الأربعاء، 25 مارس 2020

نافذة على كورونا (قصة قصيرة)

(أدب العزلة زمن الكورونا)
نافذة على كورونا
قصة قصيرة

بقلم – الروائي محمد فتحي المقداد

ما إن صدر أمر حظر التِّجوال المُتوقّع لضرورته القُصوى؛ منعًا من تفشّي الوباء على نطاق واسع، خوفًا من خروجه عن دائرة السّيطرة كما حدث في إيطاليا؛ فسيكون مالا تُحمَدُ عُقباه.
كنتُ أحدّث نفسي بهذا الأمر، وأتمنّاه على أصحاب القرار أن يفرضوه. لم أتفاجأ عندما أخبرني الأولاد به، الذين تركوا هواتفهم لمتابعة الأخبار على القنوات المحليّة، تلبّسهم الخوف.. تحذيرات مُتتالية، غسل الأيدي بالصّابون لمدّة عشرين ثانية، عقب كلّ مُلامسة لأيّ شيء، عبوة (الهايجين) حازم لم يستغنِ عنها بجانب رأسه وقريبًا منه على الدّوام، وكان يضعها في جيبته أينما ذهب قبل فرض الحظر في البيوت. كلّ قليل يصبُّ منها نقاطًا على يديْه، ويفركهما ببعضهما.
تروقني حركاته الروتينيّة بهذه السّلاسة، لكنّه لا يتردّد في إبداء استيائه من ريم أخته الصّغرى عندما تمتدّ يدها إلى عُلبة (الهايجين) الخاصّة به دون استئذان منه، ويصرخ بأعلى صوته، إذا امتّدت يد أحدهم إلى كأسه المُخصّصة لشرب الماء، وكذلك المنشفة القطنيّة.
بدوري لا أتردّد بالتدخّل كما الأمم المُتحّدة بإرسال جنودها ذوي القُبّعات الزرقاء إلى  بؤر النّزاعات المُصطنعة في العالم بمباركة دوليّة. أضحك من أعماقي المُتعبة المكتئبة، وأنا أُمثّل دوري بفضّ الخلاف المُفتعل بين حازم وريم، مُتدّخلّا بصلاحيّاتي.. استنادًا لما أمثّله كربّ أسرة، المُتماثلة مع صلاحيّات المنظّمة الأمميّة، بقرار فوريٍّ منّي مُترجَلٍ بلا تخطيط ولا مُوافقات بالأغلبيّة الخاضعة للتصويت ظاهرًا المُتوافق مع توجّهات الدّول العظمى.   
يعمّ الهدوء المكان لبعض لحظات وتُنسى مشكلتهم، لنتراكض إلى الشّبابيك مع سماعنا لصفّارة سيّارة النّجدة، ويعلو صوت مُكبّر الصّوت فيها على شخص كان يمشي عند منعطف للطريق الرّئيسة، أعطى ساقاه للريح هروبًا، الدوريّة تتّجه بسرعة فائقة باتّجاهه، اختفى كومض البرق بين دروب وأزقّة الحارة العديدة.
الشُّبّاك نعمة كبيرة في مثل وضعنا، رغم شفافيّة البلّلور  يبقى حاجزًا لانطلاق البصر في جميع الاتّجاهات، ويصعب إخراج الرأس خارج نطاقه، إلّا بإزاحته وفتح الظّرفة مع الخارجيّة ذات الشّبك الخفيف المانعة للنّاموس والذّباب صيفًا.
أوه..!! يا إلهي.. تراكم المُختزَن القديم  في خيالي.. توارد أفكار أخذني بعيدًا، لذلك السّجين الذي يُزاحم زميله على النّافذة الصغيرة لرؤية الوجوه القادمة من الخارج، لعلّه يرى فيها أملًا قادمًا من الخارج، علمه يقينًا أن لا أحد يأتي لزيارته. سنوات حُكمه المؤبّد حصدت ما تبقّى من عمره مع والدته. آخر من كان يزوره في هذه الدّنيا.
 أيّام خدمتي حضرتني جلسة جمعتني بعسكريّ استُدعي للخدمة الاحتياطيّة المؤقّتة، لا أذكر ما هي الأزمة التي استنفرت قوى الجيش السوريّ فيها لاستدعاء المدنيّين، وتعبئة النّقص المُتوقّع في الكوادر التي تُكلّف في مهمّات لوجستيّة ذات طبيعة حربيّة.
وضاءة وجهه المُدوّر ما زالت تتلألأ في مُخيّلتي وما بَهُت وهَجُها، نبرات صوته تأتيني من مسافة  أربعة عقود، مع اهتزازة من رأسه، وهو يشير للقمر حامدًا لله بصوت مرتفع لنسمعه. يُعلمّنا درسًا بليغًا في رؤية الوجود من حولنا بنعمه العديدة، وأظنّ أنّ ألفة الأشياء تجعلها عاديّة في نظرنا؛ فإذا افتقدناها.. يبدأ بحثنا عن قيمتها بشكل حقيقيّ. وقال:
-"أيّام الاعتقال كنَّا نتناوب على رفع بعضنا لدقيقة واحدة على الأكتاف؛ ليتوازى نظرنا مع الكُوّة الصغيرة المُتساوية بارتفاعها لسطح الأرض فوقنا، لم نكُن لنُفوّت رؤيتنا لضوء القمر، فُسحة عظيمة لنا تأخذنا بعيدًا إلى أهلنا، وتُحرّقنا أشواقنا لهم، وأشدّ ألمي وأنا أتصوّر أمّي ودموعها، وحُزنها الدّائم عليّ، وفي كلّ يوم عند قرع الباب كانت تتوقّع من يأتيها بخبر يريح قلبها المحزون".
نظرتُ إليه مليّا، مـتأمّلًا قسماته الفرحة بالحياة، وللغبيّ مثلي بسؤال الجاهل:
-"وماذا يعني كان يعني لكم وقتها.. وأنت تحت الأرض في السّجن؟ ها نحن نراه سويًّا الآن..!!".
ضحك طويلًا واصبعه تشير للقمر.. بعد هذه المُدّة الطويلة أرثي لحالي وقتها أمام ذلك الشّاب الذي كان يكبُرني بسنوات تتعدّى العشر. وتابع:
-"مواضبتنا الدوريّة لمراقبة القمر.. نُحسّ منها أنّنا مقيمون على قيد هذه الحياة.. والعالم في الخارج لم ينمح.. قطار الحياة يسير.. النّاس فوق مشغولون بأعمالهم وصراعاتهم وأفراحهم وأحزانهم، كنّا نرجع بعد هذه الحفلة نحتسي آلامنا.. نلعق المِبرَد الخشن فتُدمى ألسنتنا، وتتورّم شفاهنا، نخرج من إسار الجُدران الصّلبة الكئيبة برطوبتها، أنا من جهتي كنتُ أتلمّس أعضائي واحدًا تلو الآخر، ونبضي عالٍ رغم انخفاض درجات الحرارة، التي ترتفع على وهج أنفاسنا المُتوقّدة لممارسة البقاء". 
استرسالي البعيد في مجاهل الذّاكرة على وقع صمت الغُرفة أمام حاسوبي. حالة العسكريّ ذاك تُسيطر على مشاعري، صراخ حازم وريم الذي لا ينتهي، كسر قيود حواجزي العديدة، لأتوجّه إلى الغرفة الأخرى لفض الاشتباك النّاشىء. ودوري لا يعدو أن يكون كالحَكَم في مصارعة الدّيكة.

عمّان – الأردنّ
25 \ 3 \ 2020

قراءة في رواية (طواحين بيروت)

(أدب العزلة في زمن الكورونا)
قراءة في رواية (طواحين بيروت) للروائي\ توفيق يوسف عوّاد
           بقلم الروائي \ محمد فتحي المقداد
)اختارتها منظمة الأونسكو العالمية هذه الرواية في سلسلة "آثار الكُتّاب الأكثر تمثيلًا لعصرهم" وقد شرعت بترجمتها إلى اللّغات الأجنبيّة، وقد صدرت الحلقة الأولى - الترجمة الإنكليزيّة - عن دار هايمان في لندن 1976بعنوان "Death in Beirut")

بالتوقّف في عتبة الثقافات للمجتمعات تتبدّى حالة عجيبة من الفسيفساء الاجتماعيّة ذات التكوينات الإثنيّة والدينيّة، والطّائفيّة، والعادات والتقاليد وطرائق العيش المختلفة، في مكان جغرافيّ ربّما يتّسع أو يضيق، وهو المُحتَوي المُغلّف للصّراعات التي تجري في بطنه.
القراءة نعمة لذيذة كالأكل والشّراب والهواء، ضرورة للعقل، دائمّا ما أشعر بتعفّن عقلي عند ابتعادي لفترة ولو قليلة عن الكتاب. ومع ظروف الحجر العزل في البيوت من وباء الكورونا، فقد أنهيت مشروعي المؤّجل منذ فترة، في قراءة رواية (طواحين بيروت) للروائي اللّبناني (توفيق يوسف عوّاد). العنوان دلالته واضحة تُستخلص من خلال طيّات الرواية، فلو كان الأمر مخصّص بكلمة طاحون، لكان الكلام ربّما يأتي تراثيًّا، ولكن ورد بالجمع (طواحين). بالعودة إلى القاموس نقف على حقيقة الكلمة ودلالاتها قبل الخوص في تفاصيل السّرد الروائيّ: [طحَنَ يَطحَن ، طَحْنًا، فهو طاحِن ، والمفعول مَطْحون وطحين. طحَن الحَبَّ: صيَّره ذرّات دقيقة، سحقه بشدّة حتّى جعله ناعمًا، طَحَنَتِ الْحَيَّةُ: اِسْتَدَارَتْ، طحَن الطعامَ بأسنانه: مضغه بشدّة، طحن الناسَ: أهلكهم، طحنتهم المنون / طحنتهم المَنِيّة / طحنتهم الحرب: أهلكتهم وأفنتهم].
تعدّد المطاحن في بيروت والطّاحنين، تتبدّى لنا المأساة بحجمها أمام تحدّيات أكبر بكثير من حجم لبنان الجغرافيّ المحدود.
أعتقد جازمًا أنّ الطّواحين اتّضحت ماهيّتها بعد الانتهاء من قراءتي، فالطائفيّة المميّزة للمجتمع اللّبناني المُشَكّلَة لنسيجه المتآلف على مدار تاريخه، السياسة وتُجّارها لعبوا دورًا قذِرًا في تفتيت هذا النّسيج المتآلف منذ فجر التّاريخ، وجاءت القضيّة الفلسطينيّة لتكون أحد المؤثّرات بنتائجها بعد سنين، بعد إنشاء منظّمات الثورة الفلسطينيّة المُتعدّدة التوجّهات والولاءات والانتماءات الفكريّة بمرجعيّاتها المتنافرة بتناقضاتها العميقة. وهي مرحلة العمل الفدائيّ التي كان لها الأثر الأكبر في حياة لبنان، ما بين مؤيّد لها ومعارض، ومناضل صادق، ومنافق مُتسلّق، وجاسوس مُتخفٍّ مُتربّص باقتناص لحظة لإخماد خنجره المسموم في جسد القضيّة.
فالطواحين هي التحدّيات الكبيرة الآنفة الذّكر، إضافة للموجودة أصلًا منها التحدّي الجغرافي المتمثّل بصغر مساحة لبنان، بجوار سورية الوطن الأمّ له، والتحدّي الآخر على حدوده الجنوبيّة العدوّ اليهوديّ المُتربّص على مدار السّاعة، وهجماته الدّائمة على القرى الجنوبيّة، وتكلّل أخيرًا بالاجتياح الاسرائيليّ لبيروت العام 1982م.
والتحدّي الأهمّ هو الاقتصاديّ، فمساحة عشرة آلاف وخمسمئة كيلومتر مربعة لا يمكن أن تبني حالة اقتصاديّة متكاملة زراعيّة وصناعيّة، تكون قاعدة لتحرير القرار السياسيّ المُرتهن بالخارج بشكل دائم منذ إنشاء جمهوريّة لبنان.
***
الرواية (طواحين بيروت) عملت كرسّام معماريّ ماهر أخذ مقطعًا رأسيًّا للمجتمع اللّبناني، فمن يجلس في الأعلى تكون الرؤية عنده واضحة بشموليّتها، وهذا ما مثّله الروائيّ (توفيق يوسف عوّاد).
فقد سلّط الأضواء السّاطعة على الزوايا المُظلمة، وفضح المسكوت عنه، بلغة روائيّة حكائيّة وسرديّة أدبيّة سلسة مفهومة، مع إدخال الكثير من الكلمات المحليّة المحكيّة باللهجة العاميّة كما هي منطوقة في الواقع.
وتصاعد الصّراع في أحداث الرّواية بداية ما بين مجتمع الرّيف الفلّاحيّ المحافظ على عاداته وتقاليده، في طريقة عيشه في بيوت أقرب إلى البساطة والكفاية من أجل حياة كريمة تستند إلى الكفاف. كما بيّن أسباب الهجرة من الرّيف إلى المدينة بدوافع اقتصاديّة بحته بحثًا عن العمل، وبيع منتجات القرى، والفقر الذي دفع بكثير من الآباء للدفع ببناتهم الصّغيرات للدفع بهنّ للعمل كخادمات عند أهل المدينة في بيروت من الأسر الميسورة، مقابل ليرات قليلة يقبضها الآباء في نهاية كلّ شهر، لكنهم أغمضوا أعينهم عن الانتهاكات التي تحصل للبنات هناك، والموت بالمرصاد لمن تظهر عليها أعراض الانتهاك والاغتصاب، لغسل الشّرف والكرامة كما يدّعون، وهم أضاعوها بأيديهم، وألقوا التّبعات على بناتهم، ولم ينتبهوا للفقر..!!(الفقر مقابل الشّرف).
أمّا مجتمع المدينة فهو خليط عجيب غير متجانس جمعته جغرافيّة العمارات العالية بشُققها العديدة في الطّابق الواحد. لا أحد يعرف أحدًا.. ولا يسأله من أين أنت؟.. ولا ما الذي تفعله..؟. وتسليط الضوء على الزيجات المدنية المختلطة ما بين مختلفي الدّيانة.. وعدم تقبل المجتمع الريفي لهذه الظاهرة، والمشكلة الأعقد هي القانونيّة لمثل هذه الزّيجات، فيضطرون للهروب أو السّفر خارج لبنان لعقد زواج مدني غير ملتزم بدين لأحد الزوجين.
أمّا موضوع الهجرة إلى دول أفريقيا، وهي الهجرة الثانية للبنانيّين بعد الأولى للأمريكيّتيْن. وما صاحب ذلك في كلا الحالتيْن، من اختلالات اجتماعيّة، عادت على قسم من المهاجرين بالثّراء الفاحش الذي لم يسأل أيًّا منهم عن المصدر .. من أين لك هذا..!!؟. إضافة لترك الزّوجات والأولاد لسنوات طويلة كما حدث لأسرة (تامر نصّور) الذي هاجر إلى غينيا تاركًا زوجته الشّابة وولدين وابنة، وما صاحب ذلك من انحرافات أخلاقيّة عن الأولاد والبنت، وكان الدم هو الذي يغسل شرف العائلة.
كلّ هذه المستجدّات التي عالجتها الرّواية في حقيبة منتصف السّتينيّات من القرن الماضي، وما رافقها من ظهور سلطان النّقابات العماليّة، ودور الجامعات واتحادات الطلّاب. والمدّ القوميّ على أشدّه على السّاحة العربيّة، ولكنّه في مثل حالة لبنان الرّخوة سياسيًّا، أخذ أشكالًا كانت أقرب إلى الانفلات ومنها من لجأ إلى العسكرة متأثّرًا مع ظهور العمل الفدائيّ بعد السبعينيّات.
السّياحة أحد أعمدة الاقتصاد اللّبنانيّ المنفتح بلا حدود، حتّى يظنّ المراقب أنّه انفلات بلا حدود، فانتشرت شبكات تجارة الجنس والمخدّرات وغسيل الأموال، وشكّلت (كارتلات) ضغط اجتماعيّة وسياسيّة غيّرت البنية الأساسيّة للشعب اللّبناني.
في عالم اليوم لا يمكن أن تكون فكرة الانعزال والاستغناء عن المحيط الجغرافي بذات فائدة؛ فالعلائق والارتباطات لها تداخلات، فالسياسي مرتبك بالاقتصادي، وقراره مرهون بحالته الاقتصادية. والتّاريخ سيقول كلمته على أنغام سيمفونيّته الجغرافيّة. لبنان مسرح صغير لا يحتمل لعب اللّاعبين المتنافسين على أهدافهم المتناقضة، وساحة محدودة لا تحتمل المُتراشقين بأسلحتهم دون إصابة الأبرياء، وتعميق جروحهم، وتعميم المأساة لتكون طامّة كبرى تقلب الثوابت، وتُلبس البلد لباسًا غير لباسه.
عمان – الأردن
24 \ 3 \ 2020