خيمة في
قصر بعبدا
محمد فتحي المقداد
ملاحظة هامّة
*من المهمّ معرفة أن هذه الرّواية (خيمة في قصر بعبدا)، قامت على فكرة
إيصال رسالة السلام إلى العالم، من خلال عمل أدبيّ مقروء، ربّما يلقى القبول
والرّضا أو المعارضة، وسيكون اللّبنة الأولى في تكريس فكرة السّلم الاجتماعيّ بين
الشّعبين السّوريّ واللُّبنانيّ.
*الحديث الذي جرى مع السيّد (كريم بقرادوني) في الرّواية، ضرورة العمل
الأدبيّ، والأقوال التي وردت في أجوبته وعلى لسانه؛ مأخوذة من كتاباته المنشورة
للتداول العلنيّ للجميع.
عمّان – الأردنّ ـــــــــــــــــا 2\ 2\
2021
الروائي
محمد فتحي المقداد
محمد فتحي المقداد
خيمة في قصر بعبدا
رواية
التصنيف
______________
مقدّمة
عسكريٌّ سوريٌّ نصبَ خيمته في
ساحة قصر بعبدا؛ ارتأى ذلك في مصلحته.. وثبّتَ أوتادها عميقًا.
ضرب بعرض الحائط رأي أهل القصر.. مُوهِمًا إيّاهم
بأنّه قدِمَ لحمايتهم وإنقاذهم من العدوّ.
انقلبت حياتهم جحيمًا لا يُطاق.. داس ببسطاره الضّخم
الزّهور والنباتات في الحديقة.
كراهتهم للخيمة وصاحبها.. أشدُّ من كراهتهم
للشّيْطان؛ لشعوذته.
محمد فتحي المقداد
استهلال
القرية العالميّة الصّغيرة الوصف الجديد
للتقدّم العلميّ في الاتّصالات والتواصل. انسحبت نتائجه على كلّ صغيرة وكبيرة،
اعتبارًا من أفراد الأسرة الواحدة، إلى باقي أفراد المجتمع المحيطين والمتباعدين
جغرافيّا.
السنوات العشر الأخيرة؛ أظهرت تقدّمًا يُعادل ألف سنة مما سبق في حياة
الأمم. في الحقيقة ما حصل مُذهل فاق جميع التصوّرات والتوقّعات، إلّا في الخيال
العلميّ المتنبِّئ بذلك قبل مدّة طويلة من هذه الفترة التي نعيشها.
التقنيّات الحديثة ظاهريًّا؛ أظهرت عجز الجغرافيا، وضعفها أمامها، بالنسبة
للأنظمة السياسيّة، تُعاني من إنفاق الأموال الطّائلة، وتجنيد الخبراء المهرة،
لمواكبتها في مراقبة أيّ تحرّك، أو تململ.
ينجحون مرّة، ويُخفقون مرّات، الانتشار الواسع للأفكار، وتداولها،
والاستجابة السريعة لتداعياتها، بالتّضامن، أو النّزول إلى الميادين العامّة؛
للاعتصامات والتظاهر، هذه الحركات
المُرهقة للحكومات ذات النّهج الدّيمقراطيّ، والمخيفة للدّول الشّموليّة، العتيقة
بأفكارها.. العتيدة بأدوات قمعها، التي تجاوزها الزّمن بسنين ضوئيّة.
الجغرافيا ثابتة لا تتزحزح، رغم أنّه لم يبق شيء في الدُّنيا لم يتحرّك أو
بقي على حاله. التقنيَّات لم تقتلع الحدود أو تعزقها بعيدًا؛ لتُريح النّاس من شرورها،
ولم تستطع تُغيير الجغرافيا مثلًا بتوحيد بلديْن. بل ربّما ساهمت في تشجيع
النّزعات الانفصاليّة في شمال سوريّة والعراق.
لا أنسى أنّني من محور الحبّ، ومن حملة لواء المحبّة، لا يمكن التراجع في
هذا الموضوع أبدًأ. إذا فقدنا الحبّ نموت.. نتوحّش. لا حياة بدون حبّ يُجسّر
الهوّة العظيمة، ويهدم حواجز الكراهيّة النّاشئة في إقليمنا الشاميّ.
كما أرى أنّ العالم الثالث يعيش أزمات، وحروب ناشئة من صراعات الدّول
الكبرى على الثروات الخامّ في هذه البلدان الفقيرة بالتقنيّات، الغنيّة بمواردها.
والعصر هو عصر التكتّلات السياسيّة والاقتصادية. مثل الاتّحاد الأوربي الذي
جمع أمَمًا مُختلفة متناقضة المصالح، أعداء الأمس صاروا أصدقاء اليوم، جمعتهم
مصالحهم. تحرّرت أوروبّا من حواجزها على كلّ الأصعدة، وصارت تأشيرة (الشّنغن)
تسمح لحاملها بدخول دول الاتّحاد، وحريّة انتقال العمالة ورأس المال والبضائع في
ظلّ اليورو.
ومع اعتماد اليورو كعملة موحّدة للدول
الأوروبيّة، وبمناسبة هذا الحدث التاريخيّ، اختارت دولة اليونان ضرب قطعة العُملة
(اثنان يورو)، وتحمل صورة الأميرة (أوروبّا) التي اختطفها زيوس، ربّ الآلهة
عند الإغريق، بعد تحوّله إلى ثور.
فمن هي أوروبّا؟.
وما علاقتها مع اليونان ولبنان؟
الأسطورة تحكي: (أنّ أوروبّا هي الأميرة الفينيقيّة ابنة
(أجينور) ملك صُور، كانت تتمشّى ذات يوم مُشمِسٍ مُشرق على شاطئ البحر. وصيفاتها يُرافقنها يُحطنها بالاهتمام
والرعاية.
ترصّدها زُيوس كبير آلهة جبل (الأولمب)؛ فهناك من نقل له خبر فِتْنَتِها.
جمالها لم يخْفَ على من صادفها ورآها. أضمر في نفسه أمرًا، حاول خطب وُدّها
مُتقرّبًا منها؛ فتحوّل إلى ثور ذي قرون
هلاليّة الشّكل، وأقعى جُلوسًا عند قدميْها.
فدبّ الخوف في قلب الأميرة، عاودتها رباطة الجأش بجرأة شُجاعة؛ فاقتربت من
الثور تُداعب عنقه ماسحة عليها بحنان.
تابع زيوس إغراءها، إلى أن جلست الأميرة على ظهره، وما لبث الثّور أن ركض
هاربًا نحو البحر. صرخاتها ضاعت هباء لم تُجد نفعًا في فضاء مفتوح على جميع
الاحتمالات.
تمسّكت بقرونه خوفًا على نفسها، بسرعة البرق تخطّى الأمواج العاتية
مُبتعدًا بها عن الشاطئ. مسافات أبعدت عن ناظريْها آخر أطلال قصرها ومرتفعات
مدينتها صُور. خلال ساعات وصل جزيرة كريت).
بعد الألفيّة الثانية، ما زالت أنظمتنا السياسيّة تطالب بتعديل الحدود،
وتثبيت نُقاط جديد للاتّفاقات الأخيرة، وما حصل بين لبنان وسوريّة شيء مُؤسف
حقيقة.
أنا كمواطن بسيط.. أرى الأمور بمنظور مُختلف تمامًا. المسافة بين دمشق
وبيروت تسعين كيلو متر. المدينتان أقرب لبعضهما من مدينتي بُصرى الشام في جنوب
سوريّة، التي تبعد مئة وأربعين كيلومتر عن دمشق.
ما حاجتنا للسّفارات بين البلديْن؟.
ما حاجتنا لجوازات السّفر للدخول والخروج؟
ما حاجتنا لأذونات الإقامة للسّوريّ المقيم
في لبنان؟.
لماذا المخيّمات في لبنان، قديمها للفلسطينيّين، وحديثها للسوريّين. معلوم
أنّ كثيرّا من العائلات البرجوازيّة اللّبنانيّة، كانت تمتلك أراض لها في (مرج ابن
عامر) في فلسطين، وغيره من المواقع.
هل من المفيد القول أنّ ممتلكاتهم بيعت للمنظّمات الصّهيونيّة منذ قبل قيام
دولة الكيان الصّهيونيّ؟.
حبّي للتّاريخ مُتجذّر في دواخلي، مُنعكس بآثاره على طريقة تفكيري. أعتقدُ
يقينًا أنّ في التّاريخ فكرة ومنهاج. عند التنقيب في الآثار الفكريّة القديمة،
وسبر أغوارها بشغف؛ عرفتُ أنّ عائلة المُطربة اللّبنانيّة فيروز قدمت من حلب، وجدّ
الأديب اللّبنانيّ جبران خليل جُبران من ريف دمشق، وعائلات لبنانيّة كثيرة؛ معروف
أنّ أصولها تعود إلى سوريّة، وكذلك العكس؛ فالتقسيم السياسيّ كان له الأثر
الاجتماعيّ؛ فكثير من العشائر والعائلات انقسمت بين البلديْن، مثال عائلتي (المقداد)
المُوزّعة بين دول بلاد الشّام.
من غرائب هذا الزّمان، أنّ الدّول أقيمت وتكوّنت بداية على الورق، ومن أعجب
الأعاجيب أنّ الورق والقلم يُستعملان لإنشاء الدّول، وليس لإنشاء الثّقافة.
كثيرون لا يروق لهم توجّهي، وطريقة تفكيري؛ فمنطق التّاريخ هذا هو الذي
سيعيد فينا الأمل من جديد؛ لترسيخ هذا المفهوم من جديد، وإعادة تدويره في أذهان
أبناء الشّعبين على جانبيّ الحدود. كم يُؤسيني ما تبثّه وسائل الإعلام من سوء
معاملة الأهل، وأبناء البلد الواحد بطريقة مهينة للمُهجّرين السوريّين من ديارهم،
الذين مالت الظّروف عليهم إجبارًا، ليتركوا منازلهم وقُراهم؛ لاجئين إلى جوارٍ مُفتَرَضٍ
فيه على الأقلّ عدم العداء لهم؛ طلبًا للأمان على حياتهم، وطبول التأجيج تُقرع
داخل سوريّة ولبنان؛ مُحرّضة على التميّيز العنصريّ، والفرز الطّائفي المُميت
القاتل لما تبقّى من الخيوط الأخيرة الرّابطة بيننا، وهو الأمل المُعوّل عليه.
أذكرُ أنّ اجتماعًا للمُثقّفين الكويتيّين
قبيل نهاية الألفيّة الأولى بقليل، وكان على رأسهم -إذا لم تخُنّي ذاكرتي- المفكّر
(د. خلدون النّقيب) وغيره. لشدّة تأثير رأيهم فيّ منذ ذاك الوقت رسخ في أعماقي: "أنّ
جارنا الكبير العراق، سيتعافى من آثار الحرب، والنّظام العراقيّ زائل مهما طالت
الأيّام. الباقي هو الشّعب العراقيّ الذي سيقرّر مصيره فيما بعد".
التوصيات جاءت صريحة صادقة مخلصة بلا
مواربة، بأنّه لا مفرّ من دكتاتوريّة الجغرافيّا، لا نستطيع اختيار جوارنا كما
نشاء ونُحبّ، المطلوب منّا تحسين توجّهاتنا تجاه الشّعب العراقيّ الذي عانى طويلًا
من الظُّلم، كما عانيْنا نحن من همجيّة النّظام، يجب أن نستدرّ محبّة الشّعب، ونصل
ما انقطع منها، وكسب قضيّته لصالح بلدنا الصّغير.
هذه فحوى الفكرة. التي أرى تشابهها فيما بين لبنان وسوريّة، وتطابقاتها،
شعوبنا ظلمها النّظام بطريقة ممنهجة. جوقة المظلومين عمياء.. أو تتعامى عن رؤية
اليد التي مازالت تحمل العصا فوق رؤوسهم. راحوا يسكبون ألوان الظلم على أنفسهم
فيما بينهم. لا يرّقون لحالهم أبدًا، وكأنّه فرض عليهم التظالم بالقوّة فيما
بينهم.
في القاع، وتحت السّوط، ويتلاومون..!! فلا أدرى مَنْ جنى على مَنْ؟.
لم أستطع الإحساس بشعور المظلوم عندما
يتقمّص دور الظّالم..!!.
فلله درّ الشّاعر الجاهليّ طرفة بن العبد
في مُعلّقته:
وظلم ذوي القُربى أعزّ مَضاضةً على المرء من وقع الحُسام المُهنّد
ومالنا نصنع الصّنم لنعبده، وحين نجوع
نأكله..!!.
مالنا نعبُد الله صباحًا.. وفي المساء نعود
للوثن..!!.
ونحترم من بيده السّوط..!! نجثو راكعين بكامل
خوفنا.
وننحني له بخضوع وخشوع، ما لنا نختار
جلّادينا..!!.
لا خداع ولا خديعة بينا.. نحنُ وجهًا لوجه.
الصدق زادنا بتحكيم ضمائرنا أنقياء أتقياء أولياء على قمّة (جبل الشّيخ)
بلباس الطّهر، كما جلس المُحكّمون هناك جُنوبًا على جبل التّحكيم، هم اختلفوا على
أمر.. وعلى مفهوم؛ فكانت السياسة قد فرّقت بينهم، وشتّت شملهم، ونحن أيضًا
ضحاياها.
مجتمعاتنا تتوق للسّلم الأهلي، وإرساء قواعده
وتدعيمه، هو الأهمّ على الإطلاق في أيّ لقاء شعبيّ، كي تنعم أوطاننا بالسّلام
والأمان، بعيدًا عن الحروب والنّزاعات. تركيزي على الأصول والمنابت الواحدة، نافذة
نطلّ منها على عواصمنا الأربع، لتكون المحبّة إكليل الثّقافة، وحسبنا رابطة تجاوزت
الحواجز بيننا؛ فإذا فرّقتنا السياسة.. فلتجمعنا الثّقافة.
تجربة الوحدة السّوريّة المصريّة 1958م، بسوء
إدارتها أفسدت فكرة الوحدة في أذهاننا، رغم الحماس الجماهيريّ الكاسح لها في أذهان
السّوريّين، الذين كرهوها؛ بينما طلبوها سابقًا استماتة من أجل تحقيقها. لا نريد
إقامة وحدة الآن بين لبنان وسوريّة، بل محاولة لكسر حواجز العُزلة والانكفاء البغيضة
بين الشعبين؛ وإذابة الجليد المُتراكم في القلوب والنّفوس؛ فالوحدة إرادة شعبين.. لن
تحصل إلّا بقرار شعبيّ. نجرّب فقط: لنرم حجرًا في المياه الرّاكدة، لتحريكها.
الروائي محمد فتحي
المقداد
بوابة الحب
فطين يستعيد بعضًا من شوارد أفكاره المتناثرة
المتنافرة، في مُنعزَله الفكريّ أثناء التّهيئة للكتابة، ازدحام غير طبيعيّ بكلّ
المعايير للكلمات عندما تريد التعبير عن موقف حقيقيّ. اضطرابٌ مؤقّتٌ يُغبّش
الرُّؤية، فتغيب خلفه النوافذ المُطلّة على السّاحة، تضيق مساحة الأفكار رغم رحابة
المكان واتّساعه.
-: لا أدري على وجه الحقيقة.. ما الذي
يصيبني أمام البوابات الأثريّة الكبيرة؟. فأنا لم أدخل منها حينما بُنيَتْ، ولم
أحضر تدشينها، ولم أدخلها كقائد منتصر أو أخرج منها كمهزوم مُنكسر. اضطرابٌ طارئ اجتاحني
بقوَّةٍ، عجزت أحاسيسي جميعها عن مقاومته؛ فجعلني مشلول المشاعر، مسلوب الإرادة في
مقاومة ما أصابني.
رجلّ مهجوس بالتاريخ، مهموم بقضايا قديمة
متجدّدة، العودة للجذور أساس للفهم. مهما حاول البعض تجاوز القضيّة بدعوى أنّنا
أبناء اليوم. إنه دائم البحث فيما أعرض عنه الآخرون، لعدم اختصاصهم، أو لأنّه خارج
نطاق اهتماماتهم. النّهج التاريخيّ عندما استولى عليه بدوام البحث والنّبش، ببعد
نظرته للأمور، فدأب على إعادة تعبيد الطريق التي مُلئت بالأشواك والعوائق بالحبِّ،
فبغير الحُبِّ الأبيض لا تُمحى الصّفحات السّوداء والحمراء.
-:
وهج غريب أجهلُ ماهيّته يأخذني بعيدًا في مجاهل الزّمان البعيد عن حاضري؛ ينثر صُوَرًا
شتَّى بحاجة لإعادة قراءة الأشياء بطريقة مختلفة عمَّا هي عليه في أذهان الآخرين.
هكذا تبدو الأشياء، تتبُّع الأسئلة
بتفرديها واحدًا تلو الآخر، ربّما يُهوِّن المسألة قليلًا، لتُصبح في مُتناول
الفهم المعقول. استعادة الصّورة القديمة ما قبل الإنشاء، أيّام كانت أرضًا براحًا
مَراحًا لا تعني الكثير لصاحبها، إلّا بما سيأكل ما تُنتجه من حفنات القمح
والشعير، لتكون أحد أسباب التشبُّث بها، لأنّها تُساهم في إنتاج الحياة.
***
-: وهل درى يوسف ذلك الرّجل الدمشقيّ عندما
ضاقت به سُبُل العيش، أنّ خروجه إلى بعلبك أن يستقرّ هناك للأبد؟.
-:
وهل درى كذلك، أن يستقرّ ابن حفيد حفيده (جُبران بن خليل) أخيرًا في قرية (بِشِرّي)
شمال لبنان، وأنّ (الأرواح المُتمرّدة) ستخرج من بوتقة لبنان، ومسقط رأس
جُبران والشّام؛ لتُبشْر العالم بأديب عالميٍّ على لسان (النبيّ) تطيرُ على
متن (الأجنحة المتكسّرة).
وهل تَفَكّر عند خروجه من دمشق أن يصير
لُبنانيًّا؟.
وهل كان هناك من يقول: أنا سوريّ، أو
لبنانيّ، أو فلسطينيّ، أو أردنيّ؟.
وهل كان هناك جوازات سفر؛ ليُسمح لحامها باجتياز
الحدود.. وهل كان هناك مراكز عبور بين دمشق وبيروت؟
***
وما الذي حدا بعائلة (آل المُرّ) الخروج
من بلدتهم الحورانيَّة –نسبة لسهل حوران- (إزرع) إلى جبل لبنان؟.
هؤلاء
الفلّاحون استبدّ بهم ضيق العيش، والنّزاعات العشائريّة على الأملاك وحدود الأراضي
والمراعي.
بحقّ..!! تساؤلات بلا حدود.. تكنّهات بلا
حدود. ما يخصّ الفلّاحين من أجدادي في هذه البلاد ما زال تاريخهم شفاهيًّا تتناقله
الألسنة جيلًا بعد جيل. الفقراء والبُسطاء لا تاريخ مكتوب لهم، لولا "الجاحظ"
في بغداد فمن كان سيدري شيئًا مثلًا عن "البُخلاء" والسُّوقَة،
ولولا "ابن الجوزي" فمن كان سيعلم أنّ في بغداد ذاك الوقت "المُغفّلين
والحمقى"، أليس ذلك مدعاة للتساؤل، لماذا شعوب الغجر مجهولون لدى الآخرين
في أبسط أمور حياتهم المكشوفة في عاداتهم وتقاليدهم ولا اعتقاداتهم. مجهولون
تمامًا فأحيطوا بهالة غموض كانت مدعاة للتندُّر والهزل والدونيّة في السُلَّم الإنسانيّ.
يُحكى أنّ:
بوابة الحبّ في (بُصرى الشام)، أحد
بوّابات البيوت العريقة. تتّخذ طابعًا عُمرانيًّا متميّزًا مُختلفًا عن السّائد في
بيوت القرية، أيّام الثلاثينيّات مع بداية القرن الماضي.
بيت
الحج (عوض إيتّم المقداد) الملقّب بـــ(أمير الحج). يا ما..!!
توقّفتُ أمام بوابة عظيمة بأعمدتها المُكلّلة بقوس مُحجّب الحَوافّ، وفوق المدخل
بلاطة بيضاء؛ توثّق اسم صاحب هذا الصّرح مُذيّلًا بتاريخ الإنشاء، وإلى الأسفل منه
اسم (نجيب المُرّ) البنّاء الماهر، القادم للعمل قريبًا من موطن آبائه الأزرعيّين.
دهشة التّساؤل:
كيف
عاش (نجيب المُرّ) بين الحوارنة المسلمين.. لمدّة عامين، أو يزيد حتّى أنجز
عمله؟.
وفي أيّ فندق كان يُقيم؟
وهل نقضوا ما اتّفقوا عليه، وأكلوا أتعابه
لأنّه مسيحيّ، وغريب عن ديارهم؟.
ولماذا سَعَت فرنسا حثيثًا؛ لاستنزاع
الوصاية على المسيحيّين العرب وحمايتهم على طريقتها؟.
أليسوا هم شركاء الوطن، ومن أساس النسيج
الاجتماعيّ في الشرق؟.
ولماذا زرعت في أنفسهم ثقافة الأقليّات
المُتطلّعة على الدوام إلى الخارج؟.
وهل كانوا قُربانًا للمصالح الاستعماريّة؟.
هذا
الإسفين الاستعماريّ؛ شقّ اللُّحمة والمشاعر والأحاسيس والتمييز بين أبناء الشّعب
الواحد، وكرّس التوجّس والحذر من شركائهم المسلمين في علاقاتهم وتعاطيهم. بينما
تزدهر ظلاميّة مُشكّكة بانتمائهم وولائهم، ذهبت بعيدًا بنظرة واصمة لهم بالطّابور
الخامس.
التفاصيلُ مُرعبة.. لكنّها مُهمّة.
لستُ مُؤرّخًا .. ولكنّي سأحاول كتابة
تاريخ جديد لم يُكتَب من قبلُ..!! أنّا مُتأكّدٌ من ذلك تمامًا. لأنّ ما نقرأه فقد
كتبه الأقوياء. حتمًا على طريقتهم.
قد تتميّز الصّورة المُتخيّلة في الأذهان،
أو المُجسّدة على طبق من كرتون أو حجر أملس؛ فتُلهي المُشاهد بجمالها أو قُبحها،
بَيْد أنّها تاريخٌ صامتُ ناطقٌ بآنٍ واحدٍ معًا، مكتوب بلسانٍ مُتخَمٍ بالدّهشة..
كيف استطاعت انتزاع كلّ هذا الاهتمام، وتحظى به؟. دون أن تدري حقيقتها.
***
ذات
جلسة
حواريّة.. انتظرتُها طويلًا من خلال تواصل مع أصدقاء يملكون علاقات خاصّة من الدّائرة
المُقرّبة من السياسيّ اللّامع (كريم بقرادوني)، بسبب ظروف اللّجوء القاهرة
بتقييدي عن الحركة بحُريّة السّفر، ولأنّي لا أمتلكُ جواز سفر صالح للاستخدام؛ فقد
كان الحلُّ الأفضل تطبيق (السكايب) بالصّوت والصّورة.
لمّا
وصلني خبر الوسيط غير المفاجئ لي، كنتُ منذ زمن أفكّر في إعداد محاور للحديث مع
السيّد كريم، حماسي زاد بشرائي نسخة من كتابه الأشهر على الإطلاق (لعنة
وطن)، أثناء زيارتي الأولى بعد سبع سنوات من إقامتي في الأردنّ، إلى معرض عمَّان
الدُّوليّ للكتاب في جنوب مدينة عمّان على طريق المطار الدُّوليّ. حينها اعتبرتُ
نفسي أنّني حصلت على كنزٍ ثمين.
كذلك
تباعدت زيارتي هذه لمعارض الكُتب، مع آخر مرّة في العام ١٩٩٩ على ما أذكر بالضّبط،
أثناء وجودي للعمل في أبو ظبي.
***
برفقة بعض أصدقائي من الأدباء في الأردنّ ذهبنا
سويّة، وتفرّقت بنا السُّبل في الخيمة الكبيرة التي تحتاج لأيّام من الزّيارات
المُتكرّرة حتّى أستطيع مطالعة العناوين الكثيرة، والجديدة، والمثيرة، وأتمنى لو
أنّني أمتلكها جميعها في مكتبتي الشخصيّة؛ فكما يُقال: (العين بصيرة واليد
قصيرة)، أو إذا تمثّلتُ حالة مُشابهة، وعلى رأي المُطربة سميرة توفيق:
(لا بُوكِلْ ولا بَشْرَبْ.. بس بتطلّع بعيوني).
ظروف
العيش القاسية، وتأمين مستلزمات الأولاد المدرسيَّة، ومصروفهم اليوميِّ، ومطالب
البيت اليوميّة التي تتوالد كمطالب الأطراف الدوليّة المُسيطرة على لبنان؛ فلا
ترحمه بكثرة مطالبها منه، وهو غير قادر على إعطاء الكثير منها، إلّا الاستجابة
لأقلّها، والإذعان للضغوط المُعتادة.
***
(شركة
المطبوعات للنشر والتوزيع) اسم انطبع في ذهني اسمها قبل عشرين عامًا، عندما
أعارني الصّديق (جورج حدّاد) كتاب (الأيادي السّودِِِِِ/ لنجاح واكيم)، أخبرني أنّه اشتراه من هذه الشّركة في
فرع "أبوظبي".
وقتها
اطّلعتُ على مافيات الفساد السياسيّ والاقتصاديّ التي خرّبت الاجتماعيّ، وفتَّتْ
منظوماته الإثنيّة، بوسيلة المال السياسيِّ الوسخ بأجنداته الخارجيَة.
فرحتي
عظيمة عندما رأيتُ اسم دار النّشر، قرّرتُ مُعاندة ضيق ذات اليد بشراء الكتاب.
شابٌّ
مُلتحٍ.. أنيق المظهر.. رفع رأسه عن شاشة الحاسوب الذي أمامه على طاولة، بادرته
بالسّلام. ردّ بتواضعه الجمّ:
- وعليكم السّلام.
طريقة ردّه شجّعتني للمضيّ معه في أحاديث
شتّى استحضرتني من فورها:
- بداية.. أتمنّى أن أجد طلبي عندك..!!.
- أهلًا وسهلًا.. تفضّل.
- أريد كتاب (السلام المفقود) و(لعنة
وطن). فوجئت بتوفّرهما..!!، وكان في أغلب ظنّي أنّني لن أجدهما؛ فكان ردّه من
فوره، نهضَ عن كُرسيّه، وأحضرهما من أحد الأرفُف:
-حظّك يفلق الصّخر يا أستاذ..!! هما آخر
نسخة عندي من المؤلّفيْن، قبل قليل بِعْت واحدة، والبارحة طلبني أحدهم أخرى
واشتراها، وهذه آخرها.
تأمّلت
الكتابيْن بين يديّ.. ثمّ قلّبتهما، ساقني توارد الأفكار لأيّام "أبوظبي"،
فقد نشرت جريدة الخليج ذاك الوقت مقالة صغيرة، تحت عنوان (اسمع.. يا كريم..!!)
مقرونة بصورتيْن مُلوّنتيْن، واحدة للرّئيس (حافظ الأسد) والأخرى لــ(كريم
بقرادوني)، وانخرطتُ في سرد قصّة المقالة، الشّاب يصغي باهتمام، لا أدري أهو
على سبيل المُجاملة باهتزاز رأسه، وعلامات التعجّب تكسو ملامح وجهه المُتورّد، وهو
يرفع نظّارته عن عينيه العسليَّتيْن؛ فيبدو اشعاعهما يخترق انفعالي الظّاهر له،
حرارة الموقف أمْلَتْ عليّ، استعادة كلمات المقالة بالضّبط، رغم يقيني بنسيان
تفاصيلها الدّقيقة، بكامل حوّاسه.. أدركتُ اهتمامه بما سأقول:
روى
الكاتب فيما كتب وعلى عُهدته، نقلًا عن لسان الرّئيس اللّبنانيّ آنذاك (إلياس
الهراوي)، قال: دُعيتُ إلى اجتماع في دمشق، وهناك كانت المفاجأة الكبرى؛ حينما
دخلتُ القاعة الفسيحة التي تضمُّ بين جنباتها جميع السياسيّين اللّبنانيّين
المُعادين والمناصرين لسوريّة، الأمر الذي لجم لساني؛ لهول ما رأيت من رؤية كلّ
هذه الأطياف، وكيف حصل ذلك..!!؟.
اتّخذت
مكاني قريبًا من المكان الذي سيجلس عليه الرّئيس الأسد.
جلسنا
لنصف ساعة تقريبًا قضيناها في السّلام والمجاملات. بانتظار وصول الأسد. وقفنا جميعًا بعد دخوله علينا.. احترامًا للرّجل
المَهِيب بطوله الفارع، ونظراته الحادّة.جلس على كرسيّه المُخصّص له، رابضًا كأبي
الهول أمام الأهرامات.
صوّب
الحضور نظراتهم باتّجاهه، سكتت الألسن تأدّبًا، والآذان مشدودة الاهتمام مُنصتِة
لترحيبه الحارّ بالرَّئيس الهراوي، وأشار إليه للجلوس بجانبه على مقعد كأنًه
مُخصّص للطوارئ خارج إطار البروتوكول النّاظم لكلّ حركة صغيرة كانت أم كبيرة.
انطلق
بصوته العميق المشوب ببُحّة مميزة؛ تضفي عليه كاريزما مُؤثِّرة لمن يُشاهده ويستمعه،
حتّى وإن كان عبر الرّاديو أو التلفزيون أثناء خطاباته المشهودة بسيطرتها عليّ حدّ
الاندماج والاستغراق:
- اسمع يا كريم..!! شكرًا على الهديّة.
انتبهَ كريم للنداء غير المُتوقّع، هزّ
رأسه بإيجاب، وقال:
- شكرًا سيادة الرّئيس.
- ولكن هناك معلومات ناقصة لم تذكرها في كتابك.
- وما هي يا سيادة الرّئيس؟.
- لماذا لم تذكر أنّ رئيس لبنان (بيار
الجميّل)، كان قد عرض قيام اتّحاد كونفدرالي يضم لبنان وسورية والأردنّ؟.
ولماذا لم تذكر أنّ رئيس لبنان "كميل شمعون" طالبَ بقيام وحدة
اندماجيّة بين سوريّة ولبنان؟. وكان جوابي له: أن الوحدة تصنعها الشعوب، ولا تأتي
بقرار أو اتفاق بيننا، فإنّني أرى أنّ إقامة وحدة مع موريتانيا أسهل من قيامها مع
لبنان..!! رغم أنّنا شعب واحد في بلديْن".
- يا سيادة الرّئيس.. هذه معلومات لا
أستطيع كتابتها لأنّني لا أملك حقّ نشرها.
- يا كريم أتكتبُ ما يروقُ لك.. وتهملُ الأهمّ..!!؟.
من
جديد ساد صمت رهيب، لو وقعت إبرة على الأرضيّة الرُّخاميّة، لسُمِع الجميع صوتها
بوضوح. كريمٌ يفرُك يديْه بحركة عصبيّة. عيناه تدوران بحركة لولبيّة ماسحة
لانفعالات ارتسمت على الوجوه.
بينما
انفعال الشابّ بائع الكتب فيما سردت عليه من حكاية هذا الكتاب، كان لا يقلّ أهميّة
من انفعال "كريم بقرادوني" في ذلك الموقف الذي سجّله التّاريخ من
حوالي عشرين سنة؛ لأذكره له طازجًا بنكهة المرارة التي سيطرت على حياتهم في لبنان، أخبرني الشّاب:
- "هذه أيّام كانت سوداء في حياتنا،
حسب ما سمعت من أهلي، رغم صغر سنّي في ذاك الوقت الذي لم يكن يتعدّى العشر سنين،
فلا زالت ذاكرتي تحتفظ بأكثر من ذلك بكثير".
***
الوقت يداركني بمحدوديّته.. صديقي الذي جئت معه
نبّهني برنّة خفيفة من هاتفه، مشوار العودة إلى إربد يستغرق وقتًا، لم يطُل التفاوض بيني وبين الشابّ
على سعر الكتاب الذي اخترته (لعنة وطن – كريم بقرادوني)، دفعتُ خمسة
دنانير، وتأبّطت كتابي وانطلقت.
خطواتي
تسابقها فرحتي بامتلاكي كتاب حلمتُ بقراءته زمانًا، رغم أنّني سحبته عن أحد مواقع
النتّ المُهتمَّة بتحميل الكُتب المجانيّة. لكن مكانة الكتاب الورقيّ لا تزال تأخذ
مكانها في قلبي.
لا
تزال رائحة الكتب المدرسيّة تحتلّ زاويتها كلّما أخذتني طيور الذّاكرة بعيدًا إلى
رحاب الطفولة. ذكريات المدارس وزملاء الدّراسة الأثيرة حُبًّا لها؛ فالذكريات تاريخ كلّ شخص في
هذا العالم، فإذا مات انمحت معه، وأصبحت معه في دائرة النّسيان.
رائحة
ورق الكتب أستعيدها بعد ما يقارب نصف قرن طازجة بنكهة مُحبّبة إلى قلبي، كما لو
أنّني أريد استعادتها مجدّدًا بين يديّ. كأنّ الذّكريات تسوقنا بسطوتها لما ألفناه
في صغرنا واعتدناه، تفرض إرادتها على واقعنا، نسعى لتلبية الأُلفة القديمة المتخفّية
في دواخلنا.
ما
إن ناولني الشّابّ (لعنة وطن) بادرتني رائحة الورق، يااااااه..!! شريط
الذكريات يعود لي ليوم الفرحة عندما أستلم كتبي المدرسيّة، لم تكتمل فرحتي، وأنا
المصدوم بلعنة وطني سوريّة على وقع الحرب والدّمار.. ولحن جنائزيٍّ ما توقّف للحظة
لسنواته التّسع، والأحزان والآلام ترقُص بدُموعها فَقْدًا وتهجيرًا.
يا لها من لعنة..!!
يا لها من لعنة وطنٍ منكوبٍ بنا.. ومن أجله
اقتتالًا عليه نُكِبنا..!!.
لعنة الأوطان غير مقصورة علينا.. البشريّة
جميعها منكوبة بأوطانها.
إذا
كان الوطن المقصود التراب والحجارة والجبال والأنهار. هل يستحقّ كلّ هذه
التضحيات؟، وهل هو مُتعطّش لدماء أبنائه إلى هذه الدّرجة؟.
إنّ
الصّراع على الآمال والطّموحات والأحلام، هو المُحرّك لتداعيات السّيطرة على
الجغرافيا؛ لأنّها وحدها لا تعني شيئًا لذي طُموح في الزّعامة والرّياسة.
رائحة
الورق.. ملمس الورق.. الأسطر.. الكلمات.. علامات التّرقيم.. العناوين.. أرقام
الصّفحات.. الغلاف ولوحته.. الفصول والأبواب؛ تشكيلاتُ بصريّة انطبعت في ذاكرتي
إضافة إلى رائحة الورق والحبر؛ تستحثّ الخُطى بثبات لتكون جاهزة زاهية كيوم قرأتها
في المرّة الأولى ولو بعد سنوات، لا تُنسى كلّها أبدًا، وإن شاخت ذاكرتي.
***
جلس الحج عوض في رواق بيته بعدما إتمام بنائه
على الشكل المطلوب والمميَّز آنذاك في بُصرى. وكان ضيفه "نجيب المُرّ"
البنّاء الماهر القادم من جبل لبنان للعمل هنا، وإظهار مهاراته الفنيّة في صنع
أوابد تاريخيّة كالتي شهدتها المدينة في فترات ازدهارها المختلفة منذ عهد الأنباط والبيزنطيّين
والرّومان والفتوحات الإسلاميّة، وصولًا إلى عهد الدُّويلات والممالك إلى العثمانيّين.
وأخيرًا عهد "المُرّ" في لحظته الرّاهنة. وهي المدينة التي جيء
لها بالأجمل والأكمل والأمْيَز من كلّ شيء.
الحجّ
يتلفّت حوله بنظرات مليئة إعجابًا.. ناطقة بالشُّكر لصديقه المُرّ، لحظات صمت
التفكّر أوعى بكثير من نُطْقٍ مُرتجَلٍ. وقال:
- أتمنّى
أن تكون بوابّتك.. بوّابتي.. بوّابة الحب يا أخي المُرّ.
-المُر: وأنت يا حج مثال الحُبّ الذي رأيتُ
على مدار عاميْن كامليْن بالتّمام، عملتهما معك في بناء يليق بمكانتك التي عرفتُ
بين أهل بلدكَ.
-بوّابة الحبّ هذه ستبقى آبِدَةً شاهدةً
على الإخاء المسيحيّ الإسلاميّ، تعانق فيها الهلال والصّليب.
- المُر: وهذا ما عهدتُه فيك تطبيقًا عمليًّا
على أرض الواقع، وعلى سجيّتك بأخذ الأمور جميعها على محمل البساطة، والميْل إلى
الحلول السلميّة بعيدًا عن المهاترات والمنازعات.
-ما يُحلّ بالقوّة.. أيضًا له أوجُهًا
عديدة من البدائل الأسهل والأبسط.
- المُر: القوّة وحدها ستكون نتائجها
وبالًا على طرف دون طرف، وسيبقى طول عمره يشغر بالغُبن والظّلم، وربّما ينتظر
الفرصة لاستعادة اعتباره وردّ مظلمته، والانتصار إلى نفسه.
-ليس باستطاعتنا مواجهة مصاعب حياتنا ومشاكلها..
إلّا بالحبً.
- المُر: الحبّ صانع المُعجزات.
- "لو تأمّلتَ عناق مئذنتيْ العُمريّ،
وفاطمة مع الرّاهب بحيرا، بحرارة لقاء حبيبيْن بعد غياب طويل.. وتجاورهما الأليف
منذ أربعة عشر قرنًا، لتأكّدتَ على وجه اليقين أنّ أرضًا تُنبِتُ السّنابل.. لا
يمكن أن تعرف الكراهيّة.
اهتزاز
رأس (نجيب المُرّ) تجاه صدره لمرّات متتالية علامة موافقته على كلام الحج
عوض، وراح يحكّ رأسه، كأنمّا يستحثّ خروج شيء ما من رأسه، وقال:
- يا حج.. لو سمحت لي.. أن أطلق تسمية هذه
البوابة ببوابة الحبّ.
- أحسنتَ..!! كأنّك تسابقني في قراءة
أفكاري، وكنتُ سأقولها لك، وهذا ما سنزرعه هنا أنا وأنت لأبنائنا وأحفادنا، ومن
سيأتي بعدنا.. سيذكرون حكايتنا على سبيل تأكيد ما قلناه الآن.
حرارة
الموقف بدَت آثارها على وجه المُرّ، وبوادر الدّموع تترقرق بين جفنيْه. كأنّ يعزّ
عليه ترْكَ شيء منه في بلاد ربَّما إن غادرها لن يعود ثانية إليها، بعدما قطع خمسة
عقود من عمره قضاها انتقالًا من مكان لآخر، حمل منها ثروته التي جمعها من تعبه،
وذكرياته الجميلة والمُرّة كمرارة اسمه التي غطّى عليها اسمه بنجابته المُضافة إلى
خبرته التي اكتسبها على يديّ والده، زمن تجربته الشخصيّة المميزة له بكثير من صفات
الاتقان والأمانة وقلّة كلامه ورزانته المرتسمة بمسحة الخجل من مواجهة الآخرين. وقال
بعد أن تنفّس بعُمق من موافقة الحج عوض على مُقترحة:
- سنزرع الحب.. بغير الحبّ لن نرى فضيلة
للحياة أبدًا.. وما الحياة بغير الحبّ إلّا غابة للوحوش الكاسرة؟، والأقوى هو الذي
يفرض شروطه على محيطه.
- بوابة الحبّ ثالثة أهمّ بوابات بُصرى بعد
"بُوّابة الهوى" و"البُوَّابة النبطيّة"، ومهما
عدا الزّمن علينا ومن بعدنا، سيبقى "نجيب المُرّ" مقيمٌ بيننا،
روحه تستوطن المكان لا يمكن أن تبرحه إلى قيام السّاعة.
هذا
الكلام زاد حالة التأثّر عند المُرّ عندما وقف، وسرح بعيدًا في عوالمه، عيناه
تتركّزان على البلاطة البيضاء في أعلى البوابة، جاء تنبيه من الحجّ بجُهوز الغداء
في المضافة الواسعة.
***
تنبيه صارم للأولاد بالتزام الهدوء، بعدما شرحتُ
لهم السّبب ودواعيه، أعطوني موافقتهم المبدئيّة على ذلك، بهزّ رؤوسهم دون رفع
أعينهم لرؤيتي، بل بقي كلّ منهم مُنخرطًا في عالمه الخاصّ به.
عيني
على السّاعة التي تقاربت من التّاسعة، تأكّدتُ من صلّاحية وصلة الكهرباء؛ خوفًا من
خيانتها وأنا في عزّ المعمعة، أحضرت زوجتي فنجان قهوتي السّادة مع كأس ماء،
تناولته من فوري لشعوري بالعطش، التهيئة ضروريّة بأن تكون مكتملة مختلف الجوانب؛
حتّى أنصرف بكافّة حواسّي لموضوع المقابلة، الدقائق الخمس المتبقّية لتُعلِن
السّاعة التّاسعة. ازداد فيها توتّري الدّاخليِّ. ارتباكٌ مفاجئٌ أنساني أولويَّات
ما أريد تحضيره واستحضاره.
تشغيل
جهاز الحاسوب هو الأهمّ على الإطلاق. عيناي مُركّزتان على الشّاشة التي ما زالت زرقاء،
لم أسأل نفسي.. لمَ اتّسعت صافية كالسّماء، من فورها تهيّأت روحي للسّباحة في لجّة
الذكريات، وقد انفتحت نافذة عُلويَّةً ببطء يسحب معه خُيوط القلق والتوتّر من
أعصابي، وأنا أنتظر إطلالة وجهها الملائكيّ بصفائه الحنطيِّ، وعسل نظراتها يسيل معه
دروب روحي ذوبانًا أنساني نفسي، وأخذني بعيدًا في حيرة رمشيْها وهما ينطبقان على
جفنيهما، وحاجبيْها شديدي الاسوداد يخطّان رسمهما على صفحات قلبي المُتيّم.
بُخار
القهوة المُتصاعد من الفنجان ينافس هذياني السّابح هناك مع عينيّ الشّاعرة عندما كانت
تتلو غزليّتها ذات أمسيةٍ صيفيّةٍ لطيفةٍ، وارتفعت فيها حرارة الأشواق والذكريات
عندي على الأقّل، جعلتني أستجلبُ الهواء البارد، رغم أنّ نسمة شرقيّة تُلامس
وجنتيَّ المُلتهبيْن بحرارة القصيدة.
صوت
ارتطام صحن زجاجيّ قادم من المطبخ سقط من يد زوجتي؛ اِقْتحم غفلتي الطّارئة؛
فأيقظني عندما ارتجف جسمي بحركة لاإراديَّة أعادتني للحظتي السَّابقة من السُّرعة للتأكّد
من برنامج "السكايب" على وجه السّرعة:
- الحمد الله كلّ شيء على ما يُرام.. والحظ
اليوم لم يُعاندني كالعادة في مرّات سابقة، فالشّبكة إشاراتها ممتازة.
سكنت
أعضائي بعد جُلوسي على الكُرسيِّ، وخفَّت حِدَّة ارتباكي وتوتّري، بانتظار الثلاث
دقائق القادمة لحين السّاعة التّاسعة. رسالة على (الواتساب) من الصَّديق
الوسيط الذي من خلاله حصلتُ على موعد هذا اللّقاء.
صورتي
عكستها شاشة (اللّابتوب)، أطلّ من جديد وجه الشَّاعرة هازئًا بوقتي،
مُزاحمًا انعكاس وجهي من الشّاشة، لينعكس وجهي بمرآة عينيْها الملائكيتّيْن. شُرود
استعادني إلى رنين نبراتها المُمَوْسقة على أوتار قصيدتها.
عيناي
خرجتا من سياقي لمطالعة التوقيت أسفل الشّاشة، وأيقظتا سُبات حواسّي لأتحفّز من
جديد.. واستعجال ما تبقّى من دقائق لإعلان التّاسعة..!!
***
بعد
تبادل
التحايا والسلام والمجاملات التي يقتضيها بروتوكول اللّقاء؛ بادَأْتُ السيد بقرادوني
بالحديث المُطوّل عن بوابة الحب، والحج عوض والمُر، وأرض السنابل. عيناه مركّزتان بدهشة
من خلف نظّارتيْه السّميكتيْن، رغم لولبيّتهما عند كلامه في أيّة قضيّة، واتّخذ من
ساعده الأيمن مُتّكأ لرأسه المُسترخي، وحاجبيْه
كأنّهما استقرّا في وسط جبينه العريض تحت خطوط ثلاثة؛ كأقانيم ديانته المسيحيّة الثلاثة.
أغلب
ظنّي أنّه استمعني بوعي تامّ لرسالتي الأولى؛ ليتأهّب ليس للردّ على مقالتي، بل
للإيضاح، والإفصاح عن رؤيته الرّاسخة في ذهنه، وممارستها كعمل سياسيّ، وقضايا
فكريّة باستثماره للواقع المُتاح بين يديْه، حتّى، وإن كان بصيص ضوء يأتي من فُرْجة
بسيطة بجسم الجدار الصلب. لا ييأس من الوُقوف مُتمرِّسًا خلف رأيه بصلابة المُفكّر
الواعي لدقائق الأمور، وقراءته للتاريخ بدقَّة، لا يتوانى في الدِّفاع عن رأيه بشراسة.
باهتمام
مثير أنصتَ طويلًا حتّى انتهيْتُ من مُقدّمتي الضروريّة كمفتاح للحوار المنتظر، ولا
يمكن التّغاضي عنها. ما إن توقّفتُ عن الكلام، أشرتُ إليه بابتسامة، وحركة من رأسي،
لانتقال الحديث له:
- أهلًا وسهلًا أخي فطين.. من قلبي أُحيّيكَ
على ما سمعتُ منكَ، وتكوّنتْ فكرةٌ واضحةٌ عندي للمآلات الني سنصل إليها، سواء اتّفقنا،
أو اختلفنا حولها، بشكلٍ كُلّيٍ أو جُزئيٍّ. وتُسعدني إطلالتكَ في عوالم "كريم
بقرادوني" الذي هو أنا.. ارتسمت مُجدّدًا البسمة الشهيرة على ملامح وجهه،
كأنّ يده امتدّت لعلبة السّيجار على الطاولة بجانبه، لكنّها لم تظهر فيما أظهرته
كاميرا جهازه.
*سؤال تقليدي لمن لا يعرفك:
- من هو كريم بقرادوني..؟.
-" بكلّ سرور، حكايتي لا تبتعد بقليل
أو كثير على قضيّة بوابة الحبّ التي حدّثتني عنها، وجاءت تفاصيلها العامّة لتُلامس
جذوري الأرمنيّة، التي أتى منها والدي (ميناس بقرادونيان) هاجر من حرب السَّلطنة
العثمانيّة على بلادنا، وسكن بدايةً في مدينة حلب أوائل العشرينات. بعد ١٩٢٠وانتقاله إلى لبنان تزوج من والدتي (لور
شليطا) وهي لبنانيّة مارونيّة، وفي (18 أغسطس 1944) كنت أنا مولدوهم البِكر، نشأتُ
وترعرعتُ في بيئة أخوالي، واكتسبتُ كثيرًا من عاداتهم وتقاليدهم مع الاحتفاظ
بخصوصيّة موطني الأساسيِّ "أرمينيا" وقضيّته التّاريخية.
وتدرّجتُ في تحصيلي العلمي إلى أن حصلتُ في
العام 1966 على إجازة في الحقوق من جامعة "القِدِّيس
يوسف"، وتابعتُ طريقي وفي عام 1967 حصلتُ على دبلوم دراسات عليا في
العلوم السياسيَّة.
في مُقتَبل عمري، وكنت شابًّا يافعًا العام ١٩٥٩
انتسبتُ إلى حزب الكتائب، وأصبحتُ في السبعينات من أبرز المُؤثِّرين داخله ضمن ما
يُسمَى بـــ "التيَّار العُروبيِّ" في الحزب، وزوجتي هي السيّدة (منى
الناشف) ولي منها ابنان (جهاد وجواد).
- "أستاذ كريم.. يرى الكثيرون من
أمثالي، تفوّقك الواضح على كلّ المستويات، وجئتَ في خضّم الوسط المارونيّ القويّ،
والمُتَكتّل حول محاوره العديدة اعتبارًا من رئاسة الجمهوريّة، وحزب الكتائب الذراع
السياسيّ والعسكريّ للطَّائفة، كيف استطعتَ النّفاذ باختراق الحُصون المنيعة لهم.
وأنتَ الأرمنيُّ المُهاجر ومن خارج الطَّائفة؟ وصعدتَ بسرعة البرق إلى القمّة،
وأخذتَ موقعكَ الرَّاسخ في ثنايا الصفّ الأوّل المُمسك بدفّة القيادة.
- كنتُ من أهم أركان ميليشيا القُوَّات اللُّبنانيَّة
تحت قيادة (بشير الجميّل)، وبعده (سمير
جعجع)، ثمّ انتقلتُ لأكونَ مُستشارًا خاصًّا للرّئيس (إلياس سركيس) بين
1976 و1982. فيما بعد عُيّنتُ وزير دولة لشؤون التنمية الإداريّة بين 15 أبريل
2003 و26 أكتوبر 2004 في حكومة (رفيق الحريريّ) السادسة.
وانتخبتُ رئيساً لحزب الكتائب سنة 2001 لكنّي ما لبثتُ أن دخلتُ في نِزاع مع (أمين
الجميّل) لأنّ مشروعه السياسيِّ الخاصِّ، لم يتوافق مع الهدف الأساسيّ لحزب
الكتائب اللُّبنانيّ.
وانتهى النزاع بِتولّي (أمين الجميّل)
منصب الرّئيس الأعلى المُستحدَث، مع بقائي في موقع الرَّئيس، وقدّمتُ استقالتي من
رئاسة الحزب في نهاية عام2007 تاركاً المجال أمام عودة الجميّل لرئاسة الحزب.
- صورة الخلافات الداخليّة في صفوف الأحزاب
والهيئات أمرٌ لما مفرّ، وهذا الأمر مشهود من خلال التنافس بين الأجنحة على مختلف
توجُّهاتها، ما تعليلُك لذلك؟".
- أعتقدُ أنّه أمرٌ شائعٌ جدًّا، وأصبحتِ
المطامحُ الصَّغيرةَ تأخذ طابعًا من المناورات والتحالفات المُغلَّفة برائحة الدَّسائس
والمُؤامرات الخفيّة، وقليل منها المُعلَن؛ لتحقيق المطامع الشخصيّة في سبيل
الوصول إلى المقدِّمة، وأنا وصلت بجهودي الواضحة بمواقفها الجريئة. وبغير الحبّ لا
يمكن أن تنمو فكرة مُتكاملة، وكما تفضلتَ سابقًا لا حياة بدون حبّ، وتُربة الحبِّ لا
تُنبِتُ الأشواك.
- أستاذ كريم، قرأتُ في كتابك (لعنة وطن)
أنّ (مناحيم بيغن) أخبر الرئيسّ المنتخب حديثًا (بشير الجميّل): "لدينا
معلومات أنّك تُفكّر في تعيين (كريم بقرادوني) وزيرًا للخارجيّة، هذا الأمر لا
يُريحنا؛ لأنّ بقرادوني عميل سوري".
- صديقي فطين بالفعل التقاطة منكَ ذكيّة، يبدو أنّ لعنة الوطن أصابت جميع اللُّبنانيّين،
ولم تستثن منهم أحدًا. لكلِّ موقف ضريبة، مواقفي جلبت لي عداوات كثيرة في مواقع
عديدة داخل الحزب وخارجه، وكلّفني ذلك دفع فاتورة التضحية ببعض مكاسبي المُناصرة
لقضيّة بلدي لبنان، وهذا الأمر لا يخفى عن كلّ مراقب. وقد أكونُ اللُّبنانيّ
الوحيد الذي يمتلكُ قرارًا قضائيًّا بعدم التعامل مع إسرائيل، وإثْر اتّهامي
بالتعامل معها، أثناء دفاعي عن "سمير جعجع" المحبوس على ذمّة تُهمة
قضيّة مقتل "رشيد كرامي"، رغم اختلافنا سياسيًّا، قبلتُ التوكُّل
للدفاع عنه.
حينها قرَّرتُ قلب السّحر على السّاحر، وأتْبَعتُ
ذلك بدعوى أقمتُها أمام المحكمة العسكريّة، وقلتُ لهم: هناك تهمة، وأريدُ أن تُحقّقوا
معي، وأريدُ قرارًا، هل أنا مُتعامل أو غير مُتعامل. بالطّبع أكملتُ دفاعي في
قضيّة جعجع، وأنجزتُ عملي حتّى النهاية، وتحمّلتُ الضرر الناتج عن موقفي هذا، كِدتُ
أن أدفع بمستقبلي السياسيّ في سبيل ذلك.
حرارة الحوار جعلت السيّد كريم منفعلًا بتوتُّر
ظاهر، عندما رفع نظّارته ومسح حول عينيْه، ولم يُرجعها إلى مكانها.. وضعها أمامه
على الطّاولة وتناول كأس الماء لتبليل حلقه الجافّ لاسترساله المتواصل في الردً على
أسئلتي التي تنخز خاصرة الحدث، وربّما أوجعت العميق في دواخله، رغم ذلك بقي
متماسكًا محافظًا على هدوئه المعهود، وحرارة حديثه بنبرته الموحية لي بأنّها خارجة
من أعمق أعماقه.
إشارة من صديقي الوسيط الذي كان يجلس
بجانبه، ذكّرني بضيق الوقت المُتبقّي حوالي ربع ساعة فقط، لارتباط السيّد كريم بمواعيد
على غاية من الأهميّة مع الفعاليّات السياسيّة في لقاءات حثيثة من أجل مشاورات لتشكيل
حكوميّ، بعد أزمة المظاهرات والاعتصامات المُنادية بتحسين الوضع المعاشيِّ للشَّعب
برفع السويّة الاقتصاديّة، ورحيل السياسيّين الفاسدين من مناصبهم.
أزمة حقيقيّة عطّلت الحياة بشكل عامّ،
وأيقظت المسؤولين من سُباتهم الشتويِّ الطويل، ووصلت الأمور ذروتها بالمُشادّات مع
قُوّات الدّرك، وسقوط بعض القتلى والجرحى من النّاشطين، واعتقال العديد منهم.
***
بعد استراحة قصيرة احتسيْنا من فناجين
قهوتنا بضع رَشَفات، ودخان سجائرنا يُشكّل هالة من ضباب خفّف وضوح صورنا المنقولة
عبر السّكايب، تبادلنا بعض النّكات الخفيفة، والمجاملات.
استحضرني
سؤال مهمّ، استحوذ على اهتمامي أدخلني في حالة استماع فقط دون مشاركتهم الحديث.
عيناي مُصوّبتان باتّجاههما، وتفكيري ذهب بعيدًا إلى الفَراعنة ولعنتهم الشّهيرة.
كان
لا بدّ من صياغة سؤال بطريقة منطقيّة للسيّد كريم، بدأتُ أكتبُ وأشطبُ على ورقة أمامي
على الطّاولة، ساورني قلقٌ كاد أن يُغلق عليّ منافذ التفكير بالاتّجاه الصّحيح؛
لضيق الوقت وتزاحم الأسئلة، وأيّها الأحقّ بالطّرح أوّلًا، جاءني صوت السيّد كريم،
بعد أن أطفأ سيجارته:
- تفضّل أستاذ فطين.
-"شكرًا سيّدي.. تبادرَ إلى ذهني سؤال
بخصوص عنوان كتابك (لعنة وطن)؛ فهل من رابط موصول مع مصطلح (لعنة الفراعنة)؟ حسب
اعتقادكَ.
ابتسامة
عريضة ارتسمت على وجهه، وبدا بارتياح عميق استخرج نفَسًا عميقًا بتأوّهٍ مَوْجوع
ببُّحة حُزنٍ مُستوطِنٍ في أعماقه، امتدّت سُبَّابته اليُمنى لحكّ صِدْغه الأيمن،
ومن ثمّ ذهب لحكّ فروة رأسه، لاحظتُ توتّرها الخفيف المُسيْطر عليه. ابتسم
للكاميرا، أردفها بهزّة من رأسه، أوْحَت لي بارتياح أرخى أعصابي المشدودة، فهمتُ
أنّني توفّقتُ في سؤالي، وكأنّني به، أنّه كان ينتظر منّي ذلك.
- بداية لا بدَّ من الإشارة إلى دلالة كلمة لعنة؛ لتتّضح الرُّؤية بشكل دقيق. فاللَّعْنة
كما في اللّغة: تَلَفُّظٌ بكلمات تُعبِّر عن طَلب الشَّرّ لِشَخص أَو التَّمنِّي
بأَن يَحلّ به شَرّ وسُوء. واللّعن هو السبّ والشّتم. ومن لَعَنَهُ اللَّهُ يكون
قد أَخْزَاهُ وَأَبْعَدَهُ مِنَ الخَيْر، وإذا لَعَنَهُ فلانٌ غيرَه : قال له عليك
لعنةُ الله، وأمرٌ لاعِن : جالب للَّعْن وباعث عليه، والمعنى الأخير هو مقصود
ومدار الكلام.
وأمّا
لعنة الفراعنة هي مصطلح حديث؛ فكانت الحكايات المصريّة الأسطوريّة تتناقل الكثير
منها عن لعنة المومياء. وتشير جميعها إلى أنّ اللّعنات المصريّة هي في المقام الأوّل
ظاهرة حكائيّة بغرائبيّتها من مكوّنات ثقافيّة اجتماعيّة، وليست علمية على سبيل
الحصر.
وبدأ
الحديث مُوسّعًا عن أسطورة لعنة الفراعنة، عند افتتاح مقبرة (توت عنخ آمون)
عام 1922م. وأوّل ما لفَتَ انتباههم نُقوشٌ تقول "سيضرب الموت بجناحية السّاميْن
كلّ مَنْ يُعكّر صفو الملك". هذه هي العبارة التي وُجِدَت منقوشةً على بُوَّابة
المقبرة. والتي تلا اكتشافها سلسلة من الحوادث الغريبة، التي بدأت بموت كثير من العُمّال
القائمين بالبحث في المقبرة، وهو ما حيّر العلماء والنّاس، وجعل الكثير يعتقد فيما
سمّي بلعنة الفراعنة، ومن بينهم بعض علماء الآثار الذين شاركوا في اكتشاف حضارات
الفراعنة.
ومن باب الشيء بالشيء يُذكر؛ فهذا الوطن الذي أنبتَ
الحبَّ على العالم، كان صَدرًا حنونًا، فتح ذراعيْه منذ القديم للمهاجرين القادمين
من بلادهم بسبب الحروب والاضطهاد لهم ولعقائدهم، وأكبر مثال أنا (كريم بقرادوني)،
ها أنا لبنانيّ أصيل الموطن، غير منقوص من حقوقي شيئًا، وسيرة أبي الذي قدم إليها لاجئًا
من موطنه الأصليّ أرمينيا، وخلال فترة بسيطة تزوّج أمّي، واندمج بمجتمعه، وها هي
سيرتي تحكي عنّي، ولستُ بحاجة لأحكي عن نفسي.
بعد كلّ هذا..!!
ألا
ترى يا فطين، أن لعنة مصالح وخلافات الدُّوَل، والأنظمة جاءت لعنةً علينا؟.
وهل
كان على أبناء الوطن الانخراط في تجاذُبات لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟.
كم
تمنّيتُ لو أنّهم تساءلوا، لماذا ندمّر بلدنا الذي بنَيْناه بالعرق والتعب؟.
وهل
الوطن أصبح خيمة، أو شجرة في صحراء نستظلّ بها كما العابرين ونمضي؟.
وثقافة
الكراهيَّة أمرضت الوطن وأحزنت أهله، بالاقتتال الطّائفيِّ والحزبيّ على مدار
سنوات، الأرض كرهت الدم الذي سال أنهارًا.
وما الذي جَنَيْناه وربحناه بعد كل ذلك؟.
تلك
هي اللّعنة التي قصدتُها، إضافة للَعنات الأجيال القادمة التي ستنصبُّ علينا، وما
دَرَاك..!! كم سيدرّ علينا التّاريخ من لعنات لا تنتهي إلى يوم القيامة؟.
-سيّد كريم، يبدو أنّنا اللّعنة نفسها
التي حلّت..!!.. لم يكن الوطن يومًا ما.. لعنة على أبنائه أبدًا.
قلتُ
جملتي الأخيرة، ولاحظت ملامح التأثّر البالغ على وجه كريم، من جديد رفع نظّارته،
ومسح عينيْه بحركة سريعة من يده؛ فبدت آثار احمرار على بياضهما.
-الحرب مطحنة تُفني الحجر والبشر.. ضيق
الرّؤية يُغلق نوافذ الأمل ولولا الأمل لضاقت فُسحة الحياة على الأحلام والطّموحات،
ولاتّسعت مساحات اليأس، والقنوط، والمقابر؛ فالموت والخراب شريعة الحرب. هابيل
افتتح مهرجانها الأوّل، وترسّخ مبدأ للقويّ بالاستقواء على الضّعيف بالغَلَبَة
والسّيطرة على مُقدّراته ببشاعة سالبة لمقوّماته الإنسانيّة.
فلا حياة مع الحرب أبدًا..!!
هُوّة
كبيرة.. عظيمة.. واسعة.. تغذّت كراهيّة
حدّ الإشباع، مؤشّر الهبوط تصاعد ارتفاعًا.. كما انهيار اللّيرة اللُّبنانيَّة المُريع
أمام الدولار.
-لا حياة مع الحرب.. فهي شريعة الخراب.. وهي
اللّعنة العُظمى التي حاقت بالوطن. برأيكَ سيّد ي. ما هي أظهر نتائج لعنة الحرب. حسب رؤيتك؟.
-أستاذ فطين، ذكرياتي عن ذلك، وأُفضّل أن
أُطلِق عليها اللَّعنة، والتي أوّل ما حلّت على رؤساء الجمهورية الموارنة:
فقد تسلّم (سليمان فرنجيّة) الحكم في لبنان ١٩٧٠مُرغمًا، غير أنّه
اضطرّ إلى تسليم (إلياس سركيس) الأمانة خارج القصر الرّئاسيّ، وفي ظلّ
حكومة مُنقسمة؛ فحلّت الأزمة بدل أن تُحلّ.
ورافق
عهد (إلياس سركيس) انتشار الجيش السوريّ في لبنان، وتزامنت نهاية عهده عام
١٩٨٢مع غزو الجيش الإسرائيليّ، واغتيال (بشير الجميّل) بعد واحد وعشرين
يومًا من انتخابه، وهو أوّل رئيس يستشهد، يومها تحوّلت المأساة إلى لعنة.
واستهلّ
(أمين الجميّل) حكمه في 23/ أيلول/ ١٩٨٢في جوّ من الأمل، وأنهاه بصورة
درامكتيكيّة، كان أوّل رئيس للجمهوريّة لا يؤمّن انتخاب خَلَفٍ له؛ فترك الجمهوريّة
مُمزّقة في عُهدة حكومة عسكريّة برئاسة (ميشال عون) ليل ٢٢/أيلول/١٩٨٨.
وتلقّف
(ميشال عون) السّلطة كمن "يتسلّم كرة نار" لم تتأخّر في إحراقه
وإحراق ما تبقّى؛ فاستسلم لقوّة النَّار السُّوريَّة، التي أطاحت به؛ فلجأ إلى السَّفارة
الفرنسيّة في ١٣/أكتوبر/١٩٩٠بعد أن اقتحم الجيش السوريّ، لأوّل مرّة قصر الرّئاسة
في بعبدا، ومقرّ وزارة الدفاع، وقيادة الجيش في اليرزة.
*سبق سقوط (عون) انتخاب (رينيه
معوض) رئيسًا للجمهوريّة في ٥/تشرين الثاني/نوفمبر/١٩٨٩، واستشهد بعد سبعة عشر
يومًا، في ذكري الاستقلال في ٢٢/تشرين الثاني – نوفمبر/١٩٨٩. فتحوّلت الذكرى إلى
موعد مع اللّعنة التي حلّت بثاني رئيس للجمهوريّة. وخلف (إلياس الهراوي) الرّئيس".
-"وهل اللّعنة اِنْصبّت على رؤساء
الجمهوريَّة المَوَارنة بشكل خاصٍّ.. كما
تفضَّلتَ؟".
- بكلّ تأكيد لا.. بل انسحبت آثارها على
رؤساء الحكومة، وأصابت أداءها بالشَّلَل التامّ، وصرفها عن مهامِّها الرَّئيسة في
معالجة القضايا اليوميّة للمُواطنين اللُّبنانيّين. وسأبيّنُ ذلك، خُذْ مثلًا رؤساء
الحكومات السُّنة:
في موازاة رؤساء الجمهوريّة الموارنة ضربت
الحرب رؤساء الحكومات السُّنّة؛ فذهبت الرَّصاصة الأولى في ١٣/نيسان- أبريل ١٩٧٥
بحكومة (رشيد الصُّلُح)، وأنهى اتفاق 17أيار /مايو1983 الحضور السياسي لــ(شفيق
الوزّان)، واغتال منطق الحرب (رشيد كرامي) في أوّل حزيران. يونيو 1987،
وبقي (سليم الحُصّ) يعاني ويكابد، وشكَّل(عمر كرامي) شقيق رشيد في
نهاية عام 1990حكومة اتّحاد وطنيّ ضمّت كلّ قادة المليشيات المُتَقَاتلة.
- ما دام الأمر هكذا سيّد كريم؛ فهل اختلف
الوضع بالنِّسبة لرئاسة مجلس النُوّاب؟.
- بالطبع هناك اختلاف واضح للمُراقب من
قريب أو من بعيد؛ فرؤساء مجلس النُّوّاب ظلّوا في منأى عن اللّعنة، ولم تشهد هذه
الحرب الطويلة إلّا تعاقُب رئيسيْن لمجلس النُّوّاب فقط، هما: (كامل الأسعد)
الذي ترأسَّه من عام 1970 إلى 1984 و(حسين
الحسيني) الذي انتُخِب للمرّة الأولى عام 1984، وأُعيد انتخابه في المرّة
الأخيرة عام 1990 لمدّة أربع سنوات. ويبقى منطق التّاريخ هو الأقسى، ومعه تساوى اللُّبنانيّون
في الخسارة، الرّابحون والمنهزمون خسروا، والكلّ في مصيدة.
- معنى ذلك هو
الوصول إلى النُّقطة الصفريّة؛ فهل كان مقصودًا ذلك، أم كان نتيجة حتميّة؟.
اِعْتدل كريم بظهره للخلف قليلًا، وأخَذَ
نفسًا عميقًا، تناول كأس الماء، لاحظتُ أنّه لم يشرب للارتواء، بل لترطيب جفاف
شفتيْه وحلْقه، وقال:
- في الحقيقة هي كانت أكثر من حرب، إنّها
لعنة. هكذا تتراءى لي أزمة لبنان؛ فمع أنّ اللُّبنانيّين، وغير اللُّبنانيّين
اقترفوا كلّ الأخطاء والخطايا، أعتقدُ أنّ المأساة اللُّبنانيّة ليست من صُنع
البشر وحدهم. إنّ في بعض خفاياها شيئًا من لعنة الآلهة..!! ..بلا هوادة لاحقت اللَّعنة
الوطن، والشَّعب، والجمهوريّة، وستّة رؤساء.
- سيّد كريم لا شكّ أنّني أتعبتُك
بتساؤلاتي السَّاكنة في السّاحة الخلفيّة العتيقة للذّاكرة، وليس من المُحبّذ
استعادة الآلام؛ لأنّها قَتْلٌ للحظة الفرح في حاضرنا، ولكنَّ في بعض خفاياها
تكمُن لعنة الآلهة، وأُقدّر قيمة وقتك الثّمين الذي جُدتِ به على روايتي؛ لتجسير
الهوّة الكبيرة بين الحاضر والأمس، وأنتَ لاعب رئيسيّ على المسرح السياسيّ في
لبنان، وأرجو انتزاع موافقتكَ الفوريّة، لاستكمال الحديث الطويل الذي لا يمكن
الانتهاء بنصف ساعة. بل بحاجة للمزيد والمزيد من الجلسات. إلى اللّقاء قريبًا،
بأمان الله.
- بأمان
الله سيّد فطين، وسعادتي عظيمة بالحوار معاكَ، ولن أُطيل بالموعد القادم عليكَ،
انتظرني فقط لمدّة أسبوع، وسأرسلُ لكَ خبرًا على الواتساب. تحياتي للجميع.
أُسدِل
السّتار على الحلقة الأولى من اللّقاء الذي كنتُ قِلقًا بشأنه لدرجة كبيرة في عدم الحصول
عليه؛ لتكتمل افتتاحيّة روايتي (خيمة في قصر بعبدا).
***
ما
زالت صورة كريم لم تبرح الشّاشة، إلّا ونبرات صوته يتردّد صداها في أُذُنيّ،
وخياله استولى على نفسي، غفلتُ لبعض الوقت عن مُحيطي، تذكّرتُ أنّ أمامي طاولة وعليها
حاسوبي الشَّخصيِّ، وتنبيهه لي بأنَّ شحن بطاريَّته أوشكَ على النَّفاد، وبحاجة
لتوصيله بالتيَّار الكهربائيِّ.
الأمر
لم يحتمل الانتظار، ولن ينتظر الحاسوب تكاسُلي المتباطئ؛ فيفصل في لحظة فارقة
ربّما يضيع لي عملٌ على صفحاته لم أعطه أمر الحفظ له، ولن يُفيدني ندم ساعتئِذٍ.
تحاملتُ
بتثاقُل للخطوة الأولى، خَدَرٌ وتنميلٌ في رِجْليّ من جُلوسي لساعات طويلة، دون
حساب لأعضائي التي تئنُّ تعَبًا وإرهاقًا مُتجاهِلًا إنذاراتها.
فما
الذي يجعلني أستجيبُ لإنذار الحاسوب، وأهملُ إنذار أعضائي..!!؟.
ربّما
الإهمال لبعض المواقف يأتي بالفوائد غير المُنتظَرة، وفي غالب الأحوال يكون
مذمومًا بنتائجه السيّئة بانعكاساتها على مُجمَل الظُّروف المُحيطة، ومن المُمكن
تمتدُّ لفترات زمنيَّة قادمة.
ومن
باب التسلية للخُروج من قُمقم المقابلة؛ ضحكتُ ملء قلبي من نكتة وصلتني على
الواتساب من صديق: (اللَّيْرة السُّوريّة تقترب من اللَّيْرة اللُّبنانيّة.. وهَيْك
رَحْ يتحقَّق حُلُم: سوى إربينا.. سوى إمشينا.. سوى ضيّعنا مصارينا..!!)، وشرّ البَلِيّة ما
يُضحِك، هكذا تحسّست (بسمة الخطيب) سوء حالنا الاقتصاديّة على وقع طُبول
الحرب التي أكلت الأخضر واليابس.
التعادل
الصُّفريِّ أيضًا عدالة فلا غالب ولا مغلوب، الحرب ساوَت بيننا.. المُساواة في
الخراب والدّمار. أولًا دُمِّرت لبنان على كلّ المُستويات، واليوم سوريّة.
وعرّجتُ
على اليُوتيوب، على الفور طالعَتْني الفيديوهات والمقاطع المُقترحة لمشاهدتها، أو
عَرْضًا من القنوات المُشترك بها، الإشعارات لم تتوقّف.
لفت
اِنْتباهي أغنية فيروز (سوا إربينا)، لا أدري الآن على وجه الدقَّة ما الذي
يجعلني أعيدُ سماعَها بحنين واشتياق؟. يبدو أنّ الذكريات كلّما عتّقها الزّمان تزداد
نكهة مُحبّبة كالعسل، تستطيبها النّفس. وتستريح في ظلالها القلوب المُتعبة من
أحمال الواقع وتجاعيده، وهُروبًا من أجل النسيان، حتّى وإن كان مُؤقّتًا ولو
للحظة.
فيروز
تُغني: (سوا ربينا سوا مشينا ..سوا
قضينا ليالينا
معقول الفراق بيمحي أسامينا .. ونحنا سوا سوا
ربينا.. إلخ).
سَبَح
لساني في دندنة مع الأغنية باللّهجة اللّبنانيّة الناعمة المحبَّبة إلى قلبي، وانسابت
روحي امتدادًا على مساحة من النَّشوة، كجدول ماء هادئ يتراقص على أنغام الرَّبيع،
سحبتني بعيدًا إلى عوالم من البهجة مضت من أيّام كانت مليئة بالفرح والسُّرور.
كنتُ
وقتها أُتابع برنامجًا على التلفزيون السُّوريّ، يحمل عنوانًا له أغنية فيروز (سوا
إرْبينا)، فيما قبل الألفيّة الثانية بسنوات تُناهز العِقْد، وعلى ما أذكر
أنّه يُركّز على سوريّة ولبنان، ورسالته التي وصلتني آنذاك على أنَّهما بلدٌ واحد،
مثلي مثل جميع المُشاهدين. أيّامها لم يكن سوى قناتيْن فقط، الأولى تبثّ باللّغة
العربيّة، والثانية بالإنكليزيّة، والافتتاح يوميًّا في الرّابعة ابتداء بفترة
الأطفال، والفترة التعليميّة، وفي الثانية عشر ليلًا، تختتم برامجها بــــ "غدا
نلتقي" مع نشيد حُماة الدّيار و رفيف العلم.
***
وقتها نشأت مُفارقة في ذهني، كنتُ مُتاكّدًا من
أسباب منشئها، وهي كثيرة، المواقف تُبنى عليها ومن أجلها الآراء. لم يكن رأيي يهمُّ
أحدًا إلّا أنا وحدي فقط، لكن تساؤلي: هل أستطيعُ المحافظة عليه في سِرِّي إلى
مالا نهاية، وإن جاء الوقت لأبوح به للملأ على صفحات روايتي، سيَّما وأنا أكتبُ عن
مرحلة شهدتُ ووعيتُ بعض مفاصلها؟.
أعتقدُ
جازمًا.. أنّني في مرحلة سابقة سجّلتُ شهادة على العتمة، أثارت زوبعة من الاستهجان،
وكانت التساؤلات المدهوشة مشروعة..!!.
-(من المعلوم للقاصي والدّاني، أن
الشّاهد الحقّ، لا يشهد إلّا على مثل الشّمس. وشاهدُكَ شَهِد على العتمة، وهل
العتمة بحاجة لمن يشهد عليها..؟. وأين كان يجلس شاهدُكَ. فهل كان داخل العتمة.. أم
خارجها..!!؟.)
ولكي
لا أكون انتهازيًّا.. عندما ورّطتُ شاهِدِي، وعملتُ على إقناعه بالإدلاء بشهادته
المُدوّنة في كتاب (شاهد على العتمة)، وثّقتُ له أقواله في زمانها ومكانها؛
ليتأكّد يقينًا أنّ ما شهد به لم يكن مُجازفة ثرثارة من أجل الثرثرة فقط.. و(سوا
إربينا) جزء من العتمة الفاصلة بين الشعبيْن والبلديْن، وكان القائمون على البرنامج
يحشدون آلاف الشَّواهد والبراهين على أنَّ لبنان وسوريّة (شعب واحد في دولتين).
مَقولة الرّئيس (حافظ أسد)، وأنّ ما يجمَعُهم من العلاقات الاجتماعيّة والثقافيّة
والاقتصاديّة ضاربة بجذورها عميقاً في المصالح الماديّة، وفي الوعي واللّاوعي السُّوريَّ
اللُّبنانيِّ المُشترَك. شاهِدِي أخبرني:
-
بأنّ ذلك هو جزء من العتمة التي قصدتّها.
وما
أجمل ذلك الودّ والحب الذي نشأ بين الحاج عوض ونجيب المُر الذي لم ينته
بموتهما، بل ما زال أحفادهما يحكون عنه. وذكرى تاريخيّة عظيمة يقصّون حوادثها
باعتزاز وفخر.
لم
يتوقّف شاهدي عن كلامه الذي جاء في موعده، حتّى ولو جاء بعد سنين طويلة، على سبيل
التّعليق والإيضاح لموقفه مما حدث، وأعتقدُ أنّ ذلك بمثابة شهادة جديدة له، يُعتَدُّ
بها. فقال:
- حقيقة يتوقّف المرء بتبريراته لأصحاب
موقف، يعملون حشدًا ودفعًا للوصول إلى غاياتهم ودوافعهم، لكنّ المُقْلِق في
الأمر.. ولم أستطع فهمه: أنّ المُتَظلِّمين يشكون دائمًا، وبأعلى صوتهم مُعلنين
ذلك، وهذا ما رأيتُه من فريق من اللُّبنانيّين من مؤيّدي الرَّئيس الأسد، كردّ للجميل
له؛ ابتكروا عبارة (وحدة المسار والمصير).
لا
أدري إن قالوها بحُسن نيّة أو خلافها؟. وما سيكون موقفهم إن كانوا جاهلين بأنّه تعبير
صريح عن تخلّيهم عن حقّ لبنان في صوغ سياسته الداخليّة والخارجيّة؟، وبما تقتضيه
مصالحه وسيادته على أراضيه، مُقابل استمرار دعم سوريّة لسيطرتَهم على طوائفهم، وحصصهم
من غنائم نهب المال العام، تُغطّيه شعارات المقاومة، والعداء للصُهيونيّة
والاحتلال.
استثارني
بحديثه فائق الصّراحة، وعلى رأي (أوشو):
(علينا أن نُظهر وجهنا الحقيقيّ مهما
كان الثّمن.. جازف لتكون حقيقيًّا، والإنسان الذكيّ ثائر، عندما يمتلك القُدرة على
اكتشاف غير العاديِّ من العاديِّ).
لحظتها
لم أتمالك نفسي من الاستماع له؛ فشاركته رأيي الذي لا يحتمل التأخير خوْفًا عليه
غائلة النِّسيان الفوريِّ في زحمة الأحداث، وما الذي أستطيعُ فعله لمن لا يملك
الإحساس بالانتماء لقضايا وطنه؟، ربّما يطير في جميع الاتّجاهات، كورقة شجرة يابسة
لا نفع فيها، تذروها الرّياح، سيغدو ضحيّة مثاليَّة للشَّيطان.
- من
السّهل عليَّ بعدما هيَّجني شاهدي؛ الإمساك بحجر في يدي لأقذفه في مياه البُحيرة الرّاكدة
بين بلديْنا، لكن من الصعب رؤية ما سيتولَّد عنه من دوائر مُتوَتِّرة على سطح الماء
الذي سقط فيه حَجَري. وستتناثر قطرات الماء ورَذَاذها، بينما مياه البُحيرة تحتويها
وتعيدها إلى حظيرتها.
لذلك
يا صديقي أرى: إنّها علاقة تكافُليَّة تضامنيَّة في الهيْمنَة والاستئثار بين سياسيّين
فاسدين، ودمويِّين في البلديْن البائسيْن. الغلبة فيهما حُكما للأقوى، والأشرس،
والأقدر على فرض إرادته.. بغضّ النَّظر عن
الوسائل والأساليب. جرى تكريس هذه العلاقة في معاهدة الأُخوَّة والتعاون والتنسيق،
التي ما زال أنصار سوريّة يؤكّدون: أنَّها جاءت في مصلحة لبنان، بيد أن تأويل هذه
المصلحة، وتفسيرها مسألة عويصة برأيي..!! وتحتمل النظر.
بعد
تأمُلّاتي تأكّدتُ بما لا يدَع مجالًا للشكِّ: بأنّ (أبناء آدم بعضهم من بعض،
في أصلهم خُلِقوا من جوهرٍ واحدٍ إن أصاب
الدَّهر أحد الأعضاء بألم، استجابت له باقي الأعضاء بالاضطراب، فإن كنتَ لا تُبالي
بِمِحَنِ الآخرين، فأنت لا تستحقّ أن تُسمّى آدمي..!!) من عُمْق مقولة (سعدي الشّيرازي)،
قبل ذلك بزمان بعيد. ولذلك استحقَّت هذه الأبيات أن يكتبوها على مدخل مبنى الأمم
المُتَّحدة في نيويورك.
***
انسجامي
مع فيروز ودندنتي معها، لم يمنع توارد الأفكار من اقتحامي؛ لتحقيق ذاتها في لحظة
فارقة مُميَّزة في سياقٍ زمنيٍّ متأخِّرٍ جدًّا عن تاريخها الحقيقيِّ لولادتها. وكأنّ
حكاية "سوا إرْبينا" ما هي إلّا مُقدِّمة لرحلة عشقٍ فيروزيَّة.
حنينٌ مُستكِنٌّ في أعماقها.
فيروز
والشَّام صِنْوانٌ لم يفترقا روحيًّا، وإن حاولت الجغرافيا السياسيَّة أن تُباعدهما،
قارَبَ بينهما الغَزَل العُذريّ بعلاقة حُبّ أفلاطونيّة يصعب تفكيك عُراها. فيروز
في أذهان ووجدان مُحبّيها، وما الذي سيزيد في معرفتي إذا عرفتُ أنّها (نهاد
وديع حدَّاد)، ابنة السُّوريِّ السُّريانيِّ (وديع حدَّاد) ابن مدينة "ماردين"
على الحدود السُّوريّة التركيَّة. الذي هاجر إلى لبنان؛ ليعمل في مطابع جريدة (لوجور)،
التي كانت تصدر في بيروت باللُّغة الفرنسيَّة.
حريّة
الحركة ما بين الشّمال والجنوب بلا عوائق ولا جوازات سفر ولا تأشيرات ولا مراكز
حدود. يبدو لي أنَّ لُبنان أرضٌ جاذبةٌ، وبالعودة للوراء قليلًا، سأعقد مُقارنة
بين السيّد (كريم بقرادوني) و(فيروز)؛ لأجد أنّهما مَسيحيَّان أرمنيٌّ
وسُريانيٌّ، الجيل الثّاني للمهاجرين إلى أرض أنْبَتْ الحُبّ؛ ليصيرا خلال سنوات
من أهل البلاد الأصليّين، هذه النُّقطة ذات مغزًى كبيرٍ جَعلِتْني، أُثبّتُ في آخر
صفحة في روايتي (الطريق إلى الزعتري)، وكانت آخر عبارة اختتمت بها الرّواية:
(كلّ أرض تُنبتُ الحُبّ وطن)، وما دَرَى الشَّاعر (محمود درويش)
حينما قالها في إحدى قصائده، أنّها ستكتب بماء الذهب، وتصير أيقونة تتناقلها الألْسُن
شرقًا وغربًا.
وفي
بيروت تعرّف (وديع حدّاد) على (ليزا البستاني) ابنة العائلة اللبنانية
العريقة منبت العلماء والأدباء، ولدت له فيروز عام ١٩٣٥في حيّ (زقاق البلاط)
القريب من العاصمة بيروت.
***
أثناء عملي في فندق (كورنيش رزدنس – هيلتون)
في مدينة "أبو ظبي" الجميلة فترة ما قبل الألفيّة الثانية، لمدّة
أربع سنوات، زَبُونٌ على كُرسيِّ الحلاقة، طلب منّي تغيير شريط الكاسيت في آلة
التسجيل، الخيار الأمثل كان عندي وقتها المطرب اللُّبنانيِّ (صبحي توفيق)،
بصوته الشجيّ ببُحَّته الشّهيرة، انطلق يُغنّي: (يا مال الشّام.. يلّلا يا
مالي.. طال المطال.. يا حلوة تعالي). احتجاجٌ غير مُتوقّع من الزّبون الذي
تبيّن من قوله، أنّه لبنانيّ:
- يا خيّي.. هايدا بغنّي ع سوريّة.
- يا صديقي هذا صُبحي توفيق لبنانيّ..
مُحبّ لسوريّة ويُغنّي عليها.
رأيتُ
امتعاضه من كلامي، وعلامات تقطيب جبينه أنبأتني بعدم رضاه عن ذلك؛ ولإراحته خلال
هذه الفترة القصيرة التي سيقضيها بين يديّ، أوقفتُ آلة التّسجيل، وكانت موسيقى
الفندق المركزيّة شغّالة على مدار السّاعة، مُريحة للنّفس والأعصاب، وتذهبُ
بالإرهاق.
-
حتّى ولو كان لُبنانيًّا.. لا أطيقُ احتمال ذلك.
- يا
أخي نحن سوا إربينا ليس أرضاً ولُغةً فحسب.. بل دمٌ واحدٌ.. ومصالح مشتركة، وعدوّ
مشترك.. إن هُزِم أحَدنا.. فعلينا جميعًا السَّلام أواصرنا العميقة فرّقتها ألاعيب
السياسيّين.. شام العزّ أمّ بيروت المحبّة
والسّلام، لن تُفرّق السياسة دماءنا.. معقول أنّ الفراق يمحي أسامينا..!! و نحنا
سوا ربينا.
هزّ
رأسه للأعلى عدّة مرّات رافضًا رفْضًا قاطعًا ما سَمِع منّي، مُستنكرًا مَقُولتي:
- حتّى ولو..!! لا أُطيق سماع ذلك، سأُصاب
بالجلطة فيما لو أُجبرتُ على ذلك؛ ستكون نهايتي.. نِحنا بنْريد تطلعُوا من عندنا..
يا خَيِّي.. اِفْهَمْني..!! بِدْنا نعيش، اتركونا بحالنا.
على
وجه السُّرعة نَقَدني الأجرة.. ولسانُه يُبَرْبِر بكلامٍ معجونٍ ببعضه ترافق مع وضع
رجله خارج باب المحلّ، لم أفهم منه شيئًا.. لكنّ ملامحه أخبرتني بكراهيَّته التي
لم يستطع إخفاءها، ولو من باب المُجاملة.
الأسَى
لا يُنسى.. لا أنا ولا هو لنا علاقة فيما حصل ويحصل، ولستُ قريبًا أو صديقًا أو
مُناصرًا لصاحب السياسات العمياء ذات النَّبْت السيّىء، هاهي زرعت كراهتنا نحن البُسَطاء
لبعضنا. فكما قيل: (الجماهير نزقة سريعة الانفعال.. تفتقر إلى الوعي والرّوح النقديّة).
الشعوب
أرقام نافعة للإحصاءات العامّة، والاحتفالات الوطنيَّة والقوميَّة والمسيرات
المُؤيّدة، عليها السَّمع والطَّاعة، وأن يكونوا مواطنين صالحين لا يُخالفون
راعيهم.
فما
هي علاقة المكان بالكراهيَّة؟.
وهل طبيعة الشُّعوب الكراهيّة.. أم هي مُكتَسبة؟.
أغلبُ
الظنّ أنّ: (الجماهير لا تهمّها الحقائق، وإذا ما انزعجت من الحقائق لا تعترف
بها وتتجنَّبها. بل تقوم بتأليه الخطأ إنْ أعجبها).
حرارة
الموقف استمرّ تأثيرها على تتمَّة يومي، أَوَيْتُ إلى فِرَاشي وسابقتني على موارد
النُّعاس والهدوء؛ أقلقتني.. إلى أن استبدَّ التَّعب والإرهاق الذي قاوم الحالة،
أخيرًا استسلمتُ للنَّوم.. تناوبتني الكوابيس.. صوْت الشّاب الغاضب يستثيرُني.. كنتُ
أُنصتُ مرّة، وأضحكُ بجُنون مرَّات.. أخيرًا لم أتمالك حبْس دُموعي.
***
بعد سنوات طويلة تواردت الذكريات البعيدة،
خاصّة بعد لقائي بالسيّد (كريم) بالأمس الأحد. واليوم الاثنين هو التّالي، كان
من المفترض أن يكون عُطلتي الأسبوعيَّة، فلا رغبة عندي للذهاب إلى أيِّ مكان، عندي
مواعيد ومشاوير مُؤجَّلة منذ زمان، ماتَتْ رغبتي في تنفيذ واحد منها، وحادثة فَرَدت
جناحيْها في ذهني من جديد، وحالة من الارتباك المُترقَّب لموعدٍ جديدٍ مع كريم.
مضى
اليوم الأوّل.. ونِلتُ حظًّا وافرًا من النَّرفزة. ياااااه..!! ألهذه الدّرجة أقلقتني
حادثة قبل عشرين عامًا.. يا إلهي..!! كم
كانت كلمة ذلك الشّاب: (الأسى ما يتنسى) فكما كلامي آلمه آنذاك..
هاهي ارتدادات كلامه تُؤسيني آلامًا حقيقيَّة من جديد.
اسودادُ كلّ شيء في هذا اليوم..!!
زميلي
في الصّالون مُنشغِلٌ في صنع فنجان قهوة الصَّباح. عينياي ترقُبان حركة يده
اليُمنى بالتفافاتها الدائريَّة تدور في دلَّة القهوة بانسجام على وقع موسيقى
أغاني فيروز الصباحيّة. أنا في عالم بعيد جدًّا عن هُنا، رائحة القهوة تُعاندني..
تقتحمني بقوّة غير آبهة بألمي الدَّاخليِّ.. يبدو أنّها تميلُ إلى تعديل مِزاجي
المُتعكّر منذ البارحة.
ليس
دائمًا تكون الذكريات جميلة. وليس من الضروريّ أن يصاحبها الفرح والسّرور. ربَّما
تأتي لتعكس مسارنا في اتّجاهات أخرى. تعمل على تغيير قناعات كانت بمثابة اليقين؛
فتضعفه.. لتعيدني إلى حالة الشكِّ المُزَعْزِع للإيمان؛ لأخوض رحلة مُتأرجِحةً ما
بين الشكِّ واليقين.
صوت
صديقي كأنّني لم أسمعه، وهو يدعوني لأخذ فنجاني من قهوته اللَّذيذة التي أحبّها
مشغولة من يده. لأنَّه يتأنَّى عليها، لا يضع البُنَّ إلّا بعد غليان الماء على
نار هادئة، ويتفنَّن في طبخها بمزاج رائق، القهوة بلا مزاج لا طعم لها، ستكون
مشروبًا عاديًّا غير مُتربطٍ بطُقوسٍ معتادةٍ لدى كلّ شخص مختلف عن الآخرين.
(سَكَن
اللّيل.. وفي ثوب السّكون.. تختبي الأحلام). أخرجتني فيروز عندما ابتدأت تُغنّي
قصيدة (جبران) من حالتي، ترافق مع النِّداء الثالث لصديقي. وفنجاني
ينتظرني.
سكنت
هواجسي مع أوّل رَشْفة. بُخارٌ مُتصاعِدٌ إلى فُتْحَتيْ أنفي. سكونُ اللَّيل أسكن روحي..؛
فأصدرتُ نفَسًا عميقًا أزاح بعض الضِّيق عنّي.. وابتسمتُ من كلام ذاك الشَّاب الذي
أقلقتني ذكراه المُتردِّدة على ذهني منذ البارحة.
***
ياسمين الشّام على مدار التاريخ لم يزَل يُرسِل رسائل
العِشق والحبّ إلى أصقاع الكون بلا تمييز. وقاسيونُ شاهدٌ ثابت على موقفه، حارس
لبردى والأمويّ، ويحنو على الرَّبوة؛ فما الذي حدا بأمير الشعراء يُسطِّر أعظم
قصائده فيك يا شام.
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
وعند
انتقاله إلى مدينة زحلة في لبنان، نظم أعظم قصائده الخالدة (يا جارة الوادي)
أيضًا. فلا أروع ولا أجمل من شدو فيروز لها:
يا جارةَ الوادي ، طَرِبْــــــــــــــــتُ
وعادنـي ما يشــــــــــــــــــبـهُ
الأَحـلامَ مـن ذكـــــــــــــــــــراكِ
مَثَّلْتُ فِي الذِكْرَى هَواكِ وفِي
الكَرَى والذِّكرياتُ صَدَى السّـــــنينَ
الحَاكـي
ولقد مررتُ على الريـاض برَبْـــــــــــــــــــوَةٍ
غَـنَّـاءَ كنــــــــــــــــــتُ حِيـــــــــــــــــــــــــــــــالَهـا
أَلقـــــــــــــاكِ
وهل كان الرّابط بين هاتين القصيدتين في
ذهن أمير الشّعراء قد جاء عبثًا؟.
هي
الأماكن.. وحدها بهدوئها.. بجمالها.
بذكرياتها مع الصَّحْب الكرام، وما إن ودَّع دمشق، كان اللّقاء في عروس البِقَاع مدينة زحلـة
مدينـة الخمر والشعر، هكذا سُمّيت..!! .
وفي
هذا الجوّ تتجلّى الأسئلة في الذِّهْن لا لشيء، فقط للتساؤل. ارتباط الخمر والشعر
في زحلة. هل كان لأمير الشعراء نصيبه من خمرتها الشّهيرة، وبعد انتشائه جادت قريحته
بخالدته الرّائعة، التي لحّنها موسيقار الأجيال (محمد عبدالوهاب).. وغنّاها
بصوته. وغنّتها (لورا دكّاش.. نور الهدي)، وفيروز؟.
زحلة
هي مدينـة السهل والجبل تربـط سهل البقاع الخصيـب ببيـروت والجبـل ودمشق. تشتهر
بواديها الذي يجري فيه نهر (البردوني) وبمطاعمها المتناثرة على ضفافه. وجارة
الوادي اسم زحلة الذي ابتكره لها أمير الشعراء.
أثناء
كتابة هذه الفقرة حداني شوق المعرفة إلى سبب تسمية زحلة بهذا الاسم، الأمر الذي
شغل بال الشّاعر، ألا يستحقّ منّى الالتفات والتوقّف، لاستجلاء حقيقة جهلي به،
فتوقّفت على بعض المصادر التاريخيّة، وتبيّن لي أنَّ آراء المؤرّخين تضاربت حول
أصل تسميتها:
(منهم
من ردّها إلى "الأرض الزّاحلة"، إذ أنّ طبيعة أرضها وبنيتها الجيولوجيّة
تختلف عن سواها بزحلها، خصوصاً في الأحياء الغربيّة حيث كانت تحصل سنويّاً زُحولات).
و(منهم من ردّ اسمها إلى
"زحلان"، أحد ملوك بني هلال، ويحتمل أن يكون سكن زحلة إثر الفتح العربيّ
الإسلاميّ للبقاع، في القرن السّابع الميلادي فأطلق اسمه على المدينة).
و(منهم
من ردّها إلى كوكب "زحل"، هذا الكوكب الذي عبده الرومان وجعلوه إله
الخصب وذلك بعدما اكتشف فيها من آثار رومانيّة ومن نقود وأنفاق) .
منذ
صغري ارتبط اسم زحلة بالعمّال الذي كانوا يعملون في بيروت، كنت أستمع بنهمٍ وشَغَف
إلى القِصَص التي كانوا يروُونها عن بيروت والعَمارات العالية، وللتدليل على
ارتفاعاتها الشّاهقة.
يقولون: "بتنقطع الرَّقْبة.. وهي
تتطلّع لِفَوْق حتّى ترى نهايتها".
أو أنّها تُناطح الشّمس. وحكاياهم عن البحر
والكورنيش والميناء. وبرج حمّود. واسم صاحب دكان، وهو عنوان مُعتَمَد لدى هؤلاء
العُمَّال الذين يقطنون جميعهم في هذه المنطقة، في بيوت قديمة، ويتكدّسون بأعدادهم
الكبيرة فيها، وأغلبهم من كانوا يعملون بمهنة حدّادي باطون، وقلّة منهم من عمل
نجّار باطون. وعدّة عمل الحدّادين رخيصة الثَّمن، ولا تتعدّى الكمّاشة ذات الرأس
العريض الحادّة لقطع الأسلاك الرّفيعة لربط قضبان الحديد ببعضها، لتتماسك قطعها وأجزائها،
وجعلها جسمًا واحدًا مُتماسكًا، تمهيدًا لصبّ الباطون عليه.
وَلَعِي
بالإنصات لهذه القصص، خاصّة طريق رحلتهم في العودة التي تستغرق معظم ساعات النّهار
للوصول إلى وجهاتهم وبيوتهم، وفرح أهاليهم بعودتهم.
وكان
اسم زحلة يرد في معظم أحاديثهم، فيها محلّات الصّرافة؛ فيُبَدّلون اللّيرات
اللّبنانيّة التي كانت أعْلى سِعْرًا من اللَّيرات السُّوريَّة، وأنّ كلّ ليْرة ورُبُع
سوريَّة كانت تعادل ليْرة لبنانيّة، وأسعار الصَّرف في زحلة أغلى من بيروت بشكل
دائم؛ فهي محطّة ضروريّة للمسافرين في الاتّجاهيْن؛ يشترون منها هداياهم وأغراضهم
الضروريَّة.
وبداية
سفري مع والدي إلى الكُويت، عندما كنت صغيرًا أثناء العُطلة الصيفيّة، للعمل معه
ومساعدته في أعماله التجاريّة هناك، كانت تأتينا سيّارة (بيك آب) مُتخصِّصة ببيع
الخُضار، وهي عنصرٌ أساسيٌّ في معظم المحلّات التجاريّة، وعلى الأخصِّ البِقَّالات.
ومن
الموادّ الغذائيّة الهامّة المطلوبة لدى زبائننا، وفي كلّ مكان من العالم (البطاطا). الكويْتيّون يطلقون عليها اسم (البُوتِيتَة)
وليس من الغريب أنّ أغلاها سعرًا هي بطاطا زحلة، كما هو مكتوب على الصناديق
الخشبيّة والكرتونيّة، وأذكر أنَّ معظم شركات تصدير الخضار والفواكه كانت تتمركز
في زحلة. محيطها سهل البقاع الخصيب المُنْتِج لمعظم غِلال لبنان الزراعيّة المُعدَّة
للتصدير.
وبالعودة
إلى المدينة للحديث عن مهرجان أقامته مدينة زحلة؛ احتفالاً بإزاحة السِّتار عن
تمثال للأديب الرّاحل (راجي الرّاعي)، وكان أهمّ المدعوِّين لإلقاء قصيدة
في المهرجان هو الشَّاعر (سعيد عقل)، وكان في التسعين من عمره، ومن غير الممكن أبدًا أن يجري إقامة احتفال على
هذا المستوى في المدنية، ولم يكن الشَّاعر في هذا الخضمّ، وهو أحد أبرز أعلامها من
الشُّعراء.
يقول الكاتب (لامع الحر) :
- (عندما وصلت إلى الحديقة الشَّاسعة، خِفْت
على كبيرنا من أمريْن: هل سيمتلئ هذا المكان الشاسع بجمهور الشِّعر؟ وهل ستُراعي
زحلة – عروس الشعر – عودة شاعرها بعد عقدين ونيّف فتعبِّر عن شوقها إليه، بما يليق
بها وبه؟ والثاني هو خشية على الشِّعر نفسه، حين يُقرأ في الهواء الطلق، الذي لا يُوفِّر
غالباً الهدوء الكامل، للإصغاء المتناهي والاستمتاع بهطول الصَّوت وتدفُّقه، كما
زخَّات المطر. وكم كانت المفاجأة سارة عندما تدافعت الجماهير واحتشدت للاستماع إلى
آخر العظماء في شعرنا الخليليِّ. جمهورٌ لم يخْلُ من الرسميِّين الذين فجأة صاروا
من عُشَّاق الشِّعر ومن مُشجّعيه الميامين، الذين يتكبّدون المشقّات لحضور عرس
إبداعيٍّ نادراً ما يتكرَّر. والمفاجأة الثانية تجلّت في صوت سعيد عقل الذي كان وُسْعَ
المكان المُنطَلِق إلى الآفاق، على الرَّغم من ابتعاده عن الميكروفون في أغلب
الأحيان، غِرّيداً يمسك الشعر، ويقبض عليه كأنّه اللُّقيا التي لم يعثر عليها سواه).
***
يومًا بعد يوم تفتُر عزيمتي، ويقلّ حماسي
لمتابعة الكتابة، وأنا على انتظار خبر ثانٍ من السيّد كريم منذ حوالي شهريْن، كلّ
أسبوع تأتيني رسالة عبر الواتساب:
-عزيزي فطين.. الوقت ضيّق ولا أجد الوقت
لمقابلتك ثانية. أو : أنا مسافر إلى الخارج لمدّة شهر. أو: اجتماعات مُتتالية
لاختيار رئيسٍ للجمهوريّة. وهكذا.
انخرطتُ
في قراءات مُعمَّقة، لرواية (قواعد العشق الأربعون) حتّى انتهيتُ منها.
استغرقتني جُلَّ وقتي خلال شهر كامل؛ فاستنفذت طاقتي لدرجة أوصلتني مرحلة الإشباع
من الكُتُب والقراءة لأيِّ موضوع، حتَّى أهملتُ كلَّ شيء، وتكاسلتُ عن متابعة (الفيس
بوك) اليوميّة، تساؤلات أصدقائي على الخاصّ، تستفسر عن أسباب غيابي.
تجدّدت
رغبتي في القراءة من جديد، بينما كتاب (لعنة وطن) مازال يصطفّ على الدّور
في قائمة مُطالعاتي منذ أن اشتريتُه من معرض الكتاب.
جاء
الوقت المُناسب للتفرّغ الكامل له، لاستكشاف خفايا الكتاب، وعمل تقاطع معلومات مع
قراءاتي السَّابقة في الجرائد والمجلّات وعلى الأخصّ مجلة (الشّراع)
اللُّبنانيّة، التي داومت على شرائها لسنوات فيما قبل الألفيّة الثانية.
لمّا
يئستُ من حصول مقابلة ثانية، استقرَّ رأيي
على الأخذ مباشرة من الكتاب لإتمام هذا الفصل من معلومات كنتُ أنتظرها من السيّد
كريم.
اللّجوء
إلى البديل لا بدّ منه، كما اللّجوء إلى التيمُّم من أجل الصَّلاة مع انعدام وجود
الماء. تجدَّدت آمالي، وتباعد اليأس عنِّي مسافات. وفي كلِّ صفحةٍ حكايةٍ جديرةٍ
بالتَّوثيق، وواضحة برسالتها بلا غبار.
وقراءة
ما وراء الحروف والكلمات، نَحَوْت فيها منحى النُّقّاد؛ لاستخراج مكنونات النُّصوص
التي تنصبُّ عليها دراساتهم؛ فيدوّنون محاسنها وتجليَّاتها، وتُفصح بجلاء عن
إخفاقاتها، والأمنيات.. لو كان كذا..!!.. ولو كان لكان أجمل..!!.
***
خلال الفترة الماضية، انفتحت شهيّتي بالعودة
ومتابعة مقابلات الشَّاعر (سعيد عقل). وآرائه عن الأمّة اللُّبنانيّة،
والقوميَّة اللُّبنانيَّة. التي سمعتُها منه بمجيء الألفيّة، وانتشار أجهزة (الستالايت)؛
فأتاحت العديد من القنوات التلفزيونيَّة الفضائيّة، جاءت بخيارات جديدة لعُموم
النَّاس الذين ضاقت بهم الحياة ذرعًا، من مُتابعة القنوات الأرضيّة لسوريَّة
والأردنّ، وبعدها الشَّرق الأوسط، عندما كانت تبثّ من جُنوب لُبنان، أيّام دولة (أنطوان
لحد)، وريث (سعد حدَّاد) مؤسّسها الأوّل الذي مات بمرض السّرطان 1984،
وكان لعناصره قبل ذلك دور بارز في مجزرة "صبرا وشاتيلّا"،
التي تعرّض لها اللّاجئون الفلسطينيّون 1982.
ومتابعة
محطّة الشَّرق الأوسط في فترة زمنيَّة من فئات واسعة من المُشاهدين لبرنامج
المُصارعة الحُرّة في منطقتنا حسبما أذكر، وقيل أنَّها كانت تبثُّ بعض الأفلام
بمشاهدها الحميميَّة الجالبة لاهتمام المزيد من الشَّباب، لتصريف كَبْتِهِم
الجنسيِّ، وكان لتوجيه (الأَنْتينات) التي تعلو أسطُح المنازل إلى نُقطة مُعيَّنة،
مع تركيب أجهزة (بوستر) مساعدة لتقوية اِلْتقاط الموجات التلفزيونيّة؛ فتأتي محطَّة
إسرائيل التي كانت تحظى أيضًا بمتابعة من عدد محدود ممَّن يملكون مقويّات الشَّبكة،
لالتقاط تردُّداتها التي تبثّ أفلامًا تتشابه في مشاهدها الجنسيّة مع محطّة الشرق
الأوسط، بعلامتها المُميَّزة على يمين الشَّاشة ثلاثة مثلّثات مُتداخِلة إلى جانب
بعضها بلونها الأخضر.
بانتشار
"الستالايت" انتهت مُتابَعة المحطَّات الأرضيَّة السَّالفة الذِّكْر.
وبدأت مرحلة جديدة في حياتي، عند عودتي في إجازة محدودة من (أبو ظبي)
وشرائي صحنًا كبير الحجم بسبعة آلاف ليرة سوريَّة، وهي ما تعادل مئة وثلاثين دولار
آنذاك.
احتلَّ
الصَّحنُ زاوية من سطح المبنى الذي كنتُ أستأجره قبل انتقالي إلى بيتي المُلك.
وعندها جاءتني حوالي سبع عشرة قناة من خلال (الرّيسيفر).
بالفعل
كانت نقلةً نوعيّة، المحطَّات الإخباريَّة والدينيَّة والحِواريّة. ازدادت ساعات مُتابعتي،
والجلوس أمام التلفزيون أكثر مُبَحْلقًا في الشّاشة بانبهار، والمتعة الأكبر
والألذّ هي التنقُّل بين المحطَّات وإلى ساعات متأخِّرة من اللَّيل، مثل كلِّ من
امتلك هذه التقنيَّة العظيمة.
***
التمايز في الشخصيَّة والمواقف يخلقُ رؤًى جديدةً؛
تأخذ طُرُقًا ودلالات مُختلفة عن النمطيّة والمألوفة.. من الممكن أن يُبنى عليها
مواقف وآراء لها قيمة مُحترَمة في موضوع ما.
ولو
أنّي استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ودار الزّمان بي إلى الوراء؛ لسعيتُ باحثًا
إلى لقاء ذلك الشّاب الذي اِلْتقيتُه في (أبو ظبي)، ولو طال الزَّمان، وأخذ منّي
التعب كلَّ مأخذ، ولسَلكتُ كلَّ الطُّرُق والشِّعاب، مُستخدمًا كلَّ الوسائل
المُتاحة وغير المُتاحة حتّى أجده، سأبلغه ساعتها: أنَّ في نفسي من الكلام الكثير
والكثير ليُقال، ولا تزال كلمته التي هزّت دواخلي آنذاك، تُعاودني المرَّة تِلْوَ
المرَّة:
-
يا خيّي.. هايدا بِغَنّي ع سوريّة..!!.
بعدما
اتّضحت الرُّؤية، وظهرت الخفايا من الحقائق؛ فكان لا بُدَّ من توجيه الحديث له مُجدَّدًا،
وهو الغائب بجسمه الحاضر بمقولته:
-
وما قولُك يا صديقي، في الشّاعر (سعيد عقل) الذي سطَّر أجوَد ما
جادت به قريحته الشِعْريَّة عن الشّام، و(الرَّحابنة)، و(فيروز)، و(الأخطل
الصّغير)، و(الشّاعر القروي). ألا ترى فيهم عَزْفًا آخر على مَقام
الحُبِّ.. غير ذلك النّشاز النَّاشئ عن العازف السيّىء في حفلات سُوقيّة هابطة في
كافَّة مُستوياتها، بالطَّبع النَّشاز ليس مِقْياسًا، بل الأمور تُقاس بمقاييس
أخرى.
وفيما
أعود لقناعاتي الرَّاسخة في هذا الأمر، ووجدتُ أنّني أتشاركها مع قِطَّاعات وشرائح
واسعة من أبناء سوريَّة؛ فأعلنُها صريحة بوضوح وبلا مُواربة:
-
كلّما ازداد الضّغط.. تتوالد المواقف
المُضادَّة.. تنتصبُ بارتفاع سقف مطالبها، ورُؤاها للحياة الحاضرة والمستقبل،
وأجدُ في نفسي ألف..َ وألفَ مُبرِّرٍ لِلُّبنانيّين،
بإبداء مشاعر الكراهيَّة والحقد على السُّوريّين عامَّة، رغم أنَّ الشَّعب لا
علاقة له بما حصل لهم، الذين غرقوا في مهاوي ظلم الجيش السُّوريِّ، الذي لم يُفرِّق
بين أحد، الجميع دخلوا في نفق مُظلم منذ البداية.
التطلّع
إلى الماضي غالبًا ما يُنير المُستقبل؛ فالحاضر مُرتَبِط في كثير من جوانبه مع
الماضي، والمستقبل مليء بحيثيّات الماضي
منها المُعوِّقة ومنها الدَّافعة للمسيرة.
مرحلة
مُظلمة حلّت في بلادنا منذ سنوات طويلة، ولم تنجلِ سُحُبُها القاتمة. كلا الشعبيْن
تساويْنا بنصيبنا من الظلم، وقيل: (المساواة في الظلم عدالة).
***
لعلّني لا يمكن أن أجوز هذه الفقرة، إلّا أن أفتتحها
مُستشهدًا، بما قاله شاعر النّيل (حافظ إبراهيم) عن التوأمان الشَّام ولُبنان:
حيَّا بَكُورُ الحَيا أربـــــــــاعَ لُبنــــــــــــــــــــانِ وطالِعُ اليُمـنِ من بالشّأمِ حيّاني
أهلُ الشَّامِ لو طوّقتُم عُنُقــــــــــــــــــــــي بِمِنَّةٍ، خرجَــــتْ عن طَوْق تبياني
لي موْطنٌ في رُبوع النِّيل
أُعظِّمُهُ ولِي هُنا في حِماكُم
موْطِـــــــــــــــنٌ ثاني
إنّي رأيـــــــــتُ على أهرامِها حُلَـــــــــــــــــلًا من الجــــــــلال أراهــا فـــــــــــوق
لُبنان
يموت
البشر وتبقى آثارهم شاهدة، ليس بموت الشُّعراء والكُتَّاب.. تموت قصائدهم وكلماتهم
المُدوّنة، إنّما تحيا الكُتُب.
هَرَمَا
الشِّعْر في مصر العُروبة.. أمير الشُّعراء (أحمد شوقي). وشاعر النِّيل (حافظ
إبراهيم)، تُوِفّيا في العام 1932 بفارق أشهر قليلة بينهما، وما زالت قصائدهما
تُتلى منّي، ومن أمثالي مُحبّي الأماكن، وما تثير فيهم من ذكريات وحنين، وما ذُكِر
الشَّام إلّا جاء مُقترنًا بلبنان، كما اقتران (وَيْلٌ للمُصلّين..!!) فلا
معنى مُحدَّد بجزء هذه الآية، ولا يكتمل المعنى إلّا بإكمالنا قراءة الجزء الآخر (الذين
هم عن صلاتهم ساهون).
ومثلهما
الشّاعر (سعيد عقل) رحل عن دُنيانا منذ سنوات (2014)، وبقيت قصائده تُجلجل
بها حناجرنا زُهُوّا واعتزازًا. وكم هي تجليَّات المعاني فيما ذهبتُ إليه في نفسي،
خاصّة والمعاني تتصارع في ذهني أثناء التحضير لكتابة هذا الفصل، المهمّ بتناقُضِه
الصَّارخ مع مُخرجات خيمة الجُنديِّ السُّوريِّ عندما نصبها في ساحة قصر بعبدا.
رُبَّما
يستهين الكثيرون بما ذهبتُ إليه في هذا المنحى، الأصيل برُسوخه وصِدْقه في أذهان
المُخلصين من رجالات أمَّتنا العربيَّة. ولا يزال سِحْر الكلمة باقٍ مهما حدَث،
وادْلهَمّت الظُّلمات في حياتنا.
قارئ
لغويٌّ مُتخصِّص.. أثناء مراجعته معي للعمل الرّوائي هذا، اِطَّلَع على ما كتبتُ،
باستهزاء ساخر ضحِكَ بفُجورٍ مُحبطٍ لي، مُشكّك بأفكاري، أغضبني.. أوصلني حدّ
الانفجار الدَّاخليِّ.. أظهَرَ حِقدي عليه أوّلًا، وصببتُ جام غضبي على السَّاعة
التي جمعتني به، ولعنتُ اللَّحظة التي طلبتُ فيها منه مُساعدتي، كان يجدُرُ بي
الترَيُّث والتأنّي في اختيار الرَّجل المُناسب لهذه الغاية، فيما بعد راجعتُ
نفسي:
- ألهذا الحدّ أنا دكتاتوريٌّ في فرض
آرائي؟ ولا أُطيق سماع رأي يُخالفني وجهة نظري..!!، سأتتبَّع أين يكمُن العَيْب. ثمّ
على الأوضاع الشّاذة المُسبِّبَة للقطيعة بين شَعبيْنا. قال:
- الدّولة عندما تُفَلِّس.. تبحث عن
الدفاتر المُشلّخة .
- يعني أنا أفلَسْتُ حتى أنبش هذا
الماضي المُعوَّل عليه؟. آه منك يا
بن....!!
اكتست
ملامحه بالحيرة.. وتلجلج لسانه بالكلام، لم يكن يتوقَّع وقع سوء كلمته عليّ، ولولا
العلاقة التي تربِطُني به، لكان لي معه كلامًا آخر. حاول ترطيب الموقف مُحاولًا
جَبْر ما كسَر:
- ليس هذا ما أردتُ أن أقصده، أرجو عدم إساءة
فهمي، ولكنِّي لا أرى جدوى ذلك التفاؤل المُفرط، إزاء ما يحصل أمامنا من حروب
واستعمار داخليٍّ وخارجيٍّ، وضعفٍ وتفتُّتٍ على جميع المُستويات، وتدخُّلات في
أصغر شؤون حياتنا، وإثارة الفتن.. والتهجير.. ومُخيّمات البُؤس، والدَّمار
الهائل.. والانهيار الكامل في كافّة مُستويات حياتنا ما بين المشرق والمغرب
العربيِّ، وانقطاع الكثير من الرَّوابط فيما بيننا؛ فالتخوين وسوء الظنّ
والشَّكِّ، وانعدام الثّقة، وانسداد الأفق في أعيُننا، هو ما دفعني لما قلتُ
آنفًا.. هل اتضّحَ لديْكَ ما قصدتُ؟.
- مهما حصل مما ذكرتَ وأكثر.. فلا زلتُ
مُؤمنًا برؤيتي وصوابها، من أنَّه حدث مثل هذا، وأكثر أيَّام الحملات الصليبيَّة،
وأذكرُ ما قرأتُ منذ سنوات.. من أنَّ حاكم دمشق، كان يتآمر على أخيه حاكم القُدس،
وهما يتنافسان على النُّفوذ والسَّيطرة، وما حدث بعد اجتياح المغول لبلاد
الرّافديْن وبعدها الشّام، ومن ثمّ نهضت الأمّة من جديد، وذهبت هذه المرحلة بجميع
قذاراتها إلى مزبلة التَّاريخ، ومرحلتنا لم تكُن أقذر من سابقاتها؛ فستزول.. حتمًا
ستزول..!! بلا أدنى شكٍّ يُزعزع إيماني، ولو تكالَب العالم علينا، ولم يبق إلَّا
أنا..!!.. إصراري.. ثقتي.. إيماني يكفيني.. ليُعيد الأمور إلى نِصابِها الحقيقيّ،
ويعود الأمر إلى أهله، ولو بعد حين..!!.
نظرات
صديقي زائغة.. عيناه مُصوّبتان إلى عينيّ بجمود واضح، لم يستطع إخفاء دهشته إزاء
إيماني، وثقتي بمُستقبل أراه ليس بعيدًا.. مُؤكَّد عندي وأنا أناظره، أنّه موقن
جُنوني المُؤكّد عنده.
هزَّ
رأسه ذات اليمين واليسار، حاجباه يرتفعان لمُلامسة غُرّته التي تُغطّي جُزءًا من
جبهته، ربَّما خرج عن قناعته وهو يمطُّ شفتيْه للأمام:
-
بنفسي وددتُ لو أنّي أصدّقك يا فطين.. ألا
ترى كلَّ شيء ضدّنا..؟ حتّى الأخوة العرب ممَّن كنَّا نأمل موقف نُصرتهم لنا..
هاهم يتآمرون علينا.. ليس إلَّا لوجه الشّيطان..!!.
انتهى
الموقف بسلامة، عندما تركني وانصرف إلى شأنه بصمتٍ، ودواخلي تتخبّط في أوحال كادت إغراق
قناعاتي، رفعتُ رأسي للسّماء.. أغمضتُ عينيّ من شدّة وهج الشّمس.. تذكّرتُ يقيني
وإشعاع إيماني مُضيئًا لزوايا نفسي، وتجدّد الأملُ.. إذا أحياني الله سأرى حقيقة
تفاؤلي.
***
في الواقع يقف
المرء مثلي حائرًا في قضيّة الانتماء العرقيّ في بُقعَةٍ جغرافيَّة صغيرةٍ نسبيًّا
بحجم لبنان، والتي لم تكن قبل 1926سوى منطقة (جبل لبنان)، وذلك قبل إعلان دولة
لبنان الكبير. ولا يمكن الكتابة عن الشّاعر (سعيد عقل) دون الدُّخول في
معمعة الصِّراع الطويل على الهُويَّة والانتماء، في الحقيقة قضيَّة مُؤرّقة لذوي
التفكير والنزعة العروبيّة. ولماذا هو بالذّات دون غيره..؟.
ولوضوح
الرّؤية لا بدّ من -[الاطّلاع على رأي (ليونارد بيجل) الأستاذ الجامعيّ
الهولنديّ، في كتابه الصادر عام 1972 بعنوان (الأقليات في الشرق الأوسط): (أهميّتها
كعامل سياسيّ في العالم العربيّ، ومصطلح الشعوبيّة الجديدة؛ لتسمية المحاولات
الحديثة لعمل قوميّات بديلة غير عربيّة في الشرق الأوسط، على سبيل المثال الآراميّة،
الآشوريّة، القوميّة السوريّة الكبرى، القوميّة الكُرديّة، البربريّة، الفرعونيّة،
الفينيقيّة).
بينما
يقول المُؤرِّخ (كمال صليبي)، وهو مسيحيّ بروتستانتي لبنانيّ: (بين
فينيقيا القديمة ولبنان في العصور الوسطى والحديثة، لا يوجد رابط تاريخيّ واضح).
ويرى
المؤّرخ اللبنانيّ (عادل إسماعيل): (أنَّ الهُويّة الفينيقيّة ناتجة عن مُحاولة
الإرساليّات الأجنبيّة؛ ولاسيّما الكاثوليكيّة ضمَّ المسيحيِّين اللُّبنانيِّين عُضويًّا
وفِكريًّا إلى المجتمع الكاثوليكيّ الغربيّ).
تمَّ
تلخيص الموقف المُضاد بواسطة (أسعد أبو خليل) في القاموس التاريخيّ للبنان
(1998): (من الناحية العِرقيّة، لا يمكن تمييز اللُّبنانيّين عن شعوب شرق
البحر المتوسّط).
خلصت
الدِّراسات الحديثة التي أجرتها (ميريام بالموث): (إلى أنَّ جزءًا
كبيرًا من تاريخ الفينيقيّين، قد تأثَّر بالأيديولوجيّات السياسيَّة، وأنّهم لم
يكن لديهم هويّة مشتركة عرفوا أنفسهم بها)*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*-(منقول عن مصادر ويكبيديا التاريخيّة).
***
يُروى
فيما يُروى،
أنّ نزار قبّاني سُئل يوماً:
- من هو أشعر شعراء العرب في القرن
العشرين؟.
- فأجاب: إنّه سعيد عقل، إن هو يقبل؟.
حمل
الصحافيّون يومها هذه الإجابة إلى شاعر الـ(رِندلى) -لقب خاص لسعيد عقل-،
وطلبوا منه تعليقاً، فردَّ بنفحة غروره، وكبريائه المعتادة قائلًا:
-
إنّي أؤيّد ردّ نزار قبّاني، في شِقّيْه.
يحار
المرء ويقف عاجزًا أمام الشّعراء، بما يُقدّمون من أفكار مُتجدّدة لا تنقضي
عجائبها. ربَّما أستطيعُ إطلاق كلمة نبوءة على استشراف الشَّاعر؛ فيكون حالة
مُتقدِّمة على واقعه المحيط به.
الكتابة مُربكة في مثل حالة الشَّاعر (سعيد
عقل). المفارقة شوّشتني.. كيف له أن يكون من دُعاة القوميّة الفينيقيّة
واللُّبنانيّة، وكتب أجود قصائده عن الشّام؟.
سائليني يا شآم
سائليني، حينَ
عطّرْتُ السّلامْ: كيفَ غارَ الوردُ واعتلَّ الخُزامْ ؟.
الآن.. الآن أمسكتُ بطرف الخيط.. وأستطيع الردَّ
على ذلك الشَّابِّ الذي كان أيّام (أبوظبي). رغم اِسْتيائي الذي خلَّفه الموضوع،
والمواقف المُشابهة له ممَّن تعاملتُ معهم. لكنّي أعلمُ يقينًا أنَّ الشُّعوب لو
عرفت الحقيقة، لكرهت وحاربت من هيَّجها، وزَرَع الكراهيَّة فيها.
كم كان هذا اللُّبنانيّ
الرّائع مسكونًا..!! بالشّام؟.
وكيف كانت
تفاصيلها مسكونة فيه.. وهو مسكون بها..؟.
بردى.. وطيور الشام تحوم في فكره لا تبرحه، قصيدة
تٍلو قصيدة للشَّام؛ فضفتي نهر بردى في خياله أجمل الضّفاف، وبردى الرّقراق كأنّه
ماء الحياة.
وكيف له أن ينسى الذكريات الجميلة له في الشام؟؛
فهي تختلط بعذوبتها، وتتردّد في قصائد
باذخة الجمال، ويتساءل في أحد أبياتها:
نَقلةٌ في الـزَّهـرِ أم عَنْدَلَـةٌ أنـتِ في الصَّحوِ ، وتصفيقُ يَمَامْ؟
وتستمرّ مناجاته
العذبة التي خلَّدها التاريخ ويختمها:
قممٌ كالشَّمس في قِسْمَتِها تَلِدُ النُّور ، و تُعطيـــــــــــهِ الأنام.
ما أروعه..!! وهو يُشبّه الشّمس التي تعطي النّور
لكلِّ الدُّنيا بقِمَم جبال الشَّام بهذا البيت الرَّائع تنتهي قصيدة سعيد عقل
و تكتملُ أغنية فيروز.. لكن كان إبداعه في بيت قصيدته، والذي يخاطب به الشام:
مَنْ أَنَا ؟ أُغنيَةٌ لَمْ تَكتَملْ
رُصِدَتْ ...إلاَّ إذا كُنتِ
الخِتامْ.
سائليني يا
شآم.....
سائليني حين عطّرتُ السَّــــــــــلام كيــف غار الورد واعْتـلّ الخُزام
و أنا لو رحت أسترضي الشّـــذا لانْثنى
لبنــــــــــــــــــــــان عطراً يا شــــــــــــــــآم
رُدَّ لي من صَبْــــــــــــــــــــــوَتي
يا بــــــــــــردى ذكريـــــات زُرْن
في ليّــــــــــــــــــــــــــــا قـــــــــــــــــوام
ظمئ الشرق فيا شام اسْـــكُبي و
املئي الكأس له حتّى الجمــــــام
ومن
لي بنَفَسٍ شآميٍّ كهذا الشّاعر، غبطة حَسَدي له على روائعه، وأقسمُ غير حانثٍ
بقَسمي، أنَّ أبناء الشَّام (السّوريّين) من الشعراء خاصّة، لم أر لهم مثل ما كتب
(سعيد عقل)، كأنَّ دمه موصول ببردى؛ وروحه هناك تُهوّم حول هُويّة الشّام الأُمويّة،
تَقارَب الشُّعراء في نقطة تحديد الهُويّة ليس إلَّا من قبيل التأكيد. ولي وقفة مع
الشّاعر (أبو سلمى):
حمَلتْ دمشقُ رايةَ العَرَب أُمويَّةَ الأعْطافِ والنَّسَب.
ويُعتبر (وسام أميّة) الوطنيّ، هو أعلى
وسام تكريميٍّ يصدر بمرسوم عن رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة، يمكن منحه
للسوريّين وغير السّوريّين، يمنح لتقدير الأعمال المدنيّة والعسكريّة العُظمى. هذا
الوسام يتألف من ثلاث درجات: (ذو العقد)، (ذو الرصيعة)، (ذو الوشاح). وقد استحدث
الوسام في 12 تموز 1934. *(نقلًا عن مصدر ويكبيديا)
والشّاعر
سعيد عقل، له وقفة أصيلة في هذا الجانب:
أهلُكِ التّاريخ من
فَضلَتِهـــــــــــم ذِكْرهم في
عُروة الدّهر وســــــــــــــــام
أُمَويُّـــــــــــــــــــون
فإن ضقتَ بهم ألحقُوا الدُّنيا ببســـــــــتان هشام
أعتقد
أنّها نظرة أصيلة عميقة سبر التّاريخ، تؤصّل ما ذهبتُ إليه في هذا المنحى. ومن ثمّ
سأحشد من أشعار سعيد عقلّ عن الشّام، وسأنحتُ لها اسمًا سيبقى (شآميّات سعيد
عقل).
أتمنّى
لو أنّ باحثًا يتصدّى لهذا الموضوع؛ ليكون منحًى جديدًا في العلاقة الرُّوحيَّة
الرَّابطة لبيروت بالشّام، والقُدس بالشَّام، وعمَّان بالشَّام، والشَّام بالشَّام
أجمع. وفي هذا البيت يتأكّد ذلك:
قلبي مِنَ الحُـبِّ كَـرْمٌ لا سِـياجَ لَهُ
وسأقتصر
فقط على اجتزاء الأبيات التي ورد فيها ذكر الشّام، لتكون بمكان على الأقلّ في
قلبي، حتَّى تكتمل سعادتي المتزاوجة مع رغبة كثير من القُرّاء:
شام يا ذا السـيف لم يغب يا كلام المجــــــــــــــــــــــــــــد في
الكتب
شـــــــــــــام أهلوك إذا هــــــــــــــــــــــــــــــــــم
على نوب قلبـــــــــــــــــــــــي
على نوب
أنا صوتي منك يا بـــــــــــــــــــردى مثلما نبعـــــــــــــــــك من ســــــــــــــــــحبي
ثلجُ حَرَمُونَ غذّانا معــــــــــــــــــــاً شـــــمخاً كالعــــــــــــــــــــــز
في القبـــــــــب
ـ..*..
حَمَلْتُ
بَيْروتَ في صَوتِـــــــــــي وفي نَغَمِـي
ويا هَـوىً مِنْ
دِمَشْـــــــــــــــــــــــــقٍ لا يُفَارِقُنِـي
وَحَمَّلَتْنِـي
دِمَشْـقُ السَّيْفَ في القَلَـمِ
..*..
يا شــــام لبنان حـبـــــــي غير أني لو توجع الشـــام تغدو حبي الشــام
ـ..*..
و يا هوا من دمشق لا يفارقني سكناك في البال
سكنى اللون في العلم).
ربمّا
يعترضّني كثير من القُرّاء والكُتّاب على منحاي هذا مع قصائد (سعيد عقل)، ولعلّهم
يقولها: "وهل نحن في درس أو محاضرة أدبيّة". فلا أعتقد أنّني ابتعدتُ
فيما سلكتُه من نقل لهذا الكمّ من مقتطفات قصائده.
لعلّ
التناقض الذي عرفته عن الشَّاعر، فيما بين دعوتِه للقوميَّة الفينيقيَّة
واللُّبنانيَّة، التي تدعو للتقوقع والانكفاء إلى داخل عشرة آلاف كم2، والاكتفاء
بها، وانتزاعها من محيطها وعُمقها العربيِّ والإسلاميِّ.
حبُّه
للشام شفَع له عندي.. حُبُّ الشّاعر للشّام بهذه الدّرجة التي تقدّمت، يُثبت نظرته
البعيدة للشرق والعمق الاستراتيجيّ، وهو شاعر المدينة العتيقة... ضمير الشعبيْن
هنا وهُناك، مُبتعدًا فيها عن السياسات العمياء المجنونة، وهي تخلق الأحقاد
والعداوات، واختلاق المشاكل، والمصاعب، وتكريسها في نفس الشَّعب الواحد. الشُّعوب
لا تكره..!!، وإذا كرهت مُحال إلّا أن تنجرف إلى صِراعات لا ناقة لها ولا جَمَل.
وفي
تدقيقي لشخصيّة الشَّاعر، تبدو إشكاليّتها المُتجليّة في الأدب والسياسة، وفي الحياة
والثقافة عامّة. مُتأرجحة ما بين الإيجابيّة والسلبيّة، وبين إيجابيّة الرُّؤية،
وسلبيَّة التنفيذ.
الثناء
على جمال قصائده في معناها ومبناها. عنما تغنّى بلبنان والشَّام، وديانته المسيحيَّة
لم تمنعه من الشّدو لمكَّة وأهلها والمسلمين، وفي أشعاره
تتجلّى دعوته إلى التآخي، والتسامح الدينيِّ.
مع
ذلك لم ينْجُ من (مرض البارانويا) جنون العظمة، وتنظيراته السياسيَّة. مع
ذلك: فمن أحبّ.. كيف له أن يكره..!!؟.
هذه
التناقضات المُربكة للقارئ بدقائق التفاصيل الكثيرة، لا شكَّ أنَّها تعكس صورة
الشّاعر المأزوم بالمتناقضات. ربّما يميل الكثير لتجريده من مصداقيّته في نزعته
الإنسانيَّة.
رحل
سعيد عقل، وبقيت مواقف المُدويَّةُ المُدَوَّنة شاهدة تأبى التزحزح، تثبتُ بأنّه
لم يُغيّر من نهجه شيئًا، ولم يتراجع أو يعتذر لنا كقرّاء العربيّة عن كراهيّته
للعَرَب، واللُّغة التي كتَبَ بها جُلّ أفكاره وأشعاره، أليس من الغرابة بامرئ
مثله..!! هذه الكراهيّة غير المُبرّرة؟.
(أمّا
موقفه الإيجابيّ من الإسلام، وكتابه، ورسوله العربييْن. لا تُظهر لديه إشارات توحي
بالعنصريّة الدينيّة).
***
ما أحببناه في صغرنا؛ رسخ في أعماقنا، لا
يُمحى ولا يزول، إلّا بزوالنا من هذه الحياة. وما كرهناه رافقنا كُرهه إلى أواخر حياتنا،
ورُبّما تتبدّل نظرتنا للأمر.. لكن نبقى نذكر ما كرهناه يومًا، أو أحببناه.
وعلى
رأي ماركيز: (لو كان بالإمكان.. لو كان بيدي أن أمحو؛ لمحوْتُ سنوات من الطيّبة
الزّائدة عن الحدّ.. والسَّذاجة التي تصلُ إلى الاعتقاد بأنَّ كلَّ النَّاس أنقياء).
في الحقيقة فإنّ الحالة النفسيّة لي بائسة جامدة، معظم الحواسّ تكاد
تتعطّل، حتّى الحديث مع بعضهم فارغ تمامًا، بدافع اللّباقة فقط أستمعُ لهم،
وبالتّالي؛ فإصغائي لهم ليس حقيقيًّا، إصغاء عقل لعقل، وقلب لقلب.
أبناء
الفلّاحّين مثلي أحلامهم بسيطة كبساطة منشئهم، كان أسمى حُلُم لي السّفر إلى الشَّام
في الصّيف خاصّة، وكم يتحرّق قلبي عند سماعي لأحاديث لا تنتهي من أخوالي وهم
أترابي: عن سوق الهال، وسوق الحميديّة، والجامع الأمويّ، وساحة المرجة، وبوظة
بكداش ذات المذاق المميّز.
أحاديثهم
تشوّقني حدّ شعوري بالحرمان. يأتون كلّ خميس في نهاية الأسبوع، لأنّ عملهم في سوق
الهال على عربات الكارو، يجُّرونها بحبلة يضعونها بأكتافهم، ويبذلون جُهودًا كبيرة
للمحافظة على توازنها، وتبقى صناديق الخضار والفواكه راكدة على سطحها، وُصولًا إلى
وجهتها داخل السّوق أو في محيطه، العمل يتواصل بهم اللَّيل مع النَّهار، ينامون
على عربتهم إذا داهمهم النُّعاس، ويتناولون سندويتشات الفلافل على الأغلب، وإذا ما
حصَّلوا مبالغ جيّدة من اللّيرات ربّما يشترون سندويتشات مشاوي الكَبَاب، أو رؤوس
الخراف، أو أجزاء الحواشي الداخليّة كالرّئتيْن والقلب والطّحال.
أمّا
حكاية السّوق العتيق، ومحلُّ فول المارديني، فَلَه حكايات يطيبُ سردها مع زقزقة
عصافير البطن الجائعة، حينما يُعيد السَّكْبَ في صحن الزّبون إذا احتاج ثانية. شعاره
مكتوب على مدخله بخطّ رُقعيّ جميل: (تأكل حتّى تشبع بسعر صحن فقط)، وفي
الدّاخل خلف الباّئع وإخوته صورة والدهم بحجم متوسّط بالأسود والأبيض. مَهيب الطَّلعة
بشاربيْه المفتوليْن، لو توقّف عليهما العُصفور لحملتاه. وذِكْرُ (دار الأزعر)
القريبة من سوق الهَالِ، والسّوق العتيق لا تنتهي، لأنّها كانت مسكن العديد من
العُمّال والمُوظَّفين من أبناء الأرياف، إضافة إلى (دار عِرى) المُتشابهة
بحالتها مع سابقتها لا فرق بينها وبين العشوائيات على أطراف المدينة، بل أشبه بحيّ
"الزِفتيّة" الذي لا يصلح
بأيّ مقياس للعيش الآدميّ، يتشابه مع "دار الأزعر" و"دار
عِرى، بجميع التّفاصيل: روائح الرطوبة والعفونة، الأبواب العتيقة بألوانها الباهتة
لقد أكل الدّهر عليها وشرب، الجدران الطينيّة غير مستقيمة لا تخلو من رُقَع الجبس
الأبيض والاسمنت الدّاكن؛ تتلوّى بتمايلاتها غرفٌ صغيرة مُتداخلة مع بعضها،
حمّامات مُشتركة، مدخل واحد للبيت الكبير، بعض العائلات كانت تحيط غُرفتها، أو إذا
كانتا غُرفتيْن بسياج من الخشب والزينكو، وبُوابة فرعيّة تفصلهم عن محيطهم
المٌتنوّع من العُزّاب.
وأجمل
ما راقني وقتها كلامهم الذي لا ينتهي عن المعرض وأجنحته وأشياء عديدة لا ينقضي
الحديث عنها حتّى بعد أسبوع من عودتهم إلى بُصرى، وتتنازعني عوالم مُبهرة من بريق
ما أستمِعُهُ منهم.
فطين لم يكُن يُدرك وقتها ما يحصل ضمن هذه
المنطقة الشبيهة بالدائرة المُغلقة، صرّح ذات مرّة: "عندما بدأتُ باسترجاع
بعض صور تلك المشاهد، البنت خلف بوابة الفرعية داخل البيت الكبير، كانت تفتح الباب
وتُغلِقه، لكنّها تبقى واقفة خلفه، لتُعيد فتحه من جديد بحركات غير مفهومة، تُطلُّ
برأسها، تتفحّصُ الممرّ الضيّق المُلتوي، ثمّ تدير ظهرها للباب بعد أن تطبُقه،
أظنّ والله أعلم..- وإن كثيرًا من الظنّ ليس بإثم – أنّها تنتظر أحدًا كأنّها على
موعد مع أحد ما، حركاتها.. فعلًا كانت تستثير انتباهي. لكن لم يخطر ببالي أيّ شيء
آخر، لأنّني كنتُ أجهل طبيعة الحياة هنا، بعد هذه السّنين الطويلة، أخذت الصّور
تفسيرات أخرى ذات منحى مختلف عن النوايا السّليمة. كما أن المرأة التي كانت تمشط
شعرها وتُسرِّحه أمام الشُّبّاك المُطلّ على المدخل الرّئيس للبيت، بينما المرآة
بحجم الكفِّ مُركّزة على حافَّته، الغرفة العُلويَّة صغيرة بحجمها. أمامها فُسحة
مساحتها لا تتجاوز المتر والنصف، درج خشبيّ بعرض نصف متر يصعد إليها".
الأشياء كلّما تعتَّقَتْ سهُل تفسيرها،
وتتّسع المُخيّلة لخلق تعدُّديَّة أوجه بمُقاربات فَهْمٍ أفضل من ذي قبل. ترتسمُ
صورًا مختلفة لها عن واقع أصحابها حاليًّا.
***
بفضاضة شغوفة حدّ الجشع الطّامع بالزّمن المُتاح
بين يديّ، استبحتُ ساحاته بلا استئذان منه، أو ربّما من قارئ روايتي. واتَتْني
فُرصتي تمامًا كما أريدُ، بعد اِخْتمار الفكرة في ذهني، وقناعتي التامّة فيما
سأذهب إليه في أروقة ثقافيَّة، أعتقد أنّها الوجهُ الحقيقيُّ للمجتمعات الإنسانيَّة؛
فالشِّعر والموسيقى لُغة العالم، ولا ضَيْر من الاستشهاد بهما، لا سيّما دُخولي في
غابة كثافة أشجارها المُتلاصقة المانعة وصول الضُّوء الكافي إلى القاع.
منذ
البداية ابتدأتُ ببوابة الحُبِّ؛ فلا بدّ من إتمام رسالتي على الوجه الأكمل، خُروجًا
وابتعادًا عن الرِّمال المُتحرّكة للسِياسة
المُتحوِّلة باستمرار بلا ثبات، ولا يمكن الإحاطة بخفاياها، وما يُنسَجُ داخل الغُرَف
والمكاتب، والأيادي الممتدَّة من تحت الطَّاولات لتمرير ما تُريد، وفرض إرادتها بإثارة
الحروب والأزمات في شتَّى بقاع الدُّنيا.
وكثيرًا
ما يكون المُعْلَن والمعروف للقاصي والدَّاني، لا يَمُتُّ للحقيقة بأيَّة صِلَة،
ومن عَلِم بشيء من الخفايا، يُدركُ مدى تباعدهما كما بين المشرق والمغرب.
ليس
من السّهل أن أحمل رسالة الحبّ. أوطاننا بحاجة للحبّ، عقيدتي أنّه المُنقذُ
لمركبنا، الذي سيُقلُّنا إلى برّ الأمان، والنّجاة مما يُحاكُ لنا هُنااااااااك..،
ورُبّما تمتدّ أيادٍ من عندنا؛ لتلتقط أوامرَها من أسياد الظَّلام في العالم
الآخر.
وسأبقى
أرفعُ نَخْبَ الحُبّ عاليًا؛ فلولا الحبّ ما قَدَّست روحي الوطن. طمعًا فيمن
يتابعني، ويُساندني تعزيزًا لصمودي.
أغانينا
التي غنّيناها مُذ كُنَّا صِغاراً.. الدّم الذي جمعنا, النّسب والمصير المُشترك،
أشياء كثيرة, تشاركنا فيها, وجمعتنا؛ عقلي لا يستوعبُ.. كيف تتحوَّل بنا إلى الكُرْهِ
والحِقْد والرَّغبة بالانتقام؟ .
الفِرَاقُ
لن يمحو أسامينا فحسب.., بل يصنع حواجز هائلة ستصبح عقبات كَؤُودة يصعُب تجاوزها..!!.
توارد
الأفكار يستعيدني إلى أوّل سَفَر لي إلى الشَّام، وأقصد بها دمشق؛ لأنّني من أقصى
الجنوب بـمئة وأربعين كيلو متر في بُصرى، بينما ابن بيروت يُطلق عليها أيضًا الشّام.
ولا يحتاج سوى لساعة لقطع التسعين كيلو متر بين الشقيقتيْن؛ فيَصِلَها قبلي. لولا
لعنة حدود سايكس بيكو. التي تُعيق حركته لساعات من التأخير في التفتيش والتَفْيِّيش
للأسماء في ملفّات البوليس السِرِّي.
خلال
إقامتي في جُنوب الأردنّ، في الكَرك، سمعتُ مثلًا يتردّد على ألسنتهم: (كلّ
بلاد عند أهلها.. شام)، ما أعظمك يا شام. وطنٌ حقيقيّ لمن فَقَد وطنه.
العطلة
الصيفيَّة حلّت علينا في العام 1981بعد انقطاعي الدِراسيِّ في الصفّ الأوّل
الثانويِّ، لرغبتي مُتابعة دِراستي في الفرع الأدبيِّ، وهو ما لم يكُن مُتوافرًا
آنذاك في ثانويّة بُصرى، لرغبة الطُّلَّاب الشديدة في متابعة دراستهم في الفرع
العلميّ، وانتقالي للعيش مع أمّي الأرملة منذ سنوات، بعد صعوبات عانيْتُها عند
والدي.
شُعور
غامر بالتحرُّر من رقابة الوالد الصَّارمة، والتي لن ولن تسمح لي بالذّهاب مع
أصحابي إلى الشَّام، خَوْفًا وحِرصًا عليَّ، وصار قراري بيدي.
العمل
في دائرة الآثار كعامل نظافة بداية، ومن ثمّ تطوَّرت؛ لأكون السَّاعد الأيمن
للمعلّم (أبو خليل) مُراقب ورشة الآثار؛ فانتقلتُ من تنظيف ممرّات القلعة والمُدرَّج
والكواليس من مُخلّفات الزُّوّار. إلى المكاتب المُتعدّدة في زوايا المنطقة الأثريّة،
وأجملها وأنظفها كان في دار توفيق، قُبالة قوس النّصر، ومُطلّة على شارع البلاط
الواصل ما بين بوابة الهوى والبُوابة النَبَطيّة، تعرَّفتُ على المُهندسين
ومُساعديهم، الذين كانوا يرسمون مخطّطات لبعض المواقع الأثريّة؛ لتوثيقها هندسيًّا.
إضافة لجهود البعثات الفرنسيَّة والألمانيَّة والإيطاليَّة، التي كانت تأتي لمدّة
قصيرة لا تتعدّى في أحسن أوقاتها الشَّهريْن.
سنة
أتاحت لي انفتاحًا على معارف وخبرات اكتسبتُها، أضافت إلى مخزوني جديدًا، ولم
أنقطع عن تواصُلي مع كتُب منهاج البكالوريا(الثَّالث الثانويِّ)؛ فكان الكتاب
رفيقي الدَّائم في الموقع الذي أكون فيه. أستغلّ لحظات الفراغ إذا توافرت لي رَغبة
القراءة ذاك اليوم.
فائض
النُّقود من عملي أتاح لي بتنفيذ رغباتي المكتومة. اقترح أحد الزُّملاء السّفر
كمجموعة تألّفت من أربعتنا، راقت لي الفكرة لاستكشاف العالم المجهول البعيد عنّي،
البهيِّ بمُخيّلتي بما اِرْتَسَم عنه من أحاديث أخوالي قبل سنوات من ذلك.
***
فتح لنا المعرض أبوابه في يومنا الثّاني لسَفْرتنا التاريخيَّة، تفرّقنا ليلتنا
تلك عند أقارب لكلٍّ منّا. موعد النَّوم المتأخِّر يتقافز تَعدِّيًا على أحلامي
ليوم الغدِّ المجهول، ولم يستطع التغلَّب عليها، وسيصبح خيالي واقعًا مؤكّدًا معروفًا
لي؛ بمُجرّد رؤيتي لكلّ ما هو مُختَزَن من أحاديث سمعتها من أخوالي، ومن غيرهم من
أصدقائي ممن ذهبوا بصحبة عائلاتهم إلى المعرض، في العادة احتفاليَّة افتتاحه تكون
مهيبة بحضور مَسْؤولي الدَّولة الكِبار، تُحيطهم الأُبَّهَة، والحِراسات المُكثَّفة،
احتفاليّة عظيمة من كلّ عام في بداية الشّهر التّاسع، لمدّة خمسة عشر يومًا.
عاد
الشّروق من جديد؛ فوجد عينيَّ ما زالتا على أمل عودته، بانتظار أن يبوحَ بضوئِه؛
وعودة الحياة كما أتمنَّى، لا أدري..!! فهل ما أصابني.. أصاب أصدقائي؟.
الآن
وبعد أكثر من ثلاثين عامًا ونيِّف.. اعتقدتُ أنَّها كانت أطول ليلة في حياتي، أكثر
من تلك التي داهمتني فيها الحُمّى مُترافقة مع وجع اللّوزتيْن، وتناوب الحرارة
والقُشعريرة؛ فكانت حربًا على النّوم بلا هوادة.
أدركتُ
معاناة (امرئ القيْس) مع اللَّيل والقلق والسّهاد:
(وليلٍ كموج البحر أرْخى سُدولَه عليّ بأنـواع الهُمـــــــــــوم ليبتــلي
فيا لك من ليـــــــــــلٍ كأنّ نجومه بكلّ مُغار الفَتْل شُدّت بِيَذْبُل)
تناوب
لِساني على تِرداد القصيدة من أوّلها، لأنّني كنتُ حديثَ في قراءتها وحفظها وشرح
أبياتها من أستاذنا قاسم، ممَّا كان له الأثر الطيّب في تحبيب مجموعة كبيرة منّا
بدرس الأدب، وانتظاره بفارغ الصّبر.
ولم يكُن يتوانى أستاذنا في تكليفنا
بالوظائف الشهريَّة، لدراسة كلَّ مُعلَّقة بعد الانتهاء منها، وأهمُّ مرجع اشتراه
مُعظم الطُّلّاب (شرح المُعلّقات للزوزني)، وظلَّ شامَةً تُزيّن مكتبتي
العتيدة التي احترقت مُؤخّرًا بفعل قذيفة دخلت غُرفتي؛ فأحالت محتوياتها رمادًا،
ولم ينجُ منها أيّ شيء مهما كان. بقي السَّواد شاهد عيان؛ يحكي كلَّ يوم مآس الحرب
والدّمار والموت السَّوداء.
لم
أفلح في استثمار الوقت بعد أن صحوتُ وغسلت وجهي، مُستعيدًا نشاطي بعد تناول الفطور
مع ابن عمّي وعائلته. انتصفَ النَّهار حتَّى اجتمعنا من جديد بالتئام شملنا.
المشْيُ
هو الوسيلة الأجدى والأشهى في الأماكن الغريبة؛ لاستشكافها، وتثبيتها في ذاكرةٍ لن
تُمحى مدى الحياة. ذاك اليوم ما عرفنا التّعب، ولا شَكَتْ منه أرجلنا، الوقت غير
محسوب لأنّنا لم نكن نحمل ساعات في معاصمنا، فلا يضيرنا لو سألنا أيّ شخص نُصادفه
عن التوقيت، كنَّا على يقين أنَّنا سنصل منطقة المعرض قبل الخامسة موعد الافتتاح.
ارتفعَ
أذان العصر من مآذن دمشق جميعًا في آن واحد؛ فاهتزّت له جَنَباتُها، هي الشّام
مدينة الفَرح والحُبّ، وعناق الحياة بجوانبها الماديّة والرّوحيّة، أينما وضعتُ
قدميّ .. لا شكّ أنّها تجوزُ صفحةً مُشرقةً من تاريخ مجيد.
مِشوارنا
من أطراف الضَّواحي والأحياء البعيدة؛ استغرق
منّا المسير السَّريع مرّة، والبطيء والمُتباطئ إذا توقّف أحدنا أمام
واجهات المحلّات الزّجاجيّة النَّظيفة
اللّامعة، وأكثرها كان يعكس أشعّة الشّمس على وجه من يُواجهها؛ فيزيغ نظره لحظات
حتّى يستعيده بعد إغماض عينيْه.
أصوات
صادرة مُختلفة من داخل المتاجر يختلط فيها ترتيل القرآن من الشّيخ عبدالباسط مع الأغاني،
بوصولنا ميدان الحجاز، بعد اجتيازنا شارع النّصر، صَمّت آذاننا مُكبّرات صوت أكشاك
بيع أشرطة الكاسيت تصدحُ بالأغاني الحديثة الدَّارجة؛ لتسويقها وإغراء العابرين
بشرائها، هنا ثبتت حقيقة أن: "كلّ واحد يُغنّي على ليلاه".
وما
إن هبطنا شمالًا قاصدين الوُصول إلى فندق (سميراميس)، وإذ بأصوات مُكبّرات
الصّوت الرّابضة تحت (جسر فكتوريا) المُقابل للفندق، تستقبلنا بوتيرة أعلى من
سابقتها، ترتجُّ لها جنبات الجسر، والسيّارات العابرة من فوقه وتحته، غير آبهة
بهذه المعمعة المُثيرة، وراكبيها لا يُعيرونها بالًا.
بطريق
الصّدفة استرقتُ جُملة من شابّيْن، رغم انخفاض صوتهما القريب من الهمس؛ ينتظران عبور
الطريق إلى الجهة المقابلة، ولم يكن وقتها الجسور المعلّقة قد ظهرت في الشّام:
-"أنَّ هذه الأكشاك تابعة للأمن".
والحالة
هذه..!!؛ فلن يجرؤ أحد الطّلب منهم لتخفيض حدّة الضجيج؛ المُتجاوز لحدود المقاييس
العالميّة، بصراحة تشويه بصريّ وسمعيّ.
هنا
انتقلت إلى عالم آخر فوضويٍّ مُخيفٍ. مُعلِن عن بفجاجة ظهوره للعيان، تسرّب الخوف
إلى نفسي، فانكمشتُ على دواخل نفسي، لا أدري هل شعرتُ برغبة للهروب، أذكر جرعة
الوقت التي ابتلعتها آنذاك، التي استوطنتني وما زالت، ولا أظنّ أنّها ستُفارقني
حتّى لو في قبري بعد موتي. اقتربنا من ساحتهم، نظراتي تشتّت في اتجاهات لم أدرك
أين أتّجهُ بها، ظننتُ أنّهم يستقرئون
حركات العُيون.
المنطقة
ممتلئة زواياه بصور الرَّئيس (حافظ أسد) بأحجامها المختلفة، المأخوذة من
فترات زمنيَّة سابقة، منها التي تظهر فيه ابتسامته الجميلة، والأخرى بنظرات صارمة
حادَّة.
لاحظتُ ذلك منذ وُصُولنا إلى ميدان (باب
مُصلّى). عيونُنا تُسابق خطواتنا غربًا باتّجاه مشفى (المُجتَهد)، من
بعيد تلوحُ بيارقُ وصور، تتابَع مسيرُنا في شارع خالد بن الوليد الطّويل الني
ينتهي بميدان (الحجاز). أضواء المدينة لا شكَّ أنّها تُبهر الغُرباء.
تستعصي على الفهم أحيانًا، وقليل من يلتقط أسرارها بسهولة. نحن في الحقيقة عابرون
من قرية مُنزوية على الأطراف، بسيطة بكلّ ما فيها، يسهل تفسيرها، تفتح أبوابها
للغرباء تُرحّب بهم بلا تردّدٍ.
مشوارنا الطّويل ألجم ألسنتنا عن الكلام مع
بعضنا.. لماذا..؟. لم أجد تفسيرًا لذلك. ربّما أنّ كلٍّ منَّا يُكوِّن لنفسه
قراءته الخاصّة للعاصمة، ويحاول مقارنتها مع مخزونه المعرفيِّ الأُسطوريِّ في
دماغه. أظنُّ أن ما كنّا نُفكّر به كان مُتقاربًا مع بعض الاختلاف البسيط.
تنتشر ابتسامات الرّئيس تستريح نفسي
قليلًا، أما نظراتُه الحادّة وأنفه المُدبّب الطويل؛ تُمِّدُ الدم في عروقي لم
أذكُر. هل توقَّف قلبي عن ضخِّ الدمِّ إلى الأعضاء البعيدة والقريبة في جسمي. لكن
ما أذكره جيِّدًا.. الخوف.
استمرار
المشهديَّة لفت انتباهي، حتّى مُرورنا بـــ(جسر فكتوريا) وميدانه الفسيح، للآن لم
يخطر ببالي أن أسأل أحدًا أو نفسي لماذا سُمِّي بهذا الاسم..!!؟. ولا فندق
(سميراميس)، ولا من هي سميراميس؟. لأنّ عندنا كلُّ شيء مُعرّب، من الأسماء
التجارية والأماكن، هل هذه النُّدَب كانت عصية على التعريب مثلًا؟. ثمّ (ميريديان)
قُبالة أرض المعرض بشُموخه المُناطح للغيوم، وواجهته الرّائعة بإطلالتها
البانوراميّة، وغربها بقليل على كتف ساحة الأُمويِّين (شيراتون).
مرّت بجانبنا اثناء مسيرنا الطويل سيّارات
(البيجو ستيشن 404)، عيون راكبيها تنغرس نظراتهم في وجوهنا، تثقب واجهتنا، فتصل
إلى أدمغتنا لمعرفة بماذا نُفكّر. اختزنت ذاكرتي هذه المناظر، رغم اِنْمحاء معظم
مثل المشاهد العابرة، لكنّ هذا المشهد عصيٌّ على النِّسيان، كأنّه فقط ليُؤرِّقني
بشكلٍ دائمٍ.
أظنُّ أنَّها بمناسبة افتتاح المعرض،
ولإعطاء صورة مُشرقة عن بلد ينْعُم بالأمن والأمان، هذه الفترة كان فيها الكثير من
حوادث الاشتباكات والتفجيرات في العاصمة، كثرَةُ الصُّوَر والزّينة المُبالَغ
فيها، يُعطي شيئًا من الطُمأنينة، وسيّارات (اللاندروفر) رماديّة اللّون، والأخرى
باللَّون العسكريّ الأخضر الدّاكن، تتموضع كدوريَّات ثابتة على مُفتَرقات الطُّرُق،
وزوايا الميادين طيلة طريقنا التي عبرناها، وعلى مدار السَّاعة لا تُفارق أماكنها،
إضافة للدَّوْريَّات المُتحرِّكة المُتوزِّعة في أنحاء المدينة.
لكن
الأمر مُخَتلف هنا بمحيط الجسر القريب من وزارة الداخليَّة، ووسط المدينة الإداريِّ
والتِجاريِّ، أشبهُ بثكنة عسكريَّة، تسلَّل الخوف إلى نفسي، ممَّا جعلني مع زُملائي
نَعْدِل عمّا عزمنا عليه، ونتابع مشوارنا إلى المعرض دون المرور على أيِّ جامع
لأداء صلاة العصر على كثرتها.
لا
غِنَى لنا عن أشعار نزار في مثل هذه المواقف العصيبة، جاذبيَّة التجدُّد في
الشّعر، ذاك الوقت لم أكُن أعرف من نزار إلّا (طفولة نهد)، و(قالت لي
السَّمْراء). لا أدري ما الذي ذكّرني
بنزار رغمًا عنّي، والظرف لا يسمح بالتفكير بعيدًا، الغرباء حوّاسهم متحفّزة لرؤية
كل جديد حتّى ولو كان تافهًا. كنّا
مُتعجّلين النظرات لم تستقر في وجه مُعيّن، صادفنا نساء كُثُر، كلّ وجه لإحداهنّ
أظنّ أنّ نزار كتب لها قصيدة. بعد سنوات جاءتني هذه (القصيدة الدمشقيّة)،
طيّرت صَوَابي وكأّنّي بيومها قد أعادتني لسنوات ذهبت. استعدتُ فيها ذلك اليوم،
وابتلاعي فيه الكميّة الكاملة الزَّائدة عن حاجتي من الخوف حتمًا، وما زالت
بقاياها راسبة في أعماقي.
(مآذن دمشـــــق تبكي إذ تُعانقــــــــــــــــــــــني وللمآذن كالأشـــــــــــــــــجـــــــــــار
أرواح
تقاذفتني بحــــــارٌ لا ضفـــــــــــــــــــــــــــــاف
لها وطاردتني شياطيــــن وأشـــــــباح
ما للعروبة تبـــــــــــــــــــــــــــــدو
مثـــــــــــــــــل أرملــــــة أليسَ
في كتُب التّاريخ أفراح
والشّعر ماذا ســـــــيبقى من أصالته إذا تولّاهُ نصّـَــــــــــــــاب
ومـــــــــــــــــدَّاح
وكيف نكتُب والأقفال في فمـــــــــــــــــــنا؟ وكُلّ
ثانية يأتيــــــــــــــك ســـــــــــــــــــفّاح
وهل
يُلام محمد الماغوط حينما يُجاهر علنًا، وأمام الملأ:
(بأنه سيخون وطنه، ولكن أيّ وطن هو ذلك
الذي سيخونه وعلناً وبفخر؟. حين يوضّح الكاتب أنّ الأوطان نوعان... أوطان مزورة
وأوطان حقيقية. الأوطان المُزَوّرة أوطان الطُّغاة، والأوطان الحقيقيّة أوطان النّاس
الأحرار.
أوطان
الطّغاة لا تمنح النّاس سوى القهر والذلّ والفاقة، ومدنها وقراها لها صفات القبور والسّجون؛
ولذا فإنّ الولاء لأوطان الطُّغاة خيانة للإنسان، بينما عصيانه، والتمرّد عليها إخلاص للإنسان وحقّه في
حياة آمنة؛ يسودها الفرح وتخلو من الظلم والهوان).
فهذا النوع من الأوطان الذي عقد العزم على
خيانتها. المشكلة أنّ العامّة مُشكلة
لديهم، وعلى رأيهم: (من يأخذ أمّي.. أناديه: يا عمّي).
فهل
كُتب عليّ مُتابعة الشّعراء من وادٍ إلى آخر..!!،وأصرف وقتي في تهويمات جاءهم بها
جِنُّ عبقر. سحر الكلمة ما زال بريقه يأخذ بلباب عقلي، ولأدوخ بحثًا عن قصيدة لشاعر لم أستطع الوصول إليها
أبدًا، لولا بركة العمّ (جوجل) الآن.
***
في انتظار اللّحظة التّاريخيّة الأعظم في
حياتي على الإطلاق، تواجُدي أمام باب المعرض، مشهديَّة الفرح تتجلَّى.. تُسابقني
للقبض على ناصية اللَّحظة.
جُموع
المنتظرين امتدّت على كلّ المساحات الفارغة، ضآلة أجسامنا الغضَّة ضاعت في لُجّة
الازدحام، العيون جميعها مُصوَّبة إلى الأقواس العالية كالتي في إيوان كِسْرى، المختزنة
صورتها في ذهني من كتاب تاريخ العصور القديمة المدرسيِّ.
تباعَدَ
عنّي أصدقائي أتوقِّعُ أنَّ المسافة الفاصلة بيننا لا تتعدَّى العشرة أمتار؛ ففصلنا موج الانتظار الرّاكد بشكل
إجباريٍّ، في حالة أقرب لأن تكون كَبِرْكَة هادئة.
الأضواء أضيئت مُبكّرًا، أصوات المُكبِّرات تسيطر على المكان بضجيجها الذي
يصمّ الآذان، إضافة الضجيج القادم من الأماكن القريبة من هنا. صورة بالحجم الكبير
للرّئيس تتربَّع على قاعدة بيْن قوسيْ المدخل، مهابَةُ المكان ألقت الرّوْع في
نفسي بعظمة المكان، تحقّق حُلُمي الذي سعيْتُ بكلِّ ما أوتيتُ من قوّة في سبيل
الوصول إليه.
فرحتي
لم تكتمل، وكأنّ مَثانَتي تآمرت تنغيصًا على يوم حُلُمي، وحلقي النَّاشف لم يتركني
بحالي، تتواطؤ الظُّروف بتحالفها المفاجئ غير المُعلن.
امرأة حسَبَت حسابها لهذا الموقف؛ فقد ناولت
ابنتها الصغيرة عُبوة ماء أخرجتها من حقيبة غير حقيبتها الشخصيّة، أشرتُ إليها:
-
يا خالة سأموت عطشًا.
لم
تألُ جُهدًا في مدِّ يدها لتصل يدي. شُعوري بتوقُّف عجلة الحياة، غير آبهة بفرحتي
الغامرة. استعدتُ حيويَّتي، أخذتُ نفَسًا عميقًا، انتعاش أعضائي الداخليَّة.
شكرتُها من قلبي.
قِصر
طولي عن مُحيطي من الرّجال والشّباب والبنات والنّساء الكبار، أتاح لي رؤية ما
يجري في الأسفل. انتهبتُ على يميني، شابٌّ
يعبثُ بيده بمؤخرة فتاة تقف أمامه، تطاولتُ قليلًا، فوقفتُ على رؤوس أصابعي،
مُحاولًا استكشاف وجهها؛ لعلّني أرى ملامح غَضَبها، ما إن وصلت عيناي لرؤيتها
بوضوح، أنبأتني ملامحها بتلذّذها، الانتشاء يكسوها بالفرح، استغربتُ الموقف بداية،
تذكّرت: (أنّ السّكوت علامة الرّضا).
حالات الازدحام متشابهة، وأثناء عملي في
القلعة عندنا أثناء المهرجانات، سمعتُ مثل هذه الأشياء من أصدقائي، لا أستطيعُ أن
أُصدِّق مثل هذا العمل المُخلّ بالأخلاق، إلى أن رأيتُ ذات مرّة فتاة تعبثُ بأعضاء
شابٍّ كانت مُلتصقةً به من الخلف، بينما يدها تلعب في مجاهل رغبتها المُتأجّجة هنا،
هذه التجمّعات هل تعطي نوعًا من الأمان لمثل ذلك؟.
احتقانُ
مثانتي لا حلّ معه إلّا بالصبر، ومُكابدة تَزاحُم مُحتواها للخروج، فماذا إنْ لم
أحتمل..!! وتبلَّلَ بِنطالي، أنا في موقف لا أُحسَدُ عليه أبدًا، ليت صورة ذاك
الصبيِّ ونحن في الصفّ الثُاني الذي بال على نفسه لم تكُن، لـتأتيني وتُذكّرني
بحال ذلك المسكين، وضِحْكنا البريء الفاجر عليه.
أوه...
يا إلهي..!! لا أحتمل استعادة صورته بمنظره الرّهيب المُؤثّر، وهو مكسور الخاطر..
الدُّموع تملأ وجهه.. والحَرَج الداخليِّ. في اليوم التّالي اِنْقطع الدّوام في
مدرستنا، وانتقل إلى مدرسة أخرى.
الآن..
الآن.. أدركتُ حقيقة شعوره بالخزي، رغم نسياني للأمر بعد مُضيِّ أكثر من عشرة
أعوام أو أقلّ. كلّ معاناتي لم تمنعني من شُعورٍ غامضٍ بتوتّر أعصابي المُبرّر
بامتلاء مثانتي.
آهٍ
يا أمّي وأنتِ تُردّدين على الدّوام وفي مناسبات مشابهة لحالتي:
-
(يوم ما إِجَتْ الحزينة تفرح.. ما لقَتْ
بالمدينة مِطْرَح).
صراخٌ
من شابٍّ أسمعُه قادمًا من الجهة المقابلة لموقعي تمامًا، خفتت أصوات المُتكلِّمين
من بعضهم، اتَّضح من ولولته سرقة محفظته من جيبة بنطلونه الخلفيّة، تمنيَّتُ لو
تجرّأتُ لأصرخ بأعلى صوتي مُساعدة للشابِّ في إيصال صوته للجميع، أتوقَّع أنَّ
جميع من يسمعني سيضحك منِّي استهزاء وسخرية:
-
يا ناس يا عالم، مشان الله خذوا المحفظة
وإلّلي فيها، لكن ردّوا إلي بطاقات الهوية والجامعة .
موجة
تدافع قويّة عكسيّة من الأمام للخلف، ترافقت مع صفَّارات سيَّارات المَراسِم
القادمة مع وزيرة الثقافة، والوفود المُرافقة لها.
الشّرطة دفعت النّاس لإفساح المجال للوفد
الرسميِّ، والإعلاميِّين المُنتظرين على أحَرِّ من الجَمْر مُهيِّئين كاميراتهم
للسَّبق الإعلاميَّ، وبعضًا منهم يرفع فوق رأسه مايكرفونًا مُثبّتًا على عمود،
دلالة على أنَّه مُصوِّرٌ تلفزيونيٌّ. ليتني قريبًا منهم، ربَّما تلتقط عدسة أحدهم
صورتي.
مُكبِّرات
صوت إذاعة المعرض؛ تتنوّع ببثّها لكلمات من خطابات الرّئيس مرّة، وتعود لفيروز
برائعتها المتناسبة من طبيعة الموقف (سائليني يا شآم)، و(يا جبل الشّيخ يا
قطر النّدى).
ومن الفنّانة السوريّة (دلال الشمالي)
(من قاسيون أطلّ يا وطني).. الشّمس تنزوي رويدًا رويدًا باتّجاه مأواها
الأخير، ورذاذ النّوافير المُتطاير من نهر بردى على جانبيْ جسر مَعْبَر المعرض،
يفيضُ على الأجساد المُتعبة نشوة الحياة من جديد.
***
ليتني كنتُ في
الأمام..، يا لحظ أحد أصدقائي الثلاثة لو كان في المكان الذي ودِدتُ؛
لحدّثني عمّا رأى وعايَن. كنتُ أتمنَّى لو أرى وزيرًا على الواقع، هالة التلفزيون
عظيمة ضخَّمت الإنسان الذي لا يختلف عن الآخرين إلّا بمنصبه ووظيفته.
تصوّري
الذي حفظته ظهرًا عن قلب عن الاحتفالات، وافتتاح المشاريع التي يحصرونها بمناسبة
الحركة التصحيحيَّة، أو في (8 آذار)، أو في مناسبة حرب تشرين التحريريَّة، أو عيد
العُمّال.
طفلةٌ
جميلةٌ تحمل مِقَصًّا موضوع على رُقعة خشبيَّة مُغلَّفة بقطعة قماش مُخمليٍّ،
وشريطٍ مربوطٍ بين جِهتيْ الباب. طفلةٌ أخرى بجانبها تحملُ باقة وُرود مميَّزة تُعطيها للضَيْف بعد قصِّ
الشَّريط، إيذانًا بالافتتاح.
المسؤولون
الأقلّ أهميَّة بلباسهم الرسميِّ الأسود والكُحْلي، يصطَّفون على الجانبيْن وهم
يُصفَّقون كالكَوْرِس ما عليهم إلّا التِرداد والإعادة، لاستكمال النغمة
الموسيقيَّة. المُصوِّرُ التلفزيونيُّ
يُركّز عدسته عليهم أكثر من مرّة.
دخلت
الوزيرة بعد انتهاء مراسم الافتتاح، دخلت لتفقُّد أهمّ الأجنحة، وعلى الأخصِّ جناح
سوريّة، هو الأهمّ بالتركيز الإعلاميِّ، وينال حظَّه من البثِّ التلفزيونيِّ،
أحيانًا المُباشَر، أو المُسجّل لليوم السَّابق وهو السِّياق الآمن الذي كان
معمولًا به.
أفراد
الشُّرطة متيّئهون بكامل جاهزيَّتهم للطوارىء، وقسم منهم يعمل على تنظيم دور الدُّخول
من خلال تنظيم اصطفاف الدَّاخلين بانتظام، وعند المدخل، هناك شباب بلباسهم المدنيِّ
يُفتّشون بأيدهم من تحت الإبطين نُزولًا إلى أسفل القدميْن، وفي صفٍّ آخر مُوازٍ،
يوجد بناتُ بلباسهنّ الأخضر المُوحَّد يُفتِّشنَ النِّساء، هذه السَّنة الإجراءات
الأمنيَّة فيها الكثير من الحرص والتدقيق على كلِّ صغيرة وكبيرة، ولا يتساهلون في
المخالفات.
ليس من السّهل أن يتولَّد في مثل ظروف
البلد عامَّةً الطّارئة، شعور الطمأنينة لدى النَّاس. صرامة الإجراءات الجادّة،
رغم التأخير الحاصل، النتيجة أنّها مُريحة نفسيًّا، هذا ما شعرتُ به. أصدقائي
الثلاثة.. لا أدري هل تسرّبت الطمأنينة إلى قلوبهم، كما حصل معي..!؟.
ما
إن وصلتُ بدوري عند تفتيش الشّابّ أمامي، طارت نظراتي إلى زاوية سطح أوَّل جناح
يستقبلني من جهة شرق الباب. لاحظتُ أكياس الرَّمْل ترتفع قُرابة المتر، ومن خلفها
عسكريٌّ رابضٌ خلف رشّاشه يتأبَّط أخْمَصَه، مُتأهِّبٌ بكامل الجاهزيَّة للإطلاق،
إذا ما تلقّى أمر قيادته.
خضوعي
للتفتيش للمرّة الأولى في حياتي، خشيتُ من أصابع المُفتِّشُ أن تُلامس أعضائي، لا
أطيقُ ذلكَ، وأعتبره عيبًا، حتَّى أنَّهم يُطلقون عليها "عيبو"، تذكّرت
شيئًا كانت الألسنة تُردِّده: (يا عيبو بيَّنْ شيبو)، إذا ما سحّاب البنطلون
مفتوحًا، أو انفرطت خياطة البنطلون بين الفخذيْن، شعور مهانة.. لاشكَّ أنّه معيب.
راحت أفكاري بعيدًا، وأنا أفكِّر في شعور المُفتِّش، خاصّة أنّ أصابعه تُعسعسُ
وتُبَعْبِصُ، رغبتي في متابعة مشواري لاجتياز هذه العقبة، لم أتصّور كيف سأجتازها.
أخيرًا وصلتُ مُجبرًا لا خيار لي، مثلي مثل ممّن سبقني وممّن لم يأتِ دوره.
كادت أنفاسي تتوقّف عند ملامسة جسدي بهذه
الطريقة الفجّة، لا أدري على وجه الحقيقة، هل شعرتُ بارتجاف أعصابي اللّاإراديّ؟،
أظنُّ لو أنَّه أدركَ ذلك منّي، لكان له معي كلامًا آخر، هذه اللَّحظة شعرتُ بِبَلَلٍ
بيْن فَخِذَيّ، اِنْفلتَ شيئًا من مَثانتي.. لا أدري إن كان كثيرًا، حمدتُ الله
على أن كان بعد أن نزلت يَدَا المُفتّشِ إلى أسفل قدميَّ. فماذا لو ترطَّبت يداه بِبَلَلي؟.
استعدتُ
أنفاسي المُتهالكة من مُكابدة ما عانيْتُ، خلال ساعتيْن من الانتظار. نسيتُ نفسي،
زاغ منِّي البصر.. وأنا أتلفَّتُ يمنةً ويسرةً. اجتزتُ عتبة البُوابة. توجّهتُ بسؤال
لشُرطيّ يقفُ في زاوية قريبًا من نافورة وسط السّاحة الرّئيسة عن الحَمّامات.
أشار
إلى شجرة عالية مُضاءة بأنوارٍ مُلوَّنةٍ على الطرف الآخر. اجتهدتُ في خُطواتي تَسارُعًا
بل ركضًا لاجيتاز المئتي متر. وُلدتُ من جديد، ارتياح على جميع مُستوياتي، بعدما
غسلتُ وجهي، ومسحت رأسي بحفنة ماء بلَّلت ظاهر شعري.
***
ما
إن خرجتُ وقفتُ
لا أدري إلى أين سأتوجّه؟، بكلِّ تأكيدٍ سأبحثُ أوّلًا عن أصدقائي، سُرعان ما
غادرتني الحيْرة، عند مُشاهدتي للفنّان (أبو سعود) يقفُ مع شخص على مسافة
خمسين متر عن مكاني، بلا تفكير ولا تخطيط اندفعتُ للقائه. من فوري زالت هُمومي،
شعرتُ بزُهُوٍّ غامرٍ انبثق في دواخلي.
سابقتني
ابتسامته مُعلنةً ترحيبها المعهود، عندما كنَّا نلتقي هناك في البلد، فهي مفتاح
للقلوب بنشر البهجة والطمأنينة، غالبًا ما تكون عنوان الشخصيَّة المُحبّة للآخرين.
أناقته
المعهودة وَاسِمَة زاهية لم تتغيّر منذ وعيتُه، وباروكة شعره مصفَّفة بشكل مُميَّز
بلمعانها، واستبدل الكرافيت بــالببيونة كما "مجدي الحُسيني"
عازف الأورغ الشَّهير. حقيقة لا أعرف التفريق بينهما لكن ما استقرَّ في ذهني أن
الببيونة يضعها الفنَّانون.
- السّلام عليكم.
- أهلًا سهلًا.. يا فطين.. أراك هنا، هل
معك أحد؟.
- معي ثلاثة من أصدقائي، أضعتُهم في زحمة الانتظار
قبل دخولنا.
- اطمئن سنبحثُ عنهم، وسنذهب سويّة لحضور
حفلة فيروز على مسرح المعرض.
- أووووه.. فيروز دفعة واحدة..!!.
لا
أكاد أصدّق ذلك، رُبَّ صُدفةٍ.. خيرٌ من ميعاد. ما هذا الحظّ الرّائع، لقاء (أبو
سعود) وفيروز. بدلته السَّوداء موحيةٌ برسميَّة الموقف ووجوده هنا. جَهِدَ
مُخيّ في معرفة الاسم الحقيقيِّ له، في البلد هو معروف بلقبه، المشهور كشُهرة بُصرى.
لوحات خطوطه الجميلة التي تملأ لوحات القلعة الإرشاديَّة من شغله، إضافة لواجهات
المحلَّات التجاريَّة والدَّكاكين، وبعض أصحاب السيَّارات يطلبون منه كتابة عبارات
غير مألوفة على مؤخَّراتها.
- والله يا فطين، إنّ حظّك يفلقُ الصّخر.
في الحقيقة أنا أعمل معهم منذ فترة للتحضيرات لهذه اللّحظة؛ فمعظم اللَّوحات
الإعلانيَّة والإرشاديَّة والرّسومات التي
تملأ جنبات وزوايا أرض المعرض وأجنحته في معظمها هي من شغلي.
- يعني ذلك أنَّني سأعلن أَسَفي لكَ،
لتعطيلك عن عملك.
- لا أبدًا..؛ فقط إذا طلبوني لأمر طارئ،
أرى ما يريدون، وأرجعُ إليكم.
- للمرّة الأولى في حياتي سأرى شخصًا مثل
(فيروز). كنتُ أراه على شاشة التلفزيون. هل هي تأتي كلَّ يوم أثناء فترة المعرض؟.
- لا.. لا أبدًا، تُحيي حفلةً واحدةً من كلِّ
عامٍ في مثل هذه الموعد، وعلى الأغلب يكون يوم الافتتاح مُخصّصٌ لها، بحضور جميع
المسؤولين في الدَّولة، والسِّلْك الدبلوماسيِّ، والأماكن كلّها محجوزة سلفًا.
- يعني أنّنا لن نتمكَّن الدُّخول.
ضحكته المعهودة جلجلت في المكان، وقال:
- تُفتح الأبواب لي، ولضيوفي أنتم في هذا
المساء.. وبكلّ ترحيب، سعادتي كبيرة بكم؛
فلنذهب نبحث عن زملائك قبل موعد رفع السِّتارة، معنا أقلَّ من ساعة حتَّى نجدهم.
هيَا.
- مشكور يا سيدي. لقاؤك أنقذني من الضيَاع
معهم في دوَّامة الزِّحام.
ابتسم
(أبو سعود) لكلامي بزُهوٍّ، وبثقة العارف بدقائق الأمور؛ انخرط في حديث فنيٍّ عن
فيروز، فتحَ لي آفاقًا أجهلها تمامًا. معلومات فنيَّة مفيدة، أصغيْتُ له باهتمام:
-(نشأ ارتباطٌ روحانيٌّ بين تراب الشَّام.
الأرض المُقدَّسة والسيدة فيروز . هذا الارتباط تاريخيٌّ موغلٌ في القِدَم ومُتجدِّد؛
جمع فيروز والرحابنة مع كُلِّ شِبر من أراضي دمشق، فقد بدأ هذا الارتباط، في العام
1953 عندما دعا الأمير "يحيى الشِّهابيّ" مدير البرامج في إذاعة دمشق،
فيروز إلى دمشق مع الأخويْن عاصي ومنصور الرَّحباني، وهكذا أشرعتْ إذاعة دمشق
قلبها من على كُلِّ شُرُفاته لاحتضان فيروز... حيث خصَّصت لها يوم الأحد من كلِّ
أسبوعٍ، لتحضر إلى دمشق مع الرحبانيِّين؛ لتُقدّم عبر أثير إذاعة دمشق أغانيها
واسكتشاتها) *منقول.
- أرجوك ما فهمت، شو يعني الرحابنة والرَّحبانيِّين،
واسكتشاتها؟.
- بكلّ سرور، الرحابنة: هما الأخوان منصور
وعاصي من عائلة الرّحباني، والاسكتشات: هي في الأساس نُطلقُها على مُسوَّدات اللَّوحات،
في التصميم الهندسيَّ لبناء ما، أو لرسم فنّي واللّوحات، وعلى الأغاني القصيرة جِدًا،
وفي المسرح مشهد صغير من دقيقة إلى عشر دقائق، وغالبًا ما يكون اِرْتجاليًّا ما
يكون ساخرًا أو مُضحكًا كوميديًّا.
- فهمتُ.. آسف على المقاطعة.. تابع من
فضلك.
- أسعدتني بسؤالك الدَّالِّ على انتباهك يا
فطين، واستماعك لحديثي. تابع: (في تلك
الفترة كانت إذاعة دمشق أقوى الإذاعات العربيَّة، وفي إحدى المرَّات قرَّر "عاصي
الرَّحباني" طرد فيروز من الفرقة، واستبدالها بمطربة أخرى، ولم يكُن قد تزوَّجها
بعد. لكنّ الأمير "يحيى الشِّهابيّ" تدخَّل، ووضع شرْطًا لاستمرار الرَّحابنة:
هو أن تستمر فيروز معهم) *منقول.
- يعني أنّ شُهرتها كانت من إذاعة الشَّام؟.
-(بكلّ تأكيد كانت من دمشق انطلقت برائعتها
أغنية (عتاب)، التي تُعتبر أغنية الشُّهرة الأولى. حملت أغنية (عتاب) الثلاثيّ
الجميل: عاصي ومنصور وفيروز. على جناح الشُّهرة والتألُّق عاليًا؛ فتوثقت أواصر
التعاون بين الثلاثيِّ الجميل عبر إذاعة دمشق، والإذاعة اللُّبنانيّة، وإذاعة الشَّرق
الأدنى، وما كرَّس هذه الشُّهرة التي قادت عاصي للزواج من فيروز، وكان الأمير الشِّهابيَ
من أوائل المدعوِّين عام 1954) *منقول.
بعد
وقت قليل من بحثنا عنهم، وجدنا (منصور وحسين)، و(محمود) ما التقينا
به إلَّا في نهاية المطاف قبل توجُّهنا بقليل للخُروج من البوابة الرَّئيسة عند
الحادية عشر، كان التّعبُ أخذ منّا كلّ مأخذ.
وتابع
حديثه. بعد مصافحته لشخص التقانا، من خلال ما دار بينهما من كلام تبيّن لي، أنّه
يعمل مع لجان التنظيميّة للمعرض:
-(فالشّام يا عزيزي ساحرة بسطوها على العقول
والقلوب؛ من شرب ماءها، رجع إليها منقادًا بسلاسل الحُبّ) منقول.
بصوتها
الشجيّ انتشى الحضور على نبراتها النَّاعمة، تُلامس المشاعر بعُمق دلالة أغانيها
المعروفة سابقًا، ومن الجمهور من كان يتمايل رأسه ويهتزّ، وألسنتهم تُردُّد معها
تمامًا طِبقَ رِتْمِ كَوْرسِها.
تركنا
(أبو سعود) بعدما تلقَّى إشارة من أحدهم هناك على يمين المنصَّة، بعد إزاحة
السِّتارة، وظُهور عريف الحفل ليُقدِّم المُطربة. بعد نصف ساعة تقريبًا عاد إلينا،
وبيده ثلاث كازوزات باردات (مشروب الكولا أو البيبسي)، مع ثلاث سندويتشات فلافل،
وغابت أذهاننا في متعة الأكل بعد جُوع مُضْنٍ؛ فما وعينا من الأغاني التالية شيئًا
سوى أنَّا سمعنا فقط بآذاننا بلا وَعْيٍ.
بعد
استمتاعنا بحضور حفلة شخصيّة لفيروز؛ سنبقى نحكي عنها لرفاقنا في القرية بعد
عودتنا، وتنمّر عليهم بحكايا مثيرة عن رحلتنا العتيدة. وربّما سنرويها لأبنائنا من
بعدنا كما فعلتُ الآن من خلال كتابتي هذ الرّواية.
***
إذا كانت السّياسة قد فرَّقتنا؛ ففي معين
الثقافة أملٌ، نجتمع حول مائدتها، لعلَّها تُخفِّف حدّة الكراهيَّة النَّاشئة.
شآمّيات
الشّاعر "سعيد عقل" تجاوزت كلَّ الصُّعوبات والعقبات. تتراقص القلوب لها
طربًا، خُصوصًا على وقع صدى صوت فيروز الذي اجتمع على محبته الشّرق والغرب.
صوتٌ
حمل إلينا قصائد لم نكن نسمع بها، ربّما تبقى حبيسة بُطون الكُتُب. لا ترى النُّور
إلّا على أيدي هُواة القُرَّاء من مُحبّي الشّعر أو الباحثين.
يقول
الشَّاعر نزار قباني:
-(جاءت السيَّدة، جاءت فيروز، هبطت
علينا كغمامةٍ، هجمت كقصيدةٍ، هجمت كمكتوبِ غرامٍ قادمٍ من كوكبٍ آخر، كتفاصيل حُبٍّ
قديمٍ، وبعد ثلاث سنين من التوحُّش، مررنا تحت أقواس صوتها الحضاريِّ؛ فتحضَّرنا).
قُبيل
انتهاء خدمتي الإلزاميّة 1985، لا زلتُ أذكرُ حفلها الأسطوريّ على مُدرَّج مدينتي
(بُصرى الشّام) التاريخيِّ في محافظة درعا من نفس العام. كان عناق التاريخ
عندما تزاحم السوريُّون؛ للاستماع لمعشوقتهم بخُشوع.
وقفت فيروز تصدح بصوتها في مِحْراب بُصرى،
تستلهم عبق الحضارة. فيروز العشق والحب، صوتها لطالما سحرهم هُيامًا، وهي تتغّنى
بالشّام، بينها وبيننا قصَّة عشقٍ خاصَّة. قدمت من لبنان الموجوع بحرب أهليَّة،
وأنِينهُ استطال من جُروح امتدَّت على مساحة وطن، طالت الحرب الجميع، لم تترك
شيئًا على حاله. وارتجَّت جنبات القلعة بصرختها:
أنا هنا
جـــــــــــــــــــــــــــرحُ الهوى
وهـــناك في وطني جراحُ
وعليك عيني
يا دمشقُ فمنكِ ينهمرُ الصبـــــاحُ
يوم
ذاك لم تشهد بُصرى منذ عهودها القديمة والحديثة حشود الجماهير الغفيرة، خمسة عشر
ألف مُتفرّج سِعَة المُدرَّج، بينما تضاعف
العدد للَّذين دخلوا، واستقرّوا داخل القلعة.
عند
السَّاعة الثانية بعد الظُّهر، ارتأت اللِّجنة المُشرفة والمنظّمة إغلاق باب
القلعة، ومنع القادمين بعد ذلك. إلى كان الذي لا يكاد يُصدَّق أبدًا، بأن من لم
يدخلوا فاقت أعداد الذين هُمْ في الدَّاخل.
احتدم
الموقف على أشُدِّه، تجاذبات بين الجهات الأمنيَّة، وحدث إطلاق نارٍ كثيفٍ في محيط
ساحة القلعة، وجُرِح وقتها من أفراد الأمن والشُّرطة، وبعض المدنيّين. ولم تتمكّن
فيروز من الظُّهور على المنصّة إلَّا بعد الثانية عشرة ليلًا، بتأخير حوالي ستِّ
ساعاتٍ عن موعدها المُقرّر حسب البرنامج في الخامسة مساء.
تعبٌ
وإرهاقٌ وتدافُعٌ وعطشٌ وجوعٌ.. معظم ما قيل في أحاديثهم الجانبيّة: النّدم على
مجيئهم ودخولهم أو عدم دخولها ممّن بقوا خارج أسوار القلعة العتيدة، والانتظار
المُملّ. جميع عبارات النّدم استنفذتها الحناجر، وقطعوا العهد على أنفسهم أن لا
يعودوا لمثل ذلك، حتَّى لو عادت فيروز ثانية، تفاديًا لما عانوه.
ومثلما
حدث في بُصرى، حدث شبيهه قبل ذلك بسنوات، وفي العام 1977، عندما أقامت فيروز صلوات
الجُمُعة الحزينة في (مزار صيدنايا المُقدَّس)؛
فأُغلقت المنطقة قبل أسبوع من الحدث لأسباب أمنيَّة، حيث خيّم حوالي ألف
وستمئة شخص حول الموقع. بينما الذين حضروا الصلوات قُدّر عددهم بستّة آلاف وخمسمئة
شخص، وغنَّت فيروز لأوّل مرة (لا تنوحي).
جاءت
فيروز بالحبِّ، موقنة بحبّ السُّوريِّين لها. تتغنَّى بقصيدة (يا مال الشّام)
التي لحنّها(أبو خليل القبّاني) قديمًا، وكثيرًا ما قيل أنَّها تراثيَّة.
مجهول شاعرها، إلى تبيّن لي خطأ من قال بذلك، وصاحبها الشَّاعر (عمر الحلبيّ).
وهذا التغنِّي غَنِيّ بالحُبِّ. لعل أبلغ من وصف هو الشَّاعر (محمد الماغوط)
فيروز قائلاً : (صوتها يُصالحني مع الحياة).
فهي
ذاكرة وطن، ونافذة عتيقة نُطلُّ منها على أعمارنا، عشقناها مُراهقين وشبابًا، وما
زلنا نعشقُ صوتها. الذي لم يغِبْ يومًا عن حاضرنا أينما يمَّمتَ الفضائيَّات
والمحطَّات الإذاعيَّة، كقاسيون وتدُ دمشق. تُعانق حنجرتها كلمات سعيد عقل، ونزار
قبّاني، والأخطل الصَّغير، والأخويْن رحباني.
***
(3)
(يبدو أنَّ الأزمات مُتماثِلة حدّ
التطابُق. زمن الحوار بجزأيْه الأوّل والثاني- العام 2021- تزامن مع أزمة رئاسيّة
تشابهت مع نهاية رئاسة أمين الجميّل في كثير من معطياتها آنذاك. كلتاهما حدث فراغ
دستوري في كرسي رئاسة الجُمهوريّة اللُّبنانيَّة).
.........
اجتاحتني نوبة قلق غير مسبوقة، أصبحتُ على حافَّة
الانهيار.. أتهاوى وأعود للتماسك باستعادة رباطة جأشي كلَّما انحدر مُؤشِّر صُمودي.
مضى أسبوع وأسبوعان... شهر وشهران، ولم
ينقطع بريقُ الأمل برسالة الواتساب الموعود بها من (كريم بقرادوني)، في كلِّ
يوم أطالع القائمة بعد استيقاظي صباحًا؛ فلا نشاط لحالته.
حيرة الانتظار تُعانِدُني، وفي اليوم
الواحد والسِّتين كانت المفاجأة أن كانت في الوقت الضَّائع؛ بعدما فقدتُ الأمل
بموعد ثانٍ:
-عزيزي فطين... انتظرني غدًا يوم الأحد عند
الواحدة ظهرًا على (السّكايب)، لاستكمال لقائنا السّابق. الرَّجاء المعذرة. ظروف
قاهرة كما ترى على الفضائيَّات والاحتجاجات المُستمرَّة، ومُشكلتنا بتشكيل حكومة،
والاجتماعات والمُشاورات على مدار السَّاعة، في هذه الفترة توقَّفت جميع مواعيدي
المُسبَقَة، الأمر الذي أربكَ مدير مكتبي، واعتذاراته. يا له من شخص عظيم..!! بما
يتحمَّلُ من الزَّبائن الذين لهم قضايا عندنا، إضافة للزَّائرين الطَّارئين وهم من
ذوي الحاجات؛ يأتون طلبًا لمساعدتهم على قضائها.
من فوري لم أتمالك نفسي، رغم قهري الموجِعْ؛
كتبتُ له رسالة فوريّة ردًّا على رسالته:
-أستاذنا كريم.. أستميحكَ عُذرًا بتلقيبك (حارس
الذَّاكرة)، لأمور كثيرة استقرَّت في ذاكرتي، عند التحضير لهذا الموضوع الذي
طال انتظار ظهور للعَلَن. أعتقدُ أنَّه لا يأس مع الأمل... وما دام هدفنا واحد،
ورؤيتنا مُتطابِقة لكثير من الأمور؛ سأقيمُ عهدًا على انتظارٍ ولو طال. أعذارُك
مُبرَّرة، وإذا لم يُعذَر أمثالك؛ فمن الذي يستحقُّ العذر بعدكَ.
ضغطّتُ بسبَّابَتي على الإرسال، تنفَّستُ
الصُّعداء، عاودتني من جديد حالة الترقُّب والانتظار، أفتح الواتساب كلَّما عنَّ
لي رؤية الخطَّيْن الأزرقيْن بجانب رسالتي، علامة المُشاهدة للرسائل؛ لتسقرّ نفسي،
وتهدأ عواطفي الجيَّاشة، أُمنيتي التي لا تغادرني صورة ذلك الشَّاب اللُّبنانيّ
أيَّام أبوظبي؛ لأقول له بصوتٍ يملأ الدُّنيا، الحبُّ يقهر الكراهيّة بصولجانه المَهِيب.
صدى قولتِه يتردَّد من حين إلى حين، عندما
يمرُّ خبر عن لبنان، وأخبار السُّوريِّين المُهجَّرين هناك:
-"إيه.. يا خيِّي هايْدا بِغَنِّي
ع سوريَّة".
ليتك الآن تجلس معي غدًا في حواري مع كريم..!!؛ لترى بأمِّ عينيْكَ،
وتسمع حقيقة لم تسمَعْها مع قَبْل؛ فماذا ستقول عنه..!!؟.
بكلّ تأكيد لن تقول إلَّا ما قاله: (مناحيم
بيغن) عن كريم، في لقائه مع (بِيَار الجميّل)، حينما عَلِم أنَّ كريم
سيكون اسمه مُقتَرَحًا وزيرًا للخارجيَّة اللُّبنانيّة:
-"كريم عميل لسوريّة.. لا نقبل به
أبدًا".
بالحبّ نُعيد بناء ما تهدَّم في السَّنوات
العِجَاف، ونقهر جبال الحِقْد، وجليد الكراهيَّة المُتكلِّس في نفوسنا، ونُعيدُ
ترتيب أوراقنا، ونُزيلُ الشُّكوك وعدم الثِّقَة. ربَّما سيطول الوقت، نحن سنغرس
ياسمين الشّام في بيروت، والأرزة على قاسيون.
***
سأبلِّلُ أصابعي بماء الزَّهْر والورد؛ لأنثره في
كلِّ اِتِّجاه، وأكتبُ بحروف من ياسمين
لأتعقَّب الجمال .. حقيقة عقدتُ بقلبي الدَّهشـة..!! وأنا على أعتاب بيروت.
منذ الأمس أستعدُّ؛ لأكون بكامل حَيويَّتي؛ لاستكمال العمل في تعبيد مسار الرِّواية.
أحسستُ بالرَّاحة تنسكبُ على قلبي، وبشعورٍ
غريبٍ هو مزيجٌ من الأمن والاطمئنان والسُّكون.. الفرح والرضا.. من دمعة وبسمة ..
روحي تُحلِّق هنا.. وبأنَّ قلبي فارقني ليُحلِّق أعلـى وأعلـى.. حينما تُنْحَر
رعشة الكلمات في مهدها، ويُعيد بعثَها عوالِمَ
من ألوانٍ سعيْتُ لبلوغ مُرادي منها، ولن أدعها تفلتُ منِّي هاربة، في حين تترك آثارها
بقلبي.. وإن مضت بي الأيَّام تنائِيًا لمدينة يُشِعُّ منها الضُّوء مُحمَّلًا
بكثير من الحبِّ والكراهيَّة.
تتلاطم الأفكار في رأسي تزاحُمًا وإغراءً
في الانتقاء أيُّها المُستَحِقُّ الأوليّة المُلحَّة، أضمرتُ بأن أحُكّ كريم في
الصَّميم؛ ليتكلّم بصراحة يستلزمها الموقف، لتكون شهادة منِّي أدوِّنها توثيقًا..
الأجيال القادمة بانتظارها، ولأكسر حواجز وتابوهات مُحرَّم التكلُّم عنها، ممنوع
علينا مُجرَّد التَّفكير فيها؛ لأنَّها بمثابة الكُفر المُستوجِب لإقامة الحدِّ مَوْتًا
على أيدي أجهزة الأمن في سُجونهم المُعدَّة لأمثالي.
دوّنتُ أشياء.. حذفتُ كثيرها، وأثبَتُّ
قليلها الأهمّ حسب الأولويَّة والغاية. ساعات التَّفكير استغرقتني حدَّ السَّيطرة
على جميع مُقدَّراتي.
منذ الصَّباح تتراقصُ الأخيِلَة في ذهني..
رافقها الإرباك.. يتوجَّب ظُهوري بأبهى صورة؛ لأنّني أفترضُ مُحدِّثي بكامل أناقته
المعهودة. السَّاعات تمضي على عَجَل غير آبِهَةٍ بحاجاتي الأساسيَّة، من فوري حلقتُ
ذقني مرَّة واحدة بدون تنعيمٍ كاملِ كما في كلِّ مرَّة، طالبتُ زوجتي بقميص مُعيَّن
يليقُ بمثل هذا الموقف، المُفاجأة إنَّه يحتاج لِلْكَيِّ، تركَتْ جميع أعمال البيت
المُعتادة، وتفرّغتْ لتهيئتي ومساعدتي لبلوغ هدَفي، تفانيها في خدمتي ينتشلني من
دائرة الحَرَج.
أوراقي أقلامي جاهزة على الطَّاولة بجانب
جهاز اللَّابتوب (الحاسوب)، فنجان القهوة، فوحُ (الجاكومو) عِطري المُفضَّل، يُنافس
دخان سيجارتي الأولى بعد أن أصبحت على مسار اللِّقاء بخطوات لا يتعدَّى زمنها الرُّبع
الساعة.
تأكَّدتُ من امتلاء شحن بطاريَّته؛ لتجاوز
فترة ساعة بلا مُنغِّصات، وخوفًا من انقطاع مُفاجِئ للكهرباء. شيّكتُ على
البرنامج، ضعْفُ الشَّبكة أغَمَّنِي، كاد قلبي يتوقَّف، الحمد لله بعد عِدَّة
مُحاولات تنفَّستُ بارتياح، تفاءلتُ خيرًا.
أطفأتُ عقب سيجارتي الثَّانية قبل دقائق.
الكُرسيّ في مكانه. الأمور لحدِّ الآن على غاية من التَّمام.
الانتخاب المستحيل:
* -أستاذ كريم أحفظُ لك مقولة جاءت تحت
عنوان (الانتخاب المستحيل)، كانت هائلة بعمق معانيها المُؤثِّرة، أحدثَتْ هَزَّة
في نفسي؛ عندما قرأتُها في كتابِكَ (لعنة وطن)، (كأنّ الرّئاسة صَنَمٌ
لا علاقة له بالبشر، ووقفتُ أتأمَّل الرّجال يتراكضون نحو المِصْيَدَة). فماذا
لو كنتَ على وَشَكِ الوُقوع في المَصْيَدة، والموقفُ أملى عليك الترشُّح للرِّئاسة؛
فهل سينطبق عليك وصفها بالمصيدة؟.
**- (في الحقيقة أنّني لم أُفكِّر في
هذا الأمر بالضَّبْط بتاتًا، لأمور وحسابات ربَّما يكون بعضها خاصًّا بي، أو لظروف
عامَّة داخليَّة وخارجيَّة تُملي إملاءاتها على كُرسيِّ الرِّئاسة، وتُضلِّله
بملاءتها، وهذا بحدِّ ذاته مانع لي لا أستطيعُه. فقد كنتُ لفتُّ نظر الرَّئيس أمين
الجميِّل قبل شهريْن من انتهاء ولايته، إلى ضرورة الإعداد لتأمين خَلَفٍ له؛ فعلى
هذا الاستحقاق يتوقَّف برأيي مصير الجُمهوريَّة والوطن، لأنَّه في حال حصول فراغ في رئاسة الجُمهوريَّة؛ يفقدُ
لبنان شرعيَّته الدُّوليَّة، ويسقط آخر رمز
لوحدة لبنان والاستقلال، وتضيع الخُصوصيَّة اللُّبنانيَّة التي ميَّزته وامتاز به).
* -جرأتُك نادرة أستاذنا كريمأس، صراحتُك تفلِقُ الصَّخر، وعناد
البعض من المُقرَّبين من مركز دائرتكَ يصمُّ آذانهم عن الاستماع إليكَ، وتمتلأ
قلوبهم عليك حقدًا، ورُبّما يُعرضِّك هذا إلى مُضايقات، ومن المُمكن أن يصل بك لتهديد
حياتك. لكَ مقولة لا أظنّ غيركَ يَقُلْها، حتَّى، وإنَّ كان مارونيًّا في الصَّميم،
ومهما بلغت درجة انفتاحه: (المُصيبة أنَّ كلَّ مارونيٍّ يُعِدُّ نفسه مُرشَّحًا
مُحتَمَلًا لرئاسة الجُمهوريَّة).
**- (إذا كنتُم لا تجدون مارونيًّا
واحدًا لترشيحه؛ فلنتخلَّ عن رئاسة الجمهوريَّة للمُسلمين، وأنا كفيلٌ بحلِّ
الأزمة اللُّبنانيّة فورًا. ذات مرَّة طَلَب أمين الجميِّل من الإدارة الأمريكيَّة:
أن تأخذ على عاتقها كامل المفاوضات مع سوريّة؛ حوْل موضوع رئاسة الجُمهوريَّة. أبدَتْ
الإدارة تحفُّظها. دفعني هذا الموقف الطَّلب من أمين: أن لا يتأخَّر في التجاوب مع
عَرْض الرَّئيس السُّوريِّ في الجزائر).
* -يبدو أنّ كتابكَ (لعنة وطن)، أخذ
أصداءً واسعةً في أروقة السِّياسة العالميَّة والعربيَّة والمحليَّة؛ فقد قرأتُ
أيَّام عملي في أبو ظبي ما كتبَتْه عنه جريدة الخليج، ومن جميل المُصادفة؛ أنّني
عرفتُ أنّكَ أهديتَ نُسخة منه إلى الرَّئيس (حافظ الأسد) بُعيد صُدوره بقليل، رغم
تقاطع الخطِّ السياسيِّ الكتائبي وقتها عن خطِّ سوريَّة، هل هي الخيوط التي تمدُّها
كجسور هل هي شعرَةُ مُعاوية؟. أرى حرصكَ الشّديد على أن لا تنقطع رغم التجاذبات
الخارجة عن نطاق السّيطرة. قيل أنّ في الكتاب كلام لا يرضى عنه الرَّئيس الأسد:
**-(سأقول لكَ شيئًا: كان بشير الجميِّل
يتخوَّف من مواقفي المُتعاطِفَة مع سوريّة، ومُنظَّمة التحرير الفلسطينيَّة،
ويُخفي عنِّي الكثير من التفاصيل، ويكتفي بمُكاشفتي بالعناوين العريضة؛ فكما
حدّثتُكَ في المقابلة السّابقة: لا يمكن تجاهل البُعد والعمق العربيِّ
والإسلاميّ للبنان، لحُصول التوازن المطلوب، وحتَّى نكون قادرين على حماية ظهرنا
بجدار صلب.
في أحد المرَّات، وفيما كان السَّفير
الأمريكي في لبنان "جون كيلي" يودِّعني، بعد أحد الاجتماعات بخصوص مشكلة
الرِّئاسة، لمستُ أنَّه مُتعَب بعض الشَّيء، فقلتُ له: " المرحلة مُتعبة،
لكنّها مشوقة، وهي جديرة بأن تكتب مذكّراتكَ عنها". تطلّع إليّ مُبتسمًا،
وقال: "أعتمدُ عليك في تأريخ هذه المرحلة، وآمَلُ أن يكون عنوان كتابك المقبل
"السَّلام الموعود" بدل "السَّلام المفقود" الذي كتبتُه قبل
ستِّ سنوات).
*-أذكرُ أنّه في نهاية فترة رئاسة (أمين
الجميّل) ليل 22\أيلول- سبتمبر\ 1988، كان لُبنان في غيبوبة تامّة دامت
طويلًا، في غرفة الإنعاش الصَّدمات الكُهربائيّة، وإمدادات الأوكسجين بين الحين
والآخر، أبقَت حركة القلب المعلول بطيئة، وأنت حارس الذّاكرة اليقِظ .. القلِق..
الحريص.. ليْتَ شيئًا منكَ تسرَّب إلى صديقكَ أمين، وأحسَنَ تقدير الموقف، واتَّخذ
قرارًا تاريخيًّا ربَّما كان قد وفَّر على البلد كثيرًا من الاقتتال الدَّاخليِّ
اللُّبنانيِّ.. اللُّبنانيِّ.. وتفتيت المُفتَّتِ أصلًا. كلمة للتَّاريخ سيحفظها
لكَ بكلِّ أمانة، يذهب الرِّجال وتبقى مواقفهم.. والحسرةُ على من كان بلا موقفٍ
يُسجَّلُ له ولو في كلمة واحدة، لماذا أشعر بأعباء التَّاريخ ترهقنا جميعًا، وعلى
رأي (مارتن لوثر كينغ): (الإيمان هو أن تأخذَ الخُطوة الأولى، حتّى، ولو
لم تستطع رُؤية الدَّرَج كلِّه)، تفضّل سيّدي:
**- (وقبل مغادرتي القصر بعد منتصف ليل
22\أيلول، أشرتُ مُجدَّدًا لأمين أنَّ زيارته إلى دمشق، قد تكون بداية مُشكلة في
بيروت الشَّرقيَّة؛ إذا تفرَّد بالقرار، كما قد تكون باب الفرج، إذا أمَّنَ لها
تغطية واسعة. ساد الإحباط والبلبلة. وشعرتُ أنَّ لُبنان ينزلق نحو الهاوية، وخِفْتُ
على الوطن، رئاسة الجُمهوريَّة هي آخر ضابط. وفي غيابها يتفكَّك الوطن؛ سيؤدِّي
الفراغ الرِّئاسي إلى تحكُّم الجُيوش الأجنبيَّة، والمنظَّمات اللُّبنانيَّة، وغير
اللُّبنانيّة بالأرض، وإلى انتزاع الشرعيَّة.. شرعيَّة الأمر الواقع في غياب الشرعيَّة
الدُّستوريَّة، كما سيُؤدِّي إلى فتح باب الصِّراع على السُّلطة على بيروت الشرقيَّة
من دون رادع. حيال هذه التطوُّرات؛ أصبح همِّي في رُبْع السَّاعة الأخير تأمين
استمرار الشرعيَّة اللُّبنانيَّة، لا من خلال رئيس صار مُستحيلًا، بل من خلال
حكومة انتقاليَّة ما زالت مُمكنة؛ حينها شعرتُ أنَّ العتمة تتسرَّب إلى القلب،
وأنَّ الجُمهوريَّة نفسها تندفع إلى ليل طويل).
من خلال الشَّاشة لاحظتُ تطلُّع كريم من خلال
النَّافذة على يمينه، كأنَّ يسحبُ مزيدًا من الأوكسجين؛ لتزويد رئتيْه به، على وقع
الذكريات الأليمة تتعكَّر منابع النَّفس الإنسانيَّة، وتصفو على السَّارَّة منها.
نظراته ذهبت به بعيدًا، سكَتَ لحظة، لا
أدري أين أخذَتْهُ، ربّما إلى عوامل النَّدم..
أو اليأس. وأنا أتصنَّع التفاؤلَ من خلال فرد الابتسامة التي أتـصنَّعُها لتغطِّي
ملامحي، كي لا أوحي لمُحدِّثي بالإحباط والتَّشاؤم، من واقع بلاد العرب ما بين
الشَّرق والغرب، والتهجير المُتجدِّد في إدلب في ظروف الشِّتاء القاهرة بقساوتها،
الحصول على الموتُ أقرب من رغيف الخبز.
سحَب كريم نفسًا عميقًا، بدا لي أنَّه
استعاد شيئًا من ذاكرته، مسَحَ وجهه بمنديل ورقيٍّ كان يقبضُ عليه منذ مجيئه أمام
الكاميرا، ليس من أثر تعرُّقٍ.
كان عليَّ استعادة زمام المُبادرة
بالمتابعة، كي لا يحدُث الفراغ في اللِّقاء، تأثُّرًا بفراغ سدَّة الرِّئاسة في لُبنان،
ومغادرة الرَّئيس دون أن يستخدم حقَّه الدُّستوريِّ في اختيار أحد من بعده.
عندنا في حوران يقولون: (راح.. وترك
العِجْل على أمِّه)، العِجْل لن يتردَّد في السّعي لثدي أمّه، لامتصاص كامل
الحليب من ضَرْعيْها؛ خسارة فادحة لذاك
اليوم، وحرمان أهل البيت من ناتج بَقَرَتِهِم.
ومن النَّوادر المُتناقلة على ألسنة النَّاس،
وعلى بساطة القصّة: فإنَّ شيطانًا غاضَهُ انسجام الأسرة، عَنَّ له فكَّ رباط العِجْل،
غضب الرَّجل استبدَّ به، ضرب زوجته، وجاء ابنه لفكّ الاشتباك بينهما؛ فضرت ابنه
على رأسه بالعصا؛ فمات، بعد أنْ كان قد طلَّق امرأته.
جاء شيخ الشَّياطين، يُؤنِّب زميله الصَّغير،
وسائلًا: "ما الذي فعلته..!! الله لا يعطيك العافية؟". فقال:
"والله ما سويَّتُ إشي.. إلَّا أنّني فككتُ رباط العجل".
* - أستاذي، مُخلّفات المرحلة قاسية، وأصبح
لُبنان جمهوريَّة بلا رئيس، لمَّا أطلقتُ عليكَ حارس الذَّاكرة، لاشكَّ عندي؛
بأنّك صندوقٌ مغلَقٌ مليءٌ بجواهر حقيقيَّة من المعلومات، أتمنَّى أن لا تبقى
حبيسة صدركَ، أمانة التَّاريخ تتطلب أن تُخرجها للأجيال، وأنتَ أحد صانعي مساراته.
سؤالي هذه المرّة شديد الحساسيَّة، أُحيِّي فيكَ جرأتكَ وصراحتكَ.. هذا عهدي بك.
بخصوص صديقك (أمين الجميّل)، يا ريْت نسمعُ رأيكَ به، وبمرحلته في سدَّة الرِّئاسة..
تفضَّل:
**- (أدار البلاد كما يقودُ الطوَّافة.
يعلو بها بشكل عموديٍّ، وينخفض بسرعة. ينعطف يمينًا ويسارًا، ولا يتّبعُ طريقًا
ثابتة، ينطلق من حيث يريد، ويهبط حيث يشاء. لقد أوصلَ لُبنان إلى أعلى درجات الأمل
في بداية عهده، ووصل به إلى أقصى حالات اليأس في نهاية ولايته. يتكلَّم أحسن ممَّا
يخطُب، ويتمتَّع بفنِّ المُفاوضة أكثر من موهبة الخطابة. يعتمدُ البراعة الشخصيَّة
ليُمرِّر الحُلول والتسويات, كثيرًا ما أخطأ التّقدير، ولم يُحسِن قراءة الإشارات؛
لأنِّه ينطلق من المقاييس الذاتيَّة المبنيَّة على علاقاته الشخصيَّة، ويُغفِلُ
المُعطيات الموضوعيَّة. يُتقِنُ سياسة الإبهار؛ فيُطلِق الشِّعارات البرَّاقة،
كوصفه عهده بـ "مغامرة الإنقاذ" أو مقوله: "أعطونا السَّلام، وخذوا
منَّا ما يُدهِشُ العالم، تقارَبْنا على مقاعد المدرسة في مدرسة "سيِّدة الجُمهور"،
وتصادقنا في كُليَّة الحُقوق، وتعاونَّا داخل حزب الكتائب في السبعينات، وتباعدنا
سياسيًّا في الثمانينات. اختلفنا في بداية عهده، والتقيْنا في نهايته. إنَّها قصَّة
طويلة مليئة بالتضامن والتَّخاصم، أصررتُ خلالها أنْ أُميِّز بين الصَّداقة والسِّياسة؛
فلم أفلح. التعامل مع أمين صَعْب، وقد خبره كلُّ من تعاون معه، إنَّه يريد كلَّ
شيء كلَّ الوقت، ولا يُعطي في المقابل أيَّ شيء في أكثر الأوقات. قلَّما يتحمَّل
المُعارَضة أو الانتقاد، وإذا تحمَّلهما على مَضَضٍ، وقلَّما يُفتِّش عن المَشُورَة،
وإذا وصلَتْهُ فلا يأخذ منها إلَّا ما يُناسِبه ويُعجبه. جَمَع أخطر صِفتيْن في
السِّياسة: الأنانيَّة والعِناد).
*
-عثرتُ على عبارة في كتابكَ (لعنة وطن)، منقولة على لسان أمين: (في بداية
عهده أطلق على نفسه لقب "عنيد" وكان يفخر بهذه التَّسمية التي تنطبق
عليه بكلِّ حسناتها وسيِّئاتها), وأنتَ صديقه المُقرَّب. وأنتَ المُحرَج بإبداء
رأيكَ للجُمهور. خبرتكَ العميقة في أروقة السِّياسة، فهل للعِناد ينفع فيها؟، رغم
أنّنا نعلم، أن السّياسة فنُّ المُمكِن، والتقدُّم والتراجع بمُناورات تكتيكيَّة
وغير تكتيكيَّة، والكذب والدّجل.. في كثير من تعاريفها المُتداولة.. علَنُها بعيد
كلّ البُعد على بواطن أسرارها. لك المايك أستاذنا:
**- (كان يكرِّرُ: زرتُ دمشق إحدى عشرةَ
مرَّة، ولم أتنازل عن أيِّ شيء ولا مرّة. وفي الواقع. لم يُقدِّم أيَّ تنازل لسوريَّة
طوال عهده. مع كلِّ أعمال التَّرغيب والتَّرهيب التي مارسَتْها دمشق حياله، وسقط
في الخطأ المُميت الذي وقع فيه كثيرون قبله. من شاه إيران إلى أنور السَّادات، صدَّق
الأميركيِّين في كلِّ شيء، واعتمد عليهم. وقع في فخّ المُتأمركين).
طفحت علامات الدَّهشة على وجهي، أرسلَتْ
مُؤَشِّراتها إلى السيِّد كريم؛ فأشار باصبعه
لي، ورافعًا حاجبيْه كعادته؛ فتجاوزتا حدود نظَّارته السَّميكة بمسافة،
بحجم لبنان جاءت انفعالاته؛ ترسُم خطوط تفاعلاتي الدَّقيقة من الحَدَث، أثارتني
حركته هذه.
لعلَّه أحسّ بعُمق أسئلتي، ومعرفتي بدقائق
الأمور، استفزَّ داخلي بلُؤْمٍ سأشتَّدُ تعميقًا لخطّ أسئلتي له. استأذنَني لتناول
قطعة من السِّيجار الكوبيِّ. دخَّانه المُفضَّل
المُعتاد عليه. هززتُ له رأسي بعدم مُمانعتي، من فوره سَحَب عليها بأنفاس
قاسية، انتقامًا.. لا أدري مِمَّ.. لكنّني أنا السَّبَب موقنٌ برأيي، لكنَّ النَّدم
لم يُساورني، ولم أُشفِق عليه لمَّا وضعتُه فيه من حَرَج؛ فهو في موقف لا يُحسَد
عليه. غيوم من الدُخَّان كنُدَف الثَّلج شكَّلت حاجزًا بين شاشتيْنا المُتباعدتين جغرافيًّا
فزادت غبشًا، حدَّ من الوضوح تمامًا قبل تدخينه للسِّيجار.
* -أحيّيك.. أستاذ كريم، مدى علاقتك بكريم
منذ طفولة المدرسة إلى كليّة الحقوق في الجامعة، معًا في مهد حزب الكتائب، هذا
التلاصق القريب، جعلك على دراية تامّة بشخصيّته، أعتقد أنّني سأسمع الجديد، مما لم
يقله أحدًا غيرك عنه، وقد نُقل عنك ذات مرّة: (حاول أن يربح كلّ شيء؛ فخسر كلّ
شيء). هل لك أن تميط اللّثام عن هذه التساؤلات؟:
**- (إنَّه ذكيٌّ. لكنَّه يميلُ إلى التذاكي.
يتمسَّكُ بثوابت لُبنانيَّة. لكنَّها تضيع أحيانًا في خِضَمِّ مُناوراته الكثيرة. كان
يتصوَّر أنَّ بمقدوره أن يُحارب بالآخرين، ويتخلَّى عن خساراتهم، ويبقى هو المُنتَصِر
الوحيد، والمحظوظ الدَّائم. الإنسانُ أنانيٌّ بالسَّليقة، والسياسيُّ أنانيٌّ بالمُمارسة.
لكنَّ كلَّ سياسيٍّ ناجحٍ يضبطُ أنانيَّته ليتعايش من الآخرين؛ فيربح ثقتهم. الحظُّ
أوصل أمين إلى الرِّئاسة، والأنانيِّة والظُّروف أفشلَتْه. الأنا عنده طاغية لا
حدود لها. مشكلته أنّه يخلط بين القضايا الكبيرة، والحسابات الصَّغيرة. عاكسته
الظُّروف في نهاية عهده، ولم يقدِرْ أنْ يُحافِظ على شيء. سنوات حكمه كانت
عِجافًا، اِنْهار خلالها كلَّ شيء: الوطن، والشَّعب، والمؤسَّسات، واللَّيرة،
والأخلاق، ورئاسة الجُمهوريَّة. وَلَجَ الرِّئاسة قائدًا شابًّا يطفحُ أمَلًا وقوَّة،
وغادرها رجُلًا مُنهَكًا بالخَيْبات والاتِّهامات، بدأ كَحَلٍّ، وانتهى كمُشْكِلة.
في عهده حلَّت لعنةُ الفقر والتخلُّف والانحطاط على وطن كان يومًا غنِيًّا ومُتقدّمًا
ومُشِعًّا. ما زال يتصوَّر أنَّ الكُلَّ مُخطِئون، ومُذنِبون، وهو الوحيد البريء
والمُصيبُ. إنَّه حقًّا عنيد..!!).
***
السّلام
الملغوم:
بدا
الإرهاق على السيّد كريم، استحقاقات العمر
لها نصيب مهمّ في الحياة، نبّهني ..بعد
الاستراحة
*
-"سيّد كريم، في الحقيقة استوقفتني بعضًا من آرائك التي تحكيها بجرأة قلّ
نظيرها بين السياسيّين، تقول كلمتك وتمشي، ويبقى التّاريخ ناطقًا بها يردّدها
باستمرار لمن أراد الاستماع والفهم، الجوّ الكتائبّي بطبيعة تكوينه
الجيوسياسي فيه توجّس وتخوّف من محيطه العربيّ، ومواقفه المُعلنة على لسان رموزه
سمعنا الكثير ممّا صرّحوا به لوسائل الإعلام المقروءة والمكتوبة والمرئيّة، أي أنّ
الأمر غير مخفيّ، وليس سِرًّا لنكشفه على طريقة (ويكيلكس)، قل رأيك للتّاريخ الذي
تصارعنا عليه ومن أجله، بخصوص العلاقة بين لبنان، والأخوة الفلسطينيّين، وإسرائيل
وسوريّة؛ لتكون مقروءًا من جديد من خلال هذا العمل الرّوائيّ. تفضّل لك
الحديث":
-(كنتُ أنتقدُ باستمرار الضّربات
الإسرائيليّة ضدّ المنظّمات الفلسطينيّة في الجنوب، لأنّها تؤذي الكلّ ولا تنفعُ
أحدًا، وتصيب الجنوب بضحايا مجّانيّة، ودمار عبثيّ وتُؤجّج العنف الدّاخليّ،
والنّزاعات اللُّبنانيّة من دون تبديل في الموازين أو فتح نافذة لحلول, وكان موقفي
هذا مصدر إزعاج وإحراج داخل الكتائب، والقوّات اللُّبنانيّة، والجبهة
اللُّبنانيّة. شرحتُ لبشير بكثير من الدّقّة مخاطر الحرب الإسرائيليّة، واقترحتُ
عليه. أمرين: الأوّل: أن نقوم باتّصالات مع دمشق؛ بُغية إيجاد اتّفاق يحول دون حرب مجهولة
النّتائج سياسيًّا، ولو كانت معروفة النّتائج عسكريًّا. الثّاني: أن نفتح خطوطًا مع منظمّة التحرير، علّنا نجد
ترتيبًا لإدخال الجيش اللُّبناني إلى الجنوب، والحيْلولة دون المغامرة
الإسرائيليّة).
*
-الوضع آنذاك كان مُكهرَبًا على وشك الانفجار في
أيّة لحظة. ونُذّر الشّؤم تلوح في الأفق، وكان لبنان مقبلًا على الأسوأ في تاريخه
على الإطلاق، فهل لك أن تُحدّنا عن رؤيتك في هذه الجُزئيّة:
-(إن
سيناريو الحرب صار مُتداولًا في الصّحف، ولم يعُد سرًّا، وبمقدورنا أن نطرح على
القيادتيْن السّوريّة والفلسطينيّة عملًا مشتركًا للحيلولة دون الاحتمالات
المتداولة. ولا يجوز التّفاوض حول الانسحاب السّوريّ من لبنان مع إسرائيل، وربط
الانسحاب بالانسحاب الإسرائيليّ؛ لأنّ ذلك تحدّيًا سافرًا لا تقدر دمشق على
تحمّله، ولن تتردّد في اللّجوء إلى كلّ الوسائل لإحباطه).
*-"انحدار
الحالة الأمنيّة في لبنان، وحصل المحذور غير المُتوّقع أبدًا، أن تدخل جيوش
إسرائيل حدود فلسطين الشماليّة مُندفعة بقوّات عسكريّة مُدرّعة، مدعومة من سلاح
الطّيران؛ لتأمين الغطاء الجوّي والتمهيد لتقدّمها؛ بتدمير القرى والمُدن والبنية
التحتيّة للبنان، وسط ذهول العالم واحتلال عاصمة دولة عربيّة بلا رادع أمميّ، فكما
تعلم إنّها إسرائيل مُدلّلة العالم بلا مُنازع، تفضّل سيّد كريم":
-(في ظلّ
الاجتياح الإسرائيليّ تعمّدتُ زيارة دمشق وحدي في 20حزيران \ يونيو 1982، وكنتُ
أحسُّ أنّ الذّهاب إلى العاصمة السّوريّة واجب قوميّ، لقد تعدّت زياراتي إلى
سوريّة في السّابق الخمسين في السّنوات العشر الماضية، ولكن هذه الزّيارة بالذّات
كانت تحمل نكهة أخرى. الزّيارات السّابقة كانت تدخل في خانة المصالح السياسيّة
المشتركة، أمّا هذه الزّيارة فكانت تُعبّر عن شعور بالتّضامن القوميّ الذي يتعدّى
السياسة والمصالح).
*-"بعد
مضيّ هذه السنوات الطّويلة التي تقترب من الأربعين على الاجتياح الإسرائيليّ، فما
هي ذكرياتك؟، التي لا شكّ أنّها أليمة تُؤسي نفسي مثلما أنّها ما زالت تؤلمك،
وتحفر الحزن عميقًا في دواخلك بعد هذا
العمر":
-(وفي
الطّريق إلى الحدود السّوريّة انتابتني مسحة من الكآبة, "طريق الشّام"
التي تصل بيروت بدمشق تقطعها الدّبابات الإسرائيليّة..!! الأزمة اللُّبنانيّة ما
زالت تكبر منذ1975، في حين أنّ لبنان ما زال يصغر. كلّ الجيوش غير اللّبنانيّة
حاضرة في وطني، وحده الجيش اللُّبنانيّ غائب. وفما كنتُ أغوصُ في أفكاري الحزينة،
توقّفت سيّارتي أمام حاجز إسرائيليّ؛ فنقزتُ عند رؤية جنديّ يتفحّصني، ثمّ سمح لي
بالمرور من دون أن يطرح عليّ أيّ سؤال. شعرتُ في هذه اللّحظة بالهزيمة، وبالوطن
المهدور. وكدتُ أن أبكي، لولا وجود السّائق، والمرافق إلى جانبي. وعند وصولي إلى
وزارة الخارجيّة السّوريّة؛ قبّلتُ عبدالحليم خدّام بحرارة، وقلتُ له: "ليس
عندي يا أبا جمال موجبٌ سياسيّ يحملني على المجيء، لكنني تعمّدتُ الحضور من دون
موضوع؛ كي أثبت لنفسي أنّ الدّبابات الإسرائيليّة لا تقدر أن تمنعني من التواصل مع
دمشق. كنتُ آمُل أن يكون الرّئيس حافظ الأسد هو عبدالنّاصر الجديد الذي يعرف أن
يثق ببشير لإدارة الشّؤون اللّبنانيّة الدّاخليّة، ويُنسّق معه في الشّؤون
الخارجيّة).
*-"من
المُهمّ التأكيد مُجدّدًا على رأيك حول قضيّة انتماء لبنان التي بقيت مثار الجدل بين الانكفاء بين
الفينيقيّة والقوميّة العربيّة، وتأطير علاقة لبنان مع دول جواره":
-(لا
جدل حول وحدة لبنان وانتمائه العربيّ وسيادته، وإنّني أرى إجلاء كلّ الجيوش غير
اللُّبنانيّة عن لبنان، وبالتخصيص الجيش الإسرائيليّ. وهو انتصار عربيّ. ولسوريّة
دور قوميّ في هذا المجال. وعلينا طرح
معادلة تخرج عن النّطاق الأميركيّ – الإسرائيليّ؛ فنبدأ المفاوضات مع سوريّة حول
الانسحاب من لبنان، كما اقترحتُ على بشير تعميق اتّصالاته بالصفّ الإسلاميّ في
لبنان والعالم العربيّ. وقد كان لبنان أوّل دولة عربيّة أوقفت الحرب مع
إسرائيل، ويجب أن يكون آخر دولة توقّع السّلام.. مسؤوليّة العرب كبيرة جدًّا..
وإلّا يدفع لبنان، على الرّغم عنه الثّمن الأكبر. في نظري أنّ إسرائيل هي أساس
المشكلة اللّبنانيّة، الفلسطينيّون هم ضحيّة إسرائيل، ولبنان ضحيّة الضحيّة
والجلّاد معًا).
بعد
هذه الوضوح المنافس لنور الشّمس، ولا غبار عليه أبدًا، وأعتقد أنّني اكتفيْتُ بما
سمعت منك، وسيكون له المقام الأسمى، في روايتي (خيمة في قصر بعبدا)، ارتاح قلبي..
ونحن نمدّ أيادينا بباقات الحبّ من أجل المُستقبل، ومواجهة تحدّيات المرحلة القذرة
التي نحنُ فيها.
واسمح
لي بإبداء رأيي في مقارنة بين قامتيْن راهنتُ عليهما لرسم لوحة ربيع الحبّ
الزّاهي، في مواجهة جبال الكراهيّة بين شعبيْنا وبلديْنا، السياسية العمياء زرعت
الكراهيّة في نفوس الأخوة اللّبنانيّين، ومعاناتهم مع همجية الجيش السّوري الذي
كان لا رادع له، رغم أنّه دخل بطلب من الجامعة العربيّة والدولة اللّبنانيّة لردع
العدوّ، والسياسة العمياء لم تتوقّف عندنا في سوريّة على مدار سنوات تقترب من عتبة العشر، دمّرت
الحجر والبشر، وصار اللّجوء السّوري مأساة العصر التي لم يحصل مثلها في التّاريخ،
ومن لجأ إلى لبنان ووجه بالكراهيّة القديمة، وتجدّدت بتأجيج بعض الأطراف على طرد
السوريّين من لبنان.
سأقول
لك شيئًا مُهمًا، ربّما تستغربه سيّد كريم، وأظنّ أن كثيرًا من إخوتنا
اللّبنانيّين لم يعرفوا أنّ السّوريّين لم تبدو منهم علامات الكراهة لهم، إلّا في
هذه الفترة الحاليّة من حياتنا الصعبة؛ فقد واجهنا كلّ أنواع الذلّ والاضطهاد.
هل
تعلم ماذا حصل عندنا في عام 2006 إثر العدوان الإسرائيليّ على لبنان، أنّ من جاءنا
هاربًا فارًّا من جحيم الحرب؛ أنزلناهم في بيوتنا مع عائلاتنا وأولادنا وأزواجنا،
تقاسمنا معهم خصوصيّاتنا، فرشنا لهم مُهج قلوبنا بكلّ رحابة صدر ورضا، عن طيب نفس
وخاطر.
تتفرّسان
ملامح كريم، وقد بدا التأثّر، وكان على وشك البُكاء، وهو يغالبُ دمعة تعانده أن
تطفر من إحدى عينيْه، وهو يُغالبها، دموع الرّجال عزيزة، وإذا بكى الرّجل فيكون قد
وصل لمرحلة اليأس والانهيار. رفع نظّارته
ومسح بمنديله جفنيْه، تصاحب مع نشيج مكبوت من أعماقه، تأوّه طويلًا،
وأتبعها بأطول أوووف، أتوقّع بأنّها أطول أوووف في التّاريخ على الإطلاق، ولو كان
الأمر بيدي لسجّلتُها في موسوعة (غينيس). صامت صمت الحُكماء.. ربّ صمت أبلغ من
كلام.
-(أستاذ
فطين من كمال سعادتي مُحاورتك لي، فقد أعادتني لأيّام راحت بسرورها وأحزانها،
وبقيت المواقف، وها أنت تستعيدها؛ لتضعها في مقدّمة الاهتمام من جديد، وقد نفضت
عنها غبار السّنين، سعادتي بك عظيمة.. أفرحتني.. بكلّ تأكيد أتمنّى أن يمتدّ بنا،
ليكون لقائي بك الذي أتشرّف أن يحصل قريبًا، مع تغيّر ظروفنا جميعًا للأفضل، ونحن
نسعى معًا يدًا بيد؛ لمزيد من الحُب، ولتكن مُبادرتك هذه الأولى من نوعها على
الإطلاق، فنحن اللُّبنانيّين على وجه الخصوص لم نسمع كلمة إنصاف، أو اعتذار عمّا
حصل خلال وجود جيشكم عندنا، لا من السياسيّين أو المُثقّفين على مختلف انتماءاتهم.
أثمّن
مُبادرتك عاليًا، أنتَ.. أنتَ يا فطين المُبادر الأوّل، وغرستُك هذه ستنمو حتّى
تُظلّل بلديْنا بخيمة الحبّ).
آهٍ..
منك يا ذاك الشّاب..!!، وأنت تقولها بقرف وعجرفة:
-(إي
يا خيّي هايدا بغنّي على سوريّة).
أينك..؟
لترى بأمّ عينيْكَ كريم بقرادوني الذي صار في وقت رئيسًا لحزب الكتائب..!!.
أينك..؟
تعال وانظر، ماذا كتب سعيد عقل عن الشّام، وهو مالم يكتبه أبناؤها من الشّعراء، لو
كنتَ تدري، ما غرست كلمتك سكّينًا بقلبي إلى هذه اللّحظة.
أينكَ..؟
وأنت تستمع لفيروز وهي تُغنّي للشّام.. فماذا أنت فاعل بنفسك؟..
وفي
إطلالة تفاؤليّة لما صنعنا في هذا السِّفر، أتوقّف عند رأي أديب العربيّة (مصطفى
صادق الرّافعي):
-(ليس
المُصلح من يُفسد عمل التّاريخ؛ فهذا سهلٌ وميسور، حتّى للحمقى، ولكنّ المُصلح من
لم يستطع أن يُفسد التّاريخ عمله من بعد).
***
(4)
الكلمة
ساحرة عبّدت الطّريق ما بين دمشق وبيروت.
(لمملكةِ
العشقِ والعاشقينْ .. ستّ الدّنيا يا بيروت.. ألاحظتِ شيئاً ؟ ألاحظتِ ؟ .. كم
تشبهينَ دمشقَ الجميلهْ.. وكم تشبهينَ
المآذنَ .. والجامعَ الأمويَّ.. ورقصَ السّماحِ.. أحبُّكِ أيّتها الغاليهْ..
أحبُّكِ مرفوعةَ الرأسِ مثلَ قبابِ دمشقَ .. وصارتْ مساحةُ عينيكِ .. مثلَ مساحةِ
هذا الوطنْ).
علاقة
الحبّ التبادليّة، تجاوزت الحدود والحواجز والطوائف، فمثلما كتب سعيد عقل وغيره
الشّام في أجمل أشعارهم، وكان حظّ بيروت على لسان نزار قبّاني.
***
لم
يشأ حسين التوقّف عن حديثه لي كلّما التقينا صدفة
أو قصدًا، شغفي بطريقة سرده التي تدغدغ
مشاعري، وتروق لي بطريقة أو بأخرى، لا تقلّ عن شغفه بصورة حمار، كرّرها على مسمعي
مرّات، أنّه التقط صورة له مع حمار من حمير البلد، وصورة أخرى له ولابنه مع حمار
آخر، البحث طال به في العثور على صورة كبيرة لحمار بدون أن معه أحد من بني البشر،
الصّور الثلاث تُزيّن غرفته الخاصّة داخل البيت، ولولا الانتقادات من زائريه
القلائل أو هم أقرب إلى النّدرة، بطبعه لا يحبّ الانفتاح، والتبسّط انفتاحًا
بعلاقاته بالنّاس، غرائبيّة طباعه بمواصفاته لمن يحبّ التّعامل معهم، تجعل كلّ ما
يقوم به موضع استهجان وتندّر.
فقد
أخبرني:
-"أنّ
ابن أخته كان على نيّة السّفر إلى لبنان، أوصاه عند عودته إلى البلد أن يجلب معه
صورة حمار".
-"ولو
يا خال..!! هل تمزح؟"
-"لا
والله يا خالي..!! أرجو أن لا تنسى.. ومهما كلّف سعرها".
صدمة
مفاجئة ألجمت لسان ابن أخته، ثمّ انخرط في نوبة ضحك هستيريّة، الدموع بلّلت خدّيْن
مُستوييْن كالشوندرة المطبوخة. دقائق وهو يشهق أنفاسه، التقطها بعد دقائق.
-"والله
يا فطين بعد سفرتيْن له حتى استطاع العثور على طلبي، بعد وصوله بساعتيْن، هاتفّني.
أخبرني بقدومه بعد ساعة، طلبتُ منه أن يأتيني بلا غداء في بيتهم، أرسلت في طلب
فراريج مشويّة جاهزة من المطعم، احتفالًا بقدوم الصّورة التي أتعبتني بحثًا،
وشوقًا لامتلاكها. كانت سعادتي".
لم
أتمالك نفسي من أن أكون النسخة الثانية المُكرّرة عن ابن أخته حينما أوصاه. إلى أن
هدأت أوصالي من الحالة، فقلت له:
-"وهذه
الحمير عندنا وعلى كثرتها.. ألا تُعجبك..!!؟".
-"لكن
الحمار لبناني، أرقى من حميرنا، وأجمل. كما أنّ هذه الصّورة تُذكّرني على الدّوام
بأصولي اللّبنانيّة، وأبناء عمومتي هناك، ولا زالوا هناك وعلاقتنا بهم قائمة على
رغم السبعين أو الثمانين سنة التي قطعتنا عنهم، عند مجيء جدّي وأخيه إلى هنا، فأبي
مولود هنا، ولأثبتَ استحما جدّي عندما ترك
موطنه وغيّره ".
توقّف
ذهني عند جملته الأخيرة. اقتادتني ذاكرتي بالأمس للصيدليّ الذي أوصى شخصًا يشتغل
بالتهريب من لبنان، على كيس ليمون لا يتعدى وزنه الثلاث كيلو غرام، بأربعين ليرة
سوريّة.
كانت
عودتي من (أبو ظبي) في إجازة سنويّة لشهر ونصف، ومن ثمّ عليّ العودة للعودة لعملي،
وهكذا على مدار سنوات ستّ قضيْتُها هناك على هذا المنوال.
الصيدليّ
مُبرّرًا للشّاب المُهرّب:
-"والله
إنّ صحن الفول، لا يؤكل عند وضع ملح اللّيمون عليه، ولا أستطعم به أبدًا. نكهة
اللّيمون الطبيعيّ تجعل مذاقه لذيذًا".
هذه
الصّور المتتالية تتداعي إلى ذهني بعد سنوات طويلة تعدّت العشرين، كان الهمّ
الأكبر عندي على الأقلّ أن يكون لي بيت مُستقلّ مُلك لي، الانتقالات الكثيرة في
بيوت الأجار أتعبتني. والحلّ في السّفر إلى الخليج.
في
إربد التي انتقلتُ إليها بعد سنوات سبع قضيتُها في محافظة الكرك جنوب المملكة، منذ
قدومنا أنا وأسرتي لاجئين من الحرب التي شنّها النّظام علينا.
تعرّفتُ
إلى شباب من منطقتنا درعا من مختلف قرى ونواحي المحافظة، لم يكن من السّهل التأسيس
من جديد في محيط أجهله تمامًا، بعض من تعرّفتُ إليهم من جواري في محلّي الذي
استأجرته، علاقتي بهم حديثه خلال الأسبوع الأوّل، تعرّفتُ من خلالهم على مجموعة
أولى وثانية وثالثة، كلّ يوم يسهرون إلى ما بعد منتصف اللّيل بقليل عند أحدهم، ما
بين العشرة إلى الخمسة عشر شخصًا، جمعهم السّكن المتجاور في بيوت حارة واحدة، أو
الحارات القريبة منهم. مائدتهم اليوميّة التي لا يملّون منها على دوام أيّامهم،
لعب الورق.
***
لا
يروقني لعبّ الورق، وأجلس مليئًا ببلاهة أمام زملائي منذ بدايتي في أيّام الشّباب؛
لعدم معرفتي بما يُطلقون من مصطلحات لعب الورق، وطريقة تسجيلهم على الورق، وكيف
يُنزلون الأرقام الرّابحة أوّلًا للاستحواذ على دور اللّعبة، والفوز بالغنيمة
الكُبرى التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
رغم
أنّني بعض المغلوبين يثورون بانفعالات مليئة بالبذاءات والسبّ والشّتم.
لا
أدري لماذا أستستخف هذه الحالة التي يصلون إليها؟.
أين
الرّزانة ورجاحة العقل، مقابل خسارة لعبة ورق، لا تُقدّم ولا تؤخّر..!!؟.
بطبعي
ميّال إلى التحادث في أيّ مجال يُثري جلستنا، فأنتقل بجلستي للمتخلّفين على
اللّعب، أو من ينتظرون دورهم بعد انتهاء الفوج اللّاعب.
هذا
ما جعلني أعود المرّة تلوَ المرّة للسّهر، ولقتل الفراغ الذي كنت أعاني منه خلال
فترة لم تدُم أكثر من شهرين. اختلاط الأصوات التشويش على بعضنا في مثل هذه اللّقاءات؛
فمثلنا كمثل الحمّام الذي انقطعت ماؤه على الزّبائن؛ فثارت ثائرتهم.
خليط
غير متجانس من البشر.. مؤكّد أن نتائجه غير متجانسة أو صالحة لتبني عليها علاقة مع
أصحابها، ظروف القهر جمعتنا، ننسى مآسي بلدنا هناك لساعات، ثم نعود لنلعق دماءنا عن سطح المِبْرَد الخشن؛ بعد انفضاض
لقائنا المُسكّن كـ(الباندول)، وإذا انتهى مفعوله عادت الآلام مُجدّدًا.
الإدمان
اليوميّ كفرض الصّلاة أراهُ حتميًّا على هؤلاء النّاس؛ لتوزيع جبال همومهم وآلامهم.
بطبعي أكره الإدمان على أيّ شيء، وإن كانت عادة مكتسبة بفعل العمل أو الظرف
الرّاهن.
***
تتابعت
سهراتي اليوميّة مع الشلّة؛ فنشأت علاقة صداقة معهم جميعًا، ولكنّني انتخبتُ من
بينهم أكرم، جذبني إليه بملامح وجهه المُدوّر، الطّافح اشقرارًا مُشرّبًا بحمرة
لطيفة، وعينيْن زرقاويْن متوثّبتيْن بإشعاع ذكيّ نافذ إلى جليسه، قبل إطلاق كلامه
المؤدّب المُهذّب، رغم أنّه قضى حياته ضابطًا عسكريًّا، بياض شعره أقربَه إلى قلبي
لتقارب العمر بيننا، خيوط كثيرة ربطتني به، وجد كلانا أنّ القواسم المُشتركة
المُفضية إلى تمتين العلاقة، وتتويجها ارتقاء إلى درجة الصّداقة.
من
اللّقاء الأوّل نشأت رابطة روحيّة، كسرت حاجز الرسميّات، وكأنّه عمّار صديق طفولتي
رحمه الله، ربّما هذا التّشابه الكبير فيما بينهما بصفات خَلقيّة وخُلقيّة.
تأكّدتُ من ذلك بعد جلسات متتالية صارت شبه يوميّة.
كما
أنّ رتبتهما العسكريّة الواحدة، تقارب الأجيال يصنع منصّات انفتاح تتشابك بعلاقات
جديدة، تفتح آفاق التواصل البنّاء في تمتين الرّوابط الاجتماعيّة.
تتواثب
الأسئلة فيما بيننا لتجسير الهّوة الواسعة، في تقارب سريع أتمنّى دوامه ونموّه،
وهذا بحدّ ذاته مكسب وغنيمة. من عادتي المبادأة للتعارف. حاولتُ قدر الاستطاعة
الشّرح المقتصد المفيد لصديقي الجديد.
اتّخذ
أكرم قراره بالتوقّف عن لعب الورق:
-"في
الحقيقة الفراغ الذي كنتُ أعاني منه، قادني للعودة مجدّدًا بعد سنوات طويلة من ترك
عادة الإدمان التي تميت القدرات، والله في السّابق كنتُ أيّام الخدمة، أحبّ
المطالعة والكُتُب، وأشتري ما يروق لي، الوقتُ مهمٌّ جدّا في تعبئته في شيء
نافع بالنّسبة لي، ظّروف اللّجوء غيّرت
منظومتي الحياتيّة رأسًا على عقب؛ فقد جمعتني بأناس مفروض عليّ الالتقاء بهم،
تفاوت كبير في رؤيتنا لأمور الحياة".
-"هذا
أمرٌ لا مفرّ منه، إلّا بالعمل والانشغال".
-"أنا
موعود بعمل بائع في سوبرماركت مع بداية الشّهر القادم، أمامي أسبوعين للخروج من
مأزقي".
-"صديقي..
أرجو السّماح لي بسؤال ينخز ذهني".
-"تفضّل".
-"أنتّ
رجل عسكريٌّ.. وكنتَ برتبة عقيد قبل انشقاقك، فكيف ستوفِّقُ بين عملك الجديد؟
أعتقدُ أنّ العامل النفسيّ مؤثّر، ومررتُ بكثيرين رفضوا هذا الأعمال المتناقضة مع
مفهومهم ورؤيتهم للحياة، ومنهم من أصيب بالاكتئاب والانطواء على نفسه، والانكفاء
إلى الدّاخل يلعقوا هزائمهم الدّاخليّة، ولم يستطيعوا التأقلم في الحياة
المدنيّة".
أطلق
أكرم ضحكة مجلجلة أثارت الحياة في الغرفة الجامدة المُتكّتمة على حكايا احتوتها
ممّن سكن هذه الشّقّة سابقًا. وقال: -"المُستأجرون غالبًا هم غُرباء عن مكان
لا يعني لهم إلّا مهمّة الإيواء المؤقّت. مفروض عليهم العيش ضمن كتلة معماريّة ذات
طوابق مُتعدّدة مُتشابهة.
الجار
لا يعرف جاره وإن مضى على تجاورهم سنوات، تشاركيّة العمارات الحديثة المفترض فيها
أن تُنشئ علاقات اجتماعيّة ذات روابط متينة. جميع قاطنيها مدخلهم.. والدّرَج..
والمصعد.. والحارس.. هذه الأشياء لم تستطع تكوين روابط لتشكيل مجتمع مُصغّر. على
العكس الكلُّ خائف من الكُلّ. الرّيبة والشكّ. الاختلاف هنا ليس علامة صحيّة بل هو
مضنّة الترقّب والتوجّس والتخوّف. الرّضا بالواقع بالوحدة هو الحلّ الوحيد".
-"أبهرتني
فكرتك يا صديقي..!! الوّاضحة عن العمارات، التي لم نعتد على العيش فيها نحن أبناء
الأرياف المنطلقين في فضاءات واسعة من حريّة العيش داخل بيوت مُستقلّة، متباعدة.
خصوصيّتنا لنا، لا يمكن لأحد أن يُشاركنا بها إلّا مُتطفّل أو مُتجسّس يراقبنا بتكليف
من جهة ما".
-أكرم: "والله العظيم ما دمّرنا إلّا
المُخبرين..!! لعنهم الله".
-"تُعجبني
بآرائك التي لو لم تقلها.. فإنّي كنتُ سأقولها لو تأخّرت عنها. مدعاتي للإعجاب بك.
تشابهنا في طريقة التّفكير ربّما ستقودنا لتجذير علاقتنا، ودوامها".
-أكرم:
"لم أتمالك ضبط انفعالاتي.. معاناتي الطّويلة معهم، كانوا يُحصون عليّ
أنفاسي. يخافون نظافتي النّزيهة عن مدّ أيدينا لم يقع تحتها من أشياء الجيش.
الحاجب الذي كان عندي في المكتب كنتُ أراه آلة تسجيل، وكاميرا توثّق كلّ صغيرة
وكبيرة".
-"في
حياتنا المدنيّة نتشارك معكم هذه النّقطة المفروضة على الجميع بلا استثناء. مؤكّدٌ
أنّك خدمتك كانت في لبنان، أو في جزء منها".
-"في
سنوات سابقة، وبعد دخول جيشنا إلى لبنان بسنتيْن كنتُ برتبة ملازم، انتقل فَوْجَنا
ومن ضمنها كتيبتي. وتمركزنا في منطقة جبليّة قريبة من بيروت مُشرِفة على
الميناء".
-"رغم
أنّني أدّيتُ الخدمة الإلزاميّة في ميسلون قريبًا من حدود لبنان، وما عرفت إلّا
قرية (دير العشاير) الصغيرة، عدّة كيلومترات كانت تفصلنا عنها، وهي على الخطّ
الحدوديّ مباشرة، في تلّة متوسّطة الارتفاع، تكاد لا تُرى على الخريطة، لكنّها
كانت فضاءّ مفتوحًا فيها من البضائع التي كنّا محرومين منها في سوريّة، بحجّة
الحصار الاقتصادي علينا. وأنت تعرف ذلك بلا شكّ. معظم الأيّام بعد انتهاء الدّوام
نذهب للتسوّق وشراء الحاجات المطلوبة عندنا. المحارم (المناديل الورقيّة). علب
السّمنة الصّغيرة والكبيرة، الدّخّان، والموز، والأواني الزجاجيّة من صحون وفناجين
وخلاف ذلك. التّهريب وسيلتي لتحصيل ربح معقول يساعدني في مصروفاتي ذهابًا
وإيّابًّا إلى البلد والعودة للمعسكر".
-أكرم:
"أنا أسمّيها أيّام التّهريب، وصارت معلمًا بارزًا في تاريخ السّوريّين
عمومًا. لا أدري على وجه الحقيقة..!! لماذا كنّا نفتقد في بلدنا أبسط الحاجات
الأساسيّة؟. هل الصّمود يحتاج لهذا..!!.. وهل التصّدي يحتاج هذا الفقر؟. فكيف
سنحارب.. ونقاوم العدوّ اليهوديّ، وبطوننا خاوية..!!؟. وكيف لنا تحرير فلسطين قضيّتنا المركزيّة..!!؟".
-"صديقي
هذا الكلام لن ينتهي، ولو بذلنا ما بقي من أعمارنا على صخرة الكلام عن القضيّة.
ولن نضيف شيئًا سوى الحسرة تنهش قلوبنا. لكنّي سأخبرك بأنّني في صدد عملٍ روائيّ
يناقش طبيعة العلاقة بين شعبنا والشّعب اللّبناني، وربّما تكون أوّل عمل على
الإطلاق في هذا المضمار، لأنّنا كشعب عانينا الظّلم كما اللبنانيّين من جيشنا، وتصرّفات أفراده
الهمجيّة. ووجودي معك الآن هنا في إربد هو البرهان..!!".
***
-أكرم:
"فتحتَ شهيّتي على الكلام الكثير المختزن في
مستودعات الذّاكرة، خاصّة وأنتَ تكتب عن لبنان، أجمل أيّام حياتي؛ وأتعسها كانت
فيها. هناك أدهشتني أفعال العسكريّين الخارجة عن الانضباط العسكريّ، فلا الضّبّاط
بمختلف مراتبهم ولا ضبّاط الصّف والمُجنّدين. إلّا ووضع بصمته السّوداء في قلوب
اللّبنانيّين، بسوء تصرّفاتهم التي لا يمكن تقييمها لا بميزان ولا بقبّان..
للأسف..!! كيف لبلد عظيم مثل سوريّة أن يتحوّل جيشها العقائدي إلى قطعان للتّهريب".
-"أحد
المرّات أثناء عودتي للبيت، ركبتُ في الكرسيّ الأخير للباص، جلستُ بجانبي مباشرة
شابٌّ يبدو من ملامحه أنّه يكبرني عمْرًا بسنوات، تعارفنا بعد السّلام، كان من
إحدى قرى درعا، رتبته مساعد في الأمن العسكريّ، حاجزهم في ميسلون بجوار قبر رمز الجيش
السّوريّ يوسف العظمة".
-أكرم:
"أمثاله الذين هم كبار الحراميّة.. بأيدهم كلّ الطريق من شتورة حتّى بيروت،
يًهرّبون بكميّات كبيرة أغرقوا دمشق ومحيطها بالبضائع اللّبنانيّة".
-"كلامك
دقيق تمامًا، وأذكر كثيرًا من القصص والحوادث مما قلت. وقد حدّثني يومها بعد
وثق أنّني من منطقته، فقال: ذات يوم
جاءتنا إخباريّة مهمّة، بأن رتلًا من السيّارات العسكريّة تُحمّل أسلحة في شتورة،
هدير قويّ قادم من جهة (المصنع) السوريّة؛ يشقّ صمت اللّيل، يبدو أنّه صادر عن
آليّات كبيرة، فما هي إلّا ربع ساعة هلّت الأضواء من علوّها جهة القادم من
(الزبداني).
كنّا
على أهبة الاستعداد، سيّارة مرسيدس سوداء تتقدّم الرّتل، لم تتوقّف على الحاجز،
رغم الإشارة الصّارمة من العسكريّ الحارس المُستعدّ مثلنا بكامل جاهزيّته
القتاليّة خرطش بارودته، على غير المعتاد أن تتجاوز مركبة، جميعها تُبطّئ سرعتها
قبل الحاجز بمئتيْ متر؛ لتتوقّف بهدوء أمام الخط. وتخضع لإجراءات التدقيق
والتّفتيش إذا لزم الأمر.
نزل
رجلٌ السيّارة السّوداء، تقدّم من العسكريّ صارخًا فيه:
-"هيّا
نادي على مُعلّمك".
ما
إن وصل الملازم الأوّل حتى أدّى التحية، وضرب رجله بقوّة على إسفلت الشّارع، بصوت
مسموع للجميع:
-"احترامي
سيّدي اللّواء".
عاجله
اللّواء بلطمة على وجهه، العناصر المُرافقة طوّقوا المقرّ، متأهّبين لأيّ أمر
مُتوقّع سيصدر عن اللّواء، أخيرًا صرخ فيهم، بعد أن سمع اسم ضابط الحاجز ورقمه
العسكريّ، فقال:
-"خذوهم".
وأدار
ظهره لهم بخطوات ثابتة إلى سيّارته، وانطلق يقود القافلة. عناصر الحاجز كُبّلوا،
وأخذوهم عناصر الرّتل الذين كانوا من القوّات الخّاصّة بلباسهم المُموّه بالأحمر
والأخضر، والبيرِيّات الخمريّة على رؤوسهم.
كنتُ
أنصتُ لجاري في الكُرسيّ، توقّفه عن سرد ما حصل معه نبّهني للالتفات إليه، يعاند
دمعةً تترقرق بين جفنيْه، بدا التأثّر واضحًا على ملامح وجهه الصّافي الأسمر
بخدّيْه غير المليئيْن.
تابع،
بعد ملاحظته انسجامي معه بانتظار تالي الحكاية المُشوّقة:
-"في
الصّباح وجدنا أنفسنا في معسكر (الدّريج) القوّات الخاصّة، أمرونا بنزع ملابسنا
إلّا من الشّورتات، وجهّزوا الأكبال الرّباعيّة لجلدنا، قلوبنا هبطت إلى ما بين
أرجلنا، وتجمّدت الدّماء في عروقنا، وألسنتنا لا تكفّ عن استعطافهم بشتّى أنواع
الكلام اللّين، نرتجي منهم ألّا يفعلوا بنا، وصرنا بين أيديهم رهائن كالمعتقلين عندنا.
أمرُنا مُطاع في كلّ مكان، هزُلت كرامتنا، شعرنا بالذُّلّ والهوان لاحول لنا ولا
قوّة.
صوته
يأتيني، ذهبتُ بعيدًا في متاهات بعيدة:
-"وقلبي
ينفطر للمساكين في أقبيتهم والله تستحقّون أكثر من ذلك، قاتلكم الله. يا شماتتي
بكم..!!، الحمد لله الذي أرسل عليكم من هم أظلم منكم. حكمته كبيرة كلّ ظالم يُسلّط
عليه ظالمًا أقوى منه"
أخيرًا تركونا ولشأننا، يبدو أنّ اتّصالات جرت
بعد وصول الأخبار لرئيس فرعنا، والآن..
والله لو رأيتُ من يُهرّب حتّى لو كان سلاحًا، فلن أفعل أيّ شيء، سأغمض عينيّ،
وكأنّي ما رأيتُ شيئًا"
***
-"أوه..
أوه..!!.. هذه الأمور اعتدناها، مَلّت أسماعنا منها من كثرة تردادها". تعليق
أكرم على القصّة التي أوردُّتُها، دبّ الحماس فيه للاغتراف من مخزوناته، حيث تضيق
بمحتوياتها الفائضة بالقلق واليأس والخوف، معاناته تتماهى على مساحات حديثه الكثير.
ولا أظنّ أنّه سينتهي حتّى ولو في قبره، وأنّه لن يسكتَ، وسيُحدّث جيرانه في قبره،
وسيُخبر الملائكة بكلّ ذلك:
-"إذن
يجب أن تسمع شيئًا جديدًا يا فطين. بعد هذه الأيّام التي لم نلتق فيها، وقد
استجمعتُ أشياء اعتمادًا على ذاكرة بدأت تضعف أمام ما حصل لنا. ستكون الحكاية من
العيار الثقيل، وهي من أجمل،
وأطرف ما حدث معي خلال بداية خدمتي في لبنان:
بعد
أن أدّى التحيّة العسكريّة، وقدّم لي اسمه ورقمه. أذنتُ له بالتقدّم نحوي، ومددتُ
يدي لمصافحته ترحيبًا به، وقلتُ له:
-"مدّ
يدك لنصافحك، يا غانم!! مرحبًا بك بيننا، المهمّ الالتزام بالدّوام والانضباط.
وقدر استطاعتي سأعمل على مساعدتك لتجاوز ما تبقّى لك من خدمتك الإجباريّة، وما
الذي حدث معك حتّى نقلوك إلى كتيبتنا؟.
-(سيّدي
يأخذ الرّفاق إجازة ويذهبون إلى سورية، وأنا آخذ إجازة لأتمتّع بجنّة النّعيم هنا!!
لبنان الأخضر بمشروباته، وحشيشه وترفه وقحباته الرائعات. نعم! أنا المجنّد غانم
أشرب وأدخّن وأمارس الحبّ أراقب رفاق السلاح كيف يعفّشون ذلك البلد الرّائع).
-"يعني
أنت شغل كاس وطاس..!! وكيف.. الله لا يعطيك العافية". لكن بصراحة يا فطين..
جفل قلبي من كلامه بداية، شعرت ببلوى هبطت عليّ، وانغلقت جميع المنافذ أمام عينيّ.
وقلتُ له تابع يا غانم:
-(يا
سيدي..!! كانوا يسرقون كلّ شيء، ينسلون أسلاك الكهرباء من الجدران، يقتلعون
البورسلين والبلاط، يحتطبون الأرز، يهرّبون التبغ والكحول والآثار، يهرّبون
حنفيّات الماء، ومقابض الأبواب. ثمّة وطن يُهرّب في صناديق التبغ!).
-"يا
غانم أنا سمعت عن مثل هذه الأشياء، لكنّي لم ألتق بأحد قبلك حدّثني شاهد بأمّ
عينيْه ما فعل زملاؤه.. أكمل.. أكمل".
-(سيدي:
صاحبي الذي تأخّر عن غزوة أصحابه لم يجد شيئاً ليعفّشه؛ فصادر كلبًا شارداً، وقال
لي ضاحكاً: يا أخي، حتّى كلابهم تختلف عن كلابنا. بلد اقتصاد الفنادق والسّياحة
كلابهم كلاب سياحيّة خمس نجوم).
نوبة
ضحك انتابتنا لدقائق هزّت أعماقنا الخاملة، يبدو أنّنا نسينا الضّحك، والمرح،
والسّرور منذ زمان، لظروف اللّجوء المحيطة بنا بالقهر والحرمان.
-"والله
شرّ البليّة ما يُضحك يا أكرم، حالة الطّمع والجشع دعته لأخذ الكلب، شيء لا
يُصدّق، لو رأيته بمسلسل تلفزيونيّ لقلت أنّه من ضرب الخيال. ولكنّ الحديث منك، لن
أتردّد في تصديقه".
-"وسأزيدك
من الشّعر بيتًا، انظر يا فطين كيف لهذا المجنّد غانم، أن يُفلسف الأمور على طريقته،
عندما كان يحكي لي أنّه غير مدعوم، ولا يعرف أحدًا يتوسّط له:
-(
سيدي.. اعتمدتُ على الله، ودعوات أمّي بالتوفيق، بعد انتهائها من صلاتها ولم
تتحوّل عن قبلتها دعت ربّها: "الله يوفقك بعسكريّتك يا بني!". فكان أن استجاب الله وكانت
خدمتي في لبنان).
-"يعني
بعد أن أنهيتَ دورة الأغرار، فَرَزوكَ إلى لبنان؟".
-(نعم
سيدي.. ذات مرّة كنت في بيروت في فرن الشبّاك، الساعةَ الحادية عشرة ليلاً أمتشق
بارودتي وأمشي مع صديقي نشرب الجعة ونقرط الفستق ونثرثر، فجأة سمعنا صوتاً مرعباً،
صوت صراخٍ وعويل وتوسّلات، صوت بكاء فجائعيّ، لا أدري إن كان ذلك الضّيق في الصدر
والقشعريرة في الأطراف تُسمّى خوفاً.
ركضنا
باتجاه الصوت، كان خارجاً من قبو، نزلنا بسرعة ونحن نرتجف ونبعق مثل المجانين قبل
أن نصل:
-«إيدك
لفوق ولاك... هاتوا الهواوي». (الهويّات).
سكنتْ
كلّ الأصوات، ارتفع من داخل القبو صوت: «أهلا بالشباب». توقّفنا قليلاً بأنفاسٍ
مقطوعة، خرج شاب في العشرين، مجنّد سوري مثلنا عرف من لهجتنا أننا سوريّون. اقترب
وقال: "تفضّلوا". دخلنا بثقة وقوّة، إنهم مجنّدون سوريون مثلنا لكنهم في
منطقتنا. كانوا ثلاثة، يحاصرون امرأتين وثلاث فتيات وخمسة أطفال. كانت وجوه
المحاصَرين المساكين تنضح رعباً. نظرت في أعين الجنود الثلاثة وهمست لقائدهم: "ما
الأمر؟!"؛ فقال: بابتسامة نتنة: نسوان، قليل من المتعة. تستطيعون مشاركتنا.
شعرتُ أنّ حنجرتي تضخّمت، وأنّي صرتُ بَجَعَةً من فرط المرارة، اقتربت من الفتى
بهدوء، أحطته بذراعيّ ودمدمت: "الآن سوف تذهبون من هنا بسرعة؛ لأنّ ثمّة
مؤازرة قادمة، نحن سوريون، ونُحسب على أنفسنا، لا داعي لفضيحة سوف تودي بكَ مع
هذين الاثنين).
-"المُهم
النتيجة يا غانم..!!".
-(
يا سيدي.. انسحب الثلاثة بسرعة دون ضجيج، التفتّ إلى المساكين المتجمّدين رُعباً،
كنتُ أتصبّب عرقًا، وخجلاً.
«أنا
أعتذر» ــ خرج صوتي على شكل دمعة كبيرة. "أنا تحت أمركم جاهز لأيّة مساعدة".
أخرجتُهم
من القبو، طلبوا أن أساعدهم في عبور الجسر. أوصلتهم حيث يريدون، شكرونا وبَكُوا،
تقدّمت أكبرهنّ عانقتني، وقالت: "شو
اسمك يا بني؟".
-
"غانم يا سيّدتي".
-
"المسيح يحميك، العَدْرَا تحرسك، الله يوفقّك يا غانم كيفما توجّهت").
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
·
ما ورد بين قوسين بالخط العريض، على لسان
المجنّد غانم (منقول بتصرّف على لسان أكرم، عن قصة مذكّرات جندي سوري في لبنان
للأستاذ يعقوب مراد).
***
وجّهتُ
سؤالًا من خلال (الواتساب) للسيدّة الفاضلة اللّبنانيّة (حنان): لو قُدّر لك
الإفصاح عن مشاعرك تجاه السّوريّين، ثمّ عدلتُ لتغيير صيغة السّؤال بوضوح أكثر: هل
من سبب لإبداء كراهتك للسوريّين؟. وأنا على يقين أنّك غير ذلك تمامًا، ولكن لا بدّ
أن تُخبريني بجواب.
-"أرجوك
إعفائي عن الجواب، يا فطين".
-"و
لماذا..!!؟".
-"في
الحقيقة أنا مُحبّة للنّاس جميعًا، لا فرق عندي بين لُبنانيّ وسوريّ، أو أيّ
عربيّ؟".
-"سيّدتي
لابُدّ أن تُدلي بِدَلوك في هذا الموضوع المطروح للنّقاش، ولأوّل مرّة من خلال
عملٍ روائيٍّ، وهو بمثابة شهادة، أنا وأنت مسؤولين عنها أمام التّاريخ، ومن حقّ
الأجيال علينا أن يعرفوا دقائق مرحلتنا بأمانة".
-"كلّ
الشّكر سيّد فطين على هذه الثّقة التي أوليتني إيّاها لأكون شريكة معك في هذا
العمل، ومن كمال سعادتي؛ أن أكون بطلة من مُجمل أبطال الرّواية، وشاهدة على ما
تكتبت".
-"حيّاك
الله سيّدتي".
-"اِسْمع..
لا علاقة للشّعب السّوريّ فيما حصل لنا، خلال فترة سبعة عشر عامًا من وجود قوّات
الرّدع العربيّة.. أمتلك الشّجاعة الأدبيّة، وعندي قدرة على التفريق بين أفعال
الجيش، والإساءات التي صدرت عن أفراده من خلال تواجدهم في معظم المناطق
اللّبنانيّة".
-"جميل
ورائع هذا الفصل كما بيّنتِ، كما أنّه لا تزر وازرة وزر أخرى".
-"بصراحة
أنا سأحكي قصّة واحدة فقط، أشياء كثيرة طواها النّسيان، ولكن هناك ما إن يأتي ذكره؛
حتّى تتحلّب مرارة ريقي في حلقي، ويتعكّر مزاجي".
-"خُذي
وقتك.. وآسف جدًّا على إرجاع الأسى، والألم المنسيِّ لك مُجدّدًا..!!".
-"ولا
يهمّكّ.. فقد قرأتُ منذ قليل ما أرسلتَ لي؛ لاستمزاج رأيي فيما ذكرتََ. حقيقة
شعرتُ أنّي جالسة معك ومع أكرم، أراقبُ وأستعرضُ شريط حياتي. وقفتُ بمحطّة لا
أنساها..!! لا يمكن أن أنساها أبدًا. مع العلم أنّني مررتُ بأصعب منها. كنتُ مُتزوّجة
حديثًا؛ يعني ما زلتُ عروسًا. تمّ القبض على زوْجي بمدرسة الرّاهبات. بتهمة تشابه أسماء مع اسم زوجي محمد، وكان وقتها
هناك شخص بنفس الاسم والكنية مطلوبٌ لقوّات الرّدع.
المهمّ
البابا رحمه الله، كان عنده صداقات مع البعض, وكان لهم مقرّ في بناية سكنيّة مملوكة
لأهلي؛ فعمل اتّصالاته. بقي زوجي مُحتجزًا عندهم يومًا واحدًا، من غير أن يتلقّى
ولو ضربة كفّ على وجهه واحدة".
-"الحمد
لله أنّه خرج من عندهم في هذه السّرعة، ولم يضربوه، أرى الغرابة في الموضوع..!!،
المهّم أنّهم تركوه في النهاية..!!".
-"لكن
الحدث الذي كلّما ذكرته انتصب شعر رأيي خوفًا، واقْشعرّ بدني. قريتي تقع في جبل (تربل). أكيد أنّك سمعت عن جبل تربل".
-"مؤكّد
أنّها المرّة الأولى، وأنّني سمعتُ به منكِ الآن..!!".
-"
كان هناك ثكنة للجيش السوريّ قرب القرية، والعناصر ينزلون من أماكنأماكن تمكزه ت تمركزهم؛ لشراء بعض
أغراضهم، وحاجيّاتهم من دُكّان في القرية. وسمعتُ أنّ بعضًا منهم كانوا يأخذون ولا
يدفعون الثّمن للتاجر".
-"عساكر
فوضويّون..".
-"أصوات
بساطيرهم كانت كافية لبثّ الرّعب، والخوف في نفوس أهل القرية كبيرهم وصغيرهم. المهمّ
في ذاك اليوم، وبعد منتصف اللّيل كان أحد عناصرهم راجع من القرية إلى مقرّه.
ويحتاج إلى وسيلة نقل يركبها، بينما هو على انتظاره، وإذ بسيّارة تاكسي خاصّة،
فيها رجل وزوجته وابنته عائدين إلى بيتهم في القرية المجاورة؛ من زيارتهم لابنتهم
المتزوّجة عندنا في قريتنا. سوء الحظّ لازمهم مدى الحياة، عندما أشار إليهم
العسكريّ بالتوقّف، الخوف تملّك الرّجل والوقتُ متأخّر؛ فضغط برجله على دعسة
البنزين؛ ازدادت سرعته بشكل ملحوظ، هو يريد أن يهرب للنجاة بأسرته. العنصر أشهر
سلاحه.. ودوّى صوت الرّصاص يشقّ سكون اللّيل الموحش في طرق مُلتوية كالأفعى بين
الجبال، تدور مع سُفوحها ومنحدراتها.
وما
زلتُ منذ ذلك اليوم المشوؤم؛ أرى حال الزوجة سيّئة الحظ على كُرسيّها المُتحرّك
أمام بيتها تنتظر مصيرها، وهو يحكي بصمت حماقة ذلك الجنديّ ذو الفعلة الشّنيعة،
فلا أدري أين سيكون مكانه الآن، فهل تحرّك ضميره.. لو أنّ ما حصل للمرأة
المسكينة.. حصل لأمّه أو أخته، ما الذي كان سيفعله بهم..!!؟.
والأشدّ
نكاية على نفسي، أنّها عاجزة لاستقرار رصاصة حمقاء استقرّت في عمودها الفقريّ، وهي
على انتظار دائم في كلّ حركة تريدها؛ بانتظار شفقة ضرّتها عليها، ولدفع الكرسيّ
بها إلى داخل البيت أو خارجه، جاءت إلى بيتها بعد حكاية عجزها، وزواج زوجها بها.
وهم جيران لبيت عمّي، أزورها ولا أتخلّف عنها، لأنّها جزء من ذاكرة تُخفي ألمها
تحت رماد السّنين. يأبى عليّ النسيان أن يتوارى من مُخيّلتي، أطرده خارج
إطاري.. لزُوجَته الدّبِقَة ثبّتته في أعصابي.
بعصبيّة
صرخ أكرم، والكمات تتفلّت من بين شفتيْه تتدافع على رغم منه، ما إن توقّفت لالتقاط
أنفاسي التّعْبَى؛ مما ألمّ بي من آثار إرهاق نفسيّ قديم مُتجدّد يلازمنا في معيشتنا. هموم أحبابنا
المُشتّتين في أصقاع الدّنيا، وبين حكايات الألم اللّبنانيّة القديمة:
-"أوه
.. أوه..!!.. هذه القصّة غيض من فيض.. لو أجلس فقط كي أروي لك.. ما رأيتُ وما
سمعتُ؛ سأبقى أسردُ لك إلى مثل هذه الساعة من هذا اليوم في العام القادم".
***
تموت
الأيّام بانقضائها تذهب ولا تعود للوراء أبدًا،
وكالقطار ينطلق في موعده المحُدّد، عند إعلان صافرته تتحرّك عجلاته الحديديّة، ولا
يمكن أن ينتظر أحدًا.
تذهب
الأيّام، ويبقى منها ذكرياتها، بعد أربعين عامًا على انقضاء خدمتي الإلزاميّة،
التقيتُ بصديق كان يخدم في بيروت، قال أنّ المُجنّدين يقف على حاجز هناك، يُفتّش
على البطاقات الشخصيّة، طابور السيّارات طويل، والوقت يُراق في هذه المكان القاسي،
الذي صار ممرًّا إجباريًّا لمن ينتقل داخل المدينة من مكان لآخر، العسكريّ بطيء
بطبعه لا يأبه للمستعجل، أو من تأخّر عن موعد دوامه أو عمله أو لقاء مع أحد.
تصادف
أن يكون الفنّان والإعلامي المحبوب (حكمت وهبي) في سيّارته ضمن الطّابور، كثيرون
يتمنّوا لقاءه والكلام معه، ويتفاخرون بذلك، بينما العسكريّ غارق في عمله الدّؤوب
بمزاجيّة بطيئة، حتّى أنّ صديقي يتندّر عليه، أنّه كان يُمسك الهويّات بالمقلوب،
وهو يطالعها موهمًا صاحبها أنّه يقرأ ويكتب. وهو يتطلّع بوجهه ويقارنه بصورة
الهويّة.
حكمت
يتأفّف من حرارة الجوّ، وكلّ قليل يتطلّع إلى ساعته، الوقت يمضي ولا بادرة من أمل
قريب بأن يأتي دوره للتفتيش والخروج من الحاجز.
نزل
من سيّارته، مشى قاطعًا عشرة مركبات تصطفّ قبله جامدة لم تتحرّك منذ نصف ساعة. هو
الآن أمام العسكريّ. وابتسامته بطاقة تحكي
عنه، قال:
-"مرحب
يا باشا.. أنا حكمت وهبي.. بتعمل معروف بلكي تمشّينا، اقترب موعد برنامجي".
-العسكري:
"آني ما أعرف لا حكمت وهبي ولا غيره.. أنا وُدّي الهواوي وبس".
صدمة
عظيمة ألجمت لسان الفنّان، ولم يجد بُدًّا من العودة إلى سيّارته لأنّه لا فائدة
من الكلام مع العسكريّ المُتحكّم بالوقت والأرواح والسّماح بالمرور، ولا يستطيع
معاندته.
هنا
الوقوف إجباريّ، عقارب السّاعة تتوقّف. القلوب تكاد تتوقف عن خفقانها خوفًا من
التّفتيش أو تشابه الأسماء. الدّماء تتجمّد في عروقها. عجلات المركبات تتوقّف.
الزّمن يتوقّف إذا ما حانت ساعة النّحس وأخذوا أحد العابرين بتشابه أسماء، أو أنّه
كان مطلوبًا عندهم في القائمة.
في
أحد المرّات تجاوز أحد السائقين خط الحاجز بأمتار استدرك ورجع إلى الخلف وصولًا
إلى ذلك العسكريّ، وقال مُتأسّفًا:
-"SORRY
-سوْري".
-العسكري: "سأفتّشكَ إن سوري أو لبناني".
هذا الغباء بحدّ ذاته إساءة لذات الجيش السّوريّ، وأثار
حقد اللّبنانيين.. ممارسات خاطئة.. آه لو كنتُ أملك من أمرهم شيئًا، لأخضعتهم
لدورات في كيفية التّعامل الاجتماعيّ اللّائق بالبشر.
***
-"أينك..
أينك يا صديق (أبو ظبي)، لو كنتَ أمامي الآن لتعاطفتُ معك، وأبحث لك عذر فيما قلتَ
لي: (إيه يا خيّي هايدا بغنّي على سوريّة).. لُمتُك يومها.. الآن فهمتُ أسباب
كراهتك".
وتزامن
ذلك لقائي بـ(طوني) شخص لبنانيّ أنيق بمظهره الدّال على الثّراء، خاتمه
الذهبيّ بخرزته الحمراء على ذات اليد التي تحمل على معصمها ساعة متلألئة، جاء لعمل
(مانكير، وبدي كير)، توقّفت مُتطفّلًا على محادثته مع (الكوافير جون).
-طوني:
"بكرة مسافر بيروت".
-جون:
"خير شو عندك".
-طوني:
"والله بدّي أشرف على تصليح بيتي، وعمل ترميم".
-جون:
"أعرف أن بيتك حلو كتير.. واسم الله عليه قصر..!!".
-طوني:
"لك يا خيّي ليش السّوريّين خلّوا لينا إشي فيه..!! سرقوا الأثاث كاملًا..
ولم يتركوا الأبواب والشبابيك خلعوها وأخذوها معاهم، وفكّوا حنفيّات الماء، وسحبوا
أسلاك الكهرباء من الجدران ".
بلهجة
طافحة بالمرارة خرجت من أعماق أعماقه، انتبه لوجودي قريبًا منهما، وقال معتذرًا
مُبرّرًا.
-"مشان
الله ما تُواخذني، بس مشان تعرف، بخبرك أنّ زوجتي حلبيّة، وأمتلك شُقّة هناك في
حلب".
المفاجأة
ألجمت لساني.. حاولتُ إعلان أسفي على مثل هذه التداعيات، ولكن.. هل ينفع منّي
ذلك..!!؟، لو تعمّدتُ بماء الفرات بمحاولة اعتذار .. مؤكّد أنّ (طوني) لن يقبل
منّي على الأقلّ، أتمنّى أن يكون هذا العمل الروائيّ بوجه ما شيئًا يُعتدّ به، إن
لم يكن كلمة اعتذار.. أنا كمواطن سوريّ غير معنيٍّ بها؛ لأنّني لم أرتكب إساءة لـ
(طوني) أو (حكمت وهبي)، لعلّه أن يكون كلمة إنصاف على أقلّ تعديل.. إن وصلت رسالتي
لهم.
***
تتابعت
الجلسات بانسجام عجيب بيننا، أكرم.. ترك السّهر المعتاد مع المجموعة، وخلال
لقاءاتنا التي تمّت في الفترة الماضية وعلى مدار أسبوعيْن تحادثنا بالكثير عن
مرحلة وعيناها جيّدًا، وما زالت آثارها منسحبة
على دقائق حياتنا جميعًا في البلديْن. أخبِرْنِي:
-"يا
رجل أين أنتَ منّي كلّ هذه الفترة؟، لو شاءت الأقدار أن نلتقي ونجتمع منذ البداية؛
لشعرت بالرّاحة النفسيّة، ولتغيّرت حياتي إلى الأفضل، بدل اليأس والاحباط. من
المهمّ جدًّا أنّني وجدتُك الشّخص المناسب القريب من طريقتي في الحياة بطرق منها
كثيرة. أصابتني عُقدة من ذهابي لهذه السّهرات، زملائي من العسكريّين، كأن حياتهم
توقّفت عند حدود عيشهم، وهمومهم الذّاتيّة، الكثيرون نسُوا أو تناسوا القضيّة
الأساسيّة التي أوصلتهم إلى هنا. ليس هناك رؤية أو استراتيجيّة لديهم، تراخت
الهِمَم على عتبات الأمان والاطمئنان، هل تعلم يا أكرم.. ما زال موضوع مُجنّدك
غانم لم يُغادر ساحة تفكيري، يتناوب عليّ بإلحاح، كُلّي شوق لمتابعة بقيّة القصّة ".
-أكرم:
"في الحقيقة، أخبرني والأمر على عُهدته، ولا أظنّه إلّا صادقًا، مُستبعدًا
عنه الكذب، لأنّه لا مصلحة له بالكذب، لا هو سينال عقابًا أو جائزة على ما فعل: (
يا سيدي ..بعدما رجعنا إلى منطقتنا، ونحن في ذهول تام، لولا صدفة مرورنا قرب
ذلك القبو اللّعين كنّ الآن مغتصبات، وغالباً قتيلات مع الأطفال الخمسة.
غفوت
مرغماً تحت وطأة الكوابيس، واستيقظت مذعوراً على سطل ماء اندلق عليّ، عسكريّان
اثنان اقتاداني إلى مكتب العقيد.
دوت
صفعته على خدّي وبعق في أذُني: اسمع يا مناضل يا كتلة الشرف اسمع، ورفع صوت
المذياع عالياً: مُدّ يدكَ لنصافحكَ يا غانم، أنت عنوان الشرف والأخلاق يا غانم،
أَدخِلْ رفاقك إلى مدرستك يا غانم.
خمسة
عشر يوم حبس، ومحروم من الإجازات حتى نهاية الخدمة، قابعاً في عتمة الزنزانة أقرقش
خبزةً يابسة، أهمس بانتصار: الحمد لله أنّه لم يغيّر لي مكان خدمتي، ولم ينقلني. دوّت
صفعة ثانية وثالثة على خدّي وبعق العقيد: "مدرسة الشرف يا عرص؟! هذه إذاعة
الكتائب يا حقير، كتائب بيت الجميّل، تستشرف على حساب رفاق سلاحك؟! يا حمار يا
عنّين يا عاهر.
سوف
أعلّمك الشرف على أصوله، خمسة عشر يوم حبس ومحروم من الإجازات حتى نهاية الخدمة،
خذوه.
قابعاً
في عتمة الزنزانة أقرقش خبزةً يابسة، أهمس بانتصار: الحمد لله أنّه لم يغيّر لي
مكان خدمتي ولم ينقلني.
بقيت
في لبنان الأخضر... زنازينه خضراء)".
______________________
·
الكلام
الوارد على لسان غانم منقول بتصرف. تتمّة قصّة.. (مذكرات جندي سوري في
لبنان-للأستاذ\ يعقوب مراد)
***
على
غير موعد جئت أكرم زائرًا في بيته جنوب غرب إربد، قريبًا من سكني، لا أدري على وجه
التحديد ما الذي ساقني إليه، صدمني منظر وجهه المُكدّر بعبوس أذهب نضارته، وسرق
ابتسامته السرّ المعهود فيه.
-"يا
إلهي..!! كيف قادتني قدماي إلى هنا من دون موعد مسبق، على الأقلّ لو كنتُ اتّصلتُ
به، لغيّرتُ وجهتي إلى مكان آخر..، ها صديقي ما بك؟ فاجأتني بحالتك..!! لِمَ لمْ
تُخبرني.. البارحة تركتُك بحالة جيّدة".
-"الحمد
لله.. لم يكّن متوقّعًا هجوم الحُمّى المفاجئ بهذه الطريقة، قدّر الله وما شاء فعل".
-"وما
الذي تشعر به الآن؟".
-"الآن
تحسّنتُ قليلًا بعدما شربتُ كأسًا من اللّيمون، وآخر من اللّبن ممزوجًا بالثّوم.
أمّا البارحة فقد غادرني النّوم، تناوبتني الحرارة والقشعريرة، بالكاد لولا
اتّكائي على زوجتي لم أستطع الوصول إلى الحمّام".
-"هل
أخذت أدوية مُضادّة لتُخفّف عنك حدّة الهجمة".
-"والله
بعد الظهر أفطرتُ وأخذتُ حبّة (سيتامول) مع (تتراسكلين) عيار 500".
-"رائع
ما فعلت..!!".
استند
أكرم جالسًا على طرف سريره، أتوقّع أنّ ما تناول من دواء وشراب، شكّل للمرض صدمة
خفّفت من حدّته، ويبدو الارتياح من خلال كلامه، مع عودة لملامحه شوبة بشحوب يُوشّحه.
هذه
المرّة الأولى التي أدخل فيها غرفة نومه، أجبرتني حالته على ذلك. وبادرني:
-"لأنّنا
لم نكن نحن العسكريين بشرًا حقيقيّين، ولم نتعامل مع الآخرين كبشر، كانت مسيرة
مليئة بالأخطاء المؤدّية للكراهيّة. بعد مُدّة من وجودي في بيروت، انتقلنا لننزل
على (سدّ القرعون) الغاية هي بناء تحصينات، وتدعيم خطوط الدّفاع؛ لصد أيّ هجوم مُعادٍ
مُحتَمل.
عند
وصولنا شاهدتُ برّاكِيّة من خشب على ضفة البحيرة الشماليّة، تتوسط المكان بين قرية
القرعون والبحيرة، يفصل بينهما طريق يؤدي إلى قرية (مشغرة، وسحمر، ويحمر). كانت خيامنا
ماتزال على الأرض لم تنصب بعد.
فجأة
بدأت بَرّاكِيّة الخشب بالزوال؛ في هذه اللّحظة؛ قال أحدهم مُمتعظًا، لأنّه لم
يحصل على المزيد من الخشب:
-(العمى
بقلبو.. العمى.. لصاحبه لِسّه ما شِلْنَا غير الباب).
بعد
تمركُزنا؛ استأذن علينا شخص بالدّخول؛ وبعد أن سُمِحَ له عرّفَ على نفسه: أنه سوريّ
الأصل من مدينة (جبله)، وهو مُتزوّج بامرأة من قرية (القرعون)، ويقطن فيها.
قائد
السريّة، هو ابن ريف (جبله)، ربّما عرف من الاسم والكُنية طائفة الرجل؛ لذلك أرسل
من يعبثُ بسيّارته تمهيدًا لسرقتها؛ فلم يجدوا فيها سوى صندوق بلاستيك كبير، وفعلًا
تمّت سرقته، بعد أن ذهب الرجل لمزرعته؛ بحث عن الصندوق؛ فلم بجده عاد يتوسّل ويتضرّع
ويرجو؛ ولكن لم يجد أذنًا صاغيةً. وعندما قلتُ لقائد السريّة:
-"ليش
ما رجّعتلو الصندوق؟".
-قال:
"خلّيه ينقلع".
بعد
حين عرفتُ أنّ مدينة (جبلة) تختلف مذهبيًّا عن ريفها المختلف عنها.
تأخذني
الأفكار بعيدًا، أكرم مُنهمك في سرد الحكاية تِلوَ الأخرى، وأنا أرتشف من فنجان
قهوتي، لا أعي كثيرًا مما يقول، مُستعيدًا كثيرًا من الأشياء أيّام خدمتي
الإلزاميّة، استعراض شريط الذكريات ماثلًا بدقّة، وما كان مجهول تفسيره عندي
آنذاك، الآن أدركته.. موجة تساؤلات أكثر من الأجوبة والتبريرات التي حصلُ عليها.
أكرم
يتابع كلامه بحرارة وانفعال، القهر يلازمه كلامه:
-"هل
تعلم يا فطين.. رغم أنّ الحُمّى أنهكتني، لكن فضفضة القلب اراحتني كثيرًا، وأعادت
الرّوح إلى صدري، انتشاء أصابني منذ مجيئك، سررتُ بك".
-"كنتُ
أحبُّ رؤيتك في غير هذا الظّرف الطّارئ، وفي حالة أفضل، شعوري بالارتياح من أجلك،
وكأنّكَ لم تكُن تُعاني شيئًا من قبل ذلك".
-"
من المُضحك المُبكي أنّ صديقًا لي وهو ابن دورتي، كان في منطقة (راشيّا)، غالبيّة سكّانها
من الطائفة الدُّرزية.
وقف
أحدهم بطريق رجل كهل من أهلها، وسأله بلهجة الواثق أنّ الجواب سيكون كما يشتهي:
-"كيف
كانوا الإسرائيليّين معاكم يا عم؟".
فجاء
الجواب بلا تردد:
-"أحسن
منكم".
فذهل
السّائل من الجواب، واحتار ماذا يفعل؛ لكن الرّجل العجوز استدرك الموقف بحنكته؛ فأردف
قائلًا:
-"احتل
اليهود هذه المنطقة ثلاث سنوات؛ لكنّهم لم يخرجوا خارج الطريق متر واحد، ولم
يشغلوا سوى مكان تمركزهم، أمّا أنتم جئتم منذ شهر واحد؛ فخرّبتم ما بنيناهُ في سنين".
ما
إن وصل أكرم إلى حتّى وقفتُ بعد إحساسي
بالذّنب، وما ورّطُّته به من جلوس فترة طويلة، وجهده الواضح في الحديث،
وحرارته المشحونة بالشّجون والأحلام والآلام، وهو ينفثّ بأنفاس حرّى مليئة بالحسرة
والنّدامة، إلى ما آلت إليه أحوالنا بشكل عامّ.
***
(5)
الظلم
وسيلة القهر العظمى التي عانت منها البشريّة على مدار التّاريخ، ولم يُذكر أنّه
انقطع وانّمحت آثاره من الحياة. الظالم لا يمكن أن يقوم بمهمّته بنفسه، فلا بُدّ
من وجود قاعدة منتفعة من تنفيذ أوامره بدقّة وحرفيّة بوحشيّة مرعبة.
والظالم
لا يكون ظالمًا بلا قاعدة يُمارس فيها وعليها طُغيانه، فالمجتمعات هي السّاحة
المُثلى لممارساته، وشذوذه، أعوانه وأزلامه هم العصا الغليظة التي يضرب بها.
أعطاهم
جزءًا من سُلطته ورفعهم بها مراتب، ليكونوا وزراء وقادة عسكريين، آمرين لمن هم
دونهم، وهؤلاء يأمرون الأدنى منهم مراتب ورُتب.
ففي
حالتنا التي لم تشذّ عن قاعدة الظلم العُظمى، فقد وقع علينا كسوريّين أوّلًا بعد
أن وطئت الدكتاتوريّات العسكريّة سدّة الحكم المدنيّ في سوريّة، والانقلابات
المُتكرّرة منذ بعد الاستقلال منذ عهد الانقلاب الأوّل في الشرق قاطبة 1949 وصاحبه
(الرّئيس حسنى الزعيم) الذي حكم سوريّة (137) يومًا فقط، إلى انقلاب الرّئيس الأسد
الأب والابن.
ليس
هناك مُستبدٌّ عادل أبدًا، ومهما بنى من الأمجاد والانتصارات ، لكنّه في خانة
الدكتاتوريّة المقيتة والكريهة، التي لا تحترم القانون ولا تقيم وزنًا لدستور
يحترم حقوق الإنسان، فهي تعمل على قتل الرّوح والجسد، وتبثّ الخوف والرّعب على
مدار السّاعة، من خلال أجهزتها القمعيّة التي سنّت قوانينها الخاصّة بها، اعتمادًا
على أحكام الطّوارئ، والأحكام العُرفيّة.
مع
دخول قوّات الرّدع العربيّة 1976 بمباركة جامعة الدّول العربيّة، فقد دُعي الجيش
السّوريّ بأعداد كبيرة، بحيث أمسك كل جوانب الحياة العامّة الاقتصاديّة والسياسيّة
والاجتماعيّة، ومن ثمّ أطلقت يده في لبنان بمباركة دُوليّة.
***
ما
زلتُ أذكر أنّه بعد جولتيْن حواريّتيْن
مع قامة سياسيّة سامقة بحجم (كريم بقرادوني)، أتوقّع أنّه اتّضحت الرؤية لي قبل
قارئي. ووصلت الرّسالة التي أردتُ.
وبالرّجوع
لمطالعة كتابه (لعنة وطن)؛ تكاملت الصّورة في ذهني تمامًا، وما كان مثار الشكّ
عندي، فقد انزاح الغَبَش عن بعضها.
وقد
وودتُ سؤاله عن القضيّة المهمّة التي وردت، وما أسماها بـ (اتفاقيّة الخطوط
الحمر)، ولكنّ ضيق وقته حجّم حواري معه، ونقصت عليّ أسئلة كان لا بدّ منها
لاستكمال الرّؤية إيضاحًا، ما حكاه لم
يقُل بها أحد بهذا الوضوح والشفافيّة المطلقة.
بل
وردت مُتفرّقة بعض مفرداتها على ألسنة بعض المُحلّلين السياسيّين الخبراء بشؤون
الشرق الأوسط، ولم يشيروا صراحة لذلك.
استوقفتني
هذه الصّفحة لمسافة زمنيّة لا يُستهان بها، أعادتني لقراءاتي المُتناثرة بمعلومات
غير متكاملة. هناك تقاطعات أحدثت فراغًا في ذهني، لم أستطع الإجابة عنها لسنوات طويلة.
المعلومات كانت شحيحة جدًا، وما رشح من
تسريبات كان أقرب للتحليلات والتوقّعات منها إلى الحقيقة.
أيقنتُ
بعدما قرأت. ومهما كُتِب فلا يعدو إلّا أن يكون جزءًا من الحقيقة، وسيموتون وتموت
معهم الأسرار الكبيرة. وما دلّنا عليها إلّا نتائجها التي كانت مُضمرة في خفايا
صدورهم، واتّفق من شهد وعَرَف على إقفال أفواههم، وإغلاقها حتّى القبر.
- (اتفاقية
الخطوط الحمر في الشّكل غير مكتوبة، وغير معترف بها رسميًا، ودمشق تنكر وجودها،
لكن الأطراف المعنيين يعملون بوحيها. وأنّها قلبت في الأساس الموقف رأسًا على عقب.
ففي
حين كانت إسرائيل ترى في دخول الجيش السّوريّ للبنان تهديدًا مباشرًا لأمنها،
أقنعها كيسنجر بضرورة الموافقة على هذا الدّخول، ودافع عن وجهة نظره من
النّاحيتيْن العسكريّة والسياسيّة. عسكريًّا، انتشار الجيش السّوريّ في لبنان
يُخفّف ميدانيًّا من قدراته في الجولان. أمّا سياسيًّا؛ فإنّ هذا الدّخول يورّط
دمشق في الأزمة اللُّبنانيّة المعقّدة، ويلهيها عن شؤون المنطقة، ويُحمّلها
مسؤوليّة المنظّمات الفلسطينيّة، وحلفائها اللُّبنانيّين؛ فتضطّر وهي الدّولة
الصّديقة لموسكو، أن تضرب الفلسطينيّين خوفًا من غزو إسرائيليّ، وأن تضبط التّحالف
اليساريّ –الإسلاميّ المؤيّد للعمل
الفدائيّ. وقد دفع كمال جنبلاط غاليًا ثمن جهله الخطّة الكيسنجريّة. وكان جنبلاط
يتصوّر أنّ الطيران الإسرائيليّ سيضرب
الجيش السّوريّ ما إن يجتاز الحدود اللّبنانيّة السٍوريّة في المصنع).
أعتقد
جازمًا أنّني وصلت إلى تكوين قناعات، أحاول الاستفادة منها في استكمال بناء روايتي
على أسس واعية بلسان أصحاب القضيّة. وأنا فردٌ من شعوب مورس الظلم عليها الفظيع
بأبشع صوره، وأقذر أداوته. ولم نكن نملك
فكاكًا منه، ولا نحن أحببنا إيقاعه على إخوتنا اللّبنانيّين، فهم مظاليم مثلنا.
معاناتنا واحدة، لم تختلف كثيرًا في شكلها، بل إنّ بعض التحفّظات الدّوليّة ألجمت
من التمادي الزائد، مثلما حدث لنا كسوريّين.
***
إيثاري الأبلغ مما سأكتب من ألوان التبريرات
والاعتذارات، التي ربّما لا تُقنع الكثيرين، وجدتُ من الأجدى والأنصف لنا جميعًا؛ سيكون اعتذار (نزار قبّاني) عن الشعب السّوريّ
بأكمله، اعتذار شاعر بحجمه يكفي الأمّة كلّها. أتمنّى أن أكون قد أحسنتُ الاختيار
في ذلك؛ حينما كتب تحت عنوان (إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار)، وهي رسالة من أشعاره
خاصّة إلى بيروت:
-(آه
يَا عُشَّاقَ بَيرُوتَ القُدَامَى .. هَل وَجَدتُم بَعدَ بَيرُوتَ البَدِيلاَ ؟
-(سامحينا
..إن تركناكِ تموتينَ وحيدهْ .. تسلّلنا
إلى خارجِ الغرفةِ نبكي كجنودٍ هاربينْ.
سامحينا
.. إن رأينا دمكِ الورديَّ ينسابُ كأنهارِ العقيقْ، وتفرّجنا على فعلِ الزِنا .. وبقينا
ساكتينْ ..
سامحينا
… إن جعلناكِ وقوداً وحَطبْ.. للخلافاتِ التي تنهشُ من لحمِ العربْ. منذُ أن كانَ
العربْ !!)
-(اصفحي،
سيّدتي بيروتُ، عنّا نحنُ لم نهجركِ مختارينَ .. لكنّا قرِفنا ..من مراحيضِ
السّياسة .. وملَلنا.. من ملوكِ السّيركِ .. والسيركِ وغشِّ اللاعبينْ، وكفرنا بالدّكاكينِ
التي تملأُ أرجاءَ المدينة، وتبيعُ الناسَ حقداً وضغينة).
ما
الذي نكتبُ، يا سيّدتي ؟
-(طلبوا
منّا بأن ندخلَ في مدرسةِ القتلِ.. ولكنّا رفضنا.. طلبوا أن نشطرَ الربَّ
لنصفينِ.. ولكنّا اختجلنا.. طلبوا منّا.. بأن نَشتُمَ بيروتَ التي قمحاً .. وحبّاً،
وحناناً أطعمَتْنا.. طلبوا أن نقطعَ الثديَ الذي من خيرهِ، نحنُ رضِعنا .. فاعتذرنا
..!! ووقفنا ضدَّ كلِّ القاتلينْ).
-(ست
الدنيا يا بيروت... من باعَ أساوركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟
من
صادر خاتمكِ السحريَّ، وقصَّ ضفائرك الذهبيّة؟
من
ذبح الفرح النائم في عينيك الخضراوين؟
من
شطّب وجهكِ بالسكّين، وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين
من
سمَّم ماء النار على شفتيكِ الرائعتين، من سمم ماء البحر، ورشَّ الحقد على الشطآن الورديّة؟
ها
نحن أتينا.. معتذرين.. ومعترفين أنّا أطلقنا النار عليك بروح قبليّه..
فقتلنا
امرأة ً.. كانت تدعى: الحريَّة)
***
عندما
غرس الجندي السّوري وتد خيمته في فناء قصر بعبدا؛ أوجع قلب لبنان وأدماه.. وأبكى
السّوريّين دمًا فيما بعد، عندما لجؤوا إلى لبنان هربًا من الحرب في بلدهم.
......
كتب
فطين على صفحته على الفيس بوك، مقالًا برؤيته حول موضوع اللّجوء، والحياة في بلدان
الجوار، وفي التاريخ رؤية ربّما تفيد في
فهم الحاضر:
"لعنة
الحرب أصابت السوريّين في بلدهم، المعاناة كبيرة لم تترك صغيرًا ولا كبيرًا إلّا
ونال حظّه منها. ومرة أخرى فإنه لا تاريخ بلا جغرافيا، وفي حالتين مُتشابهتيْن
يكون التّاريخ خاضعًا للجغرافيا تُملي شروطها بقوّة بلا تراجع.
وبالتوقّف
قليلًا أمام هذ الموضوع الذي لا يمكن تجاوزه، لوضع قاعدة صلبة لرؤية ما حصل ويحصل
الآن؛ فالكويت تجاور العراق، ولبنان تجاور سورية.
حالتان
متشابهتان مختلفان في ظروفهما السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية، فمعطيات
الإمارة غيرها في الجمهورية، وإن كانت ترتبطان برباط ديمقراطيّ مُتفاوت في خليج
غير مؤمن بها أصلًا، ولا بجوار دكتاتوريّ أيضًا كاره للخيار الديمقراطيّ.
الجُغرافية
متقاربة مساحة ما بين الإمارة والجمهوريّة، بل الإمارة تزيد بمعدل نصف مساحة
الأخرى.
اجتماعيًّا
الخوف الممزوج بالكراهة تجاه الشّعوب في الكويت والعراق، ولبنان وسورية. فمساحة
العراق أكثر من اثنين وأربعين مرة للكويت، ومساحة سوريّة ثمانية عشر مرّة للبنان.
الجمهوريّتان
الكبيرتان الدكتاتوريّتان، أصابهما الوهن بعد عقود من قيامهما على عقيدة الحزب
الواحد، والقائد المُلهم الواحد الأوحد، والخلط بين مفهوم القائد والوطن، وتسخير
الوطن ومن فيه لخدمة القائد.
لظروف
دوليّة مختلفة بين الجمهوريتين الباكيتين على أيّام الاستقرار، والأمان المقابل
لخضوع الشعبين فيهما، بعد الاجتياح الأمريكي للعراق 2004، والتغيير الذي حصل لم
يكن بحجم التضحيات التي بذلها العراقيّون من أجل التغيير للأفضل.
وبعد
2011في سوريّة تحوّلت البلد إلى جحيم لا يُطاق من الحرب التي قادها النّظام بدابة
على الشّعب للحفاظ على مكتسباته، وتأجيج المّكوّن الطائفي واللّعب بنسيجه، وتحويل
المشهد إلى حرب أهليّة ذات صبغة طائفيّة، وتوافد المقاتلين المأجورين من كلّ أرجاء
الدّنيا ضمن لعبة دوليّة قذرة.
الخوف
حالة عامّة دفعت بالنّاس إلى الفرار طلبًا للنّجاة، والإصرار على الحياة بظروف
قاسية في بلدان الجوار في المخيّمات، تقديرًا منهم أنّها فترة مؤقّتة
ويعودون".
في
عالم اليوم لا يمكن أن تكون فكرة الانعزال والاستغناء عن المحيط الجغرافيّ بذات
فائدة أو جدوى؛ فالعلائق والارتباطات لها تداخلات، فالسياسي مرتبطٌ بالاقتصادي،
وقراره مرهون بحالته الاقتصادية. والتّاريخ سيقول كلمته على أنغام سيمفونيّته
الجغرافيّة. لبنانُ
مسرحٌ صغير لا يحتمل لعب اللّاعبين المتنافسين على أهدافهم المتناقضة، وساحة
محدودة.. لا تحتمل المُتراشقين بأسلحتهم دون إصابة الأبرياء، وتعميق جراحاتهم،
وتعميم المأساة لتكون طامّة كبرى تقلب الثوابت، وتُلبس البلد لباسًا غير لباسه.
ألهذه الدّرجة نتفاخر بأوطان ذات حدود وهميّة لها راية
تجمّعنا حولها نتعبّدها بهالة من التقديس واقفين أمامها متصنّمين بجمود الأعضاء
والنّظرات، وأيادينا تحيي قطعة قماش ارتضتها ثلّة منا قديمًا.. لا أدري أنا بعد
مئة عام لمَ فعلوا ذلك..!! أليس الوطن الذي نتفاخر بانتسابنا إليه متعصّبين له..!!
رسمه لنا الفرنساوي قبل مجيئه إلى بلادنا على قطعة ورقة بقلم رصاص.
يعني نحن صناعة فرنسيّة انتهت صلاحيّتها..!!، أبحث بدأب
لتاريخ انتهاء الصلّاحيّة لا أجده..
الإفرنسيّين أذكى منّا بكثير.. لماذا لم يُدوّنوه..؟.. لا أعرف في عالم
الصّناعة مادّة تجاوزت زمن صلّاحيّة استخدامها للاستهلاك الآدمي.. إلّا ويؤّكدون
بكلّ لغات العالم التحذير الشديد إتلافها.. هل من المُتخيّل أنّ هذا المُنتج يصلح
لأكثر من قرن.. أو أنّهم صنعوه بطريقة مُتقنة أبديّة تدوم لقرون قادمة؟.
بعدما سمع أكرم ما سمع من كلام جارح أكثر من اللّازم،
قال: "حتّى العطور رغم عشقي لها، كرهتها لأنّها صناعة فرنسيّة".
***
مقولة
شعبية أظنّ أنّها انطبقت علينا، يقول أكرم: (يا فولة من وين ما جيتي ماكولة)،
والدّمعة تطفر من عينه قهرًا على أيّام كانت.. والدّمعة في عين الرّجل عندما تغصّ
بها جوارحه؛ فإلى أيّة درجة يكون قد وصل به المنحدر؟.
وهل
تحتمل نفس الرّجل البُكاء بهذه السّهولة..!!؟.
وكان
النبيّ محمد صلّى الله عليه يدعو: (اللّهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزّن.. وغلبة
الدّيْن.. وقهر الرّجال).
وماذا
عن ظلم ذوي القُربى، على وقع طبول الحرب في إدلب، يتأوّه من أعماق أعماقه، كفحيح
تنّين يشتعل قلبه لهبًا، يقول:
يا
ألله كم كنتً حالمًا حدّ السّماء..!!
في
صغري كنتُ أرى شابًّا وسيمًا بطوله الفارع، وشاربيْة الشقراويْن مُتدليًا كثديَيْ
أمٍّ حانية لإرضاع طفلها، تُلهيه من نشيج عميق بعد طول بُكاء له في الغرفة الغلق
بابه عليه، وهي لا تسمعه.. مشغولة بأعمال البيت التي لا تنتهي أبدًا منها منذ
الصّباح إلى اللّيل.
لباسه
العسكريّ متماوج في عينيّ قزحيّ الألوان، كأنّني في حديقة انتشت لرشاش عطر السّماء
تتفتّح أكمامها في مواسم الحياة على مدار السّنة. وجهه المُتورّد مثل وجه فتاة
حيّية أخجلتها نظرة غير بريئة، شارباه خيوط ذهب مُتدلّيان حول فمه، كنهديْ أمّ
يتدلّيان على وجه ابنها يتشمّمهُما يرتشف حليبهما بنهم الحياة المتشبث بها.
حذاؤه
نافر بأسوده عن محيطه الملوّن، انعكاس خيوط الشمس ينثر نقاطًا لؤلؤيّة على مقدمته
تلفت نظري. باهتمام زرع في لاوعيي حبّه، لم أذكر إلّا بقايا ما زالت عالقة من
هيئته.
ما
زال وجه والدي مُتماديًا لهفة برؤيتي أن أصبح ضابطًا في الجيش. أشواقه تسابقه
تسرّعًا لانتهاء العام الدّراسيّ بنجاحي في البكالوريا. ليراني في الكليّة
الحربيّة مُتشوّقًا لذاك اليوم الأمنية الطّافحة في باله؛ عندما يرى النّجمة
تتلألأ على كتفي، بعد السّنة الثالثة من انتسابي لها. التّدريب الشّاق قبل احتفال
التخرّج، المصحوب بمسير صحراويّ طويل أفقدني نصف وزني، أصحبتُ عود زانٍ مرنٍ مشدود
بلا ترهلّات لحميّة، عضلات فقط.
الأحلام
في سباق محموم في ميدان قلبيْنا أنا وأبي، ولا حساب لقلب أمّي الذي لم يتأوه ألمًا
على حالي، ودموع فرحة اللّقاء غمرت وجهها بانفعال لم أتمالك الدمعة في عيني تُساير
دموعها تعاطفًا بعد طول غياب لأشهري الثلاث الأخيرة في التدريب لم ترني خلالها.
وفي
الواقع صدمة تكسر حاجز الجمال في الخيال، وتأبى إلّا أن تُحطّم الآمال التي
بنيناها منذ سنوات حلمنا فيها الكثير والكثير .
-تطفر
دمعة هاربة.. متابعًا سرد مفاجآت خيبته-
ها
هو الجيش الذي بنيْاه من أجل تحرير المغتصبات وردّ العدوان، في عشيّة وضُحاها
انقلب إلى وحشٍ كاسر بتدمير ممنهج للبلد على جميع المستويات، ليت أمّي لم تلدني..
ولم أكن يومًا ضابطًا في عداده، ولا أنفقت سنوات عمري، لأكون أخيرًا مُنشقًّا
هاربًا، وفي تصنيفهم.. أنا خائن".
-"دعني
من هذا الكلام الموجع، أين كنتَ مُختفيًا منذ أسبوع؟".
-"بصراحة
عقليّتي لم تحتمل تشتّت أسرتي، فنحن هنا، وابني الكبير في ألمانيا، وهو يواجه هناك
صعوبات في الحصول على الإقامة الدّائمة، وابنتي المتزوّجة ما تزال مع أولادها
مقيمة في البلد، والآخر الأصغر يعمل في لبنان، ويدعم أخته بما تيسّر وزاد عن
حاجته، وكلّ شهرين أو ثلاثة يرسل لي مبلغًا يساعدني في أجار البيت، يخفّف عنّي عبء
تكاليف الحياة الباهضة".
-"يعني
أفهم أنّك مهموم.. ونفسيّتك زفت غير قابلة للكلام..!!".
-"مالم
يكُن بالحسبان أبدًا، المظاهرات والاعتصامات في بيروت، والجماهير التي نزلت إلى
الشّارع غير آبهةٍ بقرارات الحكومة اللّبنانيّة، بل يتصّدون معاندين قوّات الدّرك
والجيش، وطالت الأزمة، وتوقّفت الحياة، والوضع ازداد سوءًا على سوء. هذا كلّه
بجانب ومحمول، لكن بصراحة غير المعقول أبدًا هو معاملة اللّبنانيّين للسوريّين،
والأمر تكلّل بحادثة قتل الشّاب محمد الموسى، المشهور (بقتيل فيللا نانسي)، وما
حصل من اختلاطات وتعالقات أطراف واضحة ومختفية..!!؟".
أنين
ليل موحش، واغتراب نفسيّ، ووجعٌ روحيّ. ما حصل بكاء وفاجعة... بكلّ المقاييس "الانتقام.."
رغم تشابه الوجع من بداية الاحتراق وقطراته وهي تسيل على الجراح حتى نهايتها.
حكايا
من فائِتات السنون ما انطفأت ولا هدأت ذكريات روح وجراح، لزؤام الموت ضحيتها مظلوم
ينام، ويصحو على كابوس على يد نفس الظالم، والجراح المفتوحة هي فقط من تُفكّر في
الانتقام. رغم مرور سنين كثيرة على تواجد الجيش السوريّ في لبنان وممارساته
الظالمة، والتي أخذت معها أرواحًا كثيرة
بريئة.
-فطين:
"بصراحة أقولها وأنت تردّد معي، وجميع السّوريّين في الأردنّ، فماذا نقول
عنهم، إذا ما قارنّاهم مع اللّبنانيّين؟".
-أكرم:
"أقسِمُ ولن أكونَ مُجازفًا، إذا وصفتهم بالأنبياء..!!، حالنا أهون من مرّة
من أهلنا الذين استقّرت بهم الحال في لبنان، على الأقلّ، هنا الأردنيّين متعاطفين
معنا، ومع قضيّتنا".
-فطين:
"يا لشقاوة حالنا وبؤسها، من أفعال إخوتنا اللّبنانيين؛ يحاولون الحصول على
العدالة بطريقتهم ممن لا ذنب لهم، بلذّة التشفّي، وشعور النّشوة، والانتصار عند
رؤية بكائهم ووجعهم، متعة الانتقام قد تكون ساديةً صريحة.. لكنّها ساديةٌ عادلة من
َجهة نظر البعض، فالتعميم في مثل هذه الحالة ظلم للأخيار الرّافضين لكلّ أنواع الظّلم. وأمنية حالمة بهطول غيمة من عيون
السماء؛ لتنام بحضن الياسمين، وتلثم شفاه الأرز.. وتتدثر بشهقة العِناق اللّذيذ).
***
بصراحة
أتعبتُ الصديق أكرم معي، مشاغله الكثيرة ما بين دوامه الصباحيّ أو المسائيّ في عمل
تجاريّ؛ لسدّ حاجة مُلحّة لمتطلبات أسرته،
وتوفير حاجيّاتهم الأساسيّة التي تقيمهم على قيد الحياة، ولو بأقلّ القليل.. أفضل
مئة من مرّة العطالة وذلّ الطّلب من الآخرين.
فكما
أخبرني أنّ (كوبونات) مفوضيّة اللّاجئين وحدها لا تكفي، وأجرتي من عملي أيضًا
تُساهم في سدّ ثغرة من أجار البيت عند آخر كلّ شهر.
-"سأطلقك
لوجه الله حتّى تشتاقني.. خُذ راحتك هذه الفترة كإجازة مفتوحة".
-"لشو
تضربني منيّة.. بطبيعة الحال اعتبارًا من الغدّ؛ سيكون فرض الحجر، والحجز في
البيوت مع إعلان الحكومة عن الإجراءات الاحترازيّة من وباء الكورونا".
ضحكتُ
في سرّي كأنّني ما سمعتُ كلامه بالمرّة. وأكملت:
-في
الحقيقة لا غنى لي عنك في أيّ وقت، ولكن ستنوب عنك هذه الفترة أخت فاضلة تمتلك
كثيرًا من القصص والحكايات، ومتابعة جيّدة للشأن العام ومنه اللّبنانيّ، وأبدت
رغبتها بأن تُساهم معنا في هذا الفصل من الرواية، والقادم أيضًا، بعد نقاش مستفيض
حول نُقاط كثيرة.
السيّدة
نائلة تابعت معي أكثر أحداث الرواية منذ البداية، وهي على دراية تامّة بما جاء
فيها من أحداث، قامت مشكورة بإرسال مقالة أرسلتها عبر الواتساب، ربّما نُواجه
كثيرًا من الممانعة لنشر مثل هذا الكلام الذي يُعدّ في نظر الإنسانيّة والعالم
المُتحضّر أفعالًا مشينة وعنصرية، ولتفادي ذلك قمتُ بنقل ذك عن مواقع أجنبيّة
تتمتّع بمصداقيّة مهنيّة في عملها، وتوخّيها بمقاربة الحقائق قدر استطاعتها، فقد
قمتُ بانتقاء هذا:
-
موقع «إنسايدر مونكي»
الأمريكي
جمع استطلاعين للرأي منفصلين؛ وذلك بهدف تصنّيف أكثر 25 دولة عنصريّة في العالم،
لتظهر النتائج أنّ لبنان في المرتبة الثانية بعد الهند في تصنيف الدول الأكثر
عنصريّة في العالم، إذ أظهرت الأرقام أن (36.3%) من المستطلعين لا يرغبون بمجاورة
أشخاص من أعراق أخرى، بينما قال (64.5%) منهم: "أنّهم شهدوا حوادث عنصرية. للاستشهاد
على حقيقة هذه الأرقام.
يمكن
البدء بما حدث عقب تفجيرات القاع في 27 حزيران (يونيو) الماضي، فبينما اتخذ محافظ
بعلبك «بشير خضر» قرارًا بمنع تجوُّل النازحين
السوريين في بلدتي القاع ورأس بعلبك، ومنع التجمع والتنقل بواسطة الدراجات
النارية، تعرضت عشر عائلات للضرب من طرف لبنانيين، وهو ما دفع منظمة «هيومن
رايتس ووتش» لإدانة هذه الحادثة؛ كون وتيرة الممارسات تجاه اللاجئين
السوريين تزايدت بشكل لافت بعد التفجيرات في بلدة القاع.
ويستمر
التذرّع بحفظ الأمن بالمزيد من الممارسات العنصرية، كتوقيف وترحيل وإجبار السوريين
على تنظيف الشوارع، كما حدث في 14 تموز (يوليو) عندما أجبرت بلدية ترتج في قضاء
جبيل (شمال بيروت) اللاجئين المقيمين في نطاقها على تنفيذ يوم عمل مجاني لتنظيف
شوارع البلدة، حسب صحفية «السفير» اللبنانية.
-وفي
مشهدٍ آخر
مُكمّلًا
للسّياق الذي نحن في صدده من الانتقام: (تناقلت وسائل الإعلام صور مداهمة عناصر من
شرطة بلدية «عمشيت» شمال بيروت لمكان ظهر فيها سوريون راكعون على الأرض، أو يقفون
ووجوههم إلى الحائط وأيديهم إلى الخلف؛ وهو ما دفع النشطاء اللبنانيين إلى
الاحتجاج على ما اعتبروه إجراءاتٍ «عنصرية».
***
الأطفال.. أكبر ضحايا العنصرية
قبل بضعة أيام، وتحديدًا في منتصف ليلة
التاسع من مارس (آذار) الحالي، كان الفتى السوري «أيهم مجذوب» يقصد قرية غزة
الواقعة في منطقة البقاع اللبنانية، أراد الفتى ذو الرابعة عشر من العمر، والعامل
في محل لبيع النرجيلة ، إيصال «طلبية» لأحد الزبائن، لكن وقود دراجته النارية لم
يسعُفُه لإكمال مشواره، فلجأ لتدبير أمره بأخذ زجاجة بنزين من دراجة ركنت داخل
بناية، وعندما اكتشف أمره تمثلت ردة فعل مجموعة من الشباب اللبناني بضربه ضربًا
مبرحًا، بل لم يكتفوا بذلك فسكبوا زجاجة البنزين على جسده وأشعلوا النار به، أصيب
الأجذب بتشوهاتٍ كبيرة في وجهه وجسده، ونُقل إلى قسم العناية المركزة في مستشفى
«جعيتاوي» في بيروت، وقالت أمه خوفًا على أسرتها أنه: «ليس هناك أية مشكلة مع أحد،
ولا يوجد أحد حَرَقَ ابني، إنما انفجرت زجاجه البنزين في وجهه».
[١٠:٠٦ م، ٢٠٢٠/٣/١٧] فايزة الرشدان: عندما
لعبت سوريا دورًا محوريًا بالصراع من خلال قوات الردع، وهنا يقول عمار: «كان الجيش
السوري أشبه بجيش محتل خلق هذا التصرف كره و حقد عند اللبنانيين تجاه السوريين،
جاءت فرصة الانتقام بعد لجوء أعداد كبيرة من السوريين إلى لبنان، وبدلًا من أن
يردوا الجميل على استضافة السوريين للبنانين العام ٢٠٠٦، قاموا بعمليات أقل ما
يمكن أن تتصف به أنها عنصرية تجاه السوريين.
يتحمل عمال سوريا الفقراء وطأة كل فترة من فترات التوتر، حسب عبد الذي
يعمل كطباخ ونادل في أحد مقاهي بيروت.
وعندما أوقفت الشرطة اللبنانية ابن عمه الذي يعمل موظفاً في مرآب
للسيارات بدؤوا في التدقيق في هاتفه الجوال فقام بالاحتجاج. وقال عبد:
"اجبروه على وضع يديه على الجدار ثم انهالوا عليه بالضرب. وعاد إلى سوريا منذ
عدة أشهر ولكنه لم يجد عملاً حتى الآن".
وأفاد متحدث باسم الشرطة اللبنانية لشبكة (إيرين) أن كل هذه الاتهامات هي
قيد التحقيق وأن قوات الأمن الداخلي تحترم حقوق الإنسان، حيث قال: "يعامل
العامل السوري، كأي مواطن أجنبي في لبنان، وفقاً للقانون".
من جهتها، قالت منظمة العفو الدولية أن موجة أعقبت اغتيال الحريري راح
ضحيتها عشرات القتلى والكثير من حالات الضرب للعمال السوريين في لبنان وقد طالبت
المنظمة في ذلك الوقت باعتقال الجناة ومحاكمتهم.
ولكن العمال والناشطين يقولون أن العنف لا
يزال مستمراً ولكن بمعدل أقل. وقد ذكرت التقارير حصول هجمات خطيرة ضد العمال
السوريين في لبنان عام 2007 من ضمنها مقتل رجلين في بلدة الدامور قرب صيدا في
أكتوبر/تشرين الأول ومقتل رجل طعناً وجرح آخر في المنتجع الجبلي (عالييه) في
يوليو/تموز. كما تم العثور على رجل مقتولاً بعد أن هشمت جمجمته في يناير/كانون
الثاني وعلى رجل في الستينيات من عمره مخنوقاً في أكتوبر/تشرين الأول. كما تشير
التقارير الصحافية بشكل متكرر إلى حوادث حرق لخيام وأكواخ العمال السوريين.
(7)
"العرين
لم يكن نبيلًا بقدر سُمعته ووقعه في نفوسنا، ابتناه صاحبه على طريقته.. ولم يكن
ليناسبنا". دندنة كلمات تتردّد على لسان فطين همسًا منذ الصّباح، هناك فكرة
تتوالد في ذهنه؛ لم يستطع استجلاءها بوضوح، حتّى يتكلّم بها، أو يكتب عنها.
لكن خطر له ما لم يكن بالحُسبان:
-"سأتّصل
بالكاتب الرّوائيّ الذي يكتبنا في روايته المُتوقّفة عند حدّ.. لم يكن لي ولا له،
أيّة جدوى من إنهائها على طريقة ما تقدّم من مسار الرّواية، لم أعترض على بوابة
الحُبِّ.. سَوَا ارْبينا.. على حارس
الذّاكرة.. ووتد الخيمة.. والاعتذار.. ووجهًا لوجه.
بالعكس كانت كلّها رائعة خَدَمت هدفي من حديثي
المُتواصل، وأتعبتُ الكاتب تَدَلُّلًا وتمنُّعًا، لصداقة تربطني به منذ الطّفولة،
حينما كنّا لا نفترق إلّا وقت النّوم. التصاقنا حدّ تطابق الظلّ مع النّسخة
الأصليّة لصاحبه.
لكنّ أثناء جلسة مغلقة بخصوص الفصل الأخير
وجهًا لوجه، لم أجد في نفسي الكفاءة؛ لإدارة الحوار مُتواكبًا مع حدث الرّواية.
ناقشتُ
فيها مع أبطالها الذين تعرّفتُ إليهم، وكانوا شُركائي في متابعة ما جرى.. بالتذكير
مرّة، وبتصحيح نقطة غائمة، وتوضيحها. أعتقدُ جازمًا: أنّ النّهاية يضعها أصحابها
من أهل دائرة الشّام الأوسع من رؤيتي التي اقتصرت على سوريّة ولبنان.
أثناء إعادة مُطالعاتي التّاريخيّة مُجدّدًا
لمعركة (صَفّيْن). أثارني بشجونه وآلامه، وأحزانه على دماء صحابة رسول
الله. في صراعات مأساويّة، ظاهرها في سبيل السّيطرة والاستحواذ على الحكم،
والقيادة. مشهدُ رفْعِ المصاحب على رؤوس السّيوف والرّماح، عندها صوت هادر في
المكان، ارتّج له الكون: (إن الحكم إلّا لله).
توقّفت الاشتباكات إنصاتًا لصوت العقل،
واتفّقوا على موعد بعد الحَجّ من العام القادم أن يكون اجتماعهم في (أذْرُح)
جنوب الأردنّ، وانتَخبَ كلّ فريق ممثّله للتّحكيم.
تساءلتُ طويلًا: ولماذا (أذرُح)؟، أعودُ
إلى فكرة (دكتاتوريّة الجغرافية)؛ لأنّها مفترق الطّريق للحجّاج العائدين إلى
ديارهم؛ فحضورهم يعني مباركة الحدث، واعتبار حضورهم بيعة تضفي شرعيّة النّتيجة
أيًّا كانت، وتعميمه على كافّة البلاد. فحجّاج مصر وأفريقيّة يُغرّبون بمسيرهم،
وأهل الشّام يُشَمْئِلون، والعراق وفارس وما وراء النّهر يُشرّقون.
مفاجأتي كانت كبيرة لم أخرج من صدمتي، بعدما
تحقّقتُ أنّ موقع (صَفيْن) على شاطئ الفرات قريبًا من مدينة الرقّة
السّوريّة اليوم، إلّا بعد أكثر من شهريْن مُتتابعيْن بحثًا، وتدقيقًا، وتمحيصًا؛
لتصحيح، وإعادة تقويم معلومتي الخاطئة بخصوص المعركة، ومكانها، رغم أنّي قرأتها
أيّام الدّراسة الثانويّة. الحمد لله على كلّ حالٍ..!! أن استفقتُ على خطئي، ولو
بعد حين.
يُمكن
للسياسة أن تحمل صواريخها لتصحيح أخطاء الجغرافية، ولو أردتُ رسم خريطة جديدة
واحدة سليمة تتوافق مع رؤيتي، لتطلّب الأمر اقتلاعات كثيرة، وتحليل وإعادة تركيب.
بحِسْبة بسيطة في محيطنا الشّرقيّ والغربيّ؛
فالهند تتكلّم ثلاثمئة لغة وهي بلد واحد، وفي كلّ من تركيّا وإيران أربع أمم في
كلّ منهما، وتركيّا بلد واحد..!! وإيران بلد واحد..!!.
أمّا
نحن العرب فاثنان وعشرون بلدًا.. وحكومة، وعُملةً، ودينًا، ولغةً، ونزاعًا،
ومؤامرة، ومذلّة، وخيانة..، وأكثر مئتيْ مليون تائه ومسحوق بذلٍّ الفقر، والجهل.
لوحة القرن العشرين امتدّت لتكتمل بصورتها
القديمة في القرن الواحد والعشرين، بل ربّما ستتشظّى، وإعادة تقسيم المُقسّم إلى كونتونات
غير قادرة انتاج ربطة خبر لمواطنها..!!.
أمام عينيّ أتأمّلها طويلًا، وتهجيّت تعاريجها
وخطوطها الوهميّة من أطلس الوطن العربيّ.
منذ نعومة أظفاري، كنّا نتسابق برسم أيّة
خارطة من ذاكرتنا على الغيب، وفق ما تعلّمناه في دروس الجغرافية. سورياليّة تعبث
فيها الاختلاطات، والاختراقات.
توهّمنا أنّنا في رقعة زمنيّة صافية واضحة
المعنى بيّنة التوجّهات. وثالثُ الحرميْن الشّريفيْن، منذ أن تفتّح وعيي على
الحياة تحتله إسرائيل. ناديتُ يومًا على كُثبان الرّمل:
-"منذ
متى وجماهيركم من الرّمال مُتفرّقة، لا يجمعُ بينها أدنى رابط؟".
-أجابت
الصّحراء:
"حبّاتُ
الرّمل سُكّاني.. منذ ملايين السّنين، وما زالت الحبّة بجوار أختها بجوار أختها،
وتبقيان حبّتان كأنّهما متخاصمتان..!!".
ولله في خلقه شؤون، وكأنّ العرب أقسموا على
أنفسهم أن لا يكتسبوا إلّا هذه الخصلة من رمال صحرائهم.
بعد مُشاورات مع صديقي المُقرّب أكرم قبل فترة
من الآن:
-"أخبرني
أنّ الشّعوب هي التي يجب أن تختار مصائرها بنفسها، غير ممكن الإنابة عنها لا بشخص
مُفكّر أو قائد أو حالم بالوحدة".
هذه
الرواية شرارة فلو لم تكن.. لم يحدث الوصال.. فلا خداع ولا خديعة كما حدث في (أذرح)؛
فلنُحَكّم ضمائرنا كأنقياء أتقياء هذه المرّة على قمّة الشّيخ.
فريقًا واحدًا لا فريقيْن كما كان هناك في (أذرح).
فريق واحد يضم أعضاءه الأربعة؛ ونطُلّ من عليائه الشمّاء بعين القلب على دمشق
وبيروت، والأخرى على القدس وعمّان.
مركزيّة
أيّة نقطة تأتي من أهميّتها بفرض شروطها الحدوديّة المُشرفة على وجوهنا في إقليم
الشّام الوّاحد أصلًا.. الموزّع الآن.
الآن فهمتُ لماذا أطلقوا اسم جبل الشيخ. كنتُ
أظنّ كان مُلكًا لشيخ ما من شيوخ القبائل العربيّة القديمة، أو أنّ على سفوحه في
إحدى مَغاوره المُنزوية عن العالم، قبرًا لشيخ عابد مُتنسّك من أولياء الله. فلا
هذا لا ذاك، ولكن قمّته الأعلى في المنطقة 2814م، والثلاث الأخرى أقلّ منها، ولكلّ
منها إطلالتها، هذا الارتفاع، يجعل الثّلج يتراكم على قمّته إلى أواخر فصل الصّيف،
كما يُكلّل الشّيْب رأس الإنسان. أمّا المُؤرّخون العرب فقد أطلقوا عليه جبل
الثّلج. وهو جبل الرّؤى، عند كُتّاب
التّاريخ الدّينيّ. وهو المُقدّس عند الكنعانيّين، والأمم القديمة.
وقد كتب جلجامش في ملحمته: (ليُقيم لها
اسمًا، حيث ارتفعت الأسماء). أمّا أحد المؤرّخين: (ما يُدهش في قصّة جلجميش،
وأرض الأحياء، هو أنّ البطل رأى رؤية، عندما نام على سفح حرمون، وكانت الرّؤيا؛
تُصوّر مصيرًا كونيًّا، وليست خاصة به وحده). وحرمون هو الجزء الشّرقي من
الجبل وأعلى قممه.
نحن
مدعوّون لهذا الاجتماع في العام القادم في مثل هذه الأيّام لنُكمل رؤيتنا بنقاش
مُعمّق يضع أسُسًا راسخة لعلاقتنا ببعضنا، بفريق من كلّ عاصمة شخصين. علينا أن
نُظهر وجهنا الحقيقيّ مهما كلّف الثّمن. على رأي أوشو: (جازف لتكون حقيقيًّا),وفي
كلّ يوم تبتدئ الحياة من جديد.
***
فطين
دائم التّفكير في أمر مهمّ، في جلسة فاصلة، كتب على ورقة، ثم أهملها، وكادت تذهب
هباء مع نفايات لا أهميّة لها، لولا أن تداركها في اللّحظة الأخيرة، بالفعل كانت
العبارة المكتوبة عليها فتحت له أفقًا جديدًا: "من جبل التحكيم في جنوب
الأردنّ.. إلى جبل الشّيخ جنوب سوريّة". بنى عليها أفكارًا جديدة لحظتها:
-"من
جبل التحكيم في (أذرح) إلى جبل الشيخ.. من الجنوب إلى الجنوب.. آمنتُ بدكتاتوريّة
الجغرافية بنقاطها الارتكازيّة، بتفاصيل التفاصيل؛ ففي كلّ شبر حدثٌ ما، وعند كلّ
صخرة قصّة ورواية.
مع كلّ قطرة حُبّ شآميّة يكون الشّاعر (سعيد
عقل)، يُلبس الشّّام سُهوبها، وبواديها، وجبالها حُلّة قشيبة من خوالد أشعاره،
والأجمل أنّها كلّها حفظتها الألسن، مع حبّهم لصوت فيروز. فقصيدته القصيرة (يا
جبل الشيخ) زادت الجمال جمالًا، وصنعت منه أيقونة في أذهاننا كما توالدت في
ذهن سعيد عقل: (يا جبل الشّيخ.. يا قصر النّدى\\ وحبيبي بكّير لعندك غدى\\ يا
جبل الشّيخ.. ربّاك الهوى\\ وحبيبي وأنا.. ربينا ع الهوى\\ ويا جبل العالي.. لو تعرف
بحالي\\ بيمرقوا.. وبيروح عنّا القمر). عبقريّة الشاعر أنْسَنَتْ الجبل بعلاقة
حبّ تبادليّة بينه وبين من يروْنه في أقطار الشّام الأربعة.
من هنا تأكّدتُ بما لا يدعُ مجالًا للشكّ
بدكتاتوريّة الجغرافيا، الآن أنا أمام نقطة ارتكازيّة تاريخيّة في أذرح (جبل
التّحكيم)، وخط مستقيم يصله مع جبل الشّيخ، ملتقى أبناء بلاد الشّام من دولهم
الأربع مخلّفات (سايكس بيكو).
الاتفاقيّة المرسومة على الورق الأسود القديم،
لتتعمّق في قلوب أبناء هذه الدّول بنزعات تعصبيّة كلّ لحدود ورقة عتيقة مضى عليها
مئة سنة أو يزيد بقليل.
لو كانت اتفاقيّة دوليّة لانتهى مفعولها حسب
أنظمة الأمم المتّحدة، المعمول بها على الصّعيد العالميّ فيما بين الدّول. كأنّهم
نسُوا أن يضعوا مدّة الصلاحيّة لها.
بدايات الرّبيع العربي الدّامي، وارتداد
الأنظمة العسكريّة على خيارات شعوبها، وانعكست حالة التّفاؤل بالانطلاق للمستقبل
الواعد المليء بالحريّة، والديمقراطيّة؛ فقد عادت الحالة إلى ظلام القرون الوسطى
في أوروبّا. قامت الحروب الأهليّة الدّامية من أجل تثبيت الأنظمة الحاكمة، بنتائج
مليئة بالدّمار، والخراب، والأعداد الكبيرة من الضّحايا، والتدّخلات الأمميّة على
صعيد الجماعات والدّول.
من هنا مرّوا بسنابك خيولهم ودروعهم..!! ذهبوا
وصاروا أثرًا بعد عين؛ منسيّين إلّا من كُتب التّاريخ، طامعين.. مستعمرين.. قتلة..
مجرمين، وقُطّاع طرق.. أثاروا ينابيع الدمّ؛ لينتشوا ارتواءً..؛ ليُسيطروا.. لجمع
أموالٍ منهوبة.
ذهبوا إلى غير رجعة.. وسيلحقهم الآخرين
أمثالهم على طريقهم اندثارًا.. بقينا
صامدين.. لم يأخذوا منّا ذرّة من تراب أو قطعة حجر أو صخرة.
ها نحن شاهدين.
بتاريخه..
ذات صباح مُشرق صافٍ من أيّام ربيع ألفين وعشرين. نظرت من نافذتي في الطّابق
الثالث إحدى عمارات مدينة إربد المُشرفة على مُنحدر؛ أفسح مجالًا واسعًا لرؤية
مديدة.
تأمّلت المنظر بجلاء مَليًّا.. جبل الشيخ
الجليل شموخًا.. بعث العزّة في نفسي من جديد.. رغم المآسي الفاجعة في محيطه، ما
زال يعتمر قبّعته الثّلجيّة البيضاء.
بَثّني شيئًا من ألمٍ ثُؤلول سرطانيٍّ ناتئ
على طرفه ممتدًّا إلى رأسه، أراهُ بجبروته مُنتصرًا.. سيموت الثُّؤلول.. وستجفُّ
آخر آثاره".
بهذه
الكلمات افتتح فطين صباحه، وتابع:
-"في
روايتي لن أسمحَ لبندقيّة السياسة، التي استولت على خيارات الشّعوب سابقًا، ولم تر
فيهم أكثر من أفواه تأكل وتتناسل، ترتفع قيمتهم السّهميّة عند الحروب والانتخابات،
يُدعون من أجل الوطن.. تقيّؤوا الحياة، وهم يتدافعون لتلبية نداء دعوة باسم الوطن؛
لحمايته في سبيل كُرسيٍّ مُهترئ مهزور؛ قوائمه نصال مغروسة بأجسادهم. وعلى رأي
قائل: (السّلطة كالبندقيّة الفارغة، لا تصلح إلّا أن تكون عُكّازًا)0.
ولن يموت الصّباح في عينيّ ثائر مثلي على
الأقلّ.. ولن تنتحر الشّموع على مساندها، وآثار الصّدمات تبقى زمانًا وتنمحي..
تحفر آلامها في النّفس.. ما بين الصّدمة
والصّدمة.. موت قاتل.
ويتوقّف كلام العقل إذا ما ظهرت نبرة الخيانة
والتخوين، وماذا لو أصبحتُ وأمثالي بلا أحلام، أو كانت ممنوعة علينا ممارستها، أو
كان يترّتب علينا شراءها؛ كما نشتري بطاقات حُزم الأنترنت؟.
وماذا لو كان هناك أحلامًا مُحرّم علينا
مُعاقرتها؟. بلا شكٍّ تتهاوى خيالاتنا في أذهاننا ذُبولًا..!!.
كتبتُ كثيرًا من تُخمة أفكاري، ولن أخاف بعد
الآن ضياعها.. ارتاح قلبي.. انشرح صدري لذلك. الآن أقف على صدمة الخروج من شرنقتي
إلى عوالم رحبة بأبعادها الإنسانيّة الأشمل الأعمّ برؤية تحليليّة نقديّة ربّما
تكون صادمة. وإعادة تركيبها سردًا أدبيًّا
بروح منفتحة بتمهّل وتروٍّ.
وكأنّني بعد مخاض تفكير، وصلت للمرحليّة
الحِرَائيّة في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي كانت حجر الأساس في
تعميق الرّؤية والمفهوم عنده، على خلافي فقد اعتزل المجتمع وضجيجه، نزوعًا للصّفاء
الرّوحيّ، والاستعداد والقابليّة لتلقّي أمر عظيم لم يكن يدري كُنهه.. لكنّه مُدرك
بيقين أنّه على أبواب مرحلة مختلفة تمامًا.. وجاءت لحظة اقرأ.. لحظة الوحي الفارقة
في حياته ومكّة والجزيرة والعالم فيما بعد شرقه وغربه. ولن أؤجّل كتابتي لأنّها
حضرت تتزاحم تسابقًا لرؤية النّور.
ارتأيتُ إدخال كاتب الرّواية ليُدلي بدلوه عند
اجتماعنا وجهًا لوجه لا تنفعنا فيه إلّا الصّراحة. وكلام القلب للقلب. قرّرت بعد
طلب المشورة من أهل العزم، اختيار اثنين ذوي عقل وحكمة من كلّ بُقعة من بُقعة
شاميّة. وخياري في التقديم لا أعتقد إلّا ميلي للجغرافيّة بدكتاتوريّتها، رغم
كراهتي الشّديدة للدكتاتويّة بكلّ أشكالها، انطلاقة الآراء الأولى من دمشق..
عمّان.. القدس بيروت، و(حصّة الغالي للتالي) كما يُقال.
شهادات سأثبتها هنا في فصل الأخير.. لتكون
شاهد إثبات من عاين بعينه، بعقله.
***
(8)
الخاتمة ستكون على لسان فطين
-(الأكثر رُعبًا من العمى. هو أن تكون
الوحيد الذي ترى –جوزيه ساماراغو).
لا يمكن لي قبول أيّ قبول ممارسات سلطوية
لبنانية على الشعب السّوريّ الأعزل الذي شبع قهرًا وظلمًا؛ مقابل وقوفي مُعارضًا
للنظام في سوريّة. الذي يراني عدوًّا له، وأنا أراه كذلك العدوّ الأوّل لي.
-(الرواية لا يمكن أن تكون مدينة فاضلة،
بعيدة عن واقعها تُحلّق في فضاءات مُتعامية عن التناقضات الاجتماعيّة
والسياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة).
-هي محاولة اللحظة الأخيرة التي تسبق
الطّوفان، ربّما يكون لها السّبق بالتنبّؤ بجيل يفهم قيمة الحياة، بدل هدرها على
مذابح السياسة الحمقاء).
حيثيات الرواية (خيمة في قصر بعبدا)
معلومات عامّة:
*من (رياض الصُّلح) إلى
(رستم غزالة).
*الرّاقصة عابسة.
* (أسطورة أوربا
وأليسار)
* حارس الذاكرة.
**(المصدر كتاب لعنة
وطن /كريم بقرادوني)
___
شهادات
أبناء بلاد الشّام
رؤية الشاعر والأديب سليمان محمد نحيلي – سورية:
من بوابة الحبّ أدخلُ بلاد الشّام ، وهل هناك أجمل من
هذا الباب للولوج إلى الشام حتى تهديكَ ياسمينها.
الحب ّ تلك الأرضية التي تصلح لبناء أية علاقةٍ بشريةٍ
حتى لو ساورت شيئاً منها المصالح المادية، فحيث لا حبّ لا توجد حياة، إنه حاجة
ماسّة للوجود البشري على هذا الكوكب كالهواء والماء والطعام، حتى أن كمال الوجود
الإنساني يتحقق بالحب كما ذهب أحد المستشرفين:
يا ربُّ كياني منتقصٌ \\ بالحبِّ تكمّلَ تكويني
وما زلت ُ بالرغم من رفقتي الطويلة للحبر أتفكّر كيف
استطاع شاعر الشام نزار قباني أن يلخّص قضيةً كبرى كقضية الحب ّ ببيتٍ شعريٍّ واحد
ٍ جمع فيه بين العام والخاص والواقع والخيال والوجود والقيمة حين قال :
الحبُّ في الأرضِ بعضٌ من تخيّلنا \\ إنْ لم نجدهُ عليها
لاخترعناهُ
نعم ...في الشام ،قبل (سايكس بيكو) لم يكن هناك من يقول: أنا سوري أولبناني أو
فلسطيني أو أردني ، فماذا فعلت بنا السياسة؟.
قسّمتْ حدوداً ببن الأخ وأخيه .. حدوداً بين الشخص وذاته
، ثم قالت لسكّان كل قسم ٍ هاكَ وطناً وعلماً ونشيداً وطنياً وحدوداً وعدوّاً هو
أخوكَ.. فالسّاسة لا يرسمونَ خرائط للحبّ إنّما خرائط للتقسيم وبذوراً للكراهية، وماذا عساهُ العدو أن يرسم
ويخطط ويبذر .
كانوا يعلمون أن حبر هذه الخرائط والتقسيمات سيزول
يوماً، لذلك كان هدفهم تغذية الكره بتعزيز فكرة الاستقلال ومباركة خرائط التقسيم .
أنا سليمانُ نحيلي الشّاميُّ وُلدتُ بعد التقسيم لأبٍ
صار يُدعى سوريّاً وأُمٍّ هي ابنة عمّ أبي، باتت تُدعى لبنانية جاءها المخاض بي
وهي في زيارة لأهلها فوضعتني قرب ضفة نهر أبي علي وغسّلتني جدتي بمياهه، وقطعت
حبلي َّ السّرّي من أمي لتصله بغيمةٍ تقيمُ في سماء طرابلس، وما زال حتى الآن
بالرغم من أني أُقيمُ في عمّان.
كبرتُ وعشقتُ ذات ساحلٍ فتاةً لبنانيةً، وكنّا من الزواج
قريبينَ، لكنّ الحدود والوثائق والموافقات الحكوميّة كانت أقربَ؛ فصادر حرّاسُ الحدود
الحبَ ورموا بنا على الحدود، لم نكن ندرِ أنه ينبغي أن يحضر مراسم الزواج حرّاس
الحدود؛ فخسِرنا الزواج، ولم نخسر الحبّ الذي ظلّ على قارعة الحدود يحاول محوها حتّى
هذه اللّحظة.
أما جدّي لأُمي ما انفكّ بعد التقسيم يمارس تجارته
ناقلاُ البضائع بشاحنته بين سوريا ولبنان؛ فقد اختار أن يموت على أرض سوريا بنوبة
قلبٍ داهمتهُ على الحدود حين قال له حرّاس ُ الحدود أنّ جوازك منتهي الصلاحية، وما
دَروا أن هذه الكلمة أنهت حياته.
والآن هل استراح السّاسة آمنين َ خلف حدود التقسيم
والوهم، لعلّه يقع علينا نحن الشعوب أن نرسم خارطةً جديدةً للحبٍ بالورود، ونزيلَ الحدود.
وها هو الحبّ يدفعني مرةً أخرى أن أُغني:
هذي دمشـــــــــــقُ
وفي عمّــــــــــــــــــــــــــــان يربطها روحٌ من القدسِ والتّاريخِ والنّســــبِ
هذي دمشــــــــــقُ
وفي بيروتَ موعدنـــــــــــــــــــــــا في جنّةِ الأرزِ في ريحانةِ الحِقَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبِ
والحلمُ
ملءُ الجفونِ الشّاهقاتِ هوىً إنْ رادَهُ الشّعبُ لن ينأى ولمْ يخبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ملاحظة:
جميع الأشعار هي للشاعر سليمان نحيلي.
***
أوأو, رؤية الباحث والمفكر: محمد زعل السّلوم
–سوريا:
يقع جولان جبل الشّيخ في قلب بلاد الشام، وفيه
تلتقي طرق سورية ولبنان وفلسطين والأردنّ، ويُعدّ ابن جبل الشّيخ البارّ، حيث يطلّ
على كامل بلاد الشام، ويفرض نفسه سيّداً حسب دكتاتوريّة الجغرافيا وأصولها، اجتمعت
على أرضه جواهر الشّام، وقصص الحبّ الأبديّة بين أبناء تلك المنطقة، فلا يوجد
جولان جبل الشيخ بلا دمشق وحوران، كما لا يوجد جولان بلا قضاء صفد، والخالصة، ولا
جولان بلا نهر الأردن، وبيسان، وعجلون، وأمّ قيْس، وسهل الحولة، وطبرية، والأغوار
الخصبة، والعكس صحيح.
ولكنّي هنا في (خيمة بعبدا) رائعة الحبّ؛ للأخ
العزيز والروائي المبدع محمد فتحي المقداد، سأتحدّث عن علاقة عائلتي بلبنان، والتي
لم ولن تنتهي، وكلّ يوم تُكتَبُ فصولها من جديد، والبعيدة كلّ البعد عن الحدود
التي فرضها المستعمرون، والسياسة وإشكالاتها التاريخيّة في تجاوز لافت، يجمع أبناء
سوريّة بأبناء لبنان.
الأسعد زعيم الجنوب بضيافة الشيخ ابراهيم عثمان السّلّوم بعد
أحداث 1860
عندما
حصلت أحداث طوشة 1860 بدمشق وجبل لبنان، توجّه قسم من أبناء الجبل إلى حيّ الميدان
الدمشقيّ طلبًا للنجدة، وهاجر أبناء راشيا، ومرجعيُون، والنبطيّة، وصيدا، وصُور،
والشّوف اللّبنانيّ إلى الجولان؛ فكانت ملجأهم من كلّ كرب.
والتقى
الشّيخ (إبراهيم بن عثمان السّلّوم) بزعيم الجنوب (كامل بيك الأسعد)
وأقام في دياره حتّى نهاية أولى الحروب الأهليّة في لبنان في القرن التاسع عشر، و
تُرجمت هذه العلاقة فيما بعد خلال قيام الثورة العربيّة الكبرى، وقيام الدّولة السّوريّة
الأولى (المملكة الفيصليّة) عام 1918-1920.
الأمير زعل السلوم أيام السفربرلك :
قام
جمال باشا السفاح بحملته الفاشلة إلى (السويس)، وأرسل عشرات الألوف إلى حروب
الأناضول، وأدت حروب الرجل المريض آنذاك الدولة العثمانيّة؛ لحصول المجاعة في بلاد
الشّام، لكن هضبة الجولان ذات الأنْهُر السّبعة، وعشرات الشّلّالات من جبلها
العملاق جبل الشيخ، الذي ترفد مياهه نهر الأردن، ونهر بانياس، ونبعها إضافة لنبعي
الدّان والحاصباني الينابيع الجُولانيّة الشهيرة.
حتّى اقتطعت فرنسا الحاصباني والدان عام
1928، وضمّتهُما إلى لبنان. كانت الجولان على الدّوام أرض الخير والمبرّة؛ فاستقبل
فيها الأمير زعل السلوم كافّة عائلات الجنوب اللُّبنانيّ، دون النّظر لطائفة أو
دين أو ملة.
وعندما حكم جمال باشا السّفاح على الأمير زعل
السلوم بالإعدام، انتقامّا لكرمه، ومروءته، ونخوته في إغاثة الملهوف من أبناء
لبنان وسوريّة وفلسطين، تمّ نقله إلى (سجن الرّملة) جنوبي بيروت وهناك تدخّل أبناء
بيروت، وبعلبك، والجنوب لإخراجه؛ فأرسلوا رجلًا بطول (الأمير زعل)، وقريب من بُنيته
الجسديّة من أبناء البقاع، وارتدى مثل زَيَه، وتم استبداله بالأمير، وعندما نُودي
على اسم (زعل السّلّوم)؛ لتنفيذ الإعدام بحقّه لم يستجب الرّجل البديل له؛ فسألوه
ألستَ الأمير زعل الّسلوم؟، قال: لا، أنتم أحضرتموني إلى هنا دون أن تطرحوا عليّ
أيّ سؤال؟؛ فأخرجوه.
الأمير زعل السلوم وحكم مرجعيون وراشيا وحاصبيا والبقاع أيام
الدولة السورية الأولى عام 1919-1920
وصلت
جيوش الثورة العربية إلى دمشق عام 1918، وبدأت فرنسا تحشد جيوشها، وتُشكّل جيش
المشرق في بيروت، وصيدا، وصور، وهنا نسّق الأمير زعل السلوم مع زعماء جبل عامل،
والعُرقوب، وصفد، والجولان، والبقاع، وحوران، وقد تعانقوا جميعًا في الجهاد على
أرض لبنان؛ لصدّ الحملات الفرنسيّة المُتوقّعة؛ فتدخل (الأمير زعل) في الشّوف،
ورفع علم الثورة العربيّة هناك، وفي جديدة مرجعيون، هزم تجريدة (ديسباس)
الفرنسي، بالتعاون مع (كامل بيك الأسعد)، والذي أحرق له الصهاينة منزله في
فلسطين فيما بعد انتقامًا، و(مُراد غُلميّة)، إضافة لزعماء الشّوف؛ بمن فيهم
الأمير (عادل أرسلان).
الأمير (زعل السلوم) الفارس الذي لا يُشقّ
له غبار، كان أبناء الجنوب اللُّبنانيّ يستقبلوه استقبال الفاتحين، وضربوا به
المثل، فبسط الأمن، ومنع النّهب، والسّرقة من حاصبيّا، مرورًا براشيّا وصولًا إلى
النبطيّة، ومرجعيون، وهونين، والخيّام؛ فلم يكن أبناء المنطقة قد تفرّقوا بعد، ولم
يكن هناك من حدود، بل وحتّى لم يعترفوا بها وقاوموها، وحتّى عندما سقطت دمشق بيد
الجنرال (غورو) في تموز يوليو 1920، وبعد موقعة ميسلون، لم يُنزِل عرب
الأمير (زعل السّلّوم) علم الثورة العربيّة من الأقضية اللّبنانيّة الأربع
إلا بنهاية آب أغسطس 1920، فقرّرت فرنسا الانتقام منه، ومن أبناء الجولان بعد أن
هزموا ستّ حملات عسكريّة لها من (ديسباس) إلى العقيد (دياجير) في
معارك (الخصّاص) و(مرجعيون) وغيرها. وحكمت عليه بالإعدام، إضافة إلى عشرين من
زعماء الجولان، وقادة ثورتها.
لكنّه رفض اللّجوء إلى شرقيّ الأردنّ، وعاد من
(سحم الجولان) وأجبر الفرنسيين على التفاوض معه، وانتزاع العفو الشامل عن
الجميع.
وفي الثورة السوريّة الكبرى عام 1925، شارك
الأمير (زعل السّلّوم) بالثورة ودعم رجالات راشيّا، وحوران، وجبل العرب،
إضافة لأبناء الجولان.
الفنان اللبناني (زعل سلّوم) وتسميته باسم الأمير (زعل السّلّوم)
ردًّا للجميل، ومحبّة واعتزاز كقريب يفخرون به:
روى
الفنان زعل سلوم حكاية اسمه على النحو الآتي :
«كان
والدي مكارياً (يملك قطيعاً من البغال) في العام 1945. حينها كانت الحرب العالمية
الثانية مندلعة، وظهرت بدايات المجاعة في بلدنا، بعد أن ضرب موسم القمح. وأثناء
رحلة لوالدي إلى حوران في سوريّا (يُسمّي أبناء الجنوب اللُّبنانيّ، كلّ من
الجولان، وحوران، وجبل العرب باسم حوران، وكذلك المؤرّخين الفرنسيّين خلال
الاحتلال؛ عندما يذكرون حوران؛ فهم يُشيرون لمحافظات درعا والقنيطرة، والسُّويْداء
بأيّامنا هذه)، رافقته والدتي، وكانت حاملاً، وفي آخر حمل ممكن لها. في ذلك الوقت
توفيّ الأمير (زعل السّلّوم) في بلدة «نوى».
قالت أمّي: «إذا أنجبت صبياً سأسُمّيه زعل سلّوم».
وكان اسمي الأوّل، واسم
الشّهرة مُتطابقين مع اسم وعائلة الأمير الرّاحل، وكلمة «زعل» كما جاء تحديدها في
«المنجد» هي أحد أسماء الحصان.
كانا
والدا الفنان اللُّبنانيّ (زعل سلّوم) كبيرين بالعمر، وكانت أراضي بيت السّلّوم في
قرية (مُويسة) الجولانيّة؛ أرض مبرّة حيث يفلح ويزرع ويرعى فيها كلّ محتاج، وبحماية
الأمير زعل السلوم؛ فزرعوا بأراضيه وفلحوا، والمؤكّد أن الفنان (زعل سلّوم) بالكاد
يتذكر تلك القصّة لكن علاقة الأمير (زعل السّلّوم) بـ(فريد الأطرش) و(أسمهان)، هو
أن أسمهان لجأت للجولان خلال مُلاحقة الفرنسيّين لها، وتمّ إخفاؤها في عمرة (الفاعور)
المقابلة لـ(عمرة السّلّوم) في (واسط) بالجولان وبقيت شهرًا فيها، و(الفاعور)
هم أصهار (السلوم) وأنسباؤهم، قبل تهريبها لفلسطين، فضلًا عن العلاقة
المتينة بين آل السلوم، وآل الأطرش، وتحالفهما ضدّ الفرنسيّين.
أما بلدة (نوى) التي توفي فيها جدي
الأمير (زعل السّلّوم)، كما يُشير الفنّان في حكايته، أو كانا فيها والديْه؛ فسمعا
بوفاته آنذاك، فلم تكن (نوى) مكان
سكنه، وكان الأمير (زعل) قد شارك أبناء حوران في الاجتماعات الوطنيّة، ووقّع
البيانات خلال مقارعة المستعمر الفرنسيّ، وبالتنسيق مع أبناء لبنان وفلسطين
والأردنّ، وكذلك شاركهم المعارك، وشاركوه معارك الأقضية الأربعة في الجنوب اللُّبنانيّ
والبقاع. وكان نبأ وفاته حادثة وطنيّة في التّاريخ السّوريّ؛ بل وكافّة بلاد الشّام،
وتمّ نقل جثمانه إلى الجامع الأمويّ في دمشق، ومن ثم دُفن في قريته (مويسة) في
الجولان؛ ليتحوّل إلى رمز عربيّ في الفروسيّة، والنخوة، والكرم، والمروءة.
و
توفي الفنّان (زعل سلّوم) في 7 تشرين الأول أكتوبر 1996؛ ليتحول إلى رمز لُبنانيّ،
واسم كبير في مسيرة الفنّ العربيّ عامةّ، واللُّبنانيّ خاصّة.
اليوم أفتخر بتواصلي مع زوجة الفنان الراحل
وابنه (سعد سلوم وايهاب)، وأتمنى أن أقيم له معرض صور في (اسطنبول)
التي أقيم فيها حالياً.
هذا اللّقاء التّاريخيّ الجميل، وتلك المفارقة
البديعة بين أمير سُوريّ، وفنّان لُبنانيّ، تقاسما ذات الاسم، وأخذا نصيبهما من
الصّيت؛ وكأن حالهما يقول هذه سوريّة، وتلكم لبنان.
أقاربنا السلوم في
زحلة، وتعلبايا وحكايات متفرقة :
ولا
أنسى أن أضيف أقاربنا السّلوم في (زحلة) و(تعلبايا)، الذين تعرّفت إليهم بعد وفاة
جدّي الأمير (عدنان زعل السّلّوم) شيخ العجارمة في الجولان عام 1995، عندما زارنا
بالعزاء أقاربنا السّلّوم اللُّبنانيّين هناك، والذين لم ينقطعوا عنّا لا في
الأفراح ولا الأتراح، وقد زارهم والدي الشيخ (زعل ناصر السّلوم) في زحلة وبيروت؛
فاستقبلوه بذات المحبّة، التي كانوا يستقبلون فيها أبناء عمومتهم قبل عشرات السّنين.
لم ننقطع عن لبنان رغم (سايكس بيكو)، كما لم
ينقطعوا عنّا رغم تفرّقنا في مشارق الأرض ومغاربها، واستمرّ اللّقاء عبر شبكات
التواصل الاجتماعي بلا توقف.
وفي عام 1941 عندما أحرق الإنكليز بيت السلوم
وقريتهم مويسة بالجولان؛ ردًّا على عمل بُطولّي لجَديّ الأمير (عدنان وناصر)
أذلّا فيه الدّولة العظمى في القنيطرة، طالب والدهما الأمير (زعل السّلّوم)
عبر بيروت القنصليّة البريطانيّة بالاعتذار عن فعلتها، والتعويض عمّا قامت به من
إجرام.
وفي عام 1947 رشّح أبناء الجولان الأمير (عادل
أرسلان) نائبًا عن الجولان في مجلس النواب، وهو أحد أشهر زعماء جبل لبنان، وقد
دعمه جدّي الأمير (عدنان زعل السّلّوم)؛ فحصد
أكبر عدد من الأصوات في الجولان؛ لينال في 8 تموز يوليو 1947 (8087 صوت من أصل
8180 مقترع)، والذي أصبح نائب رئيس وزراء سوريّة، ووزير للخارجيّة، ورئيس الوفد
السّوريّ للأمم المتّحدة في عهد الرّئيس (حسني الزعيم) عام 1949. وهو الأخ الأكبر
للأميريْن (شكيب ونسيب أرسلان)، ويُعدّ سياسيًّ سوريًّا من مواليد بيروت، وأديب
وشاعر وثائر.
وعندما كان قائمقام الشّوف بتعيين الدّولة
العثمانيّة عام 1915، كان حليف الأميران (زعل السّلوم) و(محمود الفاعور)
بالجولان. وتولى العديد من الوزارات في سوريّة بعد استقلالها كوزير للمعارف والصحّة
والشّؤون الاجتماعيّة، ووزيرًا للدّفاع عام 1948، والخارجيّة عام 1949. وبعد الإطاحة
بـ(حسني الزعيم) عاد لبيروت، واعتزل العمل السياسيّ حتّى وفاته 1954.
وفي عام 1949 استمرّ العناق اللُّبنانيّ السّوريّ
عبر خط التابلاين الذي مرّ بأرض حوران، والجولان وصولًا إلى صيدا اللُّبنانيّة،
وكان جَدّيّ الأمير (عدنان) والأمير (ناصر)، والمهندس (هشام العاص)
و(شاكر العرقاوي) زعيم بانياس الدَّوْر الأبرز فيه. لما نتج عنه من خير
وفير، ونقل النّفط العربي من الأرض العربيّة إلى الأرض العربيّة، وكأنّ شعار نفط
العرب للعرب؛ سبق حرب 1973 بسنوات طويلة.
لا تنتهي حكاية الجولان السّوريّ وأبنائه مع
لبنان، وكذلك كامل الحكاية السّوريّة اللُّبنانيّة، فقد سقط على أرض بيروت عام
1982، وخلال الاجتياح الإسرائيليّ الشّهيد (فايز شنوان السّلّوم) وروّى
بدمائه تلك الأرض، وكم تطوّع من أقاربي لمواجهة إسرائيل في الجولان ولبنان.
وكم افتخرتُ بتقرير تلفزيون (إل بي سي)؛ عندما
تحدّث عن عشائر لبنان، واستخدم صور أجدادي فيه عام 2012.
ومرّات ومرّات وجدتّ أسماء أجدادي في كتب
تاريخ الجنوب اللُّبنانيّ، والثورة العربيّة، ومرجعيون، وحاصبيّا، وراشيّا، وجبل
عامل. ممّا يؤكّد مرارّا وتكرارّا أنّ تاريخنا واحد، ومصيرنا مشترك، ولن تُباعدنا
شعوذات السّياسة.
وبعد عام 2013، ومجزرة (جديدة الفضل)، توجّه
عمّي وعائلته وأبنائه إلى صيدا جنوبي لبنان، وتابع أبناء عمّي دراساتهم بالجامعة
الأمريكيّة في بيروت بتفوّق.
وأذكر
عام 2006 في حرب لبنان؛ عندما لجأ إلينا أهلنا الُّلبنانيّين؛ فتقاسموا مع أهلنا
المسكن والمأكل والمشرب.
كما
لا أنسى صديقي (عصام الحاج) مذيع محطّة (مونت كارلو) في باريس،
عندما كنتُ النّاطق الرّسميّ لنادي سوريا بتلك الإذاعة الشّهيرة العام 2007.
استمرت تلك الصداقة الجميلة إلى يومنا هذا.
وكنّا على وشك كتابة مسرحيّة مُشتركة، وكان المقترح آنذاك تسميتها (قُبيل
الذهاب للسّماء)، وكأنّ السّماء اللُّبنانيّة السّوريّة تَئِنّان تحت ذات
الألم، وتعيشان ذات السّعادة، وتتشاركان ذات الماء والهواء والمطر؛ فعندما تبكيان؛
فإنهما تبكيان معّا، وعندما تضحكان؛ فضحكتهما واحدة.
حتّى (جبل الشيخ)؛ نتشاركه فمن هذه الجهة هو سوريّ،
ومن المقابِلة لُبنانيّ؛ فذات الشّعب، وذات الأقارب، وذات الجبل.
ولا أنسى مُعلّمتي الإسبانيّة (فيكتوريا
خريشة) وتعني بالإسبانيّة (كرايشي) والدها لبنانيّ من جنوب لبنان من (عين
إبل)، إن لم تخني ذاكرتي، وأصل عائلة أبيها مسيحية أصلها من حوران؛ فمعظم مسيحيي
الجنوب يعودون في أصولهم إلى حوران السّوريّة في (إزرع وبصرى وصَمّة) وغيرها.
وعندما حصلت حرب تموز 2006، ودمّرت إسرائيل في
عدوانها الكثير في المدن والقرى اللُّبنانيّة، وكانت (فيكتوريا) في لبنان لجأت مثل
معظم الأوروبيين في بيروت وغيرها إلى الشّام.
ولا أنسى مديرة المركز التربويّ الفرنسيّ في
مدرسة (اللّايّيك)، وهي من أصل لبناني نزحت إلى الشّام عام 1982؛ فأصبحت
استشاريّة أولى، ومُوجّهة تربويّة للّغة الفرنسيّة في وزارة التربية السّوريّة،
وتدير مكتبة (السي دي بي) في اللّايّيك عند شارع بغداد بدمشق.
في
الختام لازلت ممن لا يؤمنون بـ(سايكس بيكو) ولا أعترفُ بها، وأعتقدُ ليس لبنان
وسوريّة وطن واحد، بل أرى العالم أجمع وطن واحد.
***
فلسطين:
رؤية
الكاتب محمد موسى العويسات. فلسطين.
من هنا و هناك نحن جميع... هناك ما يستحقّ
الاعتذار... هناك ما يستحقّ العفو والصّفح الجميل... من كلّ الأنحاء جاءت الأخطاء
والخطايا... حتى كادت أن تغيّر وجه الشّام، بل هناك ملامح طُمِسَت، هناك معالم
دُفِنَت... هناك من حاول أن يصنع تاريخًا مختلفًا... هناك الكثير ليقال... هناك
ذاكرة يجب أن يُحطّمها النّسيان.
قبل هذا وذاك لا بدّ أن نعترف أنّ هناك عويلا
وبكاء ودموعا وجراحا ما زالت تسكن الأرض والإنسان... هناك خيمة أخرى هي أقسى
وأمرّ... هناك حبّ يُقتل كلّما أطلّ برأسه من هذا الرّكام، لا يراد له أن يتنسّم
هواء الجبل والوادي والصحراء والشّاطئ، لا يراد له أن يمدّ يده؛ ليتناوش قبسة من
الضياء من ثنايا الضّباب... من أراد هذا بالشّام؟. من جعل من الشّام قبائل وشعوبّا
وطوائف وإثنيّات، من زرع الحقول قنابل، من مدّ الأسلاك بين الدّار والدّار، وبين
الجار والجار، وبين الأخ والأخ، من زيّف التاريخ، وقتل الماضي المسكون بالحبّ
والحياة، من حرّف لغة اللّقاء ليكون عقيمًا.
سؤال يلحّ على البوح، لا تقتلوه بحجّة أنّ
الجواب سياسة، بل استجمعوا كلّ شجاعتكم، وقولوا نحن ضحايا، كلّنا ضحايا، القاتل
والمقتول، الحالّ والرّاحل، الغنيّ والفقير... كلّ منّا يكتُم شيئًا من الحقيقة،
كلّ منّا يتّخذ من اللّيل والغفلة والجُرح ستارًا؛ ليقول: لا، نحن خلقنا هكذا؛
ليكون البقاء للأقوى، كلّ منّا ينتظر دورة للتّاريخ؛ ليكون هو الغالب وغيره
المسحوق... إذن قد أخطأنا في الحسابات، أو هناك من صنع لنا حساباتنا من أجل
حساباته... لم تكن أكثر من شام... لم تكن الشّام أربعًا ولا ثلاثًا ولا اثنتين.
كنتُ يومًا في عمّان؛ فوصف لي دواء من
العسل... قال الطبيب:
-"هو
في حوران".
-فقلت:
"وكيف أصل حوران، وأنا لا أملك جواز سفر؟".
-قال
لي في استغراب: "وما حاجتُك لجواز السفر؟ فالوصول لإربد لا يحتاج جواز سفر".
أدركت أنّ حوران مقسّمة، وهي أوسع من رسم على
خريطة، وكان الأعجب ألُا يكون المطلوب هناك.
-فقال
لي العطّار: "ذاك في الشّام. ألسنا في الشام؟".
-قال،
وكان قد عرف أنّي من القدس: "بلى، أيّها الشّامي، الشّام عندنا هي دمشق".
تذكّرتُ أنّني وقعتُ في المجاز، إذ يرسل
المجاز،، ليطلق اسم الكلّ على الجزء، كما يُطلق أهل فلسطين الجزء (عمّان) على
الكلّ (الأردن).
تذكرت جدّي الذي ولد في العقد الأخير من القرن
التاسع عشر، وتوفّي قُبيل نهاية العقد التّاسع من القرن العشرين، كان لا يعرف
لبنان إلا ببيروت... كان يروي حكايات ومغامرات في دمشق، وبيروت، وعمّان، وكأنّه
يتحدّث عن القدس... كان يحلّق بي في بلاد واحدة بلا حدود ولا اختلاف.
فهذا شركسيٌّ في عمّان... وذاك أرمنيٌّ في بيت
المقدس... وهناك طبيب سريانيّ في بيروت... وهناك تاجر من السُّويداء... وهناك
قافلة من معان تجاوزت الشّريعة تقصد التَّرابِين في بئر السّبع... ومن القدس إلى
يافا طريق برّيّ... ومن الميناء تُبحر لتستجمّ في حيفا... ومن حيفا إلى بيروت، حيث
يسكن الجمال، ويستكنّ الأمن والسلم... ومنها إلى دمشق، يا ولدي... وإلى الجولان،
ومنها جلبنا قطيع غنم... هذا القطيع من سلالته... ومن هناك يا جدّي من حلب شيخ
اسمه القسّام... شدّ الرّحال مجاهدًا.
-ليقول:
"العدوّ الأوّل هم هؤلاء الذين رسموا الحدود، وجاؤوا بالرّايات، وكانوا من
قبل قد أشعلوا الفتن في الوهاد والجبال في القرى والمدن والبوادي... فكان شهيدا في
مدينة جنين".
ومات جدّي دون أن يعترف بحدود، ولا بقسمة
الطّوائف... وشرقيّ المدينة؛ فيما يعرف ببادية القدس؛ حيث عاش جدّي شاميًّا...
يندفع منها جبل شرقيّ في خطّ مستقيم...
ليكون في جنوبه الوادي، الذي يمتدّ من القدس، ليصبّ شتاء في البحر الميّت، وفي هذا
الوادي في ملتقاه بالجبل هناك؛ هزّت مريم عليها السّلام جذع النّخلة، وجرى من
تحتها سريّ؛ لتأكل وتشرب وتقرّ عينًا... هناك تكلّم المسيح في مهده... ومن قمّة الجبل
تطلّ على ذلك المكان في منحدره... ومن القمّة عينها تطلّ على البحر الميّت تتبّعه
جنوبًا؛ لتبلغ الكَرَك دون عناء، وتضطرّك الكركُ؛ لتطالع قسيمتها الغربيّة مدينة
الخليل... تدور غربّا؛ لتطالعك بيت لحم والقدس... لتعانق السّور والمسرى...
وتتقدّم شمالًا؛ لتجد مُنحدرات جبال رام الله الشّرقيّة، تشير إليك أن أنظر في
شمالك الشرقيّ... هناك جبال تختفي وراءها عمّان... وهناك السّلط، وعجلون لا تَخفيان
على عينيْن مُجرّدتيْن... وشمالًا حيث تجبهك هضبة من الضّباب فتحوجك إلى منظار...
إنّها هضبة الجولان... وذاك المنخفض حيث تجثم في جنوبه الغربيّ مدينة إربد عروس
حوران.
غريب شأنك أيّها البدويّ القرويّ المدنيّ،
المقدسيّ الشّاميّ، أكلّ هذا من جبل (المنطار) الذي لا يبعد عن القدس سوى عشر
كيلومترات؟.
إذن جبل لبنان ليس بعيدا، ودمشق أدنى من
الشّفة إلى اللّسان... اعذرني؛ فتلك الجغرافيا تأخذني، كما يأخذني التّاريخ، إلى
حقيقة واحدة أنّ كلّ الفوارق بين النّاس في هذه البلاد الواحدة مُزيّفة مُصطنعة؛
كما زُيّف التاريخ وزُيّفت الجغرافيا... في ثنايا التّاريخ والجغرافيا، وفي قلوب
النّاس شيء واحد هو العيش في أمن ومحبّة، والحرب والقتل وشهوة الانتقام عابرة
مُجتثّة ما لها من قرار... عفوًا، ما زالت السّياسة تُخالط كلّ شيء... والمؤامرة
تسكن العقول... وإلّا لأُخذَ شعار:
(اكشفوا
عنّا الضباب الآتي من وراء البحار، الذي حجب الضّياء، وأمطر الشّام بالكُرْه
والدّماء).
نظرتُ من الجولان... فرسمتُ بالبصر دائرة...
فوقع على زرقاء اليمامة تُحلّق، لتقول:
-"هناك
جيش من الأمل والمستقبل الجميل يتقدّم... من حيث لا نحتسب لترمّم بوابة الحبّ في
بصرى الشام... هناك غراب واحد... وهناك أسراب من حمام... كلّ هذا لتكون الخيمة غير الخيمة".
ولدتُ
في الشام مدينة الياسمين، والشمس.. مَهْدِي الأوّل كان دفء أرضها ودثاري كان سقف
سمائها، لم أشعر يومًا أنّني غريبة أو أعامل بطريقة غير لائقة.
كنتُ أحمل وثيقة سفر َحُرمنا من أن نحصل على
جواز سفر.. على رأيهم لرفض التوطين.
كان الأمر مقبولًا لأننا لم نشعر بالفرق إلّا
عندما كنّا نغادر سوريّة بحرماننا من التجوّل، أو زيارة أيّ بلد عربي، إلّا
(بفيزا)، وألف معاملة مع الحرمان من الدّخول إلى كثير من البلاد.
لكن للأسف في لبنان؛ هناك لغطٌ كبير بين رفض
التوطين مُطلقاً، وبين حرمان الفلسطينيّين من حقوقهم المدنيّة، والسياسيّة
والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، بالرغم من موافقة لبنان على معظم بنود
الدار البيضاء عام 1965.
والذي ينص على ضرورة معاملة الفلسطينيّين في
الدُّول العربيّة التي يقيمون فيها معاملة شعوبهم في إقامتهم وسفرهم، وتوفير العمل
الكريم لهم، مع احتفاظهم بالجنسيّة الفلسطينيّة؛ فقد بقي اللّاجئون الفلسطينيّون
في لبنان، يُعامَلون كأجانب محرومين من أبسط الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدوليّة
من حيث العمل والملكيّة، وما يتفرّع عنهما من حقوق كثيرة، ورغم أنّ لبنان قد أكّد
في مقدّمة دُستوره على احترامه للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، والقانون الدوليّ
لحقوق الإنسان.
إلّا
أنّ واقع الحال؛ يشير بخلاف ذلك، وهذا ما لم نشعر به في سوريّة أو الأردنّ. ناهيك عن المخيّمات التي يعيش فيها
الفلسطينيّين، بظروف أسوأ من السيّئة،
وضوابط مفروضة على حركتهم، وعلى ظروفهم
المعيشيّة الرّاهنة والمستقبليّة.
كما
أنّ حريّة الحركة في مُخيّم عين الحلوة، والميّة وميّة، ليست مُتاحة بشكل طبيعيّ.
أما مخيّم نهر البارد المُدمّر. حريّة الحركة
فيه مُقيّدة إلى أبعد حد. ومن جهة أخرى، يُقيّد لبنان على الفلسطيني حقّه في التملّك،
بل منعهُ منعًا كاملًا من التملك.
كان
دخولنا إلى لبنان شبه مستحيل، تدخل حدودها فتعامل بطريقة غريبة مستهجنة، ننظر إليهم بعيون حائرة، ليس للأسئلة
إجابات. وقلوب دامية ليس لنزفها نهاية. أرواحنا موقوفة على ناصية سفر والسّؤال..
ما جنسيّتك؟.
ووجع الغربة.. لا يطيل الغناء.. أهمسُ:
فلسطينيّة.. (خارطة قلبي.. نسيتها هناك في الشام).
أعامل
بغرابة.. (أينما كنتُ).
يا
أخي اللّبنانيّ: "كم أنت قاسٍ (بحجم ما أُقاسي).
فلسطينيّ
اسم غريب.. واحتمال الجنون قائم بحذر.
***
الأردن:
رؤية: محمد مدالله العساسفة. الأردن
السياسيّون
لا يتوضّؤون بماء الحب، ولا يغتسلون بماء المطر؛ فما زال (ميكافيلّلي) يحكم
العالم من قبره, فكلّ حاكم يضع تحت وسادته نسخة من مؤلّفَه الشّهير (الأمير),
مات (ميكافيلّلي)، وخلّد الحُكّام من بعده مقولته الشهيرة: (الغاية تبرر
الوسيلة)؛ فأيّة غاية في ذهن الحاكم، تُبرّر أيّة وسيلة في ذهن الحاكم؟.
إذا ما علمنا أنّ السياسة لا تحتكم إلى الأخلاق,
فما زال رائد المدرسة الواقعيّة وزير خارجيّة أمريكا الأسبق (هنري كيسنجر)
يقول: (يجب عدم إدخال الأيديولوجيا في السياسة).
ولكن السّؤال لماذا؟. أعتقدُ، وبكُلّ بساطة؛ أنّ
أيّة أيديولوجيا تحمل في طيّاتها الحدّ الادنى من الأخلاق.
عوْدًا على (ميكافيلّلي), فما غاية كلّ
الحكّام ؟. أيضًا، وبكلّ بساطة البقاء في سدّة الحكم؛ فيُطوّع كلّ اللّغات،
والمصطلحات، وتبرير الفشل, على أنّه مُقدّمة لانتصار قادم؛ كدرسٍ مُستقًى من
المسيرة, وإسقاط الفشل على الغير، وبراءة السّلطان من كلّ عيْب. غاية
البقاء تجيز وسيلة الكذب والتدليس.
مُخطىء من يعتقدُ أنّنا دُوَل, وأنّنا وصلنا إلى
مرحلة الدّولة الحديثة, القائمة على دولة القانون، والمؤسّسات التي تلجم شَطَط
الحاكم، وتكون فاعلة في صنع القرار، وفي تنفيذه.
أعتقدُ أنّنا مازلنا في أدنى درجات السُّلّم؛
فنحن نحتكم إلى فلسفة الحكم الأبويّ, حكم شيخ القبيلة الآمِر النّاهي، والذي تُطوّع
له كلّ المؤسّسات؛ فلا صوت يعلو صوت الحاكم، ولو كان خافتًا.
الإشكال الحقيقيّ. كيف ينظر كلّ حاكم إلى
موقعه، وإلى مَنْ حَوْله؟.
حاكم مصر؛ يرى أنّه وريث عَرَاقَة حُكم
الفراعنة، وامتدادهم، ونجدُ ذلك في ثقافتهم، ونلمسه في خطابتهم.
أمّا حاكم العراق؛ فيرى أنه يجلس على كرسيّ ذي
قار والعباسيّين.
أمّا حاكم سوريّا؛ فيرى أنّه يجلس على كرسيّ
الزّبّاء، والأمويّين.
أمّا السّعودية؛ فعندهم الحَرَمان والحجّ, أضف
إلى ذلك كلّه. ما تمتلك حدود كلّ حاكم من ثروات طبيعيّة.
ولّدت تلك المميّزات نظرة فوقيّة لا تقبل
الشراكة، بل تقبل البُغض، وتزرع الكُرهَ.
فحاكم مصر، ما زال يرى أنّ السّودان؛ وبالرغم
من انفصاله جزءًا من مصر, حاكم العراق؛ ما زال يرى أنّ الكويت جزءًا من العراق,
وحاكم سوريّا ما زال يرى أنّه وريث سوريّا الطبيعيّة "سوريّا الحاليّة والأردن ولبنان".
كلّ هؤلاء الحكّام جاؤوا بخطّ قلمٍ مخمورٍ؛
رسم حدودًا عوجاء, وأهل الحدود غائبون مُغيّبون. قال الفنّان الرّسّام: "بين
كلّ خطّ وخطّ.. غيرُنا يحكم عنّا"؛ فلا أعتقدُ أنّ الرّسّام أراد لنا خيرًا،
لا من الخطّ، ولا من الحاكم.
بين خطوط (سايكس بيكو) ثلاث ثقافات:
ثقافة السّلطة
الحاكمة, ثقافة النّخَب, ثقافة العامّة. ثقافة السّلطة الحاكمة؛ كما أسلفنا مُهتّمة
بالبقاء، بغض النظر عن نظافة, أو عدم نظافة الوسيلة.
ولكنها تطرح بيْن الفيْنة والفيْنة: شعار
الوحدة العربيّة. وأقلّها اتّفاق ما يُسمّى بالنّظام العربيّ. وثقافة النُّخَب مُهتّمة أوّلًا بالبقاء خوفًا
من بطش السّلطة الحاكمة، وترفع شعارات الدّولة المدنيّة والتعدديّة, والمشاركة
السياسيّة، وأحيانًا شعارات الوحدة العربيّة, ولكنّها غير مدعومة من العامّة، أو
ما يُطلق عليهم الأغلبية الصّامتة, لكن هذه النُّخَب ذاتها مُشتّتة فكريًّا، وبالنتيجة
مُشتّتة قولًا وفعلًا.
أمّا ثقافتنا نحن العامّة، أيضًا مُهتّمة
بالبقاء، وبرضى السّلطة الحاكمة خوفًا من أدوات السّلطة. بالنّتيجة مُجتمعات مُفكّكة
ثقافيًّا، والكُلّ يتّهم الكُلّ.
لكن هذا التباين الثقافي؛ أوجد أنظمة مُستقرّة
إلى حدّ ما, لأنّ الكُلّ مُضطّر إلى قبول الآخر
خوفًا من المجهول.
فقد تأسّست ثقافات قُطريّة رابعة، تُميّز طابع
كلّ قطر عن الآخر, والكلّ يخاف من دخول ثقافة قطر آخر.
فالسّلطة الحاكمة تخاف من الثقافات القُطريّة الأخرى؛
خوفًا على وجودها, والعامّة يخافون ثقافات لم يعتادوا عليها، ويعتبرونها من
المجهول. أمّا النّخَب؛ فهي تائهة بين الأنظمة القُطريّة، وبين الأغلبيّات
الصامتة.
السّلطات الحاكمة في الوطن العربيّ، تدّعي وصلًا
بالوحدة العربيّة، والنُّخَب العربيّة، ترفع شعار الوحدة العربية, لكنّ السّؤال:
"من يمنع الوحدة العربية؟".
قد أكون أنا,
أو أيّ أحد غيري, أو كُلّنا, أنا, وأنت, وهو, وهي, وهم, وهن, ما نُسمّى بالأغلبية
الصّامتة؛ فقال السّادة الحُكّام: إنّ الشّعوب لم ترتق بعدُ إلى ممارسة الدّيمقراطيّة,
غريب كيف يقبلون على أنفسهم ان يحكموا شعوبًا مُتخلّفة؟. انحدار في الثّقة، وفي
العلاقة, أكيد.. سيولد كُرهًا وحقدًا.
إن هذا التباين الثقافي القطريّ؛ أنْبَت كُرهًا
داخليًّا على مستويات الثقافة الثلاث آنفة الذّكر, ولا أدلّ على ذلك من الرّبيع
العربيّ الدمويّ. الذي أسفر أيضًا عن اقتتال بين مُكوّنات المجتمعات العربيّة.
(خيمة في قصر بعبدا)
كلّ هذه
المتناقضات، والكراهات قرّرت في القمّة العربيّة المشلولة سنة 1976 المنعقدة في
الرياض، والتي حَضَرتها فقط ستّ دُوَل من المجموع العام للدُّول العربيّة. قرّروا زرع
وتد خيمة في قصر بعبدا اللُّبنانيّ.
لكنّ السّؤال: ما هي البيئة اللّبنانيّة
الحاضنة لذلك الوتد؟.
بُنِي النّظام
السياسيّ اللُّبنانيّ على أساس المُحاصصة الطائفيّة, وبنوا نظامًا مُستقرًّا لا بل،
ومن أكثر الأنظمة العربيّة استقرارًا, وكان لبنان قدوة في الدّيمقراطيّة في الوطن
العربي، وكنّا نعتبره من أكثر المجتمعات العربيّة وداعة؛ فالكتاب الذي لا يُطبع في
أيّة دولة عربيّة؛ يطبع في لبنان، وبأقل التكاليف. والهاربون من أنظمتهم السياسيّة؛
يلجؤون إلى لبنان.
فكان الشّعب اللّبنانيّ مُرتاحًا لبنيته
السياسيّة، وبحكم الجغرافيا السياسيّة؛ كان النّظام السوريّ، أيضًا مُطمئِنًا للنّظام
اللّبنانيّ، ولاستقراره السياسيّ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ النظام اللّبنانيّ،
كان يأخذ بعين الاعتبار وجهة النظر السوريّة، فيما يخصّ القرار السياسيّ الخارجيّ,
وقد يستمزج النّظام السوريّ في الشخصيّات التي تتقدّم للمواقع السياديّة اللّبنانيّة.
لكنّ الطّفرات السياسيّة غالبًا ما تُحوّل
الاستقرار إلى هشاشة وقد تنفجر الهشاشة إلى احتراب.
أكبر طفرة حدثت للمجتمع اللّبنانيّ، كانت هجرة
فصائل المقاومة الفلسطينيّة القسريّة من الأردن إلى لبنان بكلّ جِراحاتها, وقد رُحّلت
ترانزيت عبر الأراضي السورية، فلم يسمح لهم، ولو بلملمة جِراحاتهم داخل الأراضي
العربيّة السّوريّة.
وجدت فصائل المقاومة بيئة خصبة في لبنان؛ لتُمارس
نشاطاتها في تعبئة مخيّمات اللّجوء الفلسطينيّ, وعند بعض الأحزاب السياسيّة اللّبنانيّة،
التي لم تكن مُقتنعة بالنظام الطائفيّ اللبنانيّ, وأعني هنا ما كان يُسمّى
بالتقدميّين منهم: الحزب الشيوعيّ اللّبنانيّ. الحزب التقدمي الاشتراكي, الحزب
القوميّ السوريّ الاجتماعيّ, حركة النّاصريّين المُستقلّين (المرابطون).
ثورة, ومقاومة, وسلاح, وتقدميّة, وأمل في
التغيير الدّاخليّ اللّبنانيّ, وشعار عظيم تهفو إليه القلوب والعقول (شعار
التحرير من البحر إلى النهر). شكّلت جبهة قويّة هدّدت مكتسبات بعض مكوّنات الشّعب
اللّبنانيّ, وبدون مُواربة هدّدت مُكتسبات الطائفة المسيحيّة في رئاسة الدّولة،
وبعض المواقع السياديّة الأخرى مثل قيادة الجيش اللّبنانيّ.
لكن تلك
الجبهة؛ كانت غير مُنضبطة بالقوانين اللّبنانيّة, فأسّست لحالة من الفوضى، والشّكّ
والتململ الدّاخليّ, انفجرت كلها في عيْن الرّمّانة سنة 1975؛ فكانت موقعة عيْن
الرّمّانة القشّة التي قصمت السُّلّم المجتمعي اللّبنانيّ؛ وولّدت مُجتمعًا مُتناحرًا
.
لا أعتقد أنّ الحرب كانت طائفيّة، يعني مسلم
ومسيحي, إنّما كانت حرب وجود، وحرب على مُكتسبات السُّلطة.
فالمقاومة الفلسطينيّة؛ كانت تسعى، ومن خلال
حلفائها من الأحزاب اللّبنانيّة إلى خلق نظام سياسيّ لُبنانيّ جديد. تتحالف معه من
أجل استمرارها، وضمان بقائها على الأراضي اللُّبنانيّة, والأحزاب اللُّبنانيّة
تسعى لتغيير بُنية النظام السياسيّ اللُّبنانيّ بالاتّكاء على قوّة المقاومة
الفلسطينيّة العسكرية.
والقوى اللُّبنانيّة الأخرى المناهضة لوجود
المقاومة الفلسطينيّة تسعى للحفاظ على ذاتها، وعلى مُكتسباتها. بدأت حرب الوجود
بين الطرفين، بدأ الكره الُمجتمعيّ يغزو المجتمع اللّبنانيّ الوَادِع.
لم يكن الصراع اللُّبنانيّ فقط بين الأحلاف
المُتنازعة, إنّما كان الصراع داخل نفس الحلف الواحد، كانت تحدُث مواجهات دمويّة؛
فكم حصل من الاقتتال بين الميليشيات المسيحيّة, وكم جرى من الاشتباكات الدمويّة
داخل حلف القوى الوطنيّة اللُّبنانيّة، والفصائل الفلسطينيّة.
ما زال مُخيّم تلّ الزعتر البالغ سكانه وقتها
60000 أُبيد منهم من أبيد, وهُجّر النّاجون إلى الدّامور، ما زالت مأساة ذلك المُخيّم شاهدًا مُؤلمًا على تلك الحرب.
ولا يفوتنا هنا أنّ الحرب الأهليّة في أيّ
مكان على هذه الأرض تُعدّ مرتعًا خصبًا، ومُغريًا لكُلّ الاستخبارات العالميّة.
جاءت
قوّات الرّدع العربيّة على مجتمع مُهشّم، ودولة مُتهالكة, وبرؤية وثقافة مختلفتين.
جاءت قوّات الرّدع التي تحمل ثقافة الزبّاء، والأمويّين،
والوصاية على سوريّا الطبيعيّة, وتحمل رُؤيتها الخاصّة فيما يخصّ جميع المُتصارعين
في لبنان .
جاءت قوات الردع لتُقيم ثقافتها من خلال
رؤيتها، ومصلحتها عند الأطراف المتنازعة.
ترى قوّات الرّدع أنّ النّظام الطائفيّ اللُّبنانيّ
جيّد, ومريح بالنسبة لها، ومضمون حسب التجربة السابقة، ويُبقي الدّولة اللُّبنانيّة
ضمن فَلَك الدّولة السّوريّة.
ترى قُوّات الرّدع أنّ وجود المقاومة الفلسطينيّة
ورقة رابحة في يدها, لأنّ مُنظمّة التحرير الفلسطينيّة، كانت الورقة الرابحة في يد
أيّ نظام عربيّ، ومُعزّزة لشرعيّة ذلك النّظام على المستوى العربيّ؛ فمن غير المعقول،
أن تقوم دولة تحمل لواء التّصدّي للغزو الإمبرياليّ، والصُّهيونيّ؛ بإعدام مُمثّل
الشّعب الفلسطينيّ المُهجّر، وأن تحرق بيدها ورقتها العربيّة.
بين هاتين الرُّؤيتيْن، وبين مصالح العسكر
الشخصيّة؛ جَثَمَت قُوّات الرّدع على صدور اللُّبنانيّين، وأسّست دولتها المُوازية
إن صحّ التّعبير في (عَنجر).
مالت كفّة الحرب الأهليّة مَرّات للمقاومة، وأحلافها,
ومَرّات للكتائب، وأحلافها, وكلّما مالت كفّة عَدّلتها قُوّات الرّدع العربيّة.
تارة تقف ضدّ المُقاومة؛ كيلا تُسقط النّظام
اللُّبنانيّ, وتارة تجدها في صفّ المُقاومة؛ كيلا تطير ورقتها الرّابحة مع الرّيح.
قوّات الرّدع، لم تقم بواجبها العسكريّ الذي
جاءت من أجله؛ فلم تُنْهِ الحرب, ولم تردع إلّا بالقدر الذي يُحافظ على مصالح
دولتها. هنا فقدت قُوّات الرّدع شرعيّة وجودها؛ لأنّها فقدت المُبرّر.
مكثت قوات الرّدع في لبنان منذ 1976، ولغاية
2005 عندما خرج (غازي كنعان) من عاصمته (عنجر) على إثر اغتيال الرّئيس
(رفيق الحريري).
لكن.. أين كانت تعمل قُوّات الرّدع؟.
استباحت قُوّات الرّدع جُغرافيا الدّولة اللُّبنانيّة,
استباحت الموانئ والمطارات، والتجارة، وورقة النّقد اللُّبنانيّة. اشتغلت في
التجارة. اشتغلت في كلّ ما هو ممنوع في الدّولة السّوريّة، ولم يعُد للدّولة اللُّبنانيّة
حدود من الجهة الشّرقيّة، بل معابر غير شرعيّة لقوّات الرّدع.
فأين هو السلم الذي أحضرته معها قوّات الرّدع؟.
غزا الكيان الصُّهيونيّ لبنان سنة 1978، حتّى
وصل اللّيطاني، ولم تردعه قُوّات الرّدع, وغزا الكيان الصُّهيونيّ لبنان، واجْتاحه
من جنوبه إلى شماله، وحاصر بيروت 89 ليلة، ولم تردعه قُوّات الرّدع.
في الخاتمة.. لن يتحقّق السّلم الُمجتمعيّ
بالعسكر, وإنما بتجديد النظام السياسيّ، اعتمادًا على الخيارات الشّعبيّة، ومخرجات
صناديق الاقتراع.
يتحقّق فقط؛ عندما يكون النّظام السياسيّ نتاج
ثقافة المجتمع. قالت العرب: (رُبّ أخ لكَ.. لم تَلِده أمّك). محمد فتحي
المقداد أخي الذي لم تلده أمّي، وربّما يا أخي أن تكون علاقتي بك نموذجًا يتخطّى
كلّ السّياسات؛ فأنت، وأنا نُعبّر عن سِلم مُجتمعيّ نقيّ. وعُذرًا من العمّ عوض
المقداد، ونجيب المُرّ:
"السياسيّون لا يتوضّؤون بماء الحبّ، ولا يتطهّرون بماء المطر".
*الأرض
المكان الواسع الضيق:
على هذه الأرض مُتّسع للجميع, مكانًا وعيْشًا,
وبالرّغم من اتّساعها، إلّا أنّها تضيق بأهلها مكانًا وعيْشًا؛ فيقتتل النّاس على
سعة المكان، وعلى سعة العيش.
طوّر البشر مداركهم أملًا في تطوير سُبُل عيْشهم؛
فابتدعوا النظريّات الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة, ونظريّات الدّولة،
ووظيفة الدّولة، وابتكروا أدوات العيْش الرّغيد: أتْمَته، وصناعات، واتّصالات، وبُنى
تحتيّة. وقالوا أنّهم وصلوا إلى القمّة حضاريًّا.
لكن أين هي القمّة الحضاريّة من القِيَم
الإنسانيّة؟
كلّ فلاسفة العالم ادّعوا الحكمة, وكلّهم قال:
أنّهم وجدوا ضالّة العالم, وجدُوا العدالة الاجتماعيّة.
ولكن كيف..
رأوا العدالة الغائبة، وكيف استحضروها؟.
وهل الدّولة
تَرَف أم ضرورة؟.
الدّولة ضرورة كالسمع والبصر. نظرًا للطبيعة
البشريّة المملوءة بالصراع والتّنافس, والتغالب، وشريعة الغاب, وخوفًا على السّلم
المُجتمعيّ، وعلى نوعيّة حياة البشر, ابتدع الإنسان الدّولة ككيان جامع.
ولكنّ كلٌّ رأى الدّولة من زاويته؛ فالضّعيف
رأى فيها الضّامن لعيشة الآمن, والقويّ رأى فيها الضّامن لقدراته وإمكاناته, وضامن
للتطّور؛ فلا تنمية في غياب الأمن والاستقرار.
فحسب نظريّة العقد الاجتماعيّ: تنازل النّاس
كلّ عن جزء من حريّته الكاملة, ومنحها للحاكم؛ فأصبحت مجموع الحريّات المُتنازل
عنها للحاكم. حسب روسو: تمثل الإرادة العّامة؛ أي إرادة السّكان؛ فانتهت
مقولة: (أنّ الحاكم هو ظل الله في الأرض).
وبدأت مقولة: الأمّة مصدر السّلطات.
وللحفاظ على مصالح الجميع قالوا: أنّ وظيفة الدّولة الحفاظ على ما يُسمى بالحقوق
الطبيعيّة للنّاس التي تولد مع الإنسان: الحق في الحياة الآمنة, الحقّ في
التملّك, الحقّ في المساواة, الحقّ في السّمعة الحسنة، الحقّ في الكرامة, الحقّ في
الإجراءات القانونيّة المُنصفة, الحقّ في الحريّة.
لكنّ السّؤال العظيم هنا: من يمتلكُ السّلطة،
ومن يمتلك أدوات الدّولة؟.
للإجابة على هذا السؤال طلعت علينا عدّة
نظريات, وكلّها تتحدّث عن كبح جماح، وشَطَط السّلطة, وقال (مونتسيكيو): (السلطة
المطلقة.. مفسدة مطلقة).
وآخر ما توصّل إليه العقل البشريّ؛ لحلّ هذه
المعضلة: الانتخابات والتداول, السِّلميّ للسّلطة، وحكم الأغلبيّة، والمشاركة
السياسيّة. ولكن كلٌّ نَظرَ إلى الأغلبيّة من زاويته أيضًا.
فكانت النظريّة الماركسيّة: في البداية. كل
المفكرين مُتّفقين على أنّ الحياة محكومة، ومملوءة بالصراع، والتغالُب على المكان
وعلى العيش , فكيف أنهى المُفكّرون هذه الفوضى؟.
قال الماركسيّون: أنّ كلّ الصّراعات على
الأرض, هي صراعات بين طبقات المجتمع المُصنفة حسب القُدُرات الاقتصاديّة لكلّ
طبقة. فقالوا بنظرية: (الصراع الطبقي).
وقدّم قوانين ديالكتيكيّه الثلاث المشهورة:
-قانون وحدة
وصراع الأضداد.
-وقانون نفي
النفي.
-وقانون تحول
الكم إلى كيف.
وهذا القانون.. هو بيت القصيد في هذه المقالة,
وهذا القانون بكلّ بساطة: تحوّل القيمة المعدودة المحسوسة؛ إلى قيمة أسمى غير
معدودة, وهو تحوّل رأس المال المعدود إلى سلطة وجبروت, وأدوات قهر لصالح الطّبقة
البرجوازيّة, أو ما يسمى اليوم رأس المال.
وهذه المقولة موجودة في النظام الرأسمالي: (من
يملك الذهب يحكم). لنخرج عن ماركس قليلًا,
ونطرح السّؤال التالي:
لماذا الصراع
على السلطة؟.
تُعرف السّياسة على أنّها: التّوزيع السُّلطويّ
الإلزاميّ للقيم في المجتمع .
وقالوا أيضًا
أنّها: من يكسب.. ماذا.. متى.. كيف.
وتُعرّف السّلطة على أنّها: حقّ الإجبار
الماديّ الشّرعيّ. والشرعيّ معناه بموجب القانون، والماديّ بأدوات القهر والإجبار.
فالصراع على السّلطة، لتحويل مصالح، وبرامج
الطّبقة، أو الشّريحة الغالبة الفائزة بالسّلطة إلى تشريعات مَحميّة، ومُقترِنة
بالجزاء؛ لكلّ من يُخالفها.
المدرسة الثانية هي المدرسة الرأسماليّة، أو
الليبراليّة الفرديّة، هم أيضًا، قالوا: أنّهم يُحقّقون السّلم المُجتمعيّ، والسّلم
العالميّ.
مُنظّر هذه المدرسة العالم الأسكتلنديّ (آدم
سميث ميل) الذي يُعدّ أبو الاقتصاد الحديث، ومن أكثر المُفكّرين تأثيرًا في اقتصاديّات
اليوم.
تقوم فلسفته على الاعتقاد بسلامة، وكفاءة النّظام
الطّبيعيّ، وأفضليّة هذا النّظام على أيّ نظام صناعيّ آخر. مُعتبرًا أنّ السّلوك الإنسانيّ
بطبيعته يخضع لستّة عوامل: حب الذات, التعاطف, الرغبة في الحريّة, الإحساس بالملكيّة,
عادة العمل, الميل للمُبادلة. وقال أن الفرد هو أكبر حكم على نفسه، وعلى تقرير
مصلحته الخاصّة, وبالتالي يجب تركه حُرًّا في سلوكه, ومن شأن هذا النّظام الطّبيعيّ
تحقيق التوافق، والانسجام بين المصالح الخاصّة للأفراد، وفقًا للبواعث أعلاه وبين
المصلحة العامّة، أو ما يُسمى باليد الخفية وأنّ الأفراد، ومن خلال سعيهم لتحقيق
مصالحهم الشخصيّة يُحقّقون المصلحة العامة.
من خلال التَمعّن في عوامل السّلوك الإنسانيّ
السّتة؛ سنجد الصراع والتنافس الاجتماعي داخل كل عامل وبين مجوع العوامل, في
النهاية من سيفوز: الأقوى؟ أم الأفضل؟ أم
الأنسب؟ أم الحق ؟ أم المتاح؟ أم سيفوز التلاعب؟ ليس بالضرورة أن يفوز احدهم
بالانتقاء الطبيعي.
في النهاية يقول: أن لا أحد سوى الشّحّاذ يمكن
أن يعتمد في حياته على أفعال الآخرين.
إنّ هذا الصراع البَيْني أفرز اصْطفافاتٍ في
المجتمع؛ قائمة على المصالح، والنشاطات الاقتصاديّة، ونشأت مؤسّسات مجتمع مدنيّ مُنبثقة
عن تلك الاصطفافات المصلحيّة: أحزاب, نقابات, جمعيّات, روابط . وداخل هذه المؤسّسات
صراع داخليّ على مواقع النُّفوذ فيها, وصراع آخر بين تلك المؤسّسات "من يكسب
ماذا.. متى.. وكيف ".
صحيح أنّ الصّراع سلميّ؛ لكنّه في النّهاية
صراعًا على المكاسب، وعلى المواقع، وعلى تنفيذ، وتحقيق البرامج، والأهداف. نتيجة
للصراع كسب المُنتَقون بِغَضّ النّظر عن وسيلة الانتقاء.
ولكن كيف يُدير رأس المال مصالحه؟. قالوا:
بتزاوج رأس المال مع السّلطة.
لكن ماذا خسر العالم بسبب النظريّة الرأسماليّة:
حربين عالميّتْين قُتل فيهما ما يقارب 80 مليون إنسان، واليُتْم، والتَرَمُّل
والدمار. الصراع على مواقع النُّفوذ، والثروات، أنتج استعمارًا، ولو بطريقة جديدة,
أنتج غزوًا ثقافيًا؛ لتعزيز السُّلوك الرأسماليّ, وتنميط السلوك العالمي وتوحيد
القيم الناظمة لسلوك الافراد " عولمة".
ألا تُلاحظ معي أخي القارىء: أنّهم يعتبرون
أنفسهم أنّهم هم العالم, إن تصالحوا تصالح العالم, وإن اقتتلوا؛ قَدّم الفقراء ابناءهم
جنودًا، ووقودًا لحروبهم, والأنكى أنّهم يُتاجرون في فترة الحروب، بينما أبناؤنا
يموتون دفاعًا عنهم, وتصوّر معي بعد انتهاء الحرب، لا يجد أبناؤنا وظائف لهم في
شركاتهم.
اللجوء: هو
خروج قسريٌّ من الدّيار، والهُيام على الوجه في بلاد الله الواسعة؛ خوفًا على الأعراض،
وخوفًا من الهلاك.
قلنا
في البداية إنّ في الارض مُتّسع للجميع, فما إن يصلنا اللّاجئون نستقبلهم في الأحضان،
ونُشعرهم بإنسانيّتنا. نُؤمّن لهم المسكن،
ونُقدّم ما نقدر عليه من متاع الدنيا، ولكن ما إن يتعلّق الأمر بالمكاسب المادية،
ننقلب على أعقابنا، ويبدأ الصّراع مع اللّاجئين على العيش، ومع السّلطة التي فتحت
الحدود لهم؛ فقتلنا كلّ إنسانيتنا عند، أو اقتسام للمكاسب.
لم تمر فقرة
من هذه المقالة، إلّا وفيها إمّا صراع أو تنافس. العالم مسكون بالصراع وبالتنافس.
قد يكون للتنافس جانب إيجابيّ لأنه يخلق التحفيز، وشحذ الهمم، ويخلق الإبداع, لكنّه
مُميت عندما يتخطّى حدوده.
ومن الملاحظ كذلك أن النظريّتيْن لم تتحدّثا
عن الأخلاق أبدًا, بل كان الحديث عن الانتاج, ووسائله, وأدواته, والقوانين النّاظمة
له، وللعلاقات الاقتصادية وللسلطة. وكان الإنسان آلة انتاجيّة فقط، قد تُسخّر آلة
دمار أو بناء . لكن الدّمار حاصل في كلا النظريتين.
ومن الغرابة أنّ كلتا النظريّتيْن قالتا: (أنّ
القانون، لا يحمي المغفّلين). فمن يحمي إذن ..!! إن لم يحمِ الضّعفاء
والمساكين والمغفّلين. ألا يكفيهم ضعفهم..!!.
ماذا لو: أنّ العالم أوقف سباق التسلّح,
والمشاريع النوويّة، إلّا بما يخدم الإنسانيّة, وميزانيات العسكر حُوّلت إلى البحث
العلميّ المفيد للبشريّة. أعتقد أنّ الأرض؛ ستّتسع الجميع مكانًا وعيشًا.
في النهاية
كلّ النظريّات فشلت في تحقيق السّلم المجتمعيّ، والسّلم العالميّ، أمّا كاتب هذه
الأسطر؛ فيقول: (الله أو الدمار).
***
رؤية الشاعر:
طالب عبد المهدي الفَرَّاية. الأردن
في البدء
كانت هجرة، نحن نعيشها هجرة طويلة مُمتدَّة؛ فقد هاجر "نوح عليه السلام"
هربًا من الطُّوفان، وهاجر إبراهيم بابنه إسماعيل وزوجته هربًا، وتحقيقًا لأمر
ربَّانيٍّ، وهاجر سيِّدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسَّلم. كذلك،
والهجرة مُستمرَّة هربًا، أو تحقيقًا لإرادة ربِّ البشر.
وتستمرُّ الهجرة اليوم بين أجزاء بلاد الشَّام، المُقسَّمة بفعل (سايكس بيكو).
حيث القويُّ يأكل الضَّعيف، وصاحب البُسطار الأقوى يبني خيمته، ويفرض نفسه أمام
بيت جاره الضَّعيف، ويمنعه حقوقه، ويُراقب كلَّ حركاته وسكناته، ويفرض عليه شروطه،
ولكنَّه يعجز أن يمنع عنه عدوًّا مُشتركًا؛ فقوَّة البساطير على الضُّعفاء
فقط؛ فتكون الهجرات وتستمرُّ المأساة..، وتكون الهجرة بحثًا عن الذَّات والوطن
والحياة.
وقد هاجر
أجدادي بين بوادي وأرياف بلاد الشَّام، وسوريَّا الكُبرى.. حيث هاجر
جدُّنا (الفَرَّا) من مُدُن(سوريَّا الشَّام ) إلى بادية الشَّام،
ومن دمشق وحماة؛ إلى إربد، ومعان، والكرك، وطاب لهم الكرك مُقامًا؛ فأقاموا
في قرية الجُدَيْدَة. حيث كان الفَرَّا يعمل بحرفة يدويَّة: هي صناعة الفِرَاء من الفَرْو، وسُمِّيَ الفَرَّا نسبة لهذه الحرفة..
واسم جدِّنا الأوَّل "على بن خليل الشامي"؛ فهو شاميُّ النَّسب،
ورحلته إلى الكرك رحلة تمتدُّ عبر الشَّرايين، وتربط بلاد الشَّام، وسوريَّا
الكبرى، حَضَرها ومُدُنها وبواديها بعضها
ببعض؛ فهي رحلة، وهجرة بين دول بلاد الشَّام،
المُصطنعة حديثًا بعد (سايكس– بيكو) برباط يَعْرُبيٍّ مُقدَّس.
فأنا شآميٌّ
من بلاد الشَّام. دمي سوريٍّ، وروحي أردنيَّة، وقلبي لُبنانيٌّ.. لولا (سايكس-
بيكو) لكنت اليوم أُفطرُ في الكرك، وأسهرُ في حماة، ولي مُتَّسع من المكان في
بيروت. تلك التي بُنِيَت خيمة أمام قصرها منعت نور الحُريَّة عن أهلها، وأجبرت
الكثير منهم على الهجرة والتباعُد والتباغُض.
لأهلي في لبنان سلامٌ واعتذار. اعتذار من
أُخوَّة الدمِّ؛ فقد بُنِيَت الخيْمة البغيضة التي
تحرسُها البساطير الثَّقيلة.
فهل يكفي لبنان اعتذار شآميّ دمشقيّ حمويّ أردنيّ كركِيّ.. قلبي فِدَاك يا لُبنان ورُوحي
فداء سوريَّا، وكُلِّي للأردن.
لبنــــان:
رؤية الأديبةالسيدة - حنان المير.لبنان
بداية
اسْمح لي بالثناء على ذوقك بانتقاء المكان جبل الشيخ، أرى أنّ التسمية جاءت كونه من أبرز و أهم الجبال التي تقع في الوطن
العربي وخصوصاً منطقة بلاد الشام ، و بسبب
ارتفاعه عن سطح الأرض ووقوعه على حدود ثلاث دول و هي لبنان وسوريا وفلسطين ويشرف على
الأردن... منظر ساحر حقا... لا تستطيع ان
تترجم ما تراه عيناك بكلمات تُنطق او تُكتب يكفيها انها ليست بحاجة لجواز عبور
لجنات على مد النظر...
إن
قَيّمتُ العلاقة بين لبنان وسوريا اجتماعياً,
أقول: "شعب واحد في
بلدين" حيث أنّ ما يجمع البلدين، هو أكثر من لغة وجيرة وصلة رحم وتقاطع أراضي
جغرافية وأحياء وأزقة.
يُعتبر
لبنان بالنسبة لسورية منطقة امتداد جغرافي طبيعي، ويعتبر النظام السوري أن لبنان هو أحد الأقاليم التابع له، منذ استقلال لبنان وسورية عن فرنسا
1943 شهدت العلاقات بين البلدين حالات مد وجزر مرتبطة باتجاهات الأنظمة المتعاقبة
على الحكم بسوريا والمصالح الإقليميّة لها، وعلاقاتها بتيارات وتنظيمات سياسية
داخل لبنان، إن قرأنا التاريخ نرى أنّ فترة ما بين الاستقلال، وحتى عام 1949 كانت العلاقات
إيجابية ...
يرى
اللبنانيون أن الجيش العربي السوريّ؛ احتلّ لبنان في عام 1976 حتى عام 2005 ،
وبمباركة عربيّة وأمميّة.
لأنه
ومع انتهاء الحرب عام 1990 لم يغادر الأراضي اللبنانية، رغم كل المعارضات من
الداخل اللبناني على هذا الوجود الذي ساهم
في تغيير الثقافة والهيكلة الاقتصادية في لبنان،
وكان من نتائج وجوده توطين ربع مليون مواطن سوري دون الاخذ بشروط الحصول
على الجنسية اللبنانية واستعمالهم من قبل الحكومة السورية في الانتخابات وتصريف
أعمالهم في الداخل اللبناني.
لكن
ان عدنا بذاكرتنا لتاريخ لبنان ما قبل اعلان دولة لبنان الكبير نجد ان مسلمو بيروت
وصيدا وطرابلس والاقضية البقاعية رفضوا
هذا الكيان الجديد حتى بعد اجتماع المسلمون والمسيحيون عام ١٩٤٣، حول الميثاق
الوطني الذي أدى إلى الاستقلال.
بقي
الانجذاب الإسلامي اللبناني إلى سوريا حيا في نفوس مسلمي لبنان وخاصة مسلمي طرابلس
بالذات، هذا الانجذاب كان موقفا طبيعيا نابعا من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية
التي يفرضها الجوار ووحدة الدين، وأيضا لا ننسى العامل القومي العربي، لا سيما بعد
قيام دولة إسرائيل .. حينها كان مسلموا
لبنان عاطفيًّا مندفعين وراء الظاهرة
الناصرية ومرحبين بالوحدة المصرية السورية. ولم يكن هذا الأمر يروق لمسيحيّي لبنان،
واعتبروه ولاء مزدوجًا، وخارجًا عن ميثاق عام ١٩٤٣
ولا نغالي إذا قلنا إن من أهم أسباب اندلاع ثورة
1958 ومن ثم الحرب الأهلية عام 1975، هو هذا الخلاف بين مسلمي لبنان ومسيحيّيه
(عموما)، حول «الولاء للوطن اللبناني، أولا»، أو تقديم «المصلحة القومية العربية»،
في دعم المقاومة الفلسطينية، مثلًا، أم في التضامن العفويّ مع دمشق، والالتزام
بأوامرها أو توجيهاتها في الانتخابات الرئاسيّة أو تشكيل الحكومات.
لكن
من خلال التجربة الوطنية اللبنانية الجديدة، وإن لم تحقق لهم كل فرص المساواة بين
المسلمين والمسيحيين واقعيا، وفرت للمجتمع اللبناني نوعا من الاستقرار والحرية
والحكم الديمقراطي وإلى حد ما العدالة الاجتماعية، بين عامي ١٩٤٣ وعام ١٩٧٥، الأمر
الذي ولد في نفوس المسلمين نوعا من الولاء للدولة وللكيان ولحسنات العيش
المشترك....
غير
أن العامل الرئيس في ابتعاد مسلمي لبنان عن الانجذاب أو الانحياز أو الولاء لسوريا
فيعود إلى حقبة الحرب الأهلية ١٩٩٠ -١٩٧٥
التي احتلت فيها القوات السورية لبنان، وما عاناه مسلمو بيروت وطرابلس من قهر
وتحكم على يد القوات السورية وحلفائها اللبنانيين. وأيضا إلى حقبة ١٩٩٠ - ٢٠٠٥ التي تحكمت فيها دمشق بالحكم
والسياسة في لبنان، والتي شهدت اغتيال رفيق الحريري وقادة سياسيين بارزين، واقتناع
الرأي العام الداخلي والدولي بأن دمشق وامتدادها في لبنان وراء هذه الاغتيالات....
رؤية
الأديب والروائي: محمد إقبال حرب. لبنان
وقفتُ على تلٍ في قرية المطلِّة الجنوبيّة
اللُّبنانيّة مذهولًا. أقفُ قرب حاجز حجريٍّ، يدعمه رادع أسلاك على بُعد أمتار
ناحية الأرض المغتصبة.
بعد قليل بدأت سيّارات الأمم المتّحدة تمرّ
بنا؛ لترصد حركاتنا حفاظًا أمن الطرف الآخر. قال لي صديقي: لو أردتَ أن يكون اسمكَ
في الصّحافة والإذاعات حول العالم؛ اِرْمِ زُجاجة البيبسي الفارغة إلى الناحية
الأخرى؛ لتَتِمّ مُتابعة عملك الإرهابيّ.
ضحكنا لخيبة قوّات السّلام التّابعة للأمم
المُتّحدة، وخيبتنا. لكنّني ذرفتُ دموع حسرة داخليّة. نحن ها هنا في وطني لبنان،
جبل الشّيخ، خميلة سوريا إلى شماليّ؛ موزعًا بين سوريا ولبنان والعدوّ الصهيونيّ.
هذا الجبل المُقدّس الذي حمل اسمه الإله بعل حرمون يكبّل العدوّ جُزءًا احتّله؛
فيما الباقي منطقة عسكريّة لبنانيّة وسوريّة.
هذا الجبل كان جزءًا من سوريا قبل خربشات
(سايكس وبيكو) التي قسّمتها إلى أربع دول. أمامي، بل على بُعد خطوة واحدة فقط أرض
الجليل المنهوبة.
كيف أصبح شريط شائك يقطع السَّهل الواحد
حدودًا. كيف يمُرّ النّهر من أرضي في سهلي، قُرب بيتي؛ فيأتي من يَضُع أسلاكًا
شائكةً، يستولي من خلالها على السّهل ونصف البيت، ومياه النهر ومصبّه.
إنّه العدوّ، إنّها المؤامرة التي يَلُوكها
النّاس؛ لتغطية عجزهم مُدَارين الضَّعف والخيانة والصّراع على السّلطة بين أبناء
الوطن الواحد.
تذكّرت تلكَ الشَجرة بين الحُدود اللُّبنانيّة
والسوريّة. عليها يافطتين، واحدة للمسافر من لبنان إلى سوريا تقول: "أهلًا
بكم في سوريا"، وعلى الناحية الأخرى تُرَحّب بالقادمين من سوريا "أهلًا
بكم في لبنان". ماذا لو ماتت الشجرة، احترقتْ أو جُزّتْ؟.
هل
سنفقد الحدود، وتقوم حرب لإعادة ترسيمها؟
أليس من العار أن تتقَسَّم الأرض الواحدة إلى
ثلاث، بل أربع، سوريا ولبنان وفلسطين والأردن؟.
أليس من العار أن تعيش عائلات وقبائل على أرض
بضعة آلاف سنة؛ تتشارك خير ممالكها، تَدْمُر وصُور وفينيقيا وإيبلا وغيرهم، كما
تشاركت مرارة الاحتلال القادم من بلاد الرّافدين، وفارس كما اليونان والرُّومان
والمغول، وأن تتنافس على الكراهيّة. تشاركوا السرّاء والضرَّاء تحت راية دولة
واحدة تشعبَّت فيها العائلات وتصاهرت، حتى أصبح اسم العائلة الواحدة مُترامِيًا
بين أطراف سوريّا الغائرة في التَّاريخ كدولة واحدة.
تم تقسيمنا إلى أربعة دُوَل، كما قسّم دُوَلًا
أخرى عربيّة، وغير عربيّة، وأعلن كلّ منها نفسه أمّة.
صدّق الشَّعب المقولة؛ فأقام الحدود وهيَّأ
الجُيوش لمحاربة ابن الوطن في الضفة الأخرى.
زرع الحُكّام الطائفيّة والمذهبيّة والشِّعارات
الوطنيّة الكاذبة في نُفوس النّاس، وقتلوا من يُعارض، أو من يُبدي حِسًّا وطنيًّا
للمحافظة على عروشهم.
ولكونهم
لا يحلمون بما سَرقُوا؛ قرَّروا جماعة فيما بينهم إفْقار الشَّعب، تدمير هُويَّته،
سَلْبه الإرادة؛ ليدوم سُلطانهم.
أصبحوا أكثر شراسة من المُحتلّ العُثمانيّ،
الذي فَشِل في سَلْبِنا هُويّتنا، رغم سَلْبِه كلّ شيء آخر.
جمهوريّات-ملكيّة تمتلك الأرض والشَّعب، تُخفي
الحقيقة، تُزيل آثارها، وتُقوِّي سُبُل العِداء بينها، وبين الدَّولة المُحاذية
التي كانت وطنًا للجميع.
إذا ما نظرنا إلى كِتاب خيمة بَعَبْدا، الذي
يستشعرُ نزف الألم وعُمْق المعاناة، نراه يتساءل عن الحقيقة.
كيف يمكن لشعب واحد أن يكره نفسه؟.
كيف للعائلات المسيحيّة التي جاء معظمها من
سوريّا في القرن الماضي، تحت مَلاذ المُتَصَرِّفيّة التي صنعتها الدُّول الكبرى
حينذاك أن تعادي سوريا؟.
كيف لأبناء القرى الحُدوديَّة المُتصاهرة أن
تتخلى عن لُحمة الدم؟. وكيف للجيش السُّوريّ؛ الذي دَخَل حاميًا ضمن قُوّات الرَّدع
العربيّة أن يصبح جيشًا مُحتلًا؛ يطلقُ يد جنوده؛ لاستباحة دولة لبنان، ويتحكَّم
في كلّ مفاصلها؟.
كما يسأل: لماذا يقفُ الشَّعب اللُّبنانيّ
موقفًا سلبيًّا في أحيان كثيرة بوجه اللّاجئين؟.
وكيف لم يَرُدّ اللُّبنانيُّون جميل السُّوريّين؛
باستضافتهم المُهجّرين من لبنان خلال حرب الـ 2006م.
أجاب كاتبنا الرّاقي عن كثير من الأسئلة، ولا
داعي للغوص بتفاصيلها. لكن يجدُرُ بنا الإشارة إلى بعض الحقائق، ليس دفاعًا عن هذا
أو إدانة لذاك.
أعتقدُ أنّ من سياسة سوريا، هي إبعاد شبح
الوحدة مع لبنان، أو على الأقلّ إزالة العوائق بين الشَّعبين، وكسر الحال
الاقتصاديِّ المُرَفّه في لبنان، حتّى لا يبقى مثالًا يستخدمه أبناء سوريا ضد الحُكم.
لذلك كانت تصرّفات جُنودها مدروسة، مدعومة،
كما كان ضرب أيّ فئة في لبنان تُظهر تمردًا.
لذلك نرى أنّهم قَضُوا على اليسار اللُّبنانيّ،
كما اليمين. أثاروا النَّعرات، وحاربوا المسيحيّ والمسلم كلٌ على انفراد.
كما أدخلوا نِظام المُحاصصة الطائفيّة، بدعم
كبير لتكون بذرة فتنة دائمة. كانت الطائفيّة موجودة مُنذ العهد العثمانيِّ، لكنّها
مُكبّلة إلى حدٍّ ما. لكن شراستها بعد الوُجود السُّوريّ بقيت بعد خروجه سرطانًا
قاتلًا.
في حرب 2006 كان الوُدُّ بين الشَّعبين ما زال
قائمًا، ولو على استحياء؛ فاستضاف الشَّعب السُّوريّ الشَّعب اللُّبنانيِّ بحبٍّ
ووفاء وعطاء.
لم يَدُم بقاء اللُّبنانيِّين كثيرًا في سوريَّا؛
لذلك لم يكن هناك وقت كاف؛ لمعرفة تأثيره على الدَّاخل السُّوريّ اجتماعيًّا
واقتصاديًّا.
في المقابل، وبعد سنوات عِجاف على سوريَّا
وشعبها، ودُخول عدد كبير من النَّازحين السُّوريّين إلى لُبنان المُحطّم اقتصاديًّا،
في دولة فاسدة بكل مفاصلها؛ بدأت مظاهر التأفُّف والعداء تظهر بين الفَيْنة
والأخرى.
لكن لا ننسى الاحتضان الكبير لهم في مناطق
عديدة. هناك نقطة تعتبر ذات حسنات وسيئات كبيرين. لم يُقِم لُبنان مُخيّمات للسُّوريّين
أسْوة بالأردنّ وتركيا وغيرهم، بل اعتبرهم أبناء وطن.
هذا من ناحية أعطى للمواطن السُّوريّ حُريّة
التَّحرُّك إلى حَدٍّ كبير مع إجراءات أمنيّة، وتسجيل معلومات وتصاريح عمل.
لكن ذلك لم يمنع الكثير من العمل بِحُريّة
بدون تلك الأوراق. هذا الجانب المُضيء له مفعول عكسيّ مع انهيار الاقتصاد، وَشُحّ
الدّخل وعجز الدولة عن تأمين سُبُل الحياة من كهرباء وماء لحوالي مليونيْ مُواطن
سوريٍّ في لبنان.
أعتقد أنّ الوضع الاقتصاديّ، وسوء تصرّف دولة
لبنان، وعدم رغبة الحكم في عودة كثيرين إلى وطنهم؛ أثار نعرات وذكريات وجود الجيش
السُّوريّ. تُرجم ذلك إلى أعمال عِدائيَّة ضدَّ بعض المُواطنين السُّوريّين ببشاعة
وقسوة في بعض الأحيان.
لن أطيل أكثر، بل أقول: إنّ الوُدّ والتعايش
بين الشَّعبيْن موجود من خلال الرّباط العائليّ لكثير من العائلات، والمصالح
الاقتصاديّة لشريحة كبيرة من الشعبيْن.
لكنّ التصرُّفات السياسيّة الخاطئة من الطرفين،
أدّت إلى ما نحن فيه. لستُ مُتفائلًا بمستقبل العلاقات الاجتماعيّة، لأنّ الوضع
الاقتصاديّ ينذر بكوارث أكبر في البلدين.
كما أنّ وجود النازحين لن ينتهي في وقت قريب،
نظرًا للظروف الإقليميّة والدُّوليّة التي تُحاول رسم عالم جديد بخريطة جديدة.
هنا أستذكرُ قصّة رواها والدي، قال: كُنّا، أنا
ونائب في البرلمان من آل الحج في ساحة الشهداء ذات يوم من ربيع سنة 1948. رأينا
باصات كثيرة من فلسطين، والنَّاس تُوَلول مع بكاء ونحيب.
سألنا القادمين عمّا حدث؛ فقالوا: أجْبَرَنا
الإنكليز على مُغادرة ديارنا لمدَّة أسبوعيْن، حتّى تتمّ تسوية المشكلة مع اليهود.
كثير من الفلسطينيّين كانوا في هدوء، لا يشغلُ
بالهم إلا إيجاد مكان يُؤويهم خلال الأسبوعيْن القادمين. بعدما غادرناهم نظر إليّ
نائب البرلمان، وقال: "حسن، لن يعودوا إلى بلادهم مُطلقًا".
سألت والدي وقتها: "هل كان النّائب يعلم
بالنكبة؟".
قال:
كُلّ الحُكّام العرب آنذاك كانوا يعلمون.
***
● محمد فتحي
بن قاسم المقداد.
● تولّد 1964
بصرى الشام – محافظة درعا – سوريّة.
● حاصل على
شهادة الثانويّة العامّة، الفرع الأدبي 1982.
● العمل في
مهنة حلّاق رجّالي.
● الأعمال
المطبوعة:
-
كتاب (شاهد على العتمة) طبع في بغداد، عام 2015.
-
رواية (دوّامة الأوغاد) طبعت في عمّان ، عام 2016.
-
كتاب (مقالات ملفّقة – ج1) طبع في عمّان ،عام 2017.
-
رواية (الطريق إلى الزعتري) طبعت في عمّان، عام 2018
-
رواية (فوق الأرض) طبعت في عمّان، عام 2019
-مجموعة قصصيّة (بتوقيت بُصرى) عام 2020
-رواية (خيمة في قصر بعبدا)
الموضـــــــــــــــــــوع رقم الصفحة
مقدّمة 8
استهلال 10
بوابة الحب... 18
سَوَا إرْبينا. 49
حارس الذّاكرة. 111
وتد الخيمة. 132
الاعتـــذار 163
الانتقــــــــــــام 169
وجهًا لوجه. 182
قول على قول.. 193
ملحق 194
بالورود نُزيلُ الحدود. 195
الأمير
والفنان.. 198
لخيمتكم... 209
رؤية الأديبة: فايزة
الرّشدان: (نائلة). 214
السياسة والحب... 217
في البدء كانت هجرة. 235
رؤية الأديبةالسيدة - حنان
المير. 237
كلهم يعلمون.. 240
المؤلف في سطور. 247
الفهرس 248