(6)
(6)
الرسالة الثانية من فاضل السلمان (السّويد)
** خلف الباب أبواب..
(مقالة
فاضل على صفحته الجديدة)
فاضل:
"انفتح الباب
الكبير على بوابات وهميّة لا تُعدّ ولا تُحصى، لطوابير الخِيَم المُصطَّفة بانتظام
بخطوط مستقيمة طولًا وعرضًا، وخلف الأبواب ينكشف المستور، وتُنثَر العطور، وتُقام
المذابح، وتُبنى المسالخ، ويُهان المشايخ.
وخلف
الأبواب تُكتَم الأسرار، وتُنتهَك الحُرمات، وتُجتَرَع الغُصّات، وتُسكبُ الدّموع
على وَقْع العذابات.
المُتضايق
من شيء ما؛ يُطلّ من النّافذة، والخائف يُغلق الباب ويجلس خلفه. ومن
قائل يقول: (الباب إلّلي يجي منه الرّيح سِدّه، واِسْتريح).
خلف
الأبواب تنحني القامات.. تتمدّد صحارى العَثَرات.. تستطيل الإحباطات في النّفوس
الخائفات اليائسات.
خلف
الأبواب تُسْدَل الرّحمات.. تتنزّل المَغْفِرات.. تطمئنّ القلوب المؤمنة في كَنَف
خالقها، هنا تُسكَب العبرات لتطهير القلوب، وتنقية الدُّروب من أشواك الذّنوب.
وخلف
الأبواب يَحتجِبُ المتآمرون، والمنافقون، والسَرّاقون، جميعهم ذوي الأيادي
السّوداء المُستحوذة على البَيَاض؛ فلوّثته بِدانستها" .
..*..
فطين:
تنازعتني الأفكار شرقًا وغربًا، وطافت بي
مُحيطَ الكُرةِ الأرضيَّة مرّات ومرّات؛ قبل انتهائي من قراءة مقالة صديقي (فاضل السلمان) بعد أن عثرتُ على صفحته على
الفيسبوك، قبل وصولِ أوّل رسالةِ إلكترونيّة منه على الإيميل.
أضناني البحثُ عنه لفترة طويلة، انقطعت
أخباره عنّي، وتطابق ذلك تزامنًا مع تهكير صفحته المعروفة، وجاءت هجرته إلى أوربّا
عبر البحر؛ لتُؤكّد التباعد القسريّ بيننا. والدُّنيا في عصر وسائل التواصل؛ جعلت
من عالمنا قرية كونيّة صغيرة.
كانت مفاجأة سارّة فتحت شهيّة الحياة عندي مُجدّدًا،
وآمالي لم تَمُت، ازداد نبض قلبي من فرحة طويلة، بعدما انقطعت أخباره تمامًا ليس
عنّي فقط، بل على جميع الأصدقاء.
خلف الباب فلسفة كبيرة لم يتطرّق ذهني لهذه المعاني
التي قرأتُها في مقالة
صديقي فاضل، فتحَتْ عَيْنيّ على أشياء جديدة، ومَعَانٍ غارقة في العمق، و
"كلّما ضاقت العبارة اتّسع المعنى": على رأي "النَّفري" الرُّؤية غالبًا مُتَّسِعًة برحابة فضاءاتها بلا حدود،
بينما تبقى الكلمات قاصرة عن الإحاطة بالمعاني والأسرار، مهما كانت قويّة المعنى
والمبنى بدلالاتها، وبالتالي؛ فلا تعدو الكلمات أن تكونَ غطاءً للحقيقة، وملاءة
تسترها.
أخذتني بعيدًا إلى عوالم لم أتصوّرها، هناك كلمة تكون مفتاحًا(ماستر كيْه)
تفتح جميع الأبواب الموصدة بلا استثناء؛ هذا ما استدعاني لاستذكار آخر كلمة في
رسالة أبي فندي، وهو ينظر إلى اللّوحة: (أهلا بكم في مخيّم الزعتري).
أدخلوه، وأغلقوا البُوابة؛ فصار هو وعائلته،
ومن معهم جميعًا من اللّاجئين خلف الباب، كأمواتٍ بلا قُبور.. اللّجوءُ موتٌ بطيءٌ،
بمرور الوقت تَتَهرّأ الأجساد هُزالًا هَرِما، وتذبُل على أعتاب المنافي مقهورة،
كانت مُتلهّفةً لرؤية ذكرياتها، أمنياتٌ ماتت على أعتاب أحلام العودة، غصّةُ
البُعاد والموت تآخَيَتا؛ لإخماد أنفاس الحياة.
..*..
أبو فندي:
داخل الخيمة.. خلف بابها نام هو وأولاده، التي
أخبرني عنها سابقًا بمقولة، كأنّها السّكين الماضية غُرست بقلبي، وما زالت تنخزني
برأسها الحادّ، ودمي ينزّ منذ عشر سنوات، ومازال:
"إنّها خيمةٌ يا فطين..!! وما أدراكَ
ما الخيمة..!!.. أبدًا ليست كخيمة جيراننا في كَرْم العِنَب أيّام موسم الصَّيْف،
ولا مثل التي سَكَنْتُها أثناء خدمتي العسكريَّة، كَرَاهتي لها..!!، مثلما كرهتُ
تلكَ التي كانت تنتصبُ على الحاجز في وسط بلدتنا.. ألَا تذكرها؟".
..*..
فطين:
محطّاتٌ التوقّف فيها إجباريٌّ لا مناص منه؛
هدأت أعصابي قليلًا، وخَفَّ توتُّري، استعدتُ صوابي، استغرقتُ بتفكير عميق، أطْلَلْتُ
من نافذة ضيّقة على فضاء واسع، استنشقتُ هواء نقيًّا، نبَضَتْ رئتاي بقوّة،
وتباطأت دقّاتُ قلبي بعد التسارع المديد، وأنا أعيشُ على أعصابي التَّالفة.
استقرّ الرّأي على نُقاطٍ ارتكز عليها هذا
العمل الروائيّ، خلف الباب.. والخيمة، نُقطتان بارزتان، نبّهني إليهما أبي فندي؛
فالخيمة خلف باب المُخيّم.. الخيمة وطن صغير، فقط من أجل مُمارسة الحياة بحدودها
الدّنيا، وخلف بابها أسرة وحياة خاصّة، وهي لا تسترُ أدنى الخُصوصيّة أبدًا.
ومن خلف باب المُخيم.. انهالت الخيالات
بالمعقول واللّامعقول، وما لم يخطر على البال، ما أروع انفتاح الأفق برؤاه، لكنّ
المشكلة إذا استدعى الأحزان والآلام لتجديد مواسمها.
وتتالت الرّسائل من محمد أبي فندي، وفاضل أبي
المجد بحماس، بعدما كنتُ أودّ إخبارهَما: بِنِيّتي جمع رسائلهما في عمل روائيّ؛ أطلقتُ
عليه (خلف الباب)، إكرامًا وإجلالًا لذكراهم.
ولم يكُن أمامي إلّا احترام رغبة صديقَيّ (محمد
وفاضل) باجتهاد فيما أسعى إليه؛ لأنّهما شَهِدَا بأمّ أعيُنِهِما، و(من رأى
ليس كم سمع)، وشاهدُ العيانِ وثيقُ الصّلة بالحدث المُنحفِر في دواخله، لا
يمكن اِنْمحاء آثاره حتّى الموت، وإن اِخْتَفَت مُؤقّتًا في مجاهيل غابات
النّسيان.
أنا
من شهدتُ ولادة فكرة وخاتمة الرواية، ومن خلال ما أرسلوا لي أصبحتُ بمنزلتهم،
لأنّهم مصدرٌ موثوق عندي، آخُذُ عنهم باطمئنان، وأروي عنهم بثقة؛ وكأنّني رأيتُ
بأمِّ عينيَّ، لا بدّ لي من إكمال مِشوار مُشاهداتي.. والإدلاء بشهادتي.. بصدق
وأمانة لله والتاريخ، والمستقبلُ الذي سيكون لأبناء سوريّة.
لم
أشأ إخبارهما بقراري الأخير هذا. بل أبقيْتُه طيّ الصّفحات؛ لأفاجئهم به فيما بعد،
لأنّني شهدتُ ما شهدوه، في كلّ ما ناقشناه ثلاثتنا، كنتُ واثقًا بحقيقة وقوعه،
مُتيقّنًا من صحّته، أعرف أبطاله، واعٍ تمامًا ما حصل بدقّة، وإن باعدتني عوامل
الزْمان عنها، أظنّ أنّني كنتُ خائفًا من خيانة ذاكرتي الهَرِمة.
المتعةُ لا تكتمل؛ لأنّها كانت افتراضيّة.
تداعي الأفكار كثيرًا ما يُنقذ السّقوط في متاهات اليأس والإحباط".
..*..
فاضل:
المطرقة تهوي بقوّة ضرباتِها
السّاحقة على رأس الوَتَد الحديديّ. أشعرُ بأنينِه يكوي قلبي. ماذا لو كانت ضربة
واحدة منها انحرفت عن هدفها إلى اُصْبعي؟، لا شكّ أن صُراخي سيشُقُّ تجمّع الأولاد
من حولنا؛ وسيُغطّي على صُراخهم المُتَماوِج مع حركاتهم السّريعة غير المُنضبطة،
اِنْتباهي مركّزٌ على المكان الصحيح لضربات المِطرقة التي لا ترحم.
لا أذكر أهي ثمانية أم
عشرة أوتاد، التي كانتُ مُعدّة لتثبيت حبال الخيمة، عندما تنتصبُ بكامل أرْكانها،
قويّة بوجه الرّياح العاتيات، كما لا أنسى أنّني سأنام في باطنها، كيف لو نمتُ،
وأنا خائف غير مطمئن، ونبضات قلبي تتسارع عندما كنّا هُناك؛ بمُجرّد سماع هدير
الطّائرة المروحيّة، لستُ وحدي ممّن لم يتمالك نفسه، جميع أهل الحارة يُسارعون بالخروج
هائمين على رؤوسنا إلى الأرض الخلاء، نتراكضُ في اتّجاهات شتّى طالبين النّجاة، لننتشرَ
مُنبَطحين بين أشجار الزَّيْتون المُتقاربة بصفوفها المُنتظمة طولًا وعَرْضًا بخطوطٍ
مُستقيمةٍ، مُتشابهة مع ترتيبات مُخَطِّطْ المُخيّم كما أراد له المُهندس، الذي
رسم الخطوط على الورق، لو لا بعض الخيام انحرفت عن أماكنها المُقرّرة من؛ فَشوّهت
التناسق المرسوم مُسبقًا.
ما إن بدأ الدّوام حوالي التّاسعة في يومنا
الأوّل، كُنّا قد تناولنا إفطارنا، استعدادي المفعم بأمل الاستقرار منذ ساعات النّهار الأولى، توجّهتُ مع القادمين
المُستجدّين حسب إرشادات المسؤول عن النُّزل الجماعيّ، بالتوجّه إلى الجانب الآخر
إلى المُستودع لاستلام الخيمة وأدواتها.
مشوارنا ذو هدفٍ واحد، آراؤنا مُختلفة. نظراتي
حائرة.. عينياي تُوصْوِصان بلا ثبات على شيء مُعيّن، أُذُنياي أظنّ أنّهما تسمعان،
كأنّي لم أُدركْ أنّ أحدهم، يشكو لمن في جانبه موت ابنه في المُعتقل، وآخر يهمسُ
بصوت مَبْحوحٍ، لا يكادُ يُفصح عن كلامه: "من يوميْن جاءت الحوّامة، ورَمَت بِرميلًا
على بيت أختي، وما خَرَج من البيت المُخبِّر عما حصل، لأنّهم كانوا مُجتمعين على
طعام الغداء". ثالثٌ: "حملة أمنيّة مُشتركة كبيرة مُدجّجة بالعتاد
الثقيل؛ داهمت بيوتنا في القرية".
سأله آخر: "سمعتُ أنّهم يملؤون جيوبهم
ممّا يجدون من الموبايلات والمصاري". بوتيرة أعلى أجابه: "بل حتّى
المصوغات الذهبيّة، والله أخبرني صديق لي من حارة أخرى، أنّهم أثناء التفتيش في
أحد بيوت المُغتربين الأثرياء، أخذوا منه خمسة كيلو غرامات من الذهب، جرّدوه من
ثروته التي أفنى عمره يجمعها، ضاعت في لحظة".
ما زلتُ أسمعُ، أحمدُ الله أنّ أحدًا لم يسألني.
خُطواتي مُتسارعة قليلًا عنهم؛ فأتقدّم قليلًا عنهم، كأنّي لم أكُن معهم. طليعة
القوم من المتوقّع تلقّي الصّدمة الأولى، على مدخل المُستودع أوّل وجه رأيتُه
خارجًا منه، يُرسل بكلماته: "إذا كنتم تريدون استلام الخِيَم، مَن هُم في
الدّاخل؛ أرشدوني إلى الجهة الجُنوبيّة، هناك.. الخِيَم منصوبة جاهزة لاستقبالكم".
أتلفّتُ حوْلي، لعلّه يقصدُ أحدًا، لكنّ عيناه
مُصوّبتان نحوي تفترسان ملامح وجهي بنهم. تلمّستُ وجهي بِنَيّة حمايته، خوفًا من
إصابته بسوء من أثر نظراته الغاضبة، أوّل ما تَبَادر إلى ذهني صفعة قويّة؛ كتلك
التاريخيّة من يد ذاكَ السَجّان اللّئيم.. يا إلهي..!! ما زلتُ أحسبها بمساحة سهل
حوران.
كأنّ لَسْعةَ الألم المُخدّر تحرّكت الآن،
تشنّجت عضلات وجهي، امتدّت يدي لتليين
ومحو آثار الصّفعة. أذكرُ أنّني صرختُ بصوتٍ مُفاجئ أخرج من حوْلي من حكاويهم
الطويلة، انتبهوا لي..!!.
مؤكّدٌ أنّهم ظنّوا بي جُنونًا، هكذا كأنّني
سمعتُ مقولاتهم المُتولدّة في قلوبهم، وما هَمَسُوا به لبعضهم بعضًا، رَغْمًا عنّي
حفظتُ ما تناهي إلى مسمعي.
أُذُناي أخبرتاني أنّهما لم تسمعا شيئًا؛ إحداهُما
مُعَطّلة عن مُهمّتها من أثر صَفعة السجّان منذ أشهر، وطنينُ الأخرى منذ
انفجار البرميل قربَ بيتي، يمنعني من سماع
أصواتٍ قريبة، لأيّ كلام، ولو من مسافة
وما يزيد.
استدرنا عكس الاتّجاه من تلقاء أنفسنا، دون
تلقّي أمْرِ آمِرٍ، وكيف أستطيعُ تفسير حركات شِفاهم؟. كلامهم مُجدّدًا. تأفَّفَ
أحدهم: تكسّرت رجلاي، لولا ضيق الوقت لجلستُ في مكاني. أنفاسٌ تصعد وتهبط من آخر.
حاولتُ استجلاء وجهه المُتعب، هيأته؛ كأنّها
تقول: "إنّه سِتينيّ على طريق
الكُهولة، خلفيّته رأسه بشعره المُشعّث، ولباسه المهلهل يحكي فقره". موقعي
تحوّل إلى مؤخّرة المجموعة، بعدما كنتُ في المُقدّمة. آخر: "هل المكان بعيدٌ
من هنا؟". لا إجابة تلقّاها. تباطأت خُطواتي لإبقائي في موقعي المتأخّر بقصد.
"لم يعرف أحدًا ذلك، إلّا أنتَ يا فطين..
والآن فقط أقولها للمرّة الأولى: "تمنيّتُ لو أنّني اِسْتطعتُ التقاط صورة
لأقفيتهم، لحظة ذهنيّة كنتُ أتمنّاها، كأنّ هناك من دغدغ دواخلي؛ فأيقظها لو أنّ
اللّوحة أمامي لتشكيل ربّما أنال عليها جائزة دوليّة، فيما لو أرسلتُها لمسابقة، وأحقّق
حُلُمي بالشّهرة كما بيكاسو".
.. *..
مئة خطوة أو يزيد بقليل؛
وضعتنا قُبالة الشّارع الرّئيس الوحيد المُعبّد في المّخيّم؛ كان فاصلًا ما بين قِسميْه
الشّرقيّ والغربيّ، حسبما عرفتُ، أنّهما تشكّلا قبل سنة.
من
غير المُتوقّع الذي لم يكُن يخطر على بالي أبًدا، ولم أعرف مُسبقًا بوجود مساكن الكرفان الجاهزة. صُدِمتُ للمنظر.
بصوت عالٍ من أحدهم، هذه المرّة أسمع: "هاه..!!، لماذا لا يُسلّموا
الكرفانات للجميع؟".
آخر:
"ليس عدْلًا".
صوت
غاضب: "يا عمّي هناك خيار وفَقُّوس".
كأنّي بملامح وجه الأخير، وهو يتفوّه بكلماته
المُقتضبة الشّائعة: "عُوجَة من يوم يومها يا خال، ما رَحْ تَتعدّل
الآن..!!".
بنظرة ماسحة لأقفيَتِهم، شَعْر رؤوسهم الأشيَبِ المُشعّث، كمكنسة البُلّان.
مرآةُ مُخيّلتي عكست لوحاتَ وجوهِهِمُ الباهتة. غُبار الحرب يكسوها بُؤسًا بلمسات
الموت. قراءتُها وتفسيرها لا تحتاج لمهارات فنيّة مُتخصّصة.
هالةُ
غُبارٍ مُتولّدةٍ ليس بفعل رياح. خُطواتُهم تضربُ الأرض بعُنف ظاهر. يا إلهي..!!
هل هم يقصدون ذلك؟؛ انصرف تفكيري بحثًا عن الرّابط بين طبقَتيْ الغُبار. تَزاوُج
حالتَيْ الاغبرار بِعُرسٍ غير مُعْلَنٍ عنه؛ سأنتظر وليدهما بصبر طويل. تصوّراتي
مُشوّهة عنه.
خُطواتنا على الإسفلت هَدَأت حدّة ضغطها على الأرض، لم أعُد أسمعُ وَقْعَها،
وغُبارها اختفى خلفنا؛ انفتح الأفُق أمامنا، وانقشعت الرُّؤية بشكل جيّد عكس ألوان
الكرفانات الباهتة أيضًا بغبار صحراويّ مائلٍ للاحمرار، وكأنّها باقية هنا من عهد
الأنباط، مُرابطة بجوار قصور عَمْره والحرّانه والحلّابات، تستمتعُ بغبار حوافر
خُيول عبد الملك بن مروان.
وعند
نهاية وادي الزّعتري المُنحدِر من هُناك، كأنّ أحدهم مُستفسرًا: "من أين..؟".
رفعتُ نبرة صوتي: "من جبل حَوْران"
وأشرتُ باُصْبُعي إلى الجهة المقابلة.
انتبهتُ: "لا أحد سمع جَوابي".
تذكّرتُ أنّني من سألتُ نفسي بنفسي.
ربوعٌ
تنتظر بداية الرّبيع بفارغ الصّبر، صراعُها العنيد، وإصرارها المُتجذّر في مُقاومة
غضب الصحراء، مَلْءُ الآبار والبِرَكُ في قرية الزَّعتريّ فرضُ عيْنٍ، له طقوسه
وتراتيله من كلّ عام، تُقام في محرابها، وجِوَارها الغافي على مَجْدٍ أثِيلٍ تحتفظ
به من أجلنا، والزّعتر فيها؛ يُعبّق الوجود برسائل السّلام .
الصحراء
ما زالت بنتًا بِكْرًا من رَبّات الخُدور، عتّقها الزّمان؛ فنامت قريرة العين على
صخب التّاريخ، وعَبَق الحضارة؛ لتستفيق على دموعٍ وأحزانٍ، لم تكُن مُنتظرةً أبدًا
بهذا الحجم، الغارق في مُستنقعات الدّماء والدّموع، التي لا تروي عطش المُتعطّشين
لها.
