الأربعاء، 14 سبتمبر 2022

رسالة منتظرة (دقيقة واحدة)

 

 

رسالة مُنتظرة

(قصة قصيرة)

بقلم: محمد فتحي المقداد

في رسالة إلى أبي في الأصل لم تُكتَب قطعًا، ولم يُخالطني شكٌّ أبدًا بأنَّني كتبتُها له، لم يُخبرني كذلك بعِتابه أنّه كان ينتظرها بفارغ الصَّبر، ليطمئنَّ عنِّي، ولم يؤنِّبني على رداءة الخطِّ؛ عندما عانى من صُعوبة قراءة بعض الكلمات، بل إنَّ أكثرها أعطت معانٍ أخرى معاكسة لمقاصدها الحقيقيَّة.

من أينَ تسرَّبت هذه المخاوفُ جميعها إلى نفسي، إضافة للرَّواسب القديمة، التي لا فَكاكَ منها على الإطلاق، ولم أستطع التخلُّص منها على الرَّغم من مُحاولاتي الجادَّة التي بذلتُها. لمَّا عجزتُ، بعد تردُّد لمرّات عدَّة كان الخيار الأصعب هو اللُّجوء للطّبيب النّفسيِّ.

تبيَّن لي من أوَّل جلسة معه. كنتُ أتوقَّع بعد ساعتيْن من حديثنا المُمتِع والشيِّق.. حديث الصَّراحة الذي ولَّد حالة من الثِّقة المُتبادلة بيننا.

لم يتوانَ الطّبيب لحظتها من بثِّ شكواه لي، المفاجأة غير المُتوقَّعة أنّه كان تائهًا في بيداء صحارى قاحلة، وبحاجة لمن يستمع له، بحثًا عن حلٍّ، بعدما نهشت الشُّكوكُ قلبه من سُلوكِ زوجته خلال السَّنوات السَّابقة.

لكنَّه أخبرني:

-لم أستطع إثباتَ أيَّ شيء عليها، وفي كلِّ مرَّة تخيب ظنوني.

وعلى العكس من ذلك، وعلى حدِّ زعمه أنَّها كثيرًا ما أعربت له علنًا عن مشاعرها تجاهه، بوضوح ولا مُواربة:

-       "أنتَ حُبِّي الأوَّل والأخير.. حبٌّ البداية والنهاية".

 ممَّا جعلني أتشكَّك بسلوكه، توقَّف تفكيري وشُلَّ تمامًا. اختلاط الأمور لهذه الدّرجة من الانعكاسات بتشابكاتٍ مُحيَّرة، يصعبُ التمييز بين المواقف انعكس ذلك على سوء تقييمي للموضوع.

تمعَّنتُ عميقًا في ملامحه العتيقة الباعثة على الإحباط، كدتُ أصرخ بوجهه:

-العمى بقلبك.. العمى.

لا أظنُّ أنَّني فعلتُها، ولم أفتح فمي بكلمة واحدة، بل أرسلتُ نظراتي وراء غموض غير مفهوم، وجهه كأنَّه باب حجريٌّ من بقايا الرُّومان موصدٌ بإحكامٍ، وضاع مفتاحه، وعصيٌّ على الاستجابة لمعالجة الخبراء بالطريقة المُثلى لإعادة فتحه، أو إحداث شقٍّ بسيط، ولا أن تنفُذ منه كفُّ اليد.

ما شعرتُ إلَّا وأنا أصعدُ درج العمارة إلى البيت، وبصوت طقطقة حذاء جارتنا ذات الكعب العالي تسبقها بالوصول إلى سمعي، لتُداري قِصَر قامتها الملحوظ، تتطاول للأعلى برفع رأسها بشموخ مُتعمَّد، ولا تستطيع رؤية الأرض التي تمشي عليها، ضربات "بُمْ.. بُمْ..طق..طق" أخرجتني من دوَّامة العقدة الجديدة التي سبَّبها لي الطبيب.

تهيَّأتُ بعد استنفار انتباهي؛ لمراجعة وضع هِندامي، رفعتُ خِصْر البِنطال المُهلهل، امتدَّت يدي اليُمنى للتمليس على شعري، مع وصولنا وجهًا لوجه، تفصلنا درجتين هي من الأعلى، رأيتُ رأسها ينطح بوَّابة السَّماء بوضاءة وجهها، اقتحمتني بابتسامتها أذابت آخر خيبات مشواري الذي كان. تلعثم لساني بالردِّ على قولها، ولم أتشجُّع لمعاودة محاولة الردِّ ثانية:

-يسعد هالمسا.. شكلك مو عاجبني يا جارنا، على غير عادتكَ.

مع أوَّل رشفة من فنجان قهوة المساء على الشُّرفة ذات الإطلالة على ساحة واسعة، بعد وصولي للبيت، تواردت الأفكار اِنثيالًا كسحابة صيف عابرة، لم تترك موضع شِبْر في الحديقة المقابلة للسّاحة التي تُطلُّ عليه عمارتنا السكنيَّة، ذات الطَّوابق الأربعة. انفصالٌ تامٌّ عن كلام زوجتي الكثير، أجزمُ يقينًا أنَّني لم أسمع كلمة واحدة ممّا قالت. أخيرًا هززتُ رأسي علامة الإيجاب بالموافقة على ما قالت، وقلت:

-تمامًا كما قلتِ، ومعكِ كلَّ الحق.

عمّان  الأردن ـــا 14\ 9\ 2022 م