الثلاثاء، 20 يوليو 2021

لا أنام حتى آخر العمر (رواية هاشم محمود) أرتيريا

|| زهرة \ فصل(1)

 

 

أحيانًا كثيرة تجلس مطبق العينين لا تدرك حقيقة ما أنت عليه الآن، أَكنتَ نائمًا أم مُستيقظًا، هل ما تشعر به حقيقة وواقع تعيشه، أم مُجرّد حلم سينتهي فور استيقاظكَ؟! أحيانًا تدخل في شعور اللّامكان، أو اللّازمان، لا تعلم أين أنتَ، ومتى ستكون السّاعة، وفي أيّ الأيّام تكون، ذلك الشُّعور لا يأتيكَ إلّا في حالتيْن فقط، إما أنّك شديد السَّعادة لدرجة أنَّكَ فوق الوجود، فلا أنتَ مقيمٌ على سطح الأرض، ولا أنتَ طائر في السَّماء؛ فيصعب علينا اللَّحَاق بكَ، أنتَ بيننا لكنّكَ لستَ منّا؛ فأنت في عالم وصل إليه البعض بعد عناء شديد، أو تمنَّاه البعض الآخر، لكن الموت اختارهم قبل أن يجدوا مثل هذا الشعور.

 

أمَّا الحالة الثانية؛ فكنتَ شديد الحزن، لدرجة توقِفُ حاسَّة الإدراك لديكَ، وأصبحتَ مَيتًا في جسد الأحياء، الألم فقط هو شعوركَ الوحيد، وأيضًا أنتَ لستَ بيننا، وإن كنت تسيرُ على قدميْك، وتَحتَكُّ بأجسادنا لكنّك لا ترانا، والمُحصِّلة أنكَ في غفلة، سواء كنتَ نائمًا أو مُستيقظًا، أَطال ذلك الشُّعور معكَ، أو قَصُر؛ ففي النهاية: سيوقظكَ أحدٌ ما. 

لكن من هو الذي سيوقظك؟

 

كلٌّ منّا يبحث عن مُتَّكَئٍ لنفسه، إمّا أن يكون عملًا أو زواجًا أو أبناءً، لكن ماذا لو كان المتكَأُ من داخل الإنسان نفسه!؟.

ماذا إن كان ذلك المتَّكَأ: هو الجَسَد لا غيره، هو الشيء الذي يوقظكَ، وتصير كلُّ الأشياء بعده هوامش؟

ذلك المتكأ القابل للمرض أو السقوط أو الألم أو الحاجة.

ثم ماذا إذا أصابته كل هذه الأشياء مجتمعة؟ فمن يأخذ بيده إذن ومن ينقذه؟!

 

الجسد المُؤَرقُ لا يعلم أبدًا طريق النَّجاة أو النَّوم، سيظل يبادلكَ الحديث طالبًا الرأفة، عليكَ أن تطعمه؛ ليشبع، وتسقيه حتّى يرتوي، لكن ذلك وحده لن يُسكِنَه، أو يجعله يتوقَّفُ عن جدالِكَ، وإجهادكَ حتّى تُلبّي له الشَّبَع الأعظم.

 

ففي حالة جوعه لا تَهُمُّه الطريقة التي يأكل بها؛ فيلتهمُ كلَّ شيء أمامه، على عكس الممتلئ الذي يأكل على مَهَل، يُفاضِل بين الأطعمة المختلفة؛ فهو لم يذُق طعم الجوع.

 

لا أحد يتمنّى أن يكون فِرَاشه خاويًا. المرأة تحِنُّ للفِراش الدَّافئ الممتلئ برائحة العِشْق، وتأوُّهات الجسد المُشتعِل ليلًا؛ المنشغل نهارًا بهموم كثيرة، فتعيدُ على أذنيْها كلمات اللَّيل الممتلئة بالرَّغبة والنَّشوة، تعطي جسدها دروسا يوميّة في الانتظار لعلَّه يصمد حتّى ساعات اللّقاء. فإذا ما استطال الانتظار زمانًا.. ربّما تعجز المرأة عن إحكام قبضتها عليه، ليصير نافرًا رافضًا ثائرًا غير مُلبٍّ أو مُطيع، يبحث عن مأكله حيث يكون مع أيّ شخصٍ.

..*..

أنصاف الحُلول غير مُجديةٍ.. لا تستهوي النِّساء، لا يعني ذلك حاجة المرأة لقدرات خاصّة، أو خارقة. الأمان والطُمأنينة تأمين مُباشر على أنوثتها وجمالها، وإلا شعرت بإهانة لا علاج لها.

 

فطرة وطبيعة لا يمكن لامرأة أن تتنَّصل منها، مهما كانت وزيرة أو رئيسة دولة أو أميَّة لا تقرأ ولا تكتب أو بائعة هوى. النِّساء تتساوى عندما يُطلَب الجسد، لكن تختلف الطريقة والوسيلة والشريك.

 

أما الرَّجل ما إن يَشُقُّ عليه شيء بعناد، حتى يجِنُّ جٌنونه، يصير عدائيًّا جدًّا لأبعد حَدٍّ، يوجه بالعنف لجسد امرأته، وكأنَّه يستنهض ذكورته أمام هذا الجَسَد، يستحلفها أن تقف صامدة، ثابتة لا تخذُلُه، وأن تقف منتصبة واثقة حتّى تعلن عن نفسها.

 

إلى أن تُكمل مُهمَّتها التي شرعت القيام بها؛ فتستريح، ويهدأ هذا الجسد المُلتَهب؛ ليطمئنَّ الرَّجل لذكورته، ويأمن شرَّ الجسد الأنثوي الذي قد ينهار ذات مرَّة لمن سيُعطيه حاجته؛ دائمًا ما تُشَدّ الرحال إلى مواطن الشَّبَع والمُتعة.

..*..

 

 

رجلٌ لا أعرفه اختارته الأقدار عن طريق العائلة، لا أحبّه، لكنّني ظننتُ أنّه يصلُحُ زوجًا مُناسبًا، أبًا جيِّدًا، يملك بعض مَالٍ يُوفِّر حياة كريمة، هكذا ظننتُ..!!.

 

صدمة الحقيقة قاتلة: "لا يمكن أن يصلح لمهمّة ممّا كنتُ أظنّ قبل ذلك..!!". تتابع حديثها: "يمكن أن أحكي موقفًا بسيطًا، لشعوري بمرارة العذاب الذي أنا فيه".

 

زهرة في بداية حديثها عن زوجها، لم تنتظر طرح بعض الأسئلة منّي، هي تعلم جيِّدًا منبع ألمها. "حدَّثتْني عن حبِّها وتعاطفها مع قِطَط الشَّارع البائسة المسكينة الباحثة عن طعام في تجمُّعات القُمامة، وعن سعادتها عند تقديم الطّعام لهم. بداية لم أفهم ما علاقة القطط بحديثها عن زوجها، لكنها أخبرتني عن واقعة "السَّالمون" ومدى قسوة زوجها مع هؤلاء المساكين".

 

أُنصِتُ لحديثها بشغفٍ: "في يوم من الأيّام جاء بأكثر من علبة سالمون؛ فابتسمت وتعجبت..!! منذ متى وهو يأتي بشيء إلى المنزل رغم ثرائه؟! هو دائما يشتري ما يريده أعجبنا ذلك أو لم يعجبنا، المهم نفسه ورغباته، وغالبا هو لا يتناول السالمون.

 

اِعْتقدتُ أنّها شهيّته، دخل مُسرعًا إلى غرفة إعداد الطعام، فتح علبتين من السَّالمون، ثم أفرغ محتوياتهما في أحد الأواني القديمة، وأخذهما مُسرعًا للخارج؛ فأخبرته: أن ينتظر حتّى أعدهما له، بإضافة بعض التوابل وبعض الخُضروات الطازجة، وإعداد بعض الأطعمة البسيطة بجانبهما. لم يستجب. فتح باب المنزل؛ ليضع الطعام أمامه، ردَّدت بنفسي: "الله يهديه".

لكن المفاجأة صباح اليوم التالي، وبينما أستعدُّ للخروج من المنزل، سمعتُ مُواءً مُؤلِمًا، فتحتُ الباب، وقعت عيناي على ثلاثة قطط في حالة يُرثى لها تتلوّى كأنّ ماسًّا كُهربائيًّا يسرى فيها، تتلوّى ألمًا. حيرة قاتلة أصابتني.. تجمدّت حواسّي، وأنا أتابع هُمودَ الحياة فيهم.

 

لم يكُن إلّا فعل ذلك المأفون، عندما سوّلت له نفسه المريضة وضع السُّمّ على السَّالمون. صُراخي أيقظ جنبات الكون الجامدة، لا أدري إن كان إنسانًا أم وحشًا كاسِرًا في غابة. صُراخي في وجهه لم يجد له مصرفًا، إلّا بصفعة على وجهي. الاعتراض على قسوته ممنوع..؟!.

 

مَنْ لا يمتلِكُ قلب إنسان، فما الفرق بينه وبين الحيوان..!!؟، تلك المخلوقات الضعيفة من لها بعد الله؟. تساؤلات تنهال على فكري عن جريمة لا يُمكن أن يُعاقب عليها في بلادنا، فماذا لو كان في بلاد أخرى تحترم حقوق الحيوان، فضلًا عن حقوق الإنسان.

..*..

 

 

بكى هذا الطفل، والذي لم يُكمِل عامَهُ الثّامن. ما الذي أبكاك يا صغيري..؟ من الذي استدعى دموعك؟.

 

يا لهف قلبي.. يا ويل قلبي.. يا ويح قلبي من قلبك المُدْمى حُزنًا.. الموت واحد.. حقيقته ثابتة لا ريب فيها لكلّ روح خلقها الله.

 

دموعك أحرقت قلبي.. المحروق من ذاك القاسي الذي ارتضيتُه زوجًا.. ليت العنوسة التهمت شبابي.. وبقيت أحلم ولو بظلّ رجل فقط.. أهْوِن ألف مرة  من العيش مع فاقد الرحمة والرأفة.. مع شبيه إنسان.. فاقد لإنسانيته الافتراضية.. ليْتَهُم وَسَّدُوني قبري قبل رؤيتي لدموعك يا صغيري.. القُساةُ عليهم اللَّعنات.. من لا يرحم لا يُرحم.. لا يأبهون لشيء، وهم يزرعون الأحزان في القلوب. قلبك يا صغيري كان على وشك الانفجار، لم يحتمل رؤية الأموات.. رغم أنَّها قِطَط، جفاف الأسئلة تُليِّنُه دموعك;

-قتلتموهم "ليه" ؟!

 

احتضنته ورَبَّتُ على كتفه، وأخبرته أنّنا لم نقصد قتلهم؛ فيبدو أنّهم ماتوا خطأ، بعد تناول الأطعمة التي كانت مُعَدّة للفئران، تلك الإجابة التي لم تكن لتقنعه أبدًا، أخبرتُه: بأن يذهب ويتخلَّص منهم  بعيدًا عن هذا المكان المأهول بالسكّان.

 

تركني وذهب، وذهبت أنا أيضا إلى عملي، لكن في تلك المرة لم أجد سببا كافيا لذهابي للعمل في موعدي المحدد، أريد أن أذهب متأخرة، فلا شيء، ولا أحد ينتظرُني، إذن تأخير ربع ساعة لا يضرُّ.

 

ربما أرادت زهرة بواقعة القطة أن تظهر مدى قسوة زوجها تجاه الكائنات الضعيفة، فما الذي يمكن أن أفعله معها؟!

 

أريدك أن تنقذيني، أريد أن أكون امرأة، هذا أول ما طالبت به زهرة. وقفت وهي تتلفّت حول نفسها، وكأنّها تستعرض جمالها، وأنوثتها الطاغية، تضع يدها على مواطن جمالها:

-انظري، ما رأيك فيَّ؟

- جميلة.

 

أعلم أني جميلة بشهادة كل من رآني، وفي أعين كل من مررت بهم، لكن هذا المعتوه وحده من يجدني غير ذلك، لا يعترف بما يرى. يضربني طوال الوقت، لم يعد هناك شيء في جسدي سليما، كل شيء يؤلمني، أقسم لك لو أردت خيانته لفعلتها منذ عامين، لكن ذلك لن يسعدني، لا أدعي التدين أو الخوف من الخطيئة.

 

وتلك العبارات التي ترددها الكثيرات من السيدات، أنا لا أرى شيئا يدفعني لذلك فأنا يمكنني الطلاق والزواج من غيره، أو حتى الدخول في علاقة مع آخر، لكن بعد أن أخرج من هذا الكابوس، وتلك المسرحية الهزلية التي لا نهاية لها، لكن لا أعرف كيف الخروج!.

 

أريد أن أنام راضية النفس منتشية الجسد، أريد أن أكون أنثى، لم أعد أحتمل الإهانة والعنف، لم أعد أحتمل رؤية الجيران لي كل صباح، وهم يعلمون ما حدث لي في المساء، فصوتي قد خرق نوافذهم في ساعات الليل المتأخرة.

 

 

لا شيء يريحني، لا أحد يحبني، حتى القطط التي شعرت بحبها وتعلقها بي؛ قتلها هذا المعتوه، لا أريد رؤية أحد، أريد أن أنام، أريد أن أصرخ دون أن يسمعني أحد أو ينظر إلي، أريد أن أسير وسط المارة وأصرخ دون أن يتهمني أحد بالجنون، كل شيء يؤلمني، قدمي تؤلمني، يدي تؤلمي، جسدي كله يؤلمني.

- برأيكِ لماذا لا يراك جميلة؟

- يخاف أن يعترف بذلك، فهو يتهمني دائما أنني امرأة قابلة للسقوط وللرذيلة، وأنه لا يدري ماذا أفعل في غيابه.

- وأنتِ ماذا تَرَيْن؟

- هو لا يثق في نفسه، المشكلة ليست فيَّ أنا، بل في دواخله الناضحة بالأسود القاتم، الذي لون حياته، ويريد أن يصبغ حياتي بشكوكه، وسوء ظنونه.

- وماذا عن قدراته الجنسية؟.

- معقول جدًّا، أظنه كذلك، والآن لا بعد فعلته الشنيعة لا أراه إلا وحشا كاسرًا، فخورا بفحولته الحيوانيّة بفجاجة.

- كم هي  النّسبة التي تضعينها له؟.

- لا أعلم، فأنا كنتُ له وحده فقط. ولم أشارك جسدي أحدًا غيره، حتّى يمكنني تحديد أيّة نسبة، أو أقارنه بقدرات من هو أعلى أو أقلّ منه.

- لستِ بحاجة لتكوني مع غيره، ماذا عن متعتكِ أنتِ؟ هل أنتِ راضية عن علاقتك الجسديّة معه؟

- إلى حد ما.

- لكنها ليست إجابة واضحة؛ لمعرفة مدى رضاك عن أدائه الجنسيّ، ومدى متعتك في العلاقة معه.

- هو شخص عادي جدًّا إلى أبعد الحدود. أحيانًا أجده قويًّا كوحش كاسر، وأحيانا خائر القوى بالكاد يستطيع إكمال مُهمّته، يمكن أن نعتبره محدود الإمكانيّات، أظّنه يتعاطى الفياجرا بعض الأحيان.

- أمحدود الإمكانيّات.. أم عاجز؟

- كيف يكون عاجزًا، ولدينا طفل وطفلة؟!

- لا علاقة للقدرة الجنسيّة بالإنجاب.

- كيف؟. هذه أوّل مرّة أسمع عن ذلك.

- في رأيك كيف يحدث الحمل؟

- من العلاقة الجنسية الكاملة.

- الحمل يحدث بتلاقي حيوان منويٍّ مع بُويْضة، وذلك قد يحدث من دون علاقة كاملة، قد يحدث حتّى من الخارج، بل قد يحدث للفتاة العذراء التي لم تفقد عذريّتها.

-حمْلٌ، وعذراء في نفس الوقت..!!؟.

- كيف علاقتك بالأنترنت؟.

- جيدة، وعندي حساب عبر الفيسبوك.

- إذا يمكنك مشاهدة "فيلم أسرار البنات".

-لمن هذا الفيلم؟.

-"للمخرجة "إيناس الدغيدي" تجدينه على منصّة اليوتيوب".

- يمكنك كتابة ما تفكّرين فيه آخر كل يوم على أن نلتقي الأسبوع المقبل، وأن تأتي لي بما قمتِ بكتابته.

- لكنني لم أكمل حديثي بعد.

- أنتِ بحاجه للرّاحة، وإعادة التفكير في الصورة التي تجدين عليها نفسك، وترين من خلالها زوجك، نكمل الأسبوع المقبل.

.. *..

 

 

لم تكن زهرة راضية  عن طريقة، وتوقيت إنهاء الحوار بهذا الشكل، لكن ذلك كان أمرا حتميًّا، رغم أن عينيْها تتوسّلاني لمتابعة للحديث معها، وسماعها حتّى تنتهي من قصة حياتها.

 

في الحقيقة كنتُ أملك مزيدًا من الوقت، الذي يمكن أن تسرُد فيه زهرة جزءًا ممّا لديْها، لكنّني كنتُ حريصة؛ أن أفتح فقط لها الباب؛ لتُعيد التفكير الهادئ فيما تحدَّثنا به برويَّة، وفي إيجاد إجابات واضحة، ومُحدّدة حول قدرات زوجها الجنسية؛ فربّما هنا يكمُن اللّغز.

 

كما أن الكتابة حافز مشجع لها على إخراج كل ما لديها، واعتماد وسيلة بديلة عن الاعتماد على شخص آخر.

 

ما استقرّ في داخلها لن يبقى دفينًا في سُبات عميق. فإذا لم تتفاعل، وتحكي، وتكتب لا يمكن التَكَّهُن بطبيعة تفكيرها.

 

أحاولُ الوقوف معها.. متأكِّدة من حاجتها لمن يستمع لها، ويفهمها بشكل معقول. لن أيْأَس من انتظار اللَّحظة الذهبية، عندما تقرِّر أن تُفَضْفِض عن دواخلها؛ لتستريح من أحمالها الثقيلة.

.. *..

 

نلتقي في الموعد المحدّد، تطلعني على ما كتبَتْ، يبدو أنّ الكتابة كانت شيئًا آخر بالنسبة لها، فربّما سرَقَتها ولو لدقائق معدودة من يومها، ومشكلاتها التي تُؤَرِّقها مع زوجها.

 

رائحة القهوة تستثيرُ كوامن زهرة، وهي تتأمّل فُنجانها، تفتح محفظتها لتستخرج علبة سجائر وولّاعة. خيوط الدُّخان تنسلّ من بين شفاهنا، لتختلط مع بُخار القهوة المتصاعدة من فنجانيْن ما زالا على الترابيزة أمامنا.

 

زهرة نفخت كميّة من دُخان سيجارتها بعد أن شَفَطت أوّل رشفة، تأمَّلتُ هذه المزاوجة ما بين الدّخان والبخار، مؤكّدٌ سينتج عنهما شيئًا جديدًا تمامًا أجهل طبيعته.

 

نلتقي في الموعد المحدد، تطلعني على ما كتبت، يبدو أنّ الكتابة كانت شيئا آخر بالنسبة لها، فربَّما سرقتها، ولو لدقائق معدودة من يومها، ومشكلاتها التي تؤرِّقها مع زوجها. تشعّبَت دروب الحديث بنا، إلى أن أحببتُ الاطمئنان على تنفيذ ما أوصيتها به في الجلسة الماضية. شفطتُ نفسًا عميقًا بعدما وضعت فنجان قهوتي أمامي، تنحنحتُ محاولة لفت انتباه زهرة، لما سأقول، حانت منها التفاتة لي، بينما مسحتُ وجهي بحركة لا إراديّة منّي، وسألتها:

- هل شاهدتِ الفيلم ؟.

-قطّبت حاجبيْها لتتشكل خارطة جديدة على جبينها ذات متاهات بحاجة لمن يستطيع تفسيرها، بعصبيّة خرجت الكلمة من بين شفتيها: "أيّ فيلم!!؟"

-"أسرار البنات"؟

- آه ..!! كنتُ شاهدتُه من قبْلُ، ولم أهتمّ لتفاصيله الكثيرة، وهذا دليل أنّني نسيت اسمه، تذكّرته الآن.

- الفيلم قائم في الأساس على تلك الجزئيّة.

- والله ما أمرّ به من أحداث يشغلني عن الوقوف عند تلك التفاصيل.

توقّف الحديث فجأة، وكأن آمِرًا أشار علينا بذلك، زاغت نظراتنا يمينًا وشمالًا، والدّخان وحده يتحرّك بهدوئه المعهود على وقع أنفاسنا، سيطر الصمت على المكان؛ فكان سيّد الموقف.

..*..

 

"رغم رؤية أيّ منّا لمستقبله، سلوك الطريقة الأفضل لبلوغ ما يريد، لكن الوقوف بعجز أمام معضلات عظيمة، يتوقّف المرء منّا عاجزًا، لا يستطيع فعل أي شيء حيالها، والنتيجة الاستسلام لها، كي نستمرّ بأقلّ الخسائر" كلام زهرة موسوم بحرارة قلبها.

- هنا تكمن المشكلة يا زهرة، ضياعك وسط العموم والمشكلات الكبيرة، رغم أنّ مشكلتك الحقيقة في كيفية إدراك التفاصيل والانتباه إليها.

- لماذا لم تطلبي الطلاق؟.

- لا يمكنني أن أفعل ذلك لديَّ ولد وفتاة منه، لا أحب أن يربي أحد أبنائي، كما أني وحدي لا أقوى على تربيتهم، والأفضل لهم هو أن يكونوا بين أبيهم وأمهم.

- لكن إن كان زوجك بهذا العنف فلا أظن أن ذلك يصب في مصلحة ابنيْكِ؟

- أعلم ذلك، لكن ما باليد حيلة، والغريب أنّه يحبُّهم جدًّا، وهم أيضًا يُحبّانه، وينتظران مجيئه.

- غريبة، ألا يخافان منه عندما يوجّه لك العنف؟

- أتعلمين أنَّهما من يوقفه عن العنف؛ فكثيرًا ما يقفان بيني وبينه، بل إنّهما يدخلان في نوبة بكاء؛ فيضطر إلى التوقّف عن ضربي، ثم يأخذهما خارج المنزل لشراء ما يريدانه. هما في النهاية أطفال أيّ شيء قد يفرحهما، ويُنسيهما، وبسهولة يمكن الضحك عليهما.

..*..

الحياة تفرضُ شروطها بقوّة ولا خيار للإفلات، ولا بأي اتجاه أبدًا، أفكر في حال زهرة المسكينة، مصيرها مرتبط بطفليها، لا أراها إلّا كشمعة تذوب احتراقًا لتنير ليل السّاهرين، يا إلهي كم هي أمّ متأججة بالتضحية إلى الحد الأقصى، عطاء بلا حدود، تبفنى ليبقى أبناؤها، تتعسُ ليسعدوا.. ترتضي معايشة ظلم زوجها؛ لتنقذهما من ظلم زوجة أب؛ ستذيقهما مُرّ الكأس كل ساعة، وكل حين ما داما صغارًا في قبضتها، تستمد ظلمها لهم من قساوة أبيهم. وتتوالى الأسئلة في ذهني التي لا مجال لطرح أكثرها على زهرة، أخشى أن يزيد الطين بلّة. حاولتُ مسايرة الأجواء على أرض الواقع بشكل مباشر، بنبرة مليئة بالأسى، سألتُها ليس بقصد التحريض، بل لاستطلاع حقيقة رأيها:

- وهل من سبب مقنع للاستمرار مع رجل عنيف بهذه الصورة؟.

بنظرة تقطر أسىً، من عينين تترقرق الدموع على جفينهما، وبصوت خفيض، بصعوبة وصلتني إجابتها: "ومن يتزوج امرأة مطلقة في رقبتها طفلين؟".

بتحدّ رميت لها بجواب، ربّما لم يكن يحمل مسؤوليّة تجاه الطفلين، لا أدري على وجه الحقيقة كيف بادرتها، ومدعاة كلامي غير المبرر أبدًا بتأثيراته على مشاعر أمّ، تناسيت أن الأمومة تضحية وفداء: "يمكنك أن تتركي له الطفلين، وتتزوجي".

بعيون لبوة تتفرّس ملامحي الجامدة، أظنّها تبحث عن أثر عاطفة أمومة في وجهي، وبإجابتها غير المتوقّعة، انتبهت من غفلتي، التي باعدتني عن رؤية الواقع ومعالجته، وتنمية الإيجابيات، وتخفيف وطأة السلبيّات، صعقني جوابها: " لا يمكن، ولا أستطيع أن أحيا بدونهما".

وحتى أبتعد بهروبي إلى الخلف متراجعة بعض الشيء، لما أدركتُ أنني ربما أقع ضحية شرور أفكاري اللامبالية، وتخفيف حدّة نقاش استفزازي، ربّما سيعمل على تأزيم سوء الحالة: "ماذا كانت طبيعة علاقتك بزوجك قبل الإنجاب؟".

- "جيدة إلى حد ما".

لاستجلاء أسباب المشاكل الناجمة بعد زواج مضى علبه  سنوات ناهزت العشر، ما خطر ببالي حول هذا السؤال، لك يكن مقنعًا لي، جازفت بطرحي لأتأكد من شيء ما، سيقودني للتفكير في منحى آخر: "هل تعتقدين أن الأبناء هما سبب أساسي في مشكلاتك مع زوجك؟".

- "في الحقيقة لا أستطيع تثبيت المشكلة بوجود الأبناء، لكن مستجدات الواقع اليومي المعاش تتناسل بمصاعبها التي تصرخ في وجوهنا على مدار الساعة، لا يد لنا فيها، ولا طاقة لنا بمقاومتها كأفراج، كيف لنا مواجهة حالة اجتماعية تجتاح الجميع، من الصعوبة الوقوف في وجه السّيل الجارف، إضافة لمعاناتي من بعض الأشياء غير المرتبة داخل الأسرة، ولا أعرف من أين أبدأ".

- صديقتي يبدو أن مهمتي تزداد صعوبة في مواجهة صعوبات ومعيقات لا حصر لها، وكل نقطة منها تحتاج لحلول قاطعة، وتقاطعات طريقتي في التفكير بحلول المشكلات، يبدو أنها أقرب للمثالية، استقيتها من قراءاتي التي شكلت عندي قناعات لا يمكن تطبيقها على أرضية الواقع، الواقع والمثالية ضدّان يسيران بشكل متواز لا يلتقيان أبدا، إلا في حالة وسطية تعالج الجروح والندوب بتقليل الخسائر قدر الإمكان".

-" تخيلي ما سأقوله لك، الأمر الشائع على نطاق واسع معنا جميعًا، ويمكن أن حدث معك أنتِ، ولا غرابة فيه أبدًا؛ فعندما أكون في السّوق لشراء ما يحتاجه المنزل، تأكلني نظرات الرجال المارة، وأصحاب المحلات، بل إن بعضهم قد يعطي لي ما أريده من بضائع، ويرفض أن يأخذ ثمنها".

- "وهل كنتِ توافقين على الشراء دون دفع؟".

- " بالطبع لا.. لا لم أفعل أبدًا، أعلم بالمطلوب مقابل ذلك، فلا شيء يُعطى بلا ثمن، والمطلوب عزيز لا يمكن أن أدفعه مقابل أشياء من الممكن أستغني عنها، أو عن جزء منها".

- "طوال الوقت كنت تدفعين ثمن كل ما تبتاعينه؟".

- "بصراحة لا، أحيانا كنت أوافق، هم يصرون على ذلك، فأقبل مرة وأرفض مرات، أو على الأقل كانوا يبيعون الأشياء بأقل من نصف ثمنها، أنهم يتوددون لي.. أجاملهم فقط بالكلام والابتسامة والشكر لهم".

- "وهل زوجك كان يعلم ذلك؟".

- "لا لم يعلم أبدا بذلك، ستصير كارثة إن عرف".

- "إذا ذلك أمر غير مقبول بالنسبة لزوجك، وأنتِ على علم بأن ذلك سيجلب المشكلات لك؟".

- "هم يصرّون على ذلك، وهم لا يخسرون شيئًا، في المرة القادمة أشتري منهم مما أحتاجه. أقسم لك أني لا أفعل أي شيء، ولا يمكن أن أخون زوجي، أنا أعرف ربي، ولا يمكن أن أفعل الخطيئة، عمومًا فالأخطاء الصغيرة في مجملها ربما تقودنا لخطايا أكبر".

- "وما شعورك عند السير في الشارع؟".

- "أسعد أوقاتي وأنا في الشارع، لا أحب العودة للمنزل، لو تعلمين كم من المعجبين يلتفون حولي، وكم من كلمات الإطراء التي تطرب لها أذني، لم أسمعها أبدا من زوجي الذي يهددني طوال الوقت بالزواج من امرأة أخرى، واصفا إيايَ بأبشع الأوصاف".

-لكنك لست كذلك، وهو لن يتزوج، فأظنه من النوع الذي يخشى أن يفقد أبناءه.

-لكنني لا أعجبه، ودائما ما يهددني، وكلما سنحت له الفرصة يضربني بلا سبب".

..*..

 

 

طالت جلستنا ولم تكن في معظمها سوى نقاش ربما يعود علينا بالخير، ولم يخل الأمر من ثرثرة نروّح بها  عن ضيق أنفسنا، محاولين ثقب جدار عزلتنا، ونحن منغمسين في مشاكلنا التي لا تنتهي، بعد كل الذي سمعته من زهرة، فطنت لأمر مهم جدًا لشيوعه على نطاق واسع، وبإحراج شديد، تهيّبت سؤالها عن مسألة التعاطي، المصيبة التي لم ينجُ منها ألّا أقل القليل من الشباب والرجال، وابتليت به كثيرا من الفتيات والزوجات، أخيرًا خرجت كلمات السؤال متقطعة من بين شفتيّ: "هل يتعاطى زوجك أي نوع من المخدرات؟".

لم أتوقع الحصول على الإجابة بهذه السهولة: الحشيش، يمكن أن يمتنع عن الأكل والشرب لكن الحشيش دائما في جيبه.

-وماذا عن أصدقائه؟.

كثيرًا ما تحاصرني نظراتهم الزائغة، شعوري المتوقع أنهم يتمنوني، لا أقول: يحبونني. بل إن أحدهم ذات مرة، حاول أن يقنعني بالطلاق منه، والزواج به هو، معللًا ذلك؛ بأن زوجي لا يستحقني.

-وهل صديقه متزوج؟

-نعم متزوج.

-وما رأيك فيما طلبه؟

-هذه ليست أول مرة أسمع هذا الكلام، أحيانًا أسمعه من أصحاب المحلّات والوُرَش المجاورة، الجميع يرى أنه لا يستحقني.

-وأنتِ ما رأيكِ؟

-الجميع يتمناني إلا هو، جميعهم يلتفون حولي ويجدونني جميلة إلا هو، وأنا لا أحب الخطأ.

.. *..

 

- هنا المشكلة يا زهرة، وهذا هو سبب العنف الذي يوجهه لكِ زوجك، وهذا هو سبب ادعائه بأنك لست جميلة، بل وهذا هو سبب عدم قدرتك على النوم.

- هذا السبب البسيط قد يكون وراء كل مشكلاتي! لا أظن ذلك.

- هذا هو عين الحقيقة، هنا كل المشكلة يا زهرة.

تتعجب زهرة مما تسمع، فهي ترى أن كل تلك الأمور طبيعية، تأتي زوجها وقتما يريد، لم تمتنع عنه أبدا، تستمتع أحيانا معه وأحيانا بمفردها وبعلمه، لكنها لا ترتكب الخطيئة، مجرد تخيلات تحيي لها متعتها الجنسية إلى أن تكتمل، لم تستجب يوما لرغبة المعجبين، ليست امرأة خائنة، فلماذا إذا يضربها زوجها؟!

لا يهدأ الرجل ولا ينام إلا إذا نامت زوجته، أو بالأحرى نام جسدها الجائع دون أن تنهشه أيادٍ غير أظافره التي هي نوع من النقوش التي ترسم على الأجساد المشبعة نتيجة علاقة مكتملة الأركان من إصبع القدم حتى منبت شعر الرأس، ودون ذلك فهي لوحات ميتة لفنان لم يتقن بعد فن الإمساك بالريشة، أو مقطوعة صاخبة لا تشبه الألحان، فلا نوتة موسيقية محكمة، ولا فنان واثق الخطى يغني منفردا.

أكثر ما يؤلم الرجل هو الإصابة من هذا النوع حتى وإن كانت غير مؤثرة بشكل كبير، لكنها مؤثرة عندما تكون مع أنثى شديدة الجمال مكتملة الأركان، محط أنظار العابر والمقيم، بينما لو كانت امرأة عادية ما كان كل هذا العنف، وهذا الحقد الدفين على هذا الجمال الذي يحول دون أن يستطع الرجل أن يأكله كاملا.

الرجل نفسه لا يحب المنطقة الرمادية أن تعلق الأمر بذكورته، لايحب مصطلح "ماشي الحال"، لكنه يحب الوصف الدقيق المتقن لفحولة قد تكون بالأساس أصابها نوع من العطب، لكن على المرأة أن تنطق حتى دون أن يكون ذلك حقيقيا.

لم تدرك زهره كل ذلك، رافعة عن نفسها الإثم أو الذنب فيما آل إليه زوجها، لكنها هي، دون قصد أو عمد، شريك في عذابه الذي يمر به، وبالتبعية يوجهه لها، فكلما قلت ثقته زاد عنفه، كلما وجدها تكمل متعتها وحدها، كان أكثر عذابا وأكثر قسوة، كلما وجدها تشاهد نفسها عبر المرآة منتشية بجمالها الطبيعي وجسدها الذي تشد إليه الرحال، تمنى لهذا الجسد أن يذبل، أو أن يمرض أو حتى أن يموت رغم احتمالية حبه لها.

هنا هذا الزوج فقد جزءا من ثقته بنفسه رغم أنه ليس عاجزا بشكل كلي، هو فقط ربما يشعر أن إمكانيات زوجته تفوقه، أو ربما ظن أنها تستحق مَن هو أكثر فحولة منه، أو ربما ظن أنه لا يمتعها بشكل كامل، أو تذكر نظرات المعجبين من الرجال، كلما أهانها وضربها واشتدت قسوته عليها، لا يشغله إن رآه أبناؤه يفعل ذلك بوالدتهم، بل ربما أراد أن يوصل إليهم رسالة أنه الرجل وأنه الأقوى وإلا لما استطاع أن يضرب الزوجة وهي الأم، وإن كان يفعل ذلك عن جهل، فلا يدرك ما يفعله من استنهاض لثقافة مغلوطة يتربى عليها الأبناء، فلا يعلم أن الولد هنا أدرك أنه من حقه أن يضرب زوجته عندما يتزوج؛ فقد رأى والده كذلك، وأن الفتاة عليها أن تتحمل الضرب والإهانة، فهذا ما وجدت عليه والدتها، وهنا يتكرر السيناريو المعتاد رغم ما وصلنا إليه من تطور وتكنولوجيا، تظل العقول المتحجرة قابلة للتطور الظاهري فقط دون أن يمر ذلك على مناطق الاستيعاب داخل العقل.

شرحت لزهرة كل تلك الأمور، وأن عليها أن تهدأ وأن تمتص غضبه، وأن تصبر عليه بإعطائه الثقة في نفسه، وأن تحاول ولو بالادعاء أن تظهر أنها ممتلئة جسديا بالعلاقة معه ولو بشكل مؤقت، فلا تكمل متعتها وحدها أمامه، لا تتعمد إثارته طوال الوقت، لا تعقد مقارنات بينه وبين أقرانه من الرجال ممن تلتقي بهم في الشارع، يمكنها أن تقلل من الخروج ولو بشكل مؤقت، يمكنها أن تشعره بأنه يكفي ويزيد، فلربما بهذا القدر من الإملاءات وهذا النوع من الشحن الحميد ألا يصيبه الخلل أو العطب في تفكيره، فيشعر بأنه نصف رجل لا يشبع امرأته، فإن شعر بأنها راضية بما يعطيها من متعة، تجيد تمثيل النهاية بإتقان، فتأتي ماءها كما يأتي ماءه، ربما يعيد ذلك إليه جزءا من الثقة في النفس فيشتد عوده ثانية كما كان قبل الزواج، وقبل أن يراها في أعين أصدقائه وجيرانه ورجال الشارع.

وافقت زهرة على ذلك، رغم عدم اقتناعها، ورفضها تماما لتحمل مسئولية ما يمر به من أزمة نفسية وجسدية، كما أنه مع التعاطي المفرط لمخدر الحشيش الذي يجعله يرى ما ليس واقعيا، فيصيبه العجز أمام جمال زوجته المفرط، أو ربما كان حرصه على التعاطي هو نوع من الهروب من واقع لا يمكنه مجاراته.

أقنعتها بأهمية أن ترفع من شأنه، فقليل من الكذب مع الزوج لا يضر، وفي نفس الوقت ألا تخافه لكن تمتص غضبه بألا يوجه لها العنف، بل إن رفع يده عليها فلتمسك بها لتحتضنها بدلا من أن تتلقى صفعة على وجهها أو جسدها، ربما ذلك يساعده على الهدوء والشعور بالقبول، وأنها تحتمي به لا منه، فكثيرا ما يغيّر ذلك الشّعور من إحساس الرجل تجاه زوجته؛ فيشعر بهيبته وقوّته، التي ما كانت أبدًا لتأتي من العنف بل بالرحمة والمحبة ولين القلب.

أتذكر عندما ذهب سيدنا عمر بن الخطاب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها، وطلب منها أن تتوسط عند أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق حتى يتزوجها، رفضت وقتها وقالت: مالي وعمر؟! إنه خشن العيش، أريد رجلا حنونا يصب عليَّ من الحب صبا.

عمر وقتها كان أمير المؤمنين، ورغم ذلك لم تقبله أم كلثوم لغلظته وشدته، بل تزوجت سيدنا طلحة بن عبيد الله وأحبته حبا شديدا وأحبها، وكان رقيقا معها رغم أنه كان رجل حرب، لكنه كان لين القلب عرف كيف يعامل المرأة.

المرأة على مر العصور هي المرأة لا يعنيها المال والجاه والسلطة، بل تميل لمن يحبها ويدللها ويهتم بها ويعطف عليها، تحب أن تظل أنثى في أعين من تحب، لا تتحمل الإهانة أو العنف، بكلمة تأخذ قلبها، أو تهشم زجاج مشاعرها؛ لتكره اللحظة التي تعرفت فيها عليه.

لا أعلم ما يمكن أن تقدم عليه زهرة لكنها في النهاية أدركت أن جمالها جزء كبير من شقاء زوجها ومن عنفه اتجاهها، وذلك أمر ليس بيدها، بل إصرارها وإيمانها الداخلي بهذا الجمال، ربّما ما يخشى منه زوجها: هو أن يستيقظ؛ فيجدها ذهبت حيث رجل يقدر موطن الجمال ويقدر عليه، ربما لو لم تكن تعرف أنها جميلة ما وصل بها الحال إلى ذلك، وما كان زوجها بهذه الصورة، ربما بدا أهدأ وزادت ثقته في نفسه، وبالتالي ما خذلته قدرته على إتيانها ليستريح وتستريح معه.

***

 


 فاطمة(2) فصل

 

لا أريد أن أتحدث، لن أبدأ من جديد مع أحد، مللت من الحديث، كرهت البدايات، لا أحد يفهمني، لا لن أتحدث، لم أنطق بكلمة واحدة، فتاة ثلاثينة تدق باب الغرفة، بمجرد أن أشرتُ لها بالجلوس لم تتردّد، ولم يكن في نيّتها الاعتذار لأنها لا تملك وقت الفراغ اللازم، لتقضيه معي. بلا مقدمات دخلت مباشرة في حديثها الذي وجهته لي:  "لا أحب أن  أثرثر كثيرًا، جئتكِ دون سبب، أنا بخير جدا، لاشيء يؤرقني، فقط أردت ، أردت، أردت".

لم أقاطعها، بل حتى لم أتعرف عليها، اسمها الذي عرفته من السكرتيرة المعاونة لي تجاهلت أن أناديها به. ظلت تتحدث عن إصرارها في الامتناع عن الحديث، ومبرراتها لذلك: "لا فائدة من الحديث، ومع من سأتحدث؟، لن يفهمني أحد، كلّ الأمور تمام، أنا بخير، أنا بخير.. انظري". وقفت وهي تتحدّث. وأنا جامدة في مكاني، لا أفعل شيئًا، سوى نظراتي مُركّزة عليها، لا تفارقها، تتابع كلامها الذي لم أفهم مما تقصد شيئًا منه: "لن أبقى هنا، سأذهب".

ما زلتُ مأخوذة بطرافة طارئ، لك يكن لي اختياره، وكأنّ الأقدار تسوق رعاياها لتشكيل الحدث، دون دراية منهم، أو خيار الموافقة أو الرفض. الصدفة وحدها بحكم عملي هذه المرّة. وأنا مأخوذة بجدية الموقف، لا أستطيع إظهار غضبي وتبرّمي بما يحصل أمامي، ولا أستطيع وصفه بالمهزلة ولعب أولاد، ولا أستطيع الضحك ملء قلبي لتفاهة ما يظهر أمامي، وليس من الصواب طردها خارج المكتب، يجب متابعة المشهد للأخير، بكل محاسنه ومساوئه، مع شعوري بضيق الوقت المتاح لي معا، شعوري بأنّه يُهدَر بلا مبرر، وبلا عائد يمكنني تعويضه بمقابل مادي.

ترفع إصبعها محذرة من أي طريقة قد أتبعها معها تمنعها من الخروج، أو تجبرها على الكلام، كل ذلك وأنا لم أنطق بحرف واحد منذ دخولها.

مرّت خمس دقائق، وهي تتحدّث معلنة: أنها لن تتحدث. لكنها مجرّد أن همّت بفتح الباب، ولاحظت أنني لم أحركّ ساكنًا، وإذ بها تغلق الباب، وتأتي مسرعة؛ لتجلس على المقعد المقابل لي، وتبكي بحرقة شديدة؛ مددت يدي بمنديل؛ لتمسح دموعها التي حيّرتني، لعدم معرفتي بالأسباب:  "تفضلي واهدئي، اهدئي". تناولت المنديل، ولم تستخدمه، تركت دموعها تنساح على خدّيها بحريّة.

لا أرى عينيها من كثرة البكاء: عيناها مغرورقتان بالدموع المائلة للسواد بعدما أذابت كل أثر للكحل. لتتشكل هالة داكنة بمحيط العينين  "أوه.. يا إلهي ما أجملهما" وددتُ لو كنتُ أستطيع التقاط صورة لها هذه اللحظة، وبهذه الوضعية الحقيقية، فلن بتكرّر المشهد ثانية، لكن صورته انطبعت في ذهني، ولو كنتُ أجيد الرّسم لرسمتُ أعظم لوحة في التاريخ، تضاهي بتأثيراتها السحريّة لوحة الجيوكندا، والطفل الباكي. وربّما أنافس بيكاسو، لا غرابة في إذا كانت طموحاتي بلا سقف؛ فالدنيا حظوظ كما يُقال. انتبهتُ من شرودي، تذكرت أنّ البنت تجلس قبالتي، عيناها مركزتان على ملامح وجهي هذه اللحظة، كأنها شعرت بابتعاد تفكيري وانصرافه عنها، ومؤكد أن أذنيها تنتطران حلًّا:  "اهْدئي يا فاطمة وانظري إلي". يا إلهي ما الذي جرى لي، المخلوقة ناظرة إليّ من تلقاؤ نفسها. تداركتُ خطئي بالتعبير بمواساتها بداية، حتى أفهم شيئًا عن حالتها، يكون مدخلًا صالحًا للولوج إلى دواخلها.

تتجاوب مع طلبي. تهزّ رأسها، تزوغ بعينيها، وكأنها لا تريد أن تلتقي نظراتها بنظراتي كأنها تخشى شيئًا، تنظر يمينا ويسارا، تشاهد اللوحات المعلقة على الحائط، أقاطع شرودها: "هيا يا فاطمة، انظري لي، أنتِ بخير الآن". أتبعتُ كلامي بابتسامة إحباريّة، وهي من أساسيات مهنتي كمعالجة نفسية، الابتسامة لتجسير الهوة المتباعدة بين شخصين، تفتح آفاقًا لبث الطمأنينة، وشق ركامات الكلام الراسبة في النفوس.

-لا لست بخير، أنا أعاني من كل شيء، وإلا لما جئت إليكِ، قفي بجواري، خذي بيدي، أريد أن يحتضنني أحد، أريد أن أنام.

-وما منعك من النوم؟. مبدئيًا بدأتُ أبني تفكيرًا، وأريد استجرار المزيد من كلامها بتلقائية. استعدتُ ملامح جديّة الموقف التي ارتسمت على وجهي تشي بتفاعلي، وانسجامي مع مشكلتها التي بدأت تتضّح معالمها، كما أرى إنه الخوف من المجهول، سأتابع أسئلتي لها؛ لاستكمال جوانب المشكلة

-كيف أنام، وأنا مطاردة؟ كيف أنام والجميع يحاول سرقتي؟ لا لن أنام، وهل سأظل مفتوحة العينين مدى الحياة؟ ، لا أدري ما يمكن أن يصيبني عندما أنام، لن أنام". أنصتُ لما أسمع متها بدقّة، ويدي مشغولة في تدوين ملاحظاتي، لكي لا يضيع مني أقل شيء؛ فدراسة حالتها ستُعينني في استكمال بحثي المُحكّم الذي سأقوم بنشره في مجلة الجامعة الفصلية، وإذا قبلوا  البحث من دون ملاحظات عليه، سأنال به درجة الأستاذيّة، وأرتقي من درجة أستاذ مساعد إلى أستاذ أساسي.  أجبتُ فاطمة بسؤال آخر ردًا على ما قالت: "وماذا يمكن أن يحدث عندما تنامين؟، ومن الذي يريد سرقتك؟ وممن تخافين؟" .

-لا أخاف أحدًا محددًا، هناك أمر ما لا أعرف طبيعته، أجهله تمامًا، يقلقني على مدار السّاعة، شيء غامض أؤكّد لك.

.. *..

 

 

 الفتاة مضطربة جدًا.  تُعاني من الخوف الشديد، والقلق المستمرّ الذي يمنعها من النوم، والشّعور بالراحة والأمان، لكن لا يمكن أن أضغطَ على مواطن خوفها، أو استفزاز مشاعرها أكثر من ذلك، حتى لا تصاب بحالة انهيار تام، رغم مخاوفها الشديدة.

بعد جولتي الأولى معها سعدت بما تكلمت به، رغم غموضه واقتضابه الشديد. وشعرت بالأمان فور رؤيتي، لكنها قلقة من شيء يعكر صفوها، يجعلها تتخذ موقفا مسبقا هجوميا لسبب في داخلها، حاولت تهدئتها في الحديث معها عن أمور الحياة العامة، وعن طبيعة عملها، والإنجازات الرائعة التي حققتها جراء هذا العمل، فهي فنانة تجيد الرسم، في بداية طريقها، اشتركت في العديد المسابقات المحلية، وحصلت على أكثر من جائزة تجعلها فخورة بنفسها وبقدراتها، لكن شيئا يأخذ من روحها وينهش من جسدها النحيل، ويكبل سعادتها.

ظلت تتحدث عن آخر لوحاتها، وأعمالها وأصدقائها ممن تعرفت عليهم مؤخرا؛ فتبتسم بعين حزينة، وقلب انفطر من الألم عندما تذكر شخصًا بعينه. بعد كل جملة كانت تقولها، كنتُ أشعرُ أنني أمسكتُ بداية الخيط من خلال تخميني.

.. *..

 

ذهبت عنها دموعها، تناولت قطعا من الشيكولاته التي أعطيتها لها.

-        منذ متى تزوجتِ؟

-        منذ سبعة أشهر.

-        وهل تخافين من النوم من قبل الزواج أم بعده؟

-        بعده، لا أريد أن أستمر في تلك الزيجة، لكن لا يمكنني الطلاق؛ فكيف لي الطلاق، ولم أُكمِل العام الأول.

-        أنا لا أشجعكِ على الطلاق قبل أن نناقش كل شيء، لكن إن كان خوفك من الطلاق هو لقصر مدة الزواج وقلقك من المجتمع، فأظنك لست بهذه العقلية، فلم أسمع عن فنان حر يخشى الألقاب.

-        لكنني لا أحب ذلك اللقب.

-        إن هي إلا أسماء يا فاطمة، وفي النهاية هي أقدارنا ومراحل قد تدوم وقد تندثر، لكنها تظل مراحل قد تحدث وقد لا تحدث، في النهاية كل الأمور ليست مستحيلة.

هل تحبين زوجك؟ وكيف تعرفتِ عليه؟

-        هو من نفس الوسط الفني، وظننت أنني أحبه، لكن في الحقيقة لم آخذ الوقت الكافي لمعرفته جيدا؛ فهو شديد الهمجية، إنسان أناني، غير منتظم، لا يعبأ بشيء سوى بنفسه فقط.

-        وهل تلك الصفات لم تظهر قبل الزواج؟ أو على الأقل بعضها؟

-        التعاملات خارج المنزل شيء مختلف تماما عن داخله، هو شخص لا يطاق، ظننت أنه فنان، مثالي الصفات، مرهف الحس، لكنني وجدت أن الفن لم يرزقه الحس أو اللين، بل إن ما يرسمه على الورق شيء، وما يقدم عليه شيء آخر، لك أن تتخيلي أن ليلة زفافنا هي أسوأ كابوس مر على حياتي، أظنني لا زلت في هذا الكابوس.

.. *..

 

 

ارتعدت فاطمة وهي تتحدث، وكأنها دخلت في أجواء ليلة دخلتها: حاول الإعتداء عليَّ، لا بل هو اعتدى علي بالفعل، هو اغتصبني، مارس معي الجنس بالإكراه، هتكَ عرضي.

-        ألم تكوني ترغبين في العلاقة الحميمة؟ ألم تكوني تعدي العدة لتلك الليلة؟

-        أنا كبيرة بما يكفي لإقامة علاقة زوجية ناجحة، لكن ماذا عن المقدمات والتمهيدات، ماذا عن كلمات الإطراء والإعجاب، ماذا عن تبادل الود والمحبة، هذا الرجل لم يفعل أي شيء، فقط تناول الطعام مسرعا كالبهائم، ثم تناولني بعدها كما تأكل البغال، لم يعطني الفرصة لشيء، اِلْتهمني بتوحش بتمزيق أحشائي، ودمر حياتي، "الله ينتقم منه".

-        اهدئى يا فاطمة، اهدئي.

-        كيف لي أن أهدأ بعد هذه الجريمة؟!

-        هل لك أن تشرحي لي ما حدث؟ إن لم تستطعي فيمكننا تأجيل الحوار في ذلك الأمر؟

-        لا شيء يقال، أقسم لك، لا شيء يمكن أن يحكى، سوى أن بهيمة وقعت عليَّ، لم أستطع مقاومته بجسده القوي، فأنا كما ترين جسدي صغير ووزني لا يتعدى الستين كيلو جرام، لكِ أن تتخيلي  أنني فقدت عذريتي وأنا لازلت في "فستان زفافي"، لم آخذ فرصتي أو وقتي في تبديل ملابسي، لم يعطني الفرصة والوقت لأستريح من يوم الفرح الشاق، أراد أن يذبح الذبيحة في وقتها، حيوان.

-        أنا أريد أن أنام، لا أريد شيئا غير ذلك، افعلي لي شيئا لكي أنام مرتاحة، لا أريد أن أشعر بأي شيء، أريد أن تمر الليالي بهدوء دون أن أشعر، أريد أن أنام.

- ولماذا لم تتحدثي معه بعد تلك الواقعة؟

- في النهار يبدو إنسانا متحضرا، يستمع لي، لكن الليل يحوله إلى شخص لا يطاق، لا يرى ولا يسمع سوى حاجته ورغبته الجسدية الملحة فيغتصبني، ينام معي بالإكراه، ما من مرة عاد للمنزل وأراد الجنس، إلا وجردني من ملابسي حتى إن كنت مستغرقة في النوم، صار ذلك سيناريو معتادا، يخلع ملابسه، يجردني من ملابسي، يقضي حاجته، ينام كالبهيمة ولا يشعر بشيء، وأنا أظل معذبة ومؤرقة طوال الليل والنهار، ثم يأتي النهار لأصرخ في وجهه فيعتذر لي، ثم يكرر نفس الأمر ليلا.

- ولمَ لم تتخذي موقفا؟

- أغلقت غرفتي وغرقت في النوم، وجدت صوته مرتفعا كاد أن يوقظ الجيران، وهو يدق الباب بشدة وكأنه يريد تكسيره ونحن في منتصف الليل، فما كان عليَّ سوى أن أفتح الباب، ليكرر نفس الشيء، الحديث معه لا يجدي، هو يحمل شخصيتين متناقضيتن، الليل عكس النهار، بل بالنهار لا يقربني على الإطلاق، يتحدث باحترام، يذهب لمرسمه وأنا أمارس عملي، كل المصائب تحدث في الليل، أصبحت أكره الليل، وأستجدي النوم، لم أنم مرتاحة منذ زواجنا.

الليلة الوحيدة التي استغرقت فيها في النوم، كانت أجمل ليلة منذ أن صرت زوجة، عندما مرض والدي قبل وفاته بأسبوع وذهبت لرؤيته، وطلب أن أبقى معه ليلة، وبالفعل فعلتها، فأنا لم أكن أعتاد المبيت عنده منذ زواجي، خاصة أنه لا يفضل للفتاة المتزوجة أن تنام خارج منزل الزوجية وأنا كنت أحترم رغبته، كثيرا ما كانت لديه ثوابت يظنها صحيحة تتوافق مع المجتمع بعاداته وتقاليده، تلك الليلة كنت الأسعد والأجمل والأهدأ، نمت كثيرا، نمت أكثر من عشر ساعات، كم تمنيت لو تعود بنا الأيام لأعود لمنزل والدي مرة أخرى، لكنه تركني ورحل حيث الحياة الأخرى، وأخي تزوج في المنزل وأقام مع أمي.

كل المحيطين يظننون أنني تزوجت ملاكا، ولا أحد يعلم أنني أعيش مع ذئب كاسر، لا يحركه شيء سوى رغبته التي لا تتوقف أبدا، ولا تشغله رغبتي وحاجتي، لا أظنه في يوم سألني عما أريد وما يمتعني، كل ذلك لا يهمه.

-        هل يعلم أن لا مكان لك سوى منزله؟

-        نعم يعلم أن أخي تزوج، ويصعب عليَّ البقاء مع زوجته ووالدتي في منزل واحد، خاصة أن المنزل غرفتان فقط.

-        وهل طلبتِ منه الطلاق قبل ذلك؟

-        لم أفعلها على الإطلاق، كنت على يقين بأن ذلك درب من الجنون، خاصة أنه لم يمر عام على زواجنا، وأعلم أن كل الزيجات في أعوامها الأولى تمر بالعديد من المشكلات إلى أن يعرف الطرفان بعضهما البعض ويتأقلما مع طقوسهما وعاداتهما ليجدا أرضية مشتركة تساعدهما على الاستمرار، كما أنه لا مكان لي في الفترة الحالية، وطبيعة عملي لا تأتي لي بمصدر دخل ثابت ومستمر.

-        وما رأيك إن عرضت الأمر عليه؟ هل يوافق بسهولة؟

-        لا أعلم، لكنه لا يمكن أن يتوقع أن أطلب ذلك في تلك الفترة.

-        إذًا ما رأيك في طلبه؛ لنرى ما يمكن أن يقدم عليه؟

-        لا أعرف مدى خطورة تلك الخطوة يا أستاذة، خاصة إن وافق على ذلك، فما عساي أن أفعل..!! وأين أقيم وأنا لم أعد العدة للحصول على منزل أو غرفة مستقلة؟!

-        لن يوافق بهذه السهولة، سيفاجأ في البداية من شجاعة طلبك خاصة وأنه يعلم عدم قدرتك على الانفصال في تلك الظروف، ثم سيفكر.

-        وماذا إن كان قراره الموافقة؟ ماذا سأفعل وقتها؟  لا يمكن أن أعود لمنزل أسرتي ثانية، المنزل لايحتمل خاصة أن زوجة أخي في شهرها السادس، وعلى وشك الولادة، فحملها صعب جدا، وقد تلد في الشهر السابع.

- لا تقلقي، فقط عندما يحاول أن يفعل ما يفعله كل ليلة هدديه بالطلاق وبإصرارك عليه، اطلبيه عند إتيان حاجته في الليل، وفي الصباح وهو في هدوئه المعتاد تحدثي معه بنفس هدوئه عن رغبتك في الطلاق وإنهاء تلك العلاقة غير المرضية، ولست بحاجة لأن أخبرك بالأسباب التي ستقولينها له.

- في ظنك، ماذا سيكون رد فعله؟

- لا شيء على الإطلاق.

- لاشيء!! كيف ؟

- فكري في حديثنا، وافعلي ما استطعتِ، ونكمل حديثنا الأسبوع المقبل.

.. *..

 

كل فتاة تأتي تريد ألا تنتهي من حديثها، تظن أنها تملكني، وأن وقتي لها وحدها، وعليها أن تجدني في الليل والنهار، وأنا كنت حريصة على أن أفصل في ذلك الأمر في بدابة عملي كـ "لايف كوتش" التي ببساطة تعني "مدرب حياة" يساعد الأشخاص على تيسيير وتغيير حياتهم للأفضل، يعمل على استثارة أفكار الفرد ومشاعره وسلوكة لوضع قدمه على الطريق الصحيح، الذي يساعده على حياة صحية وأكثر هدوءا واتزانا، ولا يعني أن يحل ذلك محل الطبيب النفسي.

تبدو فاطمة في حالة أفضل من المرتين السابقتين، فالهدوء يعلو وجهها، وكأنها لتوها استيقظت من نومها.

-        كيف حال الفنانة؟

-        الحمد لله، أنا بخير جدا.

-        وماذا فعلت الأسبوع الماضي؟

أخبرته برغبتي في الطلاق وإصراري عليه وعدم تحملي للحياة معه، وأنني بالفعل وجدت مسكنا، وعليه أن يطلقني وإلا لجأت للقضاء، ورفعت قضية خلع، فأنا لست بحاجة إلى مؤخر صداق، أو متعة أو غيرها من الأشياء التي تحصل عليها المطلقة، فإن لم يطلقني بالحسنى، سأخلعه، فكرت كثيرا في الأمر، وتوصلت إلى ذلك، أعرف أنني أغامر وأطلب الطلاق رغم عدم قدرتي على الإقدام على تلك الخطوة في ذلك الوقت.

تفوّقت فاطمة على نفسها، تحدّثت فيما هو أكثر مما اتفقنا عليه، بل الأغرب أن رَدة فعل زوجها جاءت عكس ما توقعته هي.

فأنصتَ لها جيدا حتى أنهت حديثها، ثم تركها وذهب، وتلك الليلة لم يأت للمنزل، لكنه جاءها في اليوم التالي، بدل ملابسه، وخرج مسرعا من المنزل، ولم ينطق معها بكلمة، وعاد في المساء.

أعد العشاء لنفسه، وشاهد التلفزيون، ثم جاء إلى غرفتي، وبدأ في وضع يده على جسدي، فأزحته بقدمي، فرفع يده عن جسدي، لكنه أمسك يدي بقوة دون أن ينطق، ظنا منه أني سأخافه كما هو المعتاد، فرفعت صوتي: ألا تفهم، أريد الطلاق، الطلاق، لن أتنازل عنه.

-        هل كان يريد أن يقدم على نفس فعلته؟

-        أظن ذلك، وإلا لما جاء ليتحسسني دون أن ينطق بكلمة منذ أن حدثته في اليوم الماضي عن الطلاق.

أخذ الغطاء، ونام في غرفة المعيشة، وتلك ثاني أفضل ليلة أقضيها في هذا المنزل، لليوم الثاني على التوالي، ولا أخفيكِ سرا، كنت أشعر ببعض من الخوف، فهو قوي البنية، لا يدرك ما يفعله بالليل، لكنه كان أكثر اتزانا، ولا أعرف السبب بالتحديد.

.. *..

 

وفي الصباح لم يفعل أي شيء، سوى الطعام، تبديل الملابس، الذهاب للعمل، فحمدت الله على تلك النتيجة، فهي كافيه بالنسبة لي، لم أكن أريد أكثر من أن أنام مرتاحة وفي أمان دون أن ينهكني، أو ينتهكني.

في اليوم الثالث لم يعد للمنزل، ومر يومي بشكل طبيعي، كأن شيئا لم يحدث، لم أكن أنتظر قدومه من عدمه، فلم يشغلني الأمر، كل ما فكرت به هو أن أستغل الفرصة للنوم، وها هو يوم جديد أنام فيه، ليأتيني قبل أن أنزل للعمل، بعد استيقاظي وذهابي للاستحمام، وتبديل ملابسي، وجدته أمامي، يقترب من جسدي كالذئب المفترس، ظللت أصرخ في وجهه لكنه جذبني بكل قوته، لينهش جسدي، فاستعدت قوتي، وحاولت أن أقتل ضعفي وأقاومه، وتلك كانت أول مقاومة حقيقية دون خوف، استطعت أن أبعده خارج الغرفة، وأغلقها على نفسي، فظل يدق باب الغرفة وتلك كانت أول مرة يفعلها في ساعات النهار؛ فاعتدت ظهور الذئب بالليل، وليس في النهار، لكن يبدو أن حاجته كانت ملحة، ولم يستطع أن يكبحها، ولم يتوقف أبدا عن الدق لساعة متواصلة إلى أن هدأ وسمعت صوت باب المنزل الخارجي يفتح ويغلق بعنف شديد، ففهمت أنه غادر المنزل.

أردت أن أقضي اليوم في المنزل، وأستريح مما حدث لي معه، فلا زالت قدماي تعجزان عن حملي، لكني خشيت أن يعود مرة أخرى، فأعجز عن الوقوف أمامه، وقد يغتصبني من جديد.

-        هل تكرهينه إلى هذا الحد؟

لم أكن أكرهه أبدا، أنا لا يمكن أن أكره أحدا، لكني أخافه، أكره تصرفاته وحيوانيته، أكره الظروف التي اضطرتني لتحمله، أكره ذلك العنف وهذا النوع من الإكراه، ماذا لو كنا زوجين عاديين، نستمتع بالجنس وبالحياة معا، أنا لست ممتنعة عنه أو عن الحياة الجنسية، لكن كيف لي أن أمارسها بالعنف وبالخوف وعلى غير رغبتي، أنا حتى الآن لا أعرف مواطن متعتي من عدمها، لا أريد شيئا سوى الهدوء والسكينة والمتعة في نوع من الرقي الذي يليق بالبشر الأسوياء، أنا لست حيوانا أو جمادا، يتم اغتصابي يوميا دون أدنى رأفة أو رحمة أو حتى محاولة لمعرفة رغبتي من عدمها، أنا لم أكن أريد شيئا سوى أن أنام.

-        وماذا فعلتِ بعد خروجه؟

-        لم أذهب للعمل، لكنني جلست في أحد المقاهي الجانبية واتخذت مقعدا جانبيا حتى لا يراني أحد ولا أرى أحدا، وأفكر بشكل أفضل.

-        وإلامَ توصلت؟

-        أرسلت له رسالة: إن كنت ستعود إلى المنزل، وستفعل ما فعلته معي اليوم، فاعلم أنها ستكون آخر ليلة لي في المنزل، ولن أعود له مرة أخرى.

-        وبمَ أجابك؟

-        لم يجب.

.. *..

 

 

خيّم الحزن على وجهها بعد أن كانت منتشية بانتصارها على زوجها، إلا أن همجيتة كانت أقوى في ذلك الوقت من قوتها الداخلية. هل عاد للمنزل بعد تلك الرسالة؟

-        عاد، وحاول، واستطاع.

لم أكن بحاجة لأن تشرح لي ما جرى تلك الليلة، فتعثر لسانها، وصعبت الكلمات على شفتيها، فأيقنت أنه مارس سطوته عليها مرة أخرى، واعتدى عليها جسديا، لكنها تعاود لتؤكد:

-        تركت المنزل بالفعل، وأقمت في فندق قريب من عملي، بعد أن أخذت ملابس تكفي لأسبوع كامل.

-        وماذا فعل عندما عرف؟

في البداية كان على يقين بأنني عاجزة عن تنفيذ ذلك؛ فهو يعلم عدم استطاعتي استئجار منزل في تلك الفترة، لكنني أخيرا فعلتها، وأقمت خارج هذا المنزل، ولا زلت خارجه حتى الآن، وأظنه فوجئ بقراري، خاصة بعد أن أخبرته عبر رسالة نصية أني لن أعود مرة أخرى، وألا يحاول الاتصال بي؛ لأني سأغلق هاتفي المحمول لبعض الوقت، كما أنه لا داعي للاتصال بوالدتي أو إزعاج أخي، لأنني لن أذهب إلى منزلهما، لكنه لم يجب، ولم أنتظر الإجابة فأغلقت على الفور وقتها هاتفي المحمول.

.. *..

-        تغيرتِ كثيرا يا فاطمة، ألا تلاحظين ذلك؟

-        أنت السبب فيما أنا عليه الآن.

-        ماذا تشعرين بعد أن تركتِ منزل،  وأقمت بمفردك؟

-        لا يمكن تخيل كم السعادة التي أعيشها، لكن لا أنكر خوفي الشديد مما يحمله الغد لي، فأنا رغم تظاهري بالقوة، وعدم شكواي لأحد مما أمر به، إلا أنني لا أعلم خطوتي القادمة، لذلك أردت مساعدتك.

-        لست بحاجة لمساعدتي، فقط سأضعك على الطريق، وأنتِ ستكملين السير، أنتِ الآن لديك القدرة على اتخاذ القرارالمناسب لك.

-        أظن أن ذلك الحكم مبكرا.

-        نحن معا، لا تقلقي، فقط سيري على الطريق.

-        وما الخطوة المقبلة؟

-        افتحي هاتفك المحمول، ثم تعاملي بهدوء تام مع اتصالاته، واجعلي الأمور تسير وفقا لرغباتك أنتِ.

-        ولماذا تظنين أنه سيقوم بالاتصال؟

-        أنا لا أظن، أنا على يقين من أنه سيقدم على تلك الخطوة.

-        كيف؟

-        يا فاطمة، أنتِ متزوجة، وهذا زوجك، وأنتِ مقيمة خارج منزل الزوجية منذ ثلاثة أيام، فمن المنطقي أن يبحث عنك، أن يسأل عنك، أو على الأقل أن يعلم أنك لا زلتِ بخير.

-        لكنه لا يشغله ذلك الأمر، هو لا يعنيه سوى نفسه.

-        وهذا هو دورنا، أن نعينه نحن، أن يرى شيئا خارج ذاته، أن يدرك أنه شريك في علاقة طبيعية، يعطي ويأخذ، له حقوق وعليه واجبات، الأهم أن يدرك أنه له شريك وعليه أن يبحث عنه، وأن يجده.

-        أظن أنه يعلم أين أكون؟

-        كيف؟

-        لأنه صديق مقرب لبعض زملائي في العمل، ومن المؤكد أنه تقصى أخباري.

-        ربما يكون قد فعل ذلك، فاطمئن أنك بخير، لكنك في الوقت ذاته لم تخبري أحدا بشيء، ولا يعلم أحد أنك تركتِ المنزل.

-        وهو أيضا، لا يتحدث عن أمور المنزل مع أحد، قد يحاول بطريقته أن يعلم أني لازلت على قيد الحياة، لكنه لن يتحدث مطلقا في أي شئ قد يثير فضول الآخرين، هو يخاف على مظهره بشكل كبير، ويخشى السؤال والجواب.

-        إذا سيتصل بك، إن لم يكن فعلها، ووجد هاتفك مغلقا، مجرد خروجك من العيادة، اذهبي لتتناولي طعامك إن لم تكن تناولتِ الغذاء، ثم عليك بمشروبك المفضل، ثم فكري ما خطوتك القادمة، وأديري الحوار معه بالشكل الذي تفضلينه، وفي اللقاء المقبل أخبريني بما حدث، وأظن أن الأمر الآن بيدك، فكري جيدا قبل أن تجيبي على مكالمته، ألقاك على خير.

وجدتها تبتسم مرددة:

-        أغدا ألقاك، ياخوف فؤادي من غد؟!

فرددت عليها:

-        آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا.

فضحكت بصوت مرتفع:

-        ياخوف فؤادي من غد!

-        لا تخافي يا فاطمة، كل الأمور صارت بسيطة جدا، وأنتِ لديك القدرة في التحكم في مجريات الأمور ورفض كل ما لا تطيقين تحمله، لا تخافي.

ذهبت فاطمة وأنا على يقين بأن قصتها قربت على النهاية، وأن علاجها صار بيدها، فرغم ظروفها المادية المتدنية، إلا أن خطوة ترك منزلها جعلها تدخل في حيز الاستغناء.

.. *..

 

الاستغناء دائما سيد المواقف، فبمجرد أن يشعر الطرف الآخر بقدرتك على الاستغناء عن أي شيء مهما كانت حاجتك إليه، ينمو داخله شعور تلقائي بقوتك الداخلية التي قد تستطيع أن تقضي من خلالها على قوته الجسدية الفانية، وهذا هو حال فاطمة حتى إن كان زوجها مريضا نفسيا، أو كان ابنا لبيئة مجتمعية بنيت على أسس خاطئة، فمجرد شعوره بقوتها وقدرتها على العيش دونه حتى وهي في أحلك الظروف، قادر على أن يعيد إليه صوابه أو أن يحاول التغيير، حتى وإن كان عبدا لجيناته، فالسعي ومحاولة التغيير هو في حد ذاته نوع من الانتصار على رغباته المريضة المؤلمة، ونوع من السعي إلى استمرار الحياة مع تلك المرأة أو غيرها بشكل إنساني، لكن كل ذلك يتوقف على رغبته الداخيلة والتي سيحددها ما يدور بينهما.

اليوم كان موعد قدوم فاطمة لأعرف منها آخر التطورات وما آلت إليه الأحداث بينها وبين زوجها، جاءتني قبل موعدها بنصف ساعة، وكانت أولى حالات اليوم، يبدو من سلامها كأنها أتت لوداعي وليس لمجرد جلسة "لايف"، وكانت تظهر عليها علامات الهدوء والسكينة، وهذا هو ما كنا نأمل في الوصول إليه، كانت متشوقة للحديث، وكأنها أرادت أن تحدثني عن بطولاتها ونجاحاتها العظيمة.

-أخبريني يا فاطمة، يبدو وجهك مشرقا، وابتسامتك تملأ ثغرك؟

-يبدو أن "الست" تعلم مفعول السحر.

-أيّة ستّ؟

-السِتُّ أم كلثوم.

-لا أفهم.

-آه من غدي هذا وأرجوه اقترابا.

ضحكت وتذكرت أن تلك الكلمات هي التي ختمنا بها جلسة الأسبوع الماضي:

-"بركات يا ست أم كلثوم" حدثيني بما حدث عزيزتي؟

-كل شيء تم كما أردتِ، أظن أن مشكلة حياتي قد انتهت.

-كيف؟

حدثني عبر الهاتف، وطلب رؤيتي في المنزل، فرفضت وأصررت على لقائه في مطعمي المفضل، تحدثنا كثيرا كما لو كنا في اللقاء الأول، ولسنا زوجين يسعى أحدهما لافتراس الآخر، وأخرى تسعى للخلاص من هذا المفترس، أظن أنها كانت أول مرة أسمعه يتحدث منذ زواجنا، وكأن الزمن قد عاد بنا إلى فترة التعارف الأولى في الخطوبة.

تحدثت معه في كل شيء، تبادلنا الاتهامات، فكل يحمِّل الآخر مسؤولية وصول العلاقة إلى هذا الحد،  فهو يرى أني لم أسع إلى معرفته جيدا، ولم أطلب لمرة واحدة إقامة علاقة معه، حتى أنه ظن ليلة زفافنا أنني لم أكن عذراء، فلم يستطع أن يترك عقله للتخمينات والتوقعات، فبادر بفعلته معي.

-وما السبب في جعله يفكر بهذه الطريقة؟

-أخبرني عن معرفته بعلاقتي السابقة بأحد زملائي في كلية الفنون الجميلة، وأنه على علم بكل التفاصيل التي دارت بيني وبين زميلي، وأنه اصطحبني في أحد المرات إلى منزله وأقمت علاقة معه، وغيرها من الأمور التي جعلته لا يستطع أن يصبر ليتم كل شيء بهدوء.

-وهل ما قاله حقيقي؟

-أخبرتيه أنه لا أساس له من الصحة على الإطلاق، وأن هذا كان مجرد صديق مقرب، لم أحبه يوما ولا أظنه يحبني، لكننا كنا طوال الوقت نقف بجوار بعضنا البعض، حتى أنه في إحدى المرات لم يجد الموديل المناسبة لرسم لوحة كان يريد أن يدخل بها مسابقة، فعرض عليَّ أن أكون أنا الموديل ووافقت على الفور، فلم أجد في ذلك شيئا يخجلني، هو صديقي الذي أثق به، وهذا هو سبب ذهابي معه إلى منزله لا أكثر ولا أقل من ذلك.

-إذا ماذا عما سمعه زوجك، وعن تلك العلاقة التي تحدث عنها؟

-يبدو أن هذا الصديق العزيز أراد أن يبدو، وكأن كل الفتيات يذهبن إلى منزله، وأنه "كازانوفا" الذي تعشقه الفتيات، ولا يتوانى في إقامة علاقات معهم، وهذا هو ماردده عني، رغم أنه كان على علم مسبق بإعجابي بهذا الرجل الذي تزوجته، وأنني كنت رافضة لطريقته في التفكير والحديث عن الفتيات بهذا الشكل حتى ولو بنوع من الضحك وتمضية الوقت، ففي النهاية هي سمعة فتيات لم يفعلن شيئا سوى أنهن وثقن في صداقته، وعندما لم يستجب وسمعته يتحدث عن أقرب صديقاتي، أنهيت علاقتي معه على الفور، ولم نعد أصدقاء من ذلك الوقت، ويبدو أن ذلك سبب أزمته وسبب حديثه عني بهذا السوء.

-وهل صدق زوجك حديثك؟

-هو على يقين من صدق حديثي من ليلة الدخلة، وليس بحاجة إلى حديث المقاهي ليتأكد مما أقول.

-إذا لماذا لم يهدأ أو تتغير الأمور بعد ليلة زفافكما طالما أنه تأكد من عذريتك وطهارتك؟

-ذلك هو نفس السؤال الذي وجهته له، والذي لم يعط إجابة محددة سوى أنه مشوش الذهن، وأنه ابن بعض الممارسات الخاطئة في الصغر، أو ربما يحاول مساعدة نفسه في التخلي عن فكرة "العادة السرية" التي مارسها طوال أكثر من 20 عاما، ويحاول أن يتأقلم مع وجود امرأة، لكن في الوقت نفسه لم يتعود بعد على فكرة الشراكة في الجنس، والمتعة بالتبادل وحب الشريك، وليس بهذا السطو، مؤكدا أنه بحاجة لبعض الوقت وبحاجة إلى مساعدة نفسية من أحد المتخصصين في العلاقات الزوجية حتى يمكنه تجاوز تلك النقطة، أو الذهاب إلى طبيب نفسي لعله يأخذ بيده.

-أنا سعيدة لأن أسمع مثل هذه النتيجة، فبداية العلاج هو الاعتراف بالمشكلة نفسها، لكن هل اتفقتم على أطر في المعاملة؟ والخطوات المستقبلية؟

-في البداية اتفقنا على أهمية وجود معالج نفسي متخصص في العلاقات الزوجية، وجعلت الأمر متروكا له ليختار من يفضله، وبالتوازي نحاول الابتعاد قدر الإمكان حتى لا يضطر إلى اللجوء إلى مثل تلك الممارسة المريضة، وهو ألا أترك المنزل لكن يمكن لكل واحد منا أن يستقل غرفة بمفرده إلى أن تنحل العقدة دون ممارسة جنسية ويصل المعالج معنا إلى حل، اتفقنا على الخروج معا على الأقل مرة أسبوعيا للتنزه أو رؤية الآخرين وزيارتهم والقيام ببعض الواجبات الاجتماعية، خاصة أنه ليس لدينا أبناء، ولم نناقش فكرة الإنجاب، فكلانا يخشى من تلك المسؤولية، كما أننا لسنا بحاجة إليها خاصة في تلك المرحلة.

-ألم أقل لك إنك على الطريق، ويمكنك السير بمفردك.

-الحمد لله، النتيجة جيدة، لم أكن أتخيل أن يأتي اليوم الذي أعامل فيه كامرأة طبيعية لها الحق في أن تقبل وأن ترفض، لها حق المتعة كما تريد، لا وقتما يفرض عليها، ما أمتع حرية الجسد حين يحصل على حقوقه بالحب والمودة دون إكراه أو إرغام، لأول مرة، سأنام مرتاحة في منزل الزوجية، سأنام وجسدي لي كامل.

أتعلمين! لم أعد إلى المنزل حتى الآن رغم حديثنا واتفاقنا على كل شيء، صممت على ألا أعود وألا أبدأ في أية خطوة قبل أن آتي لزيارتك، أردت أن أبدأ بداية جديدة بعد خروجي من هنا.

طوال الأيام الماضية كنت سعيدة بشكل لا يوصف، أشعر كأنني طائر محلق في الفضاء الواسع، أنام بشكل كامل دون أرق أو قلق يهدد فراشي، كنت أردد مع محمود درويش:

ما أطيب النوم وحدي بلا صخب في الحرير

ابتعد لأراك

لا شيء يوجعني في غيابك...

لا الليل يخمش صدري ولا شفتاك

أنام على جسدي كاملا كاملا لا شريك له

لايداك تشقان ثوبي، ولا قدماك/ تدقان قلبي كبندقة عندما تغلق الباب

لاشيء، ينقصني في غيابك:

نهداي لي، سرتي، نمشي، شامتي...

يرحم الله شاعرنا الفلسطيني العظيم محمود درويش، لكن عليكِ ألا تتراجعي خطوة للخلف، الأمور أصبحت واضحة بالنسبة لك، هو يبدو إنسانا طيبا يعاني من بعض المشكلات التي يمكن تجازوها بالدعم والمساعدة، طالما أنه يرغب في الاستمرار معك، ويسعى للتغيير من أجلك.

في النهاية، يظل كل منا عبدا لجيناته وابنا لعاداته وممارساته التى كثيرا ما تجعل منه أرضا خصبة -تثمر نتاجا مريضيا- لا منها صحراء جرداء، ولا منها تنبت زرعا يأكله البشر أو يصلح كطعام للحيوانات، فالسمات التي رسمت طوال سنوات النضج والتكوين، ليس بسهولة أن يلقى بها عرض الحائط أو أن تموت بين ليلة وضحاها، فليس من الهين أن يتحول شخص من حياة مفردة إلى حياة ثنائية لها مالها و عليها ما عليها، فكيف لشخص اعتاد الصمت، أن يستيقظ على صوت غير صمته، أو كيف لشخص اعتاد أن يجد الأشياء كما وضعتها يده بنظام كان أو بعشوائية، بين أيادى أخرى حتى وإن كانت أكثر حرصا وخوفا عليها منه هو، لكنها في النهاية شريك، كيف يتحول شخص اعتاد أن يده وحدها من تحركه، تحرك أشياءه، تثيرها، حتى يقضى حاجته وشهوته، دون شريك في الفراش عليه أن ينتظره، أن يلبي مواطن متعته، أن يشعر به، أن يدرك حاجته، أن يتفقا معا على آلية الفراش، كل ذلك أشياء يصعب على صاحبها تغييرها بدون يد المساعدة.

عبرت فاطمة عن شكرها العميق لي، وعن سعادتها بما حققته وحتى ولو لم تجني الثمار بعد، لكن على الأقل أيقنت أنها يمكنها أن تحيا حياة كريمة مثل أي إنسانة طبيعية يحترمها ويقدرها زوجها، وطلبت أن تأتي لي على فترات متباعدة إن اضطرت إلى ذلك، ورحبت على الفور بالتواصل في أي وقت إذا ما احتاجت إلى ذلك، كل ما عليها هو الصبرعلى زوجها، وألا تصدم إن كرر فعلته مرة أو اثنين، فذلك الأمر وارد إلى أن يصل إلى الاستقرار النفسي والاقتناع التام بوجود شريك ملموس وحقيقي أمامه.

شعرت ببعض من الانتصار، فأنا أعلم أن المشكلات قد تطول مدتها، وفاطمة فتاة مثقفة، لكن قليلا من الغشاوة قد حالت دون إدراكها وفهمها لما يحدث، ربما لأنها كانت في دائرة البحث عن كيانها والتحقق من خلال لوحاتها التي كانت جزءا أصيلا وترجمة حقيقية خلال أشهر زواجها المؤلمة.

قد يكون ذلك لقاؤنا الأخير، لكنه كان لقاء مثمرا، فيكفي أنه حان الوقت لتنام، وآن الأوان لجسدها أن يستريح إلى أن يحصل على ما يستحق من المتعة المدللة والتي تؤكل على مهل، لعلها تكون بداية النور والطاقة لها ولفنها برفقة زوجها، فتترك لجسدها العنان ليسبح أمام هذا الزوج الجائع والذي طالما أراد لذاته أن يأكل برفقتها لا عليها، لتنتهي صفحة مؤلمة من صفحات الحياة، والتي كانت جزءا أصيلا وسببا من أسباب كتابة ذلك العمل الذي يتألم بتألم جسد أصحابه، الذين سعوا دائما للراحة في ثوب المتعة، التي إما ضلوا الطريق إليها، أو فقدوها مع فقدان الكثير من مقومات الحياة، لكن يظل الجسد يعلن بكل الطرق عن رغباته الملحة، وحاجاته التي لا يمكن لها أن تنتهي إلا إذا رافقته للتراب، بعد خروج الروح، ليعلن الموت الملتقى في حياة أخرى، لكن لا نعلم هل يطلب الجسد بعد الموت؟!

***