الشارع
الوحيد.. السّوق الوحيد هنا، اختلف الوضع قليلًا عن نغمة مجموعتي الاحتجاجيّة
غضبًا وتنفيسًا عن أوجاعها، أصوات الباعة بدّدت اهتمامنا وأنا معهم.
"يا
إلهي.. ماذا أرى.. محلّات تجاريّة على الجانبيْن، اكتظاظ مُكثّف.. ازدحام العابرين
في الاتّجاهين، هدير مُحرّكات السيّارات القليلة المُصرح لها بالدّخول هُنا لخدمة
النّاس في نقل أمتعتهم، أو السيّارات الرسميّة الحاملة لشعارات زرقاء بلغة
أجنبيّة، أظنّ أنّها تابعة للـUN)).
صراع
بالكلام بين مُتناقشين، يقفون أمام إحدى المحلّات على شيء غير مفهوم لي. أولادٌ
يتراكضون؛ يشُقُّون طريقهم بصعوبة بين الجُموع، كأنّهم يُطاردون شيئًا. شبابٌ
آخرون خطواتُهم مديدةٌ مُتعجّلة. "أهم على موعد..!!؟" أظنّ ذلك.
بعض
العابرين فرّق شمل جماعتي، "لا تغفل عنهم" تنبيه لي مجهول المصدر، تلفّتُ
حولي؛ مُستفسرًا من وجوه لا أعرفها، ولا تعرفني. باهتمام تابعتُ من هو أمامي
مُباشرة على مسافة متر واحد، بحركة روتينيّة كانت خُطواتي التي تنقلني للأمام؛ تقع
مكان خُطواته، كلّما تقدمّت إحدى قدميْه، حلّت محلّها قدمي، مُشكلة إذا فقدتُ أثر
خُطواتهم في هذا الخِضَمّ الهائل.
..*..
نحن
الآن في مواجهة الخيام المنصوبة التي قيلَ لنا أنّها مُعدّة لنا، رنين
الهاتف. صوت صديق: "أين صِرْتَ؟" لم يُمهلني: "سأرسل لكَ ابني
حالًا، فقط وقّع على استلامك للخيمة، وسننقلها فورًا إلى جانبي هُنا؛ فحجزتُ لك فسحة
بجانب خيْمتي".
ما
إن انتهت المُكاملة، حتّى رجع رنين الهاتف: "أخي فاضل، إيّاك أن تترك الخيمة،
أو تبتعد عنها، لأنّك ستعود ولن تجدها، ستُسرّق، الحراميّة ولا أكثر منهم هذه
الأيّام..!!".
مفاجئة غير مُتوقّعة، "سَرِقة..!!؟.. شيءٌ غير معقول.. أظنُّهُ
يمزح". أمرٌ غير مُتوقّع أبدًا، لاجئٌ يسرقُ لاجئًا.. الجميع طُرَداء في خانة اللّجوء، أمكتوبٌ علينا
تلقّي الظّلم على أيدي أعدائنا؟، ومن ثمّ نتسلّط على ضعفنا ووجودنا، يا إلهي الأمر
لا أستطيعُ تصوّره..!! شيء فظيع بحقِّ الإله".
آخرُ وَتَدٍ أصْرَرْتُ على تثبيته بيديّ، المطرقة تعلو وتهبط على رأسه بلا
رحمة، لا يستطيعُ الثَّبات؛ فلا مفر أمامه إلّا الهُروب إلى باطن الأرض؛ لينعم
بالرّاحة بين ذرّات تُرابها، كأنّه ارتضاها قبره الأبديّ ليستقرّ فيها.
صديقي
يشدّ الحبال البلاستيكيّة المتينة لتوثيق الشّادر الذي انتصب خيمة ما زالت تهتزُّ،
وتتمايل، بانتظار التوازن في شدّ الحبال من كافّة الاتّجاهات.
حركات الأولاد العابثة كالرّقص على الحُطام، يلتقطون الحصى الحجارة من داخل
الخيمة، قبل كانت هذه الفسحة مشاعًا للجميع، الآن اختلف الوضع تمامًا، صارت حِمًى
مُعتبَرًا لا يجوز اقتحامه بأيّ شكل كان، حتى لا يُعتبَر ذلك عُدوانًا، وواجب
التصدّي له وَرَدّهُ.
صحوة زوجتي أمّ المجد، جاءت متأخّرة عندما افتقدت مجد، بعدما تفقدّته مع
جَمْعِ الأولاد لم يكُن بينهم، في دوّامة العمل لإنجاز مأوانا الجديد، الانهماك
الذي استغرقنا حوالي ساعة.
صاحت
بصوتها: "يا مجد.. يا مجد" لم تأتِها استجابته السّريعة المعهودة،
استنفرت الأولاد بالبحث عنه في دائرتنا المُحيطة. اتّسعت دائرة البحث وُصولًا إلى
قطّاعات أخرى، ومن ثمّ ذهب أحدهم، للإعلان عنه قُبيْل أذان المغرب في المسجد، الذي
يبعدُ عنّا مسافة تستغرق عشر دقائق وصولًا إليه بالخُطُوات السّريعة.
دموعها الملهوفة، بعدما سمعت أحد الأولاد يحكي قصّة خطف طفل، وآخر يحكي
قريبًا من ذلك، وتفتّقت أذهان الأولاد عن خيالاتهم الخصبة في إذكاء الحالة،
وإعطائها بُعدًا دراميًّا جديدًا، لتكتمل لوحة البؤس في أعيينا. غياب مجد لمدّة
ساعة، كفيلة بتبليل مساحة المُخيّم بدموع أمّه الملهوفة على غيابه.
تتلوّى
بآلام مكبوتة في داخلها، احمرار عينيها، طرف منديلها يقطر دموعًا، بعدما استنفدت آخر المناديل الورقيّة
التي كانت بحوزتها في محفظتها المُعلّقة بكتفها على الدّوام، فيها وثائقنا
الرسّميّة الباقية معنا، ولم نُسلّمها
هناك في مركز الاستقبال؛ حين عُبورنا الحُدود في اللّيلة الفائتة.
لم تَطُل مخاوفنا لأكثر من ذلك، حتّى جاء
أحد الشّباب من جيراننا في البلد، يقود ابننا (مجد) بيده، ركضت أمّه لاحتضانه،
وأشار إلى أنّه وجده يلهو هُناك عند سِيَاج روضة الأطفال القريبة من هنا، ويُراقب
بعض الأطفال الذين كانوا يلعبون على الأراجيح والألعاب الأخرى الثّابتة، انصرفوا
جميعًا، بينما بقي هو مُتمسِّكًا بشبك السّياج مُلتصِقًا به.
..*..
فطين :
بعد رسالة فاضل في يومه الأوّل في المُخيّم،
تبدّدت أفكاري في اتّجاهات شتّى، يومان كاملان كلّما انتهيتُ من قراءتها؛ أعود
إليها ثانية؛ كأنّ بي جوعًا لحياة لم أعشها، وما تمنيّتُها لصديقي، ولا لأيّ إنسان
على الإطلاق.
يا
إلهي.. كيف حدث كلّ ذلك..!!؟. سؤالي الأهمّ: كيف احتملوا العيش بهذه الطّريقة
الجديدة عليه؟. عقلي إلى الآن بعد هذه السّنوات لم يُصدّق ذلك.
عاودني
الشّوق ثانية إلى صديقي أبي فندي؛ فحاولت قلب الموجة باتّجاهه، فقد أدمت قلبي
رسالة فاضل، لسؤاله عن أوّل ليلة كانت له في المخيّم. هذه مُحاولة جديدة منّي
لتقسيم الأدوار وتناوبها بينهما، لترتيب الفقرات حسب التسلسل الذي يدور في ذهني
للرواية، ولكي لا يحدث ازدواجيّة الكلام؛ ما دفعني لذلك، اعتقادي بتشابه الأيّام
في المخيّم، وطريقة الحياة المفروضة، أشبه ما تكون بالعسكريّة.
والمُخيّم
أخو وصِنْوُ المُعسكر. لا أدري ما الذي ذكّرني بهذه النقطة بالذّات، سأبحثُ عنها؛ فإن
وصلتُ إلى نتيجة سأكتبُها هنا.
جاءت استجابة أبا فندي سريعة كما عهدتُه، فأرسل علامة قبضة اليد ترفع
إبهامها على الماسنجر، لم يكتبْ أيّ شيء، يبدو أنّه مشغول بأمر ما، رددتُ عليه
بإشارة مثل تلك التي أرسلها؛ فنحنُ في حالة تعادُل، لا لي ولا عَلَيّ.
..*..
أبو فندي سيحكي
عن ليلته الأولى في الخيمة
في رسالة أخرى لفطين
أبو فندي:
برأيي أنّه وعلى الدّوام: يُذكَرُ أوّل
الأمر وآخرة وما بينهما، هي مسافة مُكمّلة بينهما، وتحصيل حاصل.
في
حياتي أستطيعُ تحديد الأهمّ والأوّل في عدّة أشياء.. نُزولي من بطن أمّي، لحظة
رأيتُ النّور فيها، لم أستطع فتْح عينيّ من شدّتِه المُبهرة، وبِشارة القابلة لأبي
وأمّي، وتقييدي في سجّلات النّفوس، وليلة الدُّخلة عندما تزوّجت. حفظتُ ذلك
بتواريخه؛ لأنّها نقطة بداية أولى. هذه النّقاط مفصليّة في وُجودي على الكُرة
الأرضيّة. بإمكاني إضافة أوّل ليلة نِمتُها في المُخيّم، كأنّي لحظتها كنتُ عل
حافّة الكون، مشاعري مُشتّتة، فاقد التّركيز في أيّة شيء أبدًا مهما كانت، داهمتني
حالة من الهبائيّة بفجاجة، مرحلة على وَشَكِ الخُروج من الجاذبيّة الأرضيّة، وأصبح
فاقد وزني كريشة تتقاذفني الرّيح كما تشاء بلا أدنى خيار لي بتحديد وجهتي، لا كما
يشتهي شِراعي.
اللّيلُ هنا غير ليلنا هُناك.. لا شيء
يُشجّع على السّهر. شمعتان تَنُوءَان بذبول أنفاسهما كالموتى. كلّ شيء حَولي له
خيال ظلّ شاحب أكبر من حجمه الطبيعيّ، مُنطبعٌ على قماش الخَيْمة الدّاخليِّ، نراه
حسب شروطها المفروضة عليه، بانحناءاتها المائلة على شكل مثلّث نعيش داخله، كما
فُرضَت هي علينا بظروف لا فُرصة لنا للرّفض، خيارنا الوحيد القُبول بلا حوْل ولا
قُوّة منّا. عمودها الأوسط بِتَحَابٍّ يتعانقُ بظلّه مع أيّ ظلٍّ آخر مُنعَكِس،
ويقف إلى جانبه كحارس أمين. لا أظنّ أنّه يُراقب، بل أظنّ يُذكّرني على الدّوام هو
القَيِّمُ علينا، وأنّنا نقيم في كَنَفه، وعليه اعتماد ثقل الخيمة وأعبائها في
مقاومة الرّيح الشديدة عند ثورانها.
الأولاد انتبهوا لأنفسهم.. لا تلفزيون
يُلهيهم، يتساءلون ضجرًا، بلهجة احتجاجيّة: "أصغُرُهُم: يا ربّي..!! أينَ طُيور
الجنّة؟"، بشماتة يُجيبه أخوه الأكبر قليلًا: "الحمد لله إنّو ما في تلفزيون".
البنت مُتضامنة من الأصغر: "يي عَليكْ.. البابا سيشتري جهازًا خاصًّا لنا،
وسأضعُ قناتي المُحبّبة على المُفضّلة، ولن أغيّره عنها طوال النّهار".
الصغير
يرتفع صوته يغني: "أنا البندورة الحمرا..". الأكبر يُحاول إسْكاته؛ يحدثُ
عِراكٌ بين ثلاثتهم، بالكلام، وحركات إيمائيّة بإخراج اللسان، اقتربوا حدّ
الاشتباك بالأيدي. تدخّلت أمّهم لإقرار هُدْنَتِها بالقُوّة، وتُصدِر أمرها
بالنّوم.
كلّ
منّا لزم فرشته يتدثّر بثلاث بطانيّات مطبوع عليها شعار المُفوضيّة، وكتابات
باللّغة الإنجليزيّة بالخط العريض.
خطواتُ
ولد راكضة عبرت عن يمين الخَيْمة، صوت احتكاك حذائه بالبَحْصِ والحَصَى، هَمَمْتُ
على القيام من فراشي؛ لأعاين هذا الاختراق الصّارخ لحُرمَة مَسْكَننا.
اِبْتِعَدتِ
الخطوات لم أعدُ أسمع وقْعَها، هوّنتُ الأمر بعد الاستفزاز، أخذتُ نفَسًا عميقًا
مُتعدّدًا. خُطُوات جديدة شغلتني عن سماع زفير أنفاسي الحَرَّى. تشتّت ذهني عندما
أصغيتُ لنبرة جميلة تقرع سمعي بحنان، إنّهما امرأتان، واحدة تشكو: مرارة العيش منذُ
مجيئها، زوجُها عاطلٌ عن العمل، حتّى لا يستطيع دفعِ مصروفٍ يوميّ للأولاد، الذين
انحرموا من الشِّيبِس والبسكويت المُغطّس بالشكولاته.
يبكون
يوميًّا، وأعدُهم ولا أفِي بِوُعودِي "كمواعيد عُرقوب"، التي لم
يعودوا يُصدّقوني، و"كلام اللّيل يمحوه ضوء النّهار"، أو "كلامُ
اللّيل مدهون بزبدة".
أصغَرُهُم
تجرّأ على التَّصريح؛ وللتنفيس عن غضبه منّي: "الماما بتكذب". وفي مرّة
أخرى قال: "ماما كذّابة، تواعدنا ولا تُعطينا شيئًا".
المرأة
الأخرى تتنّهد كأنّ يدها امتدّت للمسح على وجهي، شعرت بطراوة يدها ونعومتها، تقول:
"الله يفرجها علينا.. بِدْها صبر يا خَيْتي، الحالُ من بعضه، لا تَشْكِي لي..
أبْكيلِكْ".
ما
أن تململتُ في مكاني بنيّة القيام؛ للتَطَلُّع من باب الخيمة الذي هو قطعة من قماش
الشّادر، مربوطة مع الجانب الثابت من الخيمة، لمعرفة من هُما، بهدوء حتّى لا
أستثير انتباههما، وتعرفان أنّني أتطفّل عليهما، وتشعران بالحَرَج إذا عرفتا
بمراقبي لهما.
لم
ألمح إلّا طيفهما الأسود الذي شكّل خيالًا طويلًا لهما، لانعكاس ضوء مُنبعث من
الصفِّ الآخر من الخيام على بُعد خمسين مترًا تقريبًا، لمبة على أعلى خيمة تنير ما
حولها.
الظِّلُّ
يتحرّك خلفهما ببطء باتّجاهي، وهُما تتقدمان بخطواتهما لوجهتهما، ويتلاشى شيئًا
فشيئًا أمام نظراتي التي لا ترى إلّا لمسافة أمتار قريبة.
هدأ همسُ أولادي، رجعتُ لفحص حالة السّكون:
"أوه.. لقد ناموا". سكونُ اللّيل مبعثُ طُمأنينة وخوف معًا، الوقت ما
زال بحدود الحادية عشر، ما زالت السّهرة في بدايتها قبل مجيئنا، والجلوس الطويل
لتقليب القنوات الفضائيّة حدّ الإدمان اليوميّ، وانفتاحي على عالم الأنترنت سلبَ
عقلي، امتدّ بي الجلوس يوميّا إلى الفجر أو قريبًا منه.
..*..
(سَكَنَ
اللّيل، وفي بعض السُّكُونِ، تختبي الأحلام \\ وسعى البدر، وللبدر عُيون؛ ترصد
الأيّام). وهل بقي شيءٌ في حياتي لتختبي الأحلام خلفه؟ في مثل هذا الموقف لا
بدّ لي من مناقضة جُبران في موقفه.
"لماذا..!!؟".
بكلّ صراحة: "لا أدري..!!؟".
ولِمَ يتوجّب عليّ قول الصّراحة, وأنا في مثل
هذا الموقف الذي لا يُحسدُ عليه لا عدٌّو ولا صديق.
"جُبران..
يا جُبران" انتفضتُ في مكاني، جاثيًا على رُكبتيّ لأواجه خيالي المُنتفض توتّرًا هكذا بدا لي،
لدرجة شَكّكْتني بوجود أحدٍ غيري في الخيمة. مسحتُ بيدي على جسمي، رأيتُ يدَ الظِلِّ
تتحرّك أيضًا.
رأيتُ
جُبران جالسًا على كُرْسِيّه أمام مِصباحه الشّمعدان، في آخر اللّيل على طاولته
الخشبيّة العتيقة، التي طالما رأيته خلفها، وقلمه بيده، لكنّي حاولتُ مِرارًا
التلصُّصَ على خصوصيّة خَلْوَته، لأكون واقفًا خلفه، أراقب ورقته المليئة عادة
بالرّسومات بقلم الرّصاص، وبعض العبارات.
شمعتي
تنوسُ بين الحياة والموت، في رُبُعَها الأخير قبل نهايتها، تتراقص شُعلتها
اهتزازًا على وَقْعِ نبضي المُرتفع، أخاف أن لا أصل إلى مشواري الموعود الذي
تمنيّته مرارًا؛ منذ زمان مضى إلى جُبران، قبل انتهاء حياة شمعتي.. سأسيرُ على
هُداها ما استطعتُ. أخشى التَعَثُّر والسُّقوط، أتوقَّع أن يكون الأخير والأبديّ. لا
خوف بعد ذلك، مصباحُه سيُغطّي بقيّة سهرتي.
هبوبٌ مُفاجئ هزّ أركان خيمتي العتيدة، في أوّل امتحان لها أمام حالات الرِّياح
المُتكرّرة في هذه المنطقة، فرحتي عظيمة بصمودها، شعرتُ بنشوة عارمة، وأنا أتلمّس
بقايا فُقاعات في راحة كفّي اليُمنى من يد المطرقة عندما دققتُ بها الأوتاد.
انطفأت
الشّمعة، كدتُ أبكي هزيمتها من أوّل موقف لها، كما حصل لنا يوم النّكسة. هي لم
تتعرّض مُباشرة لهجوم الرِّياح، بل بما تسرّب إلى داخل الخيمة من خلال الفتحات،
التي أفصحت عن حالها، نبّهتني لمعالجتها غدًا في الصّباح.
..*..
ما إن أقلعتُ بخطوتي
الأخيرة من عتمة انطفاء شمعتي، اختفى ظلّي المشُوه، حتى استقبلني شمعدان جبران
بنوره المُتوهّج بأضعاف مُضاعفة لِقُوّة شمعتي، رسم البهجة في نفسي مُجدّدًا رغم
الأسى والقهر، وأعاد تشكيل ظلّي بما يليق بي.
ارتياحٌ
عامٌّ، وارتخاء أعصابي المُتشنّجة، نظراتي توزّعت على الجدار تتبَّعُ تفاصيل تداخلات
ظِلّيْن أسوديْن؛ اتّحدا بتطابق مُنقطع النّظير، بياضُ الجدار المائل للاصْفِرار
قليلًا، لم يُظهر انزعاجه من حمل ظلّي المُتعانق مع ظلّ جُبران.
وكأنّني أمام شاشة عرض سينمائيّة، أدمنت ظلًّا واحدًا.
ردّ
تحيّتي، بعدما ألقيتُها عليه. ترافق مع سَحْبِه لِشَفْطَةٍ من سيجارة، كانت أمامه
على جانب منفضة السجائر. دُخانُها شكّل حاجزًا، فَطِنتُ أنّ لساني لمْ يتحرَّك
أبدًا، ولم أتذكّر أنّ كلمةً خرجت من حاجِزِ شَفَتيَ المُغلق في وجه حركة العُبور
والخروج، أزعمُ أنّ أُذُنُيَّ ما سمعتا شيئًا؛ خرق سُكُون اللّحظة الفارقة من
حياتي.
شُحوب
سيطر على سَوَاد الظلال على الجدار، سُحُب الدُّخَان حاولت تعميق الهوّة بالمُباعدة
بيننا، لولا تدخّل نسمة لطيفة؛ لطرد فُلُولِها إلى خارج الغرفة من النَّافذة
المفتوحة.
اِنْتبهَ
لِوُقوفي خلفه، صمتي موحٍ بالقلق. مُستفسِرًا: "كيف تتجرّأ على اقتحام
عُزلتي..!! يا فتى؟".
تلعثم
لِسَاني لسؤالي ترافق مع فرحتي لإحساسه بِوُجودي معه، كي لا أبقى أُحاكي نفسي
كمجنون راقت له مُمَارسة الحالة، وكنتُ أظنّ استغراقه في بحار تفكيره المُعتادة.
" يا سيّدي
تكسّرت أجنحتي عندما تركتُ بيتي، وجئتُ إلى خيمتي التي أصبحَتْ قَدَري المحتوم".
" ولمَ لمْ
تأتيني هنا في اِبْشِرّي، لكنتُ أعطيتُكَ جُزءًا من بيتي الكبير".
" كأنّك ما سمعتَ
بما فعلوا؛ بمن جاء من السّوريّين إليكم..!!؟".
" حقيقة مُعتزلي
هذا أبعدني عن مُحيطي.. هات حدّثني، غرابة كلامكَ جعلتني أشكُّ أنّني يوم قدمتُ من
الشَّام مع أُسْرتي، كنتُ صغيرًا، وما أذكُرهُ عكس ما تقوله تمامًا، رُغم سَكَنِنا
في قُرى عديدة من البِقاع حتّى هنا؛ فما الذي حدث لكم الآن".
" يا سيّدي:
إنّها السّياسة..!!".
" أذكرُ أنّنا عَبَرنا
من الشَّام إلى هنا، ولم يعترض طريقنا أحدٌ".
" يا سيَّدي
اِسمحْ لي أن أُخبِركَ: أنّ معلوماتك قديمة جدًا جدًا. هُناك حدود وأختام على
صفحات جوازات السّفر، ختم خروج من الشّام، وآخر لدخول إلى لُبنان، وتفتيش، وتدقيق،
وتحقيق في دوائر أمنيّة، إذا حدَثَ لديهم أدنى شكٍّ بتشابه شَكْلٍ مع آخر، أو إذا
تشابهَتِ الأسماء، وهو الغلط الشّائع الأكثر حدوثًا، وأسوأ مصيرًا".
"ما
الذي أسمعه؟".
علامات
الدّهشة بادية على وجهه، وخفتت نبراته صوته المُتهدّج لشدّة تأثّره، هرَش فروة
رأسه بشدّة، أسمع صوت احتكاك رؤوس أصابعه تَقْحَطُ القشرة الأولى من الجلد، لينزّ
الدَّمُ خلفها مُباشرة.
"ولماذا
الحُزن على الوطن، وأنتم سلّمتُم قِيادَهُ لغرباء، وتقتتلون من أجل الحُريّة، وهل
تعترفون بها في نفوسكم وفي بيوتكم..!!؟".
"يا
سيّدي، سأحكي لكَ بعضَ مزاعمي: وأنا في بطنِ أُمّي، وهي تجلس مع جاراتها يتجاذبنَ
أطرافَ الحديث، بمرحٍ وسُرور، وضحكاتهنّ تتعالى لتفيض على ساحة الدّار الواسعة،
قالت إحداهنّ بصوت هامس لمن كانت في جانبها، وأسمَعَت الأُخريات، وحرّكت يدها على
شفتيْها علامة التحذير بقفلهما، والتوقّف عن مُتابعةِ الحديث في شأن عامٍّ:
"يا خَيْتي اُسكتي.. للحيطان أذان". تبدّل الموضوع فورًا إلى محور آخر.
أنا لم أحتمل لمّا سمعتُ التّحذير، أصابني رُعب مُفاجئ، انكمشتُ على طريقة القُنفُذِ، وصار رأسي بين فخذيّ، وتحوّلتُ إلى كُتلة كرويّة تتدحرج بعصبيّة اهتزّ لها بطنُ أمّي، عندما رفستُ أحشاءها، استندت على الجدار، تقطّعت أنفاسها الحرّى، ولسانها يتلجلج: "بسم الله.. شو إللي صار"، يا سيّدي منذ تلك اللّحظة خِفتُ، وما زلتُ إلى هذه اللّحظة".
جلجلت ضحكته في أرجاء الغُرفة، ارتجّتِ الطاولة، اهتزّ الضّوء، كاد أن يقع
المصباح البِلّلوريّ، لولا امتداد يده لحمايته من السّقوط، غضبُ ظِلّيْنا جعله
يتلوّى، وتتخربط معالمه، شُعوري أنّه ذُعِر لذعري القديم، هكذا أظنّ.
"يا
بنيّ هذه حال الشّرق منذ القديم.. وتجدّد مع توالي الأيّام والحكّام.. وصار الأمرُ
نهجًا تبريريًّا: "العادل الظالم". بالله عليكَ..!! كيف يتّفق العدل مع
الظُّلْم؟، وهما نقيضان مُتباينان، فإمّا عدلٌ أو ظُلمٌ، لا حَلّ وسط بينهما، هذا
السّياقُ تبريريٌّ تزلّفيٌّ من عالم مُنتفِعٍ باع ضميره للشيطان، طمعًا
بمكاسب".
"يا
سيّدي: أنا موقنٌ بما تقول، وهو نُعانيه من هذه الفئة. بنفسي سُؤالًا حيّرني
زمانًا".
قبل
أن أُنهي كلامي، بدا مُستعدًا للانفتاح أكثر، قاطعني: "اِسْأل ما بدا
لكَ".
"يا
سيّدي، ما بالُ كلّ ظالمٍ وقاتلٍ ومُحتلٍّ وسفّاح، بحاجة لِمُفْتِيه، وصار المُفتي
من لوازم المشهديّة؟".
أخذ نفَسًا عميقًا مُترافقًا مع شهقة، ظننتُ أنّه لَفَظ أنفاسه الأخيرة،
مسح جبينه بقطعة قُماشيّة من تَعَرُّق جبينه، ثمّ تنحنح، كهيئة من يقف خلف
مايكرفون يُريد إلقاء خطاب ما، تنبّهتُ إلى أنّه ما زال. تابع: "كأنّك
تُسابقني تَعَجُّلًا في استخراج أفكاري المُرتّبة حسب أولويّات الحديث يا بُنيّ.
قوّة أيّ حاكم ليست نابعة من مُفرده، ولكن دَعْني أستعيرُ لكَ تمثيلًا وصفيًّا
لجوقة الحُكم في أيّة دولة، أُشبّهها بصحن سلطة -كدتُ أنفجرُ بضحكة غير مُتوقّعة منّي، في
مثل هذا الموقف: "صحن سلطة!!؟"، تماسكتُ وأنا أكتُم أنفاسي، مهابة
الجلسة قمعتني بشدّه، استعدتُ توازني للاستماع لما سيقوله -
قد تكون، وأنا أزعمُ أنّ السُّلطة جاءت من
التَسَلُّط, الذي يأتي من الغلبة بالقُوَة, أي أنّ هُناك غالبٌ ومغلوبٌ, قويٌ ومُسْتَضعفٌ
مُستهدفٌ مُهدَّدٌ بِعَصا السُّلطة, والتي يكون صاحبها سلطان تسيَّد بقبضته على
مَنْ هم دونه أولاً، وعلى راكبي السُّلْطة, ومن خلال الفُتَات الذي يَرميه أمام
أفواههم؛ فَركضُوا لاهثين لإسكات عَضَّةِ البَطْن, وهكذا تَمَسَّكوا بمُكتسباتِهم لإشباع
البطن الذي اِسْتحال إلى نَهَمَةٍ شَرِهَةٍ, بحيث أصبحُوا رباطاً وثيقاً حول
سيّدهم, الذي حوّلهم إلى عصًا غليظةُ طائعةً؛ تضرب أعداءه المُجاهرين بعدائهم له،
والذين يُعتبرون مُتهوِّرين بجرأتهم الكاسحة لحالة التَسَلُّط من جرَّاء المظالم،
التي ارتبط مصيرها بمصير السُّلطان صاحب السُّلْطة؛ وبالتالي أصبح هؤلاء الأتباع
المُنتفعين، هم العَصَا القادرة على القَهْر لأبناء طبقتهم التي استضعفها سيَّدهم؛
وكذلك أصبحُوا قلعةً يتحصَّن خلفها، وهو الذي يسعى على الدّوام؛ لتجنيد المزيد من
هؤلاء المُسْتضعفين المُطيعين, ومنهم الذي حظي بقُرْبِه من سيّده؛ لأنه تنازل عن مُقوِّمات
إنسانيَّتِه؛ فصار من القماءة والدَّناءة بما يكفي؛ لاعتقاد سيّده به: أنّه أصبحَ
عبداً مأموراً، يأتَمِرُ بأمره، ولا يستطيعُ رفْضَ أيَّة مُهمَّة سيكلفه بها,
وبذلك يخلعُ عليه شيئاً من الألقاب والرُّتَب، ويغدق عليه المال، ويمدُّ له أسباب
التَسلُّط على مَنْ هُم دونه, وعند ذلك يكون قد أصبح قائداً للسُّلطان
بجدارة".
كلامه أخذني بعيدًا بعيدًا، حفّز ذهني لخيالات
أثيريّة؛ انفتحت على عوالم المقارنات والتأويلات، لم تكُن لتخطر لي على بالٍ
أبدًا: وفي لحظة هاربة من هنا، مُتمثّلًا نفسي, وأنا أجلسُ إلى طاولة في أحد
المطاعم؛ فجاءني النَّادل بصحن سَلَطَةْ بشكله المُنَسَّقِ الجميل, تأمَّلتُ..
بِبُعدٍ فلسفِيٍّ تلك الخلطة من الخُضار المُختلفة الشَّكل والطَّعم, جيء بها،
وجعلوها وجبةً ضَروريَّةً مُرافقِةً للوجبة الرَّئيسَة, وقد كان للملح والحامض
والزَّيْت، الدَّوْر الأساسيّ في جعل ما اختلف من الخُضار شكلاً ولوناً, طَعْمًا
ومذاقاً، في سياقِ وحدةٍ متناسقةٍ مُسْتساغةٍ.
لفَتَ اِنْتباهي مرور رجلُ سُلْطَة حِذاء
طاولتي بِبِزَّتِه الأنيقةِ، ومُرافِقيهْ يُحيطونه. رجعتُ لتأمُّل صحن السَّلَطَة،
وصاحب السُّلْطة؛ فتبيّن أنّهما يرتبطان بشكل أو بآخر على أنَّهما خليطٌ غير
متجانسٍ أصْلاً, لكنَّ بوتقة الصَّحن، والسُّلْطان هما اللَّتان مَزَجتا الخليط؛
حتّى صار مقبولاً مُتذوَّقًا بتلذُّذ من الزبائن في الصّالة الفسيحة، وكذلك صاحبُ
السُّلطان ينتظرُ بدوره صحن السَّلَطَة محمولًا على أيدي النّدَلَة". جَمَحَ
الخيال بي شطَطًا لاختراع هذه المُقارنة. الخيال إذا تحفّز اِنْتظرْ نتائجه.
والتفكير الحُرّ حتّى على جناح الخيال؛ سيبُدع بما يُشبه الجُنون.
..*..
لم أشَأْ
إِخبارهُ بما عَنّ لي من كلام كثير، ما وعيتُ شيئًا منه. تباعدنا كلّ في وادٍ بعيد
عن الآخر. الحواجز تصنع التباعد، وهو ما حصل في هذه اللّحظة بيننا. مهابةُ
المُعلّم في قلب تلميذه، يجعله مُقِلًا بالكلام، أو التبسُّط في حضرة الأستاذ بِهَيْبَته
وَوَقارِه. ولا أودُّ إضاعة الفُرصة بكلامي الذي
لا يعنيه بشيء، بل مُنتظرًا منه المزيد والمزيد، لِحُصول المُراد الذي
طالما انتظرته على حافّة أمنية.
شعوره بشرود أفكاري، جعله يُنادي بوتيرة أعلى:
"هل تسمعني..!!؟".
"نعم يا سيّدي.. كُلّي آذان صاغية
لك".
كيف لي تبرير كَذِبي بجوابي له، إذا لم يتوقّع
أنّي أكذب، لكنّي حقيقة كذبتُ على نفسي. الكذب على النّفس جريمة عُظمى، اقترفتُها
بِحَقّ ذاتي.
فِعلًا كانت آذاني تسمع صوته، تفكيري شرد.
بقيَ مُستمرًّا بكلامه، وا أسفاه على ما ضاع منّي، علّ فيه زُبدة كلامه، ولا
نَفْعَ لِلَوْمٍ بعد فَوَات الأَوَان.
"يا
سيّدي إذا سمحتُ لي بسُؤالٍ أخير، سامحني لأنّي أثقلتُ عليكَ، وأخذتُ من وقتكَ
الثّمين".
"تفضّل،
وأنا على استعداد لإجابَتِكَ، لو بقيتَ تسألني حتّى بُزوغ الشّمس".
"وا
عجبي من قوم أنتَ فيهم، بنوُا لأنفسهم صُروحًا مُتعالية؛ مليئة بالكراهيّة،
المُتأجّجة كنيران تأكل الأخضر واليابس، وتركتَ فيهم نبيّكَ دليل محبّة الإنسان
لأخيه الإنسان، والتعاليم التي ما فتئتَ تتحدّث بها، ودوّنتها للرجوع إليها".
تغيّرت
ملامح وجهه، قطّب جبينَهُ، ارتسمت خطوطًا عليه مع ارتفاع حاجِبَيْه للأعلى. لا
أدري.. هل غضب من سُؤالي، أو ممّا عرفَ من حقيقة النّاس الذي كتبَ لهم، وحاول
جاهدًا بثّ أزاهير الحبّ والتآخي الإنسانيّ للعموم.
تهدّج
صوتُه بِبُحّة مكتومةٍ، ذابلةٍ كَسِيرَةٍ ناضحة بأسىً لم يقُله، لكنّي أحسستُ به،
أو هكذا توقّعت، وُقُوفي خلفه أخذني إلى دائرة التّخمينات، والكلام على ذمّتي،
وترقرقتُ دمعة بين جَفْنيْه تُغالبه الهطول إلى مُنحدر خدّيْه؛ كأنّه لم يُمارس
الكلام منذُ مئة سنة، سمعتُه هكذا أظنّ: "يا بُنيّ لن أزيد على ما قيل: لا
يُطاع نبيٌّ في قومه".
اِمْتدّت
يده لإطفاء فتيل شَمْعدانه، في لحظة لفظَتْ شَمْعَتي آخر أنفاسها. صوتٌ غريب أرجفَ
جسديْنا، وأرغمَ جُبران للاستدارة في محاولة منه؛ للتأكّد من حقيقة الصّوت:
"انتبه
لمن خلفك..!!".
واختفى
ظلّي عن جدار خَيْمَتي، وما زال خيالي لاصقًا هناك على جدار غُرفة جُبران، تمنّع
من عودته لي، إِلْحَاحي لم يُجْدِ نتيجةً، صَرفْتُ النّظر عنه مُؤقَّتًا، فطنتُ
لمعصمي وساعته، أضأت شاشة الموبايل، لأجدَ عَقْرَبَاها قد تطابقا، كأنّ الذّكَر
منهما اعتلى ظهر أُنثاه للتزاوج، ومُمارسة غريزته اليوميّة مرّتيْن، المخاضُ الآن
يعتصر وِلادَة الدّقيقة الأولى من اليوم الجديد.
عاصفةٌ
هوجاء من صور الضفادع والقطط والسّلاحف والدّجاج والحمير، اِجْتاحتني بهمجيّتها
الفَظّة، وأعادت فتح أبوابًا جَهَنَّمِيَّةً في ذاكرتي، وجدّدت نَكْشَ ثُقْبٍ
قديمٍ، تَعَالت عليه سِنِي عُمُري بعقلانيَّتِها، وقد ودّعتُ طُيوفَ طَيْشٍ استبدّ
دَهْرًا بتوثّب غرائزي.
..*..
لم تكن هذه الولادة مُبشّرة
بإيذانِ مَوْلدِ فجرٍ جديدٍ. فطنتُ في الحال لمغالبة البول على الخروج، يتزاحَمُ
مع شرودي؛ لاِسْتِراق الوقت المُتوقِّف في ذهني عندَ شرعيَّة، أو لا شَرعِيَّة وِلادةِ
الدّقيقة في هذه اللّحظة مع تَحوُّلاتي البيولوجيّة.
بواعثُ
التفكير تنتشي في رحاب السّكون الهادئ. خيال جُبران لم يَبْرَحني؛ لألتقط أنفاسي في مُستنقع السُّكون
غارقًا بأوحاله الآسِنَة، صوت فيروز حاول شقَّ سُكون المُستنقع، فَشِلَ، وانسحبَ
من المُحاولة الأولى: (سَكَنَ اللّيل، وفي بعض السُّكُونِ، تختبي الأحلام
\\ وسعى البدر، وللبدر عُيون؛ ترصد الأيّام). لا أرى إلّا سُكونًا
يُضمر شيئًا لا أعرفه، شعورٌ بالخوف استبدَّ بي مُجدَّدًا بعدما ذهبت السَّكْرَهْ،
وجاءت الفِكرة؛ إذْ وَجَدت الفُرصةَ مُواتِيَةً لها.
وهل
بقي لنا أحلامًا لتختبي، ضاعت تحت بساطير العساكر، آلهة الرُّعْب. اِحْتَلَّت ضوء
القمر، وعَصَبَتْ عينيْه، واحتكرته لها وحدها، ممنوع على الشّعب رؤية القمر.
وعقارب السّاعة ما زالت في
حالة تزاوج شَبَقِيٍّ شغِفٍ لا يتوقّف.. تزاوج قسريٌّ بما يُشبه التَّزاني المُشَرْعَن،
من خلال خلوات غير شرعيّة.. تحت نظر الآخرين، وحَظِيَ بِمُباركتِهم، ونَيْلَ رِضاهم،
ولم يطالب أحدهم: بإقامة حدّ التَّزاني عليهم.
رشاقة
حركة عقرب الثواني في عجلة من أمره، لرصد المشهديّة من جميع النّقاط. حريصٌ على
المُتابعة، مُكْتَفِيًا بِدوْرِه، فقط يُشاهد ويتحسّر، ويُبارك المولود.
تساؤلي: هل هو فاقد لخصائص ذُكورته؟.
الغريب
أنّه لا يُستثار مما يرى، ويحدث تحت سمعه ونظره، لا يعدو إلّا كونه حارسًا مؤتمنًا لإتمام العمليّة. هو
الشّاهد الصّامت المُشارك.
ما
لي ولوجع الرأس.. وصُداع ملأ رأسي تفكيرًا بعقارب السّاعة؛ فلتذهب هي وعقاربها إلى
الجحيم.
سأنوي
وضع خُطّة للتخلّص منها. خياري الأوّل تحطيمها وَدَقَّها بين حجرين، بعد سنوات لم
أعرف كيف كشفت زوجتي بما نويته، فتدخلت بكامل ثقلها في اللحظة الأخيرة بتهديدي
بأشدّ العقوبات إن فعلتها، وذكّرتني بأنّها هدية من صديقي ولها قيمتها وذكريات
فرحي بها. وفي مرحلة طويلة من المُفاوضات، واللجوء لخيار عرضها للبيع، هو الأجدى،
احتجاجي لم يُجد نفعًا معها: "برأيكِ، وهل ستكون بقيمة ساعة إيلّلي
كُوهين؟". ردّها أسكتني: "لكن حاجتنا الماسّة لثمنها".
بلا
تصويتٍ.. نال القرار إجماعنا بالتزكية، بنسبة تسع وتسعين وفاصلة، كما انتخاباتنا
الدِّيمقراطيّة، التي تركت واحدًا، ولم تُعلِنْ المئة كاملة، أظنّ أنّ الواحد
برأيهم: هو فنار الديمقراطيّة في بلادنا. الواحد الوحيد المُتوحّد لم يُقل: "لا..
بل أشار إلى نعم"، وهو على يقين بأنّ عين حاجب الصندوق الشّفاف؛ ترقبُه
باهتمام.
بعودتي للحظتي في الدّقيقة الأولى، أردتُ مُباركتها؛ فتكلَّمْتُ كثيرًا
بحريّة تامّة، أُذُناي لم تسمعان ما قلتُ، حتّى موضوع الرّغيف، وسبب بقائنا.
اقتحامٌ مُفاجئ، تبيّنتُ هُويّة المُقتحِم. آآآه.. يا لروْعَتِك حمزاتوف..!!
جِئتَ على قدَرِك بالضّبط، ولو تواعدنا لاختلفنا في الميعاد؛ فقط لِتُخبرني:
"القَدَرُ كان طَيِّباً معي، لم أكُنْ مَجنونًا، ولا أعمى، سِوَى أنَي ما
زلتُ أريدُ رؤيةَ الرَّغيفِ بِسِعرٍ أقلَّ، وحياة البَشَر بِسِعْرٍ أغْلى".
مادام
الوقت هنا مقتول على مذبح الانتظار، فما حاجتي لساعة تعيد إليّ توتّري والإحساس
بإهمالي في هدر الوقت، وما سَيَتلُوه من تأنيب ضميري على أمْرٍ مُقرّر من فوق..!!.
لا يد لي فيه مُطلقًا، بل مفروض على الجميع هنا.
غافلتُ زوجتي بعدما اطمأنّت إلى مُوافقتي،
وعلى أطراف المُخيّم المُنزويَة، توارَيْتُ عن الأنظار، بهدوء تامٍّ، وعن سابق
إصرار وتصميم، تركتُ حُطامها هُناكَ، وعُدْت وليس بي ندَمًا عليها. ادّعائي
بضياعها لم يُقنع زوجتي، لكن لن يُخبرها أحدٌ بالمصير الأسود الذي واجهته ساعتي
بنفسها. ولم تُنقذها من جُنون انتقامي، شفاعة الشّافعين فيما لو علموا قبل ذلك.
..*..
فطين:
لا
شكّ أنّك عانيْتَ؛ كما عانى صديقنا أبا فندي في ليلته الأولى في المُخيّم..
أرهقني، وأرهقَ نفسه في آن واحد. فقد ظهرت لي دواخله النَّاثَّة حُزنًا في بكائيّة
جارفة، وكأنّي على موعد عاشُورَائيٍّ بموسم المآتم الحُسَيْنيَّة السَّنويَّة،
أشعرُ بمن يُعاني من آلامٍ تاريخيَّة قديمة مُتواكبَة مع مسيرة أجيال مُتعاقبة،
دُموعها مُتواصلة بلا انقطاع.
تكشّف
لي صديقنا عن حالة إبداعيّة سحبتني إلى تداعيات أفكار القلق، هيّج دواخلي. أبكاني.
مغصٌ
حادّ كسكاكين تُقطّع أحْشائي، عصافيرُ النّوم فَرّت من أعشاش ليلي، أشرقَتِ الشّمسُ،
تباعدَ النُّعاس بمسافات مُنهكة لأعصابي التَّعْبَى أصلًا.
شُعوري
لا يوصف، بمعاينة بُركانه النّاشط بثورانه؛ اِنْهارَت جميع حُصوني بلا مقاومة،
عندما اِمْتدَّ رماده إلى ساحتي؛ فصبغ حياتي بلونه الحزين.
ظنّي
لم يصدُقني هذه المرّة، بأن عشرة سنوات فيها الكِفاية؛ لإخماد بُركانه.
ضحكتُ
من ضحالة تفكيري، بوقوفي مُباشرة على ناصية الحَدَث بِطَزاجَتِه القديمة كأنّه
الآن. أعيشُ الحدث مُتمثِّلًا مأساتنا الكبيرة، التي تُعادل مأساة البشريّة أجمع
منذ بدء الخليقة إلى لحظتنا هذه.
وماذا
سأحكي يا فاضل، وما الذي أستطيعُ إخفاءه عنكَ يا صديقي؟. سَأُرسِلُ لكَ ما أرسلَ لي، علّكَ تُشاركني
إحساسي، لأتأكَّدَ ممَّا حدث لي، أهو خاصٌّ بي، أم سينتقل التأثير لك؟.
حسِبتُ
أن غُربتكم، ورغد العيش سيغيِّرُكُم. أدركتُ أنّني أمام هَرَم لا يتزحزَحُ بِعَنادَةِ
ثباته، وَثِقَلِه. اطمأننتُ إلى أنّ الحقّ لا يموت، وإن ماتَ؛ حِيْلَ بينه وبين
صاحبه؛ بموت أو تباعد زمكانيٍّ.
كما تخبُرني أؤمن بالتَّجْزيء، والحِمْل إذا وُزَّعَ سهُل حَمْلُهُ ونقله.
وأسوأ أنواع التجزئء الثّقيلة على نفسي، المقيتة بِثِقلها، الكريهةُ بنتائجها:
"سايكس بيكو".
هذه المرّة. شهدَ أبو فندي ميلاد الدّقيقة الأولى في اليوم الأوّل له في الخيمَة، لا شكّ عندي بأنّك شهدتَ ما شهِدَ
هوَ؛ فسَتُكملُ بقيّة اللّيلة هذه التي أخبرتكَ عنها، وسيكون الوقت معك، لاستعادة
أفكارك، وإعادة ترتيب أوليّاتها، لتكون شهادتكَ مُترافقة، بل مُتزاوجة عُرفيًّا
بلا عَقْدٍ شَرْعيٍّ مع شهادة أبي فندي.
..*..
فاضل:
الميلاد بداية
انحدار على دَرَجات السُّلّم، ونقصٍ في عمر الوقت والإنسان. لحظتُها تكون مليئةً
فرحًا وسرورًا، ونهايتها تُبلّلها دُموع الفَقْد والخُسران.
فرحٌ وحزنٌ لا
يأتيان معًا. تُباعدُ بينهما بداية ونهاية اللّحظة الوليدة. وقتذاك على ما أذكر..
كتمتُ
انفعالاتي على وقع تلك اللّحظة الفارقة.
حاولتُ
التفكير بهدوء، ربّما تبوء محاولتي بالفشل. على الأغلب هكذا أتوقّع، المؤشِّراتُ
تشيرُ بأدلَّتِها عكس ما أتمنّاه، وعليّ توجيه شراعي من جديد.
فكرة الموت باغتتني هذه
اللّحظة. رغبةٌ صادقةٌ استبدّت بي، وَدِدْتُ صرخةً تَشقُّ نصف الكُرة الأرضيّة
المُظلم، لا بل لو كانت تجتاح النصف الآخر المُعاكس.
انتصبتُ
واقفًا بجانب عمود الخيمة، فأصبحتُ مُتَخَشِّبًا، تماثلنا في الحالة، حواسّي
شغّالة بأدنى درجاتِ طاقَتِها، أعضائي تصلّبَتْ؛ عندما فتحتُ فمي بأقصى مدى اِسْتَطعتُه
اتّساعًا؛ اِرْتدّت صرختي مُتدحرجةً في الاتّجاه المُعاكس إلى داخلي، كقُنبلة
موقوتة على وَشَكِ الانفجار.
اهتزّت أركان الخَيْمة
كادت تتهاوى، عمودُها لم يحتمل ثقل جسمي المُتأرجِح خوف السُّقوط أرضًا، لا مساحة
فارغة تستوعبُ حجمه وثِقَله، صوت زوجتي أيقظني من كبوتي، كأنّ النّوم غادرها مثلي:
"بسم الله.. ما الذي يحدث يا فاضل، ظننتُ زلزالًا ضرب المُخيّم".
أيقنتُ
أنّها قالت شيئًا ما استطعتُ سماعه، ولا هي سمعتْ صُراخي، ولم أسمع كذلك صُراخي مع
"السَيَّاب" في لياليه الأخيرة، قُبيْل احتضاره في المشفى، ورئته تَتَمَزَّق،
وعُمُري يتمزّقُ أيضًا، هو على سريرٍ طَرِيٍّ مُحاطٍ بالعناية، وأنا في خيمة
مجهولة.. في مكان مجهول.. لا شيء يُشجّع على الحياة.. كما لا شيء يُشجّع على
الموت: "كمْ ليلةٍ ناديتُ باسمكَ أيّها الموتُ الرَّهيب// وَوَدِتُ لا طَلَعَ
الشُّروقُ عليّ إِنْ مَالَ الغُروب// واحَسْرتا..! كذا أموتُ..! كَمَا يَجِفُّ نَدَى
الصَّباح..!".
كلانا أمامَ قَبْرِه
الفَاغِرِ فَاهُ لابتلاعنا. المآلُ مُتشابهٌ، ويقيني يفهم ماهيّة القبر؛ فلماذا
نستعجله؟.
الفارق
الوحيد أنّنا أمواتٌ بلا قُبور. هيئة الأمم آَوَتْنا في خيمتها، تُطعمنا. تسقينا، تُعالجنا
بحبّاب الأَسْبرين، حِرصًا منها على حياتنا؛ وللابقاء علينا أحياءَ كالنّمور في
أقفاصِها؛ وكأنّهم يُريدون ترويضنا على الذُلّ، كما في قصّة (النّمور في اليوم
العاشر) لـ"زكريا تامر"، يتحوّل النمر إلى قطٍّ خلال عشرة
أيّام تحت ضغط سياسة التجويع.
إلّا
أنّ صديقًا علّق على قصّة الترويض هذه. ذات لقاء فيسبوكيّ بدردشة عابرة وعلى
الخاصّ طبعًا، أنّ: "النُّمور في اليوم الحادي عشر.. وفي اليوم الحادي عشر
هرَب النِّمْر من قصّة زكريا تامر؛ ليترك حياة القِطَطِ، ويعود نمراً كما كان.
إِنَّما لم يجد الغابات
والأحراش. وعلى أوّل مَزْبَلة اِلْتقى بصديقته النِّمْرة،
التي قالت متسائلةً: كلّنا صِرْنَا قِطَطًا، هل تُحبُّ المزابل؟.
صدر عنه صوتٌ يُشْبِه المُواء،
وأجاب قائلاً: إنْ قُلتُ:(نعم)، أو قلت: (لا(.... ؛ فلن يتغيّر حال الطَّعام على المزابل".
أقعدني
الإرهاق أرضًا مُلتصقًا بالعمود. هدأ اهتزازه. لم يظهر لي خيال اهتزازه ولا
لزوجتي، انطفاء الشّمعة أضاع مُتعة رؤية مشهديّة ربّما لن تتكرّر مرّة أخرى.
يا
لها من امرأة عظيمة. تحاملتْ على متاعب جسمها المُنْهَدّ، صمتُها كصمتِ قَبْرنا
هذا، صَبُورةٌ وهي تُهَدْهِدَني على صَدرِهَا، وتدفع بي إلى فَرْشَتي الإسفنجيّة؛ تُغَطِّيني
بِبَطَّانِيَّتيْن، تمسحُ على جبيني بِلَمْسَة بَلْسميّةٍ؛ ردّتْ بعضي إلى بعضي.
فأنا
لستُ النبيَّ العائد من غَارِهِ مُرتَجِفًا من لقاء الوَحْي، ولا هي خديجة تُدثّرهُ
اِمْتثالًا لطلبه.
..*..
الوسادة
تَئِنُّ تحت وطأة رأسيَ المُثقل هُمومًا وأحزانًا، تتوالى الأفكار بِطَرْد هدوء
الدّماغ؛ للاستجابة لاِنْهِداد أعضاء الجسم المُنهكة من تَعَبٍ؛ وَقِلّة نَوْم على
مدارِ أيَّامٍ سابقة، إلّا قليلًا لا تَفِي بالغرض.
لا ضوء للقمر الآن. العتمة تلفّ الخيْمة بسِتَارٍ
عازلٍ للرُّؤية. هلْ من المُمكن أنّ التيَّار الكُهربائيِّ اِنْقطعَ تمامًا؟. أعمدَتُها
الطَّويلة أوَّل اللَّيل، كانت تنشرُ ضوءَها في محيطها، وَهَجُه الخَافِت يحيطُ بِخَيْمتي.
شاقَنِي تسجيل هذه الذكرى، مَدَدتُ يدي لكتابةِ
شيءٍ كان بنفسي على قِمَاش الخيْمة أمام وجهي، كأنَّ مَاسًّا كُهربائيًّا سَرَى
بها، ارتدَّت بحركة لا شُعوريَّة.
هاتفٌ صاح بي: "لا تكتب.. لو كتبتَها على
جدارِ سِجنٍ؛ لكان أشرف لك". اِسْتَدَرتُ برأسي، زاغت نظراتي في الظلام ضَيَاعًا.
عندما بحثتُ عن قلم، لم أفطَنْ لِنِسْياني له
هناك على طَاوِلتي؛ يُؤنِسُ وِحْدَة أوْراقي الموحِشة الحزينة. بجانب وجهي على
الوِسادة، وجدتُ مساحة مَلْسَاء مُسْتَوية وأنا أتلمَّسُ خَدِّي، وأمسحُ دمعةً
باردةً اِنْزَلَقتْ مُنحدرة قاصِدَة طَرَف شاربي، خَطَّت سُبَّابَتي المُبلّلة
بماء الدّمعة، أحْرُفًا وكلماتٍ على الوِسَادة، ارتياحٌ داخليٌّ لما فَعلتُ،
أغمضتُ عِيْنيّ بمحاولة جادَّة للنَّوم.
لسانُ زوجتي لا يتوقّف عن البسملة، والحَوْقَلة،
والتَضرُّع إلى الله؛ أسمَعُها هامِسةً، وَدِدتُ مُشاركَتِها عبثًا ما اسْتطعتُ. سَكَتَتْ،
ما عُدتُ أسمعها.
من يَمينِ خيمتِنا وَصَلني صوتٌ هامِسٌ بِتَأوُّهاتٍ
مُتقطِّعةٍ، ومُتواصل مرَّةً مع غَنجٍ..: "يا إلهي.. كأنَّهُ..!!".
شريط صُوَر وخَيَالات اِنْثَالت بعرض كما في
صالة السِّينَما، أو مَقْطعًا مُخِلّا على اليوتيوب. أرفعُ رأْسِي لأتأكّد من نوم
زَوْجَتي، لا أودّ أن تسمعَ ما أسمعْ. دقائِقُ قليلةٌ اِخْتَفى العِراك العاطفيّ،
وهدأت العاصفة، لتثور من مكان قريب منّا، عاصفة أخرى، امرأة تستنجدُ بأهل النّخوة،
وضوح صوتها أفصح: "بأنّ أحَدَهم اِقْتَحمَ مَخْدَعَها الخيمة".
أيّ نوع من اللّصوص هذا الشَّابُّ، مُؤكّدٌ
اِطْمئنانه إلى خُلُوّ المكان. بعد
مُنتصفِ اللَّيْلِ معظم النّاس ناموا على الأغلب، القليلُ القليل منهم من يصحو،
لِشَأْنٍ خاصٍّ به.
أصواتُ المُتراكضين للنجدة، وللاِسْتطلاع لما حَدَث.
اِثْنان عَبرَا من جانب الخيمة، أحدهما يقول: "إذا كان من هو بظنّي، هذا
الولد الأزعر كلّ يوم يسطو على خيمة، بعدما يترصّدها نَهارًا، قالوا عنه: أنّ
غايته افتراس النِّساء".
الآخر: "والله هنا كلُّ شيءٍ جائز، لو
أمسكتُه لفصصتُ لحمه عن عظمه".
الأوّل:
"فَلْتَة حُكُم، ولا رادع يردعُ، والشُّرطة لَيْلًا ممنوع عليها الدّخول إلى
عُمق المُخيّم، بأوامر من قيادة المُخيّم".
ردّ عليه: "يبدو لي أنّ هُناك أكثر من واحد،
لأنّه من غير المعقول أن تتكرّر في نفس الوقت في أنحاء مُتباعدة من أطراف
المُخيّم".
اِضْمَحلَّ صوتُهُما. خُطُواتهم المُتسارعة بين
الهرولة والرّكض تباعدت عنّي، اِسْتفاضَتِ الأصواتُ الُمختلطة بتبديد هدوء اللّيْل
على مدار نصف ساعة.
وِسادتي خاليةً منّي، وأنا خالٍ منها؛ فهي
غريبة عنّي لا أدري من أينَ جاؤُوا بها إليّ، ولا أرى فيها أيّ رابط بيننا، إلّا
أنّها تُسْتنِدُ رأسي. لا أدري كيف حدث أنْ كتبتُ عليها بِدَمْعتي..!؟.
غَطَس رأسي بثقله في عُمْق الوِسادة بضغطها بِقُوّة
وعصبيَّة، كيف لي أن أنامَ قرير العين، وأسمعُ ما أسمع. نشيجُ خافتٌ يُحفّز
مشاعري، كانَ عليَّ الخُروج من عَجْزي، والعودة إلى طبيعتي، خاطبتُها: "لا
تَبْتَئِسي يا أمَّ مجدٍ.. عيني سَاهِرةٌ حارِسَةٌ لكم، نَامِي واِطْمئِنّي".
..*..
رأسي مُثقَلٌ حُشِرَت فيه أشياء كثيرة الهامُ منها،
وأغلبها لا فائدة تُرتَجَى منه. أنينُ الوِسَادة بأَحْمال أَثْقَلَتها زِيادة، وهي
مُجْبرَة على ذلك؛ فلا خياراتٍ إضافيَّة لها.
لا أَسْتَهوي سَحْقَها ولا مصلحة لي في ذلك.
ما الحلّ إذا لم تَكُن عَوْنًا لي في مثل هذه الأيَّام الحَرِجَة؟، لا راحة لها مِنِّي
إلَّا إذا غادَرتُ من الخيمة لأمرٍ ما.
كأنها تقول: "ثِقَلُ رأسِكَ أَهْوَنُ ألفَ
مَرَّة مِنْ غَرْزِ زاوية مِرْفَقِكَ في أحشائي، أنتَ تَستمتِعُ باتّكائكَ على جَنْبِكَ،
وأنا أتقطّعُ ألمًا".
وَلَوْلَا المُلامَة لَتَوسَّدتُ حِذائي؛ لِيَبقَى
يحكي لي بحنان دائم: "قِصَّة الطَّريق؛ الذي أوصلني إلى خَيْمة شَبيهةٍ بِخيامٍ.
أماكنُ تواجُدِها لا تختلفُ بشيء عن بعضها أينما كانت..!، هي مُخرجات الحُروب
والنّزاعَات، وكأنّ اليد التي تُشعل فَتِيلَها، هي نفسها تَبْنِيها؟.
كلُّ ما حَوْلي مُثيرُ للرُّعب، خلال ساعةٍ سَمِعتُ
ما سَمِعتُ..!؛ فكيفَ أستطيعُ العَيْش هنا؟. تَوَحُّشٍّ يأخُذُ مَدَاه بأَبْعادٍ
مُخيفةٍ.
لماذا
لا أُفَكِّر بالهروب؟. والله صَدَقُوا، "الهَزيمة ثُلثَيْن المراجل".
الهزيمة ستبقى هزيمة.. انكسار.. اِنْدِحَار بكلّ المعايير، حتَّى وإنْ جمّلوها
وخَفّفوا وِقْعها على نُفوسِنا وقلوبِنا، بقولهم: "نكبة.. نكسة".
"يا
ناس.. إنَّها هزيمة".
جيوشُنا اندحرت وانهزمت أمام العدوّ.. أنا
أنهزمُ أما ضيق العيْش، لا طاقة لي بتبعات هذا الوضع وحدي، مهما كنتُ.. وكنتُ..!!،
لا شكَّ أنّني أضْعُف.. وضَعُفَتْ قُدرة احتمالي، حِملي ثقيل.. زوجة وأولاد
ومسؤوليّات الحفاظ عليهم، وصيانتهم ممّا أخاف، ورأيت بعيني هنا في أوّل يوم ولم
يكتمل..!!. فلأُبَرِّر الهزيمة لنفسي هذه المرّة، رغم قَسَاوَتِها على نفسي، وعلى
رأي: (مُكرَهٌ أخاكَ لا بَطَلْ).
خَدَرٌ ناخِزٌ في عضلات كَتِفِي، أتلمَّسُه..
أَفْرُكُه؛ لتخفيف التَنْميل، بحركة لا إراديَّة اهتزّت يَدي، كأنَّ يَدَ جِنِيّ سَحَبْتها
للأمام، وارتدّت من تِلْقاء نفسها. اِعْتدلتُ لِأَسْتوي جَالِسًا.
منذُ زَمنٍ بعيدٍ، كما أذكرُ ما خَدَرَ لي عُضْو؛
فطنتُ لِمَسْحِ الفرشة التي أنَامُ عليها، بهدوء تامٍّ، وحركاتٍ بطيئةٍ صامتةٍ.. بِحَذَرٍ
شديدٍ؛ لكي لا أُصاب بِجُرحٍ في كَفِّي؛ فَلْأَبْق كَامِدًا على جُروحي، التي لا
أستطيعُ التَّخَلِّي عنها، ولا هي كذلك.
"أوووه..! إنَّها رابِضةٌ على أرضٍ غيرِ
مُستويَةٍ مَليئةٍ بِنُتُوءَاتٍ مِن حَصًى، وبقايا كُتَلٍ تُرابيَّة قاسيةٍ
مُتحجِّرة".
تململتُ مُتثاقلًا؛ لإحساسي بِشيءٍ ضَاغِطٍ كَابِسٍ
على مُؤَخِّرتي، تَزْحَزحتُ من مكاني، لم أتمالك نفسي من الاِضْطِرار لِلاِنْتصاب
قائمًا مُتوازيًا مع عمود وسط الخيمة تمامًا.
العتمةُ تَحجُبُه عنِّي بمسافات تُعادل سفر
سنين. عندما مَدَدتُ يدي لِأَتِّكِئ عليه، خذلتني.. لم تصله. اكتفيتُ بتوازني الذَّاتِيِّ.
رَفعتُ الفَرْشَةَ وما تَحْتَها من قطعة شَادِرٍ
قُماشيَّةٍ؛ لاستخراجِ مجموعةٍ من الحصى بأحجامِها المُختلفة، وقطعة خشبيَّة تحتضنُ
مِسْمارًا ناتِئًا؛ تأكّدتُ أنّه كان يُحاول النّفاذ بِشَقِّ ما فَوْقَه ليصل إِليَّ.
مَهَّدتُ مكانها من التراب الناعم.
في الصّباح سنعملُ ورشةَ عَملٍ جماعيَّة أُسَرِيَّة؛
لإفراغ الخيمة من أغراضنا الأَساسيَّة، والجديدة المُستلمة؛ لتنظيفِ الأرض تَحتَنا،
وتمهيدها حتَّى تصيرَ مُستويةً.
لم أستَطِع سُؤال زَوْجتي، خَوفًا من إقلاقها
معي. يَكفيها مُعاناتها من التَّعب الذي أعجز عن احتماله.
صوتُ
شَخيرٍ عَاليَ الرِّتْمِ. قريبٌ جِدًّا، أظنُّ أنّهُ صادر مِنْ خيمة تقعُ خَلفَنا؛
وَتَّرَني.
ذكّرني بأيام دورة الأغرار بداية الخدمة الإِلْزاميَّة،
كُنَّا ثمانية شباب في مُقتبلِ العُمُرِ محشورون في الخيمة. في مثل هذه السَّاعة كنتُ
أستفيقُ ويغادرني النَّوم. شَخيرُ زملائي يَتَعالى بِوَقْتٍ واحدٍ من الاِثْنينِ،
كما لو أنَّهما على موعد لا يُخْلِفَانه.
يسكتُ عَزْف هذا الذي بِجانِبي؛ ليبدأ من
الجانب الآخر، بِاِتِّفاقٍ غير معلن. اللَّيل مُتواطئٌ على إزعاجي. بِشَخيرهِم المُمتَدِّ
بحبل ذَكراه منذُ عشرين عامًا إلى الآن.
طويلٌ أنتَ يا ليل..!!
دَقائقُك تسيرُ بسرعةِ نَمْلةٍ عَجوزٍ..!!
ما زالت السّاعة تُشير إلى الثالثة، كما ظهرت
لي على شاشة الموبايل.
رغبةٌ
جارِفَةٌ بالهُروبِ.. لكن إلى أين..!؟.
سياجٌ بأسلاكٍ شائكةٍ، وَحِراساتٍ عَسكريَّةٍ
ثابتةٍ على أطراف المُخيَّم بعربات (BMB) على مَدارِ الساعة، العساكرُ يَتأَفَّفُون،
بانتظار انتهاء نَوْبتهم؛ ليذهبوا إلى أهليهم في مناطق مُختلفة من المملكة.
لم يُخالطني أَدْنى خوفٍ من وُجُود هذه الآلة
الصَمَّاء المُخيفة.. هي وعناصرها سَاهِرون على حِمَايتي وأَمْنِي، لا أَرَاهَا
تُكَشِّر لنا عن أَنْيابِها، وتذهب بنا إلى جُنونِها القاتل، كما مثيلتها هُناك في
بلدي، كانت تقتلُ بلا رحمةٍ، تضربُ بكامل قُوَّة جاهزيّتها. عُقدَتُها أنّها لم
تُحارب عدوّنا الإسرائيليِّ لِصَدِّ عُدوانِه، ولا اِسْتَطاعتْ اِسْتِرجاعَ شِبْرًا
واحدًا من الجولان.
صُراخٌ مُفاجِئٌ؛ أَجْفَلَني؛ اهتزَّ جِسمي خَوْفًا
من شيءٍ غيرَ مُتوقَّعٍ. "يااااه..!!". الصوتُ قريبٌ مِنّي ليس خارج
الخيمة، هذه المَرَّة من داخلها، تأكّدتُ أنّها زوجتي هي المصدر، رفعتُ الموبايلَ؛
لاِسْتيضاء الخَيْمَة.
"ما الذي حدَثَ لكِ؟"
"شيءٌ ما..؛ كانَ يحبو على يَدِي، نَفَضتُه،
ظَنَنْتُه عَقْرَبًا، صوتُ ارتطامه على ما أظنّ هُناك في الزاوية المقابلة، خلف المدخل".
بِخُطواتٍ حَذِرَةٍ، اِنْتقلتُ.. فلا أضَعُ
قدمي إلا بِمَكانٍ فارغ قبل انتقالها. أزحتُ الأغراض والأحذية، لم يَطُل البحثُ؛
لأجدَ خُنفساءَ سوداءَ قابعةٍ في نُقطة ضيّقة يَصعبُ إخراجُها. تركتها وشأنها.
..*..
رُبّ لحظة شاردة من سياقها في غفلة من الزّمن؛ تصنع
تاريخًا. تشجّعتُ لفكّ تشابكات خِطامُ باب الخيْمة، دافعُ الحياة له الكلمة
الأخيرة بشكلٍ دائمٍ.
مَضتِ السّاعات في مُراودتي للخلود إلى
النّوم، وأين النّوم للمهموم والمقرور والخائف مثلي أن يجده؟.
مع كلّ عُقدة تنفتح ثغرة صغيرة، تفتح في نفسي
بصيصُ أمل، لكن لا شُعاع من نور يخترق الثُّقوب، مع آخر عُقدة رفعتُ السّتار التي
هي شكل باب وَهْميٍّ؛ لينطلق بَصَري يُسابقني في فراغّ هائلٍ، ما وجدتُ شيئًا بعد
الصّدمة غير المُتوقّعة. بالأمس عندما دخلتُ، كانت هناك أشياء. صوت نبّهني:
"لا تستغرب..!! ما زلتَ في المُخيّم.. أمام خيمتكَ". صحوتُ من ذُهول تعطّلت
معه مشاعر الإحساس بمحيطي. انحنيتُ قليلًا، ويكفيني انحناءات تقوّس قلبي لها.
ارتفعت قدمي قليلًا فوق الأرض؛ لتنقلني
بخطوتها الأولى خارج الخيْمة، ولِتَحُطَّ في فراغ سَدِيميٍّ، لا أدري كم من الزّمن
استغرقها لِتَستقَرَّ على مسافة عشرين سنتمتر، اِنْتصبتْ قامتي بكاملها وُقوفًا. انطلق
لساني: "لا إله إلا الله.. الحمد لله".
مع اِسْتنشاق نسماتٍ رقيقةٍ مفعمةٍ بروح
الحياة. اِنْتعاش غريق أنجدته الأنفاس الأخيرة. رغبةٌ عارمة في عبِّ المزيد من
الهواء الطازج لم يستنشقه إلّا القِلَّة القليلة. افترشتُ الأرض كذلك برغبة.
ممارسةُ الحياة باستعادة فضاءاتها ليس سهلًا. رطوبة التراب تتسلَّل إلى دواخلي.
طيفٌ عابرٌ اقتحم لحظتي.. "اللّعنة..".
"كأنَّ شوقَ لقاءٍ قديمٍ..!!".
"مرحبًا بكَ عزيزي.. وأنا كذلك، منذ فترة
اِسْتوقفتني مقولتكَ على صفحات الفيسبوك: "أنا لستُ أنا، كما عهدتُ نفسي في
الماضي. لا أعلمُ كيف تكوّنَ هذا الشعور فِيَّ، ولا كيف تنامى. لم أتغيّر إراديًّا
بالتأكيد؛ فأنا مثل بقيَّة البشر، أطرقُ بمطرقةِ زُملائي البشر، ومطرقةٍ أخرى
تحملها الظُّروف الطارئة؛ فتتشكَّلُ نفسي، هكذا بأشكال تحكمها الصدفة العمياء"*.
أتابع اِسْترسالي مع نفسي، لم يحضر فُؤاد
الآن، ولم أَرَهُ يقف أمامي، ولا أعرفُ نبرة صوته أبدًا: "كأنّني طلبتُ منكَ
أن تكتب، أو أنّ لقاءً روحيًّا في عوالم الغيب حصل بيننا؛ لتوصيف ما أنا فيه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الروائي
فؤاد التكرلي. اقتباس عن رواية(الأوجاع والمسرّات)
هلوساتُ آخر اللّيل.. فطنتُ لأتلمّس نفسي،
وجدتُ خاتمي على اِصْبعي، تذكّرتُ أنّني أنا فِعلًا. بالضَبط، مضيتُ بالتحقّقِ،
آه.. هذا شاربي سأحلقهُ في أوّل فُرصة، كِذْبة طوني حنّا: "خَلّي الشوارب
ع جنب"، لم تَعُد سوى شَعْرٍ قاسٍ غير مرغوب فيه بِوَجهي، شعر رأسي أيضًا
تلمَّسَتْه يَدِي، تأكّدتُ أنّه اِبْيَضّ. غادره سواده إلى غير رجعة.
أمُّ مجْدٍ زَحفَتْ إلى جانبي رغبةً بالأُنس
المُفتقَد بيننا، تُمسِكُ بكتفي، تبًّا لقماش الخيمة يفصل بيننا، يمنع تَوتّر الشُّحنات
الإيجابيّة حتّى السلبيّة لم تصل بيننا. سُباتُ مشاعر وأحاسيس، وأعضاء جسمي،
وجسمها أكيد مثل جسمي. مؤشّرات الحضيض تتوقّف مُتخشّبة في قاع مُستوياتها الدُنيا. لا أدري كم من الوقت غِبْنا في إغفاءة.
طافَ بنا طائفٌ، لم أتبيّن ملامحه بدقّة، مرّ
من أمامنا، أنا والخيمة وأمّ مجد زوجتي، كان يُردِّد شيئًا جميلًا أثلج صدري، لكن
لا أدري من كان يُحادث، ما رأيتُ أحدًا برفقته: "من الحكمة على ضوء
تطوّرات الزّمن: أن نسعدَ بشُروق الشْمس، وأن نُحاول رؤية أنفسنا بأبهى صورة نأنسُ
إليها".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ
والمفكر عبدالمجيد جرادات. اقتباس من مقالة له.
الصحراءُ
فضاءٌ بلا حدود للتحرّر الإنسانيّ، سِرٌّ عظيمٌ مُنْطَوٍ على غُموضه، مُستعصٍ على
أوهام الخائفين، تتجلّى أقصى درجات الخلاص البشريّ فيها، لا اِنْتصار يُحَقِّقه
الإنسانُ على نفسه إلّا فيها.
الصحراء خيار الأشِدَّاء صَفِيّو السّريرة،
وما سرُّ الحنين، اِنْتقلتْ عدوى حُبّها لي
بِشَغَفٍ، كما مَيْسون المَشْغُوفة هُيامًا بها، اِنْفلتَتْ مشاعري خارج سَيْطرتي؛
للتحليق بعيدًا ليس بِنِيَّة الهُروب من واقعنا، ولا لِدَفْن رأْسي في الرّمال.
اِنْخرَطُّتُ في سَرْدٍ لِزَوْجتي، أقربُ
لِلهَمْسِ، رغبة عارمة للكلام، اللّحظة مُشجِّعة، كنتُ مُتأكِّدًا أنّها
سَتَسْمَعُني حَتْمًا، لِقُربها منّي حَدَّ الالتصاق.
عينايَ ساهمتان في فَراغ السّماء. تتسّع رُؤى العقل بِاتِّساع السّماء
والصّحراء، القاسم المُشترك بينهما الحُريّة. اِنْطلاقٌ جُنونيٌّ صاعقٌ، عَصفَ
بذهني بعد ذُبولٍ مُؤقَّتٍ خلال الفترة الماضية.
اِتِّقادُ
ذاكرتي المُتخمَة تَعَبًا. اِشْتعالُ نشاط خارجٌ عن سِياق ما نحن فيه، ما الذي جاء
بميسون الكلبيّة، وبيتها في صحراء نجد، وحياة البساطة وقراءة العين التي اِفتقدتها
في دمشق ذات النّعيم الموصوفة بجنّة الله في أرضه.
لهفة ممزوجة بدموعه المليئة بالأشواق، وكانت جُعبته
ملآى باستحضار هناءة العَيْش والإقامة، ومُفكَّرَتِّه تحكي التّاريخ والأمجاد، منذ
أيّام مَيْسُون؛ التي ما زالت تتنّسم عبير الصّحراء، كأنّها لم تطرب: لــ "هذي
دمشق"، و "سائليني"، ولا "عبق التّاريخ يا أمّ السّنا",
ولا "سلام من صبا بردى"، ولا المُتنبي وأبي تمّام.
مع كلّ ما اِسْتَحضرني الآن من عاشقي دمشق؛ ألتمسُ
لها العُذر، الحنينُ حرّاقٌ.. الشّوْقُ جارفٌ، تَلَوْتُ بِتَلذّذٍ، والجوّ مُشجّعٌ
لتعزية نفسي، في مُحاولة لِلْتَأقلُم:
"لَبَيتٌ
تَخفِقُ الأريــــــــــــــاحُ فيه \\ أَحَـــــــــــبُّ إليَّ مِن قَصــــــــــــــــــــــــــــرٍ
مُنيــــــــــــــــــــفِ
ولُبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيـــــــــــــــــــــــــني \\ أَحَـبُّ إليَّ مِن لُبْــــــــــسِ الشُّــــــــــــــــــــــــــــــفـوفِ
وأكلُ كُسَــــــــــيرَةٍ مِن كَسرِ بيتي \\ أحــــــــبُّ إلــــــي
مِـــــــــن أكْــــــــــــــلِ الرَّغيـــــــــــــفِ
وأصــــــواتُ الريـــــــاحِ بِكُلِّ فَــــجٍّ \\ أحــــــــــــــبُّ إليّ مِن نَقــــــــــــــــــــــــرِ
الدُّفــــــــــــــــــــــوفِ
وكَلــــــــــــــــبٌ يَنــــــــــــــــــبَحُ الطُّراقَ
دونـــــــــــي \\ أحـــــــــــــــــــــــبُّ إليَّ مِن قِـــــــــطٍّ أليـــــــــــــــــــــفِ
وخَرْقٌ مِن بنــــــــي عَمّـــــــــــي نَـحيــــــــفٌ \\ أحــــــبُّ
إليَّ مِن عِلـْــــــــــــجٍ عَلــُــــــــــــــــــــــــــــوفِ
خُشونَةُ عِيشَتي في البَدْوِ أشهى\\ إلى نفسي مِن العيشِ الظَّريــــــــــــــــــــــف".
البشرُ عُمومًا يفرّون من قساوة العيش في
الصّحراء، إلّا أصحابها. الطّامعون يأتون من أطراف الدُّنيا من وراء البِّحار؛
تحدوهم أحلام السيّطرة، وللاستحواذ على الثّروات؛ فَيَقْتَتِلون عليها، وأهلها يُدافعون
عنها ببسالة؛ بكلّ بساطة بلا فلسفة وتحليلات: "لأنّها وطنهم".
عمُر المُختار هل مات من أجل رمال..!!؟
وما الذي حدا بأبي ذرٍّ الغِفاريّ بالعودة إليها
بعد سنوات قضاها في دمشق..؟
دافعوا عن حُريّتهم.. دافعوا عن ميدان مسقط
رؤوسهم في خيمة؛ كانت ذات يوم في مكان، ترتحل بلا توقّف. بلا حدود وحواجز وتأشيرات
عبور لخطوط حُدودٍ وَهميَّةٍ، رُسمت هُناك خارج أوطاننا، بأقلام مُذَهَبَّةٍ جلبت
البُؤس، والتفرقة بين الأهل في كانتونات، ومُسميّات ذات تابعيّات مُختلفة؛ فماذا
لو أنّ أبا ذَرٍّ أراد العودة الآن إلى دياره، من المُؤكّد أنّه لن يصل، حتّى لو
كان الرّسول بنفسه لن يُسْمَح له باختراق الحدود، حرس الحدود ساهر على سلامة
الحدود، ومنافذ العبور المسموحة، لا تتعامل إلّا بالإثباتات الشخصيّة، والتأشيرات،
وأختام العبور والمُغادرة.
صُراخُ استغاثة شقَّ سكون صمتٍ أحببت
الاسترسال فيه لأفضفض همومي لزوجتي، التي جفلت مذعورة، أدركتُ أنّها لم تسمع شيئًا
مما قلتُ.
الأقدام تَتراكضُ، باتّجاه مصدر الصّوت المُتوقّع،
وصلني استفسار من أحد: "ما الذي حدث؟". سمعتُ من أجاب: "خيمة تحترق".
لُهَاثُهم يتصاعد في صدورهم، صعّد أنفاسي حُزنًا على صدمة الحريق، من هَرَبَ من
بيته خوفًا، طمعًا في ملاذ آمن.. يموتُ احتراقًا هو وأطفاله، يا لَبُؤسَ خيْمةٍ مُسَخّمةٍ،
نسمة حزينة تحمل إلى أنفي رائحة شِواء.. يا إلهي لحمٌ يحترق، دموعي بلا استئذان تُحاول
إطفاء لهيب قلبيْنا أنا وزوجتي.
صَحْراؤُنا كُنزُنا لم تَعُد سوى سِجْنًا لنا،
قيّدت حُريّتنا، هربنا لِنِنْجُوَ بأرواحنا من اِسْتعبادٍ مُحقّق لنا ولأطفالنا، إلى
ملجأ شبيه بسجن مُصغُّر محاط بأسلاك وحُرّاس وبُوابة كبيرة تسمح بالدخول والخروج
من خلالها؛ علاقة كراهيّة وليدة رائحة الشّواء التي زكمت أنوفنا، لو لا فراغ بطني
لما تردّدت في صدِّ اِستفراغ ما به. لا شيء يُشجّعني على الأقلّ في هذه اللّحظة بأن
أُدافع عن سجني، ولن أفتديه لا بدمي ولا بمالي، حتّى ولا بالكلام دِفاعًا عنه.
فما زلتُ أفكّرُ في مساحة ما هو مُمكنٌ ومُتاح
لنا، رغم مساحة الحِرمان المُتّسعة بمساحة صحراء بلا نهاية، المحصور بحدود خيْمة..
خيمة فقط.
..*..
مئتا متر تفصلُني
عن الحمّامات العامّة، بعد ساعة من جلوسي على الأرض أمام الخيمة. يدُ زوجتي ما
زالت قابضة على كتفي، رقبتُها مُسترخيةٌ المتاعب أثقلت رأسَهَا، أخيرًا وَجَدتْ له محطَّة يرتاح فيها.
نُسيماتُ الهواء قبل قليل كانت مُنعشةً، لم
يكتمل فِعلها في نفسي، بل انقلبت الأمور عكس ذلك تمامًا، وعلى ما أظنُّ أنّ زوجتي
أيضًا اِسْتَحوذَتْها الحالة، بلاغة صمتُها المُطبِق كفاية.
تَلَوْنا تَراتيلُنَا في محراب الصَّمت..
ساعات السَّحَر برجاء، لا أستطيعُ وصفه بالصّادق، ربّما هو عكس هذا، ولكنّنا
تَلوْنا بألسنَتِنا المُستجدِيَة ضعفنا، وقلّة حيلتنا.
قلّما
كنتُ في مثل هذا الوقت من ليلة ما، وما اِنْقطعتُ لها.
بأبي وأمّي.. من يجلسُ لها..!! إلّا قائِمًا؛
يتلو ويتهجَّدُ بمناجاتَه الرّاجيةِ الخائفةِ الرَّاجفةِ المُرتعشةِ. مَهَابة الوُقُوف
وجهًا لوجه مع الخالق.
إذا أجزتُ لنفسي بتساؤل، ليس من باب التشاؤم:
هل يوجد هنا في خيمة ما، من هذهِ العَيِّنة؟.
المُشاهدات الأولى قبل ساعات؛ حكَتْ سيرةً
أخرى مُتعاكسةً مع استرسالي الذي أُفكّرُ به.
يا لهف نفسي..!! على موقِفٍ حُرِم من بركاته
آخرين خارج الدَّائرة.
وكأنّي بالثلاثة عندما اِنْسَدَّ بابُ مغارَتِهم
بصخرةٍ عظيمةٍ؛ عجزُوا عن زحزحتها لِيَخرجوا؛ لما يئسوا.. ورأوا الموتَ المُحقَّقَ
دَعَوْا الله بِأَرْجَى عمل عمله كلٌّ منهم في حياته؛ فانفرجت اِتِّساعًا؛ فخرجوا.
وما نحن فيه؛ ألا يستحقّ البحث عن عمل لا
يُضَاهَى في سجلّاتِ أعمالنا، إنْ وُجِدَ منه شيءٌ منه في سيرتِنَا؟. تناقضاتٌ مُربِكَةٌ سَوَّدَتِ في وجهي مَحَاسِنِ
المكان.
رغبةُ التَبوُّل مُلحَّة تتساوق مع رغبة جَدِيَّة
لمُغادرتِه؛ سَاقَتْني كُرْهًا إلى الحمّام، انطبعت صورة القذارة منذُ أوّل ساعة
احتجتُ فيها لقضاء حاجتي الضروريّة عند وصولنا.
..*..
في الظلام لا يُمكنُ اِصْطناعَ
هَيْبَةٍ لي، لا أريدُ، ولا أحبُّ تقليد الأقوياء، إذا ما اِسْتطاعُوا اِصْطناعَ
أيَّ لَوْنٍ من التواضُعِ المُزيَّف.
عَالَمِي هُنا لَيْس على
هيئَةِ نَمُوذَجِي الأصليِّ الذي كنتُ عليه هناك. بل أرى نفسي في لُجّة عالمٍ من
المُخادعينَ، والدَجَّالينَ من كلِّ نَوْعٍ، لا سِيَّما المُنفلتين زُعَماء الشَّغَب
والفساد.
حينما اِسْتُبعِدُوا تراجَعُوا مسافات سوء.
ولمّا بَدَأ ظُهورُ يَباسِ الحَقْلِ، واِنْتهاء اِخْضِرار الرَّبيع. تباطُؤ الحَمَاس،
وخُفُوت النُّور من ساحات حياتنا؛ وَضَعَنا جَنْبًا إلى جَنْبٍ في المُستنقَعِ القَذِر.
رُطوبةُ النَّسائِمِ حَمَلت روائحَ كَريهةٍ؛ قَذَفَتْها
في جميع الاِتّجاهاتِ؛ قَطَعَتْ اِسْتغراقي.. فيما كنتُ في وَقْفةِ صَحْوٍ بعد سَكْرَةٍ،
وغَطَّت بقوّة نَفَاذِها على رائحة الشّواء، التي عَشْعَشت في أنفي، واِسْتدرَّت
دمعتي البليدة.
القاذورات أشدُّ فتكًا.. الخَرَابُ أَسهلُ ألفَ
مَرَّة من البناء. مع كُلِّ خُطوةٍ تتوالدُ الأفكار، وتنفتحُ مساحاتٌ واسعةٌ لنظراتي
السّاهمة في فراغ الظلام الذي يلُفَّني، آثرتُ التَنقُّل بها ما بين واحدة أستجدي
بها طريقي، وأُخرى إلى السَّماء؛ لأَسْتَجْدي بَابَها الذي لا يُغلقُ؛ لاِسْتيعابِ
كُلِّ دعواتِ المظلومين، والمقهورين مهما كانت أعدادهم بلا إحصائيَّات وتدقيق..
ضاقت نفسي عليَّ كثقب إبرة.
بعدما دخلنا هنا. أغلقوا الباب خَلفنَا، مع إجراءات
التفتيش والتدقيق، والأسئلة، التي دوّنوها في أضابير، ومَلفَّاتٍ كَمْبيوتَريّة.
مع كلّ خطوة للأمام، يَثُورُ القرف المُختزن
في دِمَاغي منذ زمان بعيد. فَوْضَويّة الرَّوائح، لا تحترم طبيعة المكان، ولا
الوقت الذي تَنطلقُ فيه.
مُعاناة المُسافر إلى المُدن، الحمَّامات
العامّة محصورة في أماكن مُتباعدة، والحاجة مُلْجِئَة لدخولها، جميعها مُتشابهة
بصورتها المُوحدة، إلى أن جاء عصر التطوير والتحديث، والتنمية المُسْتَدامة. مَوْضَةُ
شعارات مرحليَّة شاعَت. أثمرَتْ فأينعت فسادًا جديدًا ببيع مُمتلكاتِ الدَّولةِ بأثْمانِ
بَخِسَةٍ. خَصْخَصُوا الحمّامات العامَّة، أصبحَ لِكلِّ منها مُدير يجلس وراء
طاولةٍ عتيقةٍ من مُخلَّفات المزابل، بملابسه المُنْبِئَة عن سوء حاله، هو لا
يستجدي الزَّبون بالدَفْع، بل وَضَع لَافِتَاتٍ واضحةٍ بخط مقروء: "اِدْفَع
وَاُدْخُل".
يثيرون شفقتي لغلبة ظنّي فُقدانِهم حاسّة الشّمِّ،
تَسَاوت في أنوفِهِم رائحةُ الحَمَّاماتِ، مع رائحَةِ الكالونياء، أو العطر الرَّخيص
إذا ما رشّوهُ على أنفسهم.
أمشي بِبُطءٍ.. خُطوة للأمام وأخرى للخلف، لِتَبْطيء
وُصُولي إلى المكان الذي نُسَميِّه بيتَ الرَّاحة.
وأين هي الرَّاحة مع الأذى الأكبر منها؟.
صدمة الدُّخول أذهلتني. صَفَّان من الغُرَف
الصَّغيرةِ جدًّا، شبيهة بزنازين السُّجونِ، لا تتعدَّى مساحتها المتر طولًا،
والمتر عرضًا.
أبوابُ العَدَد الأكبر منها مَفقود، من غير
المعقول أنّها بلا أبواب أصلًا، عندَ كُلِّ بابٍ؛ أُوجّه ضوء الموبايل للاستطلاع،
إذا كان بلا باب لا أدخله، وآخَر يَغُصُّ فَيَضانًا، وآخر بلا حَنَفِيَّة.
أوه.. يا لها مُصادفات..!!، تفسيرُ الأمر الغامض
بحاجة للوقت لأفهمه. بالأمسِ رأيتُ بعضَ الكَرَفانات، والخِيَام لها سِيَاجَاتٍ من
الأخشاب، والأسلاك، والفَرْشاتِ الإسْفِنْجِيَّة، وأبواب خارجيَّة، شبيهة بأبواب
الحَمَّامات هذه، ولا أنْسَى الخَيْمات المُميَّزةِ بحجمِها الذي يفوقُ حجم خيمتي
بمرّتيْن أو ثلاث.
في السُّوق الرَّئيس المُكوَّن من الخيم على
جانبيْه، الكثير من أرفُفِ المحلَّات التِجاريَّة من مُكوِّناتٍ؛ أعادوا تدويرها
في استخدامات جديدة.
سمعتُ شابَّانِ يتحدّثان، كانَا واقفيْن أمام
خَيْمة كبيرة بَنَتْها المُفوضِيَّة كمسجِدٍ للصلاة، لم يبق منهُ إلَّا الأعمدة
المعدنيَّة المتينة المغروزة بالأرض بواسطة الإسمنت المُسلّح.
فما يُرتجي مِمَّن يسرق شيئًا عليه مُسمَّى:
الله؟.
أتوارى من خَجَلي، عندما أقابلُ ربِّي بعد
قليل.. هل سأشكو له سوءُ حالي، أمْ من سوءِ مُجتمَعٍ منكوبٍ من أعدائه؟.
لا أشكُّ أنّ هُناك الأخيار.. شِرِّيرٌ واحدٌ يكفي
لِلْتغطيةِ على كُلِّ الفضائل الضّائعة في حَمْأةِ المُستنقع.
بعد تردُّدٍ طويلٍ في دُخول أيّ حَمَّام؛ تأكَّدتُ
من اِنْقطاع الماء، الخزَّانات فارغة، في الصَّباح حتَّى تمتلِئَ من جديد.
لا حياة بلا طهارة. رجعتُ لإحضار قارورة
ماء. والهواجس هذه سيطرت عليَّ أيضًا
أثناء عَوْدتي؛ لإنجاز راحة جَسَدي، وأستعدُّ بالوُضوءِ للقاءِ ربِّي في فَجْرِه
المُتكرّر بلا توقّف، ولا تلكُّؤٍ.
ستكونُ فرصة لانتشالي من واقعٍ مجنونٍ.
سأقول له كلّ شيء، ولن أتردَّد أبدًا.
..*..
تمنيّتُ
لو أنّ يَدِي طَالَتْ عقاربَ السَّاعاتِ جميعًا؛ لانتزعتها من أماكِنَها، وَرَميْتُ
بها في أُتُون المحْارقِ العُظمى المُدمّرة لكلّ أثَرٍ لَها، وَلَنْ أَدَعَ هياكلَ
السَّاعات أيضًا، بجميعِ أَشْكالِها، وأنواعِها وأحجامِها وماركاتِها العَالميَّة
الشَّهيرة، إلى المَوْصُوفة بِمَالِ الكِيلُو، ولن أستثني منها حتّى "بيغ بين"،
رَغْم أنِّي من زَمَن طويلٍ، لم أَسْتَمتِع إلى نَشَراتِ الأخبار خاصّة من إذاعة لَنْدُن
(BBC).
وما زالت دَقَّاتُ جَرَسِها تَطِنُّ في أُذُنيّ، مقاطعتي
لنشرات الأخبار عُمومًا لم تمنعني من صمّ أذنيَّ، لتخفيف وَهْجُ صَدَى ضربات
جَرَسِها القويّة؛ امتثالًا لِرَغْبَتي في الحِفاظ على صِحَتِي، ولكي لا تعاجِلَني
الجَلْطَة القلبيّة، عندها سأقضي ما تَبَقَّى لي من حياتي بين عيادات الأطباء،
والاستشارات، والخوف مِن كُلِّ شيء، حتّى طَالَت شُكوكي نَسْمَة الهواء، ولُقمة
الخبز، وتخفيض الكولسترول والسُّكَّر والضَّغط.
الإحساس
بالوقت قاتِلٌ إذا خامرني شعورٌ بِتَباطُؤ سَيْر العَقَارب. الدَّقيقةُ الواحدة
تعملُ تَحطيمًا بتفكيري؛ بِمَا تفتَحُ من اِمْتداداتٍ. أنا في غِنًى عنها؛ تُعادلُ
لحظةَ نَزْعي الأخير، مع مّغادرة آخر أنفاسي، تحت رَقَابةِ عَيْنيَّ الزَّائغتين
السَّاهِمَتَيْن في لا شيء ذي أهميّة تُذْكَر.
رغبة الموتُ
العارمة اجتاحتني مع مُلامَسَة ماءِ الوُضُوء لوجهي. لم يخطر على بالي في زحمة
المُستَجَّداتِ منذ وُصولنا إلى هنا، التفكير بالموتِ أيضًا عمل شاقّ. ما حاجتي لِأَتمنَّى
الموْتَ الآن.. أَلَسْتُ في عِدادِ الأَمْواتِ حقيقةً..!!؟.
ما إن وقفتُ بين يدي رَبِّي عَاقِدًا النِيَّة
على أداء أوَّلِ فَرْضِ صلاةٍ لي في خيمة. ما إن: "اِسْتعذتُ من
الشَّيْطان". اِنْتَصَبَ أمامي مُحتجًّا في محاولاته اليائسة، لإقْناعي بعدم
مسؤوليّته على حالتي: "ما علاقتي بما حصل لكَ؛ لِتَستَعيذَ منِّي..!!؟".
"لاشكَّ
لديَّ بعدم إخلائك من المسؤوليّة أو جُزْءٍ منها".
"أستغربُ
حُكمَكَ الجائر بِحَقّي، اذهب وتأكد من اليد القاتلة، أنا لم أمدّ يدي لأقتل
إنسانًا واحدًا، أنا بريء من دمائِكم،
كبراءة الذئب من دم يوسف".
كلامُ الملعونِ
قريبٌ من العقل، مُحاولاتِه معي ستبوء بالفشل: "أنتَ.. أنتَ يقينًا. لا أدنى
براءة في نفسي، وأنت تُغري أتباعكَ، توسوسُ لهم".
اِمْتَعضَ من
رَدِّي الصَّارم عليه، لكنّه لم يَيْأَس، تابع: "راجع موقفكَ، وتبصَّر بمن هو
عدوّكَ الحقيقيّ، الذي أخرجكَ إلى هُنا، وقَصَفَ بيتِك، وسَجَنَ إخْوتَكَ، وقَتَلَ
أقرباءَكَ. وفَعَلَ.. وفَعَل الكثير".
"اِسْتَعْذْتُ ثانيةً".
اِمْتقعَ وجهُه
الذي بَدَا يتلاشَى من أمامي، يبدو أنّهُ لم يحصل على نتيجة بِحَرفِ رُؤيتي،
تابعتُ: "مثلما أعرِفُ من هو عدوّي المُباشر، وأنتَ في صَفِّه بطريق غير
مُباشر".
ذهبَ مُسرعًا إلى
ساحاتِ تفكيري.. لكنّ صدى صوته، ما زال يقرعُ سمعي: "لم أَكُنْ أنَا من أقمتُ
المُخيَّم، ولا صنعتُ لكَ الخَيْمة.. ولم أَسْرِق أبوابَ الحمَّامات.. ولا من
استخدم الماءَ بِشَراهَةٍ، وأَهْدَرَ نصيبَ إخوانه، ولا.. ولا.. راجع نفسكَ للتأكُّد..!!".
وِجهةُ نظره،
وحُرقةُ قلبه؛ جعلتني أتوقَّفُ عنِ اِتِّهامه، وتوجيه اِهْتمامي إلى جِهَة أخرى.
"يريدُ
تبرئةَ نفسِه من أفعالٍ, فِعْلًا.. هو لم يَرتَكِب شيئًا منها، لكنَّه نَبَّهني
إلى أشياء جديرةٍ بالاِهْتمام؛ لتبقى على طاولة البحث، أستطيعُ بوضوح تامٍّ أنْ أُشيرَ
على المَقْصودِ بكلامه.. وأوجِّهَ له الاِتِّهام...!".
..*..
مع كلِّ قطرةِ من ماء الوُضوء تَتَساقط ذُنوبي الوَسِخة في
المُستنقع القَذِر؛ لكي لا تُلوّث طُهْر الصَّحراء، كما يفعل الآخرون. بحنان سمعتُ
صوت ارتطام القطرات على أرضيَّة الحَوْض، طرطشتُها نغمة مختلفة؛ أجبرتني للانتباه
الدَّقيق للمرّة الأولى في حياتي.
إدمانُ الأشياء يُغشّيها بغلالة من عمى البصيرة، جماليّة
منسيّة، ليتني أحسستُ بمُتعتها سابقًا، ربّما أصبحتُ شاعرًا، أو رسَّامًا
تشكيليًّا مُميَّزًا بإظهار شفافيَّة القَطْرة الواحدة، وأجزائها المُتكسّرة عند اِرْتطامها
على سَطْح قاسٍ.
تَتَوارَى مُتلألِئَةً،
كَنجومٍ مُتهاويةٍ من السَّمَاء في لَيْلٍ صافٍ. اِنْعكاسٌ شحيحٌ من ضَوْء شاشَةِ
الموبايل؛ اِرْتسمت لوحةٌ سُورياليَّةٌ في ذهني، كَحبَّاب عِقْدٍ ثمينٍ؛ انفرطت حَبَّاته
مُتَناثرة بفوضويّة يَصعُبُ جَمعُها ثانِيةً.
القطرات تنتظم
من جديد بعد تناثرها، وبتسارعٍ مفروضٍ عليها بقوّة، فتسلكُ طريقها طوْعًا عبر
المصرف بسهولة؛ لتختلط هناك مُكرهة مع بقايا البشر الكريهة.
لَيْتَني
أستطيعُ جمعها للاِحْتفاظ بها، لأنَّها تحملُ ذُنوبي التي أعرفُها؛ فَلتبقَ ذُنوبي
على طهارتها.
عَقَدتُ النِيَّةَ
تعلُّم الرَّسْم في المُستقبل إذا أدْركتُه أو شيئًا منه؛ فقط من أجل تَوْثيق هذه
المَشْهديَّة النّادرة بفرادتها، ومهما شَرَحتُ حقيقة مشاعري عنها لأَقْوى التَشْكيليَّينَ؛
فلا أتصَّورُ اِسْتطاعته لترجمةِ إِحْسَاسي الدَّاخليَّ؛ فَلْأَضَع بَصْمَتي بِنَفسي
مهما كلَّفني الثَّمن.
..*..
كُلُّ شخصٍ يستطيع أن يفعل كثيرًا من الأشياء، إلَّا عند
الصلاة؛ فإنّه يتركها جميعًا خارج إطار ذاتِه؛ ليكون في إطار الذَّاتِ الإلهيَّة.
هكذا يُفترَض. الأمر مُختلفٌ هُنا.. الخروج من الدَّائِرة الضيِّقَة، والدُّخول في
أوْسَع منها، يستوجبُ اِسْتجماع الطَّاقات الدَّاخليَّة جميعها. وتوجيهها إلى
المركز، باِنْتباهٍ شديدٍ.
كما تصاغرت
الدّنيا لتجتمع تحت سقف خيمة. تدنو السّماء بتقاربها حد الانطباق على الخيمة. لتلقط
نفحات الأرواح المُتعبة المُتوجّهة لأبواب السّماء ساعيةً لبثّ شَكْواها، واِسْتِمداد
الاِسْتقرار والهدوء في رِحابها.
ما زالت الأعضاء
رطبة بماء الوضوء. ومن أطراف غُرّتِه تتقاطر حُبيبات ممّا تبقّى على جبهته. هو مشغولٌ
لم ينتبه لِدَغْدغتِها، ولم يفطن لمسحها ولو بطرف كُمّهِ. فضلًا أنّه لم يبحث عن
البشكير لتنشيف وجهه، تذكّر.. ويقينه بأنّه لن يجده بسهولة في مثل هذه السّاعة، وصُعوبة
الحركة داخل الخيْمة. المساحة مشغولة كلّها بالفُرُش والبَطَّانيَّات.
النّداء الخالد
ينطلقُ من المئذنة الشّامخة في القرية المُجاورة للمخيّم. بعد ثَوانٍ قليلة لم
تتعدّ نصف دقيقة. اِرْتفعَ الأذان من مسجد المُخيّم. إجابة المؤذّنين لسانه يتحرّك
بالكلمات، مع كلّ كلمة تخرج منه، تفتح نافذة في روحه؛ فتتطاير منها المتاعب والقلق.
أعماقُ أعماقِه عادتْ بِكْرًا شيئًا فشيئًا، ما إن ختم ترديده مع انتهاء المُؤذّن.
ارتفعت يداه للإمساك بحبال الحقّ بالدّعاء.
بالأمس انطلق الأذان في مسجد قريب من السّوق
الرّئيس، كنتُ مشغول الذهن. بعضُ من مررتُ بهم كان يُجيب مُردِّدًا مع المؤذّن،
وآخر يستحثُّ خُطى صديقه: "لنلحق تجديد الوُضوء، قبل الإقامة".
آخر سمعتُه يقول لصديقه: "هيّا استعجل. لنصل قبل
وصول المُصلّين، أريدُ أن أخبر الشّيخ لكي يتفرّغ معنا مساء هذا اليوم، لعقد قِرانِ
اِبْنتي على ابن أختي". صديقه مُستغربًا: "ما شاء الله، صارت اسم الله
عليه عروسة. كم أكمَلَتْ من العُمر؟".
"أربع عشرة سنة". "أمَا زالت صغيرة؟". "لا أبدًا سنّها مُناسب، والشّابُ رائع. ولا أريدُ أن يَفْلتَ منّا، وزواج البنت سِتْرٌ لها، وتلتهي بحياتها إذا حملت مباشرة. ولا تنتبه إلّا لنفسها". لمّا لم يجد مجالًا لمزيد من النّقاش في اللّحظة الأخيرة، باركَ خطوة صديقه: "ألف مبارك.. ربّي يُتمّم على خير".
صديقه: "المُؤذِّن هذا ابن حلال ومحترم؛ فقد أسدى لي معروفًا لن أنساهُ ما حَيِيتُ، ورأيتُ الكثير ممّن يمتدحونه، ويحكون عن الخدمات التي قدّمها لهم ".
..*..
..*..
"أللّهمَ لا تُؤاخذني
فيما لم أستطع فيه السّيطرة على نفسي وخارج إرادتي، وفيما لا أملكُ من أمر
نَفسي".
كلمات فاضل خرجت من قلبه المحروق تألمًا عُمومًا،
عندما اِسْتفاق من سُجوده الأوّل في الرّكعة من صلاة الفجر، ولأشياء خارجة عن
إرادته، لم يَستفق إلّا بعد فوات الأوان.
مع إشراقة
أولى خيوط النّور تَوارَت تناوباتُ اللّيل بأشباحها، حياة اللّيل غير حياة النّهار
التي تختفي فيها أسرار الظلام.
أضاءت نفسي بارتياح منقطع النّظير، لا يُشبه
ما كنتُ فيه قبل غفوتي الإجباريّة التي أخذتني بعيدًا بعيدًا..!! عوالم كانت
مجهولة واقعًا. إلّا ما اختمر بذهني منذ أيّام طُفولتي.
وأيّام
الانبهار ببرامج الأطفال التلفزيونيّة قبل القنوات الفضائيّة، وقتها فقط محطّتان
واحدة بالعربي، والأخرى بالأجنبي للأفلام المترجمة والمباريات لكرة القدم. كنّا
محظوظين في الجنوب باستطاعتنا بكلّ سُهولة متابعة ومُشاهدة القناتَيْن
الأردنيّتيْن.
ما أودّ أن
أخبر به أبنائي وأصدقائهم، أن جميع المحطّات التلفزيونيّة، تّغلق عند الثانية عشرة
ليلًا، برفرفة العلم على وقع النّشيد الوطنيّ، ولربع ساعة قبله فقرة مُنوّعات من
الأغاني والأشياء الخفيفة التي تتكلّل بوصلة رقص شرقيّ، لا أظنّ إلّا أنّها لنجوى
فُؤاد. تبقى القلوب تتمنّى لو أنّها تستمرّ إلى الفجر، ولم يُرفرف العَلَم.
حديث الذكريات
يَستحوذني بشدّة، خاصّة مغامرات السُندباد وعلاء الدّين. في إغفاءتي مرّ بي
السُّندباد المُحبَّب إلى نفسي. الذَكِيّ بما جعلني أُحاول تقليده مثل بقيّة
الأولاد في تلك الأيَّام، وكم كنتُ سابقًا أتمنّى لقاءه ومُرافَقته.
جاءتني
الفُرصة على طبق من ذَهَب لم أكُن أحلُم بها أبدًا. وجدتُ نفسي صبيًّا مُجايِلًا
له، مليئًا بالحيويّة على استعداد للمغامرة في استكشاف المجهول، ذهني مليء
بالعَفرتَة، وعلى اِسْتعداد للقيام بمصارعة العفاريت والجنّ، ولن أستطيعُ خُذلان
صديقي السُّندباد.
رغم معرفتي
مُسبَقًا بالمخاطر، التي سأتعرّض لها في رحلتي معه. بلا أدنى تفكير حزمتُ أمري.. تَبِعتُهُ.
..*..
عَثرتْ
قدم علاء الدين؛ فوقع مصباحُه السحريّ من يده. التقطه أحد أفراد الجنّ الصغار.
بيننا سقطَتْ قدمُ السُّندباد في حفرة، يدي الماسكة بيده لم تستطع مَنْعَه من السُّقوط
في الهاوية؛ ليختلَّ توازُني وأتكوّم فوقه.
فجأةً تُضاء الحُفرة بمصباح علاء الدين، وطائفة من الجِنِّ
يتحلّقون حول الحفرة. يتصايحون بِفَرحٍ.. تصفيقُهم وصفيرهُم رَجَّ أركان الكَهف،
وبدَّد سُكونَه الأبديِّ بِفَظاظة.
سمعتُ صوت
علاء الدين المُتهدِّج بِتَماوُجاتٍ مُلتويّة تخترقُ اِلْتواءاتِ وانحناءاتِ
الممرِّ الضيِّق الذي سلكناهُ معه. رَمُوا لنا حِبالًا متينةً؛ تَشَبّثْنا بها، وسَحَبُونا
للأعلى.
اِقْتادوني
إلى تجويف داخل الكهف، مغارة جانبيّة مُتفرِّعة عنه. واسعة من الدَّاخل تتدلَّى من
سقفها وجدرانها أشباحٌ أظنّ أنّها خفافيش، ضجيجُ أصْوَاءُها جفَّفَت عُروق شراييني
بأصواتها الشَاذَّة، التي أسمعُها للمرّة الأولى في حياتي، نقيقُ ضِفدعٍ خُيِّلَ
لي أنّه بحجم عِجْلٍ مُتوسِّط الحجم، يَفُضُ بَكارةَ السُّكونِ المُريبِ، رسم في
مخيّلتي أنّه على حافّة بحيرة عظيمة.
صوتٌ غليظٌ
يُشبه أصواتًا بشريَّة أعرفُها في حياتي، يصعبُ عليّ تحديدُ هويّتها. تبيّن بعد
قليل أنّه صوتُ كبيرُ دَهَاقِنة الجِنِّ؛ أيقنتُ من اِقْترابِه من المكان.
لا أعرفُ مصيرَ
علاء الدِّين والسُّندباد. قَلَقي عليهما من حُدوث مَكْروهٍ لهما، وأينَ هُما
الآن.. هل ما زَالَا في الكهف؟. أمْ خَرَجَا بواسطة الجنِّي خادمهما القويّ الذي
يُنقذَهُما في أحرَجِ المواقف، كأنّي أسمعُهُ يهدِرُ بصوته: "شُبّيك
لبّيْك.. عَبْدك بين إيديك".
لو أنّه ظهرَ
أمامي لَصَرَخْتُ به من فَرْط ضِيقِي، وقِلّةِ حِيلَتي: "دخيلك أخرجني من
هُنا.. أرجعني إلى خيْمتي.. لا أعرفُ ما الذي حصلَ لأطفالي..!!".
خُطواتي
بطيئة.. سلاسلُ الزَّرد الحديديَّة تحيطُ بِقَدَمَيّ.. وأخرى في رقبتي، أحدُهم
يمشي على بعد خطوات يتقدّمني، وبيده مِقوَدي، طرَفُ السِلْسِلَة المربوطة في
رقبتي.
أوصلوني إلى مُنتصَف
ساحة المغارة.. تقدّم حشدٌ كبيرٌ يحيط بمخلوقٍ ضخمِ الحجمِ. غريبُ الشّكل، له وجْه
آدميٍّ، وَجِسم غُوريلّلا، يكسوه شعر أسود كثيف، متُهدِّلٌ للأسفل حول رأسه الكُرويِّ.
صوتُ خُطواته
هَزَّ كياني المهزوز أصلًا. العَرَق يتفصَّد من مسَامَّات جِسمي، شعرتُ باِرْتِجاج
الأرض عندما تنزِلُ إحدى قَدَمَيْه عليها.
أيقنتُ أنَّها
نهايتي المحتومة، خاصّة عندما أشار إلى كِبار مُساعِديه بيده، بحركة إيمائيَّة،
خِلتُها أمْرًا بقطع رأسي.
المُساعدُ أمرَهَم
بفكِّ السَلاسل جميعها. وتمديدي على طاولة خشبيَّةٍ، قوائمها جُذوع أشجار غليظة
أُسْطُوانيَّة الشَّكل، لو حاولتُ تطويقَ إحداها بذراعيَّ لما اِسْتطعتُ.
أشعلوا شُموعًا
على نُتوءات الجُدران، شمعدانٌ ضخمٌ وضعوه عند مقدّمة الطاولة من جِهة رأسي.
أصواتُ ترانيم
من جَوْقة إنشاد في الخلف. لم أفْهم شيئًا ممَّا يقولون. اِنْطلق صوت زعيمهم بِبَرطَمةٍ
سريعة.. مع حَرَكات من يديْه أمام وَجْهي وعينيّ مُباشرة. تراتيلُه لا تنتمي لِلُغة
مُعيّنة، ولا من خليطِ لُغاتٍ أنتجَ لغة أخرى.
تلخبط ذهني..
ولم أَسْتوعِب ما يحصل.. شَلَلٌ تامٌّ كأنَّ مُخدّرًا سرَى في جِسمي. تهدّلت جَفْنَاي،
اِرْتَخى لِساني.. جَهِدتُ بإبقاء فَمِي مُغلقًا.
هدوء تامٌّ
سيطر على المكان من جديد؛ كأنّما دخلنا في حضرة طُقوسٍ تَعَبُديَّةٍ، ورائحةُ
البُخور تَعبقُ بالأُنوف، ودُخانه يزيد الرَّهبة في نفوس الحُضور، بالطبع وأنا لم
أَشُذُّ عن القاعدة.
نوّمَني
المُشعوذُ بخبرته العريقة بالتنويم المغناطيسيّ. لم تُسعفْني قُدُراتي النفسيَّة
والعصبيَّة بمقاومة مَهاراته الفائقة، بالتماسُكِ الذهنيِّ، حاولتُ صُنعَ حاجزٍ
صَادٍّ، لكن رغم ما حدث لم تتصدَّع إدراكاتي الذِهنيَّة بداية؛ بعدها تحطّمت قُدرة
أعضائي على القيام بأدنى حركة، في النهاية توقّف كُلَّ شيء.
الملعون ضغَط
بجميع وسائله للكشف عن دَوَاخلي بوسائله
الخاصّة، التي تَفُوق قُدرة جِهازَيْ المِرنان (الرَّنين والمغناطيسيِّ). والطَبَقيِّ
المِحوريِّ.
اِصْطدامه
باستفاقة ذهنيّتي؛ أذهله. يبدو لي أنّه لم يَرُق له ذلك، ممّا استدعاهُ لتغيير
خُطَّتِه الجَهنميّة كما في حكايات الأساطير، أو ممَّن نَقَل حكاية خُرافيّة عن
ناقِلٍ، وهذا عن آخر, وهكذا في سلسلة وهميّة لم تتأكَّد صحّتها، لا علميًّا ولا
تاريخيًّا، وما زالت مُصنّفة في عوالم الخيال الجامحة شَطْحًا في اللَّامعقول،
وبالتالي اكتسبتْ هالَةً هَيْمَنت بمُسُوح الخَوف والتقديس.
للتغلّب على
فشله، أشار إلى مساعد آخر له، بتوجيه أسئلة كانت روتينيَّةً في تحليلي لها.
- من أين أنتَ؟.
- "من سوريا".
- "أوَ مِنْ قلّة الموت في بلادكم، جئتنا
هنا؟".
- "يا سيّدي لم آتِ بمحضِ إرادتي، كنتُ مُستغرقًا
في حلم إغفاءتي أثناء صلاتي، أتلمّسُ مَتاعِبي وخيباتي والمآلات التي أوصلتني إلى
خيمة، إلى أن مرّ بي ذلك السُّندباد الذي أحببتُهُ منذُ صِغَري أيّام التلفزيون
الأسود والأبيض.
جاءتني فُرصة
لقائي به من جديد؛ فنهضتُ معه لتلبية رغبة مُغامرة ساكَنَتْني طويلًا، ولم يكُن بِحُسباني
أنْ أكونَ بين يديْكَ".
هزّ رأسه
مُتعجِّبًا من كلامي. تابَعَ المُساعد: "أبهذه السُّهولة تريدُ أن تغامر،
وأنتَ محبوسٌ في مُخيَّم..!!؟. يا للغرابة أنّكَ لم تحسب العواقب المُترتّبة على
ذلك..!!".
- "يا سيّدي.. هناك حنينٌ جارفٌ لذكريات الطُّفولة
التي لم يتحقّق فيها شيءٌ من أحلامي وطُموحاتي..!".
اهتزاز رأس
الزَّعيم لم يتوقّف. "اللّعنةُ عليه.. كيف يَفهَم كلامي.. ولماذا لم يسألني
هو، بلْ كلّف مُساعِدَه؟".
- "نعرفُ
أنّكَ نَدِمْتَ على مغامرتكَ، وعدم ظُهور خادم السُّندباد القويّ لِنَجدَتِكم،
وتحقيق مطالبكم. لكنّي سأُعطيكَ فُرصةً؛ لتطلبَ ما تُريد كَمِنْحَة لن تنساها،
وأنا كفيلٌ بِتلبية مَطالِبَكَ، وهذا لم يُعطَ لأحدٍ من قَبْلكَ قطعًا".
لم تُسعفني
ذاكرتي بكلمات الشُّكر، وعِبارات الاِمْتنان على ما حَظيتُ به، جاءَت فُرصَتي
للاستفسار عمّا أقلقني منذ أوّل يوم لي في المُخيّم، وعلى الأخصّ ما شاهدتُ بعد
الدَّقيقةِ الأولى في السّاعة الثانية عشر بداية اليوم الجديد.
قلتُ:
"يا سيّدي هل لي من تفسير ممّا يحدُثُ في المخيّم".
- "حَدِّدْ أيَّة نُقطة تُريد منها".
- "أنتَ وَسَط مُعسَكرٍ مُتوحّش، تأكلون بعضكم
بعضًا، وتنهشون لُحوم بعضكم بعضًا".
-"فَاجَأْتَني..!! وهل كلُّ مَنْ في المُخيّم هُم
على هذه الشّاكلة؟".
- "لا.. لا أبدًا.. كان قصدي الأقليّة المُتنفِّذة،
عندما اِنْتهَزَتِ الظُروف، والأكثريّة أُناس طيِّبون مُسالمون مُنقادون، ومنهم من
لا هُمْ بالعير ولا بالنّفير".
-" أفْهِمْني لو سَمَحتَ: شيخُ الجَامع سمعتُه يُؤذّن
لصلاة الفجر، نفسي أنَّبَتْني؛ لأنّني كُنتُ أجيبُ مُؤذِّنَ جامع القرية المجاورة
للمُخيَّم، ولم أتعاطف حتّى بذكر الله مع صوت أذانِه، ولم تتحرّك عاطفتي حتّى
بالخُشوع مثل أحاسيسي سابقًا.
كأنّ هُناكَ
من وضَعَ حاجزًا بيني وبينه، رغم أنّني لا أعرفه بَتاتًا، مع أنّني سمعتُ النَّاس
يمتدحونه، ويُثنون عليه بالأمس أثناء مروري بالسّوق. هل من تفسير لذلك يا سَيِّدي".
- "المُشكلة أنّكم تتَّبِعون المظاهر البرّاقة
بطيبة قُلوبكم، ولم تُكلّفوا أنفسكم عناء البحث، ولو بقليل من إثارة الشَكِّ بأيّ
شيء، لِيثبتَ لكُم صِحَّة الشَكِّ أو عدمه.
هذا الشاب
المُتمَشْيِخُ نموذج فريد من نوعه، وحيّرني بأيَّة فئةٍ سأُصَنِّفه. وكنتُ سأحكي
لكَ سيرته. وتنتهي مقابلتنا".
- "كُلّي آذانٌ صاغية.. يا سيّدي.. تابعْ".
- "في الحقيقة إضبارته حُبلى بالمعلومات، ووقتي
يضيق عن سَرْد حكايته، ولكن سأزوّدكَ بنسخةٍ طِبْق الأصل عمّا هو محفوظٌ عندنا.
وتجلس في خيمتك لمطالعتها بصفاء ذهن. انتهت المقابلة.. أعيدوه إلى حُلُمه".
أعاد الزَّعيم
ما يُشبه كلامه الأوّل عند تنويمي، وبِحركاتٍ من يديْه أمام وجهي.
شعرتُ بِنَخْز
في ظهري من أثر سُجودي الطّويل. حاولتُ رَفْع ظهري بصُعوبة، كأنّ برودة الصَّباح خَشَّبَتْ
عمودي الفقريِّ، اِستفقتُ من غَفوتي، ولساني يَلْهج: "الحمد لله". أمسحُ
وجهي لإزالة آثار النْعاس، ولم أمسح حُلمي، ورحلتي السُّندباديّة.
وقفتُ من جديد
باب الخيمة، نُسَيْماتٌ قادمةٌ من شَمْأَل من هُناك من حَوْلِ بيتي خلف الحدود؛ أنْعَشتْ
رُوحي، دَبيبُ الحياة تجدّد في جسمي. نشاط وحيويّة، وتفاؤل بيومٍ جديدٍ.
وضعتُ ملفَّ الشَّيخ تحتَ وِسَادتي للعودة إليه فترة ما
بعد الغداء. الآن من جديد ذهبتُ للحَمَّامات، أَعْدتُ الوضوء؛ ليبدأ يومي بالصلاة،
قبل الدُّخول في مَعْمَعة الحياة المُزدحمة.
..*..
الملف:
الملف:
*ملاحظاتي على الملف بعدما إلقاء نظرة عابرة سريعة، وقبل
إعلان نتائج ما ورد فيه.
- لا تاريخ محدد لهذا الملف.. لأنه طمس مع الاسم صاحبه.
- في الحقيقة لا أدري كيف استطاعوا جمع هذه المعلومات
خلال فترة قياسيّة. لما تحتويه من تفاصيل دقيقة مَهُولة لأبسط الأشياء، التي لم تكُن
ببالي أبدًا لو لم أقرأها هنا.
- مشكلةٌ أخرى تواجهنـي بعدما قرأت، أنّ صفات وأفعال هذا
الشَابِّ مُتشابهة مع آخرين. خوفي أن تتكاتف جهودهم لتوكيل محامٍ عنهم جميعًا،
بإقامة دعاوى قضائيّة ضِدِّي في محاكم داخل البلاد وخارجها، بتهمة التشهير والقدح،
وعلى الأغلب سيكون الاحتكام للسِّلاح لإسكات صوتي، ومحو آثار أيّ دليل ضدَّ أيّ شخص
يشتبه بنفسه هو، من خلال تشابُه حالته مع ما نشرتُ. معتبِرًا أنّ الكلام موجَّه له.
- عزائي المُشجّع حتّى لو طلبوا الملفّ الحقيقيِّ منّي؛
أنَّه ذكر أفعالًا بلا أسماء. تشابهت حالاتهم كثيرًا في غياب قانون يضبطُ الجميع.
حدثت حالات اِنْفلاتٍ أمنيَّة.
- هناك أيضًا مجموعة أسطر في صفحات عديدة مطموسة، وبعض
فقرات أُشير إليها بمجموعة علامات استفهام ونُقاط.. فقط. الصعوبة تكمُن في اِسْتِنباط
دلالاتها. والميل للتخمينات وربّما تقود لتأويلات فيها كثيرًا من سوء الظنِّ.
وافتقاد الثِّقة بكلِّ من سلَكَ طريق الحريَّة. عندها يذهب الصالح بِحُجَّة الطَّالح.
هدوء معقول بتوقُّف ضجيج الأولاد ولعبهم. أخَذَتهُم أمَّهم
إلى الحمّامات على مسافة مئتي متر، المُخصَّصة للنساء. لا أظنّ حالة تجهيزاته
بأفضل مما رأيتُ في حمّامات الرِّجال. بخلاف وجودِ الماء على الأغلب، لأنّ
الخزانات مُلئَت صباحًا.
الحركة البعيدة، وفي جِوَاري لم يكن لتأثيراتها في تشتيت
تركيزي دورًا هامًّا كما أولادي عندما كانوا حَوْلي، ويطلبون أشياء منِّي، ويريدون
تجاوبًا مع طلباتهم، وتأفُّفِهم من الفراغ القاتل لأسباب لهوهم ولعبهم.
كلمةُ ملفٍّ بداية ذهبت بأفكاري إلى مئات الأوراق؛ فهو
لم يتجاوز الخمس عشرة صفحة، وثلثا معلوماتها محجوبة بالطَّمْس أو بالنُّقاط
وإشارات الاستفهام. حيَّرتني هذه النُّقطة.. بتركيز شديد لم تستغرق الكلمات التي
قرأتها في العشرة دقائق، وقبل عودة الأولاد مع أُمِّهِم.
رغم قلقي من نتائج مُتعبة لي مما عرفت. أهونُ مئة مرَّة
من أن أبقى على جَهْل بما يدور حولي (كالأطرش في الزفّة)، وأصعب ما من أن
يُساق إنسان إلى حبل المشنقة؛ ويموتُ ولم يعرف بالسبب الذي أوصله لذلك..!!.
(اِسْم الشّيخ
مجهول.. متأكّدٌ من ذكره في النُسخة الأساسيّة عندهم، بدليل أنّه مَطموسٌ بقلمٍ
عريضٍ أسوَدِ اللّون.
عندما هربَ من
قريتِهِ هُناك إلى المُخيّم في ظروف غامضة. تَشَعَّثَ شعرُ رأسه ولحية
المُتَعَثِّنَة؛ لانشغاله بِمهامِّه تحت
ملاءة المظاهر الثَوريّة.
ما إنْ وضعوا الكرفان المُزدوج بحجمه الكبير، وخصّصوه
كمسجد صغير. كان على رأس الحُضور لحظتَئِذٍ، بَقيَ مُرابطًا في المكان، وراح
يُساعد العمّال.. فكّر بتغيير سيرته
السّابقة؛ ليكون مُؤذِّنًا وإمامًا، والعدّة جاهزة -لحية طويلة هذّبها وشذّبها،
وثوب أبيض قصير، وطاقيّةٌ بيضاء على رأسه- كان قبل ذلك ممَّن أُطلِقَ عليهم صفة
الثُوَّار تشبُّهًا بثُوّار مُسلسل باب الحارة، والعقيد، وغيرهم. ولَفُّوا رؤوسهم
بأغطية مُلونّة غير معهود الاستخدام. مميزة
بأشكالها وألوانها الزّاهية.
حملوا السّلاح، بانت عليهم علامات المُحاربين.. اختلفت وُجهات
نظر المجتمع فيهم. منهم من رآهم ثُوَّارًا يُقاومون الظُّلم، ساعين للخلاص في سبيل
الحريَّة.
والقسم الأعظم من الجمهور جنحوا إلى جانب الدعاية
الإعلاميَّة للنِّظام، على أنَّهم عصابات إرهابيَّة خارجة على القانون.
- خان الشيخُ رفاق القضيَّة؛ عندما قام بسرقة السِّلاح
الذي دفنوه بأيديهم سويَّة، وبيعه.
- تحت غطاء سلاحه، سَحَب كابل الهاتف الرَّئيس الأرضي من
باطن الأرض، بواسطة جَرَّارٍ زِراعيٍّ بمساعدة مجموعة من أصدقائه، وبيعه كمادَّة نُحاسيَّة.
بأبخس الأثمان.
- اِسْتشهادُ
أحد الشباب من مجموعتهم، حَزِنَوا عليه. ثم اِلْتَفُّوا على زوجته للاستحواذ
عليها. مع زوجات شهداء آخرين عندما قدَّمُوا لهُنَّ حليبًا وحفَّاظات لأطفالِهِنَّ.
المساعداتُ أسْهلُ
طريقٍ لاستمالة الشَّخص، وحدثت فضائحُ لهم من بعض الشَّريفات؛ وأُخْمِد صوتُهنَّ
تحت التهديد بالتصفية الجسديَّة.
- اِشْتُهِر الشَّيخ بتجارة الماتورات (الدَرَّاجات
الناريَّة) بأسعار مُنافسة.. شكاوى كثيرة وتبليغات عن سرقات الماتورات بشكل يوميٍّ
وفظيع.
ذاعت أخبارُه مع بعض أصدقائه بشُرب الخمر حتَّى في
رمضان.. وكانُوا يخرجون بحراسة وحماية المدنيِّين في المظاهرات.
ونُسِبَت له سرقة أجهزة الكُمبيوتر من المدارس والمركز
الثقافيِّ، وللتمويه قاموا بإشغال النيران في المكان.
- المُحْسنُ السَعوديُّ (أبو ذر) الذي وَزَّع المساعدات.
أخي فطين كنتَ قد حدثَّتني سابقًا عن الصحابيِّ الجليل أبي ذر قد افتتح بداية هذه
الرواية، في مقاومته للظلم. وأبو ذر هذا صاحب الشَّيخ.. لم يستطع مقاومة غريزته.
إلَّا بالزَواج
من بنتٍ فقيرةٍ، وإذا أحسنتُ تقدير عمرها أنَّها لا تعدو إلا أنّها من جيل أصغر
بناته. إذا لم تكن من جيل أحفاده. بعد توزيع المساعدات بمعرفة وتنسيق مع الشَّيخ ظِلَّهُ
وساعده الأيمن؛ أعرب له أبو ذرٍّ عن نيَّتِه بكفالة طفلة يتيمة فقدت ذويها. الشَّيْخ
أغراه بتزويجه.
عندما لمس
بذكاء إحساسه؛ تأكَّد من تأجُّج الرَّغبة في عُيون أبي ذرٍّ، وهو يجلس خلف الطاولة
وهو يمدّ يده لمناولة مساعداته العينيّة يدًا بِيَدٍ، ليتأكّد من وصول مساعدته لمُستحقّيها،
ويغرز نظراته المفترسة بتركيز في البنات والنِّساء بشبق يُشعُّ من عينيْه.
مُسبقًا عند قدومه أفصح عن رغبته بتقديم مُساعداته للأرامل
واليتامى من أبناء الشهداء ولهم الأولويَّة عنده.
تحوّل الشيخ فيما بعد إلى مُعتَمَدٍ موثوقٍ ذاع صيته للمُحسنين
القادمين من دول الخليج المختلفة.
مُمارسات الشَّيخ
تحت ملاءةٍ شرعيَّةٍ سميكة.. تحت شعاره المعروف: (قال الله.. وقال رسول الله).
لا أدري ما
الذي استدعاني للتوغّل بعيدًا، لأتوقّف في ساحة شمس التبريزي: "لا تحكُم
على الطَّريقة التي يتواصل بها النَّاس مع الله، فَلِكُلِّ اِمْرِئٍ طريقته وصَلاته
الخاصَّة، إنَ الله لا يأخذنا بكلمتنا بل ينظر في أعماق قلوبنا، وليست المناسك أو
الطُّقوس هي التي تجعلنا مُؤمنين، بل إنْ كانت قلوبنا صافية أم لا".
في الأمس سمعتُ ما قيل عن الشيْخ، قلتُ لنفسي: "لكم ما تشاؤون من إبداء
آرائكم، ولكم أحكامكم. ولي حُكمي الخاصّ بي، لا أطلقُه إلّا بعد يقيني القاطع،
بعيدًا عن الشكِّ، ولو بنسبة ضيئلة".
..*..
الملف:
هدوءٌ معقولٌ
بتوقُّف ضجيج الأولاد ولَعِبِهم. أخَذَتهُم أُمَّهم إلى الحمّامات على مسافة مئتي
متر، المُخصَّصة للنساء. لا أظنّ حالة تجهيزاته بأفضل مما رأيتُ في حمّامات الرِّجال.
بخلاف وُجودِ الماء على الأغلب، لأنّ الخَزَّانات مُلِئَت صباحًا.
الحركة البعيدة، وفي جِوَاري لم يكن لتأثيراتها في تشتيت
تركيزي دَوْرًا هامًّا كما أولادي وَهُمْ حَوْلي، ويطلبون أشياء منِّي، ويريدون تجاوُبًا
مع طلباتهم، وتأفُّفِهم من الفراغ القاتل لأسباب لَهْوِهِم ولعبهم.
كلمةُ ملفٍّ
بداية ذهبت بأفكاري إلى مئاتٍ من الأوراق؛ فهو لم يتجاوز الخمس عشرة صفحة، وثُلُثا
معلوماتِها محجوبة بالطَّمْس أو بالنُّقاط وإشارات الاستفهام.
حيَّرتني هذه
النُّقطة.. بتركيز شديد لم تستغرق الكلمات التي قرأتُها العشرة دقائق، وقبل عودة
الأولاد مع أُمِّهِم.
رغم قلقي من
نتائج مُتعبة لي مما عرفت. أهونُ مئة مرَّة من أن أبقى على جَهْلٍ بما يدور حَوْلي
(كالأطرش في الزفّة)، والأصعب من ذلك، أنْ يُساقَ إنسانٌ إلى حبل المشنقة؛
ويموتُ ولم يعرف السَّبَبَ الذي أوصله لذلك..!!.
(اِسْم الشّيخ
مجهول.. متأكّدٌ من تثبيته في النُسخة الأساسيّة عندهم، بدليل أنّه مَطموسٌ بقلمٍ
عريضٍ أسوَدِ اللّون.
عندما هربَ من
قريتِهِ هُناك إلى المُخيّم في ظروفٍ غامضةٍ. تَشَعَّثَ شعرُ رأسه ولِحْيَته المُتَعَثِّنَة؛
لانشغاله بِمهامِّه تحت مِلَاءة المظاهر الثَوريّة.
ما إنْ وَضَعُوا "الكرفان" المُزدوج بحجمه
الكبير، وخصّصُوه كمسجد صغير. كان على رأس الحُضور لحظتَئِذٍ، بَقيَ مُرابطًا في
المكان، وراح يُساعد العمّال.. فكّر بتغيير
سيرته السّابقة؛ ليكون مُؤذِّنًا وإمامًا، والعدّة جاهزة -لحية طويلة هذّبها
وشذّبها، وثوب أبيض قصير، وطاقيّةٌ بيضاء على رأسه- وعلى رأي من قال: (رأسمالها
مِتريْن قِماشْ.. ولحية بِبلَاشْ).
كان قبل ذلك
ممَّن أُطلِقَ عليهم صِفة الثُوَّار تَشَبُّهًا بثُوّار مُسلسل باب الحارة،
والعقيد، وغيرهم. عندما لَفَّ رأسه بغطاء مُلوَّن غير معهود الاستخدام. مُمَيَّز بشكله
ولونه الزّاهي.
حمَلَ السّلاح، بانت عليه علامات المُحارب.. اختلفت وُجهات
نظر المجتمع فيه. منهم من رآه ثائرًا مقاومًا للظُّلم، ساعيًا في الظّاهر للخلاص
في سبيل الحريَّة.
والقسم الأعظم من الجمهور جنحوا إلى جانب الدعاية
الإعلاميَّة للنِّظام، على أنَّه من العصابات الإرهابيَّة الخارجة على القانون.
- لقد خَانَ رفاقَ القضيَّة؛ فسرق السِّلاح الذي دفنوه
بأيديهم سويَّة، وبَاعَه.
- تحت غطاء سلاحه، سَحَب كابل الهاتف الرَّئيس الأرضيِّ
من باطن الأرض، بواسطة جَرَّارٍ زِراعيٍّ بِمُساعدة مجموعة من أصدقائه، وبيعه كمادَّة
نُحاسيَّة. بأبخس الأثمان.
- اِسْتشهادُ
أحد الشباب من مجموعته، حَزِنَوا عليه. ثم اِلْتَفُّوا على زوجته للاِسْتحواذ
عليها. مع زوجات شهداء آخرين عندما قدَّمُوا لهُنَّ حليبًا وحفَّاظات لأطفالِهِنَّ.
فالمساعداتُ
أسْهلُ طريقٍ لاستمالة الشَّخص، وحدثت فضائحُ لهم من بعض الشَّريفات؛ وأُخْمِد صوتُهنَّ
تحت التَهْديد بالتَصفِيَة الجسديَّة.
-اِشْتُهِر
الشَّيخُ بتجارة الماتورات (الدَرَّاجات الناريَّة) بأسعار مُنافسة.. شكاوى كثيرة
وتبليغات عن سَرِقات الماتورات بشكل يوميٍّ وفظيع.
ذاعت أخبارُه مع بعض أصدقائه بشُرب الخمر حتَّى في شهر رمضان..
وكانُوا يخرجون بحراسة وحماية المدنيِّين في المظاهرات.
ونُسِبَت له سرقة أجهزة الكُمبيوتر من المدارس والمركز
الثقافيِّ، وللتمويه قاموا بإشغال النيران في المكان.
في المُخيّم
فور وصوله حصل على خيمتيْن ونصبهما إلى جوار من جاؤوا قبله ذوي الخيمة الواحدة.
اِلْتفّ على أحد
مُوظفّي المُخيّم يعمل في المُستودعات، واشتغلوا في تهريب ما تيسّر لهم من مَوّادٍ
غذائيّةٍ, وأثاثٍ مُخصَّصٍ للَّاجئين. إلى جانب عمله في المسجد، بعد أن تمّ تعيينه
رسميًّا من إدارة المُخيّم كإمام ومؤذّن.
- المُحْسنُ السَعوديُّ (أبو ذر) الذي وَزَّع المساعدات.
أخي فطين كنتَ قد حدثَّتَني سابقًا عن الصحابيِّ الجليل أبي ذر قد افتتح بداية هذه
الرواية، في مقاومته للظلم. وأبو ذر هذا صاحب الشَّيخ.. لم يستطع مقاومة غريزته.
إلَّا بالزَواج
من بنتٍ فقيرةٍ، وإذا أحسنتُ تقديرَ عمرها أنَّها لا تعدو إلا أنّها من جيل أصغر
بناته. إذا لم تكن من جيل أحفاده. بعد توزيع المساعدات بمعرفة وتنسيق مع الشَّيخ
ظِلَّهُ وساعده الأيمن؛ أعْرَبَ له أبو ذرٍّ عن نيَّتِه بكفالة طفلة يتيمة فقدت
ذويها. الشَّيْخ أغراه بتزويجه إيّاها: "وهكذا يُصبح الأجر أجْرَيْن".
ذلك عندما لمَسَ
بذكائه وإحساسه؛ تأكَّد من تأجُّج الرَّغبة في عُيون المُحسن أبي ذرٍّ، وهو يجلس
خلف الطاولة، كان يَمُدُّ يدَه لمناولة مساعداته العَيْنِيَّة يدًا بِيَدٍ؛
ليتأكّد من وصول مساعداته لمُستحقّيها، ويغرز نظراتَهُ المُفترسة بتركيز في البنات،
والنِّساء بِشَبَق يُشِعُّ من عَيْنَيْه.
مُسبقًا عند
قدومه أفصح عن رغبته بتقديم مُساعداته للأرامل واليتامى من أبناء الشهداء ولهم
الأولويَّة عنده. تحوّل الشيخ فيما بعد إلى مُعتَمَدٍ موثوقٍ ذاع صيته للمُحسنين
القادمين من دول الخليج المختلفة، بناءً على تزكية أبي ذرٍّ لأصدقائه الذين يريدون
الانخراط في العمل الإغاثي، وتقديم المُساعدات للسّوريّين في المُخيّم.
مُمارسات الشَّيخ
تحت ملاءةٍ شرعيَّةٍ سميكة.. تحت شعاره المعروف: "قال الله.. وقال رسول
الله").
بعد الانتهاء
من الصفحات التي أتيح لي قراءتها من التقرير. لا أدري ما الذي اِسْتَدعاني للتوغُّل
بعيدًا، لأتوقّف في ساحة شمس التبريزي: "لا تحكُم على الطَّريقة التي
يتواصل بها النَّاس مع الله، فَلِكُلِّ اِمْرِئٍ طريقته وصَلاته الخاصَّة، إنَ
الله لا يأخذنا بكلمتنا بل ينظر في أعماق قلوبنا، وليست المناسك أو الطُّقوس هي
التي تجعلنا مُؤمنين، بل إنْ كانت قلوبنا صافية أم لا".
في الأمس سمعتُ ما قيل عن الشيْخ، قلتُ لنفسي: "لكم ما تشاؤون من
إبداء آرائكم، ولكم أحكامكم. ولي حُكمي الخاصّ بي، لا أطلقُه إلّا بعد يقيني
القاطع، بعيدًا عن الشكِّ، ولو بنسبة ضيئلة، مهما قيل، فاعتقادي الوثيق مُتَمَحْور
حول مقولة: "رُبَّ قاطعُ طريق، أحبُّ إلى الله من عالمٍ يأكلُ الدّنيا
بالدِّين".
..*..
*ملاحظاتي
على الملف بعدما إلقاء نظرة عابرة سريعة، وقبل إعلان نتائج ما ورد فيه.
- لا تاريخ
محدد لهذا الملف.. لأنَّه طَمَس مع الاسمِ صاحبَه.
- في الحقيقة
لا أدري كيف استطاعوا جمع هذه المعلومات خلال فترة قياسيّة. لما تحتويه من تفاصيل
دقيقة مَهُولة لأبسط الأشياء، التي لم تكُن ببالي أبدًا لو لم أقرأها هنا.
- بعدما قرأتُ تفكَّرتُ بأبعاده، تبادَرَت إلى ذهني النّماذج
المُتشابهة الكثيرة مع الشّيخ.
- عزائي المُشجّع حتّى لو أنّ أحدًا طلبَ الملفّ الحقيقيِّ
منّي؛ أنَّه ذَكَر أفعالًا بلا أسماء. تشابهت حالاتهم كثيرًا في غياب قانون يضبطُ
الجميع.
- هناك أيضًا مجموعة أسْطُر في صفحات عديدة مَطموسة،
وبعض فقرات أُشيرَ إليها بمجموعة علامات اِسْتفهام ونُقاط.. فقط. الصُّعوبة تكمُن
في اِسْتِنباط دلالاتها. والمَيْل للتخمينات، وربّما تقودُ لتأويلات فيها من سوء
الظنِّ ما تُحمَد عُقباه، واِفْتِقاد الثِّقة بكلِّ من سلَكَ طريق الحريَّة. عندها
يذهب الصَّالِح بِحُجَّة الطَّالح.
..*..
الملف:
الملف: