الثلاثاء، 21 فبراير 2023

باب القانون

 باب القانون


حديث الذكريات

بقلم- ( محمد فتحي المقداد)*


يحكى أن أحد رجالات بصرى الشام، يدعى أبو عبدالغفور، كان طويل القامة باعتدال مهيب، ووجهه الصبوح كالقمر، يحترمه أهل القرية آنذاك، لما يجدون فيه من الدماثة و حُسن الخلق، وطيب المعشر، وحلاوة لسانه التي تقطر عسلاً، يتميز برأيه السديد، ودرايته في أحوال الحياة بشكل عام، وقد أعطاه ذلك ميزة طلاوة الحديث، بحيث يشدّ سامعيه، ولا يستطيعون ترك حديث أو الانصراف عنه. 

قيل: أن أحد أولاده ويدعى اسماعيل في مقتبل عمره، وحرارة الشباب، رأى أنه من الخير له أن يسجله في الجيش، ففي تلك الأيام كان الفقر سيد الموقف (فترة الستينيات) من القرن المنصرم،  فحياة الفلاحين القاسية، جميعهم يعملون في الأرض البعلية، المعتمدة على مياه الأمطار فقط. 

*** 


ابتدأت حياة الشاب اسماعيل العسكرية في مدرسة الرتباء، قساوة التدريب، و النمط العسكري الجديد كُليّة عليه، جعله يتأفف، لعدم انسجامه بداية عندما انتقل من بساطة وطيب أهل القرية، إلى هذه المدرسة العسكرية، بعد طول تردد، أخيراً قرر فيما بينه وبين نفسه، أنه في أول إجازة له، لن يعود إلى هذا المكان مهما كلف الأمر. 

والده كان يرى في هذه الخطوة ناحية إيجابية، بحيث أن ابنه سيصير موظفاُ عند الدولة، وكانت الوظيفة حلم الكثير من أبناء الريف، فنسبة البطالة العالية، وصعوبة الحياة، جعلت الشباب يتوجهون بأعينهم صوب الهجرة للعمل في ال=زيرة السورية، أو لبنان، والقليل منهم من إلى دول الخليج.

*** 

رفعت مذكرة بحث باسم اسماعيل، وعُممت على كافة وحدات الشرطة العسكرية، التي تقوم بدورها بملاحقة العسكريين الفارّين من الخدمة، واقتيادهم إلى سجن تدمر العسكري، بعد عرضه على قاضي الفرد العسكري.

بدأت ملاحقته عندما وصل اسمه لمفرزة الشرطة العسكرية في درعا، ولما لم يتمكنوا من القبض عليه عندما داهموا بيتهم في القرية، فتواري عنهم من خلال الصعود على سطح المنزل، والهروب عبر أسطح بيوت الجيران المتلاصقة و الخروج من حارة أخرى، بعيدة نسبياً عن بيتهم، عادت الدوريّة أدراجها خائبة من القبض عليه، رغم أنهم في طريقهم قبضوا على بعض الشباب الفارّين ا, المتخلفين عن الخدمة من الأحياء الأخرى، او القرى المجاورة. 

*** 


الوالد أبو عبدالغفور، أحسّ بالمصيبة الكبيرة التي وقعت عليهم، فما كان منه، إلا أن حزم أمره، وقرر الذهاب إلى دمشق من أجل حل قضية ابنه، والتي بحاجة إلى وساطة نافذة لحل المشكلة. 

سأل كثيراً، واستفسر، وفهم من هو الشخص الذي بيده الحل، فقالوا له وزير الدفاع، ونصحوه بتقديم طلب لمقابلته، وعليه الانتظار لمدة أسبوع، وبعدها يراجع، ويكون على موعد مع الوزير.  يلبس عباءته، وهو بكامل هيبته، و وقاره، وبساطته المليئة بعزة النفس و الأنفة، بعد أن قرع العسكري الذي يمشي أمامه باب المكتب، قال له: تفضل يا حاج. بعد أن ضرب التحية، واستدار خارجاً من الباب. 

- أبو عبد الغفور: السلام عليكم، يا باشا. 

- الوزير: وعليكم السلام، أهلا وسهلاً، تفضل يا حاج.

- أبو عبد الغفور: (يا يابا أنتم دولة كبيرة، و بتفهموا، وعقلكم كبير، حاطّين راسكم براس اسماعيل؟، نحن جبناه لعندكم حتى يتعلم، ويصير من الأوادم).

- الوزير: باستغراب واندهاش..!!، من اسماعيل يا حاج، وما هي قصته.

- أبو عبد الغفور: اسماعيل، هو ابني، جاءت الشرطة العسكرية تبحث عنه، وعلمتُ أن الوحيد الذي بيده الحل هو أنت. 

- الوزير: والله يا حاج هذا هو القانون كما تعلم.

- أبو عبد الغفور، نظر ملياً في وجه الوزير، وقال: (يا يابا افتح باب القانون فوِّتْ ابني، وسكِّر - أغلق – وراه الباب، مين داري عنّك؟.).

- الوزير: حار في الرد على بساطة منطق الحاج، ولما لم يجد بُدّاً، قال له: هذا توقيعي, بأمان الله.

      (من مجموعتي - يا ما حكوا)


عمّان \ الأردن 

21 \ 2 \ 2016