الجمعة، 9 أبريل 2021

الفكرة بين الإبداع والتجديف (10)

 


الفكرة بين الإبداع والتجديف

(10)

بقلم محمد فتحي المقداد

 

      الفكرة إذا لم تكُن إبداعيّة لا حياة لها، وكيف تكونُ إبداعيّة إذا كانت مُقيّدة بسُقُوفٍ واطئةٍ بِسِماءاتِها؟؛ تمنعُ التحليق في فضاءات واسعة بلا حُدود. بلا أجنحةٍ تُحلّق بلا استئذان في القلوب والأرواح، حتّى وإن كانت أجنحتُها مُتكسّرةً لا تتوانى في تكريس حضورها عُنْوةً.

   في الحقيقة هناك مُعضلة الإبداع والتقييد، وهو من القيد بمعناه المُتشكّل مَبدئيًّا بِمُجرّد ذكره؛ فهو: (سِلْسِلةُ مِن حديدٍ، يُربَط بها سَجين أو أسير، وقَيْد الأسير: حَبْلٌ، ونَحْوُه؛ يُجْعَل في رِجْلِ الدَّابّة، وغَيْرها فيُمْسِكُها) والعِقال قيْدٌ أيضًا حبلٌ تُعقلُ به الجِمال والإبل، لتقييدها، وتحريزها من الشّرود.

    لاكتمال الرّؤية واِتّضاحها، لا بدّ من استجلاء المقصود بالتجديف، وما دام عملنا في رحاب اللّغة وآدابها، فلا غنى لنا عن العودة إلى مَضَانّها الأساسيّة: (جَدَّفَ فعل، وجدَّفَ يُجدِّف  تجديفًا ؛ فهو مُجدِّفٌ، وجَدَّفَ بالنِّعْمَةِ: كَفَرَ بِها. لا تُجدّفوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ (حديث نبوي)، وجَدَّفَ الْمَلاَّحُ : سَيَّرَ السَّفينَةَ بِالمِجْدَافِ، وجَدَّفَ عَلى اللهِ: كَفَرَ بِنِعْمَتِهِ) المصدر قاموس المعاني.

   ولا يعني ذلك أبدًا، أنّني أميلُ إلى موجة التكفير السّائدة على نطاقات واسعة، أو أستلطفها، لكنّ حلبة النّقاش تتّسع لها الصّدور والعقول والقلوب، ولنتعلم أن نُنصت ونُناقش، ولا أن نُنصّبَ من أنفسنا قُضاة للحكم على الآخرين.

    يرى كثير من الكّتّاب أن المطلوب هو الحُريّة المُطلقة تمامًا، وبلا حدود ولا ضوابط، خاصّة فيما يتعلّق بالإله والأنبياء والأديان، فكيف يمكن تبرير الموقف الخائف أمام القوانين الضّابطة لحركة المجتمع ضمن أيّة دولة في هذا الكون؟. ومعلوم كم هي قاسية الأحكام الصّادرة عن القَضاة والحُكّام القائمين على المُحافظة على كيان وهيئة ورمز تلك الدّولة مهما كانت.

   يبدو أنّ الانتقائيّة والسّياسات والقائمين عليها، واللّاهثين في ركابها، والمُتحزِّبين من اللّا دينيّين، هناك رابط خفيٌّ غير مُعلن فيما يجمعهم، وهو فكرة العداء للأديان عُمومًا على اختلافها، وما يمتُّ لها بصلة، ويُعدّون الأديان سبب رئيسيّ في مصائب البشر.     

وأيّ كاتب لا شكّ أنّه طليعةٌ اجتماعيّةٌ، بما يمتلكُ من قُدُرات وطاقات فكريّة، ويُعتبر من أصحاب المقاعد في الصّفوف المُتقدّمة في سُلّم الإصلاح على كافّة الأصعدة، ولا يُمكن أن يكون مِعوَل هدم، ولا عصًا بيد أعداء أمّته، يضرب بها نيابة عنهم، وخلق حالة عدائيّة غير مُبرّرة على الإطلاق، والمطلوب هو العمل على تكريس حالة السّلم الأهلي والاجتماعيّ. 

(من كتابي –كيف.. كاف.. ياء.. فاء)

عمّان – الأردنُّ

9\ 4\ 2021

 

التناص القرآني عند سليمان نحيلي

 

 

التناصّ القرآني

في نص (تشابه أسماء) للشاعر سليمان نحيلي

 

بقلم- محمد فتحي المقداد

*نص الشّاعر سليمان نحيلي المقصود بالدراسة:

*(تشابه أسماء) الشاعر سليمان نحيلي

لا تخف منّي يا معشرَ النّمل ِ\\ ليس معيَ جنودٌ لأحطمنّكم، ولا أسلحة ..\\ وتلك الحرائقُ عبر البلادِ لم أرتكبها. \\ الآخرونَ فعلوا ذلكَ ..\\ لستُ نبيًّا، وما عُلّمتُ منطقَ النّملِ، \\ وكلُّ ما هنالكَ تشابهُ أسماء ..\\ حتّى هذا الحديثَ معكمْ، وتبسُّمي \\ محضُ تخيّل أنثرهُ على الورقِ حروفاً تُشبه القمحَ ..\\ يا معشر النّملِ: \\ لسليمانَ النّبوّةُ ..\\ ولكمْ ما تبقّى من حقولِ القمحِ \\ بعدَ أنْ استتبَّ بها الرّمادُ\\ ولي ..\\ ليس لي إلاّ الشّبيهُ الاسمُ\\ وهذي اللُّغةُ،\\ وأحلامٌ كثيرةٌ؛\\ أُواجهُ بها كلَّ ذاكَ الخرابْ). ...

***

 

قراءة تحليلية للنص:

   بالتوقّف أما لائحة العنوان، تشابُه أسماء، موشية بالخوف لديّ، لموضوع تشابه الأسماء كما حصل وذهب ضحيّته أناسٌ أبرياء، فمنهم من قضى إلى جوار بّه، ومنهم من أنفقَ ردحًا من حياته خلف أسوار المعتقلات، لمُجرّد تشابه اسمه مع آخر، وهو دليل ثقافة الخوف التي رضعناها منذ تفتّح أعيننا في هذه الدنيا.

   لكن في هذا النصّ، فهو رسالة سلام مُسالمة مُطمئنة من الشّاعر إلى مخلوقات صغيرة الحجم، ضعيفة لا تُضاهي بقدرتها الظاهرة قوة البشر، إلّا أن تكون قوّتها أكبر بفعل معجزات خارقة، كما في حالة النمل الأزرق المنتشر في بلدان الخليج العربيّ، ويقوم بقرض حديد أساسات الأبنية ذي الأحجام العظيمة.

   قصّة سيّدنا نبيّ الله سليمان كما وردت في القرآن الكريم ومعروفة بتفاصيلها بطبيعة القصّ القرآني، ولكن الشّاعر هنا تماثل اسمه مع نبيّ الله سُليمان، هناك في  صوت نملة عارفة عالمة خائفة على وجودها مع بني جنسها، وفيما ورد على لسانها: (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ. قَالَتْ نَمْلَةٌ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) سورة النمل 18. الخوف على الوجود، والتشبّث بالحياة دافع النّملة للإنذار المُبكّر للنمل.  والشاعر نحيلي يتماثل بمقاربته للنصّ القرآني: (لا تخَفْ منّي يا معشرَ النّملِ ليس معيَ جنودٌ لأحطمنّكم\ ولا أسلحة). رسالة سلام بثّها الشّاعر بداية منذ بداية قصيدته. وهي رسالة ابتدأت منذ أوّل جملة فيها، لبثّ روح السّلام والطمأنينة، خاصّة إذا عرفنا أن الشّاعر سليمان حمصيّ المنبت والمنشأ، المدينة التي عانت من الدّمار والخراب، وويلات الحرب وبالتأجيج الطائفيّ.

   وهو ما عبّر عنه فيما يلي: (وتلك الحرائقُ عبر البلادِ لم أرتكبها\الآخرونَ فعلوا ذلكَ). فهو يّعلن براءته مما حدث وما زال يحدثُ هناك (تلك الحرائق)، من حرائق ليس في مدينته، بل (عبر البلاد)، (لم أرتكبْها). ليُخبرنا بوضوح تامّ بإشارته (الآخرون فعلوا ذلك)، والآخرون بعموميّتها تُفسّر نفسها بنفسها من غير عناء البحث والتمحيص. 

   وبالمتابعة لتدرّجات النصِّ، يقول: (لستُ نَبِيًّا، وما عُلّمتُ منطقَ النّملِ،\ وكلُّ ما هنالكَ تشابهُ أسماء\حتّى هذا الحديثَ معكمْ، وتبسُّمي \محضُ تخيّل أنثرهُ على الورقِ حروفاً تُشبه القمحَ). فهو ينفي عن نفسه ادّعاء النبوءة (لستُ نَبِيًّا، وما عُلّمتُ منطقَ النّملِ)، وإنّما إعادة قراءة الواقع على ضوء المُخرجَات، وإعادة تدويرها شعريًّا من خلال نصّ مُتخَمٍ بالوجع المُستكنّ في دواخلنا، وماذا أملكُ بيدي لمثل هذا الشّاعر وأمثاله، وهو يتلمّس مواطن الوجع، ويتحسّس الآلام، بمحالاته لتطبيب الجِراح بِبلْسم كلماته ومشاعره، ورسائله السِّلميّة مقابل رسائل العدوانيّة، يتجلّى ذلك في قوله: (هذا الحديثَ معكمْ، وتبسُّمي \محضُ تخيّل أنثرهُ على الورقِ حروفاً تُشبه القمحَ). بوضوح وجلاء، ولا مجال للتأويل بأي اتّجاه كان ظاهرًا أو مخفيًّا على طريقة التقيّة. أمّا استخدامه لكلمة (قمح) مرّتين، لهو خير دليل إلى حُبّه للحياة، وهو حريص على حياة الآخرين (حروفاً تُشبه القمحَ). هو لم يدّع أنّ حروفه حياة، بل تُشبه القمح لأنّه الخير والحياة والنّماء.

   والتوجّه المُباشر في مجريات النصّ بخطاب جاء على صيغة النّداء المُباشر: (يا معشر النّملِ: لسليمانَ النّبوّةُ ..\ولكُمْ ما تبقّى من حقولِ القمحِ \بعدَ أنْ استتبَّ بها الرّمادُ). خطاب تفصيليّ بعد ان انعدمت حقول الحياة في بلدنا سوريّة، وما تبقّى من حقول القمح هو القليل، المُرمَدَة المليئة بالرّماد دليل الخراب، واستحالة الحياة، والسّهول والحقول المُرمَدة تبقى لسنوات طويلة عصيّة على استيعاب ما يُزرع فيها، وما حصل في بلدنا لا يقلّ عمّا حصل في ناغازاكي وهيروشيما، وانعدام الحية النباتيّة والحيوانيّة، والبشر المشوّهين بعاهات خَلقيّة. وهذا ما سمعناه بالفعل عن مواليد مشوّهة خلقيًّا بفعل الغازات السّامة المُستخدمة في الحرب.

   والشاعر والكاتب والمفكّر والفيلسوف، لا يملكُ إلّا أدواته المنبثقة عن فكره بلا حِراب يقتُل بها، وهو ما عبّر عنه: (وهذي اللُّغةُ،\ وأحلامٌ كثيرةٌ؛ أُواجهُ بها كلَّ ذاكَ الخرابْ). باللغة والأحلام الورديّة يُقاوم بها الخراب والموت.  

   الشاعر سليمان نحيلي يُغرّد للحياة للمستقبل بقصائد لم تأت من رفاه فكريّ، بل من خُلقت كلماته، وأفكاره من رحم المُعاناة. وبالعودة لمحتوى النصّ على قِصَره بالتتبّع نجد: تكرار كلمات بعينها، مثل (بكلماته (تشابه، تشبه، التّشبيه)، (النمل: ثلاث مرّات)، (النُّبوّة ونبيًّا، اسم سيلمان دليل النُبوّة، أي ثلاث مرّات)، (النمل: ثلاث مرّات)، (القمح: مرّتان، والحقول منابت القمح، ليكون ثلاثًا)، (لأحطمنّكم، الحرائق، الخراب: ثلاث أيضًا) وهي دليل على (الأسلحة) القاتلة التي جاءت بكلمة واحدة مفرده، وهو دليل على أنّ كلّ ما حصل، ويحصلُ من التحطيم والحرق والخراب، هو بفعل سلاح واحد، بيد واحدة أيضًا.

   بالتوقّف عند قِصَر النص المُقتضب، هل هذا التكرار أخلّ هبُوطًا بقيمة القصيدة؟. أرى أنّ النصّ جاء مُتماهِيًا حابِيًا على محمل التناصّ  والاتكاء القرآني، وكما أنّ أسلوب التكرار الجماليّ في القرآن؛ جاء لتوسيع دائرة الجماليّات، وللاستفاضة في فضاءات التأويل، لتثبيت الإعجاز البلاغيّ فيه، جاء التكرار في نص تشابه أسماء.

عمّان – الأردن

9\ 4\ 2021

 

 

الفكرة الحداثية بين الوضوح والرمزيّة (9)

 

الفكرة الحداثيّة بين الوضوح والرمزيّة

(9)

بقلم – محمد فتي المقداد

 

   تختلف مهارات الكُتّاب في طريقة إدارة الفكرة الوليدة المُتحفزّة للاستقرار على صفحة بيضاء، ولكلّ كاتبٍ أن يشتغل على فكرته بالطريقة التي يراها مُناسبة في أبهى حُلّةٍ بيانيّة، بعد أن تُصبح نصًّا مُكتمل الأدوات جميعها.

   والحداثة كما أفهمها، أن اللّغة وأدواتها ما تزال هي هي منذ امرئ القيس والمُتنبّي وأبي العلاء المعري، مع تباعُد الزّمان وامتداد الحياة النّابضة في لغتنا، فهل الحداثة، هو الإتيان بشيء خارج هذه الإطار اللغويّ العروبيّ. قطعًا: لا.

   إنّما الحداثة دليل دامغ على حيويّة المُحتوى اللغويّ العربيّ على مُواكبة التطوّرات العالميّة، كثورة الاتّصالات والعولمة، والتطوّر الهائل بالوسائل الصناعيّة، وسلوكيّات الاستهلاك المُترافقة مع الانحسار الكسير، للتأثير العربيّ الحضاريّ الخابي منذ سقوط الأندلس 1492- إلى سقوط بغداد الثاني 2003، و الانحدار المُتسارع في منزلق الحروب الأهليّة والطائفيّة، والتردّيات الاجتماعيّة، والاقتصادية، والسياسيّة، وما تبدو صورتُه واضحةَ للعَيَان، ولا يختلف عاقلان عليها.   

  بالعودة إلى الفكرة المتأجّجة بنبض بالحياة، الواضحة بمسعاها الرّشيق النّشط المؤثّر بسلبه للعُقول، رغم المخاطِر المُحيقة بالكاتب من وضوحه، وأحيانًا من يلجأ بتسمية الأشياء بمُسميّاتها. على الضفّة المقابلة هناك كُتّاب الرّمزيّة، والعناية بالإشارة لشيء يدلُّ على شيءٍ آخر، وذلك لأسباب القهر الدكتاتوريّ، وانعدام الحُريّات في ساحات الشّرق عُمومًا.

   وهُناك ربطٌ غير مُبرّرٍ بين الحداثة والرمزيّة، وظهرت أيضًا مذاهب (ما بعد الحداثة) و(ما بعد حداثة الحداثة)، ولها تنظيراتها الخاصّة بها، ربّما لا تعنيني كثيرًا، نظير فهمي لطبيعة ما يُكتب. وأرى طائفة من الكُتّاب يميلون لكتابة طلسميّة، لا يُمكن لزعيم العفاريت الزُرق أن يحلّ شيئًا منها، فما هو الرّابط بين الحداثة والغرابة غير المفهومة في الأدب خاصّة، على اعتبار أنّني من هُواة الأدب عمومًا.

فما فائدة أيّ نصٍّ أدبيِّ إذا لم يُلقي بمفاتيحه للقارئ الذوّاق؛ ليتلذّذ، ويترنّم طرَبًا على مسارات لما بين يديْه؟.

 

(من كتابي – كيف.. كاف.. ياء..  فاء)

عمّان – الأردنّ

9\ 4\ 2021