الجمعة، 1 يوليو 2022

مجتمع الروليت في رواية المقامر

 

 

مجتمع الرُّوليت

مظهر المجتمع الأرستقراطيّ في رواية المقامر

 

بقلم الروائي: محمد فتحي المقداد

 

مقدمة:

لذّة قراءة الأدب الرّوسيّ بما يأخذ القارئ في دروب الوصف الدّقيق لأبسط الأشياء، وهو ما يبتعد عن المباشرة في طروحاته للفكرة والحدث. الوصف عمومًا تأثيث للفكرة المُجرّدة، وإكساء يضفي البهاء والجمال أيضًا. كما أنّه يعتبر وسيلة إقناع وإغراق للقارئ في لُجّة النصّ، بحيث يستجيب لتداعيات الكاتب، وبالتالي امتداح النص، ومناقشة دروبه ومآلاته بكثير من الحماس والانحياز بداية للنص، ومن ثمّ لكاتبه. وهو ما يساهم في ترسيخ اسم الكاتب في ذاكرة القراء، ممّا يفتح له الساحة لزيادة الانتشار، والبحث عن كتاباته الروائيّة، ليصبح اسمه في المقدمة ويكتب عنه الآخرون الأبحاث والدّراسات الأدبيّة والنقديّة. 

كان "ديستويفسكي" ينشر رواياته على شكل حلقات في المجلَّات السيَّارة. كتب فيما بعد، قائلاً: (ما أكثر ما حدث في حياتي الأدبية، أن بداية فصل في رواية، أو بداية قصة، تكون قد أرسلت بالفعل إلى آلات الطباعة، بينما البقية كانت لا تزال في رأسي، ولا يزال عليها أن تكتب في اليوم التالي).

 

 

 

بين يدي رواية المقامر:

رغم أنّ رواية "المقامر" كتبها "ديستويفسكي" العام 1866أي بمعنى قد مضى عليها أكثر من ما يزيد على مئة وستّين عامًا. لكنّها ما زالت طازجة كأنها كتبت في حاضرنا. الرواية ترجمة للعربيَّة "سامي الدُّروبي"

فالعنوان هو الرواية التي تفسّره بطريقة سرد أحداثها المنتمية إلى المدرسة الواقعية في الأدب، وتعتبر وثيقة تاريخية أمينة نقلت إلينا طبائع وعادات وتقاليد المجتمع البرجوازي في تلك الفترة الغابرة.

للقارئ الباحث والهاوي، فإنّ رواية "المقامر" فسّرت وشرحت دقائق الحياة الداخليّة التي يعيشها المجتمع البرجوازي المتنوع ما بين الجنرال والكونت والباشا، وطبيعة البروتوكول الذي يحكم علاقاتهم الاجتماعية، والتراتُبات في المكانة والمنصب.

بالطبع هذه الفئة الأرستقراطيَّة والبرجوازيَّة جزء بسيط من مجتمعاتها ذات الأكثريَّة بمستواها الأقرب للفقر والبؤس. طبقة العامَّة تتضادُّ بأفكارها، ومعطيات الحياة اليوميَّة مع طبقة الأسياد المتمتعة بالمناصب والوظائف العامة.

تدور أحداث الرواية حول أستاذ روسي مثقف ليس ميسور الحال اقتصادياً, يقع في حب امرأة أرستقراطية لا تعيره أي اهتمام, بل إنها تحتقره حسب رأيه وهمسته المذكورة في القصة، تهينه بشكل يثير قلق القارئ من صحة أو واقعية القصة, تدور القصة في فرنسا, بالنسبة للقمار والمقامرة فان الأستاذ يؤمن في داخله باستطاعته كسب الكثير من المال إن حاول لعب القمار في الكازينو. وتصف القصة حال المقامرين في الكازينو ويشرح لعبة الكازينو ونفسية الناس المقامرين هناك.

(إن فكرة تأليف رواية «المقامر، قد خطرت لدوستويفسكي سنة 1863، أثناء رحلته إلى الخارج مع باولين سوسلوفا، فبينما كان "دوستويفسكي" في طريقه إلى باريس للحاق بحبيبته التي تلبث بمدينة فسبادن الألمانية ليقامر على الروليت. وقد ألهبه هوى هذه المقامرة، وربح، وظنَّ أنَّه أدرك القواعد التي يجب اتِّباعها لضمان الربح.

وها هو ذا يكتب إلى فرفارا كونستان، أخت زوجته الأولى، قائلًا «لقد أصبحت أعرف السر حقاً : إنه سر بسيط غاية البساطة، وهو أن يمتنع المرء من حين إلى حين، دون أن يهتم أي اهتمام بمراحل اللعب، ودون أن يفلت منه زمام سيطرته على أعصابه) ص5.  مما تقدم في الاقتباس تبين النظرة السريعة على موضوع اللعب وإتقان قواعد اللعبة التي لها طرقها الخفية ولها أساطينها العُتاة الخبراء الأذكياء أكثر من غيرهم.

وبفضل الرّوليت تجاوز "ديستويفكسي"  الجدار. جدار المنطق الذي لطى عنده البطل الموازي للكاتب. إنه ينتقل هنا إلى ميدان المصادفة واللامنطق. القمار هو التجربة الأولى للحريَّة في العالم الماديِّ، الرُّوليت خُلقت للرُّوس الشَّرهين المٍتلافين لأموالهم، المسعورة أهواؤهم. 

"هنري تروبا" يقول عن "ديستو يفسكي": (لقد أتاحت له الرُّوليت أن يعبث بالقدر كما كان القدر يعبث به"

وفي الفصل الأخير من الرواية (السابع عشر) تتضح أن الرواية جزء من مذكرات الكاتب "ديستو يفيسكي"، وجاءت نتيجة تجربة شخصية. كما أنها جزء من سيرة ذاتية للكاتب.

(منذ عشرين شهراً لم أنظر في هذه المذكرات؛ ولم يخطر ببالي أن أعيد قراءتها إلا في هذا اليوم، عسى أن تنسيني قلقي وتخفف من حزني وشجني. لقد وصلت من حديثي السابق إلى اليوم الذي قصدت فيه هومبورج. رباه! ما كان أشد طيشي وأخف عقلي حين كتبت تلك الأسطر الأخيرة؛ فإن لم يكن الأمر أمر طيش شديد وعقل خفيف، فلا أقل من أن يوصف بأنه ثقة بالنفس ، وأمل لا يتزعزع! هل كنت أشك في نفسي أي شك؟ وها قد انقضى على ذلك الآن ثمانية عشر شهراً، فإذا أنا أعيش في وضع خير منه وضع أي شحاذ متسول في رأيي! بل أين أنا من أي شحاذ متسول؟ أنا امرؤ ضاع وكفى! إن وضعي لا يمكن أن يشبه بأي وضع البتة) ص221. وبهذه التجربة فقد كانت دليلًا صادقًا على فعل المقامرة، وهي تجربة تنفتح بالقارئ على نافذة اجتماعية جديدة غير متاحة للعموم، بل للخصوص من فئة قليلة من الناس ذات منابت برجوازية واقطاعية تتمتع بالغنى والثراء. 

كتب "فيودر دوستويفسكي" روايته «المقامر»، لأنه كان نفسه مقامراً، ولم يكن بحاجة لأن يقرأ كثيرًا عن سُلوكيَّات المقامرين، ولا أن يلجأ إلى علم النفس ليتعرف إلى ما الذي يفعله إدمان المقامرة في صاحبها، وإلى درجة من الدرجات يمكن القول، إن في هذه الرواية الكثير من السيرة الذاتية للكاتب، ليس فقط في تناوله لشخصية المقامر، وإنما في عرضه لقصة الحب التي جمعته بامرأة هجر زوجته المريضة من أجلها، قبل أن تهجره هذه المرأة نفسها.

 

 بعض الجمل المفتاحية في رواية المُقامر:

- (عادة فإن أهل موسكو دائمًا متى ما حصلوا على. دعوا النَّاس إلى عشاء). ص10

- (لا بدَّ أن يملك المرء مالًا حتّى يخسره في القمار) ص11.

- (صعدت أبخرة الخردل إلى أنفي آخر الأمر؛ فقرَّرتُ أن أقارف وقاحة من الوقاحات)ص14

- (إن من يحترم نفسه لا بدَّ أن يتعرَّض للوقاحات وأن تناله الإهانات) ص14

- ( أوشكتُ أن أبصُق في قهوة أحد كبار الكهنة) ص15

-(قرَّرت أن أقامر، ولكنني لم أتوقَّع أن أقامر لغيري) ص24

- ( من السُّخف أن يتوقَّع المرء من المقامرة أيَّ شيء) ص25

- (للأرستقراطيِّ الحقّ أن ينفعل، ولو خسر ثروته كلَّها) ص28

- (المُراهنة على أرقام: إمَّا مزدوج، وإمَّا مفرد أو على ألوان. ص29

-(إذا كنتُ لا أستطيعُ أن أقامر للآخرين؛ فلأنَّني واثقٌ من الخسارة) ص31

- (تدعوه إلى مائدتكَ؛ فما يلبثُ أن يضع فوقها قدمه) ص34

- (يخسرون كما يخسر النَّاس البُسطاء الذين يلعبون دون أن يُكلِّفوا أنفسهم عناء الحساب) ص40

- (على المرء أن يكون أقرب إلى التعقُّل والتبصُّر) ص42

- (مَلَكَة جمع الأموال رؤوس الأموال قد دخلت خلال التَّاريخ في سجلِّ فضائل الإنسان) ص43

-الرُّوسيِّ ليس عاجزًا عن جمع رؤوس الأموال فحسب، بل أيضًا يُبعثر هذه الأموال هنا وهناك. دون أيِّ إحساس بما يُحسن وما لا يُحسِن) ص43

- (لا أطيق أولئك الشّرفاء الذين يخشى المرء أن يقترب منهم) ص44

- (الألمان جميعًا يعملون كأبقار، ويكنزون المال كاليهود) ص45

- (المثل الأعلى حين تغتبط الضحيَّة نفسها باقتيادها إلى التضحية بها) ص45

- (ها هما ينتظران متمسِّكين بأهداب الفضيلة والإخلاص، ويمضيان إلى التضحية مبتسمين)ص45

- (إن الاستهتار على الطريقة الرُّوسيَّة، أو جني الثراء بالرُّوليت، أحَبُّ إلى نفسي وآثَرُ في قلبي) ص46

- (إنسان يغرق يتشبَّثُ بقشَّة، أكان يحسب القشَّة جذع شجرة، لولا أنَّه في طريقه إلى الغرق؟) ص49

-(لا يستحي المرء من عبده، ولا يشعر بشيء من غضاضة أمامه) ص51

-(في وسع المرء في أيِّ ظرف أن يتصرَّف تصرُّفًا يحفظ له كرامته) ص53

-(الكفاح يرفع قدر الإنسان ولا يخفضه) ص53

-(العبقريِّة شيء نادر على وجه العموم) ص53

-(يُقارف السَّفاهات تِلْو السَّفاهات بانتظار أن يُحبَس) ص61

-(لا يُمكن أن يُعتقَل أحد لفضيحة قبل ارتكابه الفضيحة) ص70

-(إنَّ الرُّوس يُسرفون في الجُبْن أحيانًا حين يكونون في الخارج) ص70

-(إنَّنا نعقد صِلات بأناس نكرههم، إذا قادتنا الضَّرورة إلى ذلك) ص85

- (جميع النِّساء سواء، أكثرهنَّ كبرياء، يُصبحن أحطَّهُنَّ عبوديَّة) ص93

-(إنَّهم يلتقون هناك في هذه السّاعة, يضبطون المواقيت، ويُراعون الأصول، ويضعون القواعد) ص79

-(الوقوف يشغل حيِّزًا أضيق من الحيِّز الذي يشغله الجُلوس) ص 117

-(من طيرانه يُعرَف الطَّيْر) ص 121

-(لا يذهب إلى الغابة من يخاف الذِّئب)ص123

-(إنَّ الله يقتصُّ من المُفترين عاجلًا أن آجلًا) ص175

-(الرُّوس وحدهم قادرون على أن يجمعوا في أنفسهم كلَّ هذه الأضداد) ص227

-(على الإذلال إنّما تقوم الصَّداقة أكثر الأحيان) ص227

    بهذه الطّائفة من الجمل المفتاحيَّة ذات الدلالات والإيحاءات القابلة للتفسير والتأويل في فضاءات ذات طابع عامٍّ وشخصيٍّ. من المفيد الاطِّلاع على هذا الجانب المبثوث في كثير من الأعمال الروائيَّة عُمومًا.

 

 

 

 

 

كتاب بريشت. بطاقة تعريفية

 

الأدب ومهمّة التغيير

(بطاقة تعريفية)

 

المحرر الثقافي لآفاق حرة : محمد فتحي المقداد.

 

*مدخل:

صدر حديثا كتاب: الأديب المسرحي المناضل الألمانيّ (بيرتلت برشت) دراسة تحليلية للأعمال المسرحية. تأليف. أ. د. محمود يوسف الحسينيات. أستاذ الأدب الألماني المقارن في جامعة اليرموك الأردنية.

و للتوضيح الذي لا بدّ منه للضرورة، هناك بعض الترجمات لاسم "بريشت"، ترجمته "بريخت، أو برخت". اختلاف الترجمات الأمينة لا يُغيّر من الموضوع شيئًا.

مُهمٌّ أن يكتب أحدهم مقالًا أو كتابًا، وليس مُهمًّا كمُّ تراكُم قراءات جامدة تبقى حبيسة صدور قارئيها. الأهمُّ من ذلك كُلّه: هدف الكتابة ذات المحتوي المليء بما يحمل من رسالة إنسانيّة شاملة، لنشر المحبّة والسلام، ومُقاومة الحروب ومُخرجاتها القذرة، وكشف مساوئها وإعلامها الزائف. الكتاب الذي بين أيدينا وما نحن بصدده. إضافة جديدة للمكتبة العربيّة، وجهد معرفيّ استغرق سنوات، استلزم الوقت والجهد المُضني، بأناة وصبر من الباحث "محمود الحسينات".

 

*رؤية في الكتاب:

يروق للباحث وصف "برشت" بالكاتب الثائر والمُفكّر المُتمرّد، وقد اقتبس مقولة لبرشت : "إذا أصبح الظلمُ حقًّا؛ فإنّ المُقاومة تُصبحُ واجبًا" ص31.

الإنسان هو الأساس الذي استهدفته جميع أعمال "برشت" المسرحية ذات النهج المُعادي للنازيّة والفاشيّة، والرأسماليّة، وفي وقت لاحق للشيوعيّة، رغم مُهادنته زمنًا فإن كتاباته وقتها لم تكن موضع ترحيب وإعجاب مُنظّري الشيوعيّة السوفياتيّة أو الألمان الديمقراطيّين منهم.

هذا الكتاب هو مدخل لدراسة الكاتب المسرحي الألماني بيرتلت برشت (1889–1956).

كما تناول مسرحيّاته بموضوعاتها ذات الصبغة الاجتماعية  بجوهرها، جميعها تتمحوى حول الإنسان وقضاياه: في النظام الرأسمالي، والحـرب والمـال، وصراع الطبقـات، والمـدن الحديثة،التي يفقـد فـيهـا الإنسان إنسانيته.

والهدف مـن وراء ذلك: أن يتعـرّف الإنـسـان عـلـى واقـعـه الـذي لا يمكن أن يتغير بدونه.

وثار برشـت عـلـى المسرح التقليدي (الكلاسيكي) الذي يُبعـد الإنسـان عـن واقعـه، ودعـا إلـى مـسـرحٍ مـلـحـمـيٍّ قوامـه تغيير الإنسان. وأدخـل عنصر التشويق والإثارة؛ ليدفع المشـاهد إلـى نقطة مفصليّة بطـرح التَّساؤلات الباعثة على التفكير، وللبحث عن حلول تقود إلى التغيير.

انتقد "برشت" الفساد الإداريّ والسياسيّ، الذي تُمثّله طبقة الأغنياء في النّظام الرأسماليّ، ودعا العمال والطبقات الفقيرة إلى الكفّ عن عبادة البطل الصّنم وأكذوبة البطل القائد، الذي يبني أمجاده على أشلاء البائسين والمسحوقين.

كان برشت كاتبًا ماركسيًّا حُرًّا، ولم يصبح في يوم من الأيّام عضـوًا فـي الحـزب الاتحاديّ الاشتراكيّ الألمانيّ (SED)، وهـو مـا سـبّب لـه المضايقة ليس في أمريكا، ولكن في جمهوريّة ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية).

عندما ثار العمّـال مُـطـالبين بتحسين أوضاعهم الاقتصـاديّة؛ قامت الدبّابات الروسيّة بسحقهم  في شوارع ألمانيا الشرقيّة؛ فتوجّه "بريشت" بالدعوة للحكومة والحزب الحاكم بتغييرّ الشّعب، إذا لم يعجبها مسلكه!

كانت كتابات "بريشت" رسالة سياسية هادفة، يرسل بها مـن خـلال مسرحيّاته، ومسـرحه الملحميّ قوامها: "ماذا يقدم كلٌّ منّا لعالم نقف شاهدين على أفولـه؟"، والتي اختصرها بكلمته الجريئة بإشاراتها الواضحة والعلنيّة بالمقاومة وعدم الوقوف على الحياد.

أمّا حريّة الإنسان، التي نادي بها "برشت": "ليست كما يفهمها المجتمع الرأسماليّ، حرية الطبقة الحاكمة، وحرية رأس المال، إنّما نشد العدالة الاجتماعية، وحرية كل طبقات المجتمع من العمّال والفلّاحين والطّبقة الاجتماعيّة المتوسّطة، وتشييد عصر جديد تسوده الحريّة ويقوده العمّال، الذين يجب تمتّعهم بوعي سياسيّ؛ يُقوّم ويُنظّم المرحلة بقالب جديد تمامًا.

طغت الأعمال الأدبية المتأخّرة التي كتبها "برشت"، بعد أن تبلور وعيه الفكريّ والسياسيّ على أعمال المرحلة الأولى من حياته ذات الطّابع التعليميّ، وجاءت موضوعاته في أعماله الأدبية كافة، ومنها مسرحياته نتيجة ظرف حضاري مرّت به ألمانيا في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن الماضي، وتكمن أهميتها في نقل رؤية "برشت" السياسيّة الماركسيّة للظروف الاجتماعيّة السّائدة وقتها، ولكنها لا تختلف بكل أسف ومرارة عن ظرفنا الحضاريّ حاليًّا رغم مرور حوالي ثمانين عامًا على كتابتها.

الكتاب في مجمله جهد جبّار، وصفحة جديدة مضافة للمكتبة العربيّة، في الدّراسات الأدبيّة المُقارنة، ممّا تُسهّل سُبُل الاطلاع للقارئ والباحث العربيّ على الآداب العالميّة، لفتح الرّؤى والتصوّرات الإبداعيّة.

 

عمّان – الأردنّ

20/ 6/ 2022

فلسفة العناوين عند فتحي المقداد

 

العنوان فلسفة

عند الروائي محمد فتحي المقداد.

 

 

العنوان لائحةٌ مُعلِنةٌ لماهيّة أيِّ نصٍّ أدبيٍّ أو غير ذلك، وإنّ اختيار الروائي المقولة الرّئيسة عنوانًا لروايته  فهو أمر جيّدٌ جدًّا، بما يفتح أبواب دلالات وتأويلات ما قبل وما بعد القراءة.

وهو بطاقة النصّ التعريفيَّة التي تُولّد من الرُّؤى والتصوّرات، لترسم خطّة من التمحورات في الذهن، وهو فكرة مبدئيّة يُستجمَع من خلالها فكرة مُتولّدة من وحي العنوان.

عندما تصطرع الأفكار في الدّماغ؛ لتتمخّض عن كلمات مُتآلفةٍ متناسقةٍ لتشكيل نصٍّ أدبيٍّ رشيقٍ مقروءٍ، وهكذا يبقى النصُّ مَهيضَ الـجـنـاح غير قادر على التحليق، ولا على الإعلان عن نفسه بالظهور علانية؛ إلا إذا اقترن بعنوان يحمل دلالاته الرمزيّة والنفسيّة الخاضعة للتفسير والـتـأويل في مدارات محتملة أو مجازيّة حسب ثقافة المُتلقّي، وارتباطه بخيوط رابطة للكلمات والمعاني.

العناوين تستعبد الكاتب ليعيش حالة من الهذيان ما بين اللَّاوعي والجنون؛ ليأتي بعنوان فيّاضٍ مُجدٍّد غير مُستهلَك أو تقليديٍّ؛ فكما يولد الطفل ويولد اسمه معه؛ فالعنوان مُلازِم للنصّ لا غنى عنه أبـدًا، وهـو عتبة لا يُمكن الولوج لبواطن النصِّ إلا من خلالها. العصف الذهني له دور خطير في استخلاص الـعـنـوان بمجرَّد حضور الفكرة، ومن الممكن أن يتأخَّر أثناء معالجة الفكرة بالكتابة، ويستعصي أحيانًا فيكون الانـتـظـار سـيّـد المـوقـف، والـلـُّجـوء في بعض الأحيان لاستشارة الأصــدقـاء طـلـبـًا للمُساعدة.

 

دلالات العناوين:

 

(1)- رواية: دوامة الأوغاد

العنوان: كلمتان شكّلتا صدمة المفارقة بين كلمة "دوامة" التي عقد قرانها على كلمة "الأوغاد"، إن التباين المتباعد ما بين الكلمتين من صعيد المادي الملموس باليد والمرئي بالعين "دوامة". والتي تكون حسب المدلول اللغويّ، أما الدوّامة فتكون:

(قطعة من خشب مُستديرة يلفّ الصَّبيّ عليها خيطًا ثمّ ينقضه فتدور على الأرض. "رَمَى الدَّوَّامةَ")، وكُتلة مَاء أو هَواء تَدُور علَى نَفْسِها بسُرْعة مُحْدِثة في وَسَطها فراغًا يُشْبهُ القِمْع."دُوَّامة نَهْر").

*الدُّوَّامة :

(-لُعبة مستديرة يَلُفُّها الصبي بخيطٍ ثم يرميها على الأَرض فتدور والجمع : دُوَّام

-الدُّوَّامة من البحر أَو النهر: وسطه الذي تدوم عليه الأمواج بسرعة وبشدّة، وهي مستديرة وأَعلاها متسع وأَسفلها ضيق

-فلانٌ يعيش في دوَّامة: تنتابه مشكلات تسبِّب له قلقًا واضطرابًا) حسب قاموس المعاني. والمنحى في العنوان هو المنحى الثالث وهو المنحى المجازيّ الذي توافق في ذهن الروائي للتعبير عن الحالة المجازية مما ذهب إليه في سرديته للحدث الروائي

*الأوغاد: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من وغُدَ. أحمق دنيء رَذْل "ما أكثر الأوغاد في هذا الزَّمان- إنه وَغْد يستغلّ بؤس الآخرين". يَوغُد، وغادةً، فهو وَغْد ، وغُد الرَّجُلُ : كان رذلاً دنيئًا صغير العقل "وغُد في معالجة أموره العائليّة".

(وَغَدَ [و غ د]. (ف: ثلا. متعد). وَغَدَ، يَغِدُ، مص. وَغْدٌ. وَغَدَ النَّاسَ: خَدَمَهُمَ.

وَغُدَ: [و غ د]. (ف: ثلا. لازم). وَغُدَ، يَوْغُدُ، مص. وَغَادَةٌ وَغُدَ الرَّجُلُ: ضَعُفَ عَقْلُهُ، حَمُقَ وَغُدَ الوَلَدُ: كَانَ رَذْلاً، دَنِيئاً.

وَغْدٌ مفرد والجمع: أَوْغَادٌ رَجُلٌ وَغْدٌ: ضَعِيفُ العَقْلِ، أَحْمَقُ وَغْدٌ مِنَ الأَوْغَادِ: دَنِيءٌ، خَسِيسٌ، وَغْلٌ.) قاموس المعاني.

وعاد العنوان للمواءمة بين المعنيين ما بين المادي والمعنوي، لتتحدا تحت المظلة المعنوية، وبذلك شكلتا العنوان ليكون مقولة موجزة عن الرواية، بتطابق دقيق الدلالة لمحتوى الحدث الروائي، بينما الحدث جاء بدوره مُتساوقًا مع فلسفة العنوان، بتفسير وتحليل الرؤى التي أشارت إليها رواية "دوامة الأوغاد".

وبذلك كان العنوان عتبة للرواية كمدخل صالح شكّل في ذهن القارئ دوائر وأقواس حول المعنى العام، وتوقعات ما سيكون، تماشى ذلك منذ البداية إلى النهاية.

 

(2)- رواية (الطريق إلى الزعتري)

العنوان عتبة الرواية بدلالته. رغم أنه عنوان مكرور بجزئه الأول(الطريق إلى...) فللمُتتبّع للكتب والروايات التي حملت هاتين الكلمتين (الطريق إلى)؛ لوجد أن (الطريق إلى مكة. للنمساوي محمد أسد) ، و(الطريق إلى الله. للشيخ محمد متولي الشعراوي)، وكتاب (الطريق إلى النجاح)، ورواية (الطريق إلى روما. لمحمد طارق) ورواية (الطريق إلى إيلات. لفايز غالي، ومثلت بفيلم سينمائي) و(الطريق إلى تدمر. لطلال أبو الخير) ورواية (الطريق إلى كابول. لجمال أبو  حمدان، ومثل مسلسلا)، ورواية (الطريق إلى بلحارث. لجمال ناجي). وهكذا كان على سبيل المثال لا الحصر.

مما يعني أن الكلمتين استهلكتا من كثرة استخدامهما، ودائما ما كانتا في بداية أي عنوان، وتأتي لاحقتهما تكميلا للتدليل على حالة معينة بأبعادها الزمانية والمكانية وشخوصها.

 بينما الجديد الفريد هنا كلمة (الزعتري) اسم لقرية صغيرة نائية منسية على أعتاب التاريخ في شمال الأردن.

الثورة والحرب السورية وما تبعهما من إفرازات ومخرجات، أنهضت القرية الغافية من سباتها لتجعل اسمها يتردد على ألسنة العالم أجمع، عندما أقيم المخيم على مقربة منها، واكتسب اسمه منها.

قضية المكان والانتماء رسّخت وكرّست مفهوم المكان. وبذلك أصبحت الكلمة عالمية حيث دخلت لغات الدنيا جميعاً.

عندما اختار الروائي "محمد فتحي المقداد" مقولة روايته تحت عنوان (الطريق إلى الزعتري) بكل صدق لقد حكى بهذا المختصر الشديد بثلاث كلمات قصة الثورة السورية، لتأتي سردية الأحداث داخل الرواية متطابقة معه، وبالتالي فالعنوان والرواية يحكي كل منهما الحدث بتناسب المقام مع المقال.

وبدقة كانت قصدية العنوان واضحة تمامًا. أن ما حدث هو ما أوصل الناس إلى المخيم. ففي آخر صفحة من الرواية عندما وصل (أبو فندي) البطل الرئيس في الرواية ووقف أمام بوابة المخيم، ليقرأ لوحة كبيرة: (أهلًا بكم في مخيم الزعتري)، وبذلك انتهت الرواية في هذه الجزئية السردية وهي الرواية التي حملت هذا الاسم (الطريق إلى الزعتري).

 

(3)رواية (فوق الأرض) :

يقول الروائي محمد فتحي المقداد، عند سؤاله عن هذا الاختيار، الذي يبدو من طاهره أنه غير مثير، ولا يشكل أيّ قيمة فلسفة أو عمق لدى المتلقي، إلى ان اتضحت الصورة عند سؤال الكاتب عن طبيعة وسبب اختياره لهذا العنوان:

"يبدو للوهلة الأولى أن العنوان عادي، لكن بحثي عنه استغرقني سنة كاملة، ورب صدفة أفضل من ميعاد. جاءت الكلمتان على لسان صديق أثناء سؤال اعتيادي عن أحواله، أجابني: فوق الأرض، بتفاؤل وثقة. قصة لقائي بهذا العنوان بعوالمه الواسعة".

 

الكتابة التجريبية عند فتحي المقداد

 

الكتابة التجريبية

 

بقلم الروائي محمد فتحي المقداد

 

لكلّ كتابة لون ومذاق مختلف، عند المتذوق الهاوي والمحترف، والقارئ والباحث، وهو الجانب المُستهدَف من فعل الكتابة، المُتفاعل مع الفكرة سلبًا أو إيجابًا.

الكتابة كاشفة فاضحة ليس بطروحاتها الناشرة لأخبار وأسرار الآخرين، وإنّما على الكاتب نفسه؛ فهي تكشف عن عمق تفكيره، ورصيده من المخزون المعرفي التراكمي، نتيجة التجربة والخبرة الشخصية، والمطالعة والمتابعة.

لكلّ كاتب أسلوبه الخاص الذي يتعاطى به فعل الكتابة، المندرجة بتصنيفها ضمن جنس أدبي وفكريّ معيّن، ومن الممكن أن تتداخل الأجناس الأدبيّة بأساليبها ومذاهبها ومدارسها المختلفة، كما هو الحال في الأعمال الروائيّة، حيق تعتبر وعاء يستوعب جميع الفنون، من خلال المزج بينها، والتنقّل بسلاسة ويُسر لإيصال فحوى الرسالة ومضمونها القِيَمي بمحتواه الوازن، ولتخلق أجواء المتعة للقارئ.

 

تجريب وتنوّع السرد الروائي. عند الروائي محمد فتحي المقداد:

1-ففي روايتيْه (دوامة الأوغاد) الصادرة 2016م. وروايته (الطريق إلى الزعتري) 2018م. تشابهتا بأسلوب كتابتهما، بطريقة المشاهد المتناظرة ما بين النساء والرجال من خلال تجمعاتهم وتفاعلاتهم الاجتماعية، بطريقة عرض متتالية تكاد أن سمة منتظمة في مسار الخطة السرديّة للروايتيْن، وكثيرًا ما لوحظ في بعض المواقع، الطرح المباشر بلهجة خطابيّة حشدها الكاتب لصالح خط فكرته التي اشتغل عليها. كما أنهما كانتا في جوانب سردية أقرب إلى كتابات السيناريو بطريقة المشاهد الحوارية.

ولم يكن هناك البطل الأوحد محور الحدث والمحرّك له، ليكون نقطة مرجعيّة للروايتين، وإنّما توزّعت البطولة بين الأسماء الرّئيسة المتناوبة على تحريك الحدث، والتي تحرّك الحدث من خلالها وبسببها. وهو ما ينبئ عن عدم وجود أشخاص يُشكّلون حالة اجتماعيّة فاعلة، بمعنى أم يكونوا قادة. هذا الوضع الذي انمحى من البُنى الاجتماعية السوريّة في ظل حكم الحزب الواحد، والقائد الواحد المُتَفرّد بالحكم، وتشكيل قبضة أمنية قويةّ خانقة.

الروايتان تمثّلان مرحلتيْن زمنيّتين مُتتابعتيْن، امتدّتا زمنيًّا لأكثر من أربعين عامًا، وهي الفترة التي تناولتها الروايتان؛ ف (دوّامة الأوغاد) مثّلت مقدّمة رسمت لوحة المجتمع السوريّ منذ بداية السبعينيّات من القرن الماضي إلى نهاية العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين.

2- وتتابع الزمن المُؤشّر لانطلاق الثورة السوريّة بالرواية الثانية (الطريق إلى الزعتري) التي جاءت كوثيقة تاريخية سجّلت معاينات وحوادث البدايات، ولم يتجاوز زمنها الروائي العام الواحد، واضطرار الناس للفرار في ظل انتشار الخوف من القتل والاعتقال، طلبًا للنجاة قاصدين الملاذات الآمنة في دول الجوار، ورواية (الطريق إلى الزعتري) من عنوانها يُعلَم أنّ المكان المقصود يقع في المملكة الأردنية الهاشمية، وكلمة الطريق يتضح من دلالتها، سلوك طريق اللجوء والهجرة. حيث أن الرواية انتهت أحداثها على بوابة مخيّم الزعتريّ. وهي من أوّل الأعمال الأدبيّة المصنفة تحت مصطلح أدب اللجوء، المستخدم حديثًا على نطاقات واسعة مع تصاعد وتيرة الحروب خاصّة في عدد من الدول العربيّة.

 

3-أما الرواية الرابعة (خلف الباب) التي تأخرت كتابتها إلى أن صدرت في العام 2022، حيث جاءت بعد رواية "فوق الأرض" التي سبقتها في النشر في العام 2019. لكن يبدو أن فراغا حدث في ذهن الروائي "محمد فتحي المقداد" بأن مشروعه عن الثورة السوريّة ينقص حلقة مهمة، وهو فترة حياة المخيم المحطّة الأساسيّة في حياة اللّاجئين. وخلقت في ذهنه فكرة، أن روايته السابقة انتهت في آخر صفحة فيها، أمام بوابة مخيم الزعتري، بينما هناك خلف باب المخيم المحاط بأسلاك للحماية، تفاعلات هي نتيجة لما سبق، تستحق الكتابة عنها لثراء مادّتها الحدثيّة المُتخمة بالتفاعلات الكبيرة والصغيرة، المنظورة والخفيّة أو المخفيّة بفعل اسلاك المخيم، وأدوات الضبط والرّبط.

وولدت فكرة رواية "خلف الباب" لتميط اللّثام عن هذه الجزئية الأهمّ في رحلة اللجوء، وتسليط الضوء على التحدّيات للتشكيلة الواسعة ضمن هذا الحيّز الجغرافيّ المحدود بمساحة ضئيلة، مكتظة بالخيام المُتخمة بساكتيها، يحوفهم القلق وانتظار المجهول الذي لا يأتي، إلا توهانًا في دروب الحيرة والضياع.

جاءت تقنية الرواية مختلفة تمامًا عن سابقاتها الثلاثة بأسلوب بنائها السردي، الذي اعتمد الراوي البديل، الذي روى بدوره ماسمع، ومن ثمّ أعاد ما سمع وشاهد لصديقه من وثّق ما وصله وسمعه عن بعد بعدما تفرّقت بهم الإقامة في مناطق جغرافية متباعدة ما القارّات. كما أن الرّاوي المُوازي في كل الحدث السرديّ؛ رواه بطريقة تفاعليّة مع محيطه من خلال حواسّه، وعلى الأخصّ حاسّة السّمع، الحدث المروي، سمعه بأذنه من الآخرين، وهو لم ير وجوه من يتحدثون، ولا يعرف الأشخاص موضوع الحديث، سمع المناجاة وكلام السرّ فيما بين الأصدقاء، لتتولّد لديه قناعة صدق ما يسمع.

4- وبالانتقال إلى رواية "فوق الأرض" الثالثة التي صدرت 2019 م؛ تُمثّل مخرجات الحرب القذرة في تفرعاتها المؤثرة على كافة الفئات الاجتماعية. نرى فيها الشهيد ومعاق الحرب والمعارض المسلح والمعارض الفكري المُهجّر واللّاجئ إلى المُخيّمات، ومن يركب البحر مخاطرًا بحياته للوصول إلى دول أوروبا، آملًا في متابعة حياته بهدوء، والتعويض عن الحرمان بالرفاه المأمول. وهناك ممّن اختفوا عن مسرح الأحداث بظروف غامضة. رسالة الرواية كانت واضحة: وهي أن السلاح والمسلحين يتساوون مع النظام، في خطورتهم وضررهم، وبث الرعب والدمار النفسي، وتدمير البُنى الاجتماعية وتفتيتها وتشتيتها.

كل ذلك جاء على محمل سرديّ باعتماد نظام اللوحات، وترك فراغات فيما بينها لإشراك القارئ والمُتلقّي في إتمام الحدث وفق رؤيته الخاصة، بعيدًا عن سطوة الكاتب التي يمارسها على أبطاله في بعض الأحيان.

وكان الراوي الموازي أو البديل "فطين"، في الفصل الأول من الرواية، ليخرج من الرواية؛ ليُفسح المجال للأبطال الآخرين بصنع الحدث جسب واقع كل منهم، وبما يتفّق مع رؤيته واعتقاده، وفي الفصل ما قبل الأخير من الروائي، يتوقف القارئ أمام معضلة اختفاء مصائر الأبطال، كان من المُحتّم والضروري عودة الراوي الموازي "فطين" لإخبار القارئ بطريقة منطقية عن مصائر شركائه الأبطال الآخرين في الرواية.

كما استخدم الكاتب تقنية جديدة، وهي إجراء حواريات مطوّلة عبر مقابلة تلفزيونية الى أحد الفضائيّات، والاشتغال الى تفريغ الحلقات من كلام بين المذيع المُحاور، وبين الضيف الذي يجيب على الأسئلة، وتحليل بعض ةالمواقف ااتي يحتاجها لتوضيح وتأكيد آرائه ومقولاته.

 

 

 

 

فضيلة معيرش. عن رواية فوق الأرض

 السرد الاحترافي في رواية " فوق الأرض " للروائي السوري محمد فتحي المقداد...وتناوب الشخصيات في كتابة فصولها 


بأسلوب سلس شيق متمرس محترف وسرد موضوعي أسَّس الرّوائي محمد فتحي المقداد لروايته - فوق الأرض -

 فمن الوهلة الأوّلى يشدك للحدث الرّئيس الذي يطرحه في متنه،والمتمثل في القلق الإنساني بصفة عامة، إزاء ما يحدث وحدث في العالم من كوارث طبيعة وحروب وصراعات؛ فهو مدرك لكلّ الحيثيات بما فيها الشخصيات التي غاص في أفكارها، وأحاط بصفاتها وملامحها،وبرع في جعل أيّ منهم مقنعا  . 

يقول: "التهم تلاحقني،تمنيت أن لا يلاحقني أحد في حياتي ...القلق استوطن بواطني .." ص5 

يبرع الكاتب منذ البداية في شدّ القارئ،حيث يجعل من القلق كائن حي يلاحق ويستوطن كيانه،كما يثير الانتباه منذ زمن الحكي الأوّل،نجد قدرة الروائي على ربط أسباب قلقله والتوطيد لعزلته بغيره؛فهو لا يقارن مِحَنَهُ بمِحَن رفاقه حتمًا ستختلف الظروف وتتعدَّد الأسباب.

فهل الأسباب التي جعلت من نابليون يشنُّ حربه على بلاد الشام ومصر ستتشابه مع الأسباب المؤدية لبقية الحروب؟ وهل ستجد من يتصدَّى لها و يهزمها؟.

كذلك أسباب قلق الروائي لن تكون بأي حال نفسها أسباب قلق الآخرين ممن سيشاركون في التأثيث لمتن – فوق الأرض- 

يقرر الروائي الدخول في حالة التفكير والعزلة ـ يقطع حبال التواصل كخطوة أولى بينه وبين بقية العالم،كأن لا يرد عن هاتفه .رغم الصراع الذي يكتنفه ،يتصل صديقه إبراهيم يتردد في الرّد لِم لهذا الأخير من مكانة مهمة في حياته.

المراهنة تبدأ بالقلق ليعرج الروائي الذي يستخدم ضمير المتكلم في عملية السَّرد،يتوقَّف في محطة ما في قاطرة أولى للحزن،وهو لوعة والدته بفقد أخيه الوحيد محمد،اغتيل بطريقة لم يُفصح عنها الروائي اكتفي بالإسهاب في وصف حال أمّه،تصوير قلبها المكلوم على غرار بقية الأمهات في مثل تشابه الحدث.

ما يحفر عميقا أثناء القراءة سعة اتساع أُفُق الروائي، واِطِّلاعه المستفيض،وربط واقعه بما يطالعه على غرار رواية "مئة عام من العزلة" للكولومبي "غابرييل غارتيا ماركيث". ورواية "المصابيح الزرق" لــ"حنامينه" .

حدد الروائي" محمد فتحي المقداد"الزمن الذي دارت في إطاره رواية – فوق الأرض- من عام 2011 أي بداية الحرب السورية إلى  عام 2018 م مكانها محافظة درعا سوريا .

الحدث أو المشهد الأول  البارز ما تشهده سوريا من دمار،الفتى نادر يستشهد، وقد كان ناجحًا وطموحًا والأول على دفعته، بينما أخوه الأكبر نصَّار بعد ذلك ينشقُّ عن وظيفته الحكوميّةَ، ويقرر أن يصبح حفارا للقبور بعد موت أخيه نادر وسط دهشة من يعرفه ومن لا يعرفه ،لم يسبق وأنا امتهن أحد هذا الفعل التطوعي،وتقاسم مع ابنة عمّته"حمدة"الحزن والفقد ،فهذه الأخيرة قد استشهد أخيها الأصغر منذ فترة أيضا في لبنان،وتستمر الاعتقالات .

ويعتقل الابن سمير صاحب ثلاثة عشر عاما في منتصف الليل،أمام دهشة والديه، وعجزهما عن ردّ البوليس السري للحكم السوري ،بينما المهندس معن وسعيد يتعاهدان أن يكونا معا دوما. 

يؤثث الروائي"محمد فتحي المقداد"روايته – فوق الأرق– بمجموعة من الحقائق يستحضرها على لسان الرواة كوقائع ،فينتهج السرد الموضوعي الذي يتجلى من خلال اطلاعه على كلّ الأحداث وإلمامها الشامل بالأفكار الأساسية وما يجول في أذهان الشخصيات. حدثت وفق بنية زمنية محددة بتاريخ 2012 م أي منذ الدّرجة الصفر – الحكي الأوّل – حاضر السرد الزمني، ويتحدَّد من خلال ما يسميه "جيرار جينيت" بالحكي الأوّل إلى عام 2018 م . 

"ولأن الرواية حدثت في الماضي يكون السؤال: ماذا يفعل الخطاب القصصي في هذا الصدد؟.هل يحكي القصَّة كشيء تم في الماضي أم أنه يسعى لترهينها؟.

إن التحديد الحاضر حسب المستوى الداخلي يتيح لنا تحليل زمن الرواية،والوقوف على تمفصلاتها الزمنية الكبرى والصغرى والكيفية التي تم بها تخطيب زمن الحكاية " 1 

بينما العنصر الذي يلازم الزمن،ويرتبط أيضا بفعل الإنسان هو عنصر المكان كونه بعد مادي محسوس،أي أنّ الرواية حدثت ببلاد الشام –سوريا – أغلب الأحداث وقعت ،وقد نقلها الروائي "محمد فتحي المقداد" وشارك في روايتها الأبطال،فهو لم يرتكز على شخصية واحدة؛ فهناك ديناميكية مستمرة من أوّل الرواية إلى آخرها،ظهرت كل الشخصيات في بيئة واحدة هي بيئة الحرب، إلا الشاب"فائق"الذي قدم من ليبيا بعد اغتراب عشر سنوات،فكل شخصية هي إنسانية تطلب حقها في العيش السلمي في وطنها،فناشدوا الحرية لهذا كانت شخصيات رواية –فوق الأرض - مقنعة

وكأنهم  اختيروا الأداء هذه المهمة، رغم أن الروائي"محمد فتحي المقداد"غيَّب البعد المادي أي ملامح وقسمات والهيئة العامة للأبطال،البطلة"هالة نجم الدين" فهي فنّانة تشكيلية ونصيرة للثورة،حتى حين مشاركتها في برنامج تلفزيوني،ولم يكن أغلب الأبطال قد تعرَّفوا على صورتها الخارجية،اكتفى الروائي بسرد نشاطها ودفاعها عن القضية التي تناضل من أجلها.  ولم يشر لملامح وجهها،أشار فقط لكونها أم لبنت اسمها سارة. 

من دلالة العنوان على لسان البطل نصار الذي هو خريج كلية الحقوق لم يفلح في الحصول على وظيفة في تخصصه كحال أعظم خريجي الجامعات العربية الذين هم دون وظائف. كان يكاشف صديقه فاض لسليمان في التوظيف بالواسطة فيشاطره الرأي بقوله: "حالات الشباب من أمثالنا متشابهة،لا تختلف عن بعضها إلا في  تغير الوجوه فقط في قليل من التفاصيل" 3 ص 32 بعد استشهاد أخيه نادر "أحاول جاهدا الاحتفاظ بمسافة فاصلة بين يوبين المظاهرات مفضلا عدم الاقتراب منها،لتستمر بي الحياة فوق الأرض".31 

جاء في الصفحة 82 على لسان الروائي: "لاحتدام صراع الأفكار حول قضايا مختلفة تهم المجتمع،وتمس حياتهم مباشرة"،وبقية الشعوب العربية التي تشترك في الهم.يبرع في الموازنة وسرد وصناعة الأحداث،وأحكم نسج خيوط التفاصيل في منتجه الروائي.نصه الذي يصلح أن يكون وثيقة تاريخية تؤرخ لحقبة زمنية مؤلمة عاشتها سوريا،وتأثر بها كل العالم ،تهجير أغلب المواطنين أو هروبهم من وطأة الحرب والاغتيال.

كما اعتمد الروائي وله السبق في ذلك تقنية اللوحات الفارغة ،وكذا تصوير الرواية في شكل مقابلات تلفزيونية كما حدث في المقابلة التي عرضتها إحدى القنوات للبطلة هالة نجم الدين.

ومع تتبع مسار الرواية التصاعدي نجد العديد من نقاط التحول الفجائي والمشوق الذي برع الكاتب في سرده وقد أقحم أبطال روايته في الأحداث بشكل مفاجئ مباشرة كحال الأجهزة الأمنية في الدول العربية تراقب، ثم تعتقل. 

"فاضل السلمان" يتعرض لاستجواب بسبب ما يكتبه من مقالات سياسية،ويدخل السجن وما أصدره المنتدى الذي ينتمي إليه من بيان معاد للنظام السوري.والعلاقة الوطيدة التي تربطه بالمهندس مَعِن،و ما يحمله من زيف وكره دفين يبدي خلافه على محياه وتصرفاته،حتى يصل  إلى الحدود الأردنية كلاجئ،فقد وظيفته وبيته ومكانته .الأصدقاء نصار:-  معن – نصار –وسعيد...كلاهم ساهم في كتابة أسطر الرواية بفكر هو هالة نجم الدين ناشطة سلمية سورية وفنانة تشكيلية تدير التواصل مع نصار و معن وفاضل وهي تقيم في ايطاليا ، اعتقال"فايق" ثم إطلاق سراحه، يطرح معن ما أصاب البلد من تخريب على يدي من يطلق عليهم الثوَّار الشباب. يؤيده فاضل. بينما سعيد يسير على خطورة كل من المسلحين وكذا رجال النظام.في تخريب البلاد وترعيب المواطنين.

في نهاية رواية – فوق الأرض- نصار ينضمُّ للجيش الحر ..معن يستشهد ، يصبح سعيد معاقا..فاضل يعبر البحر مع أسرته ، بينما هالة نجم الدين تُقدمُ لها دعوة لحضور ملتقى للفنانين التشكيلين في لبنان فتختفي في ظروف غامضة، ولم يتبيَّن مصيرها.

            فضيلة معيرش  الجزائر. 21/6/202