السبت، 18 سبتمبر 2021

رواية خلف الباب كاملة من صفحة (1-187)آخر تحديث لها 18\9\2021

 

 

الروائي محمد فتحي المقداد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خلف الباب

رواية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محمد فتحي المقداد

 

 

خلف الباب

 

رواية

 

 

٢٠٢١

 

 

التصنيف

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إلى أين..

(١١/١/٢٠٢١)

(1)

إلى أين يا أبا ذرٍّ؟.

   رجعُ الصّدى ردَّدْتهُ الهضاب والشّعاب من حولي، لم يَأْبَه بي مُطلقًا، ولم يُعِرْني التفاتةً منه لطرد القلق، والخوف من قلبي المُتوجّس حتّى من خيال الأشياء.

إلى أين يا أبا ذرٍّ؟.

   سيّدي الجليل: لا أزالُ أذكرُ يوم قدِمْتَ مكّة باحثًا بسريّة تامّة عن النبيّ، وجلستَ أيّامًا تتلمّسُ مُقابلته، مُتّخذًا الحيطة والحذر، جِئتَ بقدميْك لتجهرَ، وبِمِلْءِ إرادتكَ في وسط مكّة بجرأة غير طبيعيّة.. شجاعة مُنقطعة النّظير.

إلى أين يا أبا ذرٍّ؟.

   للمرّة الثالثة لا ينقطع حماسي لتساؤلات، لا أظنّ أن أسمع جواباتها إلّا منكَ، ولكن أنّى لي ذلك، أدّعي أنّك لم تسمعني.

   أتابعُ خُطواتكَ الثابتة، وأعدُّها واحدة تِلوَ الأخرى، وخيالكَ يبتعدُ رويدًا رُويْدا؛ فيتضاءلُ حجمكَ كلّما زادت المسافة بيننا، الأفق من حَوْلي يُتابعكَ، كُلّما ناست  مِزْوَدتُك من خلفكَ ذاتَ اليمين واليسار يهتزّ قلبي.

   صمتَتِ العصافير عن زقزقتها على الأشجار من حولي تضامُنًا معي، آخر عهدي بطيفكَ الذي صَغُر في الواقع على ظهر التلّة البعيدة، كشبح أسود غائم الملامح، لم تتبيّن تفاصيله مع المغيب الذي اختفى تمامًا.

أخبرني يا أبا ذر:

    ما بالُ الدّروب تُغريني بالرّكض خلفها، أنفاسي تتقطّعُ لُهاثًا على إيقاعات القهر.. عزيمتي لم تَنْثَن ببحثِها الدّائم عنها.. ولِمَ هي مقصدي وأمثالي من السّوريّين.. ألهذه الدرجة من الأهميّة؛ لأنفقَ عُمري، وهو أعزّ ما أملك..!!؟.

   أزعمُ أنّني سمعتُ غمغمةً جاءتني عبر الأثير، لم أتبيّن فَحْوَاها، أهي استنكارٌ أمْ رأفةٌ بحالي، كما لا أعرف.. هل وصله ندائي، كما سمعتُ غمغمته؟.

..*..

 

   انسحبتِ الشَّمسُ من مواقعها هروبًا أمام هجوم الظلام القادم، في أعلى قمّة التلّة انتصبت قامةُ أبي ذرٍّ  بطوله الفارع، وكأنّ رأسه يقرَعُ حافّة السّماء، رغم نحافته أراهُ عظيمًا، وبياض شَعْرِهِ يتلألأ انعكاسًا على بقايا فُلول الضياء، اِسْمِرارُه لم يتآلف مع الظلام، بل كان توهّجًا كالقمر هاديًا في فراغ الكوْن، مُنيرًا أسْرِجَة قلبي ومُحيطي.

   غاب تمامًا بانحداره نحو انبساط من الأرض، لم يمنعه البُعاد عن المُثول في ذهني، وأمام عينيّ، إغراءٌ لحوارٍ مُتكافئ وجهًا لوجه.

..*..

 

   فرصةٌ كأنّها هديّةَ السّماء، مُجدَّدًا اسْتجمعتُ قِوايَ أمام هيبة أبي ذرٍّ، ملامِحُ وجهه السّمراء، وبروز وَجْنَتيْه، وانطواء خدّيْه إلى داخل فَمِه؛ عمّق تقاطيع وجهه كأخاديد حادّة الانحدارات، مليئة بالتفاصيل الكثيرة، فيها تكمن روح الأشياء بأبعادها الفلسفيّة، ولماذا استهوتِ التفاصيلُ الشيطانَ؟.

   تأويلي مَآلٌ لِفَهْمِي. الآن أدركتُ حقيقة مقولة: (الشَّيطان يكمنُ في التفاصيل).

   جلستُ كاسِفَ النّظرات، كَسِير القلب أمام جَيَشَان مشاعري المُضْطربة على حافّة هاويةٍ مجهولةٍ غير منظورة النهاية.

   صدى أسئلتي ما زال عالقًا على شفتيّ، وجُلوسي أمامه لم يمنع توالد الأسئلة مُجدّدًا، والفائرة من دواخلي المُتهيّجة لما يُشفي الغليل لأجوبة مُقنِعَةٍ.

   إشفاقي على كُهُولته بدايةً ألجمتِ الكلام تجمّدًا وراء أسناني، تتردَّد تدافُعًا بين الإقدام والإحجام، إلى أن جاءت كلمته الأولى المُوجّهة لي مُباشرة، بعد أن تأكّدتُ بما لا يدعُ مجالًا للشكّ، أنّني المقصود، ولا أحد غيري أمامه.

-ها يا بُنيّ: ما الذي كنتَ تريده منّي بأسئلتكَ التي سمعتُها، كنتُ أودُّ أن لا أجيبكَ لأيّ منها، إلّا أنّي راجعتُ نفسي، وتراجعتُ نادِمًا، بعدما أدركتُ تَحُرّقكَ الشَّديد للحصول، ولو على جوابٍ واحدٍ، اِسْألْ ما بدا لكَ يا بُنيّ، وكُلّي آذانٌ صاغيةٌ، لعلّي أستطيعُ مُساعدتك.

   في حضرة العُظماء تَجِفّ ينابيعُ الكلام، وتنضُب، يطولُ صمت التفكّر خَشْيَة وتأدُّبًا، حالة ارتباكٍ كَمَتاهةٍ صمَّاء لا خروج من دوّامتها إلّا بمعجزة.

من أين أبدأ؟. الأفكار تتلاطم كأمواج عاتية.

   استجمعتُ بقايا جرأةٍ مَخبوءةٍ لم تظهر للعلن إلّا مرّاتٍ قليلةٍ خلال خمسة عقود ونصف من عُمُري.

   تماسكتُ لكسر حاجز المهابة، التي تحفّ جلستنا غير المُتوقّعة. تنحنحتُ على استحياء، يِدِي اليُمنى بحركة أوتوماتيكيّة حجبت فَمِي:

-يا صاحب رسول الله - تدور على لسانيْنا الصلاة والسّلام عليه، لكي لا نكون من البُخلاء- يا صاحبَ الفضلِ، يا أشجعَ الرّجالَ.. يا سابعَ الأوائلِ من المُسلمين مع جدّي المِقداد.

ضعْفُ المُسلمين، وقلّة عددهم لم تمنعكَ من الجهر بالحقّ، وإعلان إسلامكَ وانتمائكَ، وعرفتُ كما عرف من هُمْ قَبْلي، منذُ أيّامكم في عهدكم الأوّل.

  هزّ رأسه وهو مُطرق بعينيْه في الأرض، شيخوخته لم تُثنِ عزيمتَه تليينًا لمواقفه بالمُهادنة، أو الصّدع بالحق. أشاحَ بوجهه إلى الجِهة الأُخرى المعاكسة؛ فالتفّ للوراء.

حاولتُ تفسير حركته، فما ازددتُ إلّا جهلًا، ما الذي رآهُ..؟ أرسلتُ نظراتي للاتّجاه الذي ينظرُ إليه، فراغٌ كونِيٌّ ظلامٌ حالكٌ، زاغت عينايَ، وارتَدّ إليّ طَرْفي حَسيرًا. وصلتني بداية كلماته، وهو ما زالَ يلتفُّ، تابعَ كلامه مُتزامنًا مع اِلتفافِه لجهتي ثانية، ليتني أدركتُ شيئًا مما كانَ يُعاين:

-سأخبركَ بشيء ربّما يغيب عن ذهنكَ، ولم تعرف عن أبي ذرّ إلّا أنّه صحابيّ من الأوائل. نشأتُ في ديار قبيلتي غِفارْ، كانت مضاربها على طريق القوافل بين اليمن والشَّام، واشتهرتُ بالسَّطْوِ على القوافل وقتذاك. لا أستعينُ بأحدٍ لمؤازرتي؛ فيما أقومُ به من غارات، بمفردي فقط، وفي وَضَح النَّهار أشُدُّ على ظهر فَرَسِي.

   أستمتعُ بكلّ جوارحي بمهابة الجلسة؛ فلم تمنعني من الشُّرود بعيدًا في متاهات الذّاكرة،  مُستعيدًا قصّة قاطع الطّريق الكامِن في مخبئه للانقضاض على ضَحِيَّته، تصادَفَ مُرور نبيّ الله موسى في طريقه لمُناجاة الحقّ، ومعه رفيقه في رحلته هذه.

   قاطعُ الطَّريقِ، وفي لحظة فاصلة من تاريخه الإجراميّ؛ كأنَّ نفحات الإيمان لامست قلبه؛ فقال لنفسه: سأتعقّب نبيّ الله موسى؛ لعلّ أن تنالني من بَرَكاتِه.

   رفيقُ نَبِيِّ الله مُوسى، مُتحفّزُ لا يَقِرّ له قرار، قلبُه مُتوّجّس، فكره مشغول بأمرٍ بعيد عن مَهابَة مُرافقته لنبيٍّ، خرج بعيدًا عن وهج دائرته الرُّوحيّة، روحه غادرت.. مُشدّدًا انتباهه على قاطع الطّريق خوفًا منه، وقال لنفسه: ما بالُ هذا الكلب يتبَعُنا مُتربّصًا بنَا، حتّى إذا ما غَفِلَتْ أعينُنا عنه؛ سَرَقَنا.

   انفصل عنه نبيّ الله مُنقطعًا للمُناجاة، وعند انتهائها تلقّى أمر الحقّ سُبحانه: يا موسى أخبر صديقك: أنّي أحبطّتُ عمل صاحبكَ، وغفرتُ لقاطع الطريق.

   شتّان ما بين قلبٍ يتتبّع من بعيد؛ يرجو نوالًا لم يحلُم به قطٌّ، تاقت نفسه لرفقة صالحة تضعه على دروب التوبة. وقلبٌ فَارٌّ من رياض مُنْوَة أيّ إنسان، تجمُّد مشاعره اللّاهية بمتاعٍ زائل، حضور العقل والقلب مشهديّة سماويّة لا يحصل عليها إلّا نبّي مُرسلٌ أو صدّيق، وصاحب نبّي موسى ليس منهم.

   فيضُ روحانيّتي جعلني آسِفًا لموقف ذاك المحروم، ولا أريدُ لنفسي أن أكونَ في خانتِه، وتحسَّستُ الأمرَ بجديّة في نفسي، وأردتُ الاطمئنان من سيّدي (ابن عطاء الله السّكندريّ)، التَتَلْمُذ على يديْه وليِّ عارف ليس بالأمر السّهل، خاصّة في زمان جفاف الرّوحانيّات، ونَدْرَة اليقين الثّابت في نفوس تهتزُّ على وقعِ الفِتَنِ: هل لكّ يا سيّدي أن ترى معي ما أرى من أمره، وما تقول فيه؟.   

أحييكَ بتحيّة رسول الله. صوته خفيض برخامة هديل الحمام، لا يكاد يصل إلّا على استحياء، وقال: (إذا أردتَ أنْ تعرفَ قَدْرَكَ عنده، فانظُرْ  في مَا يُقيمُك".

   زادكَ الله من فضله يا سيّدي، وممَّا سمعتُ بما يدور على ألسنة العوامِّ: "إذا أردتَ أن تعرفَ مَقَامَكَ؛ فانظر في أيَ شيءٍ أقَامَكَ".

   نحنحةُ أبي ذرّ بعد حشرجة مُفاجئة أصابته -أخرجتني من استرسالي استغراقًا مع ابن عطاء الله، وبما أكّدَ لي من حال الرّجل ذاك المحروم- وكأنّي مُتأثّرٌ من شنيع أفعاله في الجاهليّة. ما بالُ عيني تتغاضى عُنوة بِنُفورٍ عن مآثر أبي ذرٍّ العظيمة، ذاهبةٍ لتجليَةِ الجانب المُظلم من صُورته القديمة التي كنتُ أتجاهلها سابقًا؛ لمكانته في نفسي.

   تورمّت نفسي انتفاخًا بخيالاتها، كقاضٍ نزيه يُصدِر حُكمَه المُبرَم على المُجرم الجالس قُبالته في القفص. ألِأنّي أسمعُ اعترافًا..!!. أمْ أنّي طاهرٌ بنقاء أبي ذرّ؛ لِأُصدِر  حُكمي عليه.

   تنفّستُ بعمق، كأنّ الأوكسجين أعاد لي شيئًا من رُشدي التّائه في ظلامات. لينتشِلَني صوت المسيحُ قادمًا من عوالم الغيب، هاتفًا؛ خَضّ أعماقي بعُنف: (من كان منكم بلا خطيئة؛  فَلْيَرْمِها بِحَجَر).

   أهو طبعُ مُكتَسَب.. أمْ متأصّلٌ في دواخلنا، عندما نُنصّب من أنفسنا قُضاة على خلق الله؟.

   وهل الله كلّفنا بذلك..!!؟.

يا إلهي.. الرّحمة الرّحمة.. التوبة التوبة. وأنا أحتلُّ اختصاص الله خالق الأكوان وما فيها.

-كان ذلك قبل الإسلام يا بُنيّ.

-أكيد يا سيّدي.

   أوّل كلمة صدرت عنّي سمعها أبي ذرّ. كنتُ أودّ أن أضيفَ: "رُبَّ قاطع طريق أحبّ إلى الله من عالمٍ يأكل الدّنيا بالدّين". لكنّي لم أقُلها.

-لكنّ موقفكَ الذي لا يُشابه أيّ موقفٍ في حينه يا صاحب رسول الله. بعد إعلان إسلامكَ.. لم تشأ أن يبقى سريًّا؛ فخرجت مُعلنًا إسلامكَ إلى أهل مكّة وقريش؛ ونِلْتَ ما نِلتَ من الضرب والأذى الجسديّ، وعاودتَ إعلانكَ في اليوم الثاني.

   تدخّل أحد زعماء قُريش العقلاء؛ لفكّ تجمّعهم عنكَ في المرّتيْن، وراح يُذكّرهم بتجاراتهم ومصالحهم العابرة دياركم، ولدرء خطر قبيلتكم.

   شجاعة مُنقطعة النّظير في مرحلة صعبة جدًّا لا تحتمل مُغامرة نتيجتها معلومة سَلَفًا تكون نهايتها حَتميَّة إلى القبر.

-يا بُنيّ يذهبُ الرّجال... وتبقى مواقفهم تحكي عنهم، والتضحية في سبيل المبدأ لا يفعَلُها إلّا الشُّجعان.

-يا سيّدي ما زال قول رسول الله فيكَ عالق في ذهني منذ ثمانيّات القرن الماضي: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.( أيّامها كنتُ في الصفّ العاشر. مُدرّس التربية القوميّة كلّفنا بوظيفة شهريّة، وهي عبارة عن تلخيص لكتيّب. د. عبد العزيز الدّوري (الجذور التاريخيّة للقوميّة العربيّة)، وقد صنّفوك  مع (عُروة بن الورد) أنّكما أوّل الثّائرين الاشتراكيّين. وإمام الاشتراكيّين.

   لعلّ مقولتكَ: (ويلٌ لمن يجِد قوت يومه، ولم يخرُج  إلى السّوق شاهرًا سيفه). منذ ذاك الحين، وتساؤلاتٌ تأكل رأسي، أليس الإسلام مُحقّقًا للعدالة؟. تتبّعتُ دروب القراءة، ووعيتُ قضايا الانتماء واللا انتماء من الاستغراب، وتجلّى كذب التقدميّة والرّجعيّة خلف ستار السياسة ومحازيبها.

-يا بُنيّ لا أعرف شيئًا مما سمعت، وأنا بريء ممّا قالوا، كبراءة الذئب من دم يوسف، وإليكَ ما حدث على أرض الواقع بلا تأويلات مُجَافِية لحقائق الواقع.

   بعد غزوتيْ بدر وأحد، قدمتُ المدينة لأكون قريبًا من رسول الله. وشهدت معه المواقع كلّها، وفي يوم حُنيْنٍ حملت راية قبيلتي غِفار، بعد فترة من الزّمن تجهّز المسلمون وانطلقت الجموع لغزوة تبوك، جرى تفقّد المتخلفين عن الغزوة.

   أخبروا النبيّ: "يا رسول الله، تخلّف فلان"، فيقول: "دَعُوهُ، إن يكن فيه خيرًا؛ فسيلحقكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه".

   حتى قيل: "يا رسول الله، تخلّف أبو ذر". "وكان بعيري قد أبطأ بي، عندما قرّرتُ أخذ الضروريّ من متاعي، ووضعته على ظهره". 

    خرجتُ أتتبّعُ أثر الجيش، رآني أحد النّاس، فقال: "إنّ هذا لرجلٌ يمشي على الطريق"؛ فقال النبيّ: "كُن أبا ذرّ"، فلما تأكّدوا أنّي أنا، قالوا: "هو والله أبو ذرّ". وهنا أؤكّد لك السبب وراء ما سألتني عنه من قول النبيّ فيّ.

   رفع رأسه بعد إطراقة.. عيناه أرسلتا نظرات صقر حادّة انغرست في عينيّ، أغضيتُ مُطرِقًا خجِلًا، مُتصاغِرًا شيئًا فشيئًا أمام وهج أبي ذرٍّ. شعورٌ داهم بتوقّف عجلة الزّمان أمام عظمته إجلالًا واحترامًا، والكون يبكيه بسخيّ الدّموع؛ فلربّما لا تجود يد القدر بمثل أبي ذرٍّ، إلّا نادرًا.

وهل مثلي بحاجة إلى تبرير...!!

ومن هو الذي يُبرّر...!!؟.  

وها أنتَ عُدتَ من قاطع طريق إلى صحابيّ جليل...!!.

   كما عاد موسى من قاتلٍ إلى نبيّ ورسول بعد لقائه مع بنيّ الله شُعيب... يا أنتما...!! نبيّ وصحابي أنرتُما ظلام نفوس البشر؛  فكنتُما غيثًا أحيا مَوَاتها بنور الحقّ.

   يا لي من ظالمٍ لنفسي، قبل أن أُثقِل على صاحب رسول الله. وأنفاسه تتهادي بين وَهْنٍ وقُوّة، كأنّي بها خارجة برضا من أعماق قلبه، غير ساخطة ولا مُتبرّمة بشظف العيش وقساوته.

   العظماء لا يُدافعون عن أنفسهم وأفعالهم يختلف فيهم الناس وعليهم، فريق أنصارهم وأتباعهم ومُعارضيهم يخوضون أفظع المعارك، كلّ منهم مُنتصِرًا لزعيم اختاره، لأسباب خفيّة ومُعلنة.

-يا إمامي في الصبر والزّهد والتقشّف، هل لي استغلال وجودي بين يديْك، وتزيدني شيئًا من حياتك في مدينة رسول الله.

   أثناء إقامتي في المدينة، كنتُ قائمًا على خدمة النبيّ، ورعاية بعضًا من شؤونه، حتى إذا فرغتُ ولم يكن عندي عملًا، أذهبُ إلى المسجد لأستعيد راحتي ولأنام.

   ذات يوم رآني النبيّ، وكنتُ نائمًا في المسجد؛ فلَكزني برجلِه؛ فاستويتُ جالسًا، فقال النبيّ: (ألا أراك نائمًا؟)

-"فأين أنامُ، وهل لي من بيت غيره؟"

فجلس النبيّ إليّ، ثمّ قال: (كيف أنتَ إذا أخرجوكَ منه؟).

-"ألحقُ بالشّام؛ فإنّ الشّام أرض الهجرة، وأرض المحشر، وأرض الأنبياء؛ فأكون رجلاً من أهلها".

 فقال النبيّ: (كيف أنتَ إذا أخرجوك من الشام؟).

-"أرجعُ إليه؛ فيكون بيتي ومنزلي".

قال النبيّ: (فكيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية؟).

-"آخذُ إذًا سيفي؛ فأقاتل حتّى أموت".  

فكشّر النبي، وقال: (أدُلّكَ على خيرٍ من ذلكَ؟).

-" بلى، بأبي وأمّي يا رسول الله".

فقال النبي: (تنقادُ لهم حيث قادوكَ، حتّى تلقاني، وأنتَ على ذلك(.

 

.. *..

 

 

   كفَلَق الصّبح جاءت مُداعبة النبيّ لكَ يا سيّدي نبوءة تحقّقت؛ حينما استقرّ بك المُقام في دمشق. قال فطين. يهزّ أبو ذرٍّ رأسه المُثقَل بتعب السّنين. عيناه ساهمتان نحو الأفُق؛ كأنّه مُحدّقٌ في شيء مُحدّد، أحاول استطلاع ما ينظر. لا أرى إلّا فراغًا موحشًا، كوحشة المنفى الذي اختاره لنفسه.

  

ندّت على شفتيْه ابتسامةٌ، أراها خارجة بالغلط عن سياقها العامّ للموقف، وقد أطبق فمه قسرًا على كلام كثير، أظنّ أنّه كان يودّ البوح به جهرًا، لكنّه أحجمَ، صمته وحده هو الذي أسمعني كلام الحُكماء الشّجعان:

-يا بُنيّ ما فائدة الكلام إذا كان بلا جدوى، الثرثرة ضارّة في كلّ شيء، وعلى كلّ شيء، لا تقُل كلمتكَ إلّا إذا كانت ماضيةً كحدّ السيف.

  

-يا سيّدي فإن الفضفضة مُريحة للنفس قليلًا بما تُزيحُ عنها من أثقال.

  

-يا بُنيّ اسمعني بتمّهل ولا تتعجّل استباق الأجوبة والنتائج، ما زالت حرارة دماء الشباب تغلي فيك؛ فلو استطعتَ تبريد فورانكَ الداخليّ، واستبدلته بحكمة الشيوخ، لفعلتُه من فوري، ودون الرّجوع إليك للمشورة أو التخيّير، ولا تكن مُتعجّلًا كنبيّ الله موسى عليه السّلام في صُحبته للخضر، إن كان هو الرّجل الصّالح.

  

-سأحاول جُهدي أن أكون صابرًا ولا أعصي لك أمرًا، أو أن أقاطعكَ بكلمة منّي مهما كلّفني الأمر قهرًا، وكظمًا للغيظ في قلبي، حتّى وإن جاءتني الجلطة، وأنا على ذلك.

  

قلتُ ما قلتُ لطمأنته، لكنّ اهتزاز ثقتي بنفسي تنتابني خوفًا بخرق عهدٍ قطعته على نفسي. وتابع كلامه وأنا بكامل أُهْبَتي للاستماع إلى الآخر.

 -لا أكتمُكَ سِرًّا يا بُنيّ، أنّني بعد الفتح أقمتُ في الشّام أُفتي النّاس وأُعلّمهم أمور دينهم، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، ولكن في حِدّة مواقفي كما أُشيعَ عنّي.

    

-يا سيّدي مؤكّدٌ أنّ هناك من صبّ الزّيت على النّار، تزلّفًا لوليّ الأمر، لكسب مصلحة ومنفعة عاجلة..!!.

 

-لا أجزمُ.. ولا أتّهم، الأهمّ من هذا وذاك أنّني على الحقّ، ولم أكذب على الله ورسوله، والذي لا إله إلّا غيره، لن أتراجعَ لولم يبق غيري في الأرض.. ولك يكن عندي سوى حبّة تمرٍ مع شُربة ماء.

 

-كنتُ قد سمعتُ عن سبب فساد علاقتك مع (معاوية بن أبي سفيان) والي الشام؛ حينما اختلفتما فيمن نزلت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

 

-نعم... صحيح كما ذكرتَ يا بُنيّ، حين قال معاوية:" "نزلت في أهل الكتاب"، بينما قلتُ أنا: "نزلت فينا وفيهم"

 -يا إلهي..!! وأنتم من أنتم..!! أما كان قُربكم من رسول الله كفيل بموقف مُتسامح بينكما؟".

  

-إنّها شهوة الحكم والتسلّط... فقط.

 

-ولكن يا سيّدي: تأمّلتُ الموقف كثيرًا، لم يعدُ أن يكون اختلاف رأي، وعلى كلمة واحدة فقط (نزلت فينا وفيهم)، ألم يكُن هناك فرصةً للرأي الآخر أبدًا؟.

 

-تقولُ أنّها كلمة واحدة.  يا بنيُّ لم يتوقّف الأمر عند ذلك، بل تعدّاه لأن يكتب معاوية يشكوني إلى الخليفة (عثمان بن عفّان)، بأنّني أفسدتُ عليه الشّام؛ فطلبني عثمان؛ فخرجتُ من توّي إلى المدينة استجابة لطلبه.

 

-ألم يكن هناك مجالًا لمخالفة الأمر؟، ولا نفسَك حدّثتكَ بالتمرّد، أو التشبّث برأيكَ.

 

-لا أبدًا لم يطرأ هكذا تفكير ببالي، وماذا لو فعلتُ كما قلتَ آنفًا، ستنفعني صُحبتي للنبّي، ومعرفتي بكتاب الله، يا بُنيّ امتثال الحق والوقوف عنده، أجدر بي امتثاله على أن أنتصرَ لنفسي وذاتي.

 -مَعينٌ صافٍ يُقتدى به، أنتَ يا سيّدي... دروسٌ لا بدّ لي أن أتعلّمها منكَ، وأنتَ شيخها الرّئيس المُقيم على الحقّ، وإن أوذيَ في سبيله.

 

-الحقّ هو الأعلى، وله الجولة الأخيرة الفاصلة، وهو الأوْلى اتّباعًا وإن كانت طُرُقه صعبة، يا بُنيّ ما دُمنا قد التقينا هنا في اللّا مكان بتوقيت اللّا زمان، وأراكَ مثلي طالب حق: فلا يغرّنك زخرف الباطل، وكثرة أهله؛ فهو المآل الأخير باستحقاقاته لهم.

 

-زِدْني يا سيّدي، فأنا غاية في الشَّوق لسماع المزيد والمزيد منكَ، ربّما لن يتكرّر ثانيةً لقاءنا. تباعَد الزمانَ بنا في متاهات الظلم المُسْتَحوِذِ على دقائق حياتنا، وما أصابكَ... أصابَنا أضعافُ أضعافِه.

 

أبو ذرٍّ صامتٌ بعدما سمع من فطين ما سمع، نظراته مغروزة في الأرض، كأنّها تُعالج ذرّات التُّراب والحصى، تتحرّكُ عصاهُ بحركاتٍ دائريّة، تصنع حلقات غير مُنتظمة، إذا جاءت حركات العصا طوليّة، لتشكيل أنصاف دوائر ومُثلّثات.

  

فطين مُحدّق بانتباه شديد لكل حركة؛ فترتسم بذهنه أحداثًا وأماكن؛ فيذرعها جيئة وذهابًا بعصبيّة، توتّرات تستغرق ملامحه بشدّة؛ فيزداد اسودادًا مُتحوّلًا عن اِسْمِرَار وجهه المعهود بطلاقته على الدّوام.

  

تأزّمت دقيقة الصّمت في مساحة المتر الفاصلة بينهما، لتأتي على مساحات الكون المحيط بهما، لتأجيج صراعات في نفسيْهما كلّ في اتّجاهه ووقته، رغم الفاصل بين زمنيْهما المُتشارك بثيمة المُعارضة لحاكم دمشق.

 

 ينتفضُ جسمه باهتزاز ملحوظ لفطين، وبعد إطلاق: آآآهٍ... من أعماق أبي ذرٍّ؛ أثارت زوبعة أحاطت مجلسهما، أبو ذر يغلق عينيه ويغطّيهما بطرف عمامته، وفطين يعرُك عينيْه بيده اليمنى، وبطرف كُمّ قميصه يمسح بقايا دموع نَزّت منهما، خانه حرصه الدّائم على وجود منديل مطويّ مُخبّئ في أحد جيوبه.  

  

يبدو أنّها الآه غير العاديّة بكلّ المعايير، خرجت من أعماق الأعماق بعمُر تاريخ طويل؛ ثمّ تابع: اسْمعْ يا بُنّي، قدمتُ المدينة للإقامة فيها  أدعو النّاس بنفس المنهج الذي لا يروق للآخرين؛ فوصفوه بالحادّ، خلق نوعًا من الرّيبة، ممّا دعا الخليفة عثمان لمعاملتي مُعاملة خاصةّ يغلب عليها الحذر .

 -حتّى هنا بجوار رسول الله لم يستقرّ الوضع، أرى أنّ دوائر الحُكم على بساطتها وقتذاك؛ أنّها لا تختلف في سلسلتها الطويلة ذات بُعد واحد، مليئة بالدسائس التي تُحاك خُيوطها في الخفاء والعتمة.

  

بدا التَمَلْملُ على أبي ذرٍّ مُتبرّمًا، ممّا سمع من كلام فطين، وأغلب الظنّ أنّه يبتعدُ تنزُّهًا عن الخوض في هذا المضمار، ولا يمكن أن يكون عن خوف وجُبْنٍ.

  

حرصه الأهمّ هو إكمال حكايته مع فطين، لعلّ الوقت أدركه بضيق، وسينصرف لشأنه الخاصّ، ويترك لفطين ساحة واسعة من التأويل، والتفسير والمقارنة.

  

-"ذات يوم كنتُ جالسًا عند باب عثمان ليؤذن لي بالدّخول عليه، إذ مرّ بي رجل من قريش؛ فقال: "يا أبا ذر، ما يُجلسك هاهنا؟".

 -"يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا".

  

فدخل الرّجل مباشرة؛ فقال: "يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذرٍّ على الباب؟".

   لم أفطن لما كنتُ أسمع، غالَبَني استعجالُ الأمر؛ بتساؤل مُتناسيًا تنبيهه قبل قليل؛ لأُقاطعَه، كان يجب عليّ التأدّب في مثل هذا المقام في جلسةٍ، ربّما لن تحصل ثانية في حياتي.  

أخذ أبو ذرٍّ استراحة؛ لاسترداد أنفاسه المُتعبة بلهاثها المُتقطِّع، لم ألْحَظُ تغيُّرًا في ملامحه مُنبئٍ عن استيائه منّي: ومَنْ هو ذاك الرّجل يا سيّدي، أهو على درجة من الأهميّة؛ ليُؤذن له من فور وصوله، وأنتَ جالسٌ منذ زمنٍ قَبْله؟.

  

لم يأْبَه بسؤالي بلهجته الاستفساريّة الغاضبة، إنّه لم يغضب لنفسه، أتوقّع لو كان مثلما أُفَكّر به، ولو كان حدث معي ما حدث؛ لأشبعتُ مُحيطي لومًا وعتابًا، ولكسرتُ كلّ حواجزي أمام تصنّعي وتأنّقي، ولرميتُ برزانتي، وببقايا رجاحة عقلي خلف ظهري؛ انتقامًا وانتصارًا لنفسي. أدركتُ يقينًا أنّ أبا ذرٍّ لا يفعلها.

  

مُتابعًا قوله: "حتّى إذا أُذِن لي، دخلتُ وجلستُ. بعد السّلام على الخليفة والحضور بين يديه. توجّه عثمان يسألُ (كعب الأحبار) في ميراث يُقسّم: "أرأيتَ المالَ إذا أُدّيَ زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تَبِعَةً؟"؛ فقال كعبٌ: "لا".

   عُدتُ إلى رُشدي بعد اطمئناني لدخوله، عندما أذِنُوا له. رفعتُ رأسي بتوجّس، لا أدري ما الذي نبّهني لشيء غير مُتوقّع لم أسمعه أبدًا، كأنّ هاتفًا نَخَزَ قلبي بعصاه لتنبيهي.

  

الكلمات تخرجُ من بين شفتيْه بوضوح تامّ؛ لاستكمال ما بدأ به من حكايات في مُواجهة الحاكم وجهًا لوجه.

  

"فقمتُ إلى (كعب الأحبار) فضربته بعصا، ثم قلتُ: "يا بن اليهوديّة، تزعم أن ليس عليه حقّ في ماله، إذا آتى زكاته، والله يقول:   (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)،  ويقول: و(يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).

  

على غير المُتوقّع انتفض جسمي بطريقة لافتة أخرجتني من استغراقي بكلامه، مُتابعًا باهتمام بالغ لحفظ كلّ كلمة صغيرة أو كبيرة، ليقيني أنّها تملأ فراغًا في ذهني، وتلبّي نَهَمي في مذهبي بتأويل القصص، لأخذ الفائدة، واستخلاص العبرة، ولي في التاريخ فكرة ومنهاج، أستنيرُ بمقارباته بمزاوجة تطبيق المُتشابه منه واقعي، ولكي لا يبقى معزولًا في بُطون الكتب، وليكون مُعينًا على تجسير الهُوّة بين الحالة المُثلى مما أعتقدُ، وبين واقع قاتم أسود مليء بالمتناقضات؛ تجعلُ الحليم حيرانًا.

  

ما زال أبو ذَرٍّ يستكملُ حديثه، وفي هذه اللّحظة ركّز نظراته في وسط وجهي، شعرتُ بوهَج حارٍّ يطردُ برودة الجوّ في هذه اللّيلة، نزع ما في قلبي من خوف ذاك اليوم، وأنا في بطن أمّي، عندما كانت تجلس مع جاراتها، فقالت إحداهُن: "يا خيتي اسْكُتِي.. للحيطان أذان".

  

لم أشأ إلّا أن أتكوّرَ على نفسي انكماشًا حدّ التلاشي إلى اللّا شيء، لكنّي لم أتلاشى لأصير سِقْطًا إلى قبر، وأذهب دون اسم مُبلّلًا وجهي بدموعُ أمّي، بعد طول رجائها ببكرها المُنتظر طويلًا.

إلّا أنّها أخبرتني: أنّها ولدتني في سنة الصّهاريج أيّام العطش، يا إلهي...!!. استغراقي مع أبي ذرٍّ أنساني عطشي الشّديد، وجفاف ريقي، تناولتُ كأس ماء ومددتُ يدي به لأبي ذرٍّ،؛ فاعتذر بحركة من يده، بينما كلماته تصلني كأنّها من عوالم الغيب البعيد:

-"واستذكرتُ نحو ذلك من آيات القرآن المؤيّدة لوجهة نظري في تفسير دلالاتها؛ عندها فقال عثمان لجليسه القُرشيِّ الذي سبقني بدخوله:

(إنّما نكرُه أن نَأْذَنَ لأبي ذرٍّ من أجل ما ترى).

  

عند هذا الحدّ لم أستطع الصّبر في التأقلُم مع هذا الوضع القائم، عزمتُ أمري استئذان عُثمان؛ للخروج للإقامة في الرّبذة مسقط رأسي، ومسقط الرأس غالٍ كما تعلم؛ فأذن لي؛ فخرجتُ إليها".

 -إلى أين يا أبا ذر؟.

  

تقرّح حلقي من نداءاتي المُتكرّرة، شعرتُ بانفلات أحبالي الصوتيّة من مرابطها، كما انطلقت كلمة حريّة اِنْفلاتًا من أفواه السّوريّين.

  

رجعُ الصّدى ردّد ندائي، وصلني بتردّداته القويّة بداية، ثمّ تناقصت هُبوطًا، لتنتهي.

 

 وتثور من جديد صيحات من بعيد الآفاق، ببصمة صوت أبي ذرٍّ السّماويّ، الذي أستطيع تمييزه من بين مئات الأصوات المُتداخلة، بنبرته القادمة من عوالم الغيب.

 

غادرني منذ ساعات من وراء التلال السوداء، كأشباح ظهرت بغياب النّور عنها، بسُقوط الشّمس بين قرنيْ ثَوْر يرعى خلفَ التلّ الأدْنى، لا يأبه لحلول الظلام، ولم ينتبه لمرور أبي ذرٍّ بجواره، يلتهم خَصابَ الأعشاب التي انتهت دورتها الحياتيّة، غادرها ربيعها؛ فبقيت نهبًا تذروها الرّياح، ومجالًا خصبًا لعود كبريت تلعب به طفل من القرية المُجاورة.

  

-"من قال لا؛ عليه أن يثبُت عند رأيه". أوّل جُملة وَعِيتُها؛ وصلتني عبر الأثير.

  

-"يا بُنيّ إذا كنتَ على حقّ لا تتراجع أبدًا، الموتُ من أجله أسمى من التراجع والتَلكّؤ، طلبًا للرّاحة". مَسحتُ بكلتا يديّ على رأسي مرورًا إلى رقبتي؛ لأتأكّد أنّني ما زلتُ أنا على قيد الحياة.

  

-"أنتَ طالبتَ بشيء عظيم، وثمنه سيكون أعظم". ما زالت يداي على صدري، تجمّدَتا يَباسًا كأنّما شُلّتا، فقدتُ الإحساس بهما، انتهاء الصّدى القادم أيقظني من سُبات أحاسيسي مُطلِقًا العنانَ لقوّة اندفاع داخليّ؛ فكّ تشنّجات عُصابيّة تتحدّى عجزي، تستنفرُ عزيمتي المكبوتة خوفًا منذ ولادتي.

 

.. *..

 

   (اليوم الذي يكون فيه كلّ النّاس عُقلاء في الرأي؛ يكون كلّ النّاس مجانين في الحقيقة). على رأي الرافعي؛ فلربّما يُشارُ سرًّا أو جهرًا إلى العاقل في زمن تعقّل الرأي بإجماعٍ. أهي روح التمرّد المتأصّلة فِيّ منذ ولادتي..!؟. إلى هنا الموقف عاديٌّ في مخالفة جُموع القطيع خُروجًا على قوانين اعتقاداتهم وآرائهم، سيكون ذلك مَجلبةً لكراهتهم.

   لا أستطيعُ التكهُّن أيضًا عندما أصبحُ عاقلًا في زمن جنونهم في الحقيقة. وعيُ الحقيقة خُلاصة حياة خليطة، واِسْطفاء الأنقى الأرقى الأحقّ المُحبّ.

   يعيش الكثيرون ويُغادرون إلى مأواهم الأخير، ولم يُصادفوا، ولو خطأً أيّ نوع من الحقيقة، تتباعد عنهم... وهم يتباعدون نَأْيًا بأنفسهم طلبًا لمُتعةٍ لاهيةٍ راغدة.

   عندما اختفى خيال أبي ذرٍّ من أمامي على صفحة الأُفق؛ بشكلٍ مُفاجئٍ استحال مُحيطي ليلًا افتُقِدَ فيه القمر... مُحاولتي اللّحاق به بين الصحو والنوم.

   والحال بين مَنزلتيْن... كحال النُّسّاكِ بين خوف ورجاء في محاولة تسلُّل لا مقصودة... ثقبُ العالم الأسود لا يُغلَق أبدًا؛ حسبما قال أهل العلم. فرار من الأرض؛ تهيّأتُ مِرارًا، وما زلتُ أنفضُ عن جسدي أوظار تَبِعاتِ وُجودي الأرضيّ.

   اِرْتَجّ الكون مُجدّدًا على وقع صُراخي: (إلى أين يا أبا ذر). أتاني احتجاج الصّدى من جَنَباتٍ بعيدة، لم تكن مُقنعةً بأنّني في مُحاكاة داخليّة... لا أدري تسميتها على وجه الدقّة.

   سألتُ بعد ذلك أحد العارفين الموثوقين عندي: عن حالي الذي كَتَمتُه عن أقرب المُحطين بي... خوف اتّهامي بالجُنون المُحتّم، ومظاهر الهلوسة تتناوبني بين الحين والآخر.

   كما أنّ عُقدة الطبيب النفسيّ ذات الأثر السيّئ لي بشكل مُباشر، ومجلبة للعار لأسرتي وذُريّتي من بعدي.

   العارفُ المكينُ مُغمِض العينيْن... رأسُه ثابت بانحناءةٍ وقورةٍ، تحت عمامته المُتهدّلة على جبينه وُصولًا إلى أنفه، أخفَتْ ملامح وجهه عنّي، لتزيد من قلقي الحائر... جمودُ العِمامة المُتهدّلة على جبينه؛ حجبت ملامحُ انفعالات وجهه التي أحاولُ استطلاعها؛ لتسكنَ روحي، وتتأكّدَ من استماعي لما سيخبرني به.

   مُنصِتٌ لي بكُليّته... لحيتُه مُتدليةٌ كعناقيدِ داليةِ عِنَب في ربيعها السنويّ ناصع، مُشتهاة من ناظرها...، والرّيق يتحلّب عليها لو نال شيئًا من ثمرها.

   علاماتُ العلم مَهابة بمتاهةٍ الجهلاء والعامّة، ولستُ إلّا حائِرًا باحثًا عن الحقيقة، وفي سبيلها أرشدَني بحثي الدّؤوب من جديد إلى شيخي (ابن عطاء الله السكندري)؛ لتهدأ نفسي إلى يقينٍ راسخٍ، فتح آفاق الكون بطمأنينة لسلامة طريقي، عندما قال ذات مرّة: (ما أرادتْ هِمّةُ سالِكٍ أن تقفَ عندما كُشف لها، إلّا ونادتهُ هواتفُ الحقيقة: "الذي تطلبُ أمامكَ". ولا تبرّجتْ له ظواهر المكنونات، إلّا وناجَتْهُ حقائقُها: "إنّما نحنُ فتنةٌ فلا تكفُر).

   سجِّلْها يا فطين في عقلكَ قبل أوراقكَ برقم عشرين. هززتُ رأسي على استحياء. بِصَمتٍ قيّدتُها دون انطلاق لساني بهمسٍ، مُوهِمًا نفسي بفهمي لما سمعتُ، ولو أنّني أعترفُ بجهلي لسَلِمْتُ من وَهْم معرفتي الموهومة أصْلًا؛ ولَخَرَجْتُ من دائرة التناقض المُتضارب.

بين جُلوسي، وكأنّ الطيْر على رأسي؛ واستغراقي عميق في كلام شَيْخي. أخذتني إغفاءة عند آخر كلمةٍ وثَّقتُها، وقبل وضع النُّقطة.

وإذْ أنا في رياض غنّاء تهيّأ لي ذلك، خرير الماء...، أصوات العصافير..، حوريّاتٌ ناصعاتٌ البياض على حافّة الجدول، يتسامرن...، تتعالى أصواتهنّ السّاحرة بنغمات غانجة، تُنافس صَدْح الطيور.

غرقت في سحرهنّ؛ فانزلقت قدمي، فما أحسستُ إلّا عندما فتحتُ عينيّ على سرير وثير مُهفهف. ما إنْ رآني الخادم أصحو، حتّى أسرع بخطواته. مُناديًا: سيّدتي لقد استفاقَ الرَّجل الغريق الغريب.

قدِمَت بكامل بهائها؛ لتقفَ فوق رأسي، حاملة بيدها محفّةً من ريش النّعام، تَنِشُّ بها حول رأسي، ازداد انتعاشي، دبيبُ الحياة عاودني قويًا، وكأنّ ليس بي بأسًا قبل ذلك. رنينُ صدى صوتها العذب ردّد كَلمتها، كأنّني سمعتُها تقول، أزعمُ أنّني سمعتُ: نيرفانا.

   وجهُها مُتهلّل بأنوارٍ ملائكيَّة. وما نيرفانا، لم تَطرُق سمعي هذه الكلمة من قبل؟. لا أدري، ربّما تكونُ شيئًا جميلًا. بمُطابقة ما سمعتُ منها مع علامات الفَرَح والسُّرور المُرتسمة على وجهها الصّبوح؛ استبشرتُ خيرًا بقولها.

   جفِلتُ من صوْت شَيْخي يناديني: "يا فطين، سجّل أيضًا: "ما نَفَعَ القلبَ شيءٌ  مِثْلَ عُزْلةٍ؛ يدخلُ بها مَيْدانَ فِكرة".

-نعم سيّدي لقد فعلت.

وآخرها هي لكَ منّي يا بُنيّ من دون الآخرين محبّة، وحبل تواصُل روحيