مقالة حول رواية صندوق بريد
مع كلِّ مُغامرة والاشتغال على عمل روائيٍّ؛ تظهر الكثير من المآزق والإخفاقات، فمثلًا حينما يصل الكاتب إلى نقطة مسدوة، لا يمكن النَّفاذ منها، يجلس مهمومًا مغمومًا لا يأكل ولا يشرب، يعاف كل شيء. ينعزل في قمقم ذاته، لا يحب رؤية أحد، ولا أحدًا يراه.
فهل ذلك يعتبر حالة صحيَّة لمحيطه الأسري والاجتماعي والثقافي؟.
بكلِّ تأكيد وأنا كاتب أشعر بهذه المُتناوبات حقيقة.
ففي روايتي التي أنجزتها خلال الأيام القليلة الماضية، وكتابتها لم تستغرق إلا فترة زمنية قصيرة نسبيًا حوالي ستَّة أشهر، مقارنة مع أعمالي الروائية السَّابقة التي امتدَّت من سنة إلى اثنيتن إلى ثلاث. ستَّة أشهر كتابة واشتغالًا في (صندوق بريد). فقد استطعت معالجة العديد من القضايا اليوميَّة لحياة موظف في مركز للبريد. يوزع الرِّسائل على مدار سنوات. وخبايا الوظيفة من مكتب الرَّقابة الأمنية الصَّارمة في هذه الأماكن الخدمية، وما ذلك إلَّا لمُراقبة التفكير والكلمة والحركة، والتضييق على النَّاس في مقدَّرات حياتهم اليومية. ولم يخل الأمر من التعريج تاريخيًّا على قضية صناديق البريد ومتى كان أول صندوق بريد وألوانها وأشكالها التي عبرت التاريخ وصولًا إلى النهاية في أيامنا. من اختفاء الرسائل وساعي البريد وصناديق البريد، لتحلَّ الإيميلات ووسائل التواصل بسرعتها الفظيعة.
كما أن قضايا الرواتب الضعيفة والتي لا تكفي حياة كريمة للموظف. وإلقاء الضوء على قضية اجتماعية كبيرة، ألا وهي قضية التقاعد، ومخرجاتها على الحياة الاجتماعية. واشتغلت رواية صندوق بريد على العوامل النفسية فأعطت البُعد الثالث للفكرة وللحدث المتولد.
شخصيات الرواية كانت قليلة نسبيا (مهيار ساعي البريد) و (زوجته شادن معلمة مدرسة) هما البطلان الرئيسان للحدث الروائي |إلى جانب الشخصيات الثانوية: (ابنا مهيار .باسم وبسمة). (صديقا مهيار في الوظيفة والمدير والمراقب الأمني)، وصديقه (فطين) الذي ظهر في مسارات من الرواية ولكن عبر استرجاع الذاكرة.
وظهر هناك (الصَّوت الداخلي) شريكًا وحجر أساس في سرديَّة الرواية، وهو الراوي الذي لم يظهر إلَّا في ذهن (مهيار) وكان كلامه وحواراته مع مهيار فقط وعلى الأغلب. لكن الصوت الداخلي كان يقظًا متحفِّزًا متوفِّفزًا مُراقبًا يُصوِّب ويعدِّل كل هفوة وخطأ، ويُذكِّر. فكان في حقيقته وموقعه صمَّام أمان للتوازن المعقول في تراتبات السرديَّة الروائيَّة، والمعادل الموضوعي للرقيب الأمني في الواقع، أو العنصر الأقل الذي نطلق عليه (المُخبر).
ومع كل هذه المنغِّصات والتعب ومجافاة النوم. والتفكير المستمر المرهق. سأستمرُّ ليس عنادًا.. ولكن محبة بالكتابة.