الجغرافيا المقتولة
والهويَّات القاتلة
مدينة "بُصرى
الشَّام" نموذجًا
بقلم. محمد
فتحي المقداد
بُصرى الشَّام عاصمة الأنباط
في أزمان غابرة، وحاضرة الجنوب السُّوري فيما بعد الحرب العالميَّة الأولى، وما
تبعها من مرحلة سايكس بيكو ، حيث تقلَّصت جغرافيا برّ الشَّام الممتدَّة من جبال
طوروس شمالًا حتى مدينة "معان" في الجنوب.
ومع هذه المُستجدَّات الجغرافيَّة
النتيجة الطبيعية للتحوُّلات السياسيَّة الاستعماريَّة، فقدَت "بُصرى
الشَّام"، عُمقها الجُغرافيِّ، وتقزَّمت؛ لتصبح بؤرة جُغرافيَّة مُنزويَّة في
أقصى الجنوب الشَّرقي لسهل حوران من الجُمهورية العربية السَّوريَّة، وفي
التقسيمات الإداريَّة للمحافظات السُّوريَّة، فمحافظة السُّويْداء المُتصِّلة بحدودها
من جهتيْن مع بصرى الشام، من الشَّرق والشَّمال. ومن الجنوب حدود المملكة الأردنيَّة
الهاشميَّة.
من هذا المنظور أصبحت "بُصرى
الشَّام" مُحاصرة تحت رحمة دكتاتوريَّة الجُغرافيا، لا نافذة لها إلَّا غربًا
باتِّجاه قُرى سهل حوران، لتتواصل مع العالم الخارجيِّ، ففي هكذا ظروف جُغرافيَّة
فهي فاقدة الأهميَّة الاستراتيجيَّة كموقع جُغرافيِّ، لكنَّها احتفظت ببريق اسمها،
ونكهة عبق الحضارة وصخب التَّاريخ، ممَّا أبقاها على الخارطة العالميَّة بمن
يقصدونها من داخل سوريا والوطن العربيَّ والعالم.
من الجدير مُلاحظة اِنعكاس
الجُغرافيا على سُكَّان مدينة "بُصرى الشَّام". ذات العدد السكَّانيِّ
المُتوسِّط نسبيًّا مُقارنة مع قُرى وبلدات حوران. سُكَّانها الحاليُّون وفي أحسن
التقديرات لا يتعدَّى وجودهم ما بين الثلاثمئة والأربعمئة عام، وفي القديم كان المُسلمون
والمسيحيون يعيشون معًا في حيِّز المدينة القديمة، إلى أن حصلت تبدُّلات وانفصل المسيحيون
بأنفسهم في قريتي "سِمِج" و"طيسيا" جنوب بُصرى.
ومع بدايات ومنتصف القرن العشرين حدثت هجرات سُكانيَّة شيعيَّة مُختلفة بمذهبها.
قدمت من جنوب لبنان إلى مناطق أخرى من قُرى
حوران، بقصد العمل والإقامة بعيدًا عن الحروب الطَّائفيَّة هُناك.
الجُغرافيا المقتولة، أفضت
إلى موضوع الهُويَّات القاتلة. ذات البُعد الدِّينيِّ الواحد، التعدُّد بطبيعته
انفتاح على الآخر، وفكرة التعايُش القائمة على اِحْترام الخُصوصيَّة من الجميع،
بينما الأُحاديَّة اِنغلاق. أحاديَّة سُكَّان بُصرى الدِّينيَّة الإسلاميَّة
بأكثريَّتها السُنيَّة أهل البلد الأساسيين، والقادمين الجُدُد من الشِّيعة. وكان
نصيب بُصرى من هؤلاء النَّصيب الأكبر، ليكونوا أكبر تجمُّع شيعيِّ في حوران بل في
جنوب سوريا على الإطلاق.
سارت الأمور زمانًا طويلًا.
بسلام ووئام ومحبة وحُسن جوار وتسامُح، إلى مجيء ثورة "الإمام الخميني" في
إيران في العام 1978، بدأت الاِصْطفافات الجديدة تستنهض الشُّعور الدِّينيِّ لدى
شيعة العالم، وانتشاء النَّزعة الدِّينيَّة لدى شيعة بُصرى التي عزَّزت فكرة
الطَّائفة، وتعالت أصوات تجييش بالمظلوميَّة التَّاريخيَّة، وتضخَّمت حدَّ
التورُّم مع الدِّعاية الإعلاميَّة لحزب الله اللُّبنانيِّ.
ومع اِنطلاق الثَّورة
السوريَّة المُباركة في الشَّهر الثالث من عام (2011)، والاستقطاب الطَّائفيِّ الذي
عزَّزته أجهزة النِّظام الأمنيَّة، اِنجرفت الطَّائفة ومعها أقليَّة قليلة من السُّنَّة
من أهل بُصرى، إلى مهاوي التَّشبيح والاِنزلاق إلى مُستنقع الدِّماء. حالة
التردِّي جرَّت الويلات على سوريا عُمومًا وعلى أهل بُصرى خُصوصًا، وعلى مذبح الجُنون
الطَّائفيِّ، فاستقوت الطَّائفة الشِّيعيَّة على جوارها بالنِّظام، وكانت يدًا
باطشة بأهل بُصرى وجوراها الجُعرافيِّ، وتلطّخت مُعظَمهم بالدِّماء والقتل، إلَّا أقلَّ
القليل من عُقلاء الطَّائفة. قُطعت عُرى وأواصر المحبة والسَّلام، وتأجَّجت
الكراهيَّة الُمتبادلة.
ومع بداية العام 2015 تحرَّرت بُصرى الشَّام بأيدي أبنائها، وبمساعدة
أبناء حوران الأحرار من مُقاتلي الجيش الحُر، فخرج النِّظام خاسرًا، ومن الطَّبيعي
أن يخرج شبِّيحة النِّظام - شيعة وسُنَّة - جميعهم من بُصرى. الهُويَّات القاتلة
تبدَّت ملامحها الجليَّة في هذا الموجز الوجيز جدًّا. ليبقى الطَّيْف السُّنيِ
وحيدًا في الجُغرافيا، لتنعكس فكرة الهويَّات القاتلة من جديد وتظهر بثوبها
العشائريَّ ذي الألوان المُزركشة، بتمايز الأشكال وحجمها، وبدأت تتقزَّم هويَّة
الأكثريَّة ذات اللَّون السُّنيّ الواحد، وتبدأ الانقسامات داخل كل عشيرة لصالح
الأفخاذ أي العائلات الأصغر فالأصغر.
ومع سُقوط النِّظام البائد،
ومجيء النِّظام الجديد، نهضت فكرة العائلات بإصدار بيانات تأييد للدولة، تأجَّجت
الصِّراعات العشائرية على أشدِّها، وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي بتمزيق شمل
العائلة الواحدة، لتعدد مشيخة كلِّ عائلة، وتنصيب مُختار لكل عائلة. لا أرى أن هذا
الوضع صحيٌّ إطلاقًا، إنَّما هو اِنزلاق نحو الهاوية. بغير الحُبِّ لا تُبنى
الأوطان، وإذا لم تتوَّحد الكلمة على الهدف لن يحصل السَّلام الاجتماعي، ويعود
السِّلم الأهلي إلى موطنه.. موطن الحب والسَّلام. وكُلُّنا أمل وثقة بسوريا أجمل.
بتوقيت بُصرى ـــــا 14\ 5\ 2025.............
Aboosama Chihadeh (محمد مفلح شحادة)
"حين تُغتال الجغرافيا وتتشظى الهوية: بصرى الشام كنصّ مجروح ومرآة وطن"
في سطور الروائي محمد فتحي المقداد، لا تقرأ مقالًا عابرًا، بل تدخل طقسًا من طقوس الفقد، تُصلي مع الحجارة، وتبكي مع الشوارع، وتتحسس النصال المغروسة في جسد مدينة كانت يومًا "عاصمة"، فإذا بها اليوم مجرد هامش في ذاكرة وطن يتآكل.
"بصرى الشام" ليست مدينة... بل سؤال مفتوح
منذ العنوان، نُساق إلى مأزق مزدوج: "الجغرافيا المقتولة" و"الهويّات القاتلة". هذه ليست استعارات شعرية، بل توصيفات ميدانية دقيقة لأعطاب الواقع، تُعلن أن الفجيعة لم تَعُد في احتلال الأرض فقط، بل في احتلال الذاكرة، وفي هندسة الطوائف والحدود على مقاس الخرائط المصمّمة في غرف المفاوضات لا في قلوب السكان.
بصرى الشام، كما يرسمها المقداد، ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل هي خلاصة لمسار تاريخي انهار. هي المدينة التي اغتيلت جغرافيًا، فانعكس موت المكان على الأحياء، لا كأجساد، بل كهويات تمشي على عكّاز الطائفة، وتحمل في جيبها خنجر العشيرة، وعلم الفخذ، وختم "البيان العائلي".
الجغرافيا المقتولة: حين تصبح الأرض قفصًا لا جناحًا
ما فعله الاستعمار في سايكس بيكو كان تمزيقًا للامتداد الروحي قبل الجغرافي. فصلوا "بصرى" عن عمقها، فخسرت المدينة دورها كمفترق ثقافي، وتحولت إلى ضاحية منسية على هامش الخريطة السورية. لم تكن هذه مجرد إعادة توزيع إداري، بل "تجريف رمزي"، نُزعت فيه المدينة من ذاتها، لتغدو شرفة تطل على الفراغ.
في هذا الموت الجغرافي، تولد العزلة، ويذبل الحوار، ويتحول الساكن إلى حارس حدود، لا مواطنًا في مدينة حيّة. فتصبح "النافذة الوحيدة غربًا" كناية عن اختناق لا خلاص له، وعن شعور وجودي بالحصار.
الهويّات القاتلة: من تلوين النسيج إلى تمزيق القماشة
يُحاكي المقداد الهوية كما لو كانت كائناً متحولاً، تارة مزيّنة بالتعدد، وتارة متورمة في أحادية قاتلة. التعدد كان عطر المدينة: مسيحيون ومسلمون، سنة وشيعة، مهاجرون وجيران، عاشوا بتآلف "ما قبل العقيدة"، فكان الانتماء أولًا للمكان، لا للمذهب.
لكن حين تقرر السلطة أن تستثمر في "الخوف"، تصبح الهوية سلاحًا. وهكذا، ما إن قامت الثورة الإيرانية، حتى بدأت أول شرارة لاستدعاء الطائفة من تحت الرماد، تمهيدًا لحرق البيوت المشتركة. إنها لحظة تاريخية تُشبه حفلة جنائزية تُعلن فيها "الهويّة" خيانة المكان الذي احتضنها، لصالح خطاب المظلومية، وشهوة القوة، وتوهُّم الخلاص عبر الاصطفاف.
وحين انفجرت الثورة السورية، انفجرت معها خطوط التماس، ليس فقط بين طوائف، بل داخل الطائفة الواحدة، داخل العشيرة، داخل البيت الواحد. "فُقدت بوصلة الانتماء"، وصار الدم هو اللغة الجديدة. لا تجاور، بل تحصن. لا تسامح، بل شكّ دائم. وتحولت المدينة إلى ساحة تصفية حسابات، حيث لا رابح إلا الغياب.
الطائفة كظل طويل للدولة: حين تتجسد السياسة في الجسد الطائفي
الخطير في نص المقداد أنه لا يُدين الطائفة لذاتها، بل يحلل كيف تم توظيفها سياسيًا وأمنيًا. شيعة بصرى لم يولدوا قتلة، لكنهم حين التحموا بجهاز القمع، تماهوا معه حتى النخاع. إنها ليست خيانة، بل انزلاق جماعي في فخّ الخوف، والتحالف مع الدولة ضد الجار الذي كان يومًا رفيق الطفولة.
حين تنتهي الطائفة تبدأ العشيرة... وتبدأ مأساة أخرى
حتى بعد التحرير، وبعد انكفاء الطائفي، لا يعود النقاء. بل تبدأ مرحلة جديدة من التشظي: تفكك الطيف السنّي نفسه إلى ولاءات فخذية، وانزياحات عشائرية، تتناحر على صدارة العدم. في لحظة فارقة، تتحول "الهوية" إلى مرآة مكسورة، يرى كل فخذ فيها صورة مضخمة عن ذاته، حتى يكاد يظن أنه المدينة كلها.
وهكذا تُذبح بصرى مرة أخرى، ولكن بسكين مختلفة.
وسائل التواصل الاجتماعي: من منبر إلى منشار
في مفارقة حديثة، يشير المقداد إلى أن الميديا الجديدة التي يُفترض بها أن تُقرب المسافات لعبت دورًا عكسيًا. بدلاً من أن تُوحّد العائلات، مزقتها أكثر، فكل حساب بات منصة إعلان ولاء، وكل تعليق صار بيان حرب. لم تعد بصرى تُدار بالحكمة، بل بالإعجابات، وبمن يرفع صوته أكثر.
ما بعد الجغرافيا والهوية: هل من خلاص؟
النص لا ينتهي بنبوءة سوداء، بل يترك فتحة في جدار الألم. لا خلاص بلا "حب"، يقول المقداد. ولا بناء دون هدف جامع، أو "عقد وطني جديد"، يعترف بالألم، دون أن يُكرّسه. هذا النص يُشبه نشيد وداع لمدينة تُدفن كل يوم، لكنه أيضًا صرخة ميلاد، لمدينة يمكن أن تقوم من ركامها إذا تذكرت أنها كانت يومًا عاصمة للحضارة لا ساحة للدم.
خاتمة: بصرى الشام... مرآة وطن أكبر
بصرى في هذا النص ليست فقط مدينة جنوبية. إنها تمثيل مصغّر لسوريا كلها، بل للوطن العربي الممزق بين الحدود والهويات. نص المقداد يعلو فوق الجغرافيا، ليكتب عن "الخسارة الوجودية" حين يصبح الانتماء لعشيرة أهم من الانتماء لوطن، وحين تصبح الهويّة بندقية.
فهل نجرؤ على حلم جديد؟
هل نملك شجاعة الاعتراف بأننا كلنا "بصرى الشام"، وأننا كلنا مشردون في خرائطنا، مقتولون بهوياتنا، بانتظار وطن يولد من جديد؟
.............