الجمعة، 7 أبريل 2023

حوار مع محمد زعل السلوم

 

 

حوارات سورية في المنفى

الروائي محمد فتحي المقداد

** يحاور**

الكاتب والأديب محمد زعل السَّلوم

 


 

تقديم:

ضيفي نمط سوريٌّ مختلف، فهو مُترَع بخصوبة تُربة الجولان السُّوريِّ المُحتلّ،  معجون بالعطاء بلا حُدود، دراسته للغات والترجمة في جامعة دمشق. واسع المعرفة، حالة نادرة مُدهشة، تواضعه آسِرٌ. دؤوبٌ حادبٌ بالاشتغال على مشروعه الفكريِّ ذي الأبعاد الثقافيَّة المُتشعبَّة، فيما بين دروب الشعر الحُر النَّثري، والرواية، وكتابة المقالة بمختلف اِنتماءاتها الأدبيَّة والفكريَّة والسياسيَّة والنّاقدة، والدِّراسات المُقارَنَة، والتاريخيَّة والتوثيقيَّة.  

"محمد زعل السَّلوم" رقمٌ ثقافيٌّ سوريٌّ صعب، يحارُ من يُدير حوارًا، من أين سيبدأ؟. وفي عُجالة الفُسحة المُتاحة للحوار، لاشكَّ أنَّها لن تستوعب إلَّا النَّزر اليسير من شخصيَّته المُثقَّفة، وبحاجة لجلسات عديدةـ للإتيان على الجوانب الكثيرة، ولإيفائه حقَّه، وتعريف القُرَّاء به. فلنبدأ على بركة الله.

 

أسئلة الحوار:

1- محمد زعل السَّلوم رقم ثقافيٌّ صعب التَّهجئة، فكيف تستطيع تفسير هذا الرأي، فكيف يستطيع القارئ قراءتك إذا لم تفسر لنا ذلك بعرض مناسب كما ترى نفسك؟.

في الحقيقة أعتبر نفسي بأنني لازلت أحبو في عالم الثقافة، ربما لأن مشروعي الثقافي لم يكتمل بعد، أو ربما لأنني لم أصل بعد لهدفي المنشود، فعندما بدأت الكتابة قبل ثلاثة عقود بتفريغ ما أسمعه من إذاعات العالم عبر تسجيلها على كاسيتات، ورغم المجلات والكتب التي أستعيرها من مكتبة المدرسة والصحف والكتب التي أحصل عليها أو أشتريها من أقرب مكتبة أراها خلال زياراتنا العائلية لمنزل جدي بمخيم اليرموك بدمشق أو من مكتبة الربيع في جديدة عرطوز البلد، أو ما أحصل عليه من والدي وأخوالي وأهلي من مجلات وكتب، كل هذا النهم للقراءة بل وتوثيق ما أقرأه بدفاتر أخصصها لأقص وألصق وأكتب بخطي من المجلات ما يعجبني من المعلومات، كنت نوعاً ما لا أجد في المدرسة ما يكفي للإجابة على تساؤلاتي الكثيرة والتي تبدو كالطوفان في أحيان كثيرة، سؤالك صديقي العزيز كاتبنا وأديبنا الكبير محمد فتحي المقداد، حرك سيل من الذكريات في بالي، لأن الثقافة بحد ذاتها مفهوم كبير جداً وشديد الاتساع بل هو مفهوم غير واضح المعالم فهل المثقف هو القارئ فقط أم خريج الكليات والجامعات أم المتفرغ للكتابة على أنواعها، في الماضي كانت الصحف العربية تخصص صفحات مطولة للمثقفين إذا اتفقنا على الكتابة الإبداعية للدلالة على الثقافة والمثقفين واليوم لانجد إلا ما نسميه في عالم التواصل الإجتماعي وللأسف التريندات، وهو تسخيف المجتمع والإبداع والانحدار نحو عالم التفاهة، وهذا التسطيح في المفاهيم ربما صَعَّب على الكثيرين قراءتي وفهم محتوى ما أرمي إليه، وكل ما أتمناه أن تساهم الصحف والدوريات العربية والمجلات المحكمة بأن تأخذ دورها في تعميم الثقافة بمعناها العميق والمتزن وأن نأخذ زمام المبادرة كمثقفين، إذا اعتبرنا أنفسنا ذلك، لرفع سوية الذائقة العامة بين الناس وأن نبتعد عن سفاسف الظاهرة الحالية وما نسميه ثقافة التريند والفاشينيستا وصانعي المحتوى البسيط وأن ننهض بمحتوى جاذب وأكثر مسؤولية، وهناك تجارب على قلتها لكنها نجحت مثل الجهبذ والدحيح وغيرهما.

2- محمد زعل السَّلوم يمتلك ثقافة موسوعيَّة مُتنقِّلًا ما بين الشعر والرواية والخاطرة والترجمة والمقالات الفكرية والسياسيَّة. أين تجد نفسك ضمن هذا الخضمِّ؟. وقد ناهزَتْ مؤلفاتك المئة كتاب بمختلف فنون الكتابة، فما الذي سيروي غروركَ أو فلنقُلْ طُموحاتكَ؟.

أنا قارئ متنوع لدرجة أنني أقرأ كل ما يقع بيدي وما تراه عيني، تنقلت في الشعر بين الشعبي النبطي المناسب للهجتي البدوية الجولانية والنثر وكان لي محاولات في القصيدة العمودية، وربما كتاباتي الأولى كانت بدائية وبسيطة وتعبر عن عقلية طفل، ولكن كلما تقدمت بالعمر وتجولت في عالم الثقافة أكثر تتغير لغة قصيدتي وتتحول، لكنني عندما جربت القصيدة الجذامية التي اخترعتها على أسلوب الكولاج والدادائية والسريالية والرمزية عام 2003 وأعتقد أنها اللحظة الفارقة في حياتي في الكتابة الشعرية، فلم أتمكن من تجاوزها، أحياناً أشعر بأن علي إعادة صياغة ما كتبت، لكنني أجدها مادة خام ولغة جديدة في كل مرة أعيد قراءتي لكل قصيدة كتبتها، خاصة مجموعاتي ألفية بغداد وألفية الجنون والحب والتكوين والنبش والهذيان وصولاً إلى عُرمة قمح والخوارج على الحب.

وفي الرواية كانت تجربتي المنشورة مشرد البوسفور محاولة أخرى على طريق الذاتوية والرواية القصيرة، وبالنسبة للترجمة فهي عالمي ومنبعي الرئيسي ومن خلالها أتجول بين وجهات النظر المختلفة في هذا العالم بين يمين ويسار وبين وسط وليبراليين، ومن خلال هذا التنوع الفكري الهائل ووجهات النظر المختلفة أخرج بمقالاتي السياسية والفكرية واستنتاجاتي الخاصة التي ربما تختلف مع المصادر التي أستقيها منها، وحتى أحياناً بشكل جذري، فما أراه من منطقتي وبشكل طبيعي يختلف عما يراني الآخر، وحتى عندما أريد النظر للآخر فأراه من وجهة نظري لا وجهة نظره مع عرضها على القارئ وإن اختلفت معها.

بالنسبة للشق الخاص بسؤالك صديقي الكريم عن طموحاتي، فلا أعتقد أنني أتوقف عند سقف بعينه، فمن يقرأ السياسة والواقع السياسي يجد أنه عالم متغير على الدوام، وبالتالي علينا ملاحقة الأحداث، فعندما أعمل كمحرر أحياناً لا ألحق على أخبار سوريا لوحدها فما بالك بالعالم، ولكن علي وعلى الدوام الإطلاع على ما يجري حولنا. ومجاراة تحولات العالم، وبالنسبة للفكر فهنا قضية أخرى، فالفكر بالنسبة لي نظرة استشرافية لما يجري وسيجري على الأرض ومقارنة الماضي بالحاضر، وهناك الكثير من الأمور في الماضي التي يمكننا استخدامها لإسقاطها على واقعنا اليوم، ولسبب النضج السياسي في أوروبا التي عاشت نهضة فكرية عظيمة قبل وبعد الحربين العالميتين، فيمكننا الأخذ عن تلك التجارب النهضوية للإفادة منها في عالمنا الديستوبي العربي البائس اليوم مع الأسف.

 

3- هل تتذكّر ذلك الظّرف، وتلك اللّحظة من العمر، عندما قُلتَ لنفسكَ: "أريدُ أن أكون شاعرًا؟"، وهل مرّت بكَ لحظة من العمر لنفسكَ فيها: "ليتني لم أكُنْهُ أي الشّاعر؟". خاصَّة عندما مُنع ديوانك (ألفيَّة بغداد) من النشر في دمشق قبل 2011.

لم أعتبر نفسي شاعراً في يوم من الأيام ولكن محيطي اعتبرني شاعر، فمنذ أول قصيدة بسيطة كتبتها في طفولتي ومحاولة تقفية شعريتي، لاقيت التشجيع الكبير من عائلتي والمعلمين في المدرسة واعتبروني شاعراً، بل وفي كل اجتماع عائلي كانوا يطلبون مني أن أقرأ لهم، بل وكنت أسجل كاسيتات شعرية بصوتي، خاصة الشعر النبطي، وكانت بيئتي مرحبة وبقوة لمحاولاتي التي اعتبرها اليوم ساذجة أو بالأحرى مناسبة لتلك المرحلة من حياتي وسني، لكنهم، وأقصد أهلي، كانوا يتقبلون تنويعاتي على إيقاع الشعر ويشجعوني على الدوام لأتطور، بل ومن حبي للاستمرار كنت أستمع يومياً لإذاعة دمشق حيث تقدم الإذاعة كل يوم قصيدة عربية من روائع الشعر العربي، وكنت أقرأ القصائد في الصحف والمجلات التي تقع بين يدي وخاصة مجلة العربي بين قصيدة حديثة وكلاسيكية، وما تنشره مجلة المعرفة لوزارة الثقافة السورية، عدا استماعي لإذاعتي الكويت والرياض من السعودية وقصائد النبط وكنت أحاكي تلك القصائد وأقلد وزنها وأبحث عن ذاتي معها. أما اللحظة التي أعتبرها لحظة الشعر فكانت عام 2003 كما ذكرت، عندما كتبت ألفية الجنون وألفية بغداد وكان نمط مختلف جذرياً عن الأوزان والقوافي وأكثر نضجاً ووعياً، وهنا تفجرت كتاباتي النثرية وهناك من اعتبرها ممن حضروا أمسياتي الشعرية بدمشق بزمن طويل، فكر لا شعر، والغريب أنها كانت سوداوية ليس فقط بسقوط بغداد وإنما برؤية استشراف لمستقبل مظلم لبلادي سوريا وهذا ما حصل بالفعل. ومع ذلك ستجد في طياتها روح أمل ما بعد الدمار المتوقع.

وفي عام 2010 قررت الحصول على تراخيص لستة دواوين شعرية في اتحاد الكتاب العرب بدمشق، هي الحب والتكوين وألفية بغداد وألفية الجنون والنبش والهذيان وعُرمة قمح وأوبوا أو الريم والحب عندما قدمتها كمسودة للاتحاد، وانشغلت بعد ذلك رغم أنهم ذكروا لي أن أعود بعد شهرين للتقييم والترخيص في الطباعة، ولم أعد إليهم إلا في عام 2014، ويومها اكتشفت منعهم لألفية بغداد وألفية الجنون والنبش والهذيان، بحجة المفردات الصعبة فيها، ولكن معظم مواضيعها كانت سياسية سوداوية فكيف لهم أن وافقوا على عُرمة قمح السياسية أيضاً، والتي تتناسب مع فكرهم بشكل أو بآخر وتفاؤلية نوعاً ما، فيما رفضوا البقية بحجة واهية. فقط لأنها تكشف حقيقة الكرسي وبشاعة الأنظمة العربية وعالم الديستوبيا المظلم الذي نعيشه في عالمنا.

وبالنسبة للحظة "ليتني لم أكن شاعراً" في الحقيقة كما ذكرت فأنا لا أعتبر ذاتي شاعراً وإنما أحب أن أعبر عن مكنوني على طريقتي، ليس من باب الإنكار والتخلي عن شعريتي أو ما أنثر بقدر ما هو نوع من الإحباط من بين آلاف الإحباطات التركية التي أعيشها في هذه البلاد الغريبة التي أعيش فيها والمماحكات والمضايقات التي أتعرض لها فيها.

4-ماذا تقصد بعبارة آلاف الإحباطات في تركيا، هل بسببها ستعتزل الشعر مع أنني أرى المزيد من كتاباتك الشعرية وغزارة تلك الكتابات، ولكن سؤالي هل تعرضت للتهميش في تركيا قبل أو بعد اعتقالك، رغم نشاطك الكبير فيها، أم تقصد مهرجانات الشعر التي أقيمت في اسطنبول وتم استبعادك عنها رغم أنك طبعت ورقياً في تركيا لوحدها 13 ديوان شعري من أعمالك التي منعت في سوريا وأعمالك الحديثة مثل هانا واساكو وأيتام محمد وغيرها؟

في الحقيقة قدمت في تركيا عدة أمسيات على قلتها، آخرها في مركز الدار في تقسيم قبل أربعة أعوام، وقبلها مرتين أمام جمهور من مختلف أنحاء العالم، وكانت ضمن مايك مفتوح بمعنى ليست امسيات بقدر ما هي محاولة بائسة للتعبير عن ذاتك أمام جمهور لا يفهم ما تتفوه به، وبالنسبة لمركز الدار كان بمبادرة مني ومن صديق وهو شاعر أيضاً مع عدة شعراء من سوريا وفلسطين والعراق، وحضرت ذات مرة عن طريق الصدفة اجتماع للكتاب العرب والأتراك بدعوة من اتحاد كتاب الأناضول، وللمفارقة كان إسمي بين المدعوين، ولكنني لا أعلم بالدعوة لو لم تسألني الكاتبة السورية ابتسام شاكوش، لأنها لا تعرف مكان الاجتماع بسبب خبرتي باسطنبول، وأعطتني رقم كاتبة وصحفية تركية ناطقة بالعربية لأكتشف أن اسمي موجود وأنا لا أعلم، هل هو بسبب تغييري لرقمي القديم؟ أم بسبب إهمال متعمد فلا أعلم، وبالفعل حضرت اللقاء الثقافي وأخذنا صورة جماعية. وكتبي موجودة رسمياً في مكتبة جامعة إسطنبول المركزية وفي وزارة الثقافة التركية.

بالنسبة لموضوع التهميش في الوسط الثقافي العربي في تركيا، فهذا نصيب معظم كتابنا العرب، وبالنسبة للمهرجانات الثقافية التي لم تتم دعوتي لها، كما ذكرت فقد غيرت رقمي الذي يعلمه الجميع، وربما تمت دعوتي وربما لا، فلا أعلم إن كان ذلك من باب التهميش، وعندما طبعت كتبي فقد عرضتها في معرض اسطنبول السادس للكتاب العربي عام 2021، ومعرض غازي عنتاب عام 2022، وربما من سوء حظي أنني غير معروف في الأوساط الثقافية التركية لعدم ترجمة أعمالي للتركية، واليوم تطوع أحد الأصدقاء والكتاب الأتراك بترجمة ثلاثة من أعمالي للتركية من اختياري وقد اخترت ألفية بغداد والنبش والهذيان وروايتي اليتيمة المطبوعة مشرد البوسفور. وسيساعد آخر يملك دار نشر في روما وأمستردام في ترجمتها للإيطالية والإنكليزية والهولندية.

ربما بسبب عدم نشاطي الكبير جماهيرياً بمعنى الشعر هو سبب اعتبار ذاتي أنني لست بشاعر لكثرة الانتقادات والخلافات حول ماهية الشعر الحديث والتنمر وهذا الجبل الهائل المتراكم من صدماتنا كسوريين، أو ربما لأنني وبكل بساطة نخلة غريبة في أرض غريبة، وهو شعور مرير أحياناً، بأنك مستبعد ومهمش، ومع ذلك فهذا لم يمنعني من استكمال بعض أعمالي وطباعتها.

 

5- ماذا يعني لك الانتقال من عالم الشِّعر إلى عالم الرواية، عندما أصدرت روايتك "مُشرَّد البوسفور"؛ فهل كان ذلك لتُتثبت للعالم أنَّك لاجئ صاحب قضيَّة؟. أم هو الرَّفاه الأدبي واستعراض مهاراتك في الكتابة؟.

كانت مشرد البوسفور أقرب ما تكون لليوميات المتقطعة منها للرواية، وأحببت من خلال تلك اليوميات على قلتها أن أوثق بعض لحظاتي الاسطنبولية، ففي اسطنبول وجدت عالم حداثة مختلف عن دمشق وبنية تحتية مختلفة عن دمشق، وبحرين هما مرمرة والأسود ومضيق البوسفور والخليج، كل هذه البيئة المذهلة أخذت من لباب قلبي وكنت أحاول مجاراتها مع عالمي الجديد، بعد سنوات طويلة من الحرب في بلادي فقدت فيها الكثير من احساسي كمواطن مدني يعيش بحرية "تنقل ثقافي" كما كنت أعيش بعمق الحياة الثقافية في دمشق من عام 1999-2011، حيث كنت أحضر مهرجانات الجاز والسينما وأتعرف على موسيقات العالم بدار الأوبرا والمسرح السوري وحتى العالمي وأنهل من معين الثقافة الكثيف وخاصة التي تأتي عبر المركز الثقافي الفرنسي والإسباني والألماني والهولندي والدنماركي والفنلندي والروسي وحتى البريطاني والأمريكي على قلة نشاطات الأخيرين وكنت متلقي جيد لمختلف تلك الثقافات، وقد وثقت بعضها على غزارتها وغطيت الكثير منها عبر برنامج كنت متطوع فيه كمراسل في راديو مونت كارلو، ثم تحل الثورة ويتم إغلاق تلك المراكز وأعيش نوع من الحبس الذاتي بعد الثورة السورية وشلل الحياة الثقافية، لأجد نفسي مجددا في إسطنبول محاولاً إعادة تركيب بنيتي الثقافية ومجاراتها من معارض كتب ومعارض فن تشكيلي وحفلات لمختلف أنماط وموسيقات العالم، بل والبحث عن المسرح والسينما في هذه العاصمة الكونية والميغا سيتي والتي تقف على أربع حضارات هي الرومانية والبيزنطية والعثمانية وعالمنا الحالي، ففيها ركبت أول مترو وأول ترام والذي حرمت منه دمشق منتصف القرن الماضي، وأول عَبّارة بمياه البوسفور بين جانبي آسيا وأوروبا والعكس في اسطنبول، هذه المدينة التي أسكرتني في حبها لدرجة نسيت نفسي بها، وانغمست أكثر فأكثر في عوالمها المتناقضة بشدة، فأحببت تكريمها وإظهار جزء من عالميها النهاري والليلي، والعلوي والسفلي، ولا أعتقد أنني أنهيت تلك الرواية، وفي اسطنبول أيضاً كتبت المزيد والمزيد من الشعر والدواوين، وفيها طبعت 15 كتاب دون رقابة هذه المرة، بل وشاركت كتبي في معرض كتابها العربي، فشعرت بأن لدي أجنحة أحلق فيها أخيراً، ففي البداية استغربت حجمها وأنا المعتاد على حارات الشام الضيقة، واعتقدت في البداية أنها مارد سيبتلعني، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت بترويضها، وخاصة أنني تنقلت فيها بين أكثر من ثلاثين منزل وسكن خلال ست سنوات فقط.

 

6- كمُبادر ومُتطوّع للعمل الإغاثي والتعليمي، ومن خلال هذا المجال،  كيف تكوّنت لديك فكرة تشكيل نادي "أوتاكو" وما هو الدور المُرتجى الذي تطمح إليه من "أوتاكو"؟، وفيما بعد ذلك حصلت على جائزة أدبية يابانيَّة رفيعة المستوى في مجال إرساء السلام العالمي، لمخاطبتك الشعريَّة للعالم باللغة اليابانيَّة، وببعض اللَّوحات التي مثُّلت شخصيَّة يابانيّة معروفة؟.

التعليم والتطوع والعمل الإغاثي والإنساني هي أكثر الأشياء التي تنعش روحي وتمنحني نوع من الرضا عن النفس تجاه شعبي وتجاه هويتي كإنسان، فبعد الزلزال الكبير في تركيا يوم 6 شباط 2023 وهو فجر مشؤوم بالنسبة لي، عشت أيام عصيبة وأنا أتواصل مع فرق الإنقاذ الشبابية السورية في هاتاي وجنديريس وغازي عينتاب وأورفا والعثمانية، وبذات الوقت أتواصل مع الأصدقاء في برلين وباريس وطوكيو وكيوتو وكوماموتو والجولان المحتل، ولم أكن لأنام الليل لمجرد البحث عن أمل بنجاة عائلة أو خدمة مشرد، فأنا بالأساس مشرد وأعرف ما تعني تلك الكلمة بالذات، وكنت في الجنوب السوري قد عملت بمجال الإسعاف والإغاثة وعندما كنت بدمشق كنت المعلم، وكان لدي نادي والهدف منه إحياء نفوس تلامذتي على موتها بعد القمع الشديد والدمار الشديد لمدن جنوب دمشق وخاصة مخيمي اليرموك وفلسطين ومدينة الحجر الأسود وخان الشيح وكان معظم طلبتي من تلك المناطق، وأحببت أن أصنع في قلوبهم الأمل وأن أتطلع معهم لدولة تزامنت مع الثورة السورية بكوارث الزلزال والتسونامي والكارثة النووية، وأحببت أن أشجعهم من خلال نهضة اليابان وعودتها لتقف على قدميها رغم الكوارث الثلاث وإن كانت في جزء منها طبيعي وجزء من صنع الإنسان أي محطة فوكوشيما النووية، وأن يقارنوا ذلك مع مايحدث بوطنهم سوريا وهم اللاجئين الفلسطينيين، كل ذلك جعلني أعيد النظر وأغير طريقة تفكيرهم، بالتعايش مع كوارثهم بأن يطلبوا الحياة ويعيشوا الأمل رغم القوة الطاغية التي تقول العكس وتصنع الموت، كنا معاً، أنا وطلبتي جيل ثورة وأزمة بذات الوقت، وكان علي وواجبي كمعلم أن أستمر، فقد هدم النظام معظم مدارس الأونروا، المنظمة التي كنت أعمل بها، وأمام هذا الهدم علينا البناء، في داخل قلوب طلبتنا، وقد نجحت لو جزئياً بذلك، وكان اهتمام راديو اليابان الدولي بنا مبعث أمل وشاركنا بمسابقة "أغنيتنا من كلماتكم" وكانت أغنية إينوري أي دعاء باليابانية، وتكريم الأونروا لي، كل ذلك فجر حريتي بالمبادرة والإبداع في البحث عن بدائل تعليمية، وتحولت من متلقي للثقافة ل12 عام إلى صانع لها، فكان مشروعي في التعلم الذاتي والتعليم البديل والمناهج والمواد الدراسية خارج المنهاج قد أتت أكلها وقدمنا مسرح وشعر وغناء وزرعنا حديقة مدرسية وأسسنا نادي بيئي ومعرض للكتاب التبادلي ومهرجان لحقوق الإنسان. بل وحضر طلبتي توقيعي لثلاثة دواوين شعر وأمسياتي الشعرية ومعارض مدرسية، وصنعنا بيئة متقدمة بخطوات على صناعة الدمار والخراب، نحو صناعة البناء والحضارة والحياة.

وبعد رفضي للخدمة العسكرية وتوجهي للجنوب السوري وجدت منظمة فرنسية لإغاثة الجنوب السوري وتطوعت بها كإعلامي ناطق بالفرنسية وكمعلم وكمرافق للعيادات المتنقلة وموزع للإغاثة الإنسانية، بل وعلمت في خيمة، وإغاثة العائلات الهاربة من المعارك وتغطية المخيمات في الجنوب، ولم نكن نهدأ للحظة، وكنت أشعر بالحياة بمعنى الحياة رغم اقترابنا من الموت لأكثر من مرة. وبالنسبة لجائزة كواساكي كانت بمثابة التكريم الياباني الخاص بي ليس فقط عن نص السعادة وكأول أجنبي يحصل عليها منذ تأسيسها عام 1986، إلى جانب شاعرة من هيروشيما، وتلك الرمزية العظيمة بالنسبة لي، وإنما عن مجمل أعمالي أنا واليابان لمصلحة الطفل السوري، وحتى عندما رسمت أنا وصديقي عدي نور لوحة الدب كومامون الشهيرة وبمشاركة أطفال سوريين كانت تلك اللوحة مصدر أمل لضحايا زلزال كوماموتو من الناجين عام 2016 ولشهرين كاملين عندما كان هناك عشرات اليابانيين بلا مأوى، واليوم أنفذ مع اليابان عدة مشاريع إغاثية في الشمال السوري في عفرين وجنديريس وأطمة وجرابلس والفوعة وسلقين بعد زلزال تركيا وسوريا الكبير في 6 شباط 2023، بل ونفذت مشروعين من تبرعات أهلنا في الجولان المحتل وقمنا بمساعدة حوالي 100 عائلة، وغيرها من المشاريع الإنسانية، في ذلك كله أجد نفسي وأعتقد بهويتي، وحتى نفذت لمنظمة أمريكية مشروع إغاثي في الجنوب السوري قبل وصولي لتركيا، هي منظمة جسور من أجل السلام في سوريا.

 

7- لغتك الشعريَّة المـتأجِّجة انفجارًا على صفحاتك ومجموعاتك الشعريَّة ذات المنحى النثري التي ناهزت العشرين مجموعة، لوحظ أنّ طريقتك بالكتابة المُتشظّية بانفجارات على محامل الدَّادائيَّة والسرياليَّة؛ فهل مبعث ذلك وتولَّده في أشعارك هو: تأثَّرك بالشعراء الفرنسيّين الحداثييّن، وهو مجال دراساتك للغويَّات والترجمة في جامعة دمشق؟.

 

كانت القصيدة الفرنسية بالنسبة لي بمدارسها المتنوعة مصدر إلهام ومعين أغرف منه بلا نهاية، ولا أخفي تأثري بها فقد جاءت نتيجة دراستي للأدب الفرنسي بجامعة دمشق، بالطبع لا يمكن ترجمة الشعر الفرنسي، فهو موزون ومقفى ودقيق وبالتالي فعندما أترجمه إنما أترجم معناه، وأكثر من تأثرت بهم كان جاك بريفير بقصيدة الحياة اليومية على سهولة الكلمات والعمق الإنساني، وقصائد بودلير المتأججة والغاضبة والثورية على المجتمع بذلك العصر، وحتى قصائد ايلوار وأشهرها الحرية التي علمتها لطلبتي ضمن منهاج البكلوريا والغريب وجود مثل تلك القصائد المتمردة والإنسانية التي تعلمناها في أجواء نظام قمعي مثل سوريا؟!!، وهي مفارقات غريبة، أن تقرأ لأبولينير وقصيدته تحت جسر ميرابو أو إلى بربارة لبريفير والتي تدين القصف النازي للمدينة، وغيرها من قصائد الحياة العارمة في الشعر الفرنسي، وكذلك شاركت بورشة شعر بالإسبانية بالتعاون بين جامعة مدريد وجامعة دمشق ومعهد سرفانتس بدمشق وطبعت قصائدنا ضمن ديوان صغير في عدد لمعهد ثربانتس الثقافي الإسباني بدمشق، وكانت إحدى قصائدي مستلهمة عن مسرحية الخرتيت أو الكركدن لسيد المسرح العبثي يوجين يونيسكو، وكانت سياسية بامتياز وبسيطة بامتياز بل وعميقة بامتياز. وكنت أنا نفسي أستغرب دراسة وكتابة مثل تلك القصائد الاستشرافية وأستغرب أنه لم يتم اعتقالي قبل الثورة السورية المباركة عام 2011، بل وكنت أستعير بل واحتفلنا بميلاد الشاعر الكبير بابلو نيرودا سيد قصائد الحرية والإنسان وكنت حتى أستعير من المكتبة المركزية لجامعة دمشق روايات غابرييل غارسيا ماركيز مثل خريف البطريرك وغيرها من الروايات حتى إحدى رواياته عن النظام القمعي والوحشي للجنرال بينوشيه في تشيلي؟!، كل هذا ونحن بدمشق؟!!. كل هذا الأدب الإنساني تأثرت به ففجرت لدي الرغبة بالشعرية أكثر فأكثر، ولا أنسى الماغوط ونزار قباني وقصيدته الشهيرة عنترة وعن نكسة حزيران خاصة وأنا النازح المتأثر المباشر من عواقبها ليومنا هذا.

وكما ذكرت كان للأدب العالمي عامة والفرنسي خاصة تأثير مباشر علي ليس من باب التحرر من المستعمرين بل من باب الحرية ذاتها في ظل أنظمة قمعية مخيفة.

8- وقالت الصَّفحات، كتابك الأوَّل في مجال المقالات المؤطِّرة لفكر الثَّورة السوريَّة 2011، وما أحاط بها من إشكالات وعوائق والنّهج القمعي للنظام كثورة مُضادَّة للاندفاع الشعبيّ بنهجه السّلمي، المُطالب آنذاك بإطلاق الحريَّات العامَّة، وإنهاء حالة الطّوارئ والأحكام العُرفيّة ذلك النّفق المُظلم الذي دخلت فيه سوريَّا منذ أيّام الوحدة مع مصر 1958. هل لكَ أن تُحدِّثنا عن هذا الكتاب الأهمّ برأيي في كتاباتك عن الثورة، وأيضًا ممّن كتب في هذا المجال؟.

 قالت الصفحات هي مجموعة دراسات وأبحاث كتبتها أو ترجمتها من ضمن مجموعة مقالات ودراسات نشرتها على موقع جيرون، فقد نشرت في هذا الموقع حوالي الثمانين مقالة وبحث بين عامي 2018-2020، قبل إقفاله للأسف فيما بعد، مع تغير إدارة مركز حرمون للدراسات. وكنت بغاية السعادة أن يظهر لي كل أسبوع مقالة أو بحث في الشؤون السورية، وكانت فرصة لأقدم كل الأفكار الجديدة والملهمة حول الثورة السورية، وبطريقة مختلفة عن المعتاد، وانتقيت من تلك الأبحاث والمقالات ما اعتقدت أنه أفضل ما كتبت وترجمت، وكان أسلوبي الكتابي من النوع الغير معتاد في الطرح، لذلك أجده جوهرة ما كتبت من ناحية طرح مصطلحات جديدة على العربية مثل فيمينيسايد ويوربيسايد والحروب السيبرانية خلال الثورة وتحولات ودور المجتمع المدني والعقلية الروسية وتحليلها، والعقلية الإيرانية وأطماعها التوسعية في سوريا والوطن العربي وغيرها من القضايا الملحة والجادة في القضية السورية. أحياناً أعتقد أنه كتاب ناجح فكرياً وعميق، وأحياناً أشعر بأنه كتاب مظلوم فلم يتم تسويقه بالشكل الصحيح في الأوساط الفكرية السورية على الأقل، كما كانت الدار مجرد طابعة كتب لا أكثر. وهذا من سوء حظي في اختيار الدار والتوقيت في النشر فقد تمت طباعته في عز أزمة الكورونا فلم يأخذ حقه كما يجب.

9- لك باع طويل في الترجمة من الآداب الأخرى ونقلها عن العربيَّة، مثلًا عندما تترجم لبعض الأشعار عن اللّغة الإيطاليّة أو الإسبانيَّة ونقلًا عن التَّرجمة الفرنسيَّة، فهل هذه الترجمات جاءت بنصوص مختلفة تمامًا عن النصِّ الأصلي بلغته الأساسيَّة، فإذا جاز السُّؤال: فهل هذا النَّوع خيانة للنصِّ الأصلي؟. وما هي المعايير المُتَّبعة عمومًا في هذا المضمار؟،وهل يختلف عن الترجمة المٌباشرة من لغة النص الأمِّ إلى اللُّغة العربيَّة أو إلى لغة أخرى؟.

ذكرت في إجابة سابقة أنه عندما نترجم الشعر فنحتاج لترجمة المعنى لا أكثر، فلا يمكن نقل الوزن الفرنسي أو الإسباني والقافية كما هي، نعم لغتنا العربية كبيرة بمعانيها ويمكننا ملاحقة الوزن ولكن ذلك يتطلب هضم محيط المحيط وغيره من المعاجم اللغوية العربية الكبرى وهذا مستحيل، ونحن أبناء لغة اليوم وبالتالي لسنا مجبرين كمترجمين البحث عن أكثر من إيصال المعنى والجو النفسي للقصيدة، والشعر مجالي بالمقابل، واهتممت أكثر لأشعار من العالم لحوالي الستين شعب عبر العالم، وكذلك الشعر الفرنكفوني وترجمت القصيدة الكيبيكية والبلجيكية والسويسرية عدا الفرنسية وحتى ترجمت عن الشعر الفرنكفوني ما وراء المحيطات، والشعر الياباني القديم وقصائد الطبيعة والفصول الفرنسية وخمريات الشعر الفرنسي وحتى الشعر البارناسي البلجيكي القائم على نظرية الجمال فحسب والقصيدة الانطباعية تماماً كلوحات الفن الانطباعي، هذا من جانب أيضاً أثارني الشعر الملتزم بقضية كأشعار الشعوب الأصلية في أمريكا اللاتينية وأستراليا ونيوزيلندا، وبحثت عن قصائد الهنود الحمر الحديثة وشعراء الأنكا والشعر الماوري وغيرهم. لأتعرف وأعرف القارئ العربي بقضايا تلك الشعوب الأصلية، بل واهتممت للقصائد التحررية الإفريقية، والجيد توفرها أو كتبها شعراءها بلغات المستعمر الحديث مثل الفرنسية والإسبانية والإنكليزية، وبالفعل عبروا عن قضاياهم بروعة وبتعابير على بساطتها لكنها عميقة وهامة وتمس الكثير من جوانبنا نحن اللاجئين اليوم في بقاع الأرض، ونقلوا هويتهم بحرفية عالية وأنيقة.

بالنسبة لموضوع الخيانة الشعرية بكل تأكيد هناك خيانة لكنها من النوع الحميد، بمعنى نقل المعاني بأكبر قدر ممكن من الأمانة. وهذا مافعلته عندما ترجمت قصائد الباستيل عن هوغو وفولتير وغيرهما من عمالقة الأدب الفرنسي.

10- كتبت في النقد الأدبيّ عُمومًا، وعلى الأخصِّ في مجال النَّقد الروائيِّ، لا شكَّ أنّها تجربة أثْرَت، وأضافت لتجربتكَ الشيء الجديد. فما رؤيتك للأدب الروائيِّ العالميَ، وللأدب الروائي العربيِّ، ومنه أدب رواية الثوَّرة السُّوريّة؟.

الأدب الروائي العربي اليوم متقدم كثيراً عن ذي قبل، ربما كُتّاب الرواية النهضويين من العرب كانوا الرواد، لكن الرواية العربية اليوم تحولت شيئاً فشيئاً للعالمية واقتربت أكثر فأكثر من المكنون الإنساني، بل وأصبحت ديوان العرب بعد عصور طويلة على هيمنة الشعر، فنال الروائي العربي في الغرب أرقى الجوائز الأدبية وكان له الأثر الفاعل في نقل روح الحضارة والفكر العربي والإسلامي وكشفوا الكثير من القضايا كمسألة الهوية لدى أمين معلوف وآسيا جبار وغيرهم. وبالنسبة لرواية الثورة السورية فقد نجح الكثير من الروائيين السوريين في نقل الواقع السوري، وأعتقد أنه صدر بعد الثورة السورية أكثر من 500 رواية وهذا عدد مهول يحتاج التأني في الدراسة والتمحيص، ونال العديد من الروائيين السوريين أرفع التكريمات لجرأتهم في الطرح وقدرتهم على الإضاءة على جوانب ربما كانت محرمة في الماضي، لكنها معروفة اليوم بشكل أكبر وأكثر حيوية وفاعلية.

11-اشتغالك على موسوعة الجولان وهو العمل التوثيقي الذي جاء على جغرافيَّة الأرض، والتوزّع السُّكّاني، والموارد الطبيعيَّة، فهل هذا العمل هو الأوَّل من نوعه، أم هو غير مسبوق، أو استكمال لهذا المضمار، فما هي رؤيتكَ لطبيعة هذا العمل الموسوعي، وأين تريد الوصول به؟.

الجولان بالنسبة لي هوية من هويتي السورية والعربية وحتى جزء من شخصيتي، فأنا ولدت بدمشق تحت مسمى نازح من الجولان، ورغم أنني عشت بضواحي دمشق وتجمعات البعث العشوائية، حيث المقهورين ليس فقط من أبناء الجولان وإنما من مختلف المحافظات السورية، وداخل هذه البيئة تطورت شخصيتي الجولانية، ولا ننسى أن الجولان قضية سورية بامتياز وملح سوري في طعام وطنيتنا على مدار قرن من الزمن وإن كانت القضية الفلسطينية قد تقدمت عليها بسبب سياسات مزاعم القومية العربية، وبالتالي فقد تعرضت قضية الجولان أرضاً وشعباً للظلم الشديد والإقصاء والتهميش لعقود، نعم هناك العديد العديد من الكتب التي صدرت حول الجولان ولكن بما يناسب عقلية البعث، ولم تتطرق لأبناء الجولان بمعنى الإنسان ولا كفاحه، خاصة وأنها هضبة غاية في الحساسية لجغرافيتها وسط بلاد الشام ومحور سوري في التعاطي مع القضية الفلسطينية ولها حدود عدا فلسطين مع الأردن ولبنان، ومياهها مطمع صهيوني قبل حتى احتلال الجولان بأكثر من 100 عام، وبالنسبة لأبحاثي عن الجولان فقد بدأت منذ 13 عام وتحديداً عام 2010، وقد جاءت إلينا الصحفية فاتن عساف لتكتب عن أهلي، فكلفني والدي كوني كاتب مساعدتها، قبل ذلك لم أكن بذاك الاهتمام، ربما بسبب ضعف المصادر والتهميش، وبالفعل بدأت البحث في عائلتي في البداية وفردت الوثائق وبدأت أكتشف قيمة الجولان وحجمه التاريخي في الكيان السوري، ربما بسبب لعنة الجغرافية التي حلت عليه وربما بسبب لعنة البعث التي حكمت سوريا لعقود طويلة وضيعته. فتوجهت لمعهد الدراسات الفرنسية الخاصة بالشرق الأدنى بدمشق ومعهد الشرق ضمن مركز غوته الثقافي الألماني بدمشق أيضاً، وجمعت كل ما كتب عن الجولان من المتوفر، وبدأت تتضح الصورة شيئاً فشيئاً وأصبحت أكثر اهتماماً بأحاديث الكبار وأحاول استجماع ذاكرتي مما سمعته منهم، وأعيد البحث في كل كلمة سمعتها عنهم، لقد فوجئت بحجم الظلم الحاصل عليهم، وحجم الاستهداف لأرضهم، فلم تكن المؤامرة صهيونية فحسب وإنما ما زرعوه في بلادنا للتخلي عن الجولان في النهاية، وحتى السلام كان تهديداً لنظام الحكم. وأذكر حديث أحد أبناء الطائفة "الكريمة" في الجامعة : إذا عادت الجولان، لم يعد هناك من عمل لنا؟!! وبالفعل هذه الحقيقة الجوهرية بأن بقاء الجولان تحت الاحتلال استمرار لبقاء ذلك النظام الطائفي الفئوي البشع في السلطة، واستمرار للأحكام العرفية، وإعاقة أية ديمقراطية وتحول ديمقراطي في الأرض السورية، وحتى قيمة وخطورة الجولان أنه تم فيه تخطيط معظم الانقلابات العسكرية حتى قبل حكم البعث، وحتى بعد الثورة عام 2011 كاد الجولان أو المحرر منه أن يكون أهم مسار لإنقاذ الثورة السورية ليتعرض للتهميش مجدداً وعن قصد ثم تسليم وتهجير جديد عدا ما تعرضت له تجمعات نازحي الجولان من مجازر ارتكبها النظام السوري بحقهم. بالمقابل أعدت قراءة جغرافيا الجولان وتاريخه وبعمق عن غير المعتاد والمسموح به، وتجاوزت الكثير من الخطوط الحمراء، كالتواصل مع أبناء الجولان الباقين هناك والتنسيق معهم لتوثيق قرانا ومدننا وآثارنا، وكان التجاوب رائعاً واللهفة موجودة، واستقطبنا المزيد والمزيد من أبناء الجولان حول هويتنا وطبيعة أرضنا وقيمتها وتعرية الجلادين ومن سلموها. ومن يعملون على المساومة عليها. وعدنا لحوار جولاني جولاني راقي بين مختلف طوائفه وإثنياته فكان حوار مصغر عن الهوية السورية ذاتها وكينونتها.

12-وأنت أساطين الثَّقافة على السّاحة العربيَّة والسُوريَّة، فما هي رؤيتكَ للدور المُناط بالكاتب والمُثقَّف السُّوري في مستقبل سوريَّة القادم، في ظلِّ التجاذبات ما بين العسكر والسياسيِّين؟. وهل تتوقَّع أن يكون هناك دورٌ مؤثِّر للمُفكّرين والمُثقّفين في توجيه الرَّأي العام إذا سُمحَ لهم بممارسة دورهم؟.

بكل تأكيد دور المثقفين هائل إذا اتفقنا على معنى المثقف كما ذكرت في البداية، فهم فرسان أي تغيير لأي شعب، ربما هناك إعلام سوري يتراوح بين الوسط والجيد والمتدني، لكنه مع ذلك يحاول مجاراة التطورات العالمية من النواحي الفنية والتقنية، وهو أمر هام لكنه غير كافي مع استبعاد المثقفين وإشغالهم بشؤونهم الحياتية بعيداً عن الساحة السورية، وإظهارهم وكأنهم من كوكب آخر أو يعيشون في برجهم العاجي، بل يجب إقحامهم وبقوة في صناعة القرار السياسي السوري لا إنكارهم وتسطيحهم في ترهات بلا نهاية، ومضايقات هنا وهناك، فأنا عن نفسي تعرضت للاعتقال والمضايقات في تركيا وللتوقيف الإداري وتم رفض طلب لجوئي لفرنسا وحاليا أقوم بمحاكمة الدولتين، سواء عن الأسباب الحقيقية لاعتقالي القسري أو سبب رفض الداخلية الفرنسية لطلبي ولليوم لا أعرفه، لأنني بكل بساطة لا أتبع لمؤسسات بعينها اللهم إلا رابطة الكتاب السوريين ورابطة الصحفيين السوريين، وهما منظمتان تطوعيتان رغم ثقلهما المعنوي والهام على الساحة الغربية والعالمية وحتى العربية والشرق أوسطية، في الوقت الذي يتلقى الدعم الكامل كل من يتبع سياسات الدول الأخرى في سوريا، وبالتالي فهناك نية متعمدة وواضحة كالشمس في تهميش المثقفين السوريين والتمعن في إرساء البؤس في صفوفهم وبالتالي عدم التأثير على القرار السوري المسلوب أصلاً.

13-الحوار معك يحتاج لمساحات كبيرة، لشهيَّة الأسئلة الكثيرة المُتوالدة والمُتواردة على الذِّهن واللّسان، وربّما تضيق مساحة الصّفحات عن استيعاب جميع محاوركَ ومَدَاراتِكَ، فما هي رؤيتك للوطن الجريح؟. وما هو المُستقبل لسوريَّة برأيكَ؟. وماهي أمنيك الأخيرة.

سوريا وطني ليس اليوم وليس الغد، فقدري السوري يجعلني أرى أن هذا الوطن الجريح قادر إذا ما تحرر من المساومات الدولية والنظام الشمولي فيه، أن يكون كيان مختلف عن ذي قبل وبشكل جذري، اليوم السوريون انتشروا في كل بقاع الأرض وشهدوا تطور العالم الآخر الذي كنا ممنوعين عن معرفته عن قرب، بل واندمجنا بمجتمعاتنا الجديدة وبقوة وخاصة أوروبا ولمسنا معاني الحرية والديمقراطية، فإذا تسنى لهذا الجيل اللاجئ أن يعود لسوريا الديمقراطية الآمنة المستقرة فسيصنع المعجزات لهذا الوطن السليب اليوم، وهذا مستقبل سوريا بالنهاية وأمنيتي لهذا الوطن الذي أنتمي إليه قلباً وروحاً بأن يصبح مشرقاً كما تاريخه العريق.