الأحد، 24 مايو 2020

ترهات فأر (قصة قصيرة)

ترّهات فأر

قصة قصيرة
الرتابةُ تكتنف جُلّ وقتي الهادئ بسكونه المريب، الظلام يخيّم على الزنزانة الانفراديّة، كل يوم لي زيارة خاصة إلى إحدى زواياها، فأقضي نهاري وليلي قابع فيها، بينما حنين الأخريات لجلستي فيهن، صفاء الروح جعلني أسمع حسيسهن، ولكل منها متعة مختلفة عن الأخرى، قراءة الذات؛ أصبحت وِرْدًا يوميًّا يستغرقني في ملكوت فضاءات، لم أكن أشعر بها في ضجيج الحياة قبل ذلك، المراجعة الذاتيّة لم أحظ بها أبدًا، جاءت الوحدة القسرية نعمة، لم أكنْ أحلم بها في يوم من الأيام، خربشة في الزاوية المقابلة، نبهتني إلى أمر غير متوقع بتاتًا، صوتٌ يأتيني، يكسر رتابة الصمت المهيب المريب، بالسلام، بالكاد تبيّنتُ ماهِيّتَه، أوه..!!، يا إلهي إنه فأر ضخم، شكله مخيف، ذكرّني بسلاحف النينجا الأفريقية، انكمشتُ على نفسي، وأنا ألملم أطرافي خوفًا من الاعتداء على أي منها، جلسَ مُقْعِيًا على مؤخرته، مُسْتندًا إلى ركن الزاوية المتين، عيناه تبرقان، فأضاءتا المسافة بيننا، الآن تبيّنتُ، وتمليتُ ملامِحَه بشكل حقيقي.
الفأر: أرى علامات الدهشة قد استولتْ على ملامحك، ألم تر في حياتك فأراً مثلي يتكلم؟، ألا تتذكر توم وجيري، -أطلق ضحكة مجلجلة دوى صداها في أذنيّ-.
أنا: لا في الحقيقة، ولا في الحلم، تخيّل أنني كنتُ أصدّقُ ذلك في صغري أيام المدرسة، وأنا أقرأ كليلة ودمنة، ولمّا كبرتُ قليلًا، كنت على يقينٍ أنّ عقلي كان قاصرًا عن إدراك كونها قصصًا كتبها دبشليم على لسان الحيوان، لغاية في نفسه، وللخروج من غضب السلطان، وأعوانه.
الفأر: نعم صدقتَ، ولكنني فأر مختلف تمامًا عمّا تعرف، أو بما يخطر على بالك، مما هو طريف وغير واقعي، سأختصرُ الوقت قبل تبديل نوبة الحراسة، وأنا قادمٌ إلى هنا، مررتُ بالحارس، رأيتُه مُتكوّمًا على نفسه، عيناه مغمضتان، شخيره متقطع، سيجارته انطفأت بين اصبعيْه، سأروي لك شيئًا، ربّما يكون طريفًا بالنسبة لك، وللأمانة التاريخية، أنا مهتمٌّ بقضايا التاريخ الحقيقية، وأهزأ بكم معشر البشر، وأنتم تقرؤون، وتصدقون ما تقرؤون، بلا تحليل وتركيب، وعمل تقاطع بين المعلومات، لاستنتاج شيء جديد على غير المألوف, والمعروف.
أنا: هاتِ ما عندكَ أيها الفأر..!!.
الفأر: العالم كله يعرف ويعلم، أن خروتشوف رئيس الاتحاد السوفييتي، ضرب بحذائه على الطاولة اعتراضًا على انتقادات رئيس الوفد الفلبيني للسياسة الخارجية السوفييتية في أوربا الشرقية، ووصفها بالاستعماريّة، أثناء الجلسة العامة للأمم المتحدّة في نيويورك 1960، بينما شاع أن هذه الحادثة جاءت احتجاجًا على العدوان الثلاثي على مصر1956، وما لم يقله أحد على الإطلاق، سأقوله لك، أنت وحدك بالذات: أثناء الجلسة هذه، تسللتُ إلى قاعة الاجتماع، وبينما كنتُ أدُورُ تحت الطاولات، وبين أرجل الكراسي، أغراني لمعان حذاء خروتشوف خاصة، وتغلب طبعي عليّ، رغم أنني أعرف مدى حساسيّة الموقف، ودقته المتناهية، فقمتُ بِعَضِّ مقدمة الحذاء، وانغرست نَابَايَ الكبيران خلال الجلد الطري، لينفذا إلى أصابع رجله، فلما أحس بالألم، لم يحتمله، فقام بخلع الحذاء، تصادف ذلك مع توجيه إحدى الصحفيين المكلفين بتغطية الجلسة عليه (الكاميرا) الرئيس، شدّة الألم جعلته يضرب الطاولة.
أنا: هيه..، أيها الفأر، هذا كلامٌ خطير، سيقلب الموازين، و النظريات السياسية القائمة والمعروفة.
الفأر: إذا لم تصدقني، عليك بالبحث و المراجعة، وكما أعلمُ أنك قارئٌ جيد، وكاتب قصصي مرموق. سأخبرك عن حادثة إطلاق القنبلة النووية على هيروشيما.
أنا: أظنّ أنك ستقول هذه المرّة، أن لك علاقة بهذا الموضوع ..!!، و ما أدري ما الذي يجعلني أسمع فأرًا حقيرًا؟، وقد اقتحمتَ عليّ عُزلتي.
الفأر: سامحك الله يا أستاذ، سأتـغاضى عن هذه الاتهامات، ولم أفهم سببًا مقنعًا لنظرتك العنصرية المعادية لساميّة الفئران، على كلٍّ، فلن أتردّد في متابعة حديثي الذي بدأته معك، فقد تسللتُ إلى تلك الطائرة، واختبأت تحت كرسي الطيّار، طال انتظاري، ولم أستطعه أكثر، وهدير الطائرة لم يتوقف، كاد أن يُسَبِّبَ لي الصمم، تحركت من مكاني إلى الفسحة الصغيرة بين قدميّ الطيار، ما إن أحسّ بوجودي ولمحني بطرف عينه، ركلني بضربة موجعة على ظهري، انطلقت بسرعة للأعلى، بحركة مفاجئة من يد الطيّار، أراد أن يبعدني بها عن كبسة قاذف مظلة النجاة، لأن مجاله الجوي ضمن منطقة معادية، فضغطت يده على كبسة قاذف القنابل ، وكانت هيروشيما، و ماتزال سجلًّا حزينًا في ذاكرة اليابانيين، فدوّنوه في صفحة سوداء قاتمة من تاريخهم الحديث.
أنا: قاتلك الله.. أيها الفأر الهرم على شنيع فعلتك، أنا أعتبرك أنك القاتل الحقيقي، ها ..!!، وماذا بعد هات من عندك، وأخْرِجْ من جعبتك شيئًا آخر، ولم تخبرني أين ذهبت أنيابك، وأسنانك؟.
الفأر يضحك بصوت عال، وقهقهة هزّت أركان الظلام في الزنزانة، وقال: في الحقيقة، أنه في السنوات الأخيرة، مؤكّدٌ أنك سمعت بالفنانة هيفا وهبي، وأغنيتها الشهيرة ” الواوا”، أغرتني ألوان المسرح وأضوائه، ولمعان ساقيْها، بينما الموسيقى بدأت في المقدمة الموسيقى، وكانت أغنيتها ستبتدئ بموّال زَجَلٍ لبناني” يابا .. يا بابا”، لم أستطع مقاومة الإغراء، الفرقة مشغولة بحركات المايسترو البلهاء، و المطربة نظراتها تتركز على المايسترو العجوز، تقدمت بسرعة خاطفة لعضّ قدمها، من شدّة ألمها، وبغنج الدلع، صارت تشير إلى قدمها، وهي تغني “الواوا” بدل “يابا.. يا.. يابا”، المايسترو مُنهمكٌ في عالمه، لم يلحظ تغيّرًا ما، بينما مُخرج الأغنية تابع تصويره، وراقت له الفكرة، وكأنها مبتكرة في عالم الفن، وهو يغرس نظراته في حركات “هيفا”، وهي تتلوى من الألم، ألمٌ ممزوجٌ بالإغراء، حاولتُ الهروب باتجاه آخر، وكانت عصا المايسترو لي بالمرصاد، وهي التي أسقطت أسناني.
أنا: صرختُ بأعلى صوتي: اغْرُب عن وجهي، أيها الفأر القميء، وخرجتُ من الزنزانة لأجدني في فضاء رحيب، وأعلن للملأ بأعلى صوتي عدم تصديق كذب و افتراءات ذلك الوغد الأفّاك. بينما أتملل في فراشي وإحساسي بتعرّق جسدي بأكمله، ترافق ذلك مع رنين ساعة المنبّه، فنهضت من فراشي بسرعة، قاصدًا الحمّام والنوم يتلبّدُ على جفنيّ.

عمّان – الأردن

تأملات 1+2


تأملّات .. (1)

الحاضر يعتبر خير شاهد على الماضي، إذ لا يمكن فَهْمُ طبيعة، ومُداخلات الحاضر، إلا إذا صار مستقبلًا، ويأتي حكم الحاضر على مُعْطيات, وتجليّات لم تكن ظاهرة وقتذاك، فتتفتح العيون على نضوج الرؤية، بمقارنات مشفوعة بتقاطع الأدلة.
ولا يمكن فهم الحاضر، والحكم عليه، إلاّ من خلال استقراء مساره في الماضي القريب و البعيد.
والحاضر هو المستقل في عيون الماضي، وله تُبذل المُهَج، وتراق على دروبه الدموع، و العواطف، والمشاعر، و تنساب المتاعب بكامل قُوّتها أملًا في الوصول للمستقبل.. المفروش بالورود.
حقيقة لا أدري، إذا أصابتني صدمة ظلام المستقبل المنشود في عينيّ ..!!، ما الذي يمكن أن أفعله؟.
– هل أنقلب عليه، وأنكفئ إلى قوقعتي ؟.
– أم أرجع للتّرحُم على الماضي، بكامل سلبياته؟.
الماضي مُعاش، و المستقبل أمنية.
سِمَةُ الحاضر في نفوس مُعَايشيه، كثرة التأفف، واللّعن، و السخط على الكثير من معطياته، وهناك أمنيات تحاول القفز من المركب للانتحار، ولمقاومة الحاضر، والانتقال للضفة الأخرى، التي هي بمثابة المستقبل، وهو بُغية يُراد الوصول إليها.
كذلك المستقبل، هو الشمعة، أو بصيص النّور، لمن يسلك النفق المظلم.
المستقبل كونٌ مليء بالأحلام المتجددة، الموغلة في غمارٍ مُتّسِعٍ، ربما تتجاوز حدود الكرة الأرضية، لتناطح الشمس، و القمر، ودرب التبّانة.
إذا كان المستقبل مجهولًا لنا، فهل يستحقّ منا كل التضحيات من أجله، وما نطلق عليه التفاؤل والأمل.. هما الدافعان الحقيقيان للسير الحثيث إليه.
هل للمستقبل أن ينمو، ويزدهر في النفوس، لولا الاعتقاد بأنه هو الأفضل و الأجمل.
كم يمتلك أحدنا من الحَيَوَاتِ حتي يبذلها للمستقبل..!!؟.
العيون تُركّز نظراتها إل الأفق البعيد، عندما تَمَلُّ من الحاضر.
الماضي يُلقي بأوشحة ظلاله القاتمة على الحاضر، مُحاولًا الإمساك به، وإرجاعه إليه، لتأخير انطلاقته.
إذا اعتمد الحاضر على رصيده من الماضي، مؤكدٌ أنه لن يتقدّم، إذا حاول نقل الماضي بكل حيثياته غير الملائمة لطبيعة المرحلة، بدل الاستفادة من دروس وعبر الماضي.
إذا كانت الألسنة تلهج بذكر الماضي: بأنه الزمن الجميل، يجب التأكد أولًا من أن المستقبل لن يقوم، ويعلو إلاّ بِأُنَاسه الذين يحملون معهم قِيَمَهُم النبيلة.
إذا كانت العواطف، هي الحكم و الفيْصل، وسبيل الوصول إلى المستقبل، حتمًا سيكون فاشلًا.
لا يمكن للحاضر، أن يكون بلا ماضٍ، ولا مستقبل.
إذا قذف الماضي بحجارته على المستقبل، فلن يكون للحاضر وجود.

***

تأملات (2).. في الأيادي


تعتبر الأيادي هي أداة الفعل الإيجابي و السلبي في الحياة على حد السواء، وهي الحانية التي تمسح الآلام، و الأحزان عن القلوب، وأخرى تزرع الخراب، والدمار، والأحقاد، حينما تنبش الأسى من مكامنه.
الأيادي البيضاء لها السّبْق في المبادرة إلى دروب الخير، بفيْض عطائها، لتجدد الأمل في القلوب الظامئة.
الأيادي السّود، الملوثة بمشاريع قاهرة، غارقة في وَحْلِ المؤامرات، فنسجت، وحبكت خيوطها في عتمة الليالي بعيدًا عن الأنظار، لتعيث فسادًا في الكون على كلّ المستويات، فتنعكس آثاره على العباد لاحقًا أم آجلًا.
الأيادي المتوضئة، تطّهرت من أوطار الحياة، ونفضت عنها الأرجاس و الآثام، وامتدّت لنثر الخير، فسكبت السكينة و الطمأنينة على الأرواح لتسكن في أمان من غوائل الدهر، وفي الليل ترتفع لتمسح دموع الضراعة، و الخوف من الله، نهارًا تفتح أبوابها، وتشرعها للعابرين إلى رحابها، تمتد لتعطي.
الأيادي الأثمة، الأثيمة، المُؤثّمَة، تُلوّح من بعيد بخناجرها المسمومة، تطعن بها في الظّهْر، و في الخاصرة في غفلة من عيونٍ، غَفَتْ في سبيل استراحةٍ، ولو لبرهة.
الأيادي الحائرة فيما، بين ..و.. بين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أيادٍ أقّل صفة لها أنها منافقة، أقلامها مأجورة للأقوى، تُلوّح بعصاه، وتُصفّق له، تخطّ مصائر البُسطاء بقسوة، وبلا رحمة، فقد باعت ضميرها المتكلّس بأبخس الأثمان، تصطف بتوافق عجيب من الباطل جهارًا نهارًا، بلا حياد، أو وقوف على مسافة واحدة من الفرقاء، وقاعدتها الدافعة لرؤيتها الميكافيليّة، “أن الغاية تُبرر الوسيلة”.
أيادي الحقّ تعلن على الملأ بلا خوف أو وَجَلٍ، أنها نصيرة المظلومين، شعارها رفع الظلم عنهم، ومقاومته بشتى السبل المتاحة، خيارها صعبٌ مليء بالعقبات الكأداء، وستصرف جهدها، وربما تستنفذ كل زَخَمها قبل أن تصنع شيئًا ملموسًا، بينما تأتلف ضدّها كلّ الأيادي الشريرة؛ لتكريس حالة الظلم والظلام.
أيادي العَسَس، أيادٍ مخيفة، تنشر الرّعب و الخوف في كلّ مكان تحلّ فيه، لها آذان كبيرة، تتسمّع فيها همسات الهامسين، وتفهم كلام البُكم على أنه احتجاج ضدّها، تُسكتُ الأصوات، وتزجّ بأصحابها خلف القضبان وراء الأسوار، وتحرك الستارة من الخلف، والأحجار على رقعة الشطرنج، عيونهم تدور في رؤوسهم على مدار السّاعة، يتلصصون على دقائق الأمور الخاصة و العامة، باسم القانون ينفذون أعمالهم.
الأيادي ميّزتها العظمى أصابعها، فإذا ما ارتفعت السَّبابة وحدها بمحاذاة الوجه فتكون علامة تحذير من أمر ما، والإبهام إذا ما أطلق للأعلى، والكفً مضمومة على شكل قبضة، فإنه يكون علامة إعجاب، و الوسطى إذا ما نتأت واقفة بحركات إيمائية، والكف مبسوطة، وممدودة للأمام علامة وسخة يُشار بها لشخص ما لإغاظته، وإذا ما اجتمعت الكفّ مضمومة؛ فتشكل قبضة تتهيأ للضرب و المقاومة، وإذا ما اجتمعت رؤوس الأصابع لتتشكّل بشكل أجاصة فإنها تُحذّر وتتوعد.
والفرق شاسع ما بين اليد التي تمتد للسلام على الآخرين، وتحمل غصن الزيتون تُلوّح به، وبين اليد التي تضغط على الزناد لتُسيح الدماء، وتسفح أرواح الأبرياء, و “اليد العليا خير من اليد الدنيا”، و” يد الله فوق أيديهم “.

رسام كاريكاتير

رسّام كاريكاتير

قصة قصيرة
بقلم-(محمد فتحي المقداد)*

أثناء فترة الدراسة في المرحلة الابتدائية، درجت موضة دفاتر تحمل على غلافها صورة الرئيس، ضمن دائرة متوسطة الحجم، وعلى الجهة الثانية للغلاف أيضاً صورة للوطن العربي تكللها كلمات ثلاث (وحدة- حرية- اشتراكية)، نردد الشعار بعد اصطفاف الطابور الصباحي، نأخذ وضعية الاستعداد، ينادي العريف: (أمة عربية واحدة)، نردُّ عليه: ذات رسالة خالدة، ثم ينادي: أهدافنا، فنرد بصوت واحد يرتجُّ في الأفق(وحدة- حرية- اشتراكية).
أسعار هذه الدفاتر، تَقِلُّ عن مثيلاتها بقروش قليلة، مما يجعلنا نُقْبِلُ على شرائها، وكانت المؤسسة الاستهلاكية تتبنى عملية طباعتها، وبيعها للأهالي في صالاتها المنتشرة على مساحة القطر. في فترات الملل أثناء الدروس، ولمقاومة الكسل الذهني، كنتُ أقومُ برسم نظارُة لصورة الرئيس، وأطورُ الصورة برسم دقن صغيرة(سكسوكة) تشبه القفل، وإذا انتهيتُ منها، أطورها إلى لحية كاملة، فأتخيل الرئيس إنساناً متدنياً مومناً، في تلك الأيام كانت اللحية رمزاً للمتدينين فقط.
من خلال إدماني على رسم وجه الرئيس، ومحاولاتي الكثيرة المتكررة، وبعد زمان ليس بالقصير، أتقنتُ رسم الوجه بكافة ملامحه، ودقائق تفاصيله، حتى اشْتُهِرْتُ بذلك، وصارت المناسبات الوطنية و القومية موسماً لي لإبراز موهبتي. من هنا جاءت محبتي للاستغراق في مداومتي على رسم الوجوه بكافة أشكالها، كثيراً ما كنتُ أحولها لرسم كاريكاتوري، بطريقة هزلية مضحكة. وكانت تستهويني الصفحة الأخيرة في جريدة الثورة أو البعث أو تشرين، وتذكرت من أخبرني  عن مجلة أسامة الشهرية المخصصة للأطفال، فقد كان أبي يوصي عليها من يسافرون إلى المدينة في بداية كل شهر، وكانت فائدتي منها عظيمة، بأنني تحولتُ إلى تقليد المناظر الطبيعية، وبعض الصور المنشورة فيها التي تستهويني، جاءت مُيُولِي في إظهار هوايتي مُبكّراً.
بدعم من والدي، وتشجيع معلم الرسم، تابعتُ ملء الفراغ في أيام العطل، وبعد الانتهاء من كتابة وحفظ واجباتي المدرسية، تأتي العطلة الصيفية؛ لتكون موسماً يغزر فيه انتاجي المتنوع، تعززت ثقتي بنفسي، وكبر طموحي لعرض لوحاتي المتعددة، وما إن جاءت مناسبة الحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني، حتى أقامت رابطة الشبيبة احتفالات فنية، وأمسيات شعرية تمجد هذه المناسبة، وعلى الهامش أقيم معرض لمجموعة من الرسامين، كنتُ أنا من ضمنهم، حيث تمكنتُ من عرض خمس لوحات، منها اثنتان للرئيس على وجه الخصوص.
سكرتُ في أوهامي، أتخيلُ نفسي في الصف الأول من الفنانين، من خلال الصحف و المجلات تعرفتُ على ناجي العلي، كانت أمنيتي أن ألتقيه، وغاية أمنياتي أن ألتقط صورة  لي معه، لكي تكون وثيقة دخولي إلى عالم المشاهير. غمرتني السعادة، وقد  اشتطّ بي التفكير بعيداً في الأحلام.
***
 
اختلفت الأسرة، حول الفرع الذي سأدخله في الجامعة، الوالد راغب في دخولي كلية الهندسة، الوالدة رغبتها تتوافق مع رغبة والدي، بينما وقفتُ وحيداً، وصوت واحد مقابل اثنين، وكانت النظرة الدونية للرسم والفن، وللاعتبار الاجتماعي دور كبير، ومجازفة كبيرة لا تُحمد عُقباها، لمن يختار هذا الطريق, والداي رأيهما أنها هواية، أما أن تكون دراسة وتقرير مصير، فلا وألف لا، تلك مهنة لا تطعم الخبز، وسيقتلك الجوع، هذه مقولة أبي المتكررة، ويتابع: بينما المهندس لقب اجتماعي يستحق الاحترام، ووظيفته مُؤَمّنَة، وله مستقبل في السفر إلى دول الخليج للعمل هناك.
بينما نحن في دوّامة الحدث، جاء تدخّل أستاذ الفنون، ومدير المدرسة، لمصلحتي، وتقدموا بنصيحة للأسرة، بأن يتركوني لتسجيل ما أهوى، وبرغبة منّي، خوفاً من الفشل في مجال الهندسة، والوصول لطريق مسدود في حياتي.
سنة أولى، ثانية، دراسة، دوام، انغماسٌ تام في مجال رغِبْتَهُ، وحبّهُ خالط دمي، اندمجتُ فيه لدرجة التطابق التام، مظهري اختلف كثيراً، بنطلون الجينز الأزرق، بَهُتَ لونه، والوسخ بادٍ عليه، لا أذكر آخر مرةٍ زُرتُ فيها صالون الحلاق؛ لتهذيب شعر رأسي ولحيتي، هذه الصورة العدوى، انتقلتْ بلوثتها إلى ذهني، وترسخت كأحد المعالم الدالة على أنني فنّان، وحقيبتي علي كتفي تتدلى على جانبي بواسطة حزام من نفس لونها، ملازمة لي أينما ذهبت وتوجهتُ.  
***
ذات جلسة متزاحمة بالأفكار السوداوية، طاولتي مليئة بالأوراق، و الأقلام، وفراشي الألوان، بالكادِ أفسحتُ فراغاً لمكان أضع فيه دفتر الرسم، الغرفة تكتظ بسحب دخان سيجارتي، الستارة مُسْدَلةٌ على النافذة الوحيدة، الرطوبة تنبعث من جدرانها، رائحة عفن تزكم أنف الزائر لكهفي أول مرة، يتأفف بقرفٍ، يؤنّبني على هذا المكان غير الصحي، فتحتُ دفتري، طارت عصافير أفكاري، تبلّد إحساسي، نسيتُ ماذا سأرسم، قمتُ لتحضير فنجان قهوة، لترطيب مزاجي، ما إن فاحتْ رائحة القهوة وهي تغلي؛ حتى انفتح الالهام، واستقر رأيي هذه المرة على رسم كاريكاتير للرئيس، وهذه المرة الأولى منذ بداية طريقي، رغم أنني ما أزال أذكر نصيحة أحد رجال الحارة في قريتنا، ذات الفكاهة التي تجعلني أضحك من قلبي، لا أدري كيف جاءت الآن، و أنا أقف أمام بابور الغاز، لإنجاز فنجان قهوتي، مقولة هذا الرجل تقريباً حفظتها، ووعيتها منذ أول مرة طرقتْ مسمعي، وهو يقول: (ثلاثة ما عليهم مَرْجَلَةْ، البرد و الكهرباء و الرئيس)، فهذا الثلاثي ضربته قاضية، قلما ينجو أحد أصيب بإحداها.
رجعتُ إلى طاولتي، وضعت فنجان القهوة أمامي، بضعة دقائق أتأمل البخار المتصاعد منه، رائحته النفّاذة تخترق خلايا دماغي، تشدّ شراييني، قلم رصاص الفحم بانتظاري، مساحة الألم تتصاعد داخلي، ما إن بدأت بالخط الأول، وكان لحظة انفلات من عقال واقعي إلى أن أتممتُ، (بورْتَريه) مختلفة تماماً لوجه الرئيس، هذه المرة هي الأصدق، والأقرب إلى قلبي على الاطلاق، طيلة مسيرتي الفنيّة، إنها رسم كاريكاتوري مُضحك، تأخَرَتِ الساعة إلى ما بعد منتصف الليل، قمتُ متثاقلاً إلى فراشي، لأتخلص من إرهاق يوم غير عادي، نمتُ بعمق لدرجة التعرّق، رنينُ جرس المنبّه أيقظني، قمتُ رغماً عني، أقاوم رغبتي في المزيد من النوم، دروس العملي اليوم في الكلية، لا يمكنني التغاضي عنها، والحضور إجباري، لأنه يتقرر فيها مصير المادة للنجاح.
***
 أثناء عودتي للبيت بعد انتهاء الدوام، سيّارة أمن أشارت إلى الباص بأن يتوقف، يصعد إليه رجال الأمن، مدججين بالسلاح، ارتعشَ جسَدي سَرَتْ فيه برودةٌ مفاجئة، اصْفَرّ لون بشرتي، رأرأةُ عينيّ تفضحني، كأنني أُخْفي شيئاً، قلت لنفسي: انتهت حياتي، هذا آخر عهدي بالحياة و النور والشمس، امتدّتْ يدِي بحركةٍ عصبيةٍ؛ لقص الصورة من الدفتر، دعكتُها بيدي بشدة، لم يخطر ببالي إلا ابتلاعها، مرارة الحبر جعلتني على وشك الاستفراغ لكل ما في بطني، توجه تلقائي رجل الأمن، بمظهره المرعب، وشعره المنفوش، وشاربه المتدلي على جانبي فمه، والبندقية في يده، ثلاثة مذخرات ملفوفة بلاصق جعلهن قطعة واحدة، وجعبته على صدره.  
– قال: ماذا تأكل؟.
– قلتُ: قطعة (كاتّوه).
– قال: أكيد طيبة..!!.
– قلتُ: نعم، وهززت رأسي.
– قال: ما لي أراك خائفاً؟، نحنُ نبحثُ عن شخص معه مخدرات، هل معك شيء منها.
– قلتُ: لا أبداً.
ما إن أدار ظهرة راجعاً باتجاه أول الباص، حتى ظهر أمامي طيف الرئيس واقفاً بقامته الفارعة، الغضب يتطاير شرراً من عينيه، توقف نبضي، تجمّد الدم في عروقي، كِدْتُ أصيح هاتفاً: بالروح بالدم نفديك يا حافظ. بادرني بقوله: ما الذي فَعَلْتَه يا ولد؟. استفقتُ من ذهولي على صوت المعاون، منبهاً إلى أنّ الحافلة وصلت إلى نهاية الخط.  

عمّان \ الأردن
4 \12 \2015