على سبيل الإشارة والتقديم للمجموعة القصصية (دقيقة واحدة) للروائي محمد فتحي المقداد. سوريا.
بقلم. أحمد سعيد البادي. اليمن
لا أعرف كيف يمكن لجدول
تقديم نهر؟! لكنها المعزة لصديقي الأستاذ القدير والأديب الأريب والروائي الجميل
محمد فتحي المقداد، هي من رمتني في هذا الغمار الصعب وتلبية لإرادته الغالية على
نفسي حتى وإن كانت أكبر من قلمي.
عرفت الأستاذ محمد فتحي
المقداد عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدا عن طريق تطبيق (الواتساب)، وإن
ظل هذا التعارف عبر العالم الافتراضي – فحتى الآن لم يتح لنا اللقاء على أرض
الواقع – إلا أن هذا التعارف قد سما ونما حتى صار صداقة عزيزة تباهي صداقاتي التي
أقيمها على أرض الواقع، وحقيقة أهدتني هذه المواقع العديد من الصداقات التي
أعتبرها من كبرى مكاسب هذا العالم الافتراضي.
كانت بداية تعارفنا عبر
مجموعة (ملتقى القصة القصيرة الإلكتروني التفاعلي) وهي مجموعة مختصة بفن القصة
القصيرة، حين قمت بتقديم قراءة انطباعية لنص من نصوصه قام بنشره في المجموعة،
فنالت تلك القراءة إعجابه، وجاءني على الخاص يستأذنني نشرها في موقع آخر، ثم دعوته
إلى مجموعة ثقافية أخرى كنت أحد مؤسسيها، وظل عضوا بارزا فيها، ثم توالت لقاءاتنا
في عدة مجموعات أدبية وثقافية، ودام تواصلنا على الخاص نناقش نصوصا، ونبحث
مواضيعا، فتزداد تلك العلاقة متانة وقربا.
وفي خضم ذلك أتيح لي
قراءة العديد من أعمال الأديب المقداد، من رواياته وقصصه وكذلك مقالاته الأدبية
وحتى قراءاته ودراساته النقدية.
فالمقداد هنا كان يتماهى
فيه الكاتب مع الناقد، وتستشف له رؤية خاصة في الأعمال التي يقدمها، لذا ليس غريبا
عليه هذا التميز الذي نجده في هذه المجموعة القصصية الموسومة بـ(دقيقة واحدة..
فقط)، والتي نجد المقداد يشتغل فيها على ثيمة رئيسية جدا مميزة وهي (الحدث القائم
في دقيقة واحدة)، يصطاد بتلك الرؤية من بحر الحياة العامة والخاصة والبيئة
السورية، تلك الأحداث المسجلة في تلك الدقيقة لا أكثر، فالزمن دوما له ارتباطه
الوثيق والتلازمي مع الحدث، سواء أكان هذا الزمن موضوعيا أو نفسيا.
رغم أن القصة الحديثة
جاءت عبر مناديها لتقول أن عناصرها المكونة من رؤية وموضوع وشخصية ولغة وبناء
وأسلوب، هي أهم العناصر التي يجب الالتفات لها، وهنا الموضوع القصصي قد يشمل حدثا
أو يكون عبارة عن حالة شعورية ترتسم على الشخصية مكونة عقدة القصة أي أننا قد لا
نجد حدثا ملموسا في القصة الحديثة وكذلك الزمن قد لا نجده بارزا أيضا، ولذا وكما
جاء ذلك في كتاب (فن كتابة القصة) لفؤاد قنديل، لكننا سنظل نلحظ دوما وجودهما
ومشاركتهما في بناء النص القصصي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فالزمن هو الصندوق
الأسود الذي سيظل دوما لتسجل فيه القصص.
والمقداد هنا يقدم لنا
هذه الأحداث المؤطرة بإطار الدقيقة بالتصوير الدقيق والبطيء– إن صح التعبير- ويقدم
لنا الزمن بعدة أبعاد تضفيه شخوص النصوص من خلال انفعالاتها وذكرياتها فلا نجد
الحدث ظاهر أكثر بالأبعاد التي يضيفها عليه الزمن.
ففي قصة (البصارة) أول
النصوص في هذه المجموعة، نجد أن الحدث المستغرق في دقيقة يتمثل في استيقاف البصارة
أو المنجمة الغجرية للراوي وطلبها منه المكوث معها دقيقة واحدة فقط لتقرأ له طالعه في الفنجان، وترى له حظه من
خلال أدواتها الخاصة من ودع وغيرها:
(قُبيل مُغادرتي لقهوتي، قرعَت باب البيت
المفتوح على مصراعيْه في مثل هذا الوقت من كلّ يوم.
لذّة
لَكْنَتِها الغجريّة بطعم قهوتنا العربيّة، عندما ألقت التحيّة.
هَمَمْتُ
بالمغادرة، أجلستني بطلب التمهّل، بعد أن غرزت عينيْها في فنجاني تركيزًا باحثة عن
مجهول. تُدوّره بين أصابعها، وتزمّ شفتيْها؛ لتكميل خارطة خطوط الفنجان الممتّدة
إليها مَسحًا. قالت:
- "بالله عليكَ اِمْنَحْني
دقيقةً واحدةً فقط.")
من هنا كانت بداية انطلاق الحدث المحدد سيره في دقيقة، وخط نهايته تقريبا
كان هنا:
(أتفقَّد السَّاعة، اِطْمأنَنْتُ
إلى أنَّني ما زلتُ ضِمْن الدقيقة. همَمتُ بالنُّهوض، بينما نَثَرت كيسها على بلاط
الأرض.
تابعت:
" -إذا
تَطَابَقت قراءتي للفِنْجان، مع الأحجار؛ فأنتَ من أصحاب السَّعد هذا اليَوْم" .
لبرهة
تُهتُ في غيابات الذِّكْريات المُلهِمَة، كأنَّ يدًا رقيقةً لامَسَتْ عُنُقي،
تزامن مع آخِرِ كلماتِها السَّاحرة.
دَعوْتُ
الله في سِرِّي أن يُخيِّب مَسعاها عندي، وأنا مُقيمٌ على حُكْم اليقين فيها
وبفعلها الكاذب.)
لكن الزمن قدم بصورة بطيئة بفعل عدة تقنيات فبداية النص اعتمد على الوقفة
الوصفية كمحاولة لتجميد الزمن حيث هنا الراوي عبر تأمله في الشخصية يقدم لنا رسمها
الممتزج بمشاعره:
(رشاقةُ حركة يديْها المدروسة في كلِّ مرَّة
تُفرِغُ فيها خليط الحصى، وقِطَعُ العظم والوَدَعِ من كيسها القماشيِّ الأسودِ
المعقودِ بقطعة خيط عتيق.
وجهُها
الموشومُ بخطوط مُتشابكةٍ على ذقنها تحت شَفتيْها الرّقيقتيّن، مُوحٍ بطمأنينة
تولَّدت للتوِّ، اِبْتسامتُها تفسحُ المجال لِلألَاء نَابِها الذَّهبيِّ إبهارَ
عينيَّ؛ لتنقُلا اِكْتمال اللَّوحة بكامل بهائها للمُخِّ.
محاكمةٌ
صوريّة مُسبقة الحُكم: "كَذَبَ المُنجّمُون، ولو حاولوا أن يكونوا صادقين".
لم يمنعني من مُقاطعاتها، والإفلات من رجائِها المُتوسّل بسماعِها، ولو لمرّة
واحدة..!!)
ولذا نجد أغلب النصوص قد اعتمد فيها الكاتب على ضمير المتكلم من أجل أن
تعطي ذلك البعد عبر الانفعالات والمشاعر والذكريات لزمن الحدث.
وأحيانا نجد أن لزمن الحدث بعدا ممتدا للمستقبل كما في نص البصارة أيضا،
فالراوي بعد انقضاء تلك الدقيقة مع البصارة الغجرية، نجد أنه يقف على ذلك التأثير
الذي أحدثه فيه ذلك الزمن المنقضي:
(اِبْتسامتُها عريضةٌ مُنبئةٌ عن تَطابقاتٍ
في ذِهْنِها، لا عِلْم لي بما ستقولُ، اِرْتسمتْ بشائرُ فَرِحةٍ على وجهها، تألّقَتْ
في عينيَّ مُجدّدًا. حاولتُ إزاحة وجْه الجيوكندا من مُخيِّلتي، وكدتُ أصرخُ على
دافنشي، كيف خانته فِطنته عن هذا الوَجْه القمريِّ المُتلألئِ نورًا يتغلغل في
قلوب مُحيطيه؟.
اِبْتسامتي
طيلةَ يوْمي لم تَبْرَحْني، على غير العادة، تساؤلاتُ الزُّملاء والزَّميلات تنهال
عليَّ.)
وفي نص (سلطان النوم)
بدا البناء مختلف بعض الشيء وكذلك حتى في استخدام ضمير السرد، حيث اُعتمد
هنا على ضمير الغائب وحضور الراوي العليم، ونجد الحدث المحصور في دقيقة يفاجئنا منذ البداية وكان متمثلا في رنين المنبه والذي
يسعى البطل إلى إيقافه، هي لحظة الصحوة التي تريد أن تتفلت من زمام النوم:
(رنينٌ مُتواصلٌ
على مدار دقيقة كاملة، يُصارع ظلام الغُرفة بإصرار عنيد على أداء مُهمّته
المُؤتَمَن عليها. لا يهدأ إلّا غفوة قليلة؛ لمناوشة فرصة جديدة؛ قاطعًا سلسلة
سيرة شخير ونخير بموسيقاها الصّاخبة كاسرة صمت اللّيل الموحش بهدوئه المُريب،
وظلامه المُخيف بتخيّلاته الدّائمة.)
ولكن الزمن هنا لا يُستوقف، بل يأخذ بعده في (الحلم) الزمن الغائب أو الزمن
الذي يمكن القول بأنه خارج الوعي به:
(يدُ فطين تتحرّك
على غير هُدًى بحثًا عن مصدر الصّوت، المُنبّه غير مُراوغ في تعبيره بإعلانه
الصّريح حتّى وإن كان مُزعجًا، استمرّت وتيرة الحُلُم المناوئة لعناد الرّنين إلى
مَدَايات تقطر تفاؤلًا:
"المدينة
عادت إلى سابق عهد شبابها الأوّل، قبل أن تشيخ في ربيعها القرمزيّ اللّون على مدار
سنواتها العشر. في عيد شمّ النّسيم خرج العمّال للاحتفال بمنجزاتهم التي يفخرون
بها مُباهاة....ألخ النص)
لكن في نص (ضجيج)، تأتي صورة عكسية تماما عن نص (سلطان النوم) فالحدث
المحصور في دقيقة نجده في (الحلم) والواقع هو من يمثل له البعد الآخر:
(... يسقط مكانه في أرض الغرفة، استند
للحائط، وهو يتحسّس أثرَ بَللٍ مُنسرِب بينهما. "الحمد لله إنّه تعرّق".
أخذ نفَسًا عميقًا، وراح في إغفاءة بعدما تمدّد على سرير)
وهنا رغم أن النص اُعتمد فيه ضمير الغائب ولكن الراوي يبدو أنه كان محدودا
ولم يأخذ دور الراوي العليم ولذا نجد أن البعد الواقعي كان أقوى حضورا.
لكن في نص (الحكواتي) وهو برأيي أجمل نصوص المجموعة الذي حضر فيه الراوي
العليم مضيفا زخما سرديا في النص مع تلك التداخلات في الحوارات الداخلية للبطل، وأخذ
الزمن فيه أبعادًا عديدة، إذ يبتدئ النص بوقفة زمنية مَثلَ فيها الحدث في توقّف
الحكواتي عن الاسترسال في سرده للحكاية المنتظرة منه في المقهى:
(الحكواتي على
غير عادته توقّف فجأة عن الاسترسال في حديثه. لمح ذاك الرّجل القابع في الزاوية
شبه المُعتِمة،...)
وتلك الوقفة الزمنيّة كان فيها كل درامية النص وحركته، وكانت مفارقة قوية
حضرت في تقنية النص، وهذه المفارقة في تلك الأبعاد للزمن:
1- بعد الذاكرة (لمح ذاك الرّجل القابع في الزاوية شبه المُعتِمة، كوجه
ذاك التمثال المُنتصب في ميدان العاصمة الرّئيس، بإطلالته العُلويّة من فوق
القاعدة الرُّخاميّة العالية بمشهديّة بانوراميّة...) هنا الرجل الذي يرقب الحكواتي جعله يعود بذاكرته للوراء، وذلك التمثال
والحكايا التي تدور حوله، إنه لم يُقم هناك إلاّ للرصد وكجهاز استخباراتي كما يعرف
ذلك من سياق النص.
2- البعد النفسي (عينا الرّجل ما زالتا مُصوّبتَيْن إلى فم الحكواتي.
الحكواتي مُجهَدٌ من أثر معارك جسّاس
والزّير، حاول إزاحة تراكُم نظرات زبائن المقهى جميعًا عن شَفَتيْه، تثاءب على غير
عادته، وضع كفّه اليُمنى على فمه، بحركة من أصابعه، دفَع بالعوائق –ممّا
يظنّ من نظراتهم- المُتراكمة إلى جوفه.) هنا نجد الحكواتي يدخل في الانفعال والإحساس بثقل تلك اللحظة عليه من
جراء ذلك الرجل صانع العقدة للحكواتي والنص أيضا.
3- البعد المشهدي (...الجميع صامتون بانتظار إكماله للمشهد. أعينهم تتركَّز نظراتها في وجهه، من جديد مَسَح وجنتيْه، وحَوْل
أنفه، ومحيط فمه، وآثار تعرّق جبينه.) لحظة التوقف
تلك من الحكواتي كان لها انعكاس على المشهد أمامه.
4- الوقفة الوصفيّة (اعتدل في جلسته. أصلح طُربوشه الأحمر ذي الشُّربوشة
السوداء المتناغمة بحركاتها المنفعلة؛ بفعل اهتزاز رأسه مع نهاية كلِّ عبارة حارّة
إذا حمي الوطيس. تنحنح بصوت مسموع في
أرجاء صالة المقهى، وضرب بعصاه الرّفيعة على طاولته، نظّارته ثابتة على رأس أنفه،
لكنّ عيناه تنظران من خارج الإطار إلى صفحات الكتاب العتيق، ذي الورق الأصفر،...) هنا حتى هذه الوقفات الوصفية تعطي تجسيما للزمن.
وهكذا نجد هذه الأبعاد تتعاقب على النص، حتى تأتي نهاية هذه اللحظة
المشحونة بخاتمة يظهر انعكاس تأثيرها على المشهد حول البطل الذي لا يعرف ذلك
الصراع إلا القارئ عبر الراوي العليم(دوّامة من الصمت غيّبته تفكيرًا في متاهاتها، ولم يَعِ
شيئًا من إجابتها: قالوا:
-"هناك كاميرات مُراقبة داخل عينيْ التمثال".
اعتذر من
زبائن المقهى، وغادر قبل انتهاء موعده عند ختام المشهد كما هو معتاد في كلّ سهرة.
تأفّفٌ. ضجرٌ.
قرقرة النراجيل سيطرت، ودُخَّانها لم يتوقّف صدوره من أفواههم.)
وهكذا يتلاعب المقداد بالزمن مع الحدث، وبهذا التجسيم عبر تلك الأبعاد النفسيّة
والمشهديّة، وبُعد الذكريات والوقفات الوصفية؛ فنعيش الحدث فما بين النص والواقع مرصودا
بدقة التصوير البطيء الذي يُشبع الإحساس به.
ويظل ينتبه أديبنا المقداد للعلاقة بين الزمن والحدث على
أنها علاقة متلازمة، والحدث في الزمن لا ينظر إليه من جانب واحد، مشيرا إلى ذلك
بأصابع فنان، فهذا الحدث في دقيقة واحدة.. فقط؛ يمكن أن تبصره عبر (البصارة)
مستقبلا ينتظرك على حد زعمها على الأقل، وتستطيع أن تشيد به (لحظة عامرة)،
والدقيقة الواحدة يمكن أن تتحول إلى (انتظار)، وقد يأخذك فيها (سلطان النوم) لكنه
النوم اليقظ، وقد تفيق بعدها لتمر عليك دقيقة أخرى لا أكثر وأنت في صدمة الحب
الأول فما (الحب إلا...)، وفي هذه الدقيقة يمكن أن يتم فيها (تبادلات) عديدة، لكن
عليك أن تكون في (حذر هادئ)، دعها تمر دون (ضجيج)، ففي هذه الدقيقة قد تتردد حكاية
صامتة في جعبة (الحكواتي) فليست كل الحكايا من الكلام المباح. ودقيقة واحدة مع
(ذات النظارة) امرأة عبر نظراتها المتوارية ستحاول النبش في ذاكرة متعبة، لتتوالى
عليك (متتاليات) من المشاهد كشريط فيلم سينمائي، ولتصبح تلك الدقيقة (رسالة
منتظرة)، أو (حديث لم يكتمل)، أو (لحظة ذهنية) فيها قد تُسرق رواية كاملة، وقد
تتحول إلى (لوحة جريحة)، وتصير (في بيتنا صورة)، ويتم فيها (كتابة)، أو (درس
جغرافيا). كل تلك المفردات السابقة والتي تجدها قد حصرت بين قوسين، هي عناوين
الدقائق التي حصر فيها الحدث، والتي أتركها لك أنت القارئ العزيز لتكتشف تفاصيلها
وتتعرف على شخوصها عبر منممات قصصية من رسم قلم المقداد.
أحمد علي بادي
1٠ - 6 - ٢٠٢٤م
الحديدة - اليمن