبي محطَّة نُزولي الإجباريَّة؛ أثقلتني بعطاياها المُثقَلة بأوزانها المعرفيَّة النوعيَّة. أنفق أبي -رحمه الله- قِسطًا وافرًا من أوقاته جوَّالًا بين المكتبات، باحثًا عن المراجع الفقهيَّة واللَّغويَّة، أمَّا الأدبيَّة فلها النَّصيب الأدنى من اِهْتماماته، وتبيَّن من تتبُّع كُتب العقَّاد، والرَّافعيِّ، وطه حُسيْن، إلى نجيب محفوظ، وجلال صادق العظم.. وغيرهم الكثير ممَّا لم تحضرني أسماءهم.

كأنَّها نبوءة أبي غير المُعلنة لأبنائه وذرَّيته، أن يجد أيًّا منهم بُغيَته في مكتبته؛ لتبقى مَنْهَلًا يُعلي اِسْمه تردُّدًا على ألسنتهم. فلا أستطيعُ التَّخمين بتصوُّراته؛ إنْ كان يتوقَّع أن يصبح أحد أبنائه كاتبًا.

(الصَّوت الدَّاخليِّ):

-"كأنَّكَ أدركتَ يا مهيار القيمة الحقيقيَّة للمعارف المُختَزَنة من قراءاتكَ المُتنوِّعة، حُبُّك للمُطالعة المُنفتحة على الجرائد والمجلَّات، التي كانت تأتيكم إلى البريد، من خارج ودخل القُطُر.. يا لكَ من محظوظ..!!.

التنوُّع المعرفيُّ أعطاكَ مساحات من التَّفكير والرُّؤى؛ هذه النُّقطة ستُسَهِّل أمر الكتابة عليكَ، وأظنُّ بأنَّكَ لا تحتاج للعودة للبحث عن أمور إلَّا القليل الغامض ممَّا لم تمرَّ به يومًا ما، لا بالقراءة ولا بالاِكْتساب من حياتكَ العمليَّة في مَيْدان عملكَ، وعلاقاتكَ الواسعة مع النَّاس المُختلفين عن بعضهم بأشياء، تمُيِّز البعض عن الآخر. رغم الاِنْتماء الجُغرافي للحيِّز المكانيِّ في المدينة والأحياء، المُختَزَنة في ذاكرتكَ".

مهيار مُنهمكٌ بإعادة ترتيب كُتُب الرُفِّ الأعلى من المكتبة، المُهيْمِن على واجهة الغُرفة المُسمَّاة غُرفة الكُتُب، مع كلِّ إعادة ترتيب تتحفَّز الذَّاكرة لاِسْتذكار عناوين الكُتُب، وأسماء مُؤلِّفيها، ومُحقِّقيها.

لم تَنِدَّ عن دواخل نفسه أدنى اِنْفعالات؛ لِتَنعكس آثارها على ملامح وجهه، كأنَّه لم يسمع شيئًا إطلاقًا. من المُستَبعَد أن يكون قد سمع وطَنَّشَ*[17] ولم يُبال.

..*..

 

بعد مُراجَعَة مهيار الأخيرة في يوم الخميس الأخير من الشَّهر الثَّاني. الطَّبيب بكلِّ ثِقَة. قال:

-(أستاذ مهيار، الحمد لله أموركَ ممتازة، باِسْتطاعتكَ العَوْدة إلى وظيفتكَ، ولا تنسى الوصايا الذهبيَّة، يُحظَر عليك حظرًا صارمًا حمل الأشياء الثَّقيلة، يجب أن تتذكَّر دَوْمًا بأنَّ القيام بحركات سريعة، ومفاجِئَة غير مسموحٍ بها أبدًا، كي لا تَنْتَكِس..؛ فالاِنْتكاسة يصعُب معها الرُّجوع للوضع الطَّبيعيِّ. لذلكَ الاِلْتزام ضروريٌّ. أتمنَّى لكَ الشِّفاء العاجل والتامّ).

(الصَّوت الدَّاخليِّ). تدخَّل مُباشرة ليُدْلي بِدَلْوه، مُعقِّبًا على كلام الطَّبيب:

-"اسمع يا مهيار لابُدَّ من التَّهيئة النفسيَّة، والاِسْتعداد؛ لاِسْتعادة نظام حياتكَ الوظيفيَّة السَّابق ضرورة مُلحَّة لكَ.. لا بدَّ منها. شَهْران فَوْضويَّان بطولهما مرَّا عليكَ، وكأنَّكَ لم تمرَّ بتجربة الجُلوس بالبيْت سوى لأيَّام، من دون الخُروج لمُجاوزة باب الدَّار، وما عانَيْتُ من الآلام اللَّيْليَّة، والأرَق، والملل، والقلق".

السَّاعة البُيولوجيَّة فَقَدَت طبيعة نظامها، كحاصل تحصيل.. لِمَا آلَ إليه وَضْعي بعد الحادث. تخربَطْت حياتي؛ فاِنْقلبت رأسًا على عقِب. اِضْطرابُ ساعات النَّوم المُعتادة خلال فترة النَّقاهة.. واِضْطراب مواعيد الطَّعام. هُمُودُ الحركة لأدنى دَرَجاتها؛ فلامست حدَّ السُّكون المُطْبِق في بعض الأحيان. أيَّام الدَّوام المُتتابع على فترات طويلة، كم تاقَتْ نفسي لمُمارسة الكَسَل أيَّام الدَّوام قبل ذلك، بالفعل لم أستطع، بينما اِمْتلأت نفسي بفوائض كَسَلٍ، تفوق المقاييس العالميَّة المُسَجَّلة. حصلتُ على وَفْرَة إشباع، وتُخْمَة.

..*..

 

 

 

 

 

 

 

 

(5)

 

يوم السَّبت جاء بعد اِنْقطاعي لشهرين مُتالييْن، وأنا الآن جاهز وعلى أتمِّ اِسْتعداد فيه؛ لمُعاودة الدَّوام من بداية الأسبوع، والشَّوق لمُعاودة عملي الذي صار جُزءًا من حياتي، وإلى لقاء زملاء الوظيفة، لقد تشاركتُ معهم لحظات جميلة كلَّما أتذكَّر حادثة ما، يطرب قلبي لها، فأسْتَشعِر حلاوة اللَّحظة التي كانت.

من بعد صلاة الفجر الفرحة تُسابقُني، والسَّاعة تُعاند ببطئها أشواقي المُتَحرِّقة بالوصول إلى مكتب البريد، سأمشي على مَهَل بخُطُوات مُتوسِّطة السُّرعة، في العادة المِشْوار يستغرقني خمس وعشرين دقيقة بالمشي المُتعجِّل، يلزمني زيادة رُبُع ساعة إضافيَّة حتَّى أصل في الثَّامنة، بطبيعتي لا أحبُّ التأخُّر.

دائمًا ما كنتُ أتواجد في الدَّائرة بوقت، وفي مرَّات عديدة ساعدتُ البوَّاب بفتح البوَّابة الرَّئيسة، وأفتح مكتبي، وأبدأ بترتيب الرَّسائل في الحقيبة حسب ترتبت الشَّوارع القريبة بالأوَّل، وهكذا الأبعَد فالأبعَد.

بعد وصول المُدير رأيته أثناء دُخوله مُتعجِّلًا بخُطوات سريعة، من فَوْري ذهبت للسَّلام عليه، ولإخباره باِنْتهاء إجازة النَّقاهة المرضيَّة، ولتقديم الطَّلب الذي كتبته بمُباشرتي الدَّوام اِعْتبارًا من هذا اليوم.

- رحَّب بي: "أهلًا أُستاذ "مهيار"، يا رجُل اِشْتقنا لكَ، لقد تركتَ فراغًا ملأه زميلكَ "سعدو"، أخبرَني بدايةً بتسلُّمهِ جُزءًا من عملكَ لقد سدَّ مكانكَ، ولكن بتعب شديد، اِحْتاج لعشرة أيَّام حتَّى اِعْتاد، وعَرَفَه أهل الأحياء، بينما القسم الآخر كان من نصيب زميلكَ الآخر "سليمان"، كلُّ قسم حُمِّل لهم إضافة إلى مكان كلِّ واحد منهما الأصليِّ".

الطَّلب بَيْن يَديْه وتقرير الطَّبيب، بعد أن وقَّع طلب مُباشرة الدَّوام، قرأ التقرير بتمهُّلٍ، وصَفَنَ لدقائق. لم أدْرِ ما الذي يجول برأسه، آهٍ.. لو أستطيعُ الدُّخول إلى دماغه؛ لاِسْتباق معرفة ما يُفكِّر به، وقراره الذي سيتَّخذه بشأني. لَيْتني أتمهَّل.. لا أريدُ أن تبدو على وجهي علائم القَلَق والتوتُّر، لكي لا يلحظها، أحبُّ أن لا يقرأ أمارات الضَّعف التي تطفو على ملامحي، وهشاشة داخلي المُتعبَة.

-"اِسْمَع يا "مهيار" سأطرحُ عليكَ ما يدورُ في رأسي، بعد سَنَوات الخدمة كَسَاعٍ لتوزيع الرَّسائل، وجَب عليَّ اِتِّخاذ قرار جريء، أتمنَّى موافقَتكَ قبل التَّنفيذ. هززتُ رأسي للأسفل علامة مُوافقتي".

-قلتُ: "تفضَّل أُستاذ. ها أنا أستمعُ".

-هزَّ رأسه أيضًا. وقال: "رائع.. نَظَرًا لوضعكَ الصحيِّ أرى تغيير عملَكَ، من توزيع الرَّسائل إلى مُهِمَّة جمع الرَّسائل من الصَّناديق، وبعد هذه المدَّة الطَّويلة لكَ في الخدمة، يتوجَّب علينا التخفيف عنكَ ما اِسْتطعنا.. وأنتَ في آخر أَشْهُر وظيفتكَ عند نهاية هذا العام؛ لتتذكَّرنا دائمًا بالخير، والصَّناديق لا يتعدَّى عددها العشرين، كما أنَّ المنطقة المحيطة والقريبة من هُنا، وهذا لا يلزمه جُهودًا كبيرة، ولا يُسبِّبُ لكَ بذل مجهودًا واسعًا ومُتعبًا.

وأنتَ تعرف تكملة الموضوع، بعد إتمامكَ جمع محتويات الصَّناديق بواسطة الدرَّاجة الناريَّة أو السيَّارة المُخصَّصة، تأتي مرحلة تصنيف وُجُهات الرَّسائل التي ستذهب لها، ووضع كلّ مجموعة بالكيس المُناسب لها. غدًا بِعَوْن الله سأوقِّعُ الأمر الإداريِّ، لتُباشر العمل الجديد".

(الصَّوْت الدَّاخليِّ):

-"ها أنتَ ستصبحُ على أبواب مرحلة جديدة من حياتكَ يا مهيار. التَّنبيه واجب، كي تستعدَّ لها".

..*..

 

 

 

كلُّ اِخْتراع وراءه فكرة عظيمة، شغلت صاحبها زمانًا حتَّى اِسْتطاع تطبيقها، أو أهملها لأسباب خارجة عن إرادته. الفكرة والحُلُم تَصْطرعان في رأس مهيار.

اِنْخرط في حديث مع صديقه "سعدو"، وأراد اِسْتعراض مهاراته في اِسْتدراج ما قرأ عن اِخْتراع صندوق البريد. بعد اِنْتقاله للعمل بهذه الوظيفة، سيجمع الرَّسائل من صناديق الشَّوارع في أماكن ثابتة في الحارات المُتجاورة، والمُتباعِدة؛ لتسهيل سُبُل التواصل، وتوفير الجهد والوقت.

جميع الصَّباحات ملآى بالمفاجآت غير المحسوبة، في اليوم الثَّالث لبداية دوام مهيار في جمع الرَّسائل، اِلْتقى بصديقه "سعدو" بينما كان يهمُّ بالخُروج؛ لتوزيع حُمولته على أصحابها.

يتوزَّع عملهما ما بَيْن وارِد وصادِر الرَّسائل. طبيعة عملهما مُتعاكسة. ووقتهما مختلف، ومن الطَّبيعيِّ أن لا يلتقيان إلَّا نادرًا، ومن الممكن مرور شهر أو اِثْنان من غَيْر أن يرى أحدهما الآخر.

دخلا المكتب، وبعد السَّلام، بدأ مهيار بتحضير فنجان قهوة على السَّريع، غلَّاية القهوة الكُهربائيَّة لا تستغرق سوى دقائق، حتَّى أنضجت القهوة، الرَّائحة عبقت بالأجواء، وتدفَّقت عبر الممرِّ المُؤدِّي للمكاتب الأخرى. جلبت زميلهما سليمان:

-"يا سلااااام..!! رائحة القهوة كالمغناطيس لا أستطيعُ التوقُّف عن تتبُّع مصدر الرَّائحة". رحَّبا به، وجلس بجوار "سعدو" على الطَّرف الآخر من الطَّاولة.

-"حماتكَ بِتْحِبَّك يا سليمان" قال سعدو.

-"أيضًا أنا حَمَاتي تُحبّني". قال مهيار   ضحكوا، وهم يرتشفون قهوتهم-. تابع مهيار: "مُتعَتي بتوزيع الرَّسائل. شُعوري العارم بالتَّفاعل مع مشاعر النَّاس المُختَلَطة بعمق نشوة قلوبهم، أفرَحُ لِفَرحِهم.. وأحزنُ لأحزانهم.. وأتأفَّفُ لهمومهم".

(الصَّوت الدَّاخليِّ) هامسًا لمهيار:

-(أعلمُ أنَّ سليمان وسعدو من أحبِّ زملائك إلى قلبكَ. أمَّا ذاكَ الآخر الذي تعرفه؛ فلا أريدُ ذِكْر اِسْمه على لساني، إنَّه خبيث ذو وَجْهيْن مُتخَفٍّ تحت ستار الزَّمالة، لقد ضبطتُه أكثر مرَّة لحظة دخوله إلى مكتب "علي حسن"، كان شديد الحذر من أنَّ أحدًا لن يراهُ، يستغلُّ هدوء المكان واِنْشغالكم. فما الذي جاء به إلى هذا المكان؟. من غير أن أُتْعِب نفسي بالبحث عن الأسباب والمُبرِّرات والتأويل، ولا أظنُّ إلَّا بعمالته لهم، ويظنُّ أنَّه غير مكشوف. اِحْذروه جميعًا).  

..*..

 

صناديق البريد كائنات بريئة. مُقيمةٌ بأماكنها ثابتة لا تتحرَّك، ولا تتزحزحُ عن أماكنها التي وُضعت فيها، ألِفَتْ المكان، والمكان ألفها. أهل الحيِّ فخورون بها لأنَّها وفَّرت الجُهد والوقت.

أذكُر أيَّام الدِّراسة الاِبْتدائيَّة، كنتُ وقتها في الصفِّ السَّادس، وفي درس الأُستاذ فهد صاحب النُّكتة والظَّرافة، وحاضر البديهة ومن نوادره، و إلى هذه اللَّحظة؛ لم أدْرِ ما الذي دار برأسه، ليسألنا:

-"يا أولاد هل تعرفون رمز (ص.ب)؟ - كتبه على السُبُّورة بهذا الشَّكل- من يعرف يرفع اِصْبعه. فما كان منِّي وبدافع من الحماس:

-"أنا أستاذ هزَّ برأسه مُومِئًا لي بالإجابة -.

-أجبتُ: "صُندوق بيرة".

لم يتمالَك نفسه من الضَّحك بصَوْت عالٍ، الصُّفوف الأُخرى سمعت قهقهته كما أظُنُّ، وأعطى الأمر للطُلَّاب:

-"صفِّقوا لهذا الحمار، لإجابته الغبيَّة".

من فَوْره، وبخُطواتٍ بطيئة خَرَج إلى الممرِّ المُطلِّ على مدخَل المدرسة، ووقف كمن يتأمَّل من يلعبون كُرَة القدم من شُعبة أخرى. أشعَل سيجارته، خلال دقائق عاد إلى الصفِّ بعد شَفْطِه للقسم الأكبر منها. لم يُمهله رنين جرس الفُرصة الثَّالثة لمُتابعة الدَّرس.

..*..

 

(الصَّوت الدَّاخليِّ):

أُلفة المكان شرحٌ للصَّدر.. راحةٌ للنَّفس، إن اِبتَعَد المرء عن موطنه ومسقط رأسه؛ ربَّما يقتله الحنين الحرَّاق للنَّفس. كثيرًا ما يُحيَّرني تساؤل يتناوبني على فترات مُتباعدة مُتقطِّعة، ومع اِنهيال سيْل الذِّكريات تتقارب بلا موعد.    

فهل الأماكن تألفُ البشر كما يألفونها؟.

وهل الأماكن تألف أشياءها الجامدة؟.

حكاية الرِّواية لا تنتهي، والطَّريق أتعبَت مهيار لاِمْتداداتها اللَّامتناهيَة؛ فإذا صمَتَ عن المُباح من الكلام. فلا بدَّ من اِسْتمرار الكلام إلى النَّهاية، أو إلى ما بعد النِّهاية.

سأريحُ لسانه.. كفاهُ ما حكى لي على مدار سَنَوات عُمُره. وكما أخذت على عاتقي كتابته في رواية حياته. بلا أدنى شكٍّ بأنَّ طُرُق المدينة لن يستطيع هجرها بعد تقاعده. تعهَّد مرَّات أمامي بأنَّه سيبقى وفيًّا لها، بعودته شبه اليوميَّة إذا لم يشغله شاغِلٌ عنها، ومنعته ظروف طارئة قاهرة.

المُتقاعدون في غالبيَّتهم لا يُطيقون السَّجْن في البيوت، اعتدتُ على رؤية مهيار كلَّ صباح كما لو كان ما يزال على رأس عمله. يُودِّع شادن بعد ذهاب اِبْنه واِبْنته إلى الجامعة، ومع اِْقتراب نهاية الدَّوام في دوائر الدَّولة الرسميَّة, يكون قد اِستعدَّ للعودة إلى البيت.

شادن لا تسأله أبدًا. أطلقت له كامل الحريَّة، وعدم تقييد حركته بمشاغل، ولم تُحاول تبديل مسؤوليَّتها عن البيت، ونقل صلاحيَّتها الداخليَّة إلى مهيار.

بعد إغلاقه الباب خلفه أنطلق لمُتابعته كظلَّه، لا أتركه لحظة واحدة  لتسجيل دقائق تصرُّفاته اليوميَّة، وأُقارنها مع مثيلتها قبل التَّقاعُد. على مدار أيَّام عديدة قاربت الأُسبوعيْن. لم يترك صُندوقًا بريديًّا في الشَّوارع الزَّوايا إلَّا ويتوقَّف أمام على الأقِّل لمدَّة ثلاث دقائق، وفي بعض الأحيان تمتدُّ لخمس دقائق.

لم أستطع وُلوج عوالمه الدَّاخليَّة حينما أرى الخُشوع والشُّرود على ملامحه، حركة الشَّارع الدَّائمة لم تُخرجه من حالته، ولا زمامير السيَّارات.. ولا أصوات الباعة المُتجوِّلين. ولا صُراخ وعبث الأولاد المُنصرفين من مدارسهم في طريق عودتهم إلى بُيوتهم.

طبيعة العلاقة الوشيجة مُبهمَة التَّفسير بشكلها الظَّاهر مُباشرة. أظنُّ اِرْتقاءها؛ لتصبح روحانيَّة بين ساعي البريد والطَّريق على العُموم. لو قلتُ: إنَّه اِلْتزام بالرُّوتين؛ لجاز ذلك.

لا.. لا أبدًا هُناكَ أمرٌ هو الأهمُّ حسب تحليلي لشخصيَّة مهيار. بأن اِنْسجامه العفويِّ بتوافُق مع نفسه، وحُبِّه الشَّديد لوظيفته، ومع الوقت شيئًا فشيئًا، أصبح الطَّريق اِمْتداداً لهُويَّته المهنيِّة. أغبطه على قدرته بتذكُّر التَّفاصيل بسهولة ويُسْر دون جُهْد، وهذا ما عزَّز رأيي بأنَّ مهيار: واثقُ من نفسه.. حين يتكلَّم عن ذكرياته.

ولم يكُن الطَّريق بالنسبة له، ليس مجرَّد خَطٍّ مرسوم على خارطة المدينة، إنَّما هو رفيقٌ يوميٌّ شاهدُ على تفانيه، وبما ترَك مهيار فيه من لقاءات وذكرياته، كما أنَّه ميدانه الذي أعطى قيمة لعمله البسيط والعميق بتأثيراته على نفوس وقلوب النَّاس الذين يعرفهم ولا يعرفهم.

ولو أنَّه شُعور مُتوالِدٌ من الألفة، أو الاِرْتباط العاطفيِّ. لسوَّغتُ هذه الاِحْتمالات. حسب اِطِّلاعي فإنَّ التكرار اليومي جعل مهيار يعرف تفاصيل الطَّريق بدقَّة، اِعْتبارًا من المُنعطفات الضيِّقة.. المنازل ذات العناوين المُعقَّدة، أو الأماكن التي تتطلَّب عناية خاصة. هذه المعرفة تُقلل من التوتر وتُشعره بالسَّيْطرة على عمله. كثيرًا ما سمعتُه يُعبِّر عن شغفه بالعمل, على الرَّغم من شكواه الدَّائمة من تعب ساقيه، ولا يتردَّد بإعادة نفس العبارة:

-(لا أعتبرُ نفسي ساعٍ للبريد فقط؛ إنَّما أنا جِسْر المحبَّة، لتصل القلوبُ إلى القُلوبِ).

أجزمُ بتكيُّفه مع المُتغيِّرات، ومُلاحظتها حتَّى الطَّفيفة، فلو جرى إصلاح نقطة مُعيَّنة من شارع ما، أو زراعة شجرة جديدة، أو ظهر له منزلًا مُرَمَّمًا، هذه الأمور الصَّغيرة يتوقَّف أمامها؛ لأنَّها تُعزِّز إحساسه المُنتمي إلى المكان. بينما العابرون لمرَّة واحدة أو على فترات مُتباعدة، لا يلحظون هذه التغيِّيرات.

خَطَر لي ببالي سؤال، لستُ مُتأكِّدًا من اِسْتطاعة مهيار الإجابة عنه:

-من أين نبعت فكرة صناديق البريد، وأين.. ومتى.. ومن أوَّل من اِبْتكرها؟.

الأذكياء يبتكرون الأفكار.. يسعون لتحريكها مُحاولين تطبيقها جُملة أو جُزئيًّا مهما كانت خياليَّة. أمَّا مَنْ تمرُّ الأفكار بساحتهم ولا يحترمون مُرورها, هذا إنْ انتبهوا..!!. بلا شكٍّ أن هؤلاء يقتاتون حياتهم على طريقة الذين سبقوهم، ورسموا لهم.

صناديق البريد بحدِّ ذاتها فكرة عبقريَّة. كنتُ أعتقدُ قبل بحثي عن الأساس التاريخيِّ لها، بأنَّ أحد الحدَّادين الدِّمشقيِّين من اِبْتكر  هذه الصَّناديق. إلَّا أن واجهتُ الحقيقة اِصْطدامًا؛ إذ بحثتُ عن شخصٍ يُخبرني عن أوَّل صندوق بريد وضع في الشَّام. للأسف الشَّديد لم أعثُر على رجُل عتيق من بقايا الزَّمن الجميل كما يُقال.

فاجأتني مُتابعة الموضوع؛ عندما عرفتُ بأنَّ باريس هي المدينة الأولى في العالَم الذي تمَّ صناديق البريد فيها، بتاريخ قديم يُعتقد أنه في عام 1653، وبعد أقلَّ من مئتَيْ عام, وحصرًا في عام 1829، فقد عُمِّمَت الفكرة في جميع أنحاء فرنسا؛ ثمَّ تتابعت المُدن بتقليد "باريس"، وتلتها بذلك مدينة "ويكفيلد" ببريطانيا، وبعدها "وارسو" في بولندا، و"سانت بطرس بيرغ" في روسيا القَيْصريَّة.

كانت مشكلة باريس كمدينة كبيرة في تلك الأيَّام،. عانى النَّاس فيها حتَّى يستطيعوا إرسال رسائلهم، إذ لم يكن هُناكَ سوى أربعة مكاتب للبريد. كلُّ فكرة تأتي كوميض البرق الصَّاعق دُفعة واحدة، تصعق الذِّهنَ كما المِجداف يرجُّ ماء البُحيْرة الهادئ، فيحلُّ الصَّخَب وتنقلب الأحوال بشكل عامٍّ، إلى أن يأخذ الوقت مداه من جديد بعودة الحال إلى سابقه. وهذا ما حصل بالضَّبط لمَّا تولَّدت الفكرة في رأس (جان جاك دي فيلاي).

فابْتكَرَ صناديق البريد 1653، وقام بتعليق الصَّناديق على الحوائط في أركان الشَّوارع الرَّئيسة للعاصمة. بهدف خدمة النَّاس لكي يستطيع أيَّ فَرْد من وضع خطاباته فيها.

وأوجدوا علاقة ناظمة للمشروع، بشرط أن تُحاط بتذكرة مكتوب عليها (أجرة النَّقل مدفوعة)، وكان يتمُّ جَمْعُ الرَّسائل من الصَّناديق ثلاث مرَّات يوميًّا.

..*..

 

يُتابع (الصَّوت الدَّاخلي) ما اِبتدأ الحديث به قبل ذلك عن مهيار:

قُبيْل تقاعده اِشترى مهيار جهاز حاسوب جديد، عن طريق نافذة صُندوق توفير البريد، التي وفَّرت خدمة شراء الأجهزة بالتقسيط، لمن أراد من مُوظَّفي دائرة البريد.

بطبيعة الحال فإنَّ رواتبهم تنزل في حساب صندوق التوفير؛ قبل أن يسحبوها عن طريق المُحاسب عند آخر كلِّ شهر؛ فلم يطلبوا منهم كُفَلاء لضمان الاِنْتظام بسداد الأقساط الشَّهريَّة. ويستلمون باقي الرَّاتب بعد خَصْم الأقساط. لم تُفلح الدَّورات التي خضع لها مهيار قبل سنوات، بجعله أن يكون خبيرًا، لكنَّها أكسبته طريقة تشغيل الجهاز، والدُّخول إلى المواقع والملفَّات والخروج منها.

بمساعدة ابنته بسمة استطاع بالكاد تعلَّم طريقة عمل إيميل إلكتروني، بسمة لم تتردَّد في إطلاقها تأفُّفها حينما تصل مع والدها إلى طريق مسدود، إذا لم يفهم شرحها وإعادتها لنُقطة بسيطة، اعتادت كلمته التي أعادها مرارًا وتِكرارًا:

-(العلم في الصِّغَر كالنَّقش في الحجر).

تبتسم له لشعورها الخفيِّ بالتفوُّق عليه، الأمر الذي يُخفِّف من عصبيَّتها المُفرطة. وتُعيد شرح النُّقطة بكل سرور وعن طيب خاطر. للمرَّة الثالثة أو الرابعة يسألها ما هو الإيميل:

-"يا أبت .. الإيميل هو هويَّة دُخولك إلى شبكة الأنترنت، بلا إيميل لا يُمكن إجراء أيَّة عمليَّة دُخول إلى المواقع والتطبيقات".

اهتزاز رأسه للأسفل تُريح نفسها وتتنفَّس بعُمق:

-"نعم فهمتُ هذه النُقطة، لكن ألا يوجد إيميل بالعربي؟".

-"بكلِّ تأكيد يا بابا كان هُناك موقع مكتوب من أوائل المواقع الإلكترونيَّة العربية، الذي تستطيع من خلاله إنشاء بريد إلكترونيِّ باللُّغة العربيِّة، ومع توجُّه شركة الياهو (yahoo) إلى "دُبي" قامت بشراء الموقع، لتطوير خدماتها لنا في الشَّرق الأوسط" .

-"نعم وبعد ذلك؟".

-"لا أعرف ما الذي حصل بعد اختفاء موقع مكتوب؟".

-"أخبريني بالمزيد عن هذه النُّقطة..!!".

-"بابا إنَّ الإيميل أو البريد الإلكتروني حسب التسميات الدَّارجة؛ فإنَّه المُعادل الموضوعيِّ لما يُقابل صُندوق البريد الذي تجتمع فيه الرَّسائل من مختلف الأماكن".

-"تابعي".

اِهْتمامه بالموضوع حمَّسها للاسترسال بشرحها، بكامل رضاها، وعن طيب خاطر. تابعت.

-"هناك ثيمة موحَّدة للإيميلات سواء كانت على الـ (yahoo) أو الـ(hotmail) أو غير ذلك من الشركات المتخصِّصة، فإن لمُنشئ الإيميل حرية اختيار أي رمز أو كلمة بالإنجليزيَّة ما قبل (@) والنقطة بعد اسم الشركة (.) وجميعها بخاتمة (com)".

-"أوه.. ما شاء الله عليك يا بسمة فهمانة..!! ربِّي يوفَّقكِ".

بَدَت على وجه الأب علامات الاِمْتعاض والحزن باِنْكسار، بينما نظراته المُشتَّتة تعبُر النَّافذة فرارًا من ضيق المكان إلى رحاب حُرٍّ، كي لا تنفجر دواخله من القهر المُحيط به. بسمة استرسلت بشرحها، ولم تُدرك حالته النفسيَّة أثناء استماعه. الحنين إلى الذِكريات طريق إلى الاِكْتئاب في كثير من الأحيان. لتنفيس احتقانه. تابع كلامه بنبرة ناضحة من دواخله المُنهكة حُزنًا:

-"أفهم من كلامكِ يا بسمة، بأنَّ التقنيَّات تُزاحمني على مهنتي، رغم سهولة التواصل وتوفير الزمن، بصراحة لا أودُّ انتقادي إذا قلت كلمة: ليتها ما كانت..!! بطبعي الورق ورائحته، وسيأتي زمان تختفي فيه مظاريف الرَّسائل من التداول، خاصَّة بعد اِنْتشار رسائل الهواتف النقَّالة الـ(s.m.s).

من حظِّكم يا بنتي أنَّكم جئتم في زمن بعيد عن زماننا بُعد المشرقيْن. زمن وفرة كلَّ شيء.. نقيض أيَّام فقرنا واقتصار حياتنا على الأساسيَّات، لكنَّه زمن جميل.. على الرَّغم من قساوته وضَنَك العيْش".

-"زماننا سبَق زمانكم بمسافات شاسعة، وعلى الأخصِّ في السَّنوات العشر الأخيرة.. تسارعُ لا يُجارى.. ولا يُمكن اللَّحاق به".

ولم تلحق نظرات والدها الشَّاردة مُلاحظة مغادرتها الصَّالة. وكأنَّها تكلَّمت مع نفسها.. وكأنَّ مهيار لم يسمع شيئًا ممَّا قالت. رحلة ضياع وسَّعت الفوارق بين جيليْن، وصعَّبت فهم الجيل الأصغر للأكبر.. وعلى الأكبر اِسْتيعاب الفوارق على مَضَضٍ.

وما بين مكتب البريد والبريد الإلكتروني  تكمُن معضلة مهيار، وتتوالد الأشواق والحنين على وقع تنبيهات رسائل الـ(s.m.s)، و اِنْتظار الرَّسائل البريديَّة.

سيصبُح هذا الماضي في ذِمَّة التَّاريخ.. الذي من المُنتَظر يحكي للأجيال القادمة عن ساعي البريد والرَّسائل والطَّوابع وصناديق البريد.

ربَّما يأتي جيل من المُستثمرين يُكفرون بتنمية أموالهم؛ بإنشاء متاحف مُتخصِّصة لحفظ تُراث وتاريخ الورق، وأدبيَّات الكُتُب، ودور النَّشر، والرَّسائل، وتوابعها. رأس المال تفكيره مُنصَبٌّ على الرِّبح، لأنَّه غاية بحدِّ ذاته في موسوعة تفكير الرأسماليِّين. أيْدِ الرأسماليَّة تطرُق حتَّى أبواب الأخلاق والأديان والقِيَم والأرواح.. بلا تردُّد؛ لاِسْتكشاف آفاق اِسْتثمارها.

..*..

 

 

 (6)

 

مضت سنة كاملة على تقاعُد مهيار، اِسْتنفَذ منها الأشهُر الثَّلاثة الأولى؛ بالاِشْتغال على اِسْتكمال مُعامَلَة أوراق تقاعده، وبراءات الذِمَّة من دائرة البريد إضافة لدوائر العقارات والماليَّة والبُنوك.

قطار العمر لا ينتظر المشغولين عن موعده، ولا الذين لا يعنيهم مروره في محطَّاهم أو توقُّفه. مهيار اِنْتظر بُلوغه سنَّ السِتِّين، ليستطيع تنفيذ مشروع عُمُره الذي تاق له. البحث عن الذَّات مُشكِلة مُستَعصِيَة. هناك من لا يتوقَّف بَحثُهم، ولكن بلا جدوى.

فراغ الذِّهن ممَّا لا فائدة منه ضرورة لا غِنَى عنها. صناعة الأهداف بحاجة للإصرار ، والمُتابعة. أمَّا الخُطوة الأولى الأصْعَب في المِشَوار، أقلُّ القليل من البشر يستطيعها، ومنهم من يحتاج التشجيع والمُساعدة، ولا قُدرَة لهم على الاِنْطلاق من ذَوَاتِهم.  

..*..

 

من الغريب أنْ لا أحدَ يضحك في هذه المدينة، هذا العنوان مُفاجئ. كيف حصل ذلك.. يا إلهي! المدينة مُترامية الأطراف. دبيب الحياة مُستمِرٌّ على مدار السَّاعة.

ولماذا كلُّ هذا التجهُّم المُستفَزّ؟.

أين تبخَّرت الاِبْتسامات؟.

هل يُعقَل أنَّ الأطفال لا يضحكون أيضًا أثناء مُشاغباتهم، التي لا تنتهي إلَّا عند خُلودهم للنَوْم؟.

المفاجآت ليست بحاجة لمُقدِّمات، وبلا طَرْقٍ على الأبواب.. بلا اِسْتئذان تدخُل سواء برضا أو مَنْعٍ، كأنَّها تمتلكُ حقًّا أبديَّا بالدُّخول المُباشر، واِقْتحام المكان وصاحبه عُنْوةً. 

مفاجأة الاِفْتتاحِيَّة صادِمَة. أظنُّ أنَّ طول العِنْوان، صَرَفني عن قراءة ما يليه.. اِعْتقادًا منِّي بِعُمق دلالاته. أُدرِكُ تمام الإدراك، بأنَّه لا يعدو أكثَر من مَجَازٍ نشأ في ذِهْن صديقي الكاتب. 

ضيق الوقت حاجز لتقليل سِعَة الحياة، والحاجة مُلِحَّة دَوْمًا لوقت الفراغ. لا فائدة من القراءة إذا لم تكُن واعية مُدركة. بينما الشَّكوى العامَّة من الجميع: (الوقت ضيِّق).

(هل يُمكن تخيُّلُ الحياة من دون رغبات؟. أليست الحياة والرَّغبات شيئًا واحدًا؟. وحتَّى لو كُنتَ تريدُ (أو تسعى إلى) أن تتغلَّبَ على رغبةٍ ما، فهذه رغبة. لا يمكن التوقُّف عن التفكير والرَّغبات)*[18].

وصلتني الرِّسالة التالية على صندوق البريد، ولا أذكُر طبيعة الظَّرف الذي مَنَعني من قراءتها مع ثلاث رسائل أخرى؛ بل في قرارة نفسي كلام مُختَلِف. أعود للتعلُّل أمام شادن:

-"لقد جاءت في فترة حَرِجَة قبل فترة من نهاية خِدْمتي على ما تُسعفني به ذاكرتي المُتآكِلَة. الذَّاكرة المُتعَبَة لا تستجيب عند الحاجة".

..*..

(7)

 

لا أحد يضحكُ في هذه المدينة:

صديقي الكاتب - أقصد كاتبُ هذا النصِّ- يتأفَّف بضيق ترتسم ملامحه على وجهه بألوان لَوْحةٍ مُحتَقنةٍ بألوانها القاتمة: "المُشكلة؛ لا أُطيقُ العناوين الطويلة، وممَّا زاد الطِّين بلَّةً ثَقْبُ ذاكرتي.. اِبْتلَعَ مُفرداتي، التي طالما أفاخرُ نفسي بِغِنَاها وكثرتها".

لا رغبة لديَّ للتعليق على كلامه، ولا على اِسْترساله المُتكرِّر؛ المَلَل وضيق الوقت لم يُفسِحا فُرصةً للتفاعل معه، ولا أذكُر. منذ متى كان لقاءنا ترفيهًا وترويحًا لأنفسنا..! ساعتها.

تأجَّجَت رغبة عارمة بالإفلات من إسار الواقع؛ للاِنْطلاق إلى ساحات ذكرياتٍ تباعَدَت المسافة بيني وبينها. اِنْتَشَت دواخلي بفرَحٍ غامرٍ لم يُترجَم، إلَّا بِمُباعَدَة كلام صديقي الكاتب عنِّي بمسافة شعوريَّة؛ كي لا يمحو شيئًا فرحتُ من أجله؛ رغبتي بالهُروب من أجوائه، غلَّبتُ فِكْرة الاِعْتذار منه بحُجَّة اِتِّصالٍ جاءني من زَوْجتي لأمرٍ عائليٍّ طارئٍ، بينما مثَّلتُ عليه؛ بِتَلقِّي مُكالمةٍ في غَمْرة اِسْتغراقه في لُجّة ذاته بِسَرْد حكاياته، التي حفظتها من كَثْرَة إعادتها في لقاءاتنا الدَوْريَّة من كلِّ أُسبوع. أسرعتُ بخطواتي لأبتعدَ عنه، قبل أن يتذكَّر شيئًا يدورُ في ذِهْنه، فيُرجعني، أو يلحق بي.

موعدنا هذا، ما زال ثابِتًا منذ خمس سنوات مُتتالية، بعد تقاعدنا من التربية والتعليم لم يتخلَّف أحدنا عنه. نَكْهَة الأماكن في دمشق ذات مذاقٍ روحيٍّ مُنعٍشٍ، بلذَّة كأس ماء من عين الفيجة؛ يُرطِّب قلب العَطْشان في يومٍ من أيَّام شهر تمُّوز.

..*..

 

السَّاعة الخامسة في مقهى "الرَّوْضة"، وقبل وُصُولي إليه لا بدَّ من المرور على كِشْك الجرائد والمجلّاَت المُقابل لبُوَّابة البرلمان، لِشِراء جريدة لمُقاومة مَلَل الاِنْتظار؛ رَيْثما يصل صديقي الكاتب المُتأخِّر دَوْمًا عن مواعيده، بما لا يقلُّ عن نصف ساعة على أقلِّ تقدير.

ركبتُ (سرفيس) مساكن بَرْزة بعد عشرة دقائق من وُصُولي للموقف. من حُسْن حظِّي نُزول أحد الرُكَّاب، لأصعد؛ وأجلس مكانه. لم أستطع التمكُّن من كامل الكُرسيِّ. أَرْداف جاري الضَّخم؛ اِحْتلَّت نِصْف مَكَاني، على مَضَضٍ قَبِلتُ بِصِمتٍ دون أدنى اِحْتجاج، كي يُفسِح مزيدًا من المساحة، وينزاح قليلًا. من فَوْره فَتَح حديثه بلا مُقدِّمات، ولا (إِحِمْ ولا دُسْتُور)*[19]. يقترب برأسه من رأسي. شَفَتاه أظنَّهما لامستا أُذُني اليُسرى:

-"الحمد لله - يتكلَّم بعصبيَّة، وتكشيرة وجهه تَقْطَع الرِّزْق- إنَّ اِبْني الكبير، اِنْتقَل من فَرْع البنك الذي كان يعمل به، إلى فَرْع خارج البلد، وراتبه سيكون بالدُّولار".

أنفاسه تتدفَّق بتوتُّر مُتقطِّع لاهِثَة، وتدفع إلى أنفي رائحة كريهة خليط من التعرُّق والفم، تقزَّزت نفسي كنتُ على وشكِ التقيُّؤ، ولم يترك لي خَيَارًا بالاكتفاء بالاستماع، ولا بالإشاحة بوجهي إلى الجهة المُعاكسة، لَكَزَني بِطَرف كُوعِه في جَنْبي المُلاصق له لمتابعة كلامه؛ كلَّما شعر أنَّني كِدتُ أفلِتُ من مُتابعته.. بلوى وأيَّة بلوى؛ دعوْتُ الله:

-"يا ربِّ اِصْرف تسلُّطه عنِّي.. ربِّي عليكَ به وبأمثاله من قليلي الذَّوق.. ربَّاه.. جلَّت حِكمتُكَ في عُلَاكَ.. لو أنَّ الأمر؛ فُوِّض لي.. لوضعت يدي على رقبته فورًا، ولا تأخذني به رحمة، لَكَتمْتُ أنفاسه إلى الأبد..!!".

الكُرسيُّ المُفرَد عن يميني، يجلس عليه رجُلٌ هيئته أنَّه خمسينيٌّ، هاتفه النقَّال مُلتَصِق بأذنه، لم أواجه صعوبة باِلْتقاط مما يقول:

-"يا سيدي مشان الله، ربي يُخلِّيلَكْ أولادك. بِنْتي تخرَّجَتْ من ثلاث سنوات، وعَجِزنا عن إيجاد وظيفة لها. نعم.. نعم.. خِرِّيجة كُليَّة التربية. مُعلِّم صفّ. ربِّي يحفظك، ولن أنسى لكَ هذا المعروف، ما دُمْتُ على قَيْد الحياة. لا يَهُم.. حتَّى وإنْ كان عقدًا مُؤقَّتًا. المهمُّ أن تستلم راتبًا يُساعِدنا على ظُروفنا الصَّعبة".

نتوء عروق وأَوْرِدَة يده القابضة بشدَّة على الهاتف؛ مُنتَفِخة بارزة زاهرة للعيان من مسافة، يكاد الدَّمُ يَنْفَزِر منها، وتغضُّنات جبينه؛ رَسَمت خُطوطًا عميقة بعمق بؤسه.

نبراتٌ جافَّة اِلْتقطتها أُذُني؛ قادمة بتقديري من الكُرسيِّ الخلفيِّ مباشرة. صوته الأجشُّ يحمل غضَبًا غير معقول، في حديثه للمرأة الأربعينيَّة، نظَّاراتها الشمسيَّة السَّوْداء؛ تُخفي معظم ملامح وجهها الوضيء:

-"من غير المعقول هذا التكريم المفاجئ للجميع، ولمن كَتَب قصيدة واحدة، والأَنْكى.. حينما قدَّمه مُدير الحفل بلقب الشَّاعر الكبير، لا أدري كيف سوَّاهُ شاعرًا.. وكبيرًا..!؟ ومِثْلُكِ ومِثْلي يا عزيزتي، لم يُرحِّبوا بنا مُجرَّد ترحيب، هَزُلت.. أليس كذلك..؟. أُفكِّر بِمُقاطعة نشاطاتهم، إذا لم يعتذروا..، ويُعيدُوا ردَّ الاِعْتبار لي على الأقلِّ، لا أريدُ فَرْضَ ذلك عليكِ. لكِ الخيار بمناصرة رأيي، وأنتِ حُرَّة".

تَنَحنَحَت، واِكْتفَتْ باِمْتصاص غَضَبه. كنتُ أودُّ سماعَ صوتها علَّه يُرطِّب حرارة الموقف، ويُزيح عنِّي شيئًا من كآبة وخُذلان صديقي الكاتب الذي تعاطفتُ معه غِيابيًّا، ولا أعرف من يكون..!!، لأغرقَ من جديد في مُستَنقَع كآباتٍ لا حَصْر لها.

تتوالى القِصَص من الكُرسيِّ الأماميِّ، الرَّاكبُ الأوَّل، لجاره الجالس على يساره من جِهَة الشُبَّاك: " أتذكُر جارنا الصَّحفيّ. كان بيته في مدخل حارتنا أوَّل بيت.. آسْفْ بل الثَّاني هو بَيْته".

-"ما بهِ؟".

-"أحد الأصدقاء المُشتَركين كَتَب على صفحته خبرَ مَوْته في حادث سيَّارة في ألمانيا".

-"كَمْ حَلِمْتُ بالهجرة، ولكنَّ ضيق ذات اليدِّ لم يسمح لي، ولم أستطع تأمين خمسة آلاف دولار مَبدئِيًا؛ لدفعها لأحد وُسَطاء المُهرّبين. أذكُرُ أنَّني سألتُ أحد أقربائي بعد وُصُوله إلى السُّويْد، كيف الوضع عندكم في الشَّمال؟. وأرسلتُ له صورة اِلْتقطناها بمكان قبل ثلاث سنوات بعدسة هاتفي، قال:

-"أُفْ.. أأنتَ في نيويورك أو في دُبي؟" نبَّهتُه: "دَقِّق في الصُّورة، ستكتشف أنَّها لي ولكَ".

جاءت إجابة الأوَّل: "يا للوَقَاحة والنَّذَالة.. يا أخي المصاري تُغيِّر النَّاس، وتُعزِّز تجاهلهم لمآسينا".

بجانب السَّائق تجلس اِمْرأة، وبجانبها من جهة السَّائق شابٌّ يلبس بَدْلةً رسميَّةً ورَبْطةَ عُنُق. المرأة مُنهَمِكة بحديثها للشابِّ:

-" قسَمًا بالله..!! أنَّ الفِراقَ مُوحِشٌ، لم أستطع دُخول غُرفة نَوْمنا منذ وفاته قبل أربعة أشهر، ما زال عِطْره عابقًا بالمكان. حُزني لم يسمح لي بفتح النَّافذة".

-"هانت الأمور. كلُّها عشرة أيَّام وتمضي، وتفتحيها بلا أدْنى تردُّدٍ على مِصْراعَيْها".

-"الأهمُّ عندي الآن.. اِنْتهاء حَصْر الإرث؛ فأولاده لو اِسْتطاعوا لحرمُوني من البَيْت الذي أوصى به لي، وبعض الأموال، كما أخبرتُكَ:

-"إنَّهم يعتبرون زواج المرحوم منِّي كان عَبَثًا، واْتَّهموني بالنَّصب والاِحْتيال عليه".

-"لم يبق أمام القاضي إلَّا الجلسة القادمة؛ لِيُصدِر حُكمه القَطْعيَّ بخُصوص القضيَّة، ولا داعي للقلق، فأنا أُتابع الدَّعوى باِهْتمامٍ بالِغٍ. بِشَرَفي؛ كنتُ قد رَبِحتُ قضايا إرثٍ كبيرةٍ ومُعقَّدة، ولم تأخذ معي وقتًا طويلًا".

-"طمأنَتْني.. سأفتحُ النَّافذة قبل وُصولنا للبَيْت".

غفلتُ عن صوت هدير مُحرِّك السَّرفيس المُزعِج، يحرق أعصابي على الدَّوام. ما إن أبلغَتِ المرأة السَّائق؛ برغبتها بالنُّزول قبل مُفترَق الشَّوارع القادم.

بعد تأكُّدي. من أنَّه ما زال أمامي رُبُع ساعةٍ للوُصول إلى بيتي. تولَّدت رغبتي بالنُّزول أيضًا، ومُتابعة المشي وَحْدي. المشْيُ في المدينة مُتعةٌ يا شَدَنْ، وكأنِّي أقرأ كتاب المدينة يوميًّا.. ولم أمَلّ من تكرار تقليب صفحات المدينة،  مشيي المُتكرِّر لأضع خطوة تُراكم ما سبقها من خُطوات، تؤكِّد أن الشَّوارع والطُّرق.. ما هي إلَّا صفحات من حياتنا نُعيد فيها قراءة أنفسنا.. وفي الإعادة إفادة.. أفهمتِ يا حبيبتي..!!.

لماذا لم أكُن أُعير اِنْتباهًا، ولا أحسِبْ حِسابًا لِوَجع رُكبتي، عندما يتأزَّم مع المشي لمسافات طويلة. في المدينة تنتفي المسافات، لأنَّها تملأ أحاسيسنا بمفاجآتها المُتوالِدَة، ولا تتركُ مجالًا للتفكير خارج إطارها.. حالة اِنْسجام تتماهى مع مُفرداتها؛ فتذوب المفردات مع الذَّاتِ.. وتتذوَّق الذَّات لذَّة المفردات بشهيَّة.

حاولتُ اِصْطناع اِبْتسامة ساخرة، وأنا أُتابِع المرأة؛ عندما شَبَكَت ذراعها وتأبَّطت ذِراع مُحاميها الشَّاب، وهما يُكَمِّلان سَيْرهما باِتِّجاه مدخل العمارة التي تسكن فيها. شيَّعتُهما بِنَظراتي إلى اِبْتلعهما بَهْوُ العمارة، وصار خيالهما سرابًا شاحبًا ضاعت ملامحه. راحةُ كَفِّي وبحركة روتينيَّة؛ تمسحُ تعرُّق جِلْدة وجهي المشدودة.

..*..

 

(8)

 

الآن فهمتُ يا شادن.. نعم الآن..! حبيبتي ما زالت الدَّهشة تفغَرُ فَمِي..!، ولماذا لا أحد يضحك في هذه المدينة؟. سؤال جدير بالتفكُّر والبحث؛ فيما ذهب إليه صديقي في رسالته تلك. فإذا عُرِف السَّبب بطُل العجب.

الأدباء حينما يكتبون بِيَدٍ، يقرعون بالأخرى ليس جرسًا واحدًا للإنذار.. بل أجراسًا، ولا يجري لهم ذلكَ ويتأتَّى، إلَّا حينما يخرُجون من شرانقهم المُتشابكة على ذواتهم، فإذا تشرنقوا؛ تأكَّد من أنَّ نظَّاراتهم السَّميكة السَّوداء؛ تحجُبُ عنهم أغلب الحقائق.. البعيدة عنهم أصلًا، لتربُّعهم في أبراجهم العاجيَّة. ينتظرون لا أعرف على وجه الدقَّة ما ينتظرونه..!!

..*..

طَوَيْتُ الورقة. عَيْنا شادن زَوْجَتي تُرقُبان حركات أصابعي أثناء إعادة الرِّسالة إلى الظَّرف، كأنَّها تسألُني شيْئًا. لم تنْطِق بأيَّة كلمة، ولا إشارة ندَّت عنها، قرأتُ ذلكَ في عَيْنيْها.

يبدو أنَّها مُشرقة في يوم عُطلتها الأسبوعيَّة. عادة في أيَّام تكثُر مخطَّطات لمشاريع النَّوم، وزيارة الأهل والأصدقاء، اِنْشغالها الاِعْتياديِّ بتنظيف البيْت، لم يترك لها فُرصة لتُفكِّر بشيء خارجه. ما شعرتُ برغبتها بالخروج إلى مكان ما.

على العُموم عملها في المدرسة غير مُتعِب ، كأمينة مكتبة في ثانويَّة البنات، وكما يُقال: (عمل ما لا عمل له). إذ ليس من حقِّ أيِّ مُوظَّفٍ في التربية طلب التفرُّغ والانتقال إلى المكتبة أو المَخبَر، إلَّا بعد سنوات طويلة من خدمته الميْدانيَّة.

ِاسْتبقت الوقت بتقديم طلَب الاِنْتقال إلى موقع إداريٍّ، وهذا ما حصل معها بالضَّبط؛ حينما سمعت باِقْتراب إحالة السيِّدة أمينة على التقاعد. كان ذلك قبل سَنتيْن لِبُلوغ شادن السِتِّين.

 (الصَّوت الداخليِّ) لم يتمالك نفسه من انفلات ضحكته، سمعته ما قال بوضوح:

-"لا بل قُل انتهزت.. وليس استبقت".

-"الأمرُ سيَّان لا فرق بينهما يُذكَر".

-"انتهزت من الممكن أن تلحق في ركْب الاِنْتهازيِّين".

-"ذهبتَ بتفكركَ بعيدًا.. الاِنْتهازيَّة بعيدة عن شادن بُعد الشَّام عن مضيق باب المندِب".

اَخْتفى الصَّوت وسَكَن؛ كأنَّ ردِّي لم يأت كما أراد بالذَّهاب بتحليلاته إلى مَدَايات غير مُحتَمَله. عادته الدَّائمة التي لا ينفكُّ عن ممارستها؛ في تأويلات ما أنزَل الله بها من سُلطان. وفي بعض الأحيان لا تتوافق مع العقل الأعوَج بتفكيره، عِوَضًا عن السَّليم. 

..*..

من باب الاِحْترام سأخبرها بالأمر، ولا ضَيْر: هذه الرِّسالة وصلتني قبل أشهُرٍ، إضافة لثلاثٍ رسائل أخرى وصلن خلال الشَّهريْن الأخيريْن قبل الإحالة على التقاعُد. هي من صديقي فطين، ولسوء الحظِّ بَقِيْن على قائمة الاِنْتظار. لم تُقرأ ولا واحدة بعد كلِّ هذه المُدَّة. هزَّت رأسها بإيماءة خفيفة، وبكلمة مختصرة: "معذور". لم أُخبرها بفقدان رغبتي بإخراجها من ظُروفها التي وصلتني مفتوحة بيد الرَّقابة.

تنفَّستُ باِرْتياحٍ عميق، كأنَّني باِنْتظار رأيها من غير تخطيط، وأكتفي منها بكلمة فقط. بينما تنحني لوضع صينيَّة القهوة على الطَّربيزة. مع القهوة تحلو الجلسة. اِسْتغراقها في لُجَّة صمتها المُريب حسب اعتقاد مهيار، عند تقييمه كلَّ مرَّة عندما يُريد سماع صوتها بأيِّ شيء. غموض عجيب يلفُّ الموقف لم يستطع فكَّ رُموزه المُبهمة.

ترمُق الفُنجانَ بنظرة حانية على حاله، وكأنَّه يتسوَّل قطرات القهوة بلهفة الاِنْتظار. سحابة البُخار المُتصاعِد من الدلَّة النُحاسيَّة الصَّفراء، تقتحم أنفها بدون اِسْتئذان، فتستولي على حاسَّة شَمِّها، ولا تتوقَّف دون النَّفاذ إلى مركز جُملتها العصبيَّة؛ لتوقظ أعماقها؛  كي تستقبل جلستهما بنشاط وتركيز.

لكنَّها انخرطت في مُحاكاة تأمليَّة:  شجرة القهوة مسكينة، مثلها جميع النباتات التي عرف البشر فوائدها فاستخدموها في حياتهم، ولم تكتب على أغصانها، أو حبَّاتها شروطًا للاستعمال، إنَّما أرادت العيش بأمان، لكنَّ البشر كسروا جميع الحواجز والموانع من أجل منفعتهم الشخصيَّة؛ تفنَّنت الأيدي والأذواق بطريقة تعاملهم مع حبوبها، فحرقوها وطحنوها، يا إلهي كم من الأيدي المُتعرِّقة في أقاصي الكُرة الأرضيَّة من اليمن وأثيوبيا، إلى البرازيل وكولومبيا، والبلاد الأخرى المداريَّة الصَّالحة لزراعتها، إنَّها مآسي البشر المتعوسين، الذين لا همَّ لهم، إلَّا اِكْتساب لقمة العَيْش لأبنائهم.

كيف تُسوِّل لنا أنفسنا التلذُّذ بتعب الآخرين..! يا لقساوة الظلم إذا اِسْتحللناه من أجل رفاهنا. كم قرأت وسمعت عن أدبيَّات القهوة، وقيل فيها الغزل والتفلسف المعقول واللَّامعقول, وهُناك من ألَّفُوا كلامًا جميلًا من بنات أفكارهم، ونسبوه لها على شكل مُناجاة غراميَّة.

رغم يقينهم أنَّ لسانها لم ينطق شيئًا.. أنحنُ نكذب على أنفسنا بأوهام خيالاتنا المُتخمَة بالعُقَد، فندَّعي عِشق قهوة الصَّباح، أمَّا اِحْتساء فُنجان المساء فله حكايات أخرى. يقيني يُخالف ما طرأ لي من أفكار.. فأسُجِّل عِشقي لها. كلُّ الأوقات مُناسبة للقهوة، فإن كانت ساخنة لها أجواء مختلفة عمَّا إذا  بردت. أغلب النَّاس يُحبُّونها ساخنة لكنَّ المُصيبة التي لم أستطع تصريفًا لإصرار مهيار عند البدء بالكتابة، مُشكلته تتركَّزُ بالهُيام بهذا الموديل الجديد المُعلَّب، وما يزيد الطِّين بلَلًا بأنَّها غير مُستساغة إذا لم تكُن باردة ومُثلَّجة.. ولله في خلقه شؤون..!!

مهيار مُسترسِلٌ  في تداعيات أفكاره؛ تماهِيًا مع  سيالة من مكنونات نفسه المكبوتة. الآخرون يهتمُّون بأشيائهم الخاصَّة بهم، لا ينتبهون فيما لو قرَّر الفضفضة معهم:

-"في بعض الأحيان رُبَّما نكتشفُ؛ كَمْ هي حاجتنا ماسَّة إلى فُنجان قهوة ساخنة.

حتّى، وإن كُنَّا لا نُدخِّن باِسْتمرار بشكلٍ رَسْميٍّ؛ للإفراج عن مخزونات تُرهِقُ دواخلنا. في وقت لم نستطع قول ما نُريد. يومذاك.. رغم أنَّه كان مُهيَّئًا، أو بالأحرى مُناسِبًا جدًّا للكلام..!!

إذا اِستطعنا التأكُّد من هذه النُّقطة؛ فهل سَنلُوم أنفسنا على تقصيرنا في اِسْتغلال اللَّحظة الضائعة في غفلة منَّا؟. لكنّ المشكلة التي أُواجهها هذه الأيَّام: هي المَيْل لِشُرب القهوة الجاهزة المُثلَّجة في عُلَبٍ حديديَّةٍ".

..*..

 

(الصَّوت الدَّاخلي) كأنّه لا يفارقهما، ولا يتركهما بحالهما. يتدخَّل مرَّات ومرَّات في شأنَيْهما.

الخيال يتمادى إمعانًا بِنَبْش خبايا الذَّاكرة المُتخَمَة بمكنوناتها. قوارب الأشواق لا تتوانى أشرعتها بالتَّجديف؛ لدفعها بكلِّ ما أوتيَت من قُوَّة، لاِجْتياز مسافات غطَّتْها كُتَل الضَّباب المُتكاثِفَة؛ فتَحجُبُ الرُّؤية.

كِلَانا يُجدِّف بِهمَّةٍ عاليةٍ بلا توقُّفٍ؛ طمَعًا بالوُصول الآَمِن بأقلِّ زَمَن مُمكن. كان مهيار يُحاكي نفسه خُفيَةً عن الصَّوت الدَّاخلي الجاثم على صدره، ليكتُم أنفاسه إن اِستطاع. وتابَع:

بطبيعتها اِلْتقطَت شادن بمهارة سِمَة وجهي. صَمْتها الهادئ مِمْحاةٌ تُزيل جميع المشاكل. كانت تتأمَّلني بنظرات فاحصة أثناء قراءتي رسالة فطين، تستمِعُ باِهْتمامٍ. بنفسي لو أعرفُ ما الذي يدور برأسِها، وبماذا تُفكِّر؟.

من المُرجَّح كما في العادة أن تبدأ بالكلام بعد اِنْتهائي؛ لتستلِمَ  دفَّة الحديث بجَوْلة مُطوَّلة لاِسْتيفاء جوانب غامضة لم تخطُر ببالي، ولا جرى التطرُّق لها أثناء الحديث أو القراءة.

-"لو سِمِحتَ لي يا مهيار. لماذا أهملتَ الرَّسائل كلَّ هذه  المُدَّة مُغلَقة..! ولم تفتحها؟. كأنَّك فقدتَ الشَّغَفَ المُتواثِبَ في نفسِكَ. كما أعرفُ أنَّكَ تُسابقُ اللَّهفة المُتسرِّعة لمعرفة مُحتويات الرَّسائل، وفتح مُغلَّفاتها بلا تركيز.

ألمٌ مُفرِطٌ يجتاح دواخله المُنهَكَة على مدار سنوات عمله في البريد. الكلام الصَّريح غير مُتاح ولا في أيَّة لحظة. هناك مساحات خَطِرَة لا يُسمَح الخطأ فيها. كان عليه أن يسمع ويبلع، زلَّة اللِّسان نهاية النِّهايات تقصف العمر بلا رحمة.

-"لا.. لا يا شَدن. هُناك يدٌ آثِمَةٌ فتحتها قبل وُصولها لي. جميعها مختومة بالختم الأحمر المُستطيل بعبارة: (فُتِحَت من قِبَل الرَّقابة). هذا ابن الحرام رغم السَّنوات الخمس السَّابقة، ونشوء علاقة من الأُلفة، والاِسْتلطاف الحذِرْ، وتودُّدنا إليه، لم يحترم هذا كُلَّه، ولم يُدرك مدى الشَّرخ المُؤذي الذي يُحدِثه في قلبي، حينما كان يتقصَّد اِنْتقاء رسائلي الخاصَّة؛ حين إفراغها من الكيس".

-"يجب أن تتقبَّل أنَّه في مُهمَّة المُراقبة، وما يقومُ به مُتطلَّب أساسيٌّ مُكمِّلٌ لوظيفته في أمن الدَّوْلة".

-"أتفهَّمُ ما تقولين، لقد عزفتُ عن قراءة هذه الرَّسائل. ما زالت على حالها مفتوحة المُغلَّفات، وتمنَّيْت، لو أنَّ الكلمات تسرَّبت، وأفلتت من إسار الصَّفحات، واِنْمحى أيُّ أثَرٍ لها، لأجدَها عندما أعود إليها؛ صفحات بيضاء؛ لأكتُبَ فيها ما أشاءُ نِيابَة عن صديقي فطين، وما يوَدُّ  أن يكتبَ بنفسه إذا ما أراد. في أغلب الأحيان أستطيعُ اِسْتقراء ما يدورُ في نفسه، كأنَّنا نقعُ في حالة من تخاطُر الأفكار".

-"لا غرابة في كلامِكَ يا حبيبي. يبقى التخاطُر موضوعًا مُثيرًا للجدل؛ فإذا كُنتَ تشعرُ بأنَّكَ تقرأ أفكار شخْصٍ مُقرَّبٍ، وهو أحد ظواهر علم النفس الموازي (الباراسايكولوجي)*[20]. لكن لا يوجد أيّ دليل عِلْميٍّ قاطع حتَّى الآن يُثبِتُ وجوده، رغم اِنْتشاره الواسع في الخيال الشعبيِّ، والأدب والسِّينما. هذا مردُّه لعلاقتكما الودودة، وما يربطكما من العواطف، والتفاهُم العميق بينكما!!".

-"وبِماذا تُسمِّين حادثة سيِّدنا عُمر بن الخطَّاب أثناء خطبة الجمعة، حينما خرج عن موضوع الخُطبة ونادى: (يا سارية الجَبَل.. الجَبَل،  من اِسْترعى الذِّئب الغنم فقد ظَلَم). وسارية بمنطقة نهاوند في بلاد فارس يُقاتِل. فاِنْتبه النَّاس للأمر، وسألوا عمر: ما هذا الكلام؟! فقال: (والله ما ألقيتُ له بَالاً، شيءٌ أُتيَ به على لِساني). وكأنَّما النِّداء قَرَع سَمْع سارية، فتغيَّرت خُطَّته ليأتي النَّصر جَلِيًّا.

-"أحفظُ هذه القصَّة كما تفضَّلتَ بها، ومن خلال قراءاتي حول هذه القضيَّة، أستطيعُ اِسْتحضار بعضًا من النِّقاشات، والجَدَل المُتداوَل. فالفرضيَّة النفسيَّة تُفسِّرُ التخاطُر: قد يكون نتيجة لتواصُلٍ غير لفظيٍّ  من خلال حركات وإيماءات، تتمثَّل في لُغَة الجسد، بتعابير من الوجه، وبحركة اليَديْن بإشارات مُعيَّنة بالأصابع أو العينيْن.

كما أنَّ الحَدْس القويَّ المبنيِّ على الملاحظة الدَّقيقة. أو أحالوها على الصُّدفة البَحْتَة، أو التَّشابُه في أنماط التفكير بين الأشخاص المُقرَّبين.

أعتقدُ جازمةً بأنَّ المنحى الفرضيَّة الروحيَّة الميتافيزيقيَّة الأقرَب لتفسير القِصَّة. ولها جذور مُوثَّقة في بعض الثَّقافات والمُعتقدات؛ التي ترى بأنَّ العقل البشريَّ؛ قادر على التواصل عبر حقل الطَّاقة غير المادِّي، تجليَّاتها نراها كما في المُعتقدات البُوذيَّة، وتمارين اليُوجا؛ أمَّا المُستويات الأعلى من الوعي؛ فتـأتي عن طريق الاِتِّصال الذِّهنيِّ.".

(الصَّوْت الدَّاخليّ) اِنْبرى بقوَّة بكلام يخدُم سياق حديثهما؛ قبل أن يرُدَّ مهيار على شادن. مُبرِّرًا تدخُّله من عدم إدراكهما لنقطة مُهمَّة:

-"حواركما فتح شهيَّتي للإنصات.. لا سيِّما بأنَّ الموضوع لا يخضع في كثير من جوانبه لأحكام العقل، إنَّما ما كُتِب من أبحاث نظريَّة بمنحاها الفلسفيِّ، وهناك بعض الأبحاث الأكاديميَّة ذات صفة علميَّة، ربَّما تكون مصداقيَّتها أعلى من سابقتها؛ أطلقوا من خلالها مُصطَلح الطَّاقة الأثيريَّة؛ لتمييز الجسم الأثيريِّ".

شادن لم تكُن تودُّ سماع الصَّوت الدَّاخليِّ الذي يقطع سلسلة أفكارنا حينما تكون مُسترسلة في حديث ما، تكره أن يقطع أحدٌ ما حديثها. هذه سِمَة لازمة لدى عامَّة المُعلِّمين والمُدرِّسين على الإطلاق. تدخَّلت بفجاجة وجَفَاء لمُقاطعته، وتكملة لطرحه:

-" نعم .. نعم..!! المقصود بكلامكَ هو: الجسم الأثيري الذي يُشكِّل طبقة من الطَّاقة التي تُحيط بالجسم الماديِّ، وتُعتَبر أساسًا للجسد الماديِّ. بل وتحافظ عليه. ويتحوَّل الجسم الأثيريِّ ليكون رابطًا للجسد الماديِّ مع الجسد الأعلى؛ فتتدفَّق الطَّاقة بينهما باِنْسياب".

   -"سأخبركُما شيئًا أُخفيه عنكما: بِصَراحة لم أكُن أتوقَّع أنَّ أحدكما له أَدْنى معرفة بموضوع الطَّاقة الأثيريَّة، ولكنَّكِ فاجَئْتِني يا شادن. النِّقاش مع لا يحلو إلَّا مع العارفين، وأعود لمُتابعة الحديث: ففي الفلسفات الباطنيَّة نظروا للطَّاقة الأثيريَّة، وعلى أنَّها طاقة خَفِيَّة مُفتَرضَة الوُجود، فاشتغلوا عاكفين على تحليلاتهم بأبعادٍ فلسفيَّة، وخلصوا إلى أنَّ طبَقَةً من الطَّاقة البشريَّة، أو الهالة. تقع بين الجَسَد الماديِّ والجسد الأعلى؛ يُعتَقَد بأنَّ الجسم الأثيريُّ؛ يربط بين الجسد الماديِّ والجسد الأعلى، ويُؤثِّر في صحَّة الجسد الماديِّ، وصِحَّة العقل".

شادن تتذمَّر من كلامه لشعورها بتطفُّله الممجوج، فقالت:

-"بصراحة لا أعرفُ كيفَ أُصنِّفكَ يا (صوت)، في زمرة الببغاوات الذين يُردِّدون ما يسمعون، أم مع المتفلسفين ليظهروا ذكاءهم بتعالٍ بنكهة انتصارها-، كأنَّك لم تُضِف جديدًا على ما قلتُ، فما زلتَ تُعيد كلامي بصيغة أخرى على لسانِكَ. يجب أن تفهم أنَّ التَّذاكي ليس هو الذَّكاء الفطريِّ. ربَّما يقتُل صاحبه....!! وعلى الأغلَب هو اِسْتهانة بقُدُرات الآخرين"  

..*..

 

تشجَّعت بعد سماعها لكلام الصَّوت الدَّاخليِّ، واِعْتبرته شهادة مَدْح وثناء، فتشجَّعت لتُجاريه بمستوى حديثه الدَّقيق، والمُتخصِّص بدراسات تتشارك حالة ما بَيْن علم النَّفس والفيزياء، ولتُثبِت قُدرتها على مُجاراته في النِّقاش:

-:"تمَّ اِقْتراحُ مفهوم الأثير في الفيزياء القديمة؛ لشرح اِنْتشار الضُوء والجاذبيَّة، ثُمَّ رُفِض لاحقًا بعد اِكْتشاف الموجات الكُهرومغناطيسيَّة".

-"شكرًا يا شادن.. إِكْمالًا لم تفضَّلتِ به: يُعتَقَد أيضًا: بأنَّ الأثير هو مادَّةٌ تملأ الفضاء، وتنشُر فيه الموجات".

ما أجمَل التحدِّي؛ حينما يخلق إبداعًا مخنوقًا في طيَّات الذكرة، ليُخرِج أفضَل ما يخدُم سياقات الحديث المُتابينة والمُتوافقة.

تحمُّس شادن شجَّع الصَّوْت الدَّاخلي كي يُنصتَ لها. بينما مهيار في متاهة صمته غائبٌ عن جوِّ الحِوَار، يبدو أنَّه لم يَرُق له. بينما اِبْتدأت:

-"قد تكون هناك نظريَّات فيزيائيَّة حديثة، تتحدَّث عن الأثير أو الفضاء، على أنَّهما شيءٌ له خصائص فيزيائية. يُمكِن تفسير هذا الفضاء كشيء لا يُمكِن تخيُّلُه دون الأثير".

ما إن حاولت اِبْتلاع ريقها والتقاط أنفاسها. حتَّى اِسْتلم الصَّوتُ دفَّة الحديث:

-"تمام يا شادن.. أحسنتِ. أُوافقكِ، وإكمالًا لفكرتكِ: فمفهوم الطَّاقة الأثيريَّة مُستخدَمٌ في الفلسفات الباطنيَّة، والعلوم الغامضة؛ لشرح الطَّاقة الدَّقيقة الواقعة بين الجسد الماديِّ والجسد الأعلى، وتأثيراتها على صحَّة الجسد الماديِّ والعقل".

انطلقت بضحكة جلجلت في الصَّالة، انتشلت مهيار من غفله التيه. بنفسها لو قالت له: "ليس مُنتظَرًا من الببغاء غير التِّكرار لما يسمع". بينما تابعت حديثها:

-"أتوقَّع بأنَّ النظريَّات الفيزيائيَّة الحديثة، تتمحور بطروحاتها حَوْل الأثير، أو الفضاء، والخصائص الفيزيائيَّة الخاصَّة بهما، الذي عرَّفوه عِلْميًّا بالهالة، أو الطَّاقة الأثيريَّة، وحسب مُعتُقدات العصر الجديد: هي اِنْبعاثٌ مُلَوَّنٌ يُحيط بالجسم البشريِّ، أو أيَّ مخلوق حَيَوانيٍّ. بعض المواقف الباطنيَّة توصَف بالهالة على هَيْئة خَفِيَّة غير منظورة".

-"رائع هذا التحليل يا شدَن أنصَّتُ باِهْتمام لكما. شيءٌ مُبَشِّرٌ؛ اِنْشرَح له صدري، لقد فتحتِ لي بابًا واسِعًا من البحث والتأويل، يُضاف إلى كتابتي في العمل الرَّوائيِّ، ستكونين شريكتي في العمل، بأفكاركِ وتفسيراتكِ الدَّقيقة لأيِّ أمرٍ، قبل الآن لم أفهم طبيعة العلاقة النَّاظمة لحادثة سارية".

-"عزيزي مهيار لا تتعجَّل. لديَّ مُتَّسع من فوائض المعلومات، وأشكر الله على أنَّ ذاكرتي تُسعفني لاِسْتحضارها في الوقت المُناسب؛ إذا اِحْتجتُ شيئًا منها. أيضًا فكاركأفقد قرأتُ من الفَرضيَّات العلميَّة غير المُؤكَّدة؛ التي ذهبَتْ إلى  مُحاولات الرَّبط بين التخاطُر، وبين التردُّدات الكهرومغناطيسيَّة للدِّماغ، ولا وُجود  لأيِّ دليلٍ على اِنْتقالها بَيْن الأفراد".

-"ذكَّرني حديثُكِ الشَيِّق الذي راق لي، بتجربة لعالم نفس في جامعات الغرب، لا أعرف إلَّا أنَّ اِسْمه الأوَّل "جوزيف" قبل سَنَوات طويلة من القَرْن المُنصَرِم. أذكُر جيِّدًا "أوراق زينر"*[21] لاِخْتبار التخاطُر، لكنَّ  النَّتائج خيَّبت الآمال وَقْتَها، واُنتُقِدَت بشدَّة لضعف مَنْهجِها العلميِّ.

..*..

 

 

اِنْطلقت ضحكةُ شادن حدَّ القَهْقَهه؛ فملأت الصَّالة وقطعت كلام مهيار، ليس هُزْءًا بكلام زوجها. حلَّ الصَّمت ليُخيِّم على الصَّالة. حساسيَّتها كزئبق ميزان الحرارة، خافَتْ جَرْحَ كبرياء مهيار؛ فعلَّلَتْ بقولها:

-"أضحكني نسيانُك لأجزاء من نظريَّات، من المُفتَرَض اِسْتحضارها هذه اللَّحظة الحرِجَة. سعدتُ بأنَّك ما زلتَ تذكُر "أوراق زينر" النُّقطة المُهمَّة في الموضوع).

لم يتأثَّر بضحكتها المُفاجأة، آخِذًا الأمر بحُسن نيَّة.. هذه عادته دَوْمًا. تابَع حديثه بإصرار في مُحاولة؛ ليُثبِتَ لها عكس ما قالت: خِلال فترة عملي الطَّويلة تعرَّفتُ على بعض التوائم المُتطابقين بجميع أحوالهم، فإذا أُصيب أحدهما بألمٍ موجع في مكان بعيد؛ فينتقل الألم والوجع إلى أخيه الجالس في البيْت.   

-"صحيحٌ كلامكَ إنّهما يشتركان حتَّى بالشُّعور في لحظات الأزمات، والعكس إذا كانا في حالة من الفرح والسُّرور. تفسير ذلكَ قد يكون نفسيًّا أو عاطفيًّا. ومازال البحث جادًّا حَوْل السُّؤال: هل التخاطُر حقيقيٌّ؟. أبدًا لا يوجد إثبات علميٌّ وفقًا للمعايير الحديثة. حسبما توصَّلتُ له بقراءاتي في هذا المجال. إنَّما معظم الحالات تُعْزَى إلى الاِنْحياز التأكيديِّ؛  عند ذكر اللَّحظات التي تحقَّقت، ويُتَجاهَل الفَشَل على كُلِّ حال، بل ربَّما يحاولون إخفاءه وطَمْس معالمه".

-"لقد أيقنتُ  يا شدن، بأنَّ كلَّ نقاشنا، ما هو إلَّا توقُّعات ثقافيَّة لخداع ذاتنا. مُحاولين إقناع أنفسنا بتفسيرات، وتبريرات لبعض من غموض حياتنا، حتَّى وإن كانت قائمة على اِفْتراضات قابلة للخطأ في مُعظمها، وأستغربُ كيف نتقبَّلُ ذلكَ بكامل رضانا ولا نعترض عليه، ويجري الكلام به على ألسنتا، على الرَّغم من عِلْمنا بأنَّه مُجرَّد رأيٍ غير مسؤول لا يضرُّ ولا ينفع". 

..*..

 

تودُّ لو تأخذه إلى فضاءات مُنطلِقَة به إلى سماوات الحياة، بعيدًا عن الضِّيق المُسيْطِر عليه، صار الخوْف من الاِكْتئاب واِنْكماش النَّفس؛ لأنَّها تعلمُ جيِّدًا بأنَّ جُلَّ الأمراض، والإصابات العُضويَّة منشؤها الأساسيّ العامل النفسيّ.

-"عزيزي مهيار.. من الطَّبيعيِّ ولصحَّة نُفوسنا، الاِنْفصال عن واقعنا اليوميِّ، ومُمارسة عُزلة شُعوريَّة تُخلِّصنا من المُنغِّصات وما أكثرها. يجدُر بنا التدرُّب عليها، مثل هذه العادات مُكتَسَبة بالتمرين مرَّة وراء مرَّة، لتستقرَّ وتُرسِّخ مسارها في حياتنا، نلجأ إليها إذا خالَطَتْنا بعض المشاكل".

-"أفهمُ من كلامكِ يا شادن. الهُروب من المَواجَهَة".

-"صدِّقني لا فائدة من صِدام المَوْجة العاتية؛ فلو اِنْحنَيْنا حتَّى تتجاوَزَنا، فلن نخسر شيئًا، ونتجنَّب مُخاطَرة غير محسوبة النَّتائج. مثل من يصطدم بحائط.. لا شكَّ وبلا نِقاش بأنَّه سيتحطَّم".

-"سأهربُ إلى ربِّي من الآن فصاعدًا".

أنصتَتْ.. ولم تُعقِّب بشيء على العبارة الأخيرة. راقَتْ لها النَّتيجة السَّريعة، التي حصلت خلال دقائق من حديثهما. دواخلها تتراقصُ طَرَبًا.. علامات الفرح؛ اِرْتسمت كالشَّفَق الأحمر على ملامِحِ وجهها المُدوَّر، ومع اِنْعكاس أشَّعة الشَّمس المُتسلِّلَة عبر النَّافذة؛ اِنْقلبت بشرتها البيْضاء طَبَق قِشْدة.

مهيار يُحاول مُجدَّدًا بالعودة لموضوع الرَّقيب الأمنيِّ، ليُفرِغ  بقايا شُحْنَة غضبه، واستكمالًا للقصَّة، يُريد لشادن أن تفهم مُعاناته على مدار سَنَوات الوظيفة.

-"هذا غير المُحتَرم "علي حسن" ما رأيتُ في حياتي أشدَّ حرصًا واِحْتياطًا منه؛ فكان لا يسمحُ، ولا يأذن لأيِّ إنسان بدخُول مكتبه أبدًا، وعلى الأخصِّ أثناء فرزه وقراءة الرَّسائل، وكتابة تقاريره عنها، وتصويرها".

عِوَضًا على اللَّوحة المُثبَّتة بجانب باب المكتب: (ممنوع الدُّخول قطعيًّا). ومنذ بداية فَرْزِه إلى المركز، وفي أوَّل اِجْتماع بجميع المُوظَّفين إضافة للمدير ورُؤساء الأقسام؛ أصدر أوامره وتعليماته مشدَّدًا على ضرورة التقيُّد بها حرفيًّا:

-(ممنوع إفراغ أكياس الرَّسائل القادمة، وتعبئة الرَّسائل المُرسلة، بدون حُضوري. والمُخالفة تحت طائلة المساءلة الأمنيَّة، وأيَّ خَرْق لا تسامُح معه.. ولا تساهُل مهما كانت المُبرِّرات).

حتَّى المُدير  يُحاذر الاِقْتراب من المكتب، ولم أعلم أنَّه حاول. بل شدَّد من أوامره بالتَّعاون مع "علي حسن"، وتسهيل مُهِمَّته بتلبية جميع طلباته، وتنفيذ تعليماته، منذ أوَّل يوم قَدِم فيه إلينا، بعد اِنْتهاء خدمة زميله السَّابق عندنا.

..*..

 

بعد خُروجه من اِجْتماعه الأوَّل المُغلق مع المُدير. أمر المُدير بتغيير مكان المكتب السَّابق إلى غرفة مكتب أخرى في نهاية الممرِّ ، اِرْتأى ذلك بعد أن كان أخذ جولة برفقة رئيس الدِّيوان. الغُرفة نظيفة تمامًا بعد أن نقل مجموعة أغراض إلى مُستودَع آخر في المُلحَق الخلفيّ    ِ.

مُباشرة اِبْتدأ العمل لتجهيزها، بنقل الأغراض من المكتب السَّابق، وتمَّ تثبيت صورة مُتوسِّطة الحجم بالأسود والأبيض للرَّئيس في واجهة المكتب، خلف الطَّاولة الحديديَّة ذات الستَّة أدراج، بعد شهر بالتَّمام والكمال، طلب شفهيًّا باِسْتبدالها صورة الرَّئيس بأخرى ذات ألوان زاهية، ومعها أهداه المُدير طاولة خشبيَّة؛ لتتناسب مع مَهَابة الصُّورة المُقدَّسة، حتَّى تتناسق الألوان. وفي زاوية المكتب أيضًا التي كانت فارغة، مُلئت  بأخذ الطَّاولة الصَّغيرة الخاصَّة بآلة التَّصوير (الفوتوكوبي) من الدِّيوان، وإرسال القديمة إلى الدِّيوان.

"علي حسن" أشْرَفَ بنفسه على نقل المُحتويات خاصَّة خِزانة الملفَّات ذات البابيْن، أمر بنقلها كاملة وهي مُغْلَقة، حجمها أَرْبكنا؛ ممَّا اِضْطرَّنا للاستعانة لعدد أكبر من المُوظَّفين، لحملها بحَذَر حِفاظًا على ترتيب الملفَّات المُتعدَّدة بداخلها، وجَرَى نفس الشَّيء مع خِزَانة أُخرى ذات أدراج فوق بعضها. لها شكل مُختَلِف تحتوي على المصنَّفات المُعلقَّة.

فعندما يدخل إلى المكتب يقفل خلفه الباب بالمفتاح. وإذا صادَف ذهابه إلى الحمَّام أو مكان، ولو كان المكتب المُلاصِق لمكتبه، لا يتردَّد بإقفاله بالمفتاح. كلّ يوم يحمل معه إلى الفَرْع حقيبة مُمتَلِئة بالأوراق المُصوَّرة.  كنسخة طِبْق عن الرَّسائل الواردة من خارج القُطُر وداخله، والصَّادرة أيضًا, كما له عناية خاصَّة برسائل الدَّوائر  الحكوميَّة.

..*..

 

   تترنَّم شادن على الوَقْع الموسيقيِّ للاِسْم الشَّائع، فتُحاول تلحينه "علي حسن" بتنغيمٍ رخيمٍ بصوتها النَّاعم، مع اِسْم شبيه "مُحسن حسن". لم تتفاجأ من كلام مهيار عن عُنصُر دائرته، عندما قطَّبتْ حاجبيْها الأسوديْن الكثيفيْن، وأطبقت بِرُموشِها الطَّويلة المُقوَّسة بطبيعتها للأعلى قليلًا، لتلامس مكان أخْضَر الجَفْنيْن، الذي غاب عنها مُسافِرًا عبر الزَّمن مع حركة شفتيْها، التي ما زالت آثار حُمرتها البُنيَّة من البارحة، لم تنتبه لشُروده الذِّهنيِّ، ولم يرجع من شُروده؛ إلَّا عندما نَطَقت: "مُحسن حسن"، اِنْتفَض جسده بحركة لا إراديَّة، كأنَّما شَعَر بقُشعريرة داهمته على حين غفلة، وهي تقف شامخةً بطولها، وقد سَدَّت عنه رُؤية باب البرندة، وهي تُشير بذراعيْها للأعلى، بحركات شبيهة بإيماءات سريعة مجنونة بتوتُّرها المُنتَظَم من مايسترو فرقة موسيقيَّة، وما فاجأه للمرَّة الأولى، اِنْحسار كُمَّيْ ثوْبِها المُذهَّب إلى مُحاذاة إبطيْها اللَّامعين.    

-"تذكَّرتُ قصَّة عُنصرٍ من الأمن السِّياسيِّ، عندما جاء إلى مدرستنا لأوَّل مرَّة. حدثت مُشكلة مع إحدى الطَّالبات، فعرَّف على نفسه الرَّقيب أوَّل "محسن حسن"، برأيكَ.. فهل هذا التَّشابُه من قبيل الصُّدفة أن يكون أخًا لعلي؟".

-"كلُّ شيء جائز الحُدوث. ليس باِسْتطاعتي النَّفي أو الإثبات. لو اِفْترضنا أنَّ مُحسن من إحدى قُرى ريف مُحافظة طرطوس، من المُمكن تأكيد أنَّهما أخوان بنسبة تزيد على الخمسين بالمئة".

-"حدْسي يُخبرني بأنَّهما على الأغلَب أخَوَيْن. لا غرابة يا مهيار، أن تجد في العائلة الواحدة الأربعة أُخوة أو الخمسة؛ جميعهم مُتطوِّعون في الجيْش والشُّرطة والأمن؛ حسب ما كانت ترويه لنا زميلة لنا في المدرسة، وهي زوجة لضابط برُتْبة مُقدَّم في الحرس الجُمهوريِّ، أيضًا من ريف طرطوس.

أناقة لباسها مُميَّزة دوْمًا؛ تُضفي عليها أُبَّهة ذات طابع بُرجوازيِّ، تتفاخر أمام زميلاتنا بمعرفتها بمحلّاَت الأزياء ذات الماركات العالميَّة في بيروت. مرَّات عديدة قالت: (بأنَّ المحلَّات في الشَّام كلاسيكيَّة مُمِلَّة.. لا تُعجبني، لا أشعرُ بأنَّها تُواكب خُطوط الموضة الحديثة على خلاف بيروت).

حتَّى إنَّ إكسسوارات المكياج تطلبها من الخارج إذا اضطَّرت لذلك: (كثيرًا ما أُرسل العسكريَّ السَّائق إلى بيروت لِاحْضار بعضًا من ماركات فرنسيَّة من العُطور والمكياج، تُعجبني منتوجات شانيل ودُيور عُمومًا، وإذا لم يجد أيَّ غرَض من الطلبيَّة، فقد حفظ ذوقي؛ فيُحْضِر حاجتي من الماركات الإيطاليَّة، وإذا صدَف بأن سافرت إحدى صديقاتي إلى لندن، أوصيها على شراء بعض الأشياء الخاصَّة من متجر هاردوز الأشهر عالميًّا، تخيَّلنَ معي، أنَّ العائلة المالكة البريطانيَّة تتسوَّق كثيرًا من أغراضهم من هذه المكان).

نسمعُ..!! ونتحسَّر على قلَّة رواتبنا؛ فنحسب حساباتنا ألف مرَّة قبل شراء فُستان في كلِّ سنة في الأعياد، أو عند اِفْتتاح المدارس. شعور الحسد يتسرَّب إلى أنفسنا جميعًا، ومع نهاية كلِّ شهر عند مجيئها، تمتلئ قلوبنا حسرة على حالنا.

أُقسِمُ لكَ بأنَّ معظم زميلاتي لجأن إلى لباس المانطو إلى ما دون الرُّكَب بقليل ليس حُبًّا بالموديل، والجلباب الطَّويل.. وليس تديُّنًا، رغم اِدِّعاءاتهنَّ المُتكرِّرة بكمال المظهر والحِشْمة، لأنَّهنَّ قبل ذلكَ كُنَّ يلبسن القُمصان المُلونَّة وبنطلونات الجينز والتنانير القصيرة.

ضحكَ مهيار بصوت عالٍ.. لا رغبة لديْه بالتعليق على كلام شادن.. مُؤثرًا الاِسْتماع، كأنَّه لا يُريد  مُقاطعتها كي  تستكمل حديثها، بهذا الجانب الذي لا يعلم من خفاياه.  بحماس تابعت: الله يستُر على حيطان البُيوت المُستِّرة على النَّاس؛ يعني المانطوات والجلابيب، لإخفاء ما يرتدينه من ألبسة داخليَّة غير مُتناسقة أو قديمة. خياراتهن في الألوان لم تتعدَّ الكُحلي والأسود، والقليل من البُنِّي. محرومات من الألوان الزَّاهية، إلَّا بألبسة البيت الرَّخيصة ذات الطَّابع الشعبيِّ. في أغلبها يشترينها من بائعي الأرصفة، والبَسْطات الثَّابتة، والعربات المُتحرِّكة.

شُعور النَّقص اِسْتوطن نفوس زميلاتي، حتَّى المُديرة تتودَّد لزميلتنا زوجة الضَّابط. لا أُريد ذكر اِسْمها صراحة، سأحتكره لنفسي، لا أودُّ التَّصريح عنه؛ ليقيني بأنَّك لن تتردَّد بكتابته في روايتكَ، ومن لا يحسب حِسَابًا للعواقب لا يسلم من النَّتائج، والغَلَط في مثل هذه المسائل غير محمود، وعلى الأخصِّ مع ناس مثلهم واصلين في الدُّولة.

..*..

 

سمعتُ منها مرَّة أنَّها تُحبُّ المُطالعة، وفي أوقات فراغها تقرأ روايات عالميَّة بلُغَتِها الأصليَّة إذا كانت بالإنجليزيَّة. تخصُّصها أدب إنجليزي من جامعة دمشق، ثمَّ تابعت دورات تقوية في المركز الثَّقافي البريطاني بدمشق بعد تخرُّجها.

 -"يعني أنَّها قويَّة باللُّغة الأجنبيَّة". قال مهيار بعد صمته، ليُعطيها اِنْطباع الاِهْتمام بمُتابعتها، كي لا تكتشِفَ شُروده، وكأنَّه لم يسمع شيئًا مما قالت، ولم يَعِ من كلامها جُملة مفيدة.

هزَّت برأسها للأسفل إشارة للإجابة: بنعم. عرفت أنَّه فهم عليها من حركة رأسها، تنفَّستْ بعُمقٍ عندما أطلقَتْ زفيرها؛ بعد أن عبأَّت صدرها بالأوكسجين. يبدو أنَّها شعرت بضيق من طَرْح الموضوع، وتابعت اِسْتكمال موضوعها:

-"زميلاتنا الأُخريات يُعانين من عُقدة النَّقص تجاه زميلتنا. الفقر ليس عيْبًا.. إنَّما هو الاِنْكسار النَّفسيِّ، وشعور البعض منهنَّ بالدُّونيَّة. من تلقاء أنفسهنَّ؛ يُبادرن لتلبية جميع طلباتها. قلَّما تأتي للدَّوام باِنْتظام؛ فهي كريمة بالهدايا من زُجاجات العُطور، وأدوات المكياج؛ لمن كُنَّ ينُبْن عنها في الحُصَص والدُُّروس. المُديرة تأمرُهُنَّ بذلك، ولم يصدُف أن رفعت اِسْمها في سجلِّ الغِياب ولو لمرَّة واحدة..!!، على خلاف تعامُلها معنا بشكلٍ عامٍّ؛ إحدانا لا تستطيع الخُروج لحاجة ضروريَّة ومُلحَّة، دون أخذ إذنٍ مُوقَّع منها كإجازة ساعيَّة، ولا تقتنع بطلبنا إلَّا بعد نِقَاش وجِدال، وربَّما يصل الأمر إلى التذلُّل لها والترجِّي، بما يُرضي غُرورها وغطرستها، عندما تُمارس سُلطتها بشراسة بعيدًا عن إنسانيَّتها.

وما فاجأني في الحقيقة، أنَّ المُديرة بِصَرامتها وقسوتها، وحسب ما أخبرتني نائبتها، بأنَّها تحتفظ بورقة إجازة غير مُؤرَّخة بتاريخ مُعيَّن؛ فتضع تاريخها عند الضَّرورة إذا ما دعتْها الحاجة. تحسب حِسابًا للتَّفتيش المُفاجئ من مديريَّة التربية أو الوزارة؛ لتحمي نفسها من المُساءَلَة القانونيَّة، مع العلم أنَّ جارتها في البيْت، تعمل مُشرفة تربويَّة في مُديريَّة التربية. من المُضحِك أنَّ المُديرة بنفسها تدخُل لإعطاء حُصَّة دَرْسِيَّة للبنات؛ إذا لم تجد مُدَرِّسة أخرى تقوم بملء الفراغ. هديَّتها دوْمًا مُختلفة، كيس فيه أشياء كثيرة على خلاف الهدايا التي تُعطى للزَّميلات الأُخريات".

-"يا إلهي..!! ألهذه الدَّرجة اِنْحطاط المُستوى؟. لأوَّل مرَّة أسمعُ بمثل هذه الأمور الغريبة..!!حقًّ".

-"أووووه بنبرة عالية قالت- كثيرة جدًّا يصعُب إحصاؤها يا حبيبي، كأنَّكَ تعيش على القَمَر وليس في دمشق، هل يُعقَل جَهْلُكَ بأمور شائعة في كثير من المدارس، ليس في مدرستنا وحدها، بل في مدارس العاصمة، ومُختَلِف مُدُن المُحافظات على مُستوى القُطُر.. فلا عَجَب، ولا غرابة يا عزيزي. أقسمُ جازِمَةً، لا غريب بيننا إلَّا الشَّيْطان".

بصوت عالٍ اِنْفجر ضاحكًا، تزامن من صوت اِنْفتاح باب غُرفة بسمة، صَحِيَت من نومها. بكلام أقرب لغمغمة غير مفهومة كأنَّه يُحدِّث نفسه، لم تسمعه شادن:

-"حتَّى الشَّيْطان لم يعُد غريبًا..!! بل نتشارك معه قذاراتنا، ونتخفَّى تحت سِتَار الأخلاق والشَّرف".

..*..

 

سأحكي لكَ شيئًا عن طُفولتي يا عزيزي. كنتُ أجلسُ أحيانًا أمام مِرْآة خزانة أُمِّي في غُرفتها. وفي غمرة اِنْغماسي في دوَّامة خيالاتي اللَّامُتناهية، فإذا ما عاوَدَني الحنين لتلك الأيَّام التي لا تُنسى.. يا مهيار في حياة كلِّ إنسان نُقاط لا تُنسى.. فالطُّفولة ببراءتها وشقاوتها علامات ذهبيَّة.

ما زالت نبرات أُمِّي الغاضبة؛ بتأنيبها المُتكرِّر من جُلوسي أمام الِمرْآة، كانت تخافُ أن يَنْخَطِف عقلي؛ كي لا أُصاب بالجُنون. لا أدري من أين جاءت بهذا الاِعْتقاد؟.

حتَّى أنَّ مريم اِبْنة جيراننا رفيقتي في المدرسة، طالما حدَّثتني عن غَضَب والدتها، حينما تقبِضُ عليها مُتَلبِّسة بالتَّحديق بالمرآة؛ فصارت تلجأ إلى إقفال غُرفتها، وتحتفظ بمفتاحها مُعلَّقًا برقبتها. لا تستخدمه إلَّا عندما تريد الدُّخول للنَّوْم في نهاية يومها المُثقَل بمشاغل البيْت.  

مرآة الخزانة بِجُزئها الثَّابِت، وعلى الجانبَيْن بابَيْن مُتحرِّكيْن كنتُ أُثبِّتهما، لأرى جسمي كاملًا. كانت قمَّة لَهْوي إذ أُحرِّكُ أحدهما، أو كلاهما معًا، شعور عميق من الخوف ينتابني. كِدْتُ أُصدِّق اِنْشطار جسمي إلى جُزْأَيْن، أحتارُ أين أنا.. مع هذا أو ذاك؟.

ما يحدُث بإرادتي وبتصميم منِّي. التجريب يَسْري مَسْرى دمي، إذْ تتلهَّف روحي لاِلْتئام قِسمَيْها. أنفاسي تتسارع على وتيرة نبضات قلبي المُتصاعدة. أظنُّ أنَّ المرايا تهتزُّ حدَّ التصدُّع من حركات صدري،  ملابسي لا تُخفي ذلك، ومع تقطُّع أنفاسي تعود إلى مجراها إذا أغلقتُ البابيْن، أنفثُ أنفاس الزَّفير باِرْتياح لاِتِّحاد جسمي من جديد. 

..*..

 

-"هل تعرفين يا شادن. ما هي مُشكلتنا نحن البشر؟.

المُشكلة أنَّنا مشغولون بالآخرين ومشاكلهم، أكثر من الاِنْشغال بأنفسنا، ولا فَكاك لنا من الاِبْتعاد عنها.. وإن اِبْتعدنا مسافة، تُلاحقنا لمسافات ذهابنا، حتَّى تستطيع النَّفاذ إلى غُرَف النَّوْم.. جُلَّ حياتنا تنقضي بالقيل القال.. فُلانٌ قال لِفُلانة، وفُلانة فعلت كذا.. وقامت بكذا.

أين سنذهب..!! أين الملجأ. بطبيعة الحال لا يُمكن الهروب من الكُرَة الأرضيَّة لِنَرتاح، إلَّا بالموْت إذا كان بالموْت راحة..!!".

تستمعُ شادن باِهْتمام لكلام مهيار، وتُعايِنُ اِنْفعالاته الظَّاهرة من حركات اِرْتجاف شَفَتيْه أثناء القراءة. بينما يده تعلو وتهبط بِتَشنُّج واضح، تصوَّرتْ حركات (الرُّوبوتات) الآليَّة.

عدوى تأثُّره اِنْتقلت لها، تأْمَلُ أن تكون جلستهما ترويحيَّة عن نفسيْهِما، منذ زمن تتوقُ لسرقة لحظات، من سياقات حياتهما المليئة بهموم الوظيفة، وتدبير شؤون الأسرة، وهموم الأولاد الذين كَبُروا، وكَبُرَت معهم هُمُومهم، ومُجاراة تطلُّعاتهم للمستقبل.

 فما إن توقَّفَ عن بثِّ شكواه، وما يُشغله؛ فاِسْتلمَتْ دفَّة الحديث، لتُجاريه بتفاعلها مع الموضوع:

-"يا عزيزي. إنَّها المدينة الجامعة لأخلاط من البشر بأجناسهم، واِخْتلاف مقاماتهم واِنْتماءاتهم. من خلال التواصُل تظهر المحاسن والمساوئ، والخير والشرِّ. ألا ترى أنَّ الواقع الفاسد؛ يُنتِج واقعًا مريرًا مليئًا بالخوف، والقلق، والتخلخُل الاِجْتماعيِّ.

فلو تعمَّقنا بنظرتنا قليلًا، ألا ترى أنَّ مجتمعنا خياليٌّ مُخيف، تسوده الفوضى والخراب الرُّوحيِّ والنَّفسيِّ؛ ما دفعني لهذا الكلام، والميْل إلى هذا المنحى،  ما فهمتُه من رسالة صديقكَ فطين؛ حينما نأخذ ما وراء كلامه المُباشر؛ نفهمُ أنَّ هُناكَ نُفوسٌ مليئةٌ بالأوهام، والخوف من المجهول القادم. إنَّ عدم الثَّبات والوُضوح في دُروب الحياة؛ دافع من دوافع البحث عن مَخرَجٍ وحَلٍّ، حتَّى لو كان هُروبًا إلى الجحيم".

-"شادن.. اِسمحي لي أنْ أُحيِّيكِ يا شَدَن يُحاول تغنيجها يا حبيبتي، أنتِ وحدَكِ مُنْقِذَتي ومُلهِمَتي؛ عندما تفتحين نوافذ الأمل كَيْ أتطلَّعَ إلى الأُفُق، أنتِ من يُجبرني على الكلام المُباح والممنوع.. بل والاِسْترسال فيه بعيدًا.. بلا قواعد ولا ضوابط، خَوْفًا من الطُفَيْليِّين والمُخْبِرين..، ينامُ البشر ولا ينامون، ينقلون أخبار النَّاس، بل ويزيدون عليها بِهَارَاتِهم؛ لِتَلْقَى آذانًا صاغية لدى مُشغِّليهم. الآن أدركتُ يا حبيبتي قيمة هذه اللَّحظات من جلستنا، التي من المُفتَرض أن نتفرَّغ فيها لأنفسنا، ونتلمَّس قلبَيْنا".

-"وأخيرًا ها أنتَ قُلتَها حبيبتي- يا ظالم. كم من الوقت مضى ولم أسمعها منكَ، وما حدَّثتكَ نفسكَ بمُراعاة مشاعري، كما حِرْصي على راحتكَ، وأفعلُ كلَّ ما يطيبُ لكَ دون تنكيد أو تنغيص على ما يُسعدُكَ".

-"لا تظلميني.. لا لم أنسَها أبدًا.. مكانُكِ الدَّائم في القلب، ولَسْتِ في الكلمات تُقيمين".

-"أعرفُ ذلكَ يا حبيبي. أحبُّ أن تقولها مع كُلِّ نَفَس يخرُج ويدخُل من وإلى رِئَتَيْكَ، ومع كُلِّ  آهةٍ، في كثير من الأحيان أظنُّ أنَّنا لا نعيشُ تحت سقفٍ واحدٍ. كثيرًا ما يُخالطني شعور يقهر دواخلي المُنهَكَة؛ بأنَّنا أصبحنا كالجيران".

..*..

رائحة القهوة من جديد بنفس توقيت اليوم السَّابق؛ تُثير شهيَّة مهيار للاِسْترسال بكلامه. يلومُ نفسه بأنَّه محقوقٌ لها، عندما أخبرته بما يدور برأسها. رنين جرس  باب الدَّار، قطع جلستهما، فقامت تفتح، وعيناها اِتَّجهتا إلى ساعة الحائط لتتأكَّد من الوقت، وقالت:

-"هذا موعد عَوْدة بسمة من الجامعة". بسمة طالبة سنة ثانية في كُليَّة التجارة والاِقْتصاد في جامعة دمشق.

العُشَّاق وحدهم من يحرصون على مواعيدهم. تحت أي ظرف كان. عادة ما تفتُر وتخبو مشاعر الأزواج بعد سنوات من زواجهما الأولى، وفي بعض الأحيان النَّادرة لا تتعدَّى إلَّا تكملة السَّنة من يوم زفافهما. ربَّما تكون ستَّة أشهر أو أقلّ".

..*..

 

 

(9)

 

اِنْشغلت شادن بتحضير طعام الغداء، وباِنْتظار عَوْدة باسم الذي عادة ما يتأخَّر أكثر من أخته بسمة، إذا لم يكُن مُناوبًا. كما أنَّ مُعظَم دوام السَّنة الأخيرة من دراسة الطِبِّ في المُستشفيات.

 بينما مهيار مُستَغرِق في تفكيره، دخلت عليه بسمة، وطَبَعت قُبلةً على خَدِّه؛ شعر بدفء وحنان، ثمَّ اِحْتضنته قبل أن تدخُل إلى غُرفتها.

وسرحت شادن بخيالاتها فالتة من عقالها، في أرجاء المدينة، وذهبت إلى مناطق لا يُمكن أن تُحدِّث نفسها بزيارتها ولو كان فيها من مزارات للأولياء والصَّالحين:

يا لها من عبارة واسعة مساحاتها مُشرعة على حكايا ناضحة بالفرح والحزن، بالأمل واليأس، والحياة والموت، والحب والكراهة؛ فعلى الأغلب أن تكون مِفْتاحيَّة؛ للأبواب والنَّوافذ المُنفَتِحَة على عوالم الدَّاخل والخارج، والمُغلقة أيضًا في وجه الغرباء والعيون المتلصِّصة والنشَّالين والحراميَّة والجواسيس والمُخبرين.

وتحتمل كافَّة تأويلاتي: "لا أحدَ يضحكُ في هذه المدينة". لم تكُن إلَّا لوحة إنسانيَّة مليئة بالكآبة والقلق، تعكس حياة عيِّنةٍ صغيرة من ألوان المدينة، أتصوَّر فُقدانها للبهجة والضَّحك، عندما اِنْحسرت مساحات الطُّمأنينة والشُّعور بالأمان النفسيِّ الدَّاخليِّ.

أمَّا اِنْتقالات الحالات فتبدأ بالصَّديقَيْن - أحدهما كاتب- عندما يجتمعان في مقهى "الرَّوضة"*[22]، أستَشِفُّ من حديثهما بِثقَل هُموم الحياة ومَلَلِها. الكاتب يُعبِّر عن إحباطه من العناوين الطَّويلة، وفُقْدانه للإلهام، بينما يبدو صديقه غير مُهتَمٍّ بالتفاعل مع شَكْواه، مشغولًا برغبته في الهُروب من هذه الأجواء الثَّقيلة.

وما حَدَث في (السَّرفيس)، فهي قصَّتنا، ومُشكلتنا جميعًا مع وسائل النَّقل الجماعيَّة؛ وسيلة الفقراء الوحيدة. تتجلَّى تشاركيَّة الحياة مع الآخرين، الذين يعيش كلٌّ منهم عالمه الخاصِّ المليء بالهموم.

مثل هذا الرَّجل الذي يتحدَّث عن نجاح اِبْنه في الحُصول على عَقْد عمل خارجيٍّ، وسيكون راتِبَه بالدُّولار، والرَّجل الخمسينيِّ الباحِثُ عن وظيفة لاِبْنته الخريِّجة، والشَّاعر يشعرُ بالإهانة بسبب تجاهله في حفل تكريم.

كما سرَد قصَّة المرأة الحزينة على وفاة زَوْجها، وتخوض معركة قضائيَّة مع أبنائه حَوْل الإرث. بصراحة ما يشغل بالي: كيف تدعو المحامي إلى بَيْتها..!! فهل نشأت بينهما علاقة عاطفيَّة؟.

لا أدري هل خالطكَ هذا الشَّعور يا حبيبي؟.

وهل برأيِكَ يا مهيار.. ستتكلَّل بالزَّواج أيضًا؟. ظنَّت أنَّ كلامها وصل لأذُنيْ مهيار، عادت لتتأَّكد أنَّ أُذُنيْها لم يسمعا شيئًا، وما زال فمها مُطبِق لم تفتحته. كما أنَّه لم يقُل: (نعم).

وهل المُحامي اِنْتهازي يطمح لهكذا صَيْد دَسِمٍ؟.

ضاعت جماليَّات المدينة، وغفلت عن هذه العيِّنة من البشر ومُعاناتِهم، التي أطفأت بهجة الحياة في قلوبهم. اِنْحصرت همومهم عند حدود رغيف الخُبز. كِفَاحٌ من أجل البقاء على قَيْد الحياة، فاِنْحصروا في عالم مُستَفِزٌّ من العُزلة والكآبة.

المدينة قاتمة على الرَّغم من أضوائها المُتلألئة، كأنَّ مصابيحها مُطفأة دَوْمًا، تُواصِل نهارها مع ليلها. المُشكلة إذا فَقَدت كلَّ مباهجها، ساعتها..!! تستحيل إلى مُستنقَعٍ قاتلٍ لجمالها؛ فتتَّسع ساحات الضُّغوط النفسيَّة والاِكْتئاب، إذا صارت الرَّواتب والأجور لا تسدُّ الحاجات الأساسيَّة؛ يزداد اللَّهاث لإشباع البُطون فقط؛  فلا فَرَح ولا مَرَح، أمَّا الضَّحِكُ يُصبِح شيئًا نادِرًا.

..*..

 

فطين لم يتمالك نفسه باِسْتيعاب المزيد. كانت الجُرعة ثقيلة؛ فأتخمته؛ قرَّر النُّزول من (السَّرفيس) والمشي وحده، مُحاولًا الهروب من ثقل الأجواء، لم يعُد يحتمل المزيد من فوائض المآسي، لكنَّه بقي مُحاصَرًا في دوَّامة من الهُموم والألم.

لم يحتمل كلَّ هذا الضَّغط النَّفسيِّ؛ ولتصريف أزمته كَتَب لي، وكأنَّه يريد ترحيل مُعاناته إلى ساحتي. الحمد لله.. أنَّني قرأتها مُتأخِّرًا. أو أنَّه لم يستطع مُقابلتي؛ لِيَحكي ما يجولُ في خاطره، أعلمُ مدى حساسيَّته تجاه أدْنى شيء، تلك هي نفسيَّة الشُّعراء المُرهَفَة.

تُرهقها دمعة طفل.. وتُطربها نغمة اِمَرأة عابرة بِجِوارهم؛ فينسجون من أوهامهم  أجمل القصائد الغزليَّة، ويطيرون على جناح الرَّغبة؛ إذا اِقْتحمت أنوفُهم رائحة عطر امرأة؛ جاءت بها نسمة من بعيد؛ فتتمادى خيالاتهم في سماوات من التهويل والتهويم؛ لاِقْناع أنفسهم أوَّلًا بأنَّ رشَّة العطر، قد طال وجهه شيء من الرَّذاذ.

يا لهم من مساكين..!! ولا (أحد في هذه المدينة يضحك).

..*..

 

صَوْت شادن يأتي من الصَّالة:

-"هيَّا يا مهيار الغداء جاهز على طاولة السُّفرة".

اِنْقطع حبل أفكاره. اِنْتبهَ.. رَشفَ آخر قطرة من فُنجانه، واِتَّجه إلى صالة البيْت، واِنْفتح الباب ليدخُل باسم، يبدو الإرهاق على وجهه، ويحمل حقيبته.. رفيقته الدَّائمة، وقبل أن يذهب إلى غُرفته لتغيير ملابسه، وغسل يديْه ووجهه. قبَّل رأس والده الذي لم يُقابله منذ يوميْن، بسبب مناوبته في اليوم السَّابق.

-"كانوا صِغارًا.. كم تمنَّيْنا أن نراهم كِبارًا.. وكأنَّنا ندفُع ليبتعدوا عنَّا.. كي لا نراهُم". قال الأب لنفسه.  

..*..

 

 

(10)

 

-"أتذكُر منذ متى خرجنا آخر مِشْوار معًا يا مهيار؟".

-"الذَّاكرة مُتآكِلة.. في الحقيقة لا أذكُر، حتَّى لو أجهدتُ نفسي باِسْتنهاض ذاكرتي، فلن تُسعفني إطلاقًا".

-"بكُلِّ تأكيد كان ذلكَ قبل ستِّ سنوات، عندما نجَحَ الدُّكتور باسم في البكالوريا، إذ ترافقنا لحُضور حفل تكريم الأوائل".

-"ياااه..!! الأيَّام تمضي سريعًا يا شَدَنْ. ربَّما تجاوَزَنا القِطار بمسافات".

تُرسِلُ شادن نظراتها بعيدًا عبر بُوابة الشُّرفة المُطلَّة على السَّاحة. سَرَحتْ بأفكارها.. الصَّمتُ خيَّم على الصَّالة.

كانت نبراتُ صوتها تُوحَي بالأسى. ربَّما تتخيَّل نفسها جليسة البيْت بعد سنتيْن من الآن؛ حينما تخرُجُ من الوظيفة، وتُصبِح مُتقاعدة، تُستند ظهرها إلى ظهر زوجها.

-"مشى قطار العمُر في غفلة من انشغالاتنا". تُحاكي نفسها.

واِسْترسلت:

-"وماذا لو أنَّ البنت تزوَّجت..  وبعدها سيكون دوْر باسم، عند الاِنْتهاء من مُتابعة تخصُّصه. أيضًا وقد تزوَّج، وذهَبَ كلٌّ منهما إلى بيته. يا له من شُعور مُرعب..!! لا أظنُّ بأنَّ الحياة تُطاق.. وكيف سأتقبَّلها بدونهما. سأُصارع الوحدة مع ذهاب بهجة العمر، وماذا سأفعل بالاِنْزواء وحيدة في زوايا العُمر المُعْتِمَة.. مُنكفئة على نفسي، أحتسي مرارةَ تمادي مساحات الصَّمت الموحِش.. تتقلَّص الفُرص والخيارات, ساعتَها لن تُتاح لي ولا لمهيار إلَّا أن نُلَمْلِم خَيْباتنا؛ فهل ستصدمنا الحقيقة إذ نُواجهها معًا؟.

هذا إذا اِشْتركنا بنفس المُشكلة..!!، وكما أتذكَّر فإنَّ: (الحقائق مخلوقات عنيدة، ومهما كانت رغباتنا أو مُيولنا، أو ما تُمليه عليْنا عواطفنا؛ فإنَّها لا تستطيع أن تكون صورة حالة الحقائق والأدلَّة)*[23]".

نحنحة الزَّوْج المُتكِّئ على الأريكة، نبَّهتها لاِسْتعادة نفسها من نوْبة الشُّرود المُخيف. بنبرة جادَّة ناشِفَة، جعلت عَيْنا مهيار تتسمَّران في قَفَاها. لأنَّها تتكلَّم ووجها صوْب السَّاحة، غير عابئة بحركتها وضجيجها، وكأنَّها لم تسمع شيئًا، بل اِنْطلقت بحديثها المُؤثِّر المُوجَّه بتركيز شديد، لنفسها أوَّلًا وعلى مسمَع زوجها:

-"مُتقاعِد.. يا لها من كلمة لئيمة لا أُطيقها، أرتعبُ حينما ينطق بها أحد ما. بلا شكٍّ بأنَّها أصبحت مُصطَلَح شُؤمٍ. ذات مرَّة سمعتُ تفسيره من أحدهم، بقوله إنَّهم يقصدون منه: (مُتْ وأنتَ قاعد). عبارة مُؤذية للمشاعر تُردِّدها الألسُن كثيرًا.

كيف يُحاولون إقناعنا بالموت.. ونحن قاعدون؟.

إنَّهم يُحاولون إرسالنا إلى قُبورنا.. سيفرحون لو حَرَمُوننا من الحياة. جُحود غير مُنتَظر من الدَّولة والمجتمَع، وكأَّن وجودنا على وجه الأرض، حِمْلٌ ثقيل على ظُهورهم. يضيقون ذرْعًا بنا. بعد ذوَبان أعمارنا في سبيلهم. فهل بعد هذه الجُحود من جحود؟".

-"عزيزتي. قلبي يتفطَّر ألَمًا من كلامِكِ. يا لها من سُخرية بعدم نَفْع من يَصِل إلى الستِّين، بينما الشُّعوب الحيَّة، تبدأ حياتهم الثَّانية بعد فترة التقاعد، ويُفكِّرون بجديَّة بمشاريعهم المُستقبليَّة، وبناء أحلامهم".

-"الحياة لا تتوقَّف إلَّا بالموت، كأنَّ قناعتنا تشكَّلت بما أخذناه. وكفى، وعلينا أن نجلس باِنْتظار ساعة الموت. قَتْل المواهب والطَّاقات والخبرات.

والمُشكلة أنَّ قَوْنَنَة فكرة التقاعد سِمَة عالميَّة تضبطها أنظمة، وقوانين ضامنة في مُختلف دُوَل العالم، التَّقاعُد للمُوظَّفين المُعادل المعقول لسنِّ اليأس عند النِّساء". قالت شادن.

النِّقاش المُشتَرَك للمصير المحتوم؛ اِسْتدرَّ أفكار مهيار لمُجاراة شادن المُنفعلة التي كانت على وشك الاِنْهيار والبُكاء، اِسْتشفَّ بحدسه لهجة الأسى والحُزن من كلامها:

-"حبيبتي قالها بنبرة حزينة. تنثُّ حنانًا- حينما يُحالُ المُوظَّف إلى التَّقاعُد، ينتقل من مرحلة العمل النَّشِط إلى توقُّفٍ كُلٍّي، أو جُزئيٍّ عن العمل، عادةً بعد بُلوغ سنٍّ مُحدَّدِ، أو اِسْتيفاء شُروطٍ مُعيَّنةٍ (مثل عدد سنوات الخدمة). وصارت عُرفًا تقليديًّا على نطاقات، كَحَقٍّ تقليديٍّ اجتماعيٍّ، أو مُكافِئٍ بعد سنوات من الإسهام في العمل، لكنَّه يختلف ثقافيًّا واِقْتصاديًّا بين المجتمعات".

-"أنا لحبيبي وحبيبي إلي"*[24]. كأنَّها أرادت الخُروج  من قَبْو الرُّعب المُعتِم. راحَت تُردِّد كلمات العبارة نفسها. لم تتجاوزها لما بَعْد. اِسْتدارت.. والدُّموع تترقرق في عَيْنيْها، نهضَ من مكانه بِهمَّة؛ فركضت بخطًى سريعة. لتحتضنه. ويغيبان عن الوجود في دوَّامة من المشاعر المحمومة برغبات جسديْهما المكبوتة. اِنْزويا في غُرفتهما.    

..*..

 

الهُدوء مُغُرٍ بالتَّمادي في المُضِيِّ بأحاديث مُطوَّلة. تفرُّغ مهيار باعثه الرَّئيس؛ لاِسْتعادة دفء الأسرة، بِضَخِّ المزيد من الاِنْتعاش، لإزاحة غُبار عوادي الأيَّام، وما علِقَ بها من مشاكل خارجة عن الإرادة.

شادن تتوقُ باِسْتمرار لمثل هذه الجلَسات المُفتَقَدة خلال فترة طارئة. لم يكُن أمامها إلَّا القراءة، حتَّى وصلت درجة الإدمان، سواء أثناء دوامها في المكتبة المدرسيَّة تُغلِق بابها، وتندمج لدرجة التوحُّد مع الكِتَاب في حالة عِشْق، والكتاب لا يدعها تُفكِّر في غيره، يملأ عليها فراغها؛ فاِسْتغْنَت عن مُعظَم المُناسبات الاجتماعيَّة، إلَّا الضَّروريَّ منها، والمُلزِمَة بوجوب حضورها،  ولا يُجزِءُ الاِعْتذار عنها.

شَغَفَها بمتابعة المُطالعة؛ فلا تستطيع مُفارقة الكتاب، فيذهب معها من تلقاء نفسه، يرتحل إلى بيتها إذ حجز زاوية دائمة في حقيبة يدها المُنتفخة. حقائب السيِّدات السَّوداء مُثقَلاتٌ بضرورات خاصَّة بهنَّ وبعائلاتهنَّ، على خِلاف الحقائب المُلوَّنة الرَّشيقة بأوزانها الخفيفة عند الشابَّات.

القراءة المُستمرَّة رافدها المعرفيّ النَّابض. منذ أن أصبَحَت أمينةً للمكتبة؛ فما حصلت عليه من ثقافة؛ يُعادل سنينًا عديدة من حياتها الدراسيَّة في الجامعة، وقبلها الثانويَّة، بل يفوقها بمسافات طويلة.

..*..

باسم وبسمة بعد أن تناولا الغداء في موعده اليَوْميِّ الثَّابت تقريبًا؛ خَلَدا  إلى النَّوم. نَوْم الظَّهيرة، أو ما بعد الغداء. طقسٌ دائم لمُعظم المُوظَّفين والطُلَّاب، ومن يشتغلون باللَّيل.

لم يكُن الكتاب حسب كلامها المُتكرِّر:

-(لإضاعة الوقت، ومَلْئ الفَراغ، وإزاحة المَلَل من حياتها، بل وسيلة معرفة، تنهلُ منه بِشَغف لتعزيز قُدُراتها، وتثقيف نفسها).

-"أخيرًا يا عزيزي.. ها أنتَ صِرْتَ مُتقاعِدًا..!!. قالت شادن.

-"لم أتصوَّر في حياتي كُلَّها الوصول إلى هذه النُّقطة المُخيفة في نهاية الطرَّيق المسدودة..!".

-"وعلى رأي جُبران: (أهذه الحياةُ التي كُنتُ أركُل بطنَ أُمِّي من أجلها؟)*[25]. وما إن اِنْتهت من العِبَارة؛ لم تُطِق الدُّموع البقاء تدور في عينيْها، فاِنْساحَت من تلقاء نفسها على خدَّيْها.

 (11)

مهيار حديث ذكرياته

دومًا ما أتساءل بنفسي، وبإلحاح للحصول على أجوبة، وصَدَف أنَّ العديد من الأسئلة تبقى يتيمة، نستجدي إجابتها عند الكَهَنة والعَرَّافين، وتُشَدُّ الرِّحال إلى مضاربهم؛ ولو أقاموا في كُهوف على رؤوس الجبال، أو في مَتَاهات صحارى الرُّبع الخالي والفيافي المُقفِرة.

لماذا نسعى لبعض المُقرَّبين طوْعًا؛ لنحكي لهم بعضًا من أسرارنا، أو جميعها؟.

وهل يُعتَبر هذا التصرُّف صحيحًا؟.

على وجه التَّحديد يصعُب الإجابة عن هذا السُّؤال؟. 

نُفشي لهم أسرارنا عن طيب خاطِرٍ منَّا، وفي كثير من الحالات هم يُخفون أسرارَهم، ولا يبوحون بشيء من كوامن دواخلهم الكتيمة، فهي أشبه بصناديق بلا مفاتيح يصعُب خَلْعها إلَّا بشقِّ الأنفُس.

كنتُ أظنُّ أن لا أسرار لدَى صديقي "فطين" من المُمكن أن يحكيها. هو الوحيد الذي لم أُخْفِ عنه سرًّا؛ يوم أن كانت خِزَانتي مليئة بالأسرار، مازلتُ أعتبِرَهُ صُندوقًا مُقفَلًا لم يتسرَّب عنه، ما يُزعجني على الإطلاق، ولم  يُفرِّط أبدًا بما اِئْتمنه عليه.

فات بنا قطار الزَّمان إلى أقصى محطَّات العُمُر، أخَذَ معه من أَخَذهم مرَّة واحدة، تذاكرهم ذهابٌ بلا إيَّاب، ومع دَوَران عجلة الزَّمان، لم تنقطع أفواج جديدة من الأجيال، وكلُّ جيل يُودِّع جيلًا، ويحمل الرَّاية إلى أن تأتي لحظة التَّسليم لمن هم ينتظرون، وهكذا تمتدُّ السِّلْسلة بلا اِنْقطاع.

..*..

 

شعورٌ يُخالطني لا يُفارقني بأنَّ هُناك من يُراقبني، لازمتني حالة من الرُّهاب الدَّائم من المُحيطين بي، أحسِبُ حسابًا.. ليس حِسابًا إنَّما حسابات لا تُعَدُّ ولا تُحصى، أشكُّ بنفسي في بعض المرَّات؛ حينما تتعاظم (الفوبيا) حدودها القُصوى.

كنتُ أتمنَّى التَّقاعُد حتَّى ولو جاء مُبكِّرًا، لكنَّ جميع مُحاولاتي الخارجة عن الإطار القانونيِّ؛ باءت بالفشل، ووصل الأمر بي للبحث عن مُعقِّبٍ للمُعاملات، كي أسلمُّه أوراقي من أجل الحُصول على تقرير طِبيٍّ من اللِّجان التي تُقرِّر نسبة عجز صحيَّة. وكان ذلكَ قبل الحادث الذي حصل لي قبل مُؤخَّرًا، يوم كان عمري تسعة وخمسين عامًا.

وقتها أُصيبَ المُعقِّب بحادثٍ مُروريٍّ، وقَضَى، وحمدتُ الله أنَّني لم أُسلَّمه المبلغ الذي اِتَّفقنا عليه، بما يُعادل رواتبي لنصف سنة، النِّسبة الأكبر منه ستذهب إلى رئيس، وأعضاء اللِّجنة الطبيَّة.

قبل ذلك كنتُ قد تورَّطتُ مع مُحامٍ ناشِىءٍ نصَّاب طلَب ضِعْف المبلغ الأوَّل، أغراني بمعارفه النَّافذين في الدَّولة، وأنَّه يمتلكُ مفاتيح جميع الأبواب، ولا يُغلَق أمامه أيَّ باب، وعلى رأيه:

-(بأنَّ كلُّ مسؤول مهما عَلَت، أو هبطت مرتبته فَلَه قيمة وثمن، يُوقِّعُ باليُمنى ويقبض باليُسرى، هكذا جرَت العادة، وأصبحت عُرفًا لا نِقاش فيه).

اِختفَى بعد أن اِسْتلم. ورقم هاتفه الذي سجَّلته كان غير رقمه، أو سجَّلتُه خطأ.. حقيقة لا أدري، أخبرني بأنَّه ينوي اِسْتئجار مكتب في قابِل الأيَّام، مكتبه الوهميُّ لم يكُن إلَّا في حقيبته المليئة بالأوراق.

غلطتي أنَّني لم أطلب منه وصل قبض. وتبدَّدت أحلام الخلاص من الوظيفة وضُغوطاتها، وبقيت إلى أن أُحِلتُ بحكم  بُلوغي السنَّ القانونيَّة للتقاعُد. وجلستُ أندُب حظِّي العاثر بضياع أموالي، وتبخُّرها من بين يديَّ، رغم حاجتي لها من أجل مصاريف الجامعة لباسم وبسمة.

..*..

 

 

 

 

(الصَّوت الدَّاخلي)

-" يا غشيم ألا تذكُر قصَّة "كازانوفا"؛ عندما أخبرتكَ عنها شادن؛ قرأَتْها من كتاب تُطالعه قبل سنوات؟".

-"نعم أذكُر.. وقتها لم أُعِرْها اِهْتمامًا كافيًا، عندما ذكَرَت لي اِسْمه؛ اِسْتغربتُ الاِسْم، ومع ذلك مازال صداه يتردَّد في ذهني من حين لآخر؛ وعلى الأخصِّ اِسْمه الأوَّل؛ هو مدعاة لعدم نسيانه أبدًا، فمع كلِّ رشَّة عطر من (جاكومو)، تنتَعِش أسراب من الذِّكريات.. والشيء بالشَّيء يُذكَر".

-"هذا دليل بأنَّ ذاكرتكَ في حالة جيِّدة".

-"ليس بالضَّبط كما تذهب بكَ ظُنونكَ بعيدًا يا صوت النَّحْس، وما الذي أثاركَ حتَّى تتدخَّل في أمر خاصٍّ بي؟".

-"حقيقة ما أثارني..!!؛ إذا كان "كازانوفا" زير النِّساء الأشهَر في التَّاريخ الفضائحيِّ على مُستوى العالم، لم يترَّدد أو يستَحِ من نشر خُصوصيَّاته على الملأ منذ زمان بعيد. أتريدُ أن تُفهِمَني بأنَّ أسراركَ أشدُّ تأثيرًا من أسرار كازانوفا؟.

على العكس تمامًا، برأيي الخاصِّ: أن يكتُب إنسان مُذكَّراته أعتبره شُجاعًا، لأنَّه يتشارك خصوصيَّاته معهم، ويجعلها مُتاحة وبين أيديهم، فما بالكَ إذا كانت حياته الخاصَّة بأسرارها الدَّفينة خلف أسيجة الخوف من نظرة الآخرين..!!".

-"أهذا رأيكَ النِّهائيِّ؟".

-"بكلِّ تأكيد يا مهيار، خُذ مثلًا هذا النصّ من مُذكَّرات ذلك المأفون "كازانوفا"، بتسويق فكرة الخُرافات الشعبيَّة، التي لا يجد لها العلم تفسيرًا، قضيَّة اِعتقاديَّة غامضة:

(أما أنا ، فلم يستيقظ ذهني الواعي قبل أوَّل أُغسطس سنة ١٧٣٣، حين كان عمري ثماني سنوات وأربعة شهور. فقد كان إدراكي مُغلَقًا قبل ذلك، وكلّ الذي أذكره عن هذا التاريخ ، هو أنَّني كنتُ أقفُ مُستَنِدًا إلى الجدار في رُكنٍ من غُرفة، وأنا أُحملِق في سَيْل من الدمِّ أخذ يتدفَّق من أنفي، وأسعفتني جدَّتي: مارتسيا - وكنتُ أثيرًا لديْها مُدلَّلًا - ثمَّ أخذتني دون أن يفطن أحد إلى جزيرة على مسافة نصف فرسخ من البُندقيَّة*[26]، حيث ولجت بي بيتًا كأنَّه الجُحُر، وجدنا فيه عجوزًا تهامست معها جدَّتي بُرهةً ، ثمَّ دسَّتْ في يدها قطعة نقديَّة؛ ففتحت العرَّافة صُندوقًا وأرقدتني فيه، ثمَّ أغلقته على وهي توصيني بأن لا أخاف ... ولم أحفَل بالأصوات التي أخذتُ أسمعها، وأنا في الصندوق: ضَحِكٌ ، وبكاءٌ ، وغناءٌ ، وصرخاتٌ ، وطَرِقاتٌ .. ثمَّ رفعتُ من الصُّندوق أخيرًا، وقد توقَّف النَّزيف، وأرقدتني العجوز على فراشها، وخلعت عنِّي ثيابي، وأشعلت بعض الأعشاب، وأخذت تتلقَّى دُخانها في قطعة من قماش؛ لم تلبث أن لفَّتْني بها، وهي تتلو بعض التعويذات .. ثمَّ أعطتني خمس قطع من الحلوى، وأخذت تُدلِّكُ صِدْغي وقَفَايَ بزيت عَذِب الرَّائحة، وأنبأتني بأنَّ النَّزيف لن يلبث أن يُفارقني رويدًا، على شريطة أن لا أُفضي لأحد بشيء ممَّا جرى، وإلَّا تسرَّب منِّي كلَّ دمي، وَمِتُّ ... كذلك قالت لي: إنَّ سيِّدة جميلة ستزورني خلال اللَّيل وتُسعِدَني، بشرط أن لا أُصارح أحدُا بشيء أيضًا.. وما كنتُ بحاجة إلى هذه التحذيرات في الواقع، إذ لم يكن لي أصدقاء أروي لهم أسراري!)*[27].

-"برأيِكَ، وهل كانت العجوز تعلمُ أنَّ العِلاج بالإيحاء والتَّهويم، بما تستطيع من ذكر أشياء غير منطقيَّة أبدًا، وماذا لو حكى لأحد..!! إذ أقنعته بأنَّ دمه سينزف ويموت".

-"تخيَّل يا مهيار بأنَّها لم تصنع له سحرًا. ببساطة شديدة تفرض سيطرتها على عقل الشَّخص الذي تُعالجه، فيخرج من عندها بيقين لا يُخالف تعليماتها، خوفًا من حدوث أيِّ مكروهٍ؛ اِفْرض مثلًا: نفسكَ مكانه؛ فهل كنتَ ستلتزم بتعليماتها".

-"بكلِّ تأكيد فلا مجال للمُجازفة، من المُمكن وعلى الأغلب، أن تكون مُرتبطة بالجنِّ، ويُخبرونها، لتنتقم ممَّن يُخالف تعليماتها، ولا نيَّة لمريض مخالفة توصيات الطَّبيب، لأنَّه يريد الشِّفاء ومُغادرة الوجع والألم".

-"أفهمُ من حديثكَ يا مهيار بأنَّك ستُسلِّمها عقلكَ بلا مُحاكمة، وتسير في ركب القطيع".

-عليكَ اللَّعنة.. ألا تستطيعُ السُّكوت عن أمر..؟ كأنَّك فضيحة تُلازمني. اُتركني وشأني".

اِخْتفى الصَّوت الدَّاخليِّ، واِنْكفأ مهيار على نفسه يحتسي مرارة الخيْبة، وأغلق جهازه بعد أن اِنْتبه إلى ساعة الحائط فوق رأسه، الوقتُ تجاوز الثانية بعد مُنتَصَف اللَّيل، لم يتبقَّ أيّ شيء يفعله. شعور بالإرهاق من الجلسة الطَّويلة خلف الطَّاولة، عَرَك عَيْنَيْه؛ لتنشيطهما من أثر الكسل بالتركيز، وإضاءة شاشة الحاسوب.

تذكَّر مهيار بعضًا من مغامرات "كازانوفا" الجنسيَّة في أيِّ مكان كان يحلُّ فيه، من فوره يبحث عن امرأة؛ كأّنَّه صيَّاد ماهر، لا يتردَّد برمي شِبَاكه، ولو في غدير ماء ضَحْلٍ على عمق عشرين سنتمتر.

-"أوه..!! كيف لم أنتبه لكلام شادن؛ أثناء جلساتنا بعد الغداء أو في المساء، إلى أن جاء الصَّوت الدّاخليِّ بكلامه فَهَزَّ أعماقي، وزلزلها. في لحظة مُراجعة للماضي أيقنتُ بأنَّ كُلَّ الأشياء التي تمرُّ في الحياة؛ ما هي إلَّا علامات على الطَّريق، كان الأجدر بي أن لا أُهملها. وما أنا كساعٍ للبريد، من ذاك الأسطورة العالميَّة "كازانوفا".

بهذه النُّقطة أصابَ ذلك الصَّوت الكَّريه الذي لا أُحبُّه على الإطلاق، كلامه غالبًا ما يأتي صادِمًا، بمُغايرته للمألوف في واقعنا اليوميِّ، أشياء بسيطة تمرُّ بنا ولا نُلقي لها بالًا، نظنُّها ثرثرة تطير مع أوَّل هبَّة ريح.

الآن.. الآن أدركتُ، أضحكُ على نفسي من سذاجتي، عند تفسيري المُسطَّح للأشياء، وأغفل عن قراءة البُّعد الثالث الأعمق، وما وراء السَّطح الرَّاكد بجُموده غير القادر على التبدُّل.

بنفسي قَوْل أشياء أُخفيها، ولم أُخبِر عنها الصَّوْت الدَّاخليّ. ولن أكتبها في الرِّواية..، ولن أجعله يعرف شيئًا عنها؛ أخيرًا.. وعلى مَضَضٍ اِعْترفتُ له بصواب رأيه وطرحة المائل لمصلحتي".

..*..

 

(12)

 

(الصَّوت الدَّاخليُّ):

بصراحة لا أثق بمعلومات مهيار التَّاريخيَّة الضَّحلة، بما يخصُّ صناديق البريد، حسب معرفتي به، وبطريقة تفكيره، سأتركه هناك يحتسي مرارة ما بعد التَّقاعُد والبطالة التي يُعانيها، ولولا اِعْتماده على معلومات شادن، فيما لو اِبْتدأ بكتابة الرِّواية، لن أتردَّد بمُراقبته خوفًا من وقوعه في سَقَطات قاتلة، ربَّما تُسقط الرِّواية بأكملها، وتفشل أولى مُحاولاته.

لكن سأضعُ نَصْب عَيْنيَّ شادن، لاِسْتثمار مخزونها المعلوماتيَّ المُتعدِّد الأوجُه. إنَّها ثروة ثقافيَّة على مُستوى رفيع، أجزِمَ قاطعًا.. أنَّه باِسْتطاعتي  وَصْفَها: بالثَّروة الوطنيَّة.

ليس من الوفاء أن أستأثر باِدِّعائي بأنَّني الكاتب الوحيد في هذه الرِّواية. ولا أريدُ هضم حقِّ شادن بأن تكون شريكتي؛ بما دوَّنتُ ممَّا سمعتُه منها أثناء نقاشاتهما المُتكرِّرة مع زوجها.

صبورةٌ دؤوبة على مشروع قراءاتها، لا تُبدي ملَلَها إطلاقًا، بل أسعد لحظات يومها؛ عند اِنْزوائها في زاوية من زوايا البيت، إذا وجدت وقت فراغ فلا تُهدِره، قاعدتها الذَّهبيَّة (اِسْتثمار الوقت).

ذات مرَّة قالت: (المُعلِّمات منذ بداية دخولي للمدارس عندما كنتُ طفلة صغيرة. جميع المُعلِّمات والمُدرِّسات دائمًا ما يُردِّدن على مسامع الطَّالبات: "الوقت كالسيَّف إن لم تقطعه قطعك" -تضحك بصوت عالٍ، بمُجرَّد ما تنتهي من كلمة قطَعَكَ - تقولُ: كنتُ أتخيِّلُ الوقت يمتلكُ سيفًا حقيقيًّا؛ يقطع به أجزاء الجسم كما يفعل الجزَّار، إلى هنا تبدو الأمور معقولة.

أمام مُعضلة التَّساؤل الأهمِّ: "كيف أستطيع قطع السَّيف الحديديِّ الصَّلب". وحينما أتخيَّلُ يَدَ لجزَّار المُلوَّثة بالدِّماء أُصَاب بالرُّهاب؛ فأنْكَمِشُ على نفسي، وتنقبض أحشائي لدرجة شعوري الغامض بالمغْص المَعَويِّ.

..*..

 

 

 

(الصَّوت الدَّاخليّ):

برأيي أنَّ مهيار قد وصل إلى النُّقطة العمياء. النُّقطة صفر. بلا شكٍّ بأنَّها مُربِكَة مُرتَبِكة. حائرة مُحيِّرة فيها تفاصيل جديرة بالتساؤل.. لاِسْتكشاف مُعطياتها. وإذا وصل شخص للنُّقطة العَمْياء؛ فهو دليل جهل بمعطيات كثيرة.

فأكثر المسائل لا تحتاج للتَّعب الكثير من أجل فهمها على شكلها الصَّحيح، ولا إلى تأويل وتدليل.. بينما الأقلّ منها، هي التي تحتاج للشَّرْح والتأويل، للتدليل على بعضٍ من غُموضِها، وتَيْسير سُبُل فهمها، حتَّى يُمكن تطبيقها على أرض الواقع.

تحضرني قصَّة حصلت في بريطانيا؛ كنتُ قد سمعتها منذ زمان بعيد، لا أذكر أين... ولا من حكاها أمامي:

-"أنَّه في شهر التاريخ الأسود*[28] قامت الحكومة البريطانيَّة بِطَلْيِ أربعة صناديق بريد باللَّون الأسود؛ تكريمًا لمُواطنين بريطانيِّين من السُّود، منهم (السير. ليني هنري) ورائدة التمريض (ماري سيكول)، وكذلك طُلِيَت صناديق البريد الملكي في العاصمة لندن وثلاث مدن أخرى، في إطار شهر التاريخ الأسود في أكتوبر.

لمن يُلاحظُ الأمر ولا يقرأ إلَّا ظاهره، لا بُدَّ من أن يُثني بحماس على الخُطوة الإيجابيَّة، في تتبُّع مسارات العدالة والمُساواة على الصَّعيد الإنسانِّي. بينما في حقيقته ما هي إلَّا مُحاولة تضليليَّة، بتغيِّير لَوْن صناديق البريد من الأحمر إلى الأسود. ليس لمحو العار الاِسْتعماريِّ البَشِع لأفريقيا، واِسْتعباد البشر فيها، ولا تعدو هذه الخطوة إلَّا أن تكون تجميليَّة للوجه القبيح، لمن استباحوا القارَّة السَّوداء، وارتكبوا أبشع المجازر في التاريخ، ونهبوا ثرواتها لتعيش شعوبهم برفاه، وأنشؤوا تجارة العبيد، وبيعهم في أسواق النِّخاسة.

القبيح سيبقى قبيحًا لو جلَّلته أَرْدِية الحرير المُذهَّبة. الأقنعةُ ستسقُط عن الأقنعة، وإذا سَقَط القِنَاع عن القِناع، ربَّما تتكشَّف بعضًا من حقائق خفيَّة.

..*..

 

الهند المستعمرة الأكبر والأضخم لبريطانيا، كان اللون الأحمر لصناديق البريد البريطانية جزءًا لا يتجزَّأ من الطَّابع المُميَّز للخدمة البريديَّة، في أوائل الحقبة البريطانيَّة، اِسْتُخدمت الصَّناديق المطليَّة باللَّون الأخضر.

ولمَّا تعالت الأصوات بالشَّكاوى بأنَّها غير مُلْفِتة للنَّظر، وغير مُلحوظة بِجَلاء دون عناء. بينما الكثير من الأشخاص يجدون صعوبة في العثور عليها. بعد الدِّراسات أعادوا استخدام اللون الأحمر لصناديق البريد، بعد أن أخذ الأخضر مكانه لسنوات عشرة, وكان ذلك حوالي عام (1874).

التوهُّج الذي حظي به اللَّون الأحمر عبر التَّاريخ؛ وفي بعض المجتمعات يعشقونه بجنون، وفي بعضها الآخر يُصبح نَوْعًا من أنواع التندُّر لِطَرافة اِسْتخدامه غير المعهود عندهم؛ فاِعْتبارًا من الألبسة النِّسائية على الأخصِّ، إلى طلاء الشِّفاه المكان الأبرز في الوجه، وما الذي يُمثِّله من الأماني والرَّغبات في التَّواصل بشتَّى طُرُقه. وميِّزته بأنَّه أعلى طول مَوْجي، وأقصَر تردُّد، ممَّا يجعله مرئيًا من مسافة بعيدة.

..*..

لُعبَة الأشكال والألوان تقتحم الأمكنة بِفَجَاجة، مُحاولات التغيِّير تجري ببطء شديد. الاِعْتياد على الأشياء؛ يُولِّد أُلفة بينها وبين مُحيطها.

الذين يرسمون ويُخطِّطون حياة الشُّعوب، يشتغلون على مشاريعهم بصبر وأَنَاةٍ، بلا مَلَلٍ ولا كَلَلٍ. ينتظرون، ويوغلون في اِنْتظارهم لاِقْتناص اللَّحظة المُنتَظَرة، ويأتي الوقت المُناسب للبدء والاِنْطلاق.

تبايُنات ألوان لصناديق البريد أصبحت قضيَّة في لُبِّ التَّاريخ العالميِّ، على اِعْتبار أنَّ جميع دُوَل العالم اِسْتخدمتها في خدمة البريد، وأصبحت سِمَة دالَّة على التحضُّر، والتواصُل بين الشَّرق والغَرْب، والشَّمال والجنوب. أهميَّة الصَّناديق بمادَّتِها الأولى في الرَّسائل، التي كانت حاجة النَّاس الضَّروريَّة، ولله في خلقة شؤون.

وتعدَّدت الألوان ما بين الأخضر والأسود والأحمر، ولا أميلُ للبحث للاِسْتغراق التاريخيِّ، أو الغوص في مُستنقعاته المُميتة، وإغراق الوقت؛ فلا أشكُّ أن تقوم دولة مثل سويسرا مثلًا، بإنشاء مُتحَفًا مُتخصِّصًا بقضايا البريد وصناديقه وأدواته، وأشكالها وأحجامها.

في سويسرا تُنشأ المتاحف على مُختلف أنواعها بقصد الاِسْتثمار التجاريِّ، للأعداد الهائلة التي تَفِد إليهم بقصد السِّياحة والاِسْتجمام.

..*..

 

-"في المقام الأخير يجب أن أسأل مهيار عن الصُّعوبات التي واجهها في وظيفته، ومَتَاعِبه، عندي شعور أكيد بأنَّ مشاكل العمل كثيرة؛ وبالتالي هي مُعاناة إنسانيَّة، لكلِّ من اِشْتغل في مهنة ساعي البريد، وجَمَع الرَّسائل من الصَّناديق، وإعادة توزيعها". قال الصَّوت الدَّاخليّ.

مهيار مشغول بتجهيز نفسه وفي عجلة من أمره. لا يردُّ على أسئلة شادن المُتكرِّرة، في العادة إذا ما أراد الخروج لأمر ما. بعد العصر عادة ما يكون هو الوقت المُفضَّل عنده. اليوم، وعلى غير العادة بَكَّر بما لا يقلُّ عن ساعتيْن عن مَوْعده المُعتاد. خمَّنَتْ شادن أنَّه مدعوٌّ لحفلة غداء:

-"إلى أين..؟. هل تستطيع اِنْتظاري؟. بسمة ستعود بعد ساعة، وسنخرج معًا. غدًا عُطلتها الأسبوعيَّة".

مُنْهَمِكٌ في اِرْتداء ملابسه.. يبحثُ عن المشط، لم يجده على رُفِّ مرآة المِغسَلة، بنزق غير مُفتَعل:

-"شدن.. أين المِشط يا شدن؟".

من فورها قامت إلى الغُرفة المُجاورة، وعادت، بصوت خفيض:

-"تفضَّل".

تناوله ولم يلتفت إليها، بدأ بتسريح شعره الكثيف، المُوشَّى سواده بتواشيح بيضاء، ربَّما تتقاسم نصف السَّواد. ما إن اِطْمَأنَّ إلى تصفيف شعره بالشَّكل الذي يروق له.

بخُطُوات سريعة دخل غرفته، لم ينس رُشاشة (جاكومو) عطره المُفضَّل. تنزلق رذاذات الـعطر على وجهه، لم يتمالك نفسه من صدمة الشَّهقة العميقة، لم تسمعها شادن. وكأنَّما نَفَاذ العطر إلى حاسة الشمِّ، أيقظَ كوامن دواخله المخبوءة بشكل مُفاجئ.

اِرْتباكُ اللَّحظة ألجَم لسان شادن، توقَّفت عن طرح المزيد من أسئلتها، تفهَمُ نَزَقَه ما إذا كان مشغولًا بشيء؛ فلا يحتمل المزيد من الأسئلة والردِّ عليها، أو التفاعُل مع أيِّ كلام. كأنَّ (مُخَّه مُبَرمَج باتِّجاه واحد)، على حدِّ زعم شادن في حديث جانبيٍّ ذات مرَّة مع صديقتها أثناء اِسْتراحتهنَّ في غرفة الإدارة.

يومها المُديرة غابت لسبب قاهر. وما السَّبب الذي هو أقوى من الموت حتَّى جعلها تتغيَّب..!! بموت أبيها أخذت أُسبوعًا كاملًا. قبل ذلك، وعلى مدار السَّنوات السَّبع لم تغِب أبدًا منذ أن تسلَّمت مهام الإدارة.

نائبتها أقرب إلى اللُّيُونة بتعاملها الرَّقيق المُؤدَّب.. ودماثة خُلقها،، وحلاوة لسانها؛ فقد اِكْتسبَت اِحْترام جميع زميلاتها مع المُعلِّمات، اللَّواتي يُجاملْنَ المُديرة؛ خَوْفًا من العقوبات التي تُؤخِّر الترفيعات، والتأنيب بألفاظها الفظَّة، وخصم من الرَّاتب. الشدَّة وحدها لا تكفي في الحياة.. اللُّيونة لها جانب يجب أخذه بعين الاِعْتبار.

..*..

 

 

على الرَّغم من قلقها لتأخُّره. شادن لم تُفكِّر للحظة واحدة بالاتِّصال به، كي يهدأ قلبها إذا ما اطمأنَّت عليه، لكنَّها تعلم في دخيلة نفسها، أنَّه يتضايق لو فَعَلت:

-"سأدعه يُمارس حريَّته الشَّخصيَّة على طريقته، الأهمُّ أن يكون مسرورًا بلا عوائق ومواعيد مُحدَّدة".

السَّاعة الثَّانية عشرة فتح باب البيت بهدوء، وما إن وطئت قدمه عتبت البيت؛ حتَّى لمَح نور غُرفة "باسم" قد أعتم تزامُنًا مع دُخوله، أمَّا غُرفة "بسمة" مُطفَأة والسَّتائر مُسْدَلة، منذ صغرها لا تستطيع النَّوم مع وجود أيِّ إضاءة ولو خفيفة، فكانت والدتها شادن تصنع لها عتمة في سريرها، واِعْتادت على ذلك عندما كبُرَت.

دخل غرفة نومهما بهدوء عندما أغلق الباب خلفه، ظنًّا منه أنَّ شادن غارقة في نَوْمها. الكتاب الذي بين يديْها في صفحاته الأخيرة، فقالت:

-"إنَّني على وَشَك الاِنْتهاء من الكتاب، صفحاته الأخيرة، الحمد لله اِنْتهى ضمن موعده المُحدَّد في ذهني، بل قد سَبَق الموعد بيوميْن".

-"القراءة تحتاج لوقت يا شدن".

-"نعم.. نعم أستَثمِرُ الفراغ أفضل اِسْتثمار، لشعوري الغامر بأنَّني أنجزتُ شيئًا مُفيدًا. مُعظَم زميلاتي المُعلِّمات والمُدرِّسات، يُتابعن مجموعات الطَّبخ والموضة والفن. هذه الأشياء لا تستهويني على الإطلاق..!!".

خلع ملابسه وعلَّقها، وقبل أن يرتدي لباس النَّوم تقدَّم إلى حافَّة السَّرير، وطَبَع قُبلة على جبينها، ورَاق له أن يتعمَّق. لا مُبالاتها.. وعدم إظهار أيَّ تفاعُل؛ أوقف زحفه، بل بَقِيَت مُنسجِمَةً بمُتابعة القراءة، وكأنَّ شيئًا لم يحصل.

..*..

 

بُعَيْد الظُّهر بقليل صحا مهيار، كان مُفعمًا بالحيويَّة ملامحه تحكي هذا، قصدَ الحمَّام أوَّلًا.. باشرت شادن بوضع دلَّة القهوة (الستانلس ستيل) لإعداد فنجان القهوة الصَّباحيِّ، الذي تأخَّر لهذا الوقت. صفة الصَّباحي تبقى تُلازِمه كونه الأوَّل لهذا اليوم، بينما هي مشغولة بتحضير مُكوِّنات طبخة المقلوبة التي طلبتها "بسمة" منها مساء البارحة.

مهيار لا يُعارضها أبدًا في أيِّ طبخة تُريد تقديمها، فقد اِعْتاد أن لا يطلُب منها شيئًا، بخصوص ما يُحِبُّ ويرغب. ودائمًا ما كانت شادن تسأله وتُطالبه وتتمنَّى أن يُوجهها إلى طبخةٍ مُعيَّنةٍ يشتهيها، ولم يفعل منذ زواجهما، كلمته المشهورة:

-"طعامُك كلُّه لذيذ، وأحبُّه. ونفَسُك طيِّب ويظهر فيما تطبُخين. واِخْتياركِ دومًا مُوفَّق، ويتوافَق من ذَوْقي".

رائحة القهوة عابقة في صالة البَيْت، وتتسرَّب هاربة إلى فناء الجيران. بعبَق الهال الزَّائد الذي يُحبّه مهيار؛ فحينما يشتري البُنَّ يطلبُ من البائع زيادة كميَّة الهال؛ ليُصبح مذاقها حرِّيفًا ظاهرًا.

ما إن مالَت الشَّمس للغُروب، كعادته خرج إلى البرندة؛ جاءه فنجان قهوة المساء، اِعْتاد هذا الطَّقس منذ زَمَن بعيد، يجلس صامتًا يتأمَّل العابرين للسَّاحة، والأولاد لا يتوقَّفون على صُراخهم، وهم يركضون خلف الكُرة، لتسجيل هَدَفٍ في مرمى الخصم.

صورة لقاء الأمس مع صَديقَيْه "سعدو" و "سليمان"  الأثيريْن لنفسه. صداقات الوظيفة أو العمل كثيرًا ما ترتقي، لتصل درجة قريبة من درجة الأُخوَّة.

كأنَّ الصَّوت الدَّاخلي يتربَّصُ لالتقاط طرف الحديث، ليُمسكه من خُنَّاقه، ما إن وضع مهيار فنجان قهوة وشَفَط نفَسًا عميقًا من سيجارته، حتَّى بادره:

-"يا مهيار.. الرِّواية أوشكت على النَّهاية. أحبُّ أن تختمها بالمصاعب والطَّرائف  التي حصلت لك خلال وظيفتكَ".

-"كأنَّكَ تُريدُ الفضائح..!! وتجعل منِّي أُضحوكةً للنَّاس".

-"ومن قال لكَ ذلكَ.. يا مُغفَّل. أتريدُ مُعاندتي في كلِّ مرَّة، ولو تذكُر عندما ضربتُ لكَ مثلًا بــ(كازانوفا) المُفَضَّحْ. وتأكَّدتَ بنفسكَ أنَّ ما تكتبه؛ سيكون لإبراء ذمَّة التَّاريخ".

هزَّ مهيار برأسه مُوافقًا، كأنَّما تذكَّر كلام الصَّوت الدَّاخليّ، وقال:

-"حاضر؛ سأفعل عن طيب خاطر، ولَسْتُ مُكرَهًا على البَوْح".

-"حسنًا .. هاتِ ما عندكَ..!!".

-"عليك اللَّعنةَ.. لِشُعوري العميق بإكراهي.. وجعلتني مُتناقضًا مع نفسي، اِزْدواجيَّة النَّظرة.. مرَّة أقول لستُ مُكرَهًا، وفي الحقيقة أكذب على نفسي قبل الكذب على الآخرين ممَّن سيقرؤون هذه الرِّواية، ولكنِّي إذا قُلت غير ذلك".

اِنْخرَطَ مهيار في حديث طويل. شادن أثناء مُغادرتها الشُّرفة وعودتها إلى الدَّاخل، لم تلحظ شيئًا غير طبيعيٍّ طرأ على زوجها. كانت ساهِمَةً في لُجَّة أفكارها لم تطلب منه أيَّ طلب، ولم تفتح بابًا للنَّقاش معه.

..*..

 

تباعَد الزَّمان بي عن أيَّام عملي الأولى، وضاع الكثير من ذكرياتي على أعتاب النِّسيان، ليس إهمالًا بل إنَّها تَبِعات العُمُر، واِخْتلاف الأولويَّات والاِهْتمامات؛ فكُلَّما تقدَّم المرء مثلي في السنِّ، تنشأ أشياء جديدة، وتتراجع أخرى إلى مراتب متأخِّرة في زوايا الذَّاكرة المُعتِمَة، والحاجة إليها لم تعُد ضرورة.

أذكُر أنَّ عبث الأولاد، فلا أُشبِّهَهم إلَّا بالشَّياطين، لا أدري من أين يأتون بأفكارهم الشَّيْطانيَّة، فكيف خطرت لهم فكرة حَشْوَ أحد الصَّناديق بقطع الكرتون، يجمعونها من حاويات وبراميل الزِّبالة. الأمر تكرَّر مرَّات ومرَّات. لكن الأخطر ذات مرَّة وجدتُ ضفدعة مع الرَّسائل، وأخرى فأرة, ومرة وجدتُ عصفورًا حيًّا، وأفعى صغيرة لكنَّها من البلاستيك.

وأشدَّ ما كان يُفرحني غَزَل بنات المدارس البريء، برسائل الإعجاب والحُبِّ من طرف واحد، وجميع الرَّسائل بلا أسماء من أرسلنها، بالطَّبع لا عناوين أيضًا، بل جميع الرَّسائل كانت بتوقيع المُحِبَّة.. المجنونة بحبِّكَ.. الهائمة.. المفتونة.. ذات الخمار الأسود.. وأخرى ذات الشِّفاه الرَّقيقة.. وكثير من الأوصاف. هذه أبرزها، وما اِسْتحضَرتُه الآن.

وما كان يستنفذ ما بِحَوْزَتي من اللَّيرات الورقيَّة والمعدنيَّة وأجزائهما، تلك الرَّسائل التي نَسِي أصحابها وضع الطَّوابع عليها، أو عليها لصيقة طابع أقلَّ من المطلوب، وهذا ما حدث كثيرًا في الرَّسائل خارج القُطر.

أمَّا رسائل العُشَّاق عبر البريد، فقد كانت قليلة جدًّا، وحدث أنَّ مَهْوُوسًا أرسَلَ عبر صندوق البريد رسالة إلى حبيبته، وعندما وصلت الرِّسالة التي أحدثت مُشكلة، حينما اَسْتلمها الأخ الأكبر للبنت، حيث نالَت جزاءها من الضَّرب والحرمان من مُتابعة الدِّراسة.

ولولا لُطف الله لكانت حدثت جريمة قتل، لمن اِنْتهكَ حُرمتهم، وأرسل تلك الرِّسالة. تدخُّل أهل الخير؛ مَنَع حدوث صِدَام أو اِنْتقام.

ولا أنسى رسائل هُواة المُراسلة تأتيهم الرَّسائل بشكل دوريِّ، وهُناك هواة الكتابة يراسلون مُحرِّري الصُّحُف والمجَّلات الثَّقافيَّة. هاتيْن الفِئَتيْن جميع رسائلهم تُفتَح وتُقرَأ من الرَّقابة، ثمَّ يُعاد إلصاقها بطريقة فنيَّة.

أمَّا المقالات التي يُرسلها الكُتَّاب والصحفيُّون المُستَكْتَبين في صُحُف ومجلَّات خارجيَّة، هذه لا نِقاش فيها فهي على صدارة لائحة الرَّقابة، لا يُمكن تفويت رسالة، إلَّا بنسخها طبق الأصل على آلة التَّصوير، وحفظها في ملفَّات سريّة للغاية في مكتب "علي حسن" ومن كان قَبْله. هذه الرَّسائل كنتُ أجمعها في مُغلَّفٍ خاصٍّ، إلى جانب مُغلَّفٍ آخر لفئة الهُواة السَّابقة.

أمَّا الفئة الأخطر على الإطلاق، والتي توضع في مغلف آخر، هو لمن أوصى بأسمائهم "علي حسن"، وعلى الأخصِّ فئة المشايخ والمُتديِّنين، والذين يُشَكُّ في اِنْتمائهم للجماعات الدِّينيَّة والإخوان المُسلمين الممنوعة، أو لمنظَّمة العمل الشُّيوعيِّ. أو أي تنظيم آخر غير تنظيم حزب البعث.

بصراحة.. فإنَّ أكبر مُنغِّصات عملي كانت تأتيني من  رسائل هذه الفِئات، وغيرها. ممَّا لم أفطن لها في هذا المقام. لا مجال للخطأ البسيط.. مثَلَي مَثَلُ العسكريِّ المٌتخصِّص بتفكيك الألغام. والأسوأ من ذلك كُلِّه العناوين المكتوبة بخطوط سيِّئة.    

 

 

 

 

 

بعون الله وتوفيقه

 

تمت

 

رواية "صندوق بريد"



[1] مثل شعبي مُتداول بهذه الصِّيغة أو قريبًا منها، مع مراعاة اختلاف روايته من منطقة لأخرى.

[2] محمود درويش (13 مارس 1941 – 9 أغسطس 2008،أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن.

[3] الكُسَعِيّ واسمه الكامل محارب بن قيس الكسعي، هو رجلٌ يُضربٌ به المثل في النَّدامة، فيُقال «ندمتُ ندامة الكُسعي». يُنسب إلى كُسَع (قبيلة في اليمن). نقلا عن ويكيبيديا.

 

[4] أَبُو فِرَاسٍ هَمَّامُ بْنُ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْمُجَاشِعِيُّ التَّمِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ المعروف بِالْفَرَزْدَقِ هو شاعر عربي من النبلاء الأشراف، من أهل البصرة، ولد ونشأ في دولة الخلافة الراشدة في زمن عمر بن الخطاب عام 20 هـ في السيدان من بادية البصرة بالقرب من كاظمة في ديار قومه بني تميم، وبرز واشتهر في العصر الأموي, وساد شعراء عصره. نقل عن ويكيبيديا.

[5] متلازمة التراجع الذيلي ‏ وتسمى أيضًا متلازمة الانحدار الذيلي أو عدم التخلق العجزي وهو مرض نادر وعيب خلقي يحدث فيه غياب العجز والعصعص مع تشوهات للفقرات القطنية مما يحدث اضطرابا بالمعصرات التي يوجد فيها. وتتميز بنمو غير طبيعي للجنين لبعض الاجزاء وخاصة في الجزء الأسفل من العمود الفقري وعدم اكتمال أو عدم وجود للحوض. ويكيبيديا.

[6] هَمْبَكَهْ ليس لها جذر لغويٌّ في العربية. من الممكن أن تكون أصولها من اللغة التركية أو الفارسية. وهي من العاميَّة المُستخدمة على نطاقات واسعة؛ للدلالة على النصب والاحتيال، الهمبكه نمط من سلوك في القول والعمل يزدهر في سياقات الفساد أو سياقات من السخرية والأقرب إلى الانتهازية.

 

[7] حادثة أبي حيَّان التوحيديِّ لحرق كتبه، ذُكرت في كتاب "طبقات اللُغويِّين والنُّحاةللإمام جلال الدين السُّيوطي.

[8] فيلم المصير من إخراج يوسف شاهين.

[9] المصير فيلم للمخرج المصري يوسف شاهين من إنتاج سنة 1997. تدور أحداث الفيلم في الأندلس في القرن الثاني عشر. حول سيرة الفيلسوف ابن رشد. قاضى قضاة "كوردوبا" في إسبانيا.

[10] في القرن 12 الميلادي في الأندلس حيث يحكم الخليفة المنصور، ولمَّا دبَّ الضعف في الدولة العباسية في هذه الفترة. تولى مقاليد الحكم "الناصر" الابن الأكبر للمنصور؟.

[11] برزة البلدْ، وعش الورور. منطقتان متجاورتان في الجهة الشماليّة الشرقيّة، وهما من ضواحي مدينة دمشق.

[12] أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ                                     وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ \ قالها أبو الطيِّب المتنبِّي

[14] بول بنيامين أوستر ، هو كاتب روائي ومُخرج أمريكي مولود في 3 فبراير 1947. كتاباته خليط بين العبثية، الوجودية، أدب الجريمة والبحث عن الهوية والمعاني الإنسانية. أبرز أعماله ثلاثية نيويورك، قصر القمر، موسيقى الصدفة، كتاب الأوهام و حماقات بروكلين. تُرجمت كتبه لأكثر من أربعين لغة.

[15] رواية للأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا، نشرها على جزئين بين أعوام 1605 و1615. اشتهرت الرواية بين العرب بالعديد من الأسماء مثل (دون كيشوت) و(دون كيخوته). تعد واحدة من بين أفضل الأعمال الروائية المكتوبة قبل أي وقت مضى، واعتبرها الكثير من النقاد بمثابة أول رواية أوروبية حديثة وواحدة من أعظم الأعمال في الأدب العالمي، والتي تم ترجمتها إلى العديد من اللغات الأجنبية.

[16] محمد توفيق البجيرمي (12 يناير 1938 - 27 ديسمبر 2013 إعلامي فلسطيني الأصل أقام في دمشق. حمل شهادة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي. لفتة طويلة قدَّم برنامج(طرائف من العالم) في التلفزيون العربي السُّوري.


[17] كلمة "طنَّش" تعني "تجاهل" أو "لا تعبأ" أو "لا تلتفت"تستخدم للتعبير عن عدم اهتمام بشيء ما، أو شخص ما، أو عدم اكتراث لما يحدث. تُشير بعض المراجع إلى أن كلمة "طنَّش" قد تكون مُشتقَّة من اللغة القبطيَّة، حيث كانت كلمة "طانشا" تعني "يُنسى" أو "يتجاهل".

 

[18] الفقرة مقتبسة من كتاب: هروبي إلى الحرية. تأليف: علي عزت بيجوفيتش. الرَّئيس البوسنيِّ السَّابق.

 

 [19] تعبير شعبيٌّ شائع يتردَّد على ألسنة العامة، أثناء الحديث عن شخص مثلا يدخل بيتًا أو مكانًا بغير استئذان وبدون تنبيه، ويُقال في مجالات أخرى، مثل الدخول بحديث تَطَفُّليٍّ مُفتَعَل مع شخص لا يعرفه.

[20] ما وراء علم النفس أو علم النفس الموازي هو دراسة الظواهر الفيزيائية المزعومة؛ الإدراك خارج الحواس، كما في التخاطر، والاستبصار، والجلاء البصري، والتحريك.

[21] بطاقات زينر (بالإنجليزية: Zener cards)‏ هي بطاقات تستخدم لإجراء التجارب عن إدراك خارج الحواس. صمم عالم النفس الإدراكي كارل زينر (1903-1964) البطاقات في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي للتجارب التي أجريت مع زميله، اختصاصي علم ما وراء النفس جوزيف بنك رين (1895-1980).

[22] مقهى الروضة تأسس في 1938في وسط مدينة دمشق في شارع العابد. قريبًا من مبنى البرلمان، وقد أسسه "عبد الرحمن المرادي" عندما قام بتحويله من مبنى سينما صيفية إلى مقهى، على نمط مقهى الحجاز في شارع النصر. وهو مكان يقصده العديد من المثقفين والكُتاب والفنانين.

[23]جون آدامز الابن‏.  هو سياسي أمريكي شغل منصب الرئيس الثاني للولايات المتحدة (1797-1801)، وأول نائب للرئيس (1789-1797وكان محاميا ودبلوماسيا ورجل دولة ومنظرا سياسيا، وهو أحد الآباء المُؤسّسين للولايا المُتّحدة،  وكان زعيم حركة الاستقلال الأمريكيَّة عن بريطانيا العظمى.

[24] المقصود بالإشارة هي أغنية المطربة فيروز (أنا لحبيبي وحبيبي  إلي). القصيدة من كلمات وألحان الأخوين رحباني 1995

[25] جُبْران خليل جُبْران (6 يناير 1883 – 10 أبريل 1931 م) شاعر، كاتب، فيلسوف، عالم روحانيات، رسّام، فنان تشكيلي، من أدباء وشعراء المهجر، ولد في بلدة بشري في شمال لبنان أيام سوريا العثمانية، ونشأ فقيرًا،

[26] البندقيَّة. مدينة إيطاليَّة.

[27] نقلًا عن كتاب (مذكرات كازانوفا). الناشر مكتبة مصر.

[28] شهر تاريخ السود ‏ هو ذكرى متعلقة بالناسِ والأحداثِ المهمةِ في تأريخ الشتاتِ الأفريقيِ. يُحتفل به سنوياً في الولايات المتّحدةِ وكندا في شهرِ فبراير/شباط بينما في المملكة المتحدة يحتفلون به في شهرِ أكتوبر/تشرين الأول. بُدِئ الاحتفال بهذه الذكرى في عام 1926 مِن قبل المؤرخِ كارتر ج. وودسون وسماها "أسبوع تاريخ الزنوج".