الأحد، 20 أكتوبر 2019

إعادة التحقيق


أقصوصة: -
- "تتشابه المآذن والأشجار العالية.. يا إلهي..!! يستحيل تحديد المكان الذي نحن فيه الآن".
سيّارة (الزّيل) العسكريّة تعبر شوارع العاصمة دمشق بصندوقها الحديديّ المُصفّح. أصوات الزّوامير وصرير الدّواليب لا تتوقّف حتّى عند الإشارات الضوئيّة الثلاث التي مررنا بها.
عيناي مُتعلّقتان بكُوّة تتصالب عليها قطع الحديد التي تزيد قليلًا عن مساحة كفّي؛ أتاحت لي وزميليّ الاستمتاع بالغيوم وزُرقة السّماء، وأحيانًا ألسنة من أشعّة الشّمس صافحت وجوهنا النُّحاسيّة؛ حينما يتوافق طريق تدمر الصّحراوي الطّويل مع اتّجاهها. ذهب عنّا الإرهاق والتّعب وحَزّة القيد في معاصمنا والتّفكير بمصيرنا المُنتظر.
انمحى اللّون الأزرق من ذاكرتي تمامًا مُفسحًا المجال للأسود والرماديّ وأحمر أجسادنا المجلودة بالكبل الرّباعيّ و الصّدم الكهربائيّ.
صبيحة اليوم نادى السجّان على رقمي، لكزني زملائي مُذكّرين لي؛ فنهايتي حتمًا في نسيانه.
ساقني إلى مكتب قلم السّجن الملاصق لمكتب معاون المدير. المُساعد أمسك بكفّي وطبع إبهامي على سطح (الإسطمبة). بصّمَني على أوراق ثلاث بجانب اسمي الحقيقيّ.
أخبرني:
- "أنتَ مطلوب إلى التحقيق".
- "أين يا سيدي؟".
- "لا أعرف إلى أين.. وليكن إلى جهنّم ما المشكلة؟ خذه يا عسكري وانطلق".
هديرُ (الزّيل) على مدار ساعات لم يتوقّف إلّا لمدّة نصف تقريبًا في الاستراحة.
أصوات المسافرين وضحكاتهم. نبرةٌ نسائيّة أخلّت بتوازني الداخليّ. أخذتني إلى سنوات خلَت. صورٌِ ومواقف هطلت من سماء ذاكرتي صدّعت جُدران الحزن السوداء في قلبي.
أُطفِئ هدير المُحرّك، اصطفاق الباب بجانب السّائق. صوت خُطوات رئيس الدّوريّة يقرع سمعي. كلامٌ مختلط فهمتُ بعضه. أيقنتُ وصولنا إلى الفرع الذي طلبنا.
الكُوّة الصغيرة أظهرت جُزءًا من بناء عالٍ.. تذكّرتُ.. تمامًا: "إنّه إدارة السجلّات العسكريّة.. إذن النهاية فرع فلسطين.. وصدق المُساعد بكلمته: إلى جهنّم".

(كتاب - بتوقيت بُصرى /الروائي محمد فتحي المقداد)