عبدالرضا صالح محمد
شاهد على ( شاهد على العتمة )
للقاص محمد فتحي المقداد
شاهد على العتمة
تمتاز القصة القصيرة جدا عن القصة القصيرة كونها لا تلتزم بالمكان والزمان وهما مهمين في القصة القصيرة ، كما وأنها وتبدأ بلغة جميله وزحاف قوي ، وتنتهي بومضة أو صعقة أو مفاجأة لا يتوقعها المتلقي ، وتكون مكثفة ومختصرة ومختزلة ، لتأتي بكلمات قليلة قد لا تتجاوز الأسطر بمعنى كبير .وهي بقالبها الجديد تطالعنا بصورها الجديدة في :
شاهد على العتمة
للقاص محمد فتحي المقداد
في 67 صفحة من القطع المتوسط
بمائة قصة قصيرة جدا
العتبة التي تستهل بها قابلة للتأويل بما رصتها يد فاعلة حازمة ومتلازمة في صناعة مفاتيح لأقفال مغلقة ، تحوي في خباياها أنواعا من الألم والحزن والحوب والخواء والفراغ والدمار والتردي والانهيار والأنهزام والانكسار والخيانة والضياع ، بخطاب إشعاعي تنويري على لسان شاهد يمتلك كل مقومات الترصد والمعاينة ؛ بما تجود بها المعمورة من قضايا ووقائع وحوادث وتناقضات ومفارقات في وطننا العربي ، أَطَّرَها برؤى وأحلام بحروف صريحة جريئة لا تخاف .
صاغها على شكل رؤيا أو حلم يرويه الكاتب على لسان الشاهد ، وهو دليل قاطع لما يمر به من واقع متردي تتجلى بها الحروب والماسي في نفسه ، واقع مر يعرض بأسلوب سهل وهو أسلوب الحكاية ، بلغة عالية وبأدوات رصينة تتصاعد متسارعة ، تحاصرك مباشرة في أتون أحداثها ، أو تأتي على شكل فاجعة بحجم صرخة لا يستطيع إطلاقها إلا من خلال الحروف التي كتمت فاه لتلقي بقيئها من أمعائه القابلة للانفجار .
كتبت هذه الومضات لتعلن عن حجم الكارثة أو الفجيعة على لسان حال الشاهد الذي يتوارى خلف العتمة ، التي مر بها الشاهد واعتبرها حلما ، يرتجي ان يكون خيرا ، وما أن ينتهي ذلك الحلم يأتي غيرة أقسى منه أو مواز له ، وهكذا تتوالى الأحلام حتى تصبح ملونة بلون الحياة التي نعيشها ، نعم لو تتبعنا هذه الأحلام لوجدنا إنها لم تكن تفضي إلى الألم فحسب إنما هي كوابيس مستأصلة لا نهاية لها ، وحين ندرك إنها في مخاضها الأخير أو بداية نهايتها ، تعود بنا من جديد إلى بداية اكبر وأفضع . كدائرة نخوض في محيطها وما إن ننطلق من نقطة حتى نعود لها .وممكن أن نقول أن الشاهد قد فقد كل أحلامه وبات ينتظر المعجزة .
أحداث الوصف كما يراه واقعا مؤلما في مجتمعنا العربي ، بلغة جادة ومسؤولة ، وبأسلوب ساخر تنتهي بومضة كوميدية تشعرك بشدة الحزن والمأساة في عالم يتوفر فيه كل أسباب السعادة والرفاهة ، مما يجعلنا ان نطلق عليها بالكوميديا السوداء .
وهي عبارة عن صور محسوسة يلتقطها بعدسته المنظورة ذهنيا والملونة حسيا ؛ لتضع نصب عيني القارئ هالة من الخيبات بريشة سريالية متخصصة في تصوير الأحلام واللقطات البعيدة الأفق ، وخلف الوعي الاجتماعي .. انه مصور لصرخات مخبوءة بين أضلعه لا يستطيع بثها ونشرها إلا من بين مداد قلمه الحاذق .
وتمتاز هذه القصص بوحدة الموضوع ، فليس هناك ما هو شاذ مختلف بلون آخر وليس من الممكن تميز بعضها على بعض ، ولكي نقف على صور هذه القصص نختار منها ثلاث كشاهد للرؤية والمطالعة وليست أفضلها :
1ـ شاهد على العتمة
شاهد الشياطين تلعق رحيق الأزهار قبل طلوع، الشمس. والقرود تجلس في المقاهي وتدخن النرجيلة
على ذمة الراوي
2ـ شاهد على العتمة
سمع أن الزرافة لطول رقبتها لا تنام في اليوم الواحد إلا تسع دقائق و ليست متوالية إنما على ثلاث مراحل في كل مرة ثلاث دقائق .فقال لنفسه: والله إنّ الزرافة تفهم، لأنها تُقدر قيمة الوقت، ويبدو أنها سمعت وتمثلت أغنية أم كلثوم: ( فما أطال النوم عُمُرا، ولا قصّر بالأعمار طول السهر).
3ـ شاهد على العتمة..
روى الشاهد: أنه التقى بزرقاء اليمامة العمياء التي قلعوا لها عينيها حينما أخبرتهم أن الأشجار تمشي إليهم, وكونهم لم يستوعبوا قدراتها الخارقة, ظنوا أنها خرفت وكان ذلك عقابها.. لكنهم ندموا عندما قضموا شفاههم وأصابعهم بعد فوات الأوان.
وقالت له: اسمع يا ولد.. أسمع قرض الجراد قادم إليكم من الشرق, وكأنه لن يبقي لكم شيئاً لا أخضر ولا يابساً, وكذلك أسمع أصواتاً كأنها هدير الرعد, تسير بسرعة البرق, ستلعن أبا أبيكم, وتحرث قبوركم, و لا تبقي شيئاً قائماً فوق أرضكم حتى شواهد القبور. هيّا انصرف وأخبر قومك, وانظر ما هم فاعلون من حيطة وحذر, مشى راجعاً، وهو يحدث نفسه:" عجوز النحس قاتلها الله, وما أنا إلاّ كبالع الموسى على الحدّين, إن أبلغت قومي لم يصدقوني, وإن طنّشتْ ولم أخبرهم, فنصبح كقوم الزرقاء الذين لم يصدقوها".
على ذمة الراوي
وبهذا يحق لنا ان نشد على يد الكاتب محمد فتحي المقداد لهذه الإشراقة الرائع والذي يحيلنا إلى الدعوة إلى قراءتها ودراستها .
26 / اكتو بر/ 2015