الخميس، 29 مايو 2025

كتب سامر المسالمة. ردا

 أعظم تكريم نلته في حياتي 

أعظم من كل أوسمة الإستحقاق 

عندما يتقدم كتاب سورية للكتابة عنك

كتب الأستاذ الدكتور مفلح شحادة  Aboosama Chihadeh


في توصيف لرائعة الكاتب السوري محمد فتحي المقداد 

"حين يكتب الضوء: قراءة في منشورٍ يُضيء الحرف كما تُضيء الروح"


في منشورٍ يتخطّى قوانين اللغة، ويجعل من الكلمات جناحين، يكتب الأستاذ محمد فتحي المقداد لا عن صديقٍ فحسب، بل عن حالة إنسانية نادرة تُدعى سامر المسالمة. هنا، لا نحيا في نصٍ، بل في انبهارٍ. لا نقرأ كلمات، بل نُحاصر بعطر ذاكرة، وبأجنحة صدق، تتفتح من بين السطور كما تتفتح وردةٌ في كفّ جريح.

منذ العبارة الأولى:

"يا من كنت أتمنى لُقياك عندما سمعتُ عنك قبل رؤياك.."

تُدرك أننا أمام حالة نصّية غير تقليدية، فالكلام لا يصف فقط، بل يستدعي، يتنبأ، يُشيّد صورة إنسان في المخيلة قبل أن تكتمل ملامحه في الواقع. كأن اللقاء نفسه كان "رؤية قلبية" سبقت الرؤية البصرية.

لكن روعة النص تكمن في ذاك التحوّل المفاجئ من فرح اللقاء إلى خيبة البصر، حين يقول:

"بينما انطفأ بريق الفرح بقلبي، وعيني تنظر إلى عكاز بعينك على الحركة.."

يا لها من صورة! عكازٌ، لا يُسند الجسد فقط، بل يُثقل البصر، يهزّ الروح، يجعل الفرح خجولاً من حضوره. هنا لا نتعاطف، بل ننكفئ داخلنا، نراجع مفهوم القوة، ونُعيد تعريف الكرامة.

ثم يتصاعد النص، لا سردًا، بل صعودًا نحو قمم المعنى، حين يقول:

"يا أيها القابض على جمر الكرامة.. يا من تكبس الملح على جراحك.."

هل هناك استعارة أقسى، أصدق، أبهى من هذه؟

أن تكبس الملح على جرحك لا لتهينه، بل لتوقظه.. لتذكّره أنك ما زلت حيًّا، ما زلت أقوى من الألم، وأصدق من العجز.

وفي واحدة من أجمل الجُمل في النص:

"وأُكبِرُ فيك صدق المظهر المُنبئ عن جوهر المَخبَر.."

ها نحن أمام تلاقٍ بين الشكل والجوهر، بين الصمت والقول، بين أن ترى "هيئة رجل" وأن تعيش "عقيدة رجل". هنا الصدق ليس ترفًا، بل قَسَمًا يُؤدّى بحضور البصيرة لا البصر.

ثم يتجلى الأستاذ المقداد أكثر:

"آن لك أن تضع سيفك جانبًا.. ولتتقدّم بالقلم خطوة"

في هذه الدعوة، انقلابٌ عظيم: من صورة الثائر إلى هيئة الكاتب، من حمل السلاح إلى حمل السرد، من ميدان الغضب إلى منبر الحكاية. إنها دعوة للبطولة عبر الحرف، لأنك حين تكتب، تصبح سيفًا لا يصدأ، ولا يُكسر، ولا يُخمد.

وبانسياب مذهل، ينتقل النص إلى الاعتراف الأدبي:

"لا أتفاجأ حينما تكتب.. فدليلي إليك ما تكتب.."

هنا تتحوّل الكتابة إلى مرآة، لا تعكس فقط، بل تكشف. الكتابة ليست دليلاً على الحضور فقط، بل شهادة على الوجود، وحجّة للخلود.

وتأتي الخاتمة كقصيدة مُضمرة:

"ما يُكتب سيُقرأ، وما كان حكايا على أطراف الطريق يبقى عُرضة لتذروه الريح."

يا لهذا الختام! كم من الأرواح فُقدت لأننا لم نكتبها؟ كم من الثورات انطفأت لأنها لم تُسرد؟

النص هنا لا ينتهي، بل يبدأ حيث تنتهي الذاكرة، ويولد من رحم النسيان، كي يُنقذ ما تبقّى من الحكاية.


تأمل أخير (من قارئٍ مُنصت):


يا محمد فتحي المقداد،

ما كتبته ليس منشورًا، بل مرآة عملاقة وضعْتها في وجه الإنسان، ليقرأ نفسه في عين الآخر. لقد حولت الصداقة إلى حدث لغويّ عظيم، والنصّ إلى سيرة نضال مكتوبة بعين شاعر وقلب محارب.

ويا سامر المسالمة،

ما أعظمه من أن يُكتَب فيك هذا النشيد!

أنت عدسة تُوثّق الجرح، وجسدٌ يُربّي المعنى، وإنسانٌ يشبه القصائد حين تخرج من قلب التاريخ إلى يدك المرتجفة لكنها ما زالت تكتب.

بتوقيت بُصرى؟ بل بتوقيت الروح.

بتوقيع المقداد؟ بل بتوقيع الوطن.

هذا نصٌّ يجب أن يُخلّد، لا أن يُنشر فقط.


@إشارة

أقف عاجزاً عن التعليق

قصص قصيرة. مجموعة جديد (محمد فتحي المقداد)

 

قصص قصيرة

 

 

 

 

قصص قصيرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


حذاء أوروبيٌّ

 

«المنخفض القادم هذه المرة قطبي بارد جدًّا مؤكّد هطول الثلوج بكثافة ابتداء من مساء غد». مشى عايش بخطوات بطيئة، الكلمات التي سمعها صنعت متراسًا في أذنيْه، ولم تكتف، بل راحت تتسلّل لمداعبة حيرته حيال انتظاره العاجز، مظهره موحٍ ببؤس منبثق من بين أسمال أردانه مُهلهلة المظهر.

أفكاره مضطربة حدّ الصّراع، عجزه التّام في إيجاد نقطة البداية لمشروع مقاومة تبعات مترافقة مع الضيف القادم غدًا.

أتعبه المشي في شوارع المدينة. اتّكأ على جدار بعيد عن أبواب المحلّات التجاريّة. المارّة غارقون في اهتماماتهم ومقاصدهم التي يبتغونها. على مدار ساعة كاملة تابع تأمّلاته لتقاطيع وجوه من مرّوا أمامه. قرأ ملامحهم بتأنٍّ استغرقه، وابتعد به تفسيرًا وتأويلًا أنساه واقع حاله الذي لا يحتمل التأجيل ولو لساعة واحدة.

برودة الجدار اخترقت ملابسه وسرَت في أعصابه وعضلات كتفه، شعر بخدر انحدر إلى ساعده وصولًا إلى معصمه وكفّه. بحركات قويّة من يده الأخرى فرَك أصابعه لتبديد التنميل الطارئ عليها.

«يا إلهي البرد لا ينتظرني كي أُكمل استعداداتي..!!. ولا يمهلني إذا جاء موعده». هذه الكلمات البسيطة المفهومة بدلالاتها، انطلق بها لسان عايش ليُسمِع أذنيْه فقط. رسالة عاجلة من داخله دفعت به لاتخاذ أمر هامّ غاب عن حياته منذ ثلاثة أشهر عندما فُصِل من وظيفته في الشركة التي كان يعمل فيها.

تلمّس محفظة نقوده اطمأن قلبه إلى ما تبقّى فيها من بقايا تعويض نهاية خدمته. عادت نبضات قلبه نشطة مُتجدّدة، تواثبت أمنياته تزاحُمًا لكسب الوقت. لا محال لاحتمال التأخير وعيناه ترقبان مقدّمة حذائه كمن فغر فاه من جوع أو عطش.

مع بداية كلّ شهر. عند استلام راتبه؛ تنفتح عليه أبواب من طلبات أسرته تفوق طاقة راتبه، على مدار سنة كاملة حلُم بحذاء جديد متوسّط الجودة. لحظة الحسم كانت في محل عتيق في أحد الشوارع الفرعيّة خاصّ ببيع موديلات أحذية أوربيّة مستعملة ذات مستويات من الجودة المختلفة. على مدار نصف ساعة من البحث وتقييس ما راق له منها. البائع البائس نظر بازدراء لقدم عايش، وكيف تستطيع أن تكون داخل الحذاء المُتوسّع كالاستيطان الصهيوني في جميع الاتجاهات؟.

استعلاء بنبرة صوته عندما يجيب على تساؤلات عايش عن سعر كلّ زوج من الأحذية. هو لا يأبه لقرف البائع ولا لنظراته.

- حاول عايش تسلية نفسه وإقناعها: «مؤكّد أن هذا المحل دخله قبلي ابن أحد المسؤولين، وما الفرق بيني وبينه؟».

مضى في بحثه بهمّة ونشاط للخروج من مأزقه، صدمة السّعر الذي طلبه البائع جعلته يتمرّد على ما بنفسه بعد إقناعها: «أوه رضينا بالهمّ، والهمّ ما رضي بنا، ووجه كلامه للبائع من جديد: أفّ..!! السعر غالي جدًّا، يعادل ضِعفيْ الجديد غير الملبوس من قبل».

- البائع: «نعم.. ولكنّها قطعة تستحقّ ثمنها لجودتها كماركة عالميّة، وهي أخت للجديد، بل في الحقيقة هي أفضل، انظر..!!.. إنّها غير ملبوسة كثيرًا، وأكبر ظنّي أنها سُرقت من صاحبها، أو انّه مُصاب بهوس شراء الموديلات الأحدث».

- عايش: «على كلٍّ لا تعدوا مهما علت ستبقى مستعملة، وما يدريني من استخدمَها من قبلُ، أهو ملاكٌ أم شيطانٌ.. أم لصٌّ محترفٌ ومهرّب مخدّرات، أو صحفيّ أفّاق يملأ الدنيا بكذبه وفجوره؟».

- البائع: «وماذا يضيرُك من كلّ ما ذكرتَ إذا كان ذلك هناك في بلادهم؟. متأكّد أنّك ستدعو لي بظهر الغيب بعد أن ترتاح قَدَمَاك فيه».

تذكّر أمرَ غدٍ، وكفّ عن مجادلة البائع مُختَصِرًا التمدّد في الحديث معه بعد خصم مُرضٍ حصل عليه، ولم يتردّد في إيداع حذائه القديم حاوية الزّبالة قُبالَة المحلّ، غير آسف عليه بعد أن لبس الجديد.

 

 

 

 

 

شُعاع مُنعكس

 

عيناها حاصرتني. أحكمت طوقها على آخر حُصوني، شيئًا فشيئًا تتقدّم بسهام عينيها المُصوّبة إلى قلبي. حيرةٌ مشوبةٌ خوفًا من أبي عيون جريئة.

 "يا إلهي..!! أنا في موقف لا أُحسَدُ عليه.. ما العمل؟".

إنّها سيّدة أربعينيّة، أحلفُ جازمًا ولا حتّى مُصادفة أو في حُلُم أنّني التقيتُها. قرص القمر بدرًا يتمثّل بوجهها. ثرثرة علامات ثرائها تُعبّدُ مسافة الأمتار القليلة الفاصلة بين طاولتيْنا.

محاكاة في داخلها:

"يا لها من مصادفة عجيبة، أيمكن أن تتطابق صورتيْهما؛ لدرجة يصعب التفريق بينهما؟، كأن أكفانه نَسجَت من روحه صورة تقمّصها وجه هذا الشابّ بوسامته التي عهدت بها أخي..!!".

ارتباكٌ داخليٌّ انعكس توتّرًا اكتست به ملامح وجهه: "عيناها لا تتحوّلان عنّي إلى صديقتها الثرثارة، وهي تتصنّع حركات وابتسامات، ولا تلتفتُ إليها. نظراتُها مَخارِز تنخز أعصابي؛ فترتجف رغمًا عنّي".

لاحظتْ استراق نظرات سالم لها. تخفّت خلف نظّارتها. حركتُها أضافت له دفعة إبهام أجّجت مخاوف وهواجس جديدة في عقل سالم.

توارد الأفكار أخذه باتّجاه مُغاير تمامًا لما أحس به بداية، سبح في دوّامة العاطفة، وراح يستمع إلى قلبه:

-"أمِنَ المُمكن وسامتي جَذبَتها، كانت أمنيتي المفقودة من أيّة فتاة كانت أن تُبدي إعجابها بي. كذلك لا أظنّ أنّ قميصي أو بنطالي أو حذائي هنّ السبب؛ لأنهن من الأوربيّ المُستعمل سابقًا، ولا أعرف من ارتداها قبلي، أهو شيطان أم ملاك.. أرَجُلٌ مكتملُ الرّجولة أم مِثْليُّ الجنس. أقارئ أم جاهل.. أمسؤول كبير أم مُتسوّل..!!؟.. لا.. لا.. بكلّ تأكيد تسريحة شعري المصبوغ بالأسود".

في حركة مفاجئة منه، التقط صورة بواسطة هاتفه النقّال، توجّهت أعين زبائن المقهى إليه.

بهدوء راح يتأمّل قسمات وجهه، للمرّة الأولى في حياته أحسّ بوجهه. اكتشف أن عقوده الأربعة عَدَتْ عليه تاركة لمساتها المحفورة على جبينه وتحت عينيْه.

بخطوات واثقة توجّهتْ إليه. بينما هو غارق في ذهوله سقط الهاتف من يده، عيناه جحظتا مع كل لحظة تقترب منه، جفّ فمه كأنّ الحُليْمات مُتواطئة بتوقّفها عن إفرازاتها، تخشّب لسانه عن الحركة.

وقّفت لحظات تتفرّسُ ملامحه. سيْلٌ من الدُموع مُتلوّن بألوان (الماكياج). شكّل قوس قزح على خدّيها المليئيْن تورّدًا. على غير المُتوقّع صرخت بجنون ارتّجت لها جنبات الصّالة:

-"إنّه هو.. مُتأكّدة منه لا مجال"

عجزت قدماه عن الاستجابة في الوقت المناسب عندما فكًر بالهروب، ظنّا منه أنها اشتبهت به كمجرم قاتل، أو لصّ حراميّ. إحساس مُبهم بِبلَلٍ تسرّب إلى الكرسيّ تحته، أو سيلانًا على البلاط.. شعورٌ مُخزٍ بالمَهانة.

طوّقته بذراعيْها. اختفى رأسه بالكامل في غابة شعرها المُتهدّل، انهالت عليه بقبُلاتٍ مجنونةٍ، وهمهمةٍ غير مفهومة. اغتسل وجهه بدموعها المُلوّنة.

انجلى الموقف بعد هدوئها على وقع اعتذارها الشديد بخروجها عن اتّزانها ورزانتها ووقارها. أعلنت للجميع:

ظننتُه أخي الذي قضى قبل سنة بحادث".

رفعت هاتفها النقّال عارضة صورة يحيى مُحاولةً إقناعهم، وكسب التعاطف معها. الصورة انتقلت من جديد عبر (البلوتوث) إلى هاتف سالم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سرقوا حماري..

 

لم يمهلني رئيس المخفر حتى بإلقاء تحيّة المساء عليه، فضلًا عن الإدلاء بإفادتي عمّا حصل لحماري، الخفير سبقني لإخبار المعلّم قبل وصولي إليه، فقد استمع لقصّتي أثناء كتابة استدعائي للشكوى. أمام المبنى الضخم ذي المهابة، الخشية مما في داخله تجعل القلوب تتراقص خوفًا.

طاولة كاتب الشكوى أرخى أذنيْه للاستماع لما سأخبره عن الواقعة، غير آبهٍ لحركة أصابعه الضّاغطة على كبسات الآلة الكتابة؛ لإنشاء الكلمات المناسبة على الورقة البيضاء التي ترتفع مع انتهاء كلّ سطر لتمتدّ يده إلى مقبض جانبيّ يسحبه للانتقال إلى سطر جديد، كلامي القلق على مصير حماري لم يجعل هذا الرّجل ينفعل ولو يأدنى درجة تعاطف معي. حزني يتجاوز شروحاتي له ليتسلل الحقد إلى نفسي على لامبالاته. هل تيبّست مشاعره.. أم تجمّدت أحاسيسه؟.

ما إن بلغت الأسطر مساحة نصف الصفحة، هذه المرّة خالف المرّات السابقة في متابعة الكتابة في سطر جديد، بل سحبها وأمرني بالتوقيع على أقوالي، لم تُتَح لي فرصة مراجعة ما كتب أو الاعتراض. صوته يعلو على ضجيج آلة عسكريْة عبرت الشارع: "هيّا أسرع للحاق رئيس المخفر في مكتبه قبل الخروج لأمر طارئ".

امتثلتُ لأمره دون نقاش، بعد أن نقدته مئة ليرة سورية بناء على ما طلب منّي، رغم علمي أنّه غدرني بزيادة غير محسوبة لديّ.

***

التقط أنفاسه قليلًا، تناول الاستدعاء منّي، وانخرط في نوبة جديدة من الضحك وقلبي يتلوّى قلقًا على مصير حماري. لم أتمالك نفسي ورغبتي بالبكاء أشدّ لكن مسايرة الموقف أملت عليّ طرد التكشير عن ملامحي وانفرجت أساريري. خمس دقائق دام وقوفي ولم يؤذن لي الجلوس.

رنين الهاتف أوقف هستيريًة الضحك، ليحلّ الجدّ والصرامة، رفع السمّاعة

حقيبة بيت العائلة

 

لم يبْدُ عليه الاهتمام أثناء تفقّده لمحتويات الحقيبة البُنيَّة اللَّون المُنتفِخة الأحشاء بالرَّسائل والأوراق منذ عشرين عامًا، القابعة في مُستودَع الجهة الخلفيَّة لبيت العائلة القديم. الظَّلام لا يُفارقها بعد الحادث الأليم على الأوتستراد الدوليّ. عندما تصادف توقّف سائق شاحنة النّقل الكبيرة، ونزل لقضاء حاجته في نفس مكان الحادث الذي وقع قبل يومين من مروره، عَلْتها طبقات الغُبار والأتربة المُتطايرة وفيها انطمرت أحلام للشاب حسام بالحصول على منحة الدراسة الجامعيّة، وتبدّد انتطاره ثمّ طَواها النِّسيان، ولم تمسّها يدٌ إلَّا يد ابنته الصُّغرى حينما أمَرَتْها أمّها وقتذاك بأخذ الحقيبة إلى هناك: 

-"يا سارة خُذي هذه الحقيبة للمستودع، لا حاجة لبقائها هنا". 

- بلا تردّد ولا تأفُّف: "حاضر يا أمّي". 

اِتّفاق الورثة على بيْع بيت العائلة المُشتَرك؛ اِشْتراه تاجر عقار شهير بعد مُساومات وإغراءات وتهديدات مُبطَّنة، وكان قد أخذ جولة تفقديَّة، ومن عادته نبش الأشياء المُهمَلة والقديمة، ورَوُوا عنه عبارة ترددّت على لسانه أكثر من مرّة: 

-"كثيرًا ما ينسون أشياء مفيدة، وذات قيمة في جيوب الملابس والحقائب النّسائيّة العتيقة، يرمونها لضجرهم منها. في صغري اِشْتريتُ بنطال جينز من إحدى محلّات الألبسة الأوربيّة المُستعملة (البالة)، في غرفة المقاسات جرّبت قياس خصره الذي توافق تمامًا. المفاجأة عندما دسَسْتُ يدي في أحد جُيوبه لتلقط مئة دولار، نقلتها إلى محفظتي في البنطال القديم، حتّى لا يشعر البائع ويأخذها، وربّما لن يتمّ الاتّفاق على السّعر فأخسر الصّفقة". 

في المُستودع الخلفيّ المهجور، وقعتْ عيناه على حقيبة الرّسائل التي ما زالت على وضع يد البنت سارة. نَفَض عنها تراكمات الزّمان، تأبَّطها بحرص إلى أن اِسْتقرّت في صندوق سيّارتهَ.

وحسب شخص، وأظنُّ بحسده  لتاجر العقارات الشّهير، حينما سمع بصفقة شراء بيت سائق الشّاحنة، أسرَّ لبعض أصدقائه: 

-"السبب الحقيقيّ لثراء هذا التاجر الذي أصبح من أهمِّ تُجّار البلد هو أنّه في أيَّام فقره كان دائم التردُّد على المزابل وحاويات القمامة، بعد منتصف اللّيل. ومرّة فتّش ألبسة وأغراض شخص شحّاد قضى نحبه في البرد الشديد، نثر فرشته المهترئة فانتثرت بين يديه خمس رُزَم من المصاري من فئة الخمسمئة ليرة". 

مؤكّدٌ أنّ أحدهم أطلق من بين شفتيْه صفيرًا، أكادُ أسمع صفيره أثناء الكتابة، عندما رفع حاجبيْه للأعلى وصَفَق يدًا بيد، وقال: 

-"سبحان الله المُعطي.. يعني هالثروة أساسها ذلك الشحَّاد؟". 

حسب تصريحات السِّمسار: "في نيَّته إقامة عمارة طابقيَّة مكان البيت، بلمسة عصريّة بواجهاتها الزُّجاجيَّة القاتمة العاكسة للضُوء والشّمس". وتمَّت الصّفقة. ظهيرة اليوم الثَّاني كان موقع البيت ساحة تُرابيَّة، الجرَّافات والآليَّات الثَّقيلة لم تترك شيئًا غير مُكترثة بتاريخ البيت. بلا رحمة جرفت الذكريات والأحلام وما تبقَّى من سَقْط المَتاع، اِنْمحى كلُّ أثر، أشعَّة  الشَّمس اللَّاهبة لم تتوانَ عن تسخين المكان، والرّيح ماضية بإثارة مَوْجات الغُبار المُتتالية، تتطاير لتُشكّل طبقات على نوافذ البيوت في المحيط وأبوابهم. الجوارُ مُتأفّفٌ بصمت لا رغبة عندهم برفع أصوات الاِحْتجاج، ولا نيَّة بتقديم شكوى جماعيَّة إلى بلديَّة المدينة. بإجماع قالوا: 

-"الشَّكوى لله. سنصبر.. ها نحن صامدون".

على أطراف المدينة البعيدة وحصرًا في الجهة الجنوبيّة الشّرقيّة يقع مكَبُّ النّفايات الذي أصبح موطنًا لتجمُّعات  من عشوائيَّات الصّفيح وبقايا المُخلّفات؛ تضمُّ المُشرّدين العاطلين عن العمل والمُنحرفين والمُتعاطين. نشأت هناك سلطات أخرى غير رسميّة فرضت هَيْبتها وقانونها بقوّة عضلاتها.

ضربة فأس لم تكن قويّة بما يكفي لانهيار كَومَة من المُخلّفات؛ لتحدُث المفاجأة للمرّة الأولى لحسام الذي يعمل هنا منذ خمس سنوات وأكثر. 

"ما هذا..! يا إلهي، رسائل غير معقول أن يرمي أحدهم بهذه الكميّة!" أعادها للحقيبة المُنفتقة ووضعها بكيس آخر. حملها إلى كوخه غير البعيد من هنا. مع أضواء آخر النّهار أصابته نشوة طارئة تسرّبت لقراءتها. عاوَدهُ فُقدان رغبة القراءة والكتابة التي كانت عشقه. 

توالى فتح الرسائل واحدة تِلوَ الأخرى، وانفتحت نافذة تزامنت مع آخر حُصونه المُوشكة على الاِنْهيار، أثناء قراءته للرّسالة العاشرة: 

-"السيّد حسام، بعد الاطّلاع على أوراقكَ التي تقدّمتَ بها للجامعة من أجل الحُصول على منحة لدراسة الهندسة، نُعلمكَ عن موافقتنا، وقبولك للعام الدراسيّ القادم بعد إجراء المُقابلات اللّازمة". 

تحجّرتْ يده على الورقة التي دعكها بقوّة كفّه الخشنة. لاكَتْها أسنانه غير آبِهٍ بطعم الحبر والعفن. داهمَهُ مغصٌ شديد وانتهى كلّ شيء مع توقّف أنفاسه.

 

 

مشاغبة حلم..

 

من غير المعقول أبدا عدم توقف هاتفي عن إصدار أصوات نغمات الإشعارات.. حاولت إغلاقه بعدما أقلق منامي، لأنني عجزت عن معرفة مصدر ها. وبعد جُهد جهيد جاءتني فكرة الاستعانة بصديق ممن تأخروا بسهرتهم مثلي في فضاءات العالم الافتراضي؛ أرشدني لاتجاه آخر غير التطبيقات المُفعّلة على هاتفي.

أخيرًا، ومع شقشقة الأفق عن خيوط النور، ومع نسائم الصباح التي فتحت آفاق ذهني إلى أن اهتديتُ للسبب. انتبهت لتواجد هذا الشخص (محمد الصمادي) الذي في الصورة كأنه حاول مشاغبتي في الحلم مع أول إغفاءة النوم، ولم أدر أنّه تحرك عكس الاتجاه بشكل غير مألوف، عندما انخرط بحديث طويل. كنت أستمع له بانبهار من اتساع خياله. وهو يقول: "شعرت بالعطش أثناء كتابة نص" جرعتان والبقية تفاصيل"، كنت في حالة تجلٍّ نسيتُ نفسي، ولم أشعر بشدّة العطش وحاجتي لكأس ماء، ولمّا خذلتني كفّة قدمي اليُمنى الخَدِرَة وكأنَّ النمل ينهش أعصابي، عجزتُ تمامًا عن القيام، مددتُ يدي إلى قاع الوادي السحيق. أسفل  بيتي الذي يتربع على القمّة في بلدة "عنجرة"؛ فاغترفتُ بيدي أوّل مرة وثانية وثالثة، إلى أن انطفأ ظمئي".  قلقي في الصورة اِنْعكس على الهاتف مما تسرَّب من كلامه. وتابع حديثه بعيون مُتحفّزة وبثقة عميقة: " وفي جلسة أخرى، ومع أوَّل رشفة من فنجان قهوتي، مددتُ يدي لأتلمَّس حجارة بُرج قلعة عجلون المُواجه لي على الجهة الأخرى، أحسستُ بنبضِ الحجر السّاخن، الذي لم تتسرَّب إليه بُرودة السِّنين الطَّويلة، إلى أطلّ بوجهي وجه مُعلِّمُ البناء أثناء تركيبه لهذا الحجر الكبير، وحدجني بنظرات مُرعبة اخترقت خلايا دماغي، بينما عيناي مُركَّزتان على راحة يده الضَّخمة على زاوية الحجر. لم أستوعب ضخامة حجمه الذي يحتاج لرافعة حديثه لتضعه في مكانه. صحوتُ وبيدي الولَّاعة، النَّار اشتعلت بأوراقي، وضاعت الجرعتان النسخة الأساسيَّة". رنين الهاتف لم يتوقف إلا بعد قيامي واستعادة نشاطي وتجهيز نفسي لصلاة الفجر.

 لا أحد يضحك في هذه المدينة

 

صديقي الكاتب - أقصد كاتبُ هذا النصِّ- يتأفّف بضيق ترتسم ملامحه على وجهه بألوان لوحة مُحتقِنةٍ بألوانها القاتمة: "المشكلة لا أطيق العناوين الطويلة، وممَّا زاد الطّين بلّة ثقب ذاكرتي الذي اِبتلعَ مفرداتي التي طالما أفاخرُ نفسي بغناها وكثرتها". لا رغبة لديّ للتعليق على كلامه، ولا على اِسْترساله المُتكرّر؛ الملل لم يُفسح فرصة للتفاعل معه، ولا أذكُر. منذ متى كان لقاءنا ترفيهًا وترويحًا لأنفسنا..! ساعتها. تأجّحت رغبة عارمة بالإفلات من إساره؛  للانطلاق إلى ساحات ذكريات تباعدت المسافة بيني وبينها. انتشت دواخلي بفرح غامر لم يُترجَم، إلّا بمباعدة كلام صديقي الكاتب عنّي مسافة شعوريّة؛ كي لا يمحو شيئًا فرحتُ من أجله؛ رغبتي بالهروب من أجوائه، غلّبت فكرة الاِعْتذار منه بحُجّة اتّصالٍ جاءني من زوجتي لأمر عائليّ طارئٍ، بينما مثّلتُ هيئة عليه  بتلقّي مُكالمة في غمرة  اِسْتغراقه في لُجّة ذاته بسرد حكاياته، التي حفظتها من كثرة إعادتها في لقاءاتنا الدوريَّة من كلّ أسبوع. أسرعتُ بخطواتي لأبتعدَ عنه، قبل أن يتذكّر شيئًا يدورُ في ذهنه، فيُرجعني أو يلحق بي. 

موعدنا هذا ما زال ثابتًا منذ خمس سنوات مُتتالية، بعد تقاعدنا من التربية والتعليم لم يتخلّف أحدنا عنه. نكهة الأماكن في دمشق ذات مذاق روحيٍّ مُنعٍشٍ. السَّاعة الخامسة في مقهى "الروضة"، وقبل وصولي إليه لا بدّ من المرور على كشك الجرائد والمجلّات المُقابل لبوّابة البرلمان، لشراء جريدة لمقاومة مَلَل الانتظار؛ ريثما يصل صديقي الكاتب المُتأخّر دومًا عن مواعيده بما لا يقل عن نصف ساعة على أقلّ تقدير.

ركبتُ (سرفيس) مساكن برزة بعد عشرة دقائق من وصولي للموقف. من حسن حظّي أن نزل أحد الركّاب لأصعد وأجلس مكانه. لم أستطيع التمكُّن من كامل الكُرسيّ أرداف جاري الضخم احتلت نصف مكاني، على مضض قبلتُ بصمتٍ دون أدني احتجاج كي يُفسح وينزاح قليلًا. 

من فوره فتح حديثه، يقترب برأسه من رأسي، شفتاه أظنّ أنهما لامستا أذني اليسرى: 

"الحمد لله -يتكلم بعصبيّة، وتكشيرة وجهه تقطع الرّزق- أن ابني الكبير انتقل من فرع البنك الذي كان يعمل به، إلى فرع خارج البلد، وراتبه سيكون بالدّولار". أنفاسه تتدفّق بتوتّر مُتقطّع لاهثة، وتدفع إلى أنفي رائحة كريهة، ولا خيار لي إلّا بالإشاحة بوجهي إلى الجهة المُعاكسة، لكزني بطرف كوعه في جنبي الملاصق له لمتابعة كلامه.

الكُرسيّ المُفرَد عن يميني، يجلس عليه رجل يبدو أنّه خمسينيّ، هاتفه النقّل ملتصق بأذنه، لم أواجه صعوبة بالتقاط ما قال:

-"يا سيدي مشان الله، ربي يخليلك أولادك. بنتي تخرّجت من ثلاث سنوات، وعجزنا بإيجاد وظيفة لها. نعم.. نعم.. خرّيجة كليّة التربية. معلم صف. ربي يحفظك ولن أنسى لك هالمعروف ما دمت على قيْد الحياة. لا يهمّ وإن كان عقدًا. المهمّ أن يكون لها راتب يساعدنا على ظروفنا الصّعبة". نتوء عروق وأوردة يده القابضة على الهاتف ظاهرة، يكاد الدم ينفزر منها، وتغضّنات جبينه رسمت خطوطًا عميقة بعمق بؤسه. 

نبرات جافّة التقطتها أُذُني قادمة بتقديري من الكرسي الخلفي مباشرة، صوته الأجشّ يحمل غضبًا غير معقول، في حديثه لامرأة كبيرة أربعينيّة تلبس نظّارات شمسيّة سوداء تُخفي معظم ملامح وجهها الوضيء: 

-"من غير المعقول هذا التكريم المُفاجئ للجميع لمن كتب قصيدة واحدة، والأنكى حينما قدّمه مدير الحفل بالشّاعر الكبير، لا أدري كيف سوّاه شاعر وكبير..!؟ ومن هم مثلكِ ومثلي يا عزيزتي، لم يُرحّبوا بنا مجرّد ترحيب على الأقلّ، هزُلت.. أليس كذلك.. أفكّرُ بمقاطعة نشاطاتهم إذا لم يعتذروا ويعيدوا الاعتبار لي على الأقلّ، فلا أريد فرض ذلك عليك. لكِ الخيار وأنت حرّة". تنحنحتْ، واِكْتفتْ بذلك. كنتُ أودّ سماع صوتها علّه يُرطّب حرارة الموقف، ويُزيح عنّي شيئًا من كآبة صديقي الكاتب، لأغرق في مستنقع كآبات لا حصر لها.

تتوالى القصص من الكرسي الأماميّ، الأوّل لجاره الذي على يساره بجانب الشُبّاك: 

-" أتذكُر جارنا الصحفيّ كان بيته في مدخل حارتنا أول بيت.. آسف بل البيت الثاني هذا هو بيته". 

-"ما به؟". 

-"أحد الأصدقاء المشتركين كتب على صفحته خبر موته في حادث سيّارة في ألمانيا".

-"كم حلمتُ بالهجرة، ولكن ضيق الحال لم يسمح لي، ولم أستطيع تأمين خمسة آلاف دولار مبدئيًا لدفعها لأحد وسطاء المُهرّبين. على ما أذكرُ أنّني سألتُ أحد أقربائي بعد وصوله إلى السُّويد، كيف الوضع عندكم في الشّمال؟. وأرسلتُ له صورة التقطتناها بمكان قبل ثلاث سنوات بعدسة هاتفي، قال: "أُفْ.. أأنتَ في نيويورك أو في دُبيّ؟" نبّهتُهُ: "دقّق في الصورة ستكتشف أنّها لي ولك". 

جاءت إجابة الأوّل: "يا للوقاحة والنّذالة.. يا أخي المصاري بتغيّر النّاس، وبتجاهلهم مآسينا". 

بجانب السّائق تجلس امرأة وبجانبها شابّ يلبس بدلة رسميّة وربطة عنق. المرأة منهمكة بحديثها للشابّ: 

-" قسمًا بالله..!! أنّ الفراق موحش، لم أستطع دخول غرفة نومنا منذ وفاته قبل أربعة أشهر، ما زال عطره عابقًا بالمكان. حُزني لم يسمح لي بفتح النّافذة". 

-"هانت الأمور. كلّها عشرة أيّام وتفتحيها بلا أدنى تردّد". 

-"الأهمّ عندي الآن اِنْتهاء حصر الإرث فأولاده لو اِسْتطاعوا لحرموني من البيت الذي أوصى به لي، وبعض الأموال، كما أخبرتكَ: يعتبرون زواج المرحوم عبثًا، واِتّهموني بالنّصب والاحتيال". 

-"لم يبق أمام القاضي إلّا الجلسة القادمة ليُصدِر حكمه القطعيّ بخصوص القضيَّة، ولا داعي للقلق، فأنا أتابع الدعوى باهتمام بالغ. بشرفي كنتُ قد ربحتُ قضايا إرث كبيرة ومعقدّة ولم تأخذ معي وقتًا طويلًا". 

-"طمأنتني.. سأفتحُ النّافذة قبل وصولنا للبيت". 

غفلت عن صوت هدير المُحرّك المُزعج، يحرق أعصابي على الدوام، ما إن أشارت المرأة للسَّائق برغبتها النزول عند المفترق القادم. بعد تأكّدي من أنّه ما زال أمامي ربع ساعة بالوصول إلى بيتي. تولدت رغبة بالنزول ومُتابعة المشي وحدي، ولم أحسب حسابًا لوجع رُكبتي الذي يتأزّم مع المشي لمسافات طويلة. 

حاولتُ صناعة ابتسامة ساخرة، وأنا أتابع المرأة عندما شبكت ذراعها وتأبّطت ذراع المحامي، وهما يكملان سيرهما باتجاه مدخل العمارة التي تسكن فيها. شيّعتهما بنظراتي، انتبهت لجلدة وجهي المشدودة عندما تلمّستها.

 

 

 

الحارس

 

دَوَامُه يستغرقُ معظم ساعات نهاره، وجزءًا من اللَّيل. الحارسُ جالسٌ لا يتزحزح عن كُرسيِّه الحديديّ المُتهالك الصَّدِئ، الذي اِسْتبدَّت عوامل الزَّمان به، وعبثت بلونه المَمْحِيّ لم يبق من طلائه الباهتٍ إلا بُقَعًا متناثرة؛ يصعُب تحديد أو تمييز لونه الأساسيِّ.

رغبته الدَّائمة في الجلوس في زاويته الحصينة على رأس الدَّرَج ذي الدَّرَجات الثلاث، أمام البوَّابة الرَّئيسة لمقرِّ اِتِّحاد الفلاحِّين. المَلَل يكتنفه. عيناه ناشطتان بحركاتهما الدَّؤوبة بلا توقُّف، السَّاهمتان في مساحات من الفراغ.

نظراتُه تفضح شيئًا غامضًا يتسرَّب إلى ملامح وجهه. أنفاسُه تخرجُ مُتَحْشرِجةً من فُتحتيْ أنفه الواسعتين باِنْتظام كمدخنة القطار، وهو ينفثُ دخان سجائره باِسْتمرار. إلَّا إذا قام لتأدية أيَّة حاجة تُصبحُ  لاهثة مُتقطِّعة مثل سيَّارات الاتِّحاد العتيقة، التي من المُفتَرَض أن تكون في مَقبَرة السيَّارات منذ سنوات مَضَت، إلَّا من سيَّارتيْ رئيس الاتِّحاد ونائبه، والأقلّ جودة منها لأعضاء مجلس الإدارة.

جمجمة الحارس (أبو فكري) الضَّخمة مُتناسبة طَرْدًا مع تقاطيع وجهه الصَّارمة، مُوحِية بالتوجُّس والخوف. العابرون يُشيحون بنظراتهم عنه، إذا شعروا بأدنى حركة أو اِهْتزاز من رأسه، أو اِنْتبهوا له.

عندما قرَّرتُ العمل ببيع الجرائد على الرَّصيف في هذه الزَّاوية،  منذ أوَّل ساعة اِنتبهَ لوجودي الطَّّارئ، فنادى عليَّ: "تعال يا ولد بسرعة". فوجئتُ بنبرة صوته الرَّفيعة غير المُتوقَّعة، المُغايرة لشكله  الضَّخم المُخيف، المُوح وبلا أدنى شَكِّ بِفظاظة شبيهة بسُلْطة ذوي النظَّارات والمعاطف السَّوداء الصّارمة. كلماتُه داهمت سمعي بِقوَّة هبَّطت من عزيمتي؛ فلم يكُن لديَّ أيَّ خَيَار إلَّا بالاِمْتثال لأوامره.

بلا وعيٍ منِّي ناولتُ الزَّبون جريدة، ولا أدري أين وضعتُ ثمنها، وعلى الأغلب أنَّني لم  أتمهَّل لاستلام ثمنها، تأكَّدتُ بعد عودتي لزاويتي. بخطوات سريعة هَرْوَلتُ إليه، اِخترقتُ مسارات السيّارات العابرة ذات السُّرعات المُنخفضة، غير آبِهٍ باحتجاجات سائقيها وشتائم بعضهم، ولم أتوقَّف أمام سيَّارة فارهة؛ لأعتذرَ لذلك الشابّ الوسيم بعد أن داس على المكابح بقوّة، ممّا أثار رائحة اِحْتراق الإطارات، أصوات صريرها على الإسفلت لم تمنعني من مُتابعة ركضي نحو الحارس. أذكُر أنَّ عاصفة من أبواق السيّارات ثارت فجأة ثمَّ هدأت. ما إن وطِئتُ بقدمي حافّة الرَّصيف قريبًا منه، لا تفصلني عنه إلّا بضع خطوات، حتّى أصدر أمرًا آخر:

 -"هيَّا اِقترب إلى هُنا" ويُشيرُ بيده كإشارة المايسترو الجامدة بالوقوف أمامه.  بنبرة جافَّة من صوته الأجشِّ تابع بسؤال جديد: "ها.. ما اِسْمكَ يا ولد؟".

بصُعوبة اِستطعتُ نُطْق اِسْمي بسبب نَشَفان ريقي: "أسامة". هزَّ رأسه بحركات، وأردفَ: "هل تدرُس، وفي أيِّ صفِّ أنت؟".

-"نعم سيدي. سنة أولى أدب عربيّ".

-"أبوكَ شو بيعمل؟".

-"والدي أعطاكَ عمره".

-"منذ متى؟".

-"من عشر سنوات تقريبًا".

ما زالت حركاتُ رأسه تُحرِّكُ مزيدًا من الأسئلة والأفكار هكذا شعرت..! بنفسي لو أستطيعُ اِسْتقراء ما يدور في ذهنه..! حتَّى أهيِّئ الإجابة التي أظنُّ أنَّها تُعجبه على الفوْر. يا ربِّ.. ألهمه أن يتركني في مكاني، لأنَّه على مُفتَرَق طُرُق؛ بتوافق تمامًا مع نصيحة أمِّي: (الرِّزقُ عند تزاحُم الأقدام).

-"يا أسامة كلَّ يوم بِتْجِيب جريدة الثَّوْرة وتشرين لعمَّك (أبو فكري)، وبترجع توخذهم بعد ما أطَّلع عليهم.. مفهوم؟".

اِلتَقطتُّ أنفاسي، وهدأت ضربات قلبي قليلًا؛ واستجمعتُ بقايا من شجاعة ساخَتْ كماءٍ على الرَّمل، لا أعرف إن كان التوتُّر والاِرتباك انتشر على ملامحي، بسرعة البرق أحضرتُ طلبه:

-"حاضر عمُّوه. خُذ. هاي جريدتيْن".

-" شكرًا يا أسامة". فهمتُ من كلمته الأخيرة، أنَّه أَذِنَ لي بالاِنْصراف رجعتُ إلى مكاني والطُُّمأنينة تُسابقني إلى ظلِّ الشَّجرة الوارفة طيلة فُصول السَّنة، عدا الشِّتاء حصرًا.  الحمد لله أنَّ ملاحظته لي أثبتَتْ شَرعِيَّتي باِمتلاك الحقِّ بممارسة نشاطي هنا.

تأمَّلتُ من بعيدٍ بلقطة بانوراميَّة، وتخيَّلت وقوفي أمام (أبو فكري)، ونظرات صورة السيِّد الرَّئيس الحادّة من فوقه ذات المساحة الكبيرة، والمُتربِّعة على واجهة اتِّحاد الفلّاحين. اِسْتعاد قلبي طمـأنينته، وعادت نبضاته لوضعها الطبيعيِّ، أيقنتُ بأمان المكان؛ لشعوري بأنَّه تحت السَّيطرة. انتشاء وارتياح أعصابي؛ انطلقت أحلام الثّراء تتواثب مع انشغال ذهني بالتخطيط للمستقبل.

السّابعة صباحًا

 

المفاجأة ألجمت لسانه عن الشُّكر لله. شدَّ من هِمَّته بلا تَوانٍ لمُلاحقة حبَّات البندورة المُتدحرجَة بحريَّة مُطلَقة من أعلى المُنعطَف المُنحَدِر إلى قاع المدينة. اِمْتلأ كِيسُه. حدّثته نفسه برضا كامل. سيطرت عليه بُشرى الفرح منذ ساعات يومه الأولى مع تسرّب خُيوط الشَّمس: "الحمد لله الذي رزقني من غامِضِ علمه، وساق لي مؤونة بيتي ليوميْن قادميْن". 

هناك، عندما اِنْفتح الباب الخلفيّ لسيَّارة تنقلُ الخضار والفواكه. ما إنْ اِسْتطاع السَّائق التوقُّف على يمين الطَّريق عند رأس الطُّلوع القاسي،  اِصْطفاف  درَّاجة شُرطيّ المُرور أمامه عكّر مزاجه زيادة على ما بداخله من صراعات. ترجَّل الشّرطيُّ وبيده دفتر المُخالفات والقلم بداخله، بلا سُؤال ولا جواب. ناول "ناجح" إشعارًا بمخالفة أنظمة الأمان على الطُّرقات، وعرقلة وإعاقة حركة المرور في شارع رئيس. على مَضَض اِبْتلع غَيْظه، بهمَّةٍ مصحوبةٍ بلُهاثِ أنفاسه الحرَّى لَملَم ما تناثر من الصَّناديق، وأغلق الباب عليها بعد أن أحكم تنظيمها وترتيبها بتراصٍّ مُتقن. 

اِمْتلأت رِئتاه بالأوكسجين بعد أن سحَبَ نفَسًا عميقًا، ثمَّ طرح زفيرًا مصحوبًا بتأوُّهٍ عميق. بدَت حركات صدره الصَّاعدة والهابطة قد هدأت قليلًا. اِطْمأنّ لمُعاودة رحلته الطَّويلة آمِلًا بالوصول إلى قريته، وعينه على السَّاعة المُثبَّتة ذات الأرقام الإلكترونيَّة بلونها الأحمر المُستفِزِّ.  الأمل بقطع مسافة الخمسين كيلومتر قبل السّابعة صباحًا. اِسْتغراقه بتفكيره وهو يضرب أسداسًا بأخماس بقيمة المخالفة، حدّث نفسه: "الله لا يوجِّه الخير للشرطيِّ، ضربتان بالرأس موجعتان. خسَّرني وحرمني من أيِّ ربح في هذه المرّة... بل لا بدَّ أن أزيد عليه من جَيْبتي". هدير المُحرِّك تباطَأ عندما رفع رجله عن دوَّاسة السُّرعة مع بداية نُزولٍ قاسٍ إلى الوادي السَّحيق. اِهْتزاز المركبة وماجَت قليلًا يمينًا ويسار؛ اِنْتشله في اللَّحظة الأخيرة من اِسْتغراقه في لُجَّة أفكاره الهائمة؛ ليُبادر بإحكام سيطرته، مع اِنْتقال رِجْله للضغط على المكابح برفق وحَذَر، أخيرًا اِسْتطاع التوقُّف على يمين الطّريق، ووضع حجرًا أمام الدُّولاب الأماميِّ، وآخَر أمام الخلفيِّ؛ لضمان عدم حدوث اِنْزلاق ولو بسيط. أحضر عدّة تبديل الدُولاب الخَرِب، ليتمكّن من قطع العشرين كيلو متر الباقية.

عادت إلى مُخيِّلَته صورة وجه جاره "أبو صبري" أثناء خروجه إلى مسجد الحيِّ الصَّغير قُبيل صلاة  الفجر بأقلّ من ساعة، وتلاقت نظراتهما تحت اللَّمبة التي تُنير عتمة الزَّاوية أمام بُوّابتَيّ بيتهما.

تُحدّثه نفسه: "أعوذ بالله من شرّ عَيْنه، الآن أدركتُ سبب تصرُّفات أهل الحارة بتجنُّبه وتحاشيه إلَّا للضرورة القُصوى. أُخطِّئ نفسي على تلويمي الدّائم على من كان يلوكُ سيرته بأيَّة كلمة". اِنْهمكَ في تلاوة آية الكُرسيِّ والمُعوَّذات لِطَرد شرّ شَبَح عين الجار. شُرودٌ ذهنيٌّ اِسْتحضر حكايا قديمة عن حوادث. اِمْتدَّت يده إلى مفتاح الرَّاديو. وكأنّ السَّماء اِنْشقّتْ  عن  صوت الشّيخ "عبد الباسط" بتلاوة قصار السُّوَر. هدأت حِدَّة الهواجس، وطردت أكوام القلق، وفاض جوُّ السيَّارة بروحانيَّة عبَّقتْ لدقائق في رأسه. 

عادتْ كلمة أحد الجيران بحضورها قويَّة تُزاحم الشَّيخ "عبد الباسط"؛ فجعلته يغفل  ويغيب عن وعيه: (والله لَئِن مات "أبو صبري" لن أكون مع مَنْ يُصلُّون على جنازته). اِنْتفضَ مذعورًا من تداعيات ذكرياته، واِهْتزّ جسده بارتجافٍ عنيف: "يا إلهي عندما توفّي ذلك الرَّجل في اليوم الثّاني لمقولته بحقِّ جارنا. وصلَّيْنا عليه معًا". 

تخايل له صورة ملك الموْت يطرُق عليه الزُّجاج الأماميّ. توقَّف من جديد، ولا نيّة بمتابعة طريقه، ونسي موعد اِفتتاح محلّه في السّاعة السّابعة التي ستحلّ بعد عشرين دقيقة.

 

 

 

 

 

 

بائع الخرداوات

 

 

بائعُ خُردَاوات على الرَّصيف. يبدو عليه السَّأم والملل من حركات أصابعه على شاشة هاتفه النقَّال. عيناه حائرتان بحركات سريعة باِتِّجاهات مُتعاكِسَة.

لَفَت اِنْتباهي أشكال النظَّارات العديدة المعروضة على البَسْطة. لم ألحظ حركة شفتَيْه لِرَدِّ التحيَّة، عدوى لا مبالاته أصابتني.

بِصَمْتٍ قررَّتُ شراء ثلاث نظَّارات قاتمة العدسات. دفعتُ ثمنها بلا نقاشٍ ولا اِعْتراضٍ. ومضيْتُ.

اِنْتظرتُ عَتْمةَ اللَّيلِ، وفي خَلَوةٍ مُحصَّنةٍ عن المُتلصِّصين. جمعتُ النظَّارات فَوْق بعضها، أنفي لم يشْكُ من ثقلها عندما لَبِسْتُهنَّ. وخرجتُ أتحسَّسُ طريقي بِعَصا العُمْيان؛ لأتفقَّد مُحيط الدَّار؛ إذْ سمعتُ حركاتٍ مُريبةٍ.

 

 

 

 

 

 

مسرحيّة

 

 

- أعرَبَ لي: "سروري عظيم باِنْتهائي من مُطالعة مسرحيّة(مغامرة المملوك جابر)".

- "بخبرتكَ العريقة، هل تستطيع إعطائي فكرة واضحة عن رسالة كاتبها سعدالله وَنُّوس..!!؟".

أخَذَ نفَسًا عميقًا.. اِعْتدلَ في جلسته.. سحَبَ سيجارة من عُلبتي، فقال:

-"المُمثِّلون يتحرَّكون بإشارة من المُخرج القابع في زاوية لا يُرى منها، أوامره صارمة، وبعصبيَّة".

- "هل هو عسكريٌّ سابق؟".

- "ومن أخبركَ بذلك؟".

-"من وصفكَ له، تراءت لي الأيادي الخفيَّة التي دائمًا ما تُحرِّك المشهد وِفْق أجندتها".

- "أثَرْتَ مواجعي من جديد، وإنَّ ليل العبيد.. وليل الظَّالمين قاسِمَهُما المشتَرَك الظَّلام. كعربات نقل الموتى.. مملوءة بالملح والصَّديد. كلاهما مؤرِّقان.

النصُّ موجوع ينثُّ بالآهات. الأبطال فاقدو النُّطْق.. الإيماءات والإشارات؛ ملأت صفحات رسالتهم الطَّويلة كالإلياذة.

العناكب تتدلَّى فوق السِّتارة الباهتة غير آبِهَةٍ ببؤسها. لهاثُ الأنفاس يتشارك العرض مع الممثِّلين، شبيهًا بقصص اِحْتضار الموتى التي لا تُنسى.

ختامًا.. أُسدِلت السِّتارة، من سادن مبتور الكفِّ اليُمنى، واليسرى بلا أصابع.

حرارة التَّصفيق مُتوهِّجة تهزُّ الأركان على وقع صدى:

-مَوْطِني..!!

بُحَّ صَوْتي، نِمْتُ واِسْتفقتُ، وأنا ما زلتُ أردِّد معهم:

-موطني.. البهاء والجمال.. !!

 

اقتصاد

 

 

ورث لافتة من عهد أبيه التاجر، رُفعت في مُناسبات وطنيّة وقوميّة. لم يطرأ أيّ تعديل عليها، منذ أوّل عيد للجلاء في سوريا، إلى آخر مُناسبة جلاء هذه الأيّام، وعند سُقوط النّظام قبل أشهُر قليلة.

بقيت فترة على واجهة محلّه التجاريّ العريق والشّهير. طُلّاب المدرسة يقرؤونها بصوت جماعيٍّ صباحًا ومساء، أثناء عبورهم الشَّارع الرَّئيس من وإلى المدرسة: "نُهنِّى القيادة الحكيمة بهذه المناسبة المُباركة".

-تصفيق وصفير-

مُصِوِّر ناشئٌ وثَّق بعدسته اللَّحظة التاريخيَّة. أحدُ الهُواة عَرَض مبلغًا مُحترمًا لشرائها.

 

 

 

 

 

 

 

نباهــــــــــــــــــــــة

 

المدير العامّ بعد أن كوَّعَ؛ خصَّص مكانًا للصلاة. كثّف عدد الكاميرات، لمراقبة الزوايا المُتوارية، والمُحتَملة لاِخْتباء الفُلُول؛ فانتفخت جُيوبه، ولم تتسع لزيادة دخله اليوميّ.

 

 

 

 

شاربان معقوفان

 

حانتْ اِلْتِفاتةُ منِّي لذلكَ الرَّجُل، الواقف أمام مرآةٍ غير نظيفةٍ في الحمَّامات العامَّة. تأمَّلتُ حركة أصابعه الرَّشيقة؛ بتفتيل طَرَفَيْ شاربيْه المعقوفيْن للأعلى.

بعد اِطْمئنانِه على وضعِهِما الطَّبيعيِّ كما يُحب؛ أظنُّ بل مُتأكِّد من عدم اِسْتطاعة الصَّقر بالوُقوف عليهما كما يُقال-، ولأنَّهما ليسا عريضيْن؛ فكثافتهما الوُسطى غير كافيَة، ولا تُؤهِّلُ حتَّى عُصفورًا صغيرًا بحجم البُلبُل؛  للتَّغريد فوقهما.

بخُطوات مُنمَّقة مُتَبَخْتِرِة، يتمايل معها جَذْعه الأعلى بإيقاعٍ داخليِّ شِبه راقص، لا يُشبه تمايُل الثَّمِل على أنغام موسيقى بائسة رديئة.

ما إنْ أصبحَ الرَّجُل بمُحاذاتي، حتَّى غطَّى بحسمه على خَيالِ "طوني حنَّا"، الذي اِنْتصَب أمامي هذه اللَّحظة، بطلعته المُفعمة بالحياة. لكنَّه كان صامِتًا ملامحه حائِرَة. 

أطلقتُ اِبْتسامتي المُعجَبَة بشاربيْ الرَّجُل. بادرته بكلمة مُرفقة باِبْتسامة:

-"حِلْوين".

بادَلَني بنظرة شُكْرٍ بطَرَف عَيْنه دون نُطق كلمة واحدة. اِسْتمرَّت خُطُواته نحو المَخْرَج بلا توقُّفٍ، لاحظتُ خُطوط جبهته المُتغضِّنَة التي غاصت عُمقًا، وكَشْرَة وجهه تميلُ إلى العُبوس. صوتُ حذاء الكَّعب العالي سابَقَ صاحبته قُدومًا، ليس إلى مكانِنَا بل إلى سَمْعِي. اِلْتَفَّ الرَّجُل بنصف اِسْتدارة نحوي، واِبْتسَم.   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لوحة إرشاديَّة

 

 

وَقفا قبل مسافة تحت لوحة إرشاديَّة تحذيريَّة لسائقي السيَّارات؛ تُنبِّه لتخفيف السُّرعة. تناهشتني الأسئلة المشروعة وخلافها. اِبْتسامتهما لا تخفى على كاميرا الموبايل. كان ذلك بعد ذهاب الورشة التي ركَّبت اللَّوْحة المعدنيَّة مُربَّعة الشَّكل.

لونُها الأصفر المائل للبُرتقاليِّ، لكنَّ المُثلَّث الأحمر اتَّخذ من وسطها قاعدة له، هويَّة اللَّوْحة في وسط المُثلَّث.. شكلٌ على هيئة مُنحنيات سَوْداء. ميَّزها عن مُحيط الشُجَيْرات المُنفَلِتة بِهَيجان نُموِّها خارج سياج حديقة المنزل الفخم.

بعد أشهُر عاد الرَّجُلان لأخذ صوَرٍ تِذكاريَّة لهما بنفس النُّقطة. قبل مجيئهما بنصف ساعة جاءت سيَّارة البلديَّة بكامل تجهيزاتها. خِلَال دقائق لا تتعدى العشرة، فكَّكوا اللَّوحة، وأخذوها معهم.

عايَنَ الرَّجُلان صوَرَهما بإمْعان. صَرَخ أحدهما. سمعتُ صدَى صَوْته رنَّ في أُذُنيِّ. توقفَّتُ عن مُتابعة شُغْلي؛ تذكَّرتُهما:

-"أين اِختَفَت اللَّوْحة؟".

عامِلُ الحديقة المنزليَّة أجاب من خَلْف السُّور:

-"ما زال المَطَبُّ بمكانه لم يتزحزح..!!".

تساءلتُ بِصَوْتٍ أظنُّ أنَّني لم أسمعه, لم أَلْحَظ تفاعلهما مع كلامي:

-"أماكنُ المدينة الجميلة كثيرة. ما الذي أعجبكما في هذا المكان؛ حتَّى تعودا إليه بعد كلِّ هذه المُدَّة؟".

العَمودُ المعدنيُّ رجع وحيدًا، تائِهًا بأحضان أشجار الحديقة المُلتفَّة حَوْل خَصْره. الشَّارعُ مُعْتِمٌ في هذه النُّقطة عند مَغيب الشَّمْس. زعيقُ فَرامل السيَّارات يملأ المكان بضجيج لافِتٍ لأنظار الجِوَار.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس

حذاء أوروبيٌّ. 5

شُعاع مُنعكس.. 10

سرقوا حماري.. 15

حقيبة بيت العائلة. 18

مشاغبة حلم.. 26

لا أحد يضحك في هذه المدينة. 29

الحارس   39

السّابعة صباحًا 46

بائع الخرداوات.. 52

مسرحيّة  54

اقتصاد 57

نباهــــــــــــــــــــــة  59

شاربان معقوفان. 60

لوحة إرشاديَّة. 63

 

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


حذاء أوروبيٌّ

 

«المنخفض القادم هذه المرة قطبي بارد جدًّا مؤكّد هطول الثلوج بكثافة ابتداء من مساء غد». مشى عايش بخطوات بطيئة، الكلمات التي سمعها صنعت متراسًا في أذنيْه، ولم تكتف، بل راحت تتسلّل لمداعبة حيرته حيال انتظاره العاجز، مظهره موحٍ ببؤس منبثق من بين أسمال أردانه مُهلهلة المظهر.

أفكاره مضطربة حدّ الصّراع، عجزه التّام في إيجاد نقطة البداية لمشروع مقاومة تبعات مترافقة مع الضيف القادم غدًا.

أتعبه المشي في شوارع المدينة. اتّكأ على جدار بعيد عن أبواب المحلّات التجاريّة. المارّة غارقون في اهتماماتهم ومقاصدهم التي يبتغونها. على مدار ساعة كاملة تابع تأمّلاته لتقاطيع وجوه من مرّوا أمامه. قرأ ملامحهم بتأنٍّ استغرقه، وابتعد به تفسيرًا وتأويلًا أنساه واقع حاله الذي لا يحتمل التأجيل ولو لساعة واحدة.

برودة الجدار اخترقت ملابسه وسرَت في أعصابه وعضلات كتفه، شعر بخدر انحدر إلى ساعده وصولًا إلى معصمه وكفّه. بحركات قويّة من يده الأخرى فرَك أصابعه لتبديد التنميل الطارئ عليها.

«يا إلهي البرد لا ينتظرني كي أُكمل استعداداتي..!!. ولا يمهلني إذا جاء موعده». هذه الكلمات البسيطة المفهومة بدلالاتها، انطلق بها لسان عايش ليُسمِع أذنيْه فقط. رسالة عاجلة من داخله دفعت به لاتخاذ أمر هامّ غاب عن حياته منذ ثلاثة أشهر عندما فُصِل من وظيفته في الشركة التي كان يعمل فيها.

تلمّس محفظة نقوده اطمأن قلبه إلى ما تبقّى فيها من بقايا تعويض نهاية خدمته. عادت نبضات قلبه نشطة مُتجدّدة، تواثبت أمنياته تزاحُمًا لكسب الوقت. لا محال لاحتمال التأخير وعيناه ترقبان مقدّمة حذائه كمن فغر فاه من جوع أو عطش.

مع بداية كلّ شهر. عند استلام راتبه؛ تنفتح عليه أبواب من طلبات أسرته تفوق طاقة راتبه، على مدار سنة كاملة حلُم بحذاء جديد متوسّط الجودة. لحظة الحسم كانت في محل عتيق في أحد الشوارع الفرعيّة خاصّ ببيع موديلات أحذية أوربيّة مستعملة ذات مستويات من الجودة المختلفة. على مدار نصف ساعة من البحث وتقييس ما راق له منها. البائع البائس نظر بازدراء لقدم عايش، وكيف تستطيع أن تكون داخل الحذاء المُتوسّع كالاستيطان الصهيوني في جميع الاتجاهات؟.

استعلاء بنبرة صوته عندما يجيب على تساؤلات عايش عن سعر كلّ زوج من الأحذية. هو لا يأبه لقرف البائع ولا لنظراته.

- حاول عايش تسلية نفسه وإقناعها: «مؤكّد أن هذا المحل دخله قبلي ابن أحد المسؤولين، وما الفرق بيني وبينه؟».

مضى في بحثه بهمّة ونشاط للخروج من مأزقه، صدمة السّعر الذي طلبه البائع جعلته يتمرّد على ما بنفسه بعد إقناعها: «أوه رضينا بالهمّ، والهمّ ما رضي بنا، ووجه كلامه للبائع من جديد: أفّ..!! السعر غالي جدًّا، يعادل ضِعفيْ الجديد غير الملبوس من قبل».

- البائع: «نعم.. ولكنّها قطعة تستحقّ ثمنها لجودتها كماركة عالميّة، وهي أخت للجديد، بل في الحقيقة هي أفضل، انظر..!!.. إنّها غير ملبوسة كثيرًا، وأكبر ظنّي أنها سُرقت من صاحبها، أو انّه مُصاب بهوس شراء الموديلات الأحدث».

- عايش: «على كلٍّ لا تعدوا مهما علت ستبقى مستعملة، وما يدريني من استخدمَها من قبلُ، أهو ملاكٌ أم شيطانٌ.. أم لصٌّ محترفٌ ومهرّب مخدّرات، أو صحفيّ أفّاق يملأ الدنيا بكذبه وفجوره؟».

- البائع: «وماذا يضيرُك من كلّ ما ذكرتَ إذا كان ذلك هناك في بلادهم؟. متأكّد أنّك ستدعو لي بظهر الغيب بعد أن ترتاح قَدَمَاك فيه».

تذكّر أمرَ غدٍ، وكفّ عن مجادلة البائع مُختَصِرًا التمدّد في الحديث معه بعد خصم مُرضٍ حصل عليه، ولم يتردّد في إيداع حذائه القديم حاوية الزّبالة قُبالَة المحلّ، غير آسف عليه بعد أن لبس الجديد.

 

 

 

 

 

شُعاع مُنعكس

 

عيناها حاصرتني. أحكمت طوقها على آخر حُصوني، شيئًا فشيئًا تتقدّم بسهام عينيها المُصوّبة إلى قلبي. حيرةٌ مشوبةٌ خوفًا من أبي عيون جريئة.

 "يا إلهي..!! أنا في موقف لا أُحسَدُ عليه.. ما العمل؟".

إنّها سيّدة أربعينيّة، أحلفُ جازمًا ولا حتّى مُصادفة أو في حُلُم أنّني التقيتُها. قرص القمر بدرًا يتمثّل بوجهها. ثرثرة علامات ثرائها تُعبّدُ مسافة الأمتار القليلة الفاصلة بين طاولتيْنا.

محاكاة في داخلها:

"يا لها من مصادفة عجيبة، أيمكن أن تتطابق صورتيْهما؛ لدرجة يصعب التفريق بينهما؟، كأن أكفانه نَسجَت من روحه صورة تقمّصها وجه هذا الشابّ بوسامته التي عهدت بها أخي..!!".

ارتباكٌ داخليٌّ انعكس توتّرًا اكتست به ملامح وجهه: "عيناها لا تتحوّلان عنّي إلى صديقتها الثرثارة، وهي تتصنّع حركات وابتسامات، ولا تلتفتُ إليها. نظراتُها مَخارِز تنخز أعصابي؛ فترتجف رغمًا عنّي".

لاحظتْ استراق نظرات سالم لها. تخفّت خلف نظّارتها. حركتُها أضافت له دفعة إبهام أجّجت مخاوف وهواجس جديدة في عقل سالم.

توارد الأفكار أخذه باتّجاه مُغاير تمامًا لما أحس به بداية، سبح في دوّامة العاطفة، وراح يستمع إلى قلبه:

-"أمِنَ المُمكن وسامتي جَذبَتها، كانت أمنيتي المفقودة من أيّة فتاة كانت أن تُبدي إعجابها بي. كذلك لا أظنّ أنّ قميصي أو بنطالي أو حذائي هنّ السبب؛ لأنهن من الأوربيّ المُستعمل سابقًا، ولا أعرف من ارتداها قبلي، أهو شيطان أم ملاك.. أرَجُلٌ مكتملُ الرّجولة أم مِثْليُّ الجنس. أقارئ أم جاهل.. أمسؤول كبير أم مُتسوّل..!!؟.. لا.. لا.. بكلّ تأكيد تسريحة شعري المصبوغ بالأسود".

في حركة مفاجئة منه، التقط صورة بواسطة هاتفه النقّال، توجّهت أعين زبائن المقهى إليه.

بهدوء راح يتأمّل قسمات وجهه، للمرّة الأولى في حياته أحسّ بوجهه. اكتشف أن عقوده الأربعة عَدَتْ عليه تاركة لمساتها المحفورة على جبينه وتحت عينيْه.

بخطوات واثقة توجّهتْ إليه. بينما هو غارق في ذهوله سقط الهاتف من يده، عيناه جحظتا مع كل لحظة تقترب منه، جفّ فمه كأنّ الحُليْمات مُتواطئة بتوقّفها عن إفرازاتها، تخشّب لسانه عن الحركة.

وقّفت لحظات تتفرّسُ ملامحه. سيْلٌ من الدُموع مُتلوّن بألوان (الماكياج). شكّل قوس قزح على خدّيها المليئيْن تورّدًا. على غير المُتوقّع صرخت بجنون ارتّجت لها جنبات الصّالة:

-"إنّه هو.. مُتأكّدة منه لا مجال"

عجزت قدماه عن الاستجابة في الوقت المناسب عندما فكًر بالهروب، ظنّا منه أنها اشتبهت به كمجرم قاتل، أو لصّ حراميّ. إحساس مُبهم بِبلَلٍ تسرّب إلى الكرسيّ تحته، أو سيلانًا على البلاط.. شعورٌ مُخزٍ بالمَهانة.

طوّقته بذراعيْها. اختفى رأسه بالكامل في غابة شعرها المُتهدّل، انهالت عليه بقبُلاتٍ مجنونةٍ، وهمهمةٍ غير مفهومة. اغتسل وجهه بدموعها المُلوّنة.

انجلى الموقف بعد هدوئها على وقع اعتذارها الشديد بخروجها عن اتّزانها ورزانتها ووقارها. أعلنت للجميع:

ظننتُه أخي الذي قضى قبل سنة بحادث".

رفعت هاتفها النقّال عارضة صورة يحيى مُحاولةً إقناعهم، وكسب التعاطف معها. الصورة انتقلت من جديد عبر (البلوتوث) إلى هاتف سالم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سرقوا حماري..

 

لم يمهلني رئيس المخفر حتى بإلقاء تحيّة المساء عليه، فضلًا عن الإدلاء بإفادتي عمّا حصل لحماري، الخفير سبقني لإخبار المعلّم قبل وصولي إليه، فقد استمع لقصّتي أثناء كتابة استدعائي للشكوى. أمام المبنى الضخم ذي المهابة، الخشية مما في داخله تجعل القلوب تتراقص خوفًا.

طاولة كاتب الشكوى أرخى أذنيْه للاستماع لما سأخبره عن الواقعة، غير آبهٍ لحركة أصابعه الضّاغطة على كبسات الآلة الكتابة؛ لإنشاء الكلمات المناسبة على الورقة البيضاء التي ترتفع مع انتهاء كلّ سطر لتمتدّ يده إلى مقبض جانبيّ يسحبه للانتقال إلى سطر جديد، كلامي القلق على مصير حماري لم يجعل هذا الرّجل ينفعل ولو يأدنى درجة تعاطف معي. حزني يتجاوز شروحاتي له ليتسلل الحقد إلى نفسي على لامبالاته. هل تيبّست مشاعره.. أم تجمّدت أحاسيسه؟.

ما إن بلغت الأسطر مساحة نصف الصفحة، هذه المرّة خالف المرّات السابقة في متابعة الكتابة في سطر جديد، بل سحبها وأمرني بالتوقيع على أقوالي، لم تُتَح لي فرصة مراجعة ما كتب أو الاعتراض. صوته يعلو على ضجيج آلة عسكريْة عبرت الشارع: "هيّا أسرع للحاق رئيس المخفر في مكتبه قبل الخروج لأمر طارئ".

امتثلتُ لأمره دون نقاش، بعد أن نقدته مئة ليرة سورية بناء على ما طلب منّي، رغم علمي أنّه غدرني بزيادة غير محسوبة لديّ.

***

التقط أنفاسه قليلًا، تناول الاستدعاء منّي، وانخرط في نوبة جديدة من الضحك وقلبي يتلوّى قلقًا على مصير حماري. لم أتمالك نفسي ورغبتي بالبكاء أشدّ لكن مسايرة الموقف أملت عليّ طرد التكشير عن ملامحي وانفرجت أساريري. خمس دقائق دام وقوفي ولم يؤذن لي الجلوس.

رنين الهاتف أوقف هستيريًة الضحك، ليحلّ الجدّ والصرامة، رفع السمّاعة

حقيبة بيت العائلة

 

لم يبْدُ عليه الاهتمام أثناء تفقّده لمحتويات الحقيبة البُنيَّة اللَّون المُنتفِخة الأحشاء بالرَّسائل والأوراق منذ عشرين عامًا، القابعة في مُستودَع الجهة الخلفيَّة لبيت العائلة القديم. الظَّلام لا يُفارقها بعد الحادث الأليم على الأوتستراد الدوليّ. عندما تصادف توقّف سائق شاحنة النّقل الكبيرة، ونزل لقضاء حاجته في نفس مكان الحادث الذي وقع قبل يومين من مروره، عَلْتها طبقات الغُبار والأتربة المُتطايرة وفيها انطمرت أحلام للشاب حسام بالحصول على منحة الدراسة الجامعيّة، وتبدّد انتطاره ثمّ طَواها النِّسيان، ولم تمسّها يدٌ إلَّا يد ابنته الصُّغرى حينما أمَرَتْها أمّها وقتذاك بأخذ الحقيبة إلى هناك: 

-"يا سارة خُذي هذه الحقيبة للمستودع، لا حاجة لبقائها هنا". 

- بلا تردّد ولا تأفُّف: "حاضر يا أمّي". 

اِتّفاق الورثة على بيْع بيت العائلة المُشتَرك؛ اِشْتراه تاجر عقار شهير بعد مُساومات وإغراءات وتهديدات مُبطَّنة، وكان قد أخذ جولة تفقديَّة، ومن عادته نبش الأشياء المُهمَلة والقديمة، ورَوُوا عنه عبارة ترددّت على لسانه أكثر من مرّة: 

-"كثيرًا ما ينسون أشياء مفيدة، وذات قيمة في جيوب الملابس والحقائب النّسائيّة العتيقة، يرمونها لضجرهم منها. في صغري اِشْتريتُ بنطال جينز من إحدى محلّات الألبسة الأوربيّة المُستعملة (البالة)، في غرفة المقاسات جرّبت قياس خصره الذي توافق تمامًا. المفاجأة عندما دسَسْتُ يدي في أحد جُيوبه لتلقط مئة دولار، نقلتها إلى محفظتي في البنطال القديم، حتّى لا يشعر البائع ويأخذها، وربّما لن يتمّ الاتّفاق على السّعر فأخسر الصّفقة". 

في المُستودع الخلفيّ المهجور، وقعتْ عيناه على حقيبة الرّسائل التي ما زالت على وضع يد البنت سارة. نَفَض عنها تراكمات الزّمان، تأبَّطها بحرص إلى أن اِسْتقرّت في صندوق سيّارتهَ.

وحسب شخص، وأظنُّ بحسده  لتاجر العقارات الشّهير، حينما سمع بصفقة شراء بيت سائق الشّاحنة، أسرَّ لبعض أصدقائه: 

-"السبب الحقيقيّ لثراء هذا التاجر الذي أصبح من أهمِّ تُجّار البلد هو أنّه في أيَّام فقره كان دائم التردُّد على المزابل وحاويات القمامة، بعد منتصف اللّيل. ومرّة فتّش ألبسة وأغراض شخص شحّاد قضى نحبه في البرد الشديد، نثر فرشته المهترئة فانتثرت بين يديه خمس رُزَم من المصاري من فئة الخمسمئة ليرة". 

مؤكّدٌ أنّ أحدهم أطلق من بين شفتيْه صفيرًا، أكادُ أسمع صفيره أثناء الكتابة، عندما رفع حاجبيْه للأعلى وصَفَق يدًا بيد، وقال: 

-"سبحان الله المُعطي.. يعني هالثروة أساسها ذلك الشحَّاد؟". 

حسب تصريحات السِّمسار: "في نيَّته إقامة عمارة طابقيَّة مكان البيت، بلمسة عصريّة بواجهاتها الزُّجاجيَّة القاتمة العاكسة للضُوء والشّمس". وتمَّت الصّفقة. ظهيرة اليوم الثَّاني كان موقع البيت ساحة تُرابيَّة، الجرَّافات والآليَّات الثَّقيلة لم تترك شيئًا غير مُكترثة بتاريخ البيت. بلا رحمة جرفت الذكريات والأحلام وما تبقَّى من سَقْط المَتاع، اِنْمحى كلُّ أثر، أشعَّة  الشَّمس اللَّاهبة لم تتوانَ عن تسخين المكان، والرّيح ماضية بإثارة مَوْجات الغُبار المُتتالية، تتطاير لتُشكّل طبقات على نوافذ البيوت في المحيط وأبوابهم. الجوارُ مُتأفّفٌ بصمت لا رغبة عندهم برفع أصوات الاِحْتجاج، ولا نيَّة بتقديم شكوى جماعيَّة إلى بلديَّة المدينة. بإجماع قالوا: 

-"الشَّكوى لله. سنصبر.. ها نحن صامدون".

على أطراف المدينة البعيدة وحصرًا في الجهة الجنوبيّة الشّرقيّة يقع مكَبُّ النّفايات الذي أصبح موطنًا لتجمُّعات  من عشوائيَّات الصّفيح وبقايا المُخلّفات؛ تضمُّ المُشرّدين العاطلين عن العمل والمُنحرفين والمُتعاطين. نشأت هناك سلطات أخرى غير رسميّة فرضت هَيْبتها وقانونها بقوّة عضلاتها.

ضربة فأس لم تكن قويّة بما يكفي لانهيار كَومَة من المُخلّفات؛ لتحدُث المفاجأة للمرّة الأولى لحسام الذي يعمل هنا منذ خمس سنوات وأكثر. 

"ما هذا..! يا إلهي، رسائل غير معقول أن يرمي أحدهم بهذه الكميّة!" أعادها للحقيبة المُنفتقة ووضعها بكيس آخر. حملها إلى كوخه غير البعيد من هنا. مع أضواء آخر النّهار أصابته نشوة طارئة تسرّبت لقراءتها. عاوَدهُ فُقدان رغبة القراءة والكتابة التي كانت عشقه. 

توالى فتح الرسائل واحدة تِلوَ الأخرى، وانفتحت نافذة تزامنت مع آخر حُصونه المُوشكة على الاِنْهيار، أثناء قراءته للرّسالة العاشرة: 

-"السيّد حسام، بعد الاطّلاع على أوراقكَ التي تقدّمتَ بها للجامعة من أجل الحُصول على منحة لدراسة الهندسة، نُعلمكَ عن موافقتنا، وقبولك للعام الدراسيّ القادم بعد إجراء المُقابلات اللّازمة". 

تحجّرتْ يده على الورقة التي دعكها بقوّة كفّه الخشنة. لاكَتْها أسنانه غير آبِهٍ بطعم الحبر والعفن. داهمَهُ مغصٌ شديد وانتهى كلّ شيء مع توقّف أنفاسه.

 

 

مشاغبة حلم..

 

من غير المعقول أبدا عدم توقف هاتفي عن إصدار أصوات نغمات الإشعارات.. حاولت إغلاقه بعدما أقلق منامي، لأنني عجزت عن معرفة مصدر ها. وبعد جُهد جهيد جاءتني فكرة الاستعانة بصديق ممن تأخروا بسهرتهم مثلي في فضاءات العالم الافتراضي؛ أرشدني لاتجاه آخر غير التطبيقات المُفعّلة على هاتفي.

أخيرًا، ومع شقشقة الأفق عن خيوط النور، ومع نسائم الصباح التي فتحت آفاق ذهني إلى أن اهتديتُ للسبب. انتبهت لتواجد هذا الشخص (محمد الصمادي) الذي في الصورة كأنه حاول مشاغبتي في الحلم مع أول إغفاءة النوم، ولم أدر أنّه تحرك عكس الاتجاه بشكل غير مألوف، عندما انخرط بحديث طويل. كنت أستمع له بانبهار من اتساع خياله. وهو يقول: "شعرت بالعطش أثناء كتابة نص" جرعتان والبقية تفاصيل"، كنت في حالة تجلٍّ نسيتُ نفسي، ولم أشعر بشدّة العطش وحاجتي لكأس ماء، ولمّا خذلتني كفّة قدمي اليُمنى الخَدِرَة وكأنَّ النمل ينهش أعصابي، عجزتُ تمامًا عن القيام، مددتُ يدي إلى قاع الوادي السحيق. أسفل  بيتي الذي يتربع على القمّة في بلدة "عنجرة"؛ فاغترفتُ بيدي أوّل مرة وثانية وثالثة، إلى أن انطفأ ظمئي".  قلقي في الصورة اِنْعكس على الهاتف مما تسرَّب من كلامه. وتابع حديثه بعيون مُتحفّزة وبثقة عميقة: " وفي جلسة أخرى، ومع أوَّل رشفة من فنجان قهوتي، مددتُ يدي لأتلمَّس حجارة بُرج قلعة عجلون المُواجه لي على الجهة الأخرى، أحسستُ بنبضِ الحجر السّاخن، الذي لم تتسرَّب إليه بُرودة السِّنين الطَّويلة، إلى أطلّ بوجهي وجه مُعلِّمُ البناء أثناء تركيبه لهذا الحجر الكبير، وحدجني بنظرات مُرعبة اخترقت خلايا دماغي، بينما عيناي مُركَّزتان على راحة يده الضَّخمة على زاوية الحجر. لم أستوعب ضخامة حجمه الذي يحتاج لرافعة حديثه لتضعه في مكانه. صحوتُ وبيدي الولَّاعة، النَّار اشتعلت بأوراقي، وضاعت الجرعتان النسخة الأساسيَّة". رنين الهاتف لم يتوقف إلا بعد قيامي واستعادة نشاطي وتجهيز نفسي لصلاة الفجر.

 لا أحد يضحك في هذه المدينة

 

صديقي الكاتب - أقصد كاتبُ هذا النصِّ- يتأفّف بضيق ترتسم ملامحه على وجهه بألوان لوحة مُحتقِنةٍ بألوانها القاتمة: "المشكلة لا أطيق العناوين الطويلة، وممَّا زاد الطّين بلّة ثقب ذاكرتي الذي اِبتلعَ مفرداتي التي طالما أفاخرُ نفسي بغناها وكثرتها". لا رغبة لديّ للتعليق على كلامه، ولا على اِسْترساله المُتكرّر؛ الملل لم يُفسح فرصة للتفاعل معه، ولا أذكُر. منذ متى كان لقاءنا ترفيهًا وترويحًا لأنفسنا..! ساعتها. تأجّحت رغبة عارمة بالإفلات من إساره؛  للانطلاق إلى ساحات ذكريات تباعدت المسافة بيني وبينها. انتشت دواخلي بفرح غامر لم يُترجَم، إلّا بمباعدة كلام صديقي الكاتب عنّي مسافة شعوريّة؛ كي لا يمحو شيئًا فرحتُ من أجله؛ رغبتي بالهروب من أجوائه، غلّبت فكرة الاِعْتذار منه بحُجّة اتّصالٍ جاءني من زوجتي لأمر عائليّ طارئٍ، بينما مثّلتُ هيئة عليه  بتلقّي مُكالمة في غمرة  اِسْتغراقه في لُجّة ذاته بسرد حكاياته، التي حفظتها من كثرة إعادتها في لقاءاتنا الدوريَّة من كلّ أسبوع. أسرعتُ بخطواتي لأبتعدَ عنه، قبل أن يتذكّر شيئًا يدورُ في ذهنه، فيُرجعني أو يلحق بي. 

موعدنا هذا ما زال ثابتًا منذ خمس سنوات مُتتالية، بعد تقاعدنا من التربية والتعليم لم يتخلّف أحدنا عنه. نكهة الأماكن في دمشق ذات مذاق روحيٍّ مُنعٍشٍ. السَّاعة الخامسة في مقهى "الروضة"، وقبل وصولي إليه لا بدّ من المرور على كشك الجرائد والمجلّات المُقابل لبوّابة البرلمان، لشراء جريدة لمقاومة مَلَل الانتظار؛ ريثما يصل صديقي الكاتب المُتأخّر دومًا عن مواعيده بما لا يقل عن نصف ساعة على أقلّ تقدير.

ركبتُ (سرفيس) مساكن برزة بعد عشرة دقائق من وصولي للموقف. من حسن حظّي أن نزل أحد الركّاب لأصعد وأجلس مكانه. لم أستطيع التمكُّن من كامل الكُرسيّ أرداف جاري الضخم احتلت نصف مكاني، على مضض قبلتُ بصمتٍ دون أدني احتجاج كي يُفسح وينزاح قليلًا. 

من فوره فتح حديثه، يقترب برأسه من رأسي، شفتاه أظنّ أنهما لامستا أذني اليسرى: 

"الحمد لله -يتكلم بعصبيّة، وتكشيرة وجهه تقطع الرّزق- أن ابني الكبير انتقل من فرع البنك الذي كان يعمل به، إلى فرع خارج البلد، وراتبه سيكون بالدّولار". أنفاسه تتدفّق بتوتّر مُتقطّع لاهثة، وتدفع إلى أنفي رائحة كريهة، ولا خيار لي إلّا بالإشاحة بوجهي إلى الجهة المُعاكسة، لكزني بطرف كوعه في جنبي الملاصق له لمتابعة كلامه.

الكُرسيّ المُفرَد عن يميني، يجلس عليه رجل يبدو أنّه خمسينيّ، هاتفه النقّل ملتصق بأذنه، لم أواجه صعوبة بالتقاط ما قال:

-"يا سيدي مشان الله، ربي يخليلك أولادك. بنتي تخرّجت من ثلاث سنوات، وعجزنا بإيجاد وظيفة لها. نعم.. نعم.. خرّيجة كليّة التربية. معلم صف. ربي يحفظك ولن أنسى لك هالمعروف ما دمت على قيْد الحياة. لا يهمّ وإن كان عقدًا. المهمّ أن يكون لها راتب يساعدنا على ظروفنا الصّعبة". نتوء عروق وأوردة يده القابضة على الهاتف ظاهرة، يكاد الدم ينفزر منها، وتغضّنات جبينه رسمت خطوطًا عميقة بعمق بؤسه. 

نبرات جافّة التقطتها أُذُني قادمة بتقديري من الكرسي الخلفي مباشرة، صوته الأجشّ يحمل غضبًا غير معقول، في حديثه لامرأة كبيرة أربعينيّة تلبس نظّارات شمسيّة سوداء تُخفي معظم ملامح وجهها الوضيء: 

-"من غير المعقول هذا التكريم المُفاجئ للجميع لمن كتب قصيدة واحدة، والأنكى حينما قدّمه مدير الحفل بالشّاعر الكبير، لا أدري كيف سوّاه شاعر وكبير..!؟ ومن هم مثلكِ ومثلي يا عزيزتي، لم يُرحّبوا بنا مجرّد ترحيب على الأقلّ، هزُلت.. أليس كذلك.. أفكّرُ بمقاطعة نشاطاتهم إذا لم يعتذروا ويعيدوا الاعتبار لي على الأقلّ، فلا أريد فرض ذلك عليك. لكِ الخيار وأنت حرّة". تنحنحتْ، واِكْتفتْ بذلك. كنتُ أودّ سماع صوتها علّه يُرطّب حرارة الموقف، ويُزيح عنّي شيئًا من كآبة صديقي الكاتب، لأغرق في مستنقع كآبات لا حصر لها.

تتوالى القصص من الكرسي الأماميّ، الأوّل لجاره الذي على يساره بجانب الشُبّاك: 

-" أتذكُر جارنا الصحفيّ كان بيته في مدخل حارتنا أول بيت.. آسف بل البيت الثاني هذا هو بيته". 

-"ما به؟". 

-"أحد الأصدقاء المشتركين كتب على صفحته خبر موته في حادث سيّارة في ألمانيا".

-"كم حلمتُ بالهجرة، ولكن ضيق الحال لم يسمح لي، ولم أستطيع تأمين خمسة آلاف دولار مبدئيًا لدفعها لأحد وسطاء المُهرّبين. على ما أذكرُ أنّني سألتُ أحد أقربائي بعد وصوله إلى السُّويد، كيف الوضع عندكم في الشّمال؟. وأرسلتُ له صورة التقطتناها بمكان قبل ثلاث سنوات بعدسة هاتفي، قال: "أُفْ.. أأنتَ في نيويورك أو في دُبيّ؟" نبّهتُهُ: "دقّق في الصورة ستكتشف أنّها لي ولك". 

جاءت إجابة الأوّل: "يا للوقاحة والنّذالة.. يا أخي المصاري بتغيّر النّاس، وبتجاهلهم مآسينا". 

بجانب السّائق تجلس امرأة وبجانبها شابّ يلبس بدلة رسميّة وربطة عنق. المرأة منهمكة بحديثها للشابّ: 

-" قسمًا بالله..!! أنّ الفراق موحش، لم أستطع دخول غرفة نومنا منذ وفاته قبل أربعة أشهر، ما زال عطره عابقًا بالمكان. حُزني لم يسمح لي بفتح النّافذة". 

-"هانت الأمور. كلّها عشرة أيّام وتفتحيها بلا أدنى تردّد". 

-"الأهمّ عندي الآن اِنْتهاء حصر الإرث فأولاده لو اِسْتطاعوا لحرموني من البيت الذي أوصى به لي، وبعض الأموال، كما أخبرتكَ: يعتبرون زواج المرحوم عبثًا، واِتّهموني بالنّصب والاحتيال". 

-"لم يبق أمام القاضي إلّا الجلسة القادمة ليُصدِر حكمه القطعيّ بخصوص القضيَّة، ولا داعي للقلق، فأنا أتابع الدعوى باهتمام بالغ. بشرفي كنتُ قد ربحتُ قضايا إرث كبيرة ومعقدّة ولم تأخذ معي وقتًا طويلًا". 

-"طمأنتني.. سأفتحُ النّافذة قبل وصولنا للبيت". 

غفلت عن صوت هدير المُحرّك المُزعج، يحرق أعصابي على الدوام، ما إن أشارت المرأة للسَّائق برغبتها النزول عند المفترق القادم. بعد تأكّدي من أنّه ما زال أمامي ربع ساعة بالوصول إلى بيتي. تولدت رغبة بالنزول ومُتابعة المشي وحدي، ولم أحسب حسابًا لوجع رُكبتي الذي يتأزّم مع المشي لمسافات طويلة. 

حاولتُ صناعة ابتسامة ساخرة، وأنا أتابع المرأة عندما شبكت ذراعها وتأبّطت ذراع المحامي، وهما يكملان سيرهما باتجاه مدخل العمارة التي تسكن فيها. شيّعتهما بنظراتي، انتبهت لجلدة وجهي المشدودة عندما تلمّستها.

 

 

 

الحارس

 

دَوَامُه يستغرقُ معظم ساعات نهاره، وجزءًا من اللَّيل. الحارسُ جالسٌ لا يتزحزح عن كُرسيِّه الحديديّ المُتهالك الصَّدِئ، الذي اِسْتبدَّت عوامل الزَّمان به، وعبثت بلونه المَمْحِيّ لم يبق من طلائه الباهتٍ إلا بُقَعًا متناثرة؛ يصعُب تحديد أو تمييز لونه الأساسيِّ.

رغبته الدَّائمة في الجلوس في زاويته الحصينة على رأس الدَّرَج ذي الدَّرَجات الثلاث، أمام البوَّابة الرَّئيسة لمقرِّ اِتِّحاد الفلاحِّين. المَلَل يكتنفه. عيناه ناشطتان بحركاتهما الدَّؤوبة بلا توقُّف، السَّاهمتان في مساحات من الفراغ.

نظراتُه تفضح شيئًا غامضًا يتسرَّب إلى ملامح وجهه. أنفاسُه تخرجُ مُتَحْشرِجةً من فُتحتيْ أنفه الواسعتين باِنْتظام كمدخنة القطار، وهو ينفثُ دخان سجائره باِسْتمرار. إلَّا إذا قام لتأدية أيَّة حاجة تُصبحُ  لاهثة مُتقطِّعة مثل سيَّارات الاتِّحاد العتيقة، التي من المُفتَرَض أن تكون في مَقبَرة السيَّارات منذ سنوات مَضَت، إلَّا من سيَّارتيْ رئيس الاتِّحاد ونائبه، والأقلّ جودة منها لأعضاء مجلس الإدارة.

جمجمة الحارس (أبو فكري) الضَّخمة مُتناسبة طَرْدًا مع تقاطيع وجهه الصَّارمة، مُوحِية بالتوجُّس والخوف. العابرون يُشيحون بنظراتهم عنه، إذا شعروا بأدنى حركة أو اِهْتزاز من رأسه، أو اِنْتبهوا له.

عندما قرَّرتُ العمل ببيع الجرائد على الرَّصيف في هذه الزَّاوية،  منذ أوَّل ساعة اِنتبهَ لوجودي الطَّّارئ، فنادى عليَّ: "تعال يا ولد بسرعة". فوجئتُ بنبرة صوته الرَّفيعة غير المُتوقَّعة، المُغايرة لشكله  الضَّخم المُخيف، المُوح وبلا أدنى شَكِّ بِفظاظة شبيهة بسُلْطة ذوي النظَّارات والمعاطف السَّوداء الصّارمة. كلماتُه داهمت سمعي بِقوَّة هبَّطت من عزيمتي؛ فلم يكُن لديَّ أيَّ خَيَار إلَّا بالاِمْتثال لأوامره.

بلا وعيٍ منِّي ناولتُ الزَّبون جريدة، ولا أدري أين وضعتُ ثمنها، وعلى الأغلب أنَّني لم  أتمهَّل لاستلام ثمنها، تأكَّدتُ بعد عودتي لزاويتي. بخطوات سريعة هَرْوَلتُ إليه، اِخترقتُ مسارات السيّارات العابرة ذات السُّرعات المُنخفضة، غير آبِهٍ باحتجاجات سائقيها وشتائم بعضهم، ولم أتوقَّف أمام سيَّارة فارهة؛ لأعتذرَ لذلك الشابّ الوسيم بعد أن داس على المكابح بقوّة، ممّا أثار رائحة اِحْتراق الإطارات، أصوات صريرها على الإسفلت لم تمنعني من مُتابعة ركضي نحو الحارس. أذكُر أنَّ عاصفة من أبواق السيّارات ثارت فجأة ثمَّ هدأت. ما إن وطِئتُ بقدمي حافّة الرَّصيف قريبًا منه، لا تفصلني عنه إلّا بضع خطوات، حتّى أصدر أمرًا آخر:

 -"هيَّا اِقترب إلى هُنا" ويُشيرُ بيده كإشارة المايسترو الجامدة بالوقوف أمامه.  بنبرة جافَّة من صوته الأجشِّ تابع بسؤال جديد: "ها.. ما اِسْمكَ يا ولد؟".

بصُعوبة اِستطعتُ نُطْق اِسْمي بسبب نَشَفان ريقي: "أسامة". هزَّ رأسه بحركات، وأردفَ: "هل تدرُس، وفي أيِّ صفِّ أنت؟".

-"نعم سيدي. سنة أولى أدب عربيّ".

-"أبوكَ شو بيعمل؟".

-"والدي أعطاكَ عمره".

-"منذ متى؟".

-"من عشر سنوات تقريبًا".

ما زالت حركاتُ رأسه تُحرِّكُ مزيدًا من الأسئلة والأفكار هكذا شعرت..! بنفسي لو أستطيعُ اِسْتقراء ما يدور في ذهنه..! حتَّى أهيِّئ الإجابة التي أظنُّ أنَّها تُعجبه على الفوْر. يا ربِّ.. ألهمه أن يتركني في مكاني، لأنَّه على مُفتَرَق طُرُق؛ بتوافق تمامًا مع نصيحة أمِّي: (الرِّزقُ عند تزاحُم الأقدام).

-"يا أسامة كلَّ يوم بِتْجِيب جريدة الثَّوْرة وتشرين لعمَّك (أبو فكري)، وبترجع توخذهم بعد ما أطَّلع عليهم.. مفهوم؟".

اِلتَقطتُّ أنفاسي، وهدأت ضربات قلبي قليلًا؛ واستجمعتُ بقايا من شجاعة ساخَتْ كماءٍ على الرَّمل، لا أعرف إن كان التوتُّر والاِرتباك انتشر على ملامحي، بسرعة البرق أحضرتُ طلبه:

-"حاضر عمُّوه. خُذ. هاي جريدتيْن".

-" شكرًا يا أسامة". فهمتُ من كلمته الأخيرة، أنَّه أَذِنَ لي بالاِنْصراف رجعتُ إلى مكاني والطُُّمأنينة تُسابقني إلى ظلِّ الشَّجرة الوارفة طيلة فُصول السَّنة، عدا الشِّتاء حصرًا.  الحمد لله أنَّ ملاحظته لي أثبتَتْ شَرعِيَّتي باِمتلاك الحقِّ بممارسة نشاطي هنا.

تأمَّلتُ من بعيدٍ بلقطة بانوراميَّة، وتخيَّلت وقوفي أمام (أبو فكري)، ونظرات صورة السيِّد الرَّئيس الحادّة من فوقه ذات المساحة الكبيرة، والمُتربِّعة على واجهة اتِّحاد الفلّاحين. اِسْتعاد قلبي طمـأنينته، وعادت نبضاته لوضعها الطبيعيِّ، أيقنتُ بأمان المكان؛ لشعوري بأنَّه تحت السَّيطرة. انتشاء وارتياح أعصابي؛ انطلقت أحلام الثّراء تتواثب مع انشغال ذهني بالتخطيط للمستقبل.

السّابعة صباحًا

 

المفاجأة ألجمت لسانه عن الشُّكر لله. شدَّ من هِمَّته بلا تَوانٍ لمُلاحقة حبَّات البندورة المُتدحرجَة بحريَّة مُطلَقة من أعلى المُنعطَف المُنحَدِر إلى قاع المدينة. اِمْتلأ كِيسُه. حدّثته نفسه برضا كامل. سيطرت عليه بُشرى الفرح منذ ساعات يومه الأولى مع تسرّب خُيوط الشَّمس: "الحمد لله الذي رزقني من غامِضِ علمه، وساق لي مؤونة بيتي ليوميْن قادميْن". 

هناك، عندما اِنْفتح الباب الخلفيّ لسيَّارة تنقلُ الخضار والفواكه. ما إنْ اِسْتطاع السَّائق التوقُّف على يمين الطَّريق عند رأس الطُّلوع القاسي،  اِصْطفاف  درَّاجة شُرطيّ المُرور أمامه عكّر مزاجه زيادة على ما بداخله من صراعات. ترجَّل الشّرطيُّ وبيده دفتر المُخالفات والقلم بداخله، بلا سُؤال ولا جواب. ناول "ناجح" إشعارًا بمخالفة أنظمة الأمان على الطُّرقات، وعرقلة وإعاقة حركة المرور في شارع رئيس. على مَضَض اِبْتلع غَيْظه، بهمَّةٍ مصحوبةٍ بلُهاثِ أنفاسه الحرَّى لَملَم ما تناثر من الصَّناديق، وأغلق الباب عليها بعد أن أحكم تنظيمها وترتيبها بتراصٍّ مُتقن. 

اِمْتلأت رِئتاه بالأوكسجين بعد أن سحَبَ نفَسًا عميقًا، ثمَّ طرح زفيرًا مصحوبًا بتأوُّهٍ عميق. بدَت حركات صدره الصَّاعدة والهابطة قد هدأت قليلًا. اِطْمأنّ لمُعاودة رحلته الطَّويلة آمِلًا بالوصول إلى قريته، وعينه على السَّاعة المُثبَّتة ذات الأرقام الإلكترونيَّة بلونها الأحمر المُستفِزِّ.  الأمل بقطع مسافة الخمسين كيلومتر قبل السّابعة صباحًا. اِسْتغراقه بتفكيره وهو يضرب أسداسًا بأخماس بقيمة المخالفة، حدّث نفسه: "الله لا يوجِّه الخير للشرطيِّ، ضربتان بالرأس موجعتان. خسَّرني وحرمني من أيِّ ربح في هذه المرّة... بل لا بدَّ أن أزيد عليه من جَيْبتي". هدير المُحرِّك تباطَأ عندما رفع رجله عن دوَّاسة السُّرعة مع بداية نُزولٍ قاسٍ إلى الوادي السَّحيق. اِهْتزاز المركبة وماجَت قليلًا يمينًا ويسار؛ اِنْتشله في اللَّحظة الأخيرة من اِسْتغراقه في لُجَّة أفكاره الهائمة؛ ليُبادر بإحكام سيطرته، مع اِنْتقال رِجْله للضغط على المكابح برفق وحَذَر، أخيرًا اِسْتطاع التوقُّف على يمين الطّريق، ووضع حجرًا أمام الدُّولاب الأماميِّ، وآخَر أمام الخلفيِّ؛ لضمان عدم حدوث اِنْزلاق ولو بسيط. أحضر عدّة تبديل الدُولاب الخَرِب، ليتمكّن من قطع العشرين كيلو متر الباقية.

عادت إلى مُخيِّلَته صورة وجه جاره "أبو صبري" أثناء خروجه إلى مسجد الحيِّ الصَّغير قُبيل صلاة  الفجر بأقلّ من ساعة، وتلاقت نظراتهما تحت اللَّمبة التي تُنير عتمة الزَّاوية أمام بُوّابتَيّ بيتهما.

تُحدّثه نفسه: "أعوذ بالله من شرّ عَيْنه، الآن أدركتُ سبب تصرُّفات أهل الحارة بتجنُّبه وتحاشيه إلَّا للضرورة القُصوى. أُخطِّئ نفسي على تلويمي الدّائم على من كان يلوكُ سيرته بأيَّة كلمة". اِنْهمكَ في تلاوة آية الكُرسيِّ والمُعوَّذات لِطَرد شرّ شَبَح عين الجار. شُرودٌ ذهنيٌّ اِسْتحضر حكايا قديمة عن حوادث. اِمْتدَّت يده إلى مفتاح الرَّاديو. وكأنّ السَّماء اِنْشقّتْ  عن  صوت الشّيخ "عبد الباسط" بتلاوة قصار السُّوَر. هدأت حِدَّة الهواجس، وطردت أكوام القلق، وفاض جوُّ السيَّارة بروحانيَّة عبَّقتْ لدقائق في رأسه. 

عادتْ كلمة أحد الجيران بحضورها قويَّة تُزاحم الشَّيخ "عبد الباسط"؛ فجعلته يغفل  ويغيب عن وعيه: (والله لَئِن مات "أبو صبري" لن أكون مع مَنْ يُصلُّون على جنازته). اِنْتفضَ مذعورًا من تداعيات ذكرياته، واِهْتزّ جسده بارتجافٍ عنيف: "يا إلهي عندما توفّي ذلك الرَّجل في اليوم الثّاني لمقولته بحقِّ جارنا. وصلَّيْنا عليه معًا". 

تخايل له صورة ملك الموْت يطرُق عليه الزُّجاج الأماميّ. توقَّف من جديد، ولا نيّة بمتابعة طريقه، ونسي موعد اِفتتاح محلّه في السّاعة السّابعة التي ستحلّ بعد عشرين دقيقة.

 

 

 

 

 

 

بائع الخرداوات

 

 

بائعُ خُردَاوات على الرَّصيف. يبدو عليه السَّأم والملل من حركات أصابعه على شاشة هاتفه النقَّال. عيناه حائرتان بحركات سريعة باِتِّجاهات مُتعاكِسَة.

لَفَت اِنْتباهي أشكال النظَّارات العديدة المعروضة على البَسْطة. لم ألحظ حركة شفتَيْه لِرَدِّ التحيَّة، عدوى لا مبالاته أصابتني.

بِصَمْتٍ قررَّتُ شراء ثلاث نظَّارات قاتمة العدسات. دفعتُ ثمنها بلا نقاشٍ ولا اِعْتراضٍ. ومضيْتُ.

اِنْتظرتُ عَتْمةَ اللَّيلِ، وفي خَلَوةٍ مُحصَّنةٍ عن المُتلصِّصين. جمعتُ النظَّارات فَوْق بعضها، أنفي لم يشْكُ من ثقلها عندما لَبِسْتُهنَّ. وخرجتُ أتحسَّسُ طريقي بِعَصا العُمْيان؛ لأتفقَّد مُحيط الدَّار؛ إذْ سمعتُ حركاتٍ مُريبةٍ.

 

 

 

 

 

 

مسرحيّة

 

 

- أعرَبَ لي: "سروري عظيم باِنْتهائي من مُطالعة مسرحيّة(مغامرة المملوك جابر)".

- "بخبرتكَ العريقة، هل تستطيع إعطائي فكرة واضحة عن رسالة كاتبها سعدالله وَنُّوس..!!؟".

أخَذَ نفَسًا عميقًا.. اِعْتدلَ في جلسته.. سحَبَ سيجارة من عُلبتي، فقال:

-"المُمثِّلون يتحرَّكون بإشارة من المُخرج القابع في زاوية لا يُرى منها، أوامره صارمة، وبعصبيَّة".

- "هل هو عسكريٌّ سابق؟".

- "ومن أخبركَ بذلك؟".

-"من وصفكَ له، تراءت لي الأيادي الخفيَّة التي دائمًا ما تُحرِّك المشهد وِفْق أجندتها".

- "أثَرْتَ مواجعي من جديد، وإنَّ ليل العبيد.. وليل الظَّالمين قاسِمَهُما المشتَرَك الظَّلام. كعربات نقل الموتى.. مملوءة بالملح والصَّديد. كلاهما مؤرِّقان.

النصُّ موجوع ينثُّ بالآهات. الأبطال فاقدو النُّطْق.. الإيماءات والإشارات؛ ملأت صفحات رسالتهم الطَّويلة كالإلياذة.

العناكب تتدلَّى فوق السِّتارة الباهتة غير آبِهَةٍ ببؤسها. لهاثُ الأنفاس يتشارك العرض مع الممثِّلين، شبيهًا بقصص اِحْتضار الموتى التي لا تُنسى.

ختامًا.. أُسدِلت السِّتارة، من سادن مبتور الكفِّ اليُمنى، واليسرى بلا أصابع.

حرارة التَّصفيق مُتوهِّجة تهزُّ الأركان على وقع صدى:

-مَوْطِني..!!

بُحَّ صَوْتي، نِمْتُ واِسْتفقتُ، وأنا ما زلتُ أردِّد معهم:

-موطني.. البهاء والجمال.. !!

 

اقتصاد

 

 

ورث لافتة من عهد أبيه التاجر، رُفعت في مُناسبات وطنيّة وقوميّة. لم يطرأ أيّ تعديل عليها، منذ أوّل عيد للجلاء في سوريا، إلى آخر مُناسبة جلاء هذه الأيّام، وعند سُقوط النّظام قبل أشهُر قليلة.

بقيت فترة على واجهة محلّه التجاريّ العريق والشّهير. طُلّاب المدرسة يقرؤونها بصوت جماعيٍّ صباحًا ومساء، أثناء عبورهم الشَّارع الرَّئيس من وإلى المدرسة: "نُهنِّى القيادة الحكيمة بهذه المناسبة المُباركة".

-تصفيق وصفير-

مُصِوِّر ناشئٌ وثَّق بعدسته اللَّحظة التاريخيَّة. أحدُ الهُواة عَرَض مبلغًا مُحترمًا لشرائها.

 

 

 

 

 

 

 

نباهــــــــــــــــــــــة

 

المدير العامّ بعد أن كوَّعَ؛ خصَّص مكانًا للصلاة. كثّف عدد الكاميرات، لمراقبة الزوايا المُتوارية، والمُحتَملة لاِخْتباء الفُلُول؛ فانتفخت جُيوبه، ولم تتسع لزيادة دخله اليوميّ.

 

 

 

 

شاربان معقوفان

 

حانتْ اِلْتِفاتةُ منِّي لذلكَ الرَّجُل، الواقف أمام مرآةٍ غير نظيفةٍ في الحمَّامات العامَّة. تأمَّلتُ حركة أصابعه الرَّشيقة؛ بتفتيل طَرَفَيْ شاربيْه المعقوفيْن للأعلى.

بعد اِطْمئنانِه على وضعِهِما الطَّبيعيِّ كما يُحب؛ أظنُّ بل مُتأكِّد من عدم اِسْتطاعة الصَّقر بالوُقوف عليهما كما يُقال-، ولأنَّهما ليسا عريضيْن؛ فكثافتهما الوُسطى غير كافيَة، ولا تُؤهِّلُ حتَّى عُصفورًا صغيرًا بحجم البُلبُل؛  للتَّغريد فوقهما.

بخُطوات مُنمَّقة مُتَبَخْتِرِة، يتمايل معها جَذْعه الأعلى بإيقاعٍ داخليِّ شِبه راقص، لا يُشبه تمايُل الثَّمِل على أنغام موسيقى بائسة رديئة.

ما إنْ أصبحَ الرَّجُل بمُحاذاتي، حتَّى غطَّى بحسمه على خَيالِ "طوني حنَّا"، الذي اِنْتصَب أمامي هذه اللَّحظة، بطلعته المُفعمة بالحياة. لكنَّه كان صامِتًا ملامحه حائِرَة. 

أطلقتُ اِبْتسامتي المُعجَبَة بشاربيْ الرَّجُل. بادرته بكلمة مُرفقة باِبْتسامة:

-"حِلْوين".

بادَلَني بنظرة شُكْرٍ بطَرَف عَيْنه دون نُطق كلمة واحدة. اِسْتمرَّت خُطُواته نحو المَخْرَج بلا توقُّفٍ، لاحظتُ خُطوط جبهته المُتغضِّنَة التي غاصت عُمقًا، وكَشْرَة وجهه تميلُ إلى العُبوس. صوتُ حذاء الكَّعب العالي سابَقَ صاحبته قُدومًا، ليس إلى مكانِنَا بل إلى سَمْعِي. اِلْتَفَّ الرَّجُل بنصف اِسْتدارة نحوي، واِبْتسَم.   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لوحة إرشاديَّة

 

 

وَقفا قبل مسافة تحت لوحة إرشاديَّة تحذيريَّة لسائقي السيَّارات؛ تُنبِّه لتخفيف السُّرعة. تناهشتني الأسئلة المشروعة وخلافها. اِبْتسامتهما لا تخفى على كاميرا الموبايل. كان ذلك بعد ذهاب الورشة التي ركَّبت اللَّوْحة المعدنيَّة مُربَّعة الشَّكل.

لونُها الأصفر المائل للبُرتقاليِّ، لكنَّ المُثلَّث الأحمر اتَّخذ من وسطها قاعدة له، هويَّة اللَّوْحة في وسط المُثلَّث.. شكلٌ على هيئة مُنحنيات سَوْداء. ميَّزها عن مُحيط الشُجَيْرات المُنفَلِتة بِهَيجان نُموِّها خارج سياج حديقة المنزل الفخم.

بعد أشهُر عاد الرَّجُلان لأخذ صوَرٍ تِذكاريَّة لهما بنفس النُّقطة. قبل مجيئهما بنصف ساعة جاءت سيَّارة البلديَّة بكامل تجهيزاتها. خِلَال دقائق لا تتعدى العشرة، فكَّكوا اللَّوحة، وأخذوها معهم.

عايَنَ الرَّجُلان صوَرَهما بإمْعان. صَرَخ أحدهما. سمعتُ صدَى صَوْته رنَّ في أُذُنيِّ. توقفَّتُ عن مُتابعة شُغْلي؛ تذكَّرتُهما:

-"أين اِختَفَت اللَّوْحة؟".

عامِلُ الحديقة المنزليَّة أجاب من خَلْف السُّور:

-"ما زال المَطَبُّ بمكانه لم يتزحزح..!!".

تساءلتُ بِصَوْتٍ أظنُّ أنَّني لم أسمعه, لم أَلْحَظ تفاعلهما مع كلامي:

-"أماكنُ المدينة الجميلة كثيرة. ما الذي أعجبكما في هذا المكان؛ حتَّى تعودا إليه بعد كلِّ هذه المُدَّة؟".

العَمودُ المعدنيُّ رجع وحيدًا، تائِهًا بأحضان أشجار الحديقة المُلتفَّة حَوْل خَصْره. الشَّارعُ مُعْتِمٌ في هذه النُّقطة عند مَغيب الشَّمْس. زعيقُ فَرامل السيَّارات يملأ المكان بضجيج لافِتٍ لأنظار الجِوَار.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس

حذاء أوروبيٌّ. 5

شُعاع مُنعكس.. 10

سرقوا حماري.. 15

حقيبة بيت العائلة. 18

مشاغبة حلم.. 26

لا أحد يضحك في هذه المدينة. 29

الحارس   39

السّابعة صباحًا 46

بائع الخرداوات.. 52

مسرحيّة  54

اقتصاد 57

نباهــــــــــــــــــــــة  59

شاربان معقوفان. 60

لوحة إرشاديَّة. 63