دقيقة واحدة.. فقط
محمد
فتحي المقداد
محمد فتحي المقداد
دقيقة واحدة
(مجموعة قصصية)
2023
التصنيف
بسم الله الرحمـــن
الرحيم
المقدمة
الحمد لله وبه أستعين:
جاءت فكرة العنوان من جوهر فلسفة؛ قامت عليها تقنيَّة
السَّرد القصصيِّ للنُّصوص القائمة زمنيًّا على مساحة دقيقة واحدة فقط.
أعتقدُ أنَّ فكرة تكوين مجموعة كاملة قائمة على توقيت
دقيقة واحدة فقط لكلِّ نصٍّ فريدة، لعلَّ ذلك يكون من باب التجديد الحداثيِّ لهذا
المجال الأدبيِّ الهامِّ، تابعتُ ماضيًا في مُغامرتي هذه، راجيًا من الله التوفيق
والسداد في مسعاي، وأن يكون الصّواب مُصاحبي؛ فيما ذهبتُ إليه تغريدًا ربّما خارج
السّرب.
2022-2023
محمد فتحي المقداد
البصّارة
رشاقةُ
حركة يديْها المدروسة في كلِّ مرَّة تُفرِغُ فيها خليط الحصى، وقِطَعُ العظم
والوَدَعِ من كيسها القماشيِّ الأسودِ المعقودِ بقطعة خيط عتيق.
وجهُها
الموشومُ بخطوط مُتشابكةٍ على ذقنها تحت شَفتيْها الرّقيقتيّن، مُوحٍ بطمأنينة
تولَّدت للتوِّ، اِبْتسامتُها تفسحُ المجال لِلألَاء نَابِها الذَّهبيِّ إبهارَ
عينيَّ؛ لتنقُلا اِكْتمال اللَّوحة بكامل بهائها للمُخِّ.
محاكمةٌ
صوريّة مُسبقة الحُكم: "كَذَبَ المُنجّمُون، ولو حاولوا أن يكونوا صادقين".
لم يمنعني من مُقاطعاتها، والإفلات من رجائِها المُتوسّل بسماعِها، ولو لمرّة
واحدة..!!. قُبيل مُغادرتي لقهوتي، قرعَت باب البيت المفتوح على مصراعيْه في مثل
هذا الوقت من كلّ يوم.
لذّة
لَكْنَتِها الغجريّة بطعم قهوتنا العربيّة، عندما ألقت التحيّة.
هَمَمْتُ
بالمغادرة، أجلستني بطلب التمهّل، بعد أن غرزت عينيْها في فنجاني تركيزًا باحثة عن
مجهول. تُدوّره بين أصابعها، وتزمّ شفتيْها؛ لتكميل خارطة خطوط الفنجان الممتّدة
إليها مَسحًا. قالت:
- "بالله
عليكَ اِمْنَحْني دقيقةً واحدةً فقط."
اِهْتزازُ
رأسي تَرَافق مع عَدَم ردِّي عليها. الدَّقائق تنفًدُ مُخلِّفة وراءَها حَسْرة
ضياعِها.
رفعتْ
عينيْها لتشتبكا بنظراتي الزَّائغة بِنيَّة اِفْتراسها. تحفُّزٌ داخليٌّ، كأنَّما
اِهْتزَّت الأرضُ زَلْزلةً تحت قدميَّ. اِرْتعاشاتٌ لا إراديَّة أطاحتْ بآخر حُصون
دفاعي. دَاهَمتني أُمنيةٌ: لو أنَّني تَسَوَّرتُ حُصونها للإطاحة بها، وأطبِقُ على
شَفَتَيْها في غارة خاطفة.
-"فرسٌ
أصيل يسير بسرعة البرق، خلفه غبار كثيف لمسافة طويلة، خيّاله يحثّ السّير بلا
استراحة تحدوه الأشواق. أنتَ تقف في بداية طريق مُمْتدَّة من مكان بعيد، ولو قُيّضَ
لكَ أن تركبَ الفَرَسَ القادم لِتُتابعَ به، فربَّما تصلُ مُبكِّرًا". قالت
كلامها.
أتفقَّد
السَّاعة، اِطْمأنَنْتُ إلى أنَّني ما زلتُ ضِمْن الدقيقة. همَمتُ بالنُّهوض،
بينما نَثَرت كيسها على بلاط الأرض.
تابعت:
" -إذا تَطَابَقت قراءتي
للفِنْجان، مع الأحجار؛ فأنتَ من أصحاب السَّعد هذا اليَوْم" .
لبرهة
تُهتُ في غيابات الذِّكْريات المُلهِمَة، كأنَّ يدًا رقيقةً لامَسَتْ عُنُقي،
تزامن مع آخِرِ كلماتِها السَّاحرة.
دَعوْتُ
الله في سِرِّي أن يُخيِّب مَسعاها عندي، وأنا مُقيمٌ على حُكْم اليقين فيها
وبفعلها الكاذب.
رقَّ
قلبي لرجائها. اِعْتقدتُ أنَّني فاتحة سِعْدها في التَرَزُّق هذا اليَوْم، أقصى طُموحها
أن تحصل على إكراميَّة العشر ليرات سوريّة.
يا
إلهي كم تتحمّل هذه المرأة المُتشبِّثة بالحياة..!!؟
وهي
تحتال على لُقمة العيش، ببيع الأوهام لي ولأمثالي.
وكيف
تُراق كَرَامُتها في أحيانٍ كثيرةٍ على يد الأشقياء!!؟.
اِبْتسامتُها
عريضةٌ مُنبئةٌ عن تَطابقاتٍ في ذِهْنِها، لا عِلْم لي بما ستقولُ، اِرْتسمتْ
بشائرُ فَرِحةٍ على وجهها، تألّقَتْ في عينيَّ مُجدّدًا. حاولتُ إزاحة وجْه
الجيوكندا من مُخيِّلتي، وكدتُ أصرخُ على دافنشي، كيف خانته فِطنته عن هذا الوَجْه
القمريِّ المُتلألئِ نورًا يتغلغل في قلوب مُحيطيه؟.
اِبْتسامتي
طيلةَ يوْمي لم تَبْرَحْني، على غير العادة، تساؤلاتُ الزُّملاء والزَّميلات تنهال
عليَّ.
***
لحظة عامرة
تُطلقُ
العَنان لدُخّان النرجيلة (الشيشة) باحتلال مساحة من أفُقٍ تَسرحُ فيه نظراتي المُستغرقة
في تأمّل شيءٍ بعيدٍ غير واضح الملامح.. تخمينات: "يا إلهي.. إنّه يُشبه
فيلًا.. لا.. لا.. أقرب إلى ديناصور.. عندما رفع خرطومه تأكّدت منه".
بشراهة
تنفثُ من فمها ما تشفطه بقوّة نفسها من الخرطوم الممتدّ إلى فمها.
خُيّل
لي أنّها بحالة عصبيّة.. غير مُكترثةٍ للنَّسمات المُنطلقة من مياه البُحيْرة عن
يمينها، ولا للصوت الشجيّ القادم من آلة تسجيل؛ أدمنت أمّ كلثوم في مثل هذا الوقت
من كلّ يوم. على الأقلّ منذ عشر سنوات، في أوّل مرّة قدمتُ إلى هذا المقهى الهادئ؛
تنفيذًا لموعد هامٍّ آنذاك حسبَ اعتقادي.
نسمة
رطبة مُسرعة أزاحت سُحُب الدخان.
"-أوه..!! أين اختفى
الفيل.. إنّهما فتاتان تتهامسان. اليُمنى منهما تميلُ برأسِها قليلًا إلى اليسار..
أظنّ أنّهما التصقتا، وراحت تحكي: لها عن حبيبها المشحون بطلعة بهيّة منذ أوّل
لقاء، إذا اشتبكت عيونهما".
نهضتُ
مُسرعًا دون استئذان من أحد، الكُرسيُّ المقابل لي ما زال شاغرًا. خمسُ دقائق طافت
موعدي الذي أنتظره.
"-مواعيدٌ كاذبةٌ.. لم
تزل تَكْويني بالتأخير.. لكن لماذا أنتظر..!!؟، سَذاجتي تقودني في كلّ مرّة لموعد
فاشل".
ما
زالت السيّدة تشفطُ الدّخان بعصبيّة.
-"أوووف".
قرعَتْ
سمعي تنافُسًا مع قرقرة النارجيلة، وأنا أقتربُ منها مُغادرًا المكان، ملامحُ
خيبتي انعكست على عدسة نظّارتها السوداء.
ابتعدتُ.
همْسُ
الفتاتان يتناغم بصعوبة مع "أوف" السيّدة بتآلفٍ مُقلقٍ على ساحة
تفكيري، وقرقرة النارجيلة طاغية، لم تترك لي مجالًا لاستعادة شكلي عن عدسة نظّارتها. تشويشُ
مُربِكٌ أذهلني نسيانًا
لهدفي.
***
انتظــــــــــــار
- "هل تذكرين..؟". من فوري انطلق لساني، بعد
اشْتباكِ نظراتنا صُدفة في لقاء عابر لم يحصل منذ سنين.
- "أوه..!!". وضربت كفًّا بكفٍّ..، نظراتُها
زاغت في لُجّة الشّفق المُتماهية مع حُمرة خدّيْها المُتوهّجين توغّلًا، غير آبهة
بانسحاب آخر خيوط الضوء على عجلة من أمرها. لسانها يتلجلج بكلمات مُتداخلة لم
أتبيّن ما قالت، وتابعت بوضوح: "نعم.. وهل يُنسى ذاك المساء البعيد؟".
- "ها أنا ألتقيكِ.. والهوى ثالثُنا على شُرفة
الأشواق".
- "آه.." مبحوحة خرجت من بين شفتيْها
النّاشفتين على استحياء وعناد: "آآآآآآه .." طويلة تتقلّب قهرًا مع
أنفاسها الحرّى الصّادرة من أعماق أعماقها: "أُحِسّ انسكاب روحي في كأسِ
عُمريَ المكسور، يُراقب حركات البيادق على رقعة الشطرنج، والأيدي تتحرّك برشاقة
وذكاء. وما زلتُ بانتظار من سيقُل:" كِشْ ملِكْ".
- "عزيزتي.. مؤكّدٌ أنّ أحدهم سيُنهي اللّعبة في
لحظة ما".
-" وأنا مُقيمةٌ علي قيد انتظار".
اللّاعبون لم يُخالطهم الملَل، أفكارهُم تتواثبُ تزاحمًا
مع سُحُب الدّخان من لفافات السّيجار.
لم يَطُل اللّقاء لاستجرار المزيد، حتّى اختفى خيالُها
بين حشود العابرين في الاتّجاهيْن للشارع المستقيم، الذي تصطفّ محلّات البلدة
كلّها على جانبيْه، أدركتُ سبب انطلاقها بلا كلمة وداع، وخطواتها تتسارع؛ لوصول
المخبز قبل موعد إغلاقه، لا سيّما مع اقتراب ساعة حظر التّجوال، والعتمة تتمدّدُ
للسيطرة على بقايا فُلول النّهار.
***
سلطان النّوم
رنينٌ مُتواصلٌ على مدار دقيقة كاملة، يُصارع ظلام
الغُرفة بإصرار عنيد على أداء مُهمّته المُؤتَمَن عليها. لا يهدأ إلّا غفوة قليلة؛
لمناوشة فرصة جديدة؛ قاطعًا سلسلة سيرة شخير ونخير بموسيقاها الصّاخبة كاسرة صمت
اللّيل الموحش بهدوئه المُريب، وظلامه المُخيف بتخيّلاته الدّائمة.
يدُ فطين
تتحرّك على غير هُدًى بحثًا عن مصدر الصّوت، المُنبّه غير مُراوغ في تعبيره
بإعلانه الصّريح حتّى وإن كان مُزعجًا، استمرّت وتيرة الحُلُم المناوئة لعناد
الرّنين إلى مَدَايات تقطر تفاؤلًا:
"المدينة
عادت إلى سابق عهد شبابها الأوّل، قبل أن تشيخ في ربيعها القرمزيّ اللّون على مدار
سنواتها العشر. في عيد شمّ النّسيم خرج العمّال للاحتفال بمنجزاتهم التي يفخرون
بها مُباهاة.
هُتافاتهم للوطن ألهبت أصواتهم.. ميدان السّاعة في حمص
شاهدٌ على تشكيل الصُّورة، والطَّائر اللَّيْليِّ في تلك لم ينم عندما جفاه
النّوم، فَجَعه هَوْلُ ما رأى من اِقْتحام الجنود للاِعْتصام السِّلميِّ المُرابط،
قبل مُغادرتهم.
ظنّ أحدهم أنّ طائر اللّقلق رأى ما فعلوا؛ فصوَّب إليه رَشْقَة
رَصَاصٍ من بُندقيَّته الآليَّة قبل أن يفْلِتَ ويهرب من عُشَّه.
في الصّباح عادت السّاحة نظيفة تمامًا، غسلها عمّال
البلديّة استعدادًا لاستقبال وفد دوليّ، نبضُ الحياة تجدّد بشكل شبه طبيعيّ، كأنّ
اللّيلة الدّامية تباعدت زمانًا، ولم تكن
قبل ساعات.
استقبال باهرٌ هُتافاتُ المؤيّدين الغاضبة على
الإرهابيّين، وأعضاء الوفد كأنّهم لا يسمعون ولا يروْن شيئًا، أقلامهم تُسجّل
ملاحظات لا أحد يعرف ماهيّتها، عدسات كاميراتهم تُوثّق ما ترى أمامها مُكذّبة
روايات اليوتيوب المُفبركة، برج السّاعة طالته يدُ النّظافة.
لا أحد يلاحظ أحزانه المكتومة، وما زال مُنتصبًا بشموخ،
مُعاندًا رنين المُنبّه". انقلبتُ إلى الجانب الأيسر مع مُهلة غفوة التنبيه
بعد دقيقة من الأولى.
***
ما الحبُّ إلَّا..
للحظة
اصدامهِما المُفاجئ عند مدخل السّوبرماركت توقّف التاريخ.. أمام صمتِ الشّفاه..
حديثُ العيون كان وحده المسيطر.
حاجز
الهواء البارد المُندفع بقوّة جهاز التكيّيف في أعلى الباب؛ وتّر حرارة لقاءٍ غير
مُرتقَب.
سيْلُ
ذكريات مخبوءة بين طيَّات النِّسيان منذ عشرين عامًا. اِنْهمرَ جنونًا مُتدفّقًا
بينهما.
ابنها
خلفها يدفع عربة مليئة سلّتها بالموادّ الغذائيّة، مُتوقّف بانتظار أمّه إفساح
المجال أمامه للخروج نحو سيٍّارتهم المركونة. لم يُدرك سبب توقّفها، بصوت اخترق
ذهولها:
- "ماما.. ما الذي جرى
لكِ؟".
- "آه.. يبدو أنّي تذكّرتُ شيئًا".
وانطلقت
مسيرتهما خارجًا. بينما الرَّجل
مُتَسَمِّر بمكانه.. شيّعَهُما بنظراته الحسيرة مثلما ذاك اليوم؛ عندما أخبرَتهُ
أنّ هُناك من جاء لخِطبَتها، ولا حيلة له وقتها مع ظروفه الماديّة السيّئة العنيدة.
-"آهٍ.. يا جُرح قلبي المُندمل.. يا
لعنةً أطفأت حُبّي الأوّل.. ما أروعه ذاك الشاعر: (نقّل فؤادكَ حيثُ شئتَ من
الهوى// ما الحبُّ إلّا للحبيب الأوّل).. وأنتِ يا ربّة الحُسنِ.. كنتِ
وكنتِ".
ضاقت
عليه أنفاسُه مُتحشرجَةً.. سقط مغشيًّا عليه.. فتح عينيْه على
رُعب الخراطيم القادمة من الأجهزة الُملصقة على جسمه، وعلى أنفه.
شاشات
الأجهزة تتفاعل بخطوطها صُعودًا وهُبوطًا منتظمًا. حمدًا لله على سلامتكَ: قال
الطبيب قبل انصرافه.
لم
يجد أحدًا كان من الممكن أن يسأله عن مصير الحبّ الأوّل: -"يا إلهي اِرْأَفْ
بقلبِها الحنون.. ربَّاه: لا تُصبهُ بأذى.. ماذا لو أنّ صدمَتَها لِرُؤيَتي قد
أوصلتها إلى مأواها الأخير..؟".
***
تبــــادلات
ما بالُ الرَّصيف راسِلٌ صمته المُريب، لم
يَبُح بما حصل في آخر اللّيل، أو في الصّباح الباكر، وعند المساء. يتساءل سرًّا
ذلك الرّجل الذي يحتلّ زاويته المعهودة منذ أشهر عديدة بجانب عمود الكهرباء.
قالوا: إنّ سُكّان الشُّقق في العمارة في
الجهة الأخرى المُقابلة له، مُتوجّسون بِطُروئه على المكان، شكوكٌ أحاطته بهالة
تأويلاتهم الصَّابَّة في اِتِّجاه وحيد.
شكلُه مُنبِئٌ عن خفايا لا تزيدُها ملابسه
الرثَّة إلّا تأكيدَ وظيفته القائمة بجانب عمود الكهرباء، لم تنفعه ابتساماته
المُصطنعة لفتح خطوط التواصُل مع مُحيطه. عيناه تُوَصْوِصان على العابرين للطريق،
ولم تنسيا جِوارَه المقصود.
الصحفيُّ الشَّهير صاحب الزَّاوية اليوميَّة
في الصفحة الأخيرة من الجريدة الحُكوميَّة، وعلى غير عادته بالخُروج والدُّخول إلى
شُقَّته، وقفَ أثناء عودته أمام باب العمارة؛ كأنّهُ تذكّر شيئًا من وصايا زوجته
لشراء بعض الأغراض الضروريّة.
الرّجلُ مُتَّكئٌ على العمود بوضعيّةٍ مُوحيةٍ
بتعبه، لكنّه لم يبرَح مكانه منذ الصّباح.
لاحظ الصحفيّ ذلك، يبدو أنّه تذكّر أمرًا ما،
بينما امتدّت يدُهُ اليُسرى لرفع قُبّعتِه رمزه الذي لا يُفارقه على الدوام، ابتهج
الرّجل من الجانب المُقابل على الرّصيف. أرسل ابتساماته من جديد، ورفع يده بردّ
التحيّة.
حرارة الجوّ عرَّقتْ صلعةَ الصحفيّ، أخرج
منديلًا لتجفيفها، ولم ينسَ حكّها برؤوس أصابعه، ثمّ أعاد القُبّعة إلى مكانها،
وتابع دخوله إلى بيته.
وما زالت ابتسامات الرّجل مُندلقةً على عرض
الطريق، قوبِلَت بنظراتٍ الصحفيّ الشَّزِرة بشهادة عمود الكهرباء.
***
حذر هادئ
صدفةٌ عابرة جمعتني منذ فترة بِشخصِ مُتأفِّفٍ
مع صديق لي، بادَرَ من فوره بعد السَّلام، لمَّا عرفَ قبل قليل؛ بإعادة فرض الحظر
الشّامل ليوم الجُمُعة، نظرًا لانتشار وباء الكورونا على نِطاقات واسعة، وصلت حدَّ
المُعدَّلَات المُنذرة بالخطر القادم: "غير معقول ما يحصل".
بابتسامة منّي أغاضته، وأنا أُنصِتُ إليه،
حتّى انتهى من كلامه. بادرتُه: "بأنّ ما سَمِعتُه منه هذه اللَّحظة، هو أفضل
خبر لهذا اليوم".
رغم أنّني مُقاطع لنشرات الأخبار منذ سنوات،
حتَّى نشرات الأخبار الجويَّة أسأل عنها، رغم أنّها مُتاحة بين يديَّ على الموبايل
أيضًا.
"أشتاق لمُمارسة الكسل يا صديقي..
باعتقادي أنَّ الكَسَل غاية لا تُدرَك مهما طال مُقامي فيه. كما أنَّني أجدها
فُرصةً هادئة؛ ينعدم فيها الضجيج الذي أُعانيه ليل نهار؛ لأخلوَ بنفسي، وأجلسَ معها للاستمتاع بالتَفكير
الهادئ، والقراءة فيما هو مُؤجّل عندي، لتراكُم الكثير من المواضيع المُصطفّة
بانتظار مجيء دورها، ولمزاحمة المُستعجل منها".
غادرني صديقي مُبتَعِدًا؛ قساوة انقضاء
اللّحظة عاجلًا، لم تسمح لي بالتبسُّط بأسئلتي له والحديث معه؛ وما زال صَدَى
بَرْبَرَة الشّخص الآخر بكلمات مُغَمْغَةٍ، لم أفهم مِنها شيئًا على الإطلاق.
شجّعني ذلك على الانخراط بمُحاكاة مع نفسي، لم
أجد المُبرّر المُقنع لها وسط أصوات هدير مُحرّكات السيّارات العابرة، وزماميرها
المُنْبِئة عن ضيق سائقيها من الازدحام المُروريّ الخانق.
***
ضجيج
فكرةٌ
عنيدة لا تُبارحه؛ حتَّى تُعاوده من جديد؛ لِتسحوذَ على نوافذ عقله، وجوامع قلبه،
في كلِّ مرَّة عند لحظة الكتابة يتوقَّف لأسبابٍ قاهرةٍ خارجةٍ عن إرادته، يستسلمُ
لِخَوَر عزيمته، تنهارُ مُقاومة رغبته؛ فيُعرِض صَارفًا النَّظر عن الكتابة،
اختلاطاتٌ غاضبةٌ مُشوبةٌ بالعجز الطَّارئ عن المُتابعة، لم تمنعه من تِكْرار
تجربته التي لم يستطع سَكْبَها للآن في ورقة.
أهمل
الموضوع رغم أهميّته: "لماذا لا أصرف النَّظر عنه تمامًا، وأنتقلُ إلى شيءٍ
آخر"، اِنْتفضَ جافِلًا من غَفْلته، اِرْتعشَ جسمه باِهْتزازٍ ملحوظٍ،
اِنْدلقَ قليلًا من فنجان قهوته على طَرَف الورقة، كأنَّ الصَّوت سمعه من آخر وليس
من نفسه، بحركة لا إراديَّة قام عن كُرسيِّه مُستعجِلًا، فتح الباب ثمَّ أغلقه،
أزاح السِّتارة عن زجاج النَّافذة، رأى خياله كشبح أسود، اِصْطكَّتْ ساقاه كادَ أن
يسقط مكانه في أرض الغرفة، اِسْتند للحائط، وهو يتحسَّس أثرَ بَللٍ مُنسرِب
بينهما. "الحمد لله إنَّه تعرُّق". أخَذَ نفَسًا عميقًا، وراح في إغفاءة
بعدما تمدَّد على سريره.
ما
إن وصل إلى دَوَامِه صباحًا في دائرته الحكوميَّة، وقبل القيام بأيِّ عمل، تفقَّدَ
قلمه، والورقة أمامه على طاولة المكتب جاهزة تنتظر، أوَّل نقطة طُبعت عليها أخذت
موقعها في أوَّل سطر.
عينا
صاحب السَّعادة في الصُّورة الكبيرة المُتربِّعة تُراقبانه، حانَتْ منه اِلْتفاتةٌ
إليها، تذكَّر شيئًا مخبوءًا بنفسه منذ زمان، بتشنُّجٍ واضحٍ يضغط بأصابعه على
القلم؛ لإجباره على المُتابعة، فيضان بياض الورقة رَفَض النُّقطة بمحو أثرها.
لسانُه
تحرّك مُردِّدًا:
-"الحمد
لله."
يداهُ
تمسحان وجهه؛ لإزاله نَوْبة الكَسَل عنه، ذهب ثانية إلى النَّافذة. طمأنينةٌ عارمةٌ
غَزَت قلبه. حركاتُ قِطَّة المنزل المُثيرة بمُداعبة أوراق الأشجار المُتساقطة
بفرح غامر، صاح عليها لتأتي. تذكَّر
حاله: "أوه..!! مازال صَوْتي باستطاعته أن يعلو".
***
الحكواتي
الحكواتي على
غير عادته توقّف فجأة عن الاسترسال في حديثه. لمح ذاك الرّجل القابع في الزاوية
شبه المُعتِمة، كوجه ذاك التمثال المُنتصب في ميدان العاصمة الرّئيس، بإطلالته
العُلويّة من فوق القاعدة الرُّخاميّة العالية بمشهديّة بانوراميّة.
خطوط وجهه العميقة حفرها النحّات بعمق جراحات، وعذابات
الحكواتي مع أبطاله.
عينا الرّجل
ما زالتا مُصوّبتَيْن إلى فم الحكواتي. الحكواتي مُجهَدٌ من أثر معارك جسّاس والزّير، حاول إزاحة تراكُم نظرات
زبائن المقهى جميعًا عن شَفَتيْه، تثاءب على غير عادته، وضع كفّه اليُمنى على فمه،
بحركة من أصابعه، دفَع بالعوائق –ممّا يظنّ من نظراتهم- المُتراكمة إلى جوفه.
فَطِن بأنّ الجميع صامتون بانتظار إكماله للمشهد. أعينهم
تتركَّز نظراتها في وجهه، من جديد مَسَح
وجنتيْه، وحَوْل أنفه، ومحيط فمه، وآثار تعرّق جبينه.
اعتدل في
جلسته. أصلح طُربوشه الأحمر ذي الشُّربوشة السوداء المتناغمة بحركاتها المنفعلة؛
بفعل اهتزاز رأسه مع نهاية كلِّ عبارة حارّة إذا حمي الوطيس.
تنحنح بصوت
مسموع في أرجاء صالة المقهى، وضرب بعصاه الرّفيعة على طاولته، نظّارته ثابتة على
رأس أنفه، لكنّ عيناه تنظران من خارج الإطار إلى صفحات الكتاب العتيق، ذي الورق
الأصفر، استأنف سرده في القسم المُخصَّص لهذه الأمسية من السِّيرة الهُلاليّة،
وابتدأ قوله:
-"يا سادة.. يا كرام...إلخ".
تذكّر حدّة
نظرات التمثال الجامدة، والمُحدِّقة في وجوه العابرين جميعًا بلا استثناء، استعاد
تفاصيل مُروره في نفس المكان قبل مُدّة؛ تلعثُم لسانه نبّه جمهور المُستمعين لشيء
ما، أو خَلَلٍ خفيٍّ، على إثره اجتمعت كلّها في لحظة واحدة.
شعر بثقل
نظراتهم في وجهه، كان على وَشَك أن يصرخ فيهم:
-"كفى.. كفى.. أرجوكم".
أدْرَكَتْهُ
صحوة نفسه في اللَّحظة الأخيرة؛ توقّف، كأنَّه حرَّك لسانه في فمه بكلام، لم يسمعه
إلا هو:
-"ما الذي جرى لي، كأنّني جُننتُ..!!".
كلام
زوجته حينما حدّثته في اللَّيلة الماضية؛
شتّت تركيزه الآن، وبدّد طاقته، وهي تحكي نقلًا عن قريبتها التي تسكنُ في الضاحية
الراقية على أطراف العاصمة، في زيارة لها بمناسبة نجاح ابنتها.
كلماتُها ما
فتئت تقرع سمعه.. عندها قرَعَ بعصاه الطاولة:
-"شاب اختفى منذ أسبوع. قيل: "أنَّه أشار بأصبعه
الوسطى إلى وجه التمثال الجامد في ليلة
باردة بامتياز.
هبوب الريح
منعت الناس من الخروج إلّا للضرورة القُصوى، حتّى رجال الرّصد والمُراقبة على أطراف السَّاحة الواسعة، أغلقوا عليهم باب
مكتبهم، مُتحلِّقين حول مدفأة المازوت، ومصّاصات المتّة في أفواههم؛ يرتشفون
شرابها الدّافىء.
حديثها الطويل
عن زيارتها استغرق السّهرة كاملة، استمع لها باهتمام، وجّه سؤاله الوحيد لها:
-"ومن الذي أخبرهم إذًا عن الشاب؟".
دوّامة من
الصمت غيّبته تفكيرًا في متاهاتها، ولم يَعِ شيئًا من إجابتها: قالوا:
-"هناك كاميرات مُراقبة داخل عينيْ التمثال".
اعتذر من
زبائن المقهى، وغادر قبل انتهاء موعده عند ختام المشهد كما هو معتاد في كلّ سهرة.
تأفّفٌ. ضجرٌ. قرقرة النراجيل سيطرت، ودُخَّانها
لم يتوقّف صدوره من أفواههم.
***
ذات النظّارة
اِتِّصالٌ
من مُتكلِّمٍ مجهولٍ، تظهر عبارة (رقم خاص) على شاشة الهاتف النقَّال. صَوْتٌ غير
مألوف، اِقْتحم عالمه بفظاظة مررتُ بها سابقًا:
-
"جهِّزْ نفسك".
اِنْقطع
الاِتِّصال قبل اِسْتفساره، لم تُتَح له فرصة تحريك لسانه داخل فمه.
تُركِّزُ
نظراتَها على شَفتَيْه عندما خَرَج طَرَف لِسَانه بحركةٍ لا إراديَّة، غير بريئة لِتَرطيب
جفافهما -حسب رأيها-.
لم
ينتبه لها إلَّا قُبَيْل اِنْحرافها إلى الجهة المُغايرة له، النظَّارة السَّوداء
غطَّت معظم ملامح وجهها. عجزت ذاكرته عن معرفة أيَّة معلومة مَنسيَّة، أو مَوْقف
ربَّما جمعه بها، ولا حتَّى مكان ولا زمان.
نظراتٌ
بلهاءٌ طفَحَت على ملامحه، بينما راح يمسح وجهه، كأنَّه أحسَّ بِثِقَل نظراتها على
شَفَتيْه. مطَّهُما للأمام. سمعتْ أُذُناه صوت إطباقهما بقوَّة قُبْلَة عميقة الفُحش.
عيناه
ما زالتا تقتفيان أثَرَها بين زحام النَّاس في سوق الخُضار. بالكاد سَمِع رنين
الهاتف. فستانها الأحمر.. وطلاء الشِّفاه.. وتورُّدُ الخدَّيْن. نيرانٌ تبعثُ بوهج
حرارتها؛ لتصطدم بِصوْتٍ ناعمٍ رقيقٍ.
-
"اللَّعنة.. أيضًا.. رقمٌ خاصٌّ" .
-
"ألْ.. للُّو - بِغَنج غير طبيعيٍّ- حضرتُك الرَّوائيّ الذي حصل على
الجائزة؟".
-
"نعم.. أنا هو".
-
"خلِّيك معي لحظة، لو سمحتَ. سعادَتُه مشغولٌ بمكالمة".
-
"مؤكَّدٌ أنِّي معكِ" .
إشعار
تطبيق الواتساب اِقْتحم الشَّاشة عُنوةً غير آبِهٍ بالموقف الذي ينتظره.
-"
آه.. لو عَلِم سعادته بأمر الصَّديقة، لا أشكُّ بإجباري على تسليم رقمها له".
بحركة
لا إراديَّة ضغَطَ على كَشِيدَةِ الإشعار السَّوداء. ضاع صَوْت السُّكُرتيرة،
وتوقَّفت حركة الهاتف، كأنَّ عُطلًا مفاجئًا حلَّ به.
-
"يالَلْحَظِّ السيِّئ الذي يُلازمني عند الضَّرورة. إنَّه كيوم نَحْس
النُّعمان بن المُنذر".
لم
يتمالك نفسه مع اِجْتياح نَوْبة الغَضَب المكبوت فيه، بالشَّتْم والسبِّ
والتحسُّر. تراخت أعصاب يده؛ فسقط الهاتف من يده، تصادفَ مرور سيَّارة بجواره؛
فتحطَّم.
ضاع
في الزَّحمة، وهو يَحُثُّ خُطاه المُتعبَة في أثر ذات النظَّارة السَّوداء، وضجيج
السُّوق تآلَفَ مع أصوات الباعة بتشييع أثرِه، رغم كلِّ ذلك لم يسمع إلَّا نداءً خَفِيًّا.
مُتتاليات
نداءات
البائع في طَرَف السُّوق الفارغ من الزَّبائن.. ذكَّرني بصُراخ الجلَّاد بعد العفو
العامِّ. بينما السُّجناء كانوا يتلَّقُون التَّهاني بالإفراج عنهم. كادَ يُجَنُّ.
قيل: "أنَّه صمَّم على الاِنْتحار لولا أنَّهم تداركوه بالمنع.
ولم
أجِدْ مُبرِّرًا لنَوْبة القلق عندما داهمتني في الحال، صورة المُبلِّغ في قاعة
المحكمة المُنعقِدَة للنُّطْق بالحُكم على المُتَّهَم، الذي نُفِّذَ به الحُكم بعد
أن لقَّنه المفتي الشَّهادتَيْن قبل ذلك. للآن لم أُدرك السَّبَبَ الحقيقيِّ
الكامن خلف النَّبرة العالية الغاضبة للرَّئيس السَّادات أثناء خطابه في مجلس
الشَّعب، والأعضاء مُنْصِتُون. يُحملقون في وجهه الأسمر يتأمَّلون تقاطيع جبهته
بخطُوطها المُستقيمة كخطِّ "بارليف"، ويُصَفِّقون.
زعيق
أبواق السيَّارات المُتَوقِّفَة باِنْتظار الإشارة للسَّماح لمركباتهم بعُبور
التقاطع؛ عندما أضاءت بلونها الأخضر، نفاذ صَبْرهم من مُراقبة لونها الأحمر؛ هيَّج
الزَّعيق بوتيرةٍ مُزعجةٍ؛ ليقطع سلسلة أفكاري المُتتالية خلال اِنْتظاري معهم.
أقلعتُ من مكاني، وصرير دواليب سيَّارتي يتجاوب مع ضِيِق سائِقِي السَّيَّارات المُحتجِّين.
بينما
سمعتُ صُراخ سائقٍ فاضَ صبره غَضَبًا:
-"العَمَى
فيك..!! شو نايم؟".
وآخر:
"شوف الحمار يتبختر على مهله". ثالث: "يلعن أبو إلِّلي أعطاكِ رُخصة
السّواقة..!!".
جاءني
من بعيد صُراخ أمِّي ذات مرَّة عندما كانت نائمة، ودُموعها تقطر من عَيْنيْها
المُغمضتَيْن. ولمَّا سألتُها:
-"لماذا
كُنتِ تَصرُخين يا أمِّي أثناء نومك؟".
قالت:
-"كُنتَ
أنتَ على وشَكِ السُّقوط في الحفرة أمام البيت".
حينها
كنتُ صغيرًا، لكنِّي ما زلتُ أحفظ حديث أبي حينما أخبرني:
-"قُمتُ
مفزوعًا من نَوْمي على صُراخِها، رُحتُ أهدِّئها. وناولتها كأس ماء كانت بجانب
رأسي".
رائحة
عطر نفَّاذة اِقْتحمت أنفي بقوَّة اِنْطلقتْ من تاكسي حديثة تجاوزتني، تقودُها
شابَّة تضع نظَّارة سوداء تُخفي عَينيْها، وخصلات شعرها الشَّقراء تتطاير عبر النَّافذة،
لم أنتبه إلى رِجْلي الضَّاغطة بكامل قُوَّتها على دوَّاسة البِنْزين، إلَّا عندما
أوشكتْ مُقدِّمةُ سيَّارتي الاِصْطدام بمُؤَخِّرة شاحنة كبيرة. صَوْت أمِّي أيقظني
في اللَّحظة الأخيرة.
رسالة مُنتظرة
في
رسالة إلى أبي في الأصل لم تُكتَب قطعًا، ولم يُخالطني شكٌّ أبدًا بأنَّني كتبتُها
له، لم يُخبرني كذلك بعِتابه أنَّه كان ينتظرها بفارغ الصَّبر؛ ليطمئنَّ عنِّي،
ولم يؤنِّبني على رداءة الخطِّ؛ عندما عانى من صُعوبة قراءة بعض الكلمات، بل إنَّ
أكثرها أعطَت معانٍ أخرى مُعاكسة لمقاصدها الحقيقيَّة.
من
أينَ تسرَّبت هذه المخاوفُ جميعها إلى نفسي، إضافة للرَّواسب القديمة، التي لا
فَكاكَ منها على الإطلاق، ولم أستطع التخلُّص منها على الرَّغم من مُحاولاتي الجادَّة
التي بَذَلتُها. لمَّا عجزتُ، بعد تردُّد لمرَّات عِدَّةٍ كان الخيار الأصْعَب هو
اللُّجوء للطَّبيب النَّفسيِّ.
تبيَّن
لي من أوَّل جلسة معه. كنتُ أتوقَّع بعد ساعتيْن من حديثنا المُمتِع والشيِّق..
حديث الصَّراحة الذي ولَّد حالة من الثِّقة المُتبادلة بيننا.
لم
يتوانَ الطَّبيب لحظتها من بثِّ شكواه لي، المفاجأة غير المُتوقَّعة أنَّه كان تائِهًا
في بَيْداء صحارى قاحلة، وبحاجة لمن يستمع له، بحثًا عن حلٍّ، بعدما نَهَشَتِ
الشُّكوكُ قلبه من سُلوكِ زَوْجته خلال السَّنوات السَّابقة.
لكنَّه
أخبرني:
-(لم
أستطع إثباتَ أيَّ شيءٍ عليها، وفي كلِّ مرَّة تخيبُ ظُنوني).
وعلى
العكس من ذلك، وعلى حدِّ زَعْمه أنَّها كثيرًا ما أعرَبَت له عَلَنًا عن مشاعرها
تجاهَه، بوضوح ولا مُواربة:
-
(أنتَ حُبِّي الأوَّل والأخير.. حبٌّ
البداية والنِّهاية).
ممَّا جعلني أتشكَّك بسُلوكه، توقَّف تفكيري
وشُلَّ تمامًا. اِخْتلاط الأمور لهذه الدَّرجة من الاِنْعكاسات بتشابُكاتٍ مُحيِّرة،
يصعبُ التميِّيز بين المواقف. اِنْعكس ذلك على سُوء تقييمي للموضوع.
تمعَّنتُ
عميقًا في ملامحه العتيقة الباعثة على الإحباط، كِدْتُ أصرخ بوجهه:
-"العَمَى
بقلبكَ.. العَمَى".
لا
أظنُّ أنَّني فعلتُها، ولم أفتح فَمِي بكلمة واحدة، بل أرسلتُ نظراتي وراء غُموضٍ
غير مفهومٍ. وجهه كأنَّه بابٌ حَجَريٌّ من بقايا الرُّومان موصدٌ بإحكامٍ، وضاع
مفتاحه، وعَصِيٌّ على الاِسْتجابة لمعالجة الخُبراء بالطَّريقة المُثلى لإعادة
فتحه، أو إحداث شَقٍّ بسيط، ولا أن تنفُذ منه كفُّ اليد.
ما
شعرتُ إلَّا وأنا أصعدُ دَرَج العمارة إلى البيت، وبصوت طقطقة حذاء جارتِنا ذي الكَعْب
العالي تسبقها بالوصول إلى سمعي؛ لتُداري قِصَر قامَتِها الملحوظ، تتطاول للأعلى بِرَفع
رأسها بشُموخٍ مُتعمَّدٍ، ولا تستطيع رؤية الأرض التي تمشي عليها، ضربات
"بُمْ.. بُمْ.. طق.. طق" أخرجتني من دوَّامة العُقدة الجديدة التي
سبَّبها لي الطَّبيب.
تهيَّأتُ
بعد اِسْتنفار اِنْتباهي؛ لمراجعة وضع هِندامي، رفعتُ خِصْر البِنطال المُهَلْهَل،
اِمْتدَّت يدي اليُمنى للتمسيد على شعري، مع وصولنا وَجْهًا لوجه، تفصلنا دَرَجتان
هي من الأعلى، رأيتُ رأسها ينطَحُ بوَّابة السَّماء بوضاءة وجهها، اِقْتحمتني
بابتسامتها؛ أذابت آخِر خَيْبات مشواري الذي كان. تلعثم لِسَاني بالردِّ على
قولها، ولم أتشجُّع لمعاودة مُحاولة الردِّ ثانية:
-(يسعد
هالمسا.. شكلكَ مو عاجبني يا جارنا، على غير عادتكَ).
مع
أوَّل رَشْفة من فنجان قهوة المساء على الشُّرفة ذات الإطلالة على ساحة واسعة، بعد
وصولي للبيت، تواردت الأفكار اِنثيالًا كسحابة صيف عابرة، لم تترك موضع شِبْر في
الحديقة المقابلة للسَّاحة التي تُطلُّ عليه عمارتنا السَّكنيَّة، ذات الطَّوابق
الأربعة. اِنْفصالٌ تامٌّ عن كلام زَوْجتي الكثير، أجزِمُ يقينًا أنَّني لم أسمع
كلمةً واحدةً ممَّا قالت. أخيرًا هززتُ رأسي علامة الإيجاب بالموافقة على ما قالت،
وقلت:
-"تمامًا
كما قلتِ، ومعكِ كلَّ الحقِّ".
حديث لم يكتمل
عَيْنايَ
لم تَبْرحَا قَسَمات وجهه المُشرق اِبتهاجًا، بينما عَيْناه مُركَّزتان في ملامحي،
لم يتأكَّد من ضَجَري، اِنْهماكُه باِسْتخراج مشاعره ونثرها أمامي، وعدم إفساحه لي
المجال لمشاركته حديثًا طالما اِشْتقتُ للإدلاء برأيي فيه. اِسْتغرقني حديثه حول العبثيَّة
وتطبيقاتها الأدبيَّة.
بعد
أن أخبرني عن مُكالمة النَّاقد الهاتفيَّة معه، وعلى مدار ساعةٍ كاملةٍ. قال:
-"إنَّه
اِسْتأذنني بمحادثة طويلة، بعد أن اِسْتأنسَ رصيد هاتفي الذي يسمحُ بإجراء
المكالمة دون اِنْقطاع".
لم
تتأثَّر جلستنا بأغنية طويلة لــ "أم كلثوم" كأنَّها نهبَتْ
عُمْرًا منَّا، ولا بضجيج المارَّة العابرين من أمامنا، غير عابئين بنا، ولا بأيِّ
شيءٍ نتكلَّم به أو عَنْه. لا شكَّ بأنَّ مُعظمهم في عوالم بعيدة عن واقعنا، وإذا
اِنْتبه أحدُهم لنا بِقَرفٍ ولامُبالاة لعلَّه يقول، في أحسن تقييم لنا:
-"كلام
عواجيز" .
ضجيج
مُحرِّك سيَّارة النَّقل الصَّغيرة الصَّاعدة مع تصاعُد الشَّارع القاسي، مُثقَلَةً
بحَمْلِها كَوْمَة جَزَرٍ مع خُضارٍ أخرى تعلُو فوق شَبَكِها الحديديِّ الأبيض،
لوَّحتْ
نظري بتعدُّد ألوانها. صراحةً لم أعرف، لماذا سيْطر على ذهني اللَّوْن البُرتقاليُّ،
رغم فارق الشَّكل والطّعم بيْن فاكِهتيْ الجَزَر والبُرتقال. والسيَّارة تسيرُ
ببطء مُخلِّفة وراءها خطًّا من الدُّخان الأسود من فُتحة عادمها. اِقْتحمتنا رائحة
الدِّيزل بِفَجاجَة.
صديقي الكاتب مُستنكِرًا:
-"ما
هذا العَبَث البيئيِّ المُحرَّم دُوليًّا؟".
على
الجانب الآخر من الشَّارع مرَّت شاحنة عابرة مُخصَّصة لحمل السيَّارات المُتعطِّلة
في ظروف الأحوال الجويَّة المُثقلَة بالبرد والمطر، وهَبُوب الهواء البارد يلفحُ الوجوه،
ويتلاعب بأشجار جزيرة وَسَط الشَّارع؛ يُخلخلها، كأنَّما لا يُطيقُ وجودها واقفة
في وجهه.
شخصٌ
يركب داخل كابينة السيَّارة الحمراء المحمولة، يضعُ سمَّاعات هاتفه النقَّال في
أذنيْه، نظر نحوي بينما اِنْطلقت ضحكته. ظننتُ أنّه مُصابٌ بعدوى عبثيّة صديقي المُستغرق
بحديثه المُستمرِّ.
بشكل
مُفاجئ دخلت من أمامنا سيَّارة الدّفاع المدنيْ؛ فقطعتْ مشهد السيَّارة المحمولة،
اِخْتلطتِ الأمور حدَّ التشابُك في ذهني، تخيّلتُ ذاك المُخرِج السِّينمائيّ عندما
يُصدِر أوامره الصَّارمة، بتشغيل صافرة إنذار الخطر في سيّارة الإسعاف، ومؤكِّدًا
للمرَّة الثَّالثة على السَّائق بتشغيل الأضواء الزرقاء والحمراء بآنٍ واحدٍ مع
صَوْت الإنذار؛ لإعطاء مِصْداقيَّة للمشهد بمقاربة الحقيقة، ولكي لا يغفل سائقو
السيَّارات العامّة والخاصّة عن اِلْتزام اليمين، ولإفساح المجال بأن يصل المريض
إلى المشفى بالسُّرعة القُصوى، ربَّما يستطيعون إنقاذه، وتُكتَب له حياة جديدة.
ما
زلتُ أسمعُ حديث صديقي بنفس الموضوع، لكنَّه تحوَّل إلى عنوانٍ مُهمٍّ:
-"جماليَّة
العبثيَّة في الكتابة الأدبيَّة".
هدوء
مُفاجئ على غير العادة؛ توقَّف عُبور السيَّارات للحظات؛ أشار صديقي:
-"الإشارةُ
الضَوْئِيَّة حمراء الآن".
ساعة متأخِّرة
دائمُ
التأخُّر منذ أنْ تجاوزت أمُّه عند وِلَادتها به وقتها الذي حدَّدته الطَّبيبة النِّسائيَّة؛
وِفْق الذَّكاء الصِّناعيِّ للأجهزة المُتقدِّمة تَقنيًّا.
لِسُوء الحظِّ لم يلحظ تقصير ساعة الحائط، وتراجعها
ساعة بسبب ضعف بطَّاريَّتها. وصَلَ كالعادة مُتأخِّرًا ساعتيْن كاملتيْن عن مَوْعد
عَقْد قِرَانه على الزَّوْجة الثانية بعد الأولى.
لم
يَأْبَه للاِحْتجاجات التي جابهوه بها، بكلِّ هُدوء، حاول الاِعْتذار، وشرح أسباب
التأخُّر غير المقصود، وإلقاء اللَّوْم على السَّاعة اللَّعينة التي أخَلَّت
بالتوقيت.
تأجَّلت
حفلةُ العَقْد؛ لأخذ مَوْعدٍ جديدٍ من المأذون الشَّرعيِّ، الذي غادر لاِرْتباطه
بمواعيد دقيقة، وكَتَب على غلاف الإضبارة الخارجيِّ بالقلم الأحمر:
-"تُؤجَّل
إلى الشَّهر القادم في مثل هذا اليوم، ويتحمَّل العريس كافَّة الرُّسوم، والغرامات،
والنَّفَقات الإضافيَّة؛ لعدم حُضوره في الوقت المُناسب".
وفي
اليوم الثَّاني وَصَلَ الجامع لأداء صلاة الجُمُعة؛ فُوجئ بالأبواب المُغلقة. حينَها
ظنَّ أنَّه جاء مُبكِّرًا؛ رَفَع يديْه وعَيْنيْه إلى السَّماء، وقال بصوت مسموع:
-"الحمد
لله أنَّني وصلتُ قبل الموعد، وسأكونُ أوَّل القادمين. مؤكَّدٌ. هذه المرَّة
سأنالُ الجائزة الأعظم عند الله".
قيل
له من أحدهم:
-"الصلاةُ
اِنْتهت منذ ساعتَيْن".
عاد
يُجرجر أذيال الخيْبة. لسانُه لم يتوقَّف عن شَتْم ساعَتِه تِلْك، وقرَّر تحطيمها
إذا وصل البيت.
قادته
رَغبتُه بتَسوُّق بعضًا من الموادِّ للغَدَاء، لكنَّه لم يشتر إلَّا عُبوة
كُرتونيَّة شفَّافة الوجه، بحجم عُلبة الكِبْريت؛ تحتوي على بطاريَّتين صَغيرتيْن
بحجم الاِصْبع فقط.
رنينُ
الهاتف النقَّال أجبره على النُّزول عن الكُرسيِّ، وبيده السَّاعة. جاءه صوت أخ
خطيبته، وهو وَلِيُّ أمرها بعد وفاة والدهما، والمسؤول عنها:
-"يا
أحمد.. لقد اِتَّخذنا قرارنا الأخير، الذي لا رَجعةَ عنهُ تحت ضغط أيِّ ظرفٍ كان،
وبإجماع العائلة، فَسْخَ خُطوبَتِكَ، واِعْتبرْ أنَّ نصيبكَ اِنْقطعَ من
عندنا".
اِنْقطاعُ
المُكالمة الفوريِّ، لم يترك له مجالًا للردِّ أبدًا. السَّاعة وقعت من يَدِه،
وتناثرت أجزاؤُها على كامل بلاط الصَّالة. بينما قَذَف زَوْج البطاريَّات نحو النَّافذة
المُطلَّة على حديقة البَيْت الخارجيَّة بِغَضَبٍ، دخلت موجة هواءٍ باردةٍ؛ أوقفت
تعرُّقه المُفاجئ، ورطَّبت الموقف.
تذكَّر
هذا الزَّمن المديد المُتخَم بالخَيْبات والمآسي، وهو يُعايِن اِنْعكاسَ وَجْهَهْ على
عَدَسَةِ نظَّارتها الشمسيَّة السَّوداء، وهما يحتسيان قهوة المساء على الشَّاطئ،
بينما تمتدُّ يَدُها مُتجاوِزَةً نِصْف الطَّاولة من جانبها إلى جانبه؛ فأمْسكَتْ
بيده قبل إمْساكِهِ فُنجان قَهْوَتِه. وقالتْ:
-"حبيبي..
رغم تأخُّرِكَ عُمريْن، يبقى أنَّكَ جئتَ في موعدكَ".
اِسْتغراقه
بتأمُّل ملامح وَجْهِهِ الذي يَراه للمرَّة الأولى في حياته بهذا الإشراق؛ أوْغَل
بذهابه بعيدًا عن المكان إلى عوالم، بل نَسِي نفسه، مُؤكَّد أنَّهُ لم يسمع ما
قالت حبيبته. ولم تستطع بل عجزت مَرايا الشَّالِيْه، وغُرفة نومه إيضاح ذلك له.
ضغط
بيده الأُخرى على يدها بقوَّة؛ سَالَتْ حرارة التعرُّق بينهما كَدُموع الفرح.
غادرا المكان بهدوء.
لحظةٌ ذهبيَّةٌ
حالة
من النَّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ
للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته على الإطلاق، أحلام
النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند مديره المُباشر، وستنتفخُ
إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر تنبيهات لَفْت النَّظر،
والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع نفسه في المساء أثناء
استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى الصَّباح. قراره الأخير:
-"مديري
عقليَّته جامدة غير قابلة للتطوُّر. عصبيُّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله
معنا. يلقي أوامره على الموظفين شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من
الآن فصاعدًا لن أكترثَ له. مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف
باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي
طلبًا".
اِجْتماعٌ
ضخمٌ عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى
العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية
الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية،
وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
"لَكْتُبْ
اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ"
أخيرًا.
وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون،
إلَّا من أصوات الأمواج
المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ.
يده تُلاحق قُرص الشَّمس الذي
يتباعد عنه بعنادٍ.
هَوَى.
اِهتزَّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه. مازال لسانُه يُعاند صوت البحر
بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع البحر بخطِّ الرُّقعة. بينما
يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو كان يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من
فَمِهِ.
العملُ
الروائيُّ الذي اِنْتهى منه قبل عام قرَّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ
اللَّغويُّ دائِبُ النَّشاط بِهمَّةٍ واِقْتدار، آمِلًا الاِنْتهاء من رواية "خَلوةٌ
في مِحْبَرة" قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف
طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وباِنْتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل
مع نفسه:
-"كيف
كتبها الروائيُّ..! "خَلوةٌ في مَقْبرة"؟، لا شكَّ بأنَّه كان يهذي
سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ العامِّ للمقطع السَّابق
واللَّاحق. سأُثبِّتها "خَلوةٌ في مِحبَرة".
رنينُ
الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
-"تأكَّدَ
خبرُ موتِ الكاتب. قالوا: إنَّه اِنْتَحر".
دمعتان
حارَّتان سَقَطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مُماثلتان؛ فأصبحت الصَّفحة
باهتةً جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرٌ من سَوَادِ الحِبْر، بلا مَعَالم واضحة،
كَقَبْرٍ دَارِسٍ. وليُخرج الكاتب من مأزقِهِ بِحْكمةٍ معقولةٍ.
من
فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛
فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئَتيْه بالأوكسجين،
وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكَرَبُون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية
بالخطِّ العريض.
لوحة جريحة
ثمانِ
طَعناتٍ بِعَدد سِنِي زواجهما، بسكِّين كبيرة، اِمْتَشقها "فوزات"
من المطبخ؛ سدَّدها بإحكامٍ لوجهها، ورأسها وصدرها المكشوف في اللَّوحة، التي
رسمها أثناء فترة الخُطوبة، التي وما زالت تحتلُّ صدارة الصَّالة في بيتهم الكبير.
لم
يتوانَ "فوزات" برفع وتيرة صوته الغاضبة، عندما تهوي يده لتسديد
ضربةٍ جديدةٍ، يعتدلُ ظهره، ويأخذُ نفَسًا هائجًا عميقًا. جسمه يهتزّ بحركة ثمَّ
يُخرجه من أعماقه لينفثه بقوَّة للأعلى، وكأنّ صرخته غطَّت على التصفيق، وكلمات
الترحيب بنقيب الفنّانين راعي الحفل في اليوم السَّابق، أثناء افتتاح المعرض
الأوّل لصديقه الأثير الفنانّ "سعيد":
-"إنّه
هو.. لا أحد.. لماذا تخونيني مع هذا السّاقط يا ساقطة..؟".
وبعد
أن قصّ راعي الحفل الشريط الحريريّ وسط وميض فلاشات كاميرات الصحافيّين
والمُهتمّين. خُطواته القليلة توقّفت به أمام لوحة بورتريه لوجه امرأة حسناء.
وقوفُه طالَ أمام بريق عينيْها، ومنزلق صدرها العريض النّافر، المُغطى بجزء منه
بخصلات شعرها الأشقر الفاتح المُسترسل على سجيّته.
لم
ينطق بكلمة ردًّا على كلام وشَرْح الرّسام "سعيد" بتفاصيل
التفاصيل، ولم يلتفت له، أو أبدى أدنى اهتمام:
-"أتعبني
البحث عن طبيعة الوجه المُعبّر عن فكرة تدور بذهني منذ زمان، حتّى كاد اليأس
يتسلّل إلى نفسي، وأُعلِن عجزي، وأنطوي على حُزني الحارق، لولا اللّحظة الأخيرة
التي أنقذت الموقف. الصّدفة وحدها أنقذتني".
وراعي
الحفل لم يرفّ له جفن، وما تحوّلت عيناه لأيّة نقطة. أحاديث ممّن يتحلّقون حوله،
وهمساتهم اللّطيفة لم تستطع شدّ انتباهه، وتحويل عينيه المغروستين في اللّوحة.
"فوزات"
تبرَّم ضيقًا لجموده وصمته المُطبق، وهو يتشارك النظر لِلّوحة مع المجموعة الأكثر
عددًا المُتحلّقة من خلف راعي الحفل.
بينما
يُتابع كلام "سعيد"، وشرحه لبعص تفصيلات اشتغاله على اللّوحة:
-"وقَع
اِختياري على خلفيّة فاتحة، واِستخدمتُ الألوان الباردة، بطبعي لا أميلُ لاستخدام
الألوان الحارّة، وتعبتُ مع مصدر الإضاءة لإبراز معالم الوجه بدقّة، وجاء المسقط
العام بدقائق تقسيماته مع كلّ لمسة، لإخراج الشّكل الأخير".
امتلأ
صدر "فوزات" ضيقًا وحَنَقًا على راعي الحفل، لَازَمته الحالة
حتّى المساء امتدادًا إلى موعد نومه بعد منتصف اللّيل. عند عودته إلى البيت في
الثالثة بعد الظّهر، وما زاد الطّين بلّة وُقوفه صامتًا أمام لوحته التي رسمها قبل
زواجه، لم يأبه لترحيب زوجته بنبرات غانجة مع عبق روائح طعام الغداء الشهيَّة:
-"حبيبي
فوزاتي.. سامحني. لم أفتح لكَ الباب.. اِنْشغالي ببعض الترتيبات للغداء.. كما
تعرف..!".
يومٌ
مختلفٌ تمامًا عن روتين "فوزات" الهادئ بطبيعة تكوينه المختلفة عن
مُحيطه الاجتماعيّ كفنّانٍ تشكيليٍّ حالم رومانسيّ. غارق أثناء يقظته بتأمّلاته
العميقة.
قبل نومه بعد الواحدة ليلًا، كتب على ورقة بيضاء
خالية من الأسطر والهامش عبارة:
-"مَنْ
الذي فضَّ العباءة السَّوداء؛ ليستفيقَ الخنجر المسموم النّائم تحتها؟".
سلطانُ
النّوم استولى عليه ليُصدر أوامره باسترخاء كافّة أعضائه، ويده مازالت قابضة على
الورقة تعتصرها بعصبيّة واضحة.
رأرأة
عَيْنيْه بحركات مفاجئة على غير اعتياد
بعد إطفاء الإنارة، وَقْعُ صوتٍ
أجشٍّ اِقتحم سريره بفظاظة، كأنّه مطرقة عظيمة تطرقُ الجدار بجانب رأسه، اهتزّ
جسمه بعنفٍ انتفاضًا، بينما زوجته راقدة بسلام إلى جواره؛ تغطُّ بنوم عميق.
اِعْتدل
جالسًا بعد أن دعَك عينيْة، اِسْتعاد شيئًا من وَعْيه، لاحظ أنَّ خُيوط الشّمس مع
بدايات شُروقها تسلَّلت عبر النّافذة؛ لتضيء وجه زوجته، بخُطوات بطيئة مُتثاقلة
حاذرة أحبّ الاِطْمئنان على اللّوحة في الصّالة. تأكّد أنّها على حالها تزُيّن
حياتهما بذكراها التي تقترب من التّاسعة.
أصابع
يده مُتشجنّة من إطباقها على شيء ما. فَطِن لذلك عندما حاول لمس اللّوحة ليتوثّق
منها، تذكّر الورقة ذات العبارة. أعاد قراءتها، وأشعل بها النّار من عود ثقاب.
ولما طال نوم زوجته، أحسّ بتوقّف أنفاسها، وأضاف في اليوم شريطًا أسودًا مُبلّلًا
بدموعه على طرف اللّوحة الأيسر ثبّته بشكلٍ مائلٍ.
في بيتنا صورة
لم
تكن الصُّورة الكبيرة ذات البرواز الذهبيِّ المُزخرف في واجهة غرفة الضُّيوف؛
إلَّا من هَرْطَقات والدي أمينِ الحلقة الحزبيَّة؛ ليُظهر مَزيدًا من الولاء
للقائد الرَّمز.
منذ
أيَّام المرحلة الابتدائية كرهتُ صورته في الصفّ، وعلى أغلفة دفاتري التي كان يشتريها
والدي من المُؤسّسة الاِسْتهلاكيَّة، وعلى قُمصان "تي شيرت"
الطَّلائع الصَّفراء، لم أكُنْ أفهم معنى الاِزْدواجيَّة بمعناها الحقيقيِّ الذي وَعِيتهُ
مُؤخَّرًا، ممَّا سمعتُ عن الكثيرين ممّن كان بعضهم السُّجون أو خرجوا منهما بتهمة
اِزْدواجيَّة الاِنتماء لتنظيميْن حِزبيَّيْن مُختلفين.
حرص
والدي بالتركيز على تثقيفي بالنَّشرات الحزبيَّة الشهريَّة، وعلى الأخصّ مجلَّة
"المُناضل" التي غصَّت بأعدادها المختلفة والمُرقَّمة بتسلسُلها
على مدار سنوات أرفُف مكتبة بيْتنا، وأصبحت تُنافس الكُتُب الجامعيَّة قَوام
المخزون الثقافيِّ للوالد.
في
العدد الأخير من "المُناضل"، بدون ضغط أو إكراه، وفي لحظة إلهام،
وقد أخذ التَّعب منِّي كلَّ مأخذ، إثْر عودتي من لعب كرة القدم في ساحة حارتنا،
بعد غَسْل يديَّ وقدميّ أمام خزَّان الماء الإسمنتي المليء بشكل دائم في ساحة
البيت الخارجيَّة، من روائح بوط الرِّياضة العتيق، وقبل دُخولي للبيت؛ ولأُريح
رأسي من تأنيب والدتي، وتأفُّف والدي من الرّوائح المُقزِّزة.
وقعت
عيني على فهرس المجلة على عنوان "الاِنْتهازيّة والازدواجيّة" أثناء
تصفُّحها، لم أكُن مُتحمِّسًا للقراءة، ولكن لأفلِتَ من اِسْتجواب لا بدُّ منه
لتأخُّري في اللَّعب إلى ما بعد المغرب، وإهمالي لواجباتي المدرسيَّة، التي من
المُفترض الانتهاء منها قبل خروجي للعب، بعد ذهاب أبي إلى مقرِّ شُعبة الحزب
لاجتماعهم الأسبوعيّ.
ما
إن رآني مُنسَجمًا بقراءة المُناضل في غرفة الضُّيوف، من طرف خَفيٍّ دون أن يشعر
بنظراتي، أثناء التفاته لأمِّي عندما كانت تحكي له شيئًا لا أذكر الموضوع، وليقيني
لأهميَّة ما تقول له، لكنِّي لم أنتبه بدقَّة، المهمُّ أن ينسى تأخُّري، ويتركني
من البَهْدلة، ولا أرغبُ بتطوُّر الأمر لاِستخدامه حزامه الشخصيِّ إذا ما لزم
الأمر، فإنَّه لن يتردَّد أبدًا، أو قطعة بَرْبيش الماء التي قصَّها للعِقَاب، كان
ينوي أخذها معه لطُلَّابه في المرحلة الإعداديَّة، لاِعْتقاده الدَّائم:
-"البَرْبيش
طريٌّ ولا يؤذي مثل العصا".
اِبْتسمَ
لي على غير عادته:
-"الآن..
الآن أعجبتني يا عاصم، أتمنَّى أن أراكَ دائمًا، وأنت تقوم بتثقيف نفسكَ،
لأنَّ الثَّقافة يا بُنيّ أهمّ من اللَّعب اليوميّ مع أولاد الحارة، اللَّعب بلا
فائدة، أمّا هنا فأنتَ تُغذِّي فكركَ، وبعد سنتيْن عندما يحينُ التقديم على
العُضويّات العاملة، يتزامن مع اِنْتهاء امتحانات الثانويَّة العامَّة، ستكون
جاهزًا، وهذا سيُسهِّل عليكَ المقابلة أمام اللِّجنة القادمة من فرع الحزب،
والقيادة القطريَّة، ومن يكتَسِب العُضويّة العاملة؛ له الأفضليَّة في القبولات
الجامعيَّة".
للمرَّة
المئة بلا شكٍّ سمعتُ هذه الكليشة منه، بينما عيناه مُركَّزتان على صورة القائد.
لا أدري.. هل كان يقول ذلك على مسمَعٍ منها. لِيؤُكَّد إخلاصه داخل بيته، ومع
أسرته لمسيرة القائد الرَّمز.
تركني
بعد اِطْمئنانه على مُتابعتي، وخرج لتلبية طلب أمِّي بخلع ملابسه الرسميَّة لكي
تبقى على نضارتها، ولا أن تخرب كَسْرَة البنطال المكْويّ بعناية ظاهرة، واِرْتداء
البيجامة الخاصَّة بالبيت.
عينا الرَّئيس الواسعتان في الصُّورة تُبحلقان
فيَّ بتركيز. شعورٌ داهمٌ بالخوف الحقيقيّ لأوَّل مرَّة أُصاب به. حاولتُ اِسْتبعاد
الأمر بِتَناسي الموضوع، وأنا أنظر عبر النَّافذة المُقابلة لي، بعد أن أزحتُ السَّتائر؛
لأرى الضوء المُنْبَثِق عبر نافذة جيراننا في الطَّابق الثَّاني، اِبْنتهم في نفس
صَفِّي يقولون: "مُتفوِّقة.. وفي كُلِّ سنة تأخذ الأولى".
سأحاول
الثَّبات وعدم الشُّعور بالهزيمة أمام رعب الصُّورة، وعُقدة تفوُّق "رهام"
الدَّائم، اِسْتجمعتُ بقايا شجاعتي برُعونة لو علم والدي عنها، لما كان سيتهاون في
حفلة عقاب على شنيع ما أفكِّر به، ولو سمعني وأنا أخاطبُ صاحب الصُّورة:
-"أنتَ
مُجرَّد صورة بالأسود والأبيَض حبيس إطار ذهبيٍّ، تبرَّع به النَّجار صديق أبي
مجَّانًا؛ عندما طلب مساعدته في لإدراج اسم ابنه في القوائم المُقترحَة للعضويَّة
العاملة؛ لاِسْتباق لحظة القبولات الجامعيَّة لهذا العام".
صوتُ
أمِّي تُناديني:
-"يا
عاصم العشاء جاهز.. لا تتأخَّر".
تابعتُ
حديثي بصوتٍ خفيضٍ لا أكاد أسمعه:
-"أيضًا
أنتَ حبيس غُرفتنا، وبعد قليل، سأطفئ الضُّوء، وستبقى وحدكَ تُعاني
الظَّلام".
بنزقٍ
ضغطتُّ بإصبعي على كبسة الكهرباء، وطرقتُ الباب خلفي بقوَّة، اِعْتقدتُ أنَّ
الجدار سيهتزُّ والصُّورة ستقع أرضًا، لم يحدُث هذا ولا ذاك، ببراءة ولدٍ مُطيع
يسير على خُطى والده خُطوة بخُطوة، جلستُ قُبالته صامتًا. فطنتُ: هل أغمضَ صاحب
الصُّورة عينيْه لينام.. ويتركنا ننام بهدوء؟.
قيْلولة
ما بعد الغداء ضروريَّة لاِسْتقرار الجسم، وتوازنه من أجل دوامي المسائيِّ في
المكتب الاِسْتشاري الهندسيِّ. رنينُ المُنبِّه لم يتوقَّف إلَّا بعد اِستجابتي،
نهضتُ بهمَّة ونشاط. غسلتُ وجهي واِنْزلقت آثار الحلم عن وجهي مع الماء في فتحة
المغسلة.
كتابة
جاءت
نهاية الفصل ما قبل الخاتمة من روايته بعد عناءٍ شاقٍّ، وختم بعبارة فضفاضة وردت
توًّا من لَا وَعْيه: "البطلة كانت عصبيّة المِزاج خلال تلك اللّحظة،
حينما رشقَتْ ماء الكأس بعد أن رطّبتْ شفتيْها"، وقبل أن يُغلق الروائيّ
دفتره شهَقَ بعُمقٍ، وهو يظنُّ بأنَّه ابتلع كميّة من الهواء المليء بالميكروبات
الدّقيقة، ويصاحبها الغُبار النّاعم.
وراح
يمسحُ وجهه كالمُعتاد، حاول تجفيف قميصه المُبلّل بجزء كبير عن صدره. وقف طويلًا
أمام النّافذة قُبالة قُرص الشّمس عند الغُروب.
اِرْتسمَ وجه
أمّه على قُرص الشَّمس بأكمله. كانت عنده رغبة مُلحّةٌ بتقبيلها، هاجَت بداخله
ثرثرة، كان نفسه تتوقً لو واتته فُرصةً للصُّراخ، أو لو أنََّ أحدًا يسمعه؛
ليبثّها، ويُفرِغ ما في صدره من ضيق يُعاني منه باستمرار:
-"لقد
كبُرتُ يا
أمّي..، وتعبتُ".
صوت
صرير الباب المُتقطّع ببطء كلحنٍ جنائزيٍّ يُشيّع الشّمس إلى مثواها الأخير؛ قطع
عليه مُناجاة أمّه، حرارة جسمه تدفّقت بفَجاجَة غير مُبرّرة، ولم يعُد يشعر برطوبة
القميص.
في
الدّقائق الحَرِجة تأتي المفاجآت، ربّما تنقلبُ الأمور رأسًا على عقب.
-"شيءٌ
ما.. اِنْكسرَ هناكَ في المطبخ؛ أتوقّع أنّه
لا يتعدّى فنجان قهوة، أو صحن الموالح، ليس غيرها.. تلك القطّة اللّعينة التي تعبث
بالأغراض".
كان
راغبًا بالتّحديق بوجه أمّه المُطوّق بالهالة الذهبيّة المُشربّة بحُمرة الأصيل؛
لتُضيء عتمة دواخله المُنهكة، ولم يكُن راغبًا بترْك موقعه أمام النّافذة إلى حين
تباشير قدوم النّجوم. راوده أملٌ بظهور القمر.
-"ليته
يأتي بدرًا، ومعه وجه أمّي" قال لنفسه.
أرهقه
التفكير بطريقة التعامل مع الزُّجاج المُكسَّر. التقط المكنسة بحذر شديد. عيناه
تدوران بحركة لولبيّة مُتسارعة وعشوائيّة؛ لتحديد نقطة البدء؛
بجمع بقايا الكأس المُحطّمة الذي رَمَته البطلة. تساءلَ بدهشةٍ:
-"للآن
لم أُدرِك سببَ قذفها للكأس؟. أوه.. يا إلهي!! وجدُّتُها.. سأختِمُ بها".
بعد
أن سحب نفسًا عميقًا، انفرجت أساريره مُستبشرًا، أغلق دفتره، ورجع للنّافذة راجيًا
تحقيق أمنيته. شكل غريب ذي ملامح بشريَّة اِسْتوطن جانبًا من القمر، بعد تأمُّله
لدقائق، ثبت لديْه: أنّه شكل رجل ذي عمامة. خَطَرت له صورة الرجل "السِّيخيِّ"
ولحيته الكثيفة، سائق حافلة الشّركة التي كان يعمل بها في الخليج قبل ربع قرن بعمامته
البُرتقاليّة المُنضدّة بإتقانٍ عجيبٍ؛ ثمّ استحضر خاطرة عادت بها ذاكرة (الفيس
بوك) قبل يوميْن:
"إبليسُ
دخَلَ عِمامَةً، من فوره خرَجَ مذعورًا. ذُهولٌ ظاهر على ملامحه.
-
سُئل: "ولماذا لم تستقرّ فيها؟".
-
: "لم أحتمل ما يجري بداخلها".
إبليس
والمساء يتصارعان كلاهما ينتظر الظّلام، للاستيلاء على ذهن الكاتب وسحبه إلى
ساحته، قبل عودته لدفتره لتدوين ما استجدّ له.
وأغلق
النّافذة مُسدلًا السّتارة، لرغبته بالعودة للاستلقاء على سريره بملابس العمل.
أعضاء جسمه المُنهكة أفسدت حاجته الضروريّة؛ لتناول وجبة المساء المُعتادة،
وتأجيلها لوقتٍ آخر.
درس الجغرافيا
المُعلّم
مُنهمِكٌ بكتابة العنوان تمهيدًا لشرح درس الجُغرافيا على السُبُّورة، لا يستطيع
إخفاء قلقه من تجنّب النُّقاط والحُفَر
العديدة على سطحها الأخضر الغامق، التي صنعتها شَظايا القصف العمياء.
شعرُهُ
مُشعّثٌ مُتطايِر. الهواءُ يعبُر النَّوافذ المُهشَّمة. صَفيرُهُ موسيقا حزينة؛
تكنِسُ قطع الأوراق الممزُّقة من دفاترهم وكُتبِهم، وآثار أقدامهم وضحكاتهم. هدوءٌ
مُريبٌ غير معهودٍ. يقول لنفسه:
-"ما
بالُ الأولاد اليوم لا يُشاغبون على غير عادتهم.. يُنصتون.. شيء غريب
حقًا..!".
وتابع
الكتابة، ويقرأ الكلمات واحدة واحدةً:
-"الوطن
يعلو بكم.. أنتم عماده.. أليس كذلك يا أعزَّائي؟".
بصَوْتٍ
واحدٍ هزَّ أركان قاعة الصفِّ أجابوا:
-"نعم".
اِسْتدار
المُعلِّم؛ لاِسْتكمال شرْح الدَّرس وتبسيطه لهم. فَغَرَ فَاهُ؛ حينما رأى المقاعد
فارغة، وتعلوها طبقات من الأتربة المُتراكمة تستوطن ظهرها.
أحْجَم
عن طرح أسئلته عليهم، وعيناه تعاينان خارطة الوطَن، وقد قدَّتْها شظيَّة إلى شَطْريْن.
تلمَّس نفسه؛ ليتأكَّد في أيِّ جُزءٍ يُقيم. أغلق باب الفصل خلفه، وغادر.
المؤلف في سطور:
*(محمد فتحي المقداد) من مواليد 1964 بصرى الشام جنوب
سورية من محافظة درعا. ناشط ثقافي مُتعدّد المواهب الأدبية، إضافة لعمله الأساسي
بمهنة حلّاق.
*عضو اتحاد الكتاب السوريين الأحرار. عضو اتحاد الكتاب
الأردنيين. عضو رابطة الكتاب السوريين بباريس. عضو البيت الثقافي العربي في
الأردن. مدير تحرير موقع آفاق حرة الإلكتروني.
*فقد أنجز العديد من الأعمال الأدبية، حملت عناوين
لكتابات في الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدًا والخواطر والمقالة. نشر منها ستة
أعمال ورقية، ونشر جزء منها إلكترونيًا، وما تبقى ما زال مخطوطًا طي الأدراج.
..*..
المؤلفات
1-كتاب (شاهد على العتمة) طبع 2015 في بغداد.
2-رواية (دوامة الأوغاد) طبعت 2016 في الأردن.
3-كتاب
(مقالات ملفقة ج1) طبع 2017في الأردن.
4-رواية (الطريق إلى الزعتري) طبعت 2018 في الأردن.
5-رواية (فوق الأرض) طبعت في 2019 في الأردن.
6-مجموعة أقاصيص(بتوقيت بصرى) طبعت في 2020 في الأردن.
7- كتاب خواطر (أقوال غير مأثورة).
8- كتاب خواطر (بلا مقدمات)
9- كتاب خواطر (على قارعة خاطر)
10- كتاب مقالات نقد أدبي (إضاءات أدبية).
11- كتاب تراث (رقص السنابل)
12- مجموعة قصصية (قربان الكورونا) خاصة في أدب العزلة زمن الكورونا.
13- حوارات متنوعة بعنوان (على كرسي الاعتراف).
14- قراءات أدبية سورية\ ج1
15- قراءات في الأدب العربي الأفريقي
16- قراءات أدبية سورية ولبنانية\ ج2
17-المحرر الثقافي .ج1. (بطاقات تعريفية بكتب صدرت حديثًا)
18- تقديمات لكُتُب.
19- قراءات في الرواية الأردنية.
20- قراءات في الأدب الأردني الحديث
21- حديث المنجز
22- قراءات في الشعر الأردني
الحديث
23-قراءات روائية في الأدب العالمي
24- (بين بوابتين) رواية تسجيلية.
25- (تراجانا) رواية فنتازيا تاريخية متزاوجة مع الواقع بإسقاطاتها.
26- (دع الأزهار تتفتح) رواية بين الماضي والحاضر.
27- (زوايا دائرية) مجموعة قصة قصيرة.
28- (رؤوس مدببة) مجموعة قصة قصيرة
29- (سراب الشاخصات) مجموعة قصة قصيرة جدا \ق.ق.ج.
30- (قيل وقال) مجموعة قصة قصيرة جدا \ ق.ق.ج.
31- (مياسم) خواطر أدب نثري.
32- (جدّي المقداد) سيرة الصحابي الجليل المقداد بن عمرو.
33- (الوجيز في الأمثال الحورانية) تراث حوراني.
34- (الكلمات المنقرضة من اللهجة الحورانية).
35- (مقالات ملفقة ج2)
26- (دقيقة واحدة) مجموعة قصة قصيرة.
37- رواية خيمة في قصر بعبدا
38- رواية خلف الباب
39- قراءات في الأدب العربي الحديث.
40- كتاب قراءة في رواية يابانية ((1Q84
للروائي هاروكي موراكامي
41- كتاب خواطر (كيف، وكاف وياء وفاء).
42- موسوعة (دليل آفاق حرة للأدباء والكتاب العرب) خمسة أجزاء، بالتعاون
محمد الأديب محمد حسين الصوالحة.
43- كتاب: حوارات في المنفى
(حوارات أدبية).
44- رواية: (بنسيون الشارع الخلفي)
45- كتاب (حوارات سورية في المنفى)
46- كتاب (صريف الأقلام) ما بين الفكرة والكتابة
47- كتاب (تغاريد) خوطر تويترية
48- كتاب المحرر الثقافي ج2 (بطاقات
تعريفية بكتب صدرت حديثًا)
49- كتاب حول تجربة محمد زعل السلوم.
*دراسات كتبت عن أعماله:
-بحث (الواقعية في الأدب العربي. أنموذجًا رواية دوامة الأوغاد- للروائي محمد فتحي
المقداد) تقدم به الباحث طالب عبد المهدي الفراية في جامعة مؤتة، خلال دراسته
الماجستير.
- "أدب اللجوء" بحث كتبه الكاتب والباحث محمد
زعل السّلوم، لصالح مركز حرمون للدراسات، ودخلت كتابات الروائي محمد فتحي المقداد
(كتاب شاهد على العتمة, ورواية الطريق إلى الزعتري) ضمن بحث أدب اللجوء هذا
المصطلح الذي قُنن نتيجة ظروف الحرب في
سوريا والمنطقة.
-بحث لنيل شهادة الماجستير في جامعة مؤتة، تقدم به
الباحث مالك الصرايرة، بعنوان (الأزمة السورية وانعكاسها على الأدب في بداية
الألفية الثالثة- رواية الطريق إلى الزعتري للروائي محمد فتحي المقداد).
- بحث لنيل
رسالة الماجستير بعنوان(أثر الحرب في تشكيل صورة المرأة في الرواية السورية دراسة
في نماذج مختارة) تقدمت به الطالبة: "سلسبيل الزبون" في جامعة العلوم
الإسلاميّة في الأردن، وكانت رواية (الطريق إلى الزعتري- للروائي محمد فتحي
المقداد) إحدى النماذج المختارة. تحت إشراف الأستاذ الدكتور: "موفق
مقدادي". ومناقشة الأستاذ الدكتور: "عماد الضمور".
-بحث مُحكم في مجلة الرسالة للبحوث الإنسانية، جامعة
محمد الصديق بن يحيى جيجل الجزائر، كتبته الباحثة "سعاد طبوش" بعنوان
"كورونا منعرج جديد للأديب حول العالم. هاجس الخوف والضياع في قربان
الكورونا. لمحمد فتحي المقداد ".
-بحث لنيل درجة الدكتوراه، بعنوان (الجملة المشهديَّة
بين الشِّعر والرواية. الشاعر عبد الرحيم جداية، والروائي محمد فتحي المقداد نموذجًا)،
وقد سلطت الدراسة الضوء على مجموعة روايات (دوامة الأوغاد. والطريق إلى الزعتري.
فوق الأرض).
* كتب العديد من الدراسات النقدية عن مجموعة أعماله
الأدبية المطبوعة، قدّمها أدباء ونقّاد عرب . كما صدرت له العديد من النصوص في كتب
مشتركة عربيًّا، ونال العديد من شهادات التقدير، والتكريمات خلال مشاركاته من الهيئات
الثقافية الواقعية والافتراضية. ونشر الكثير من أعماله في المجلات والجرائد
الورقية والإلكترونية.
*له العديد من المقابلات الحوارية التلفزيونية، على قناة الأورينت، قناة
العربي وسوريا، وقناة الرافدين، وقناة الحوار، وقناة الغد وغيرها.
*وقريبًا- تحت الطبع رواية (خيمة في قصر بعبدا) دخول في
محاولة إشاعة مفهوم السّلم الاجتماعي بين الشعبين السوري واللبناني على ضوء ما حصل
في ظروف الحرب واللجوء، بعيدًا عن مخرجات السياسة القذرة.
-تحت الطبع رواية (خلف الباب) الخاصَّة بحياة اللَّاجئين
في المخيَّم.
* عمل على جمع وإعداد (دليل آفاق حرة) للأدباء والكتاب
العرب، بأجزائه الخمسة التي وثقت لألف اسم أديب وكاتب عربي، وهذا العمل يعدُّ
موسوعة عربيَّة. بالتعاون مع الأستاذ محمد حسين الصوالحة من الأردن، مؤسس ومدير
موقع وصحيفة آفاق حرة.
***
ملاحظة: هناك العديد من المشاريع الكتابية التي يجري
الاشتغال عليها. سترى النور قريبًا.
الفهرس
الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع رقم الصفحة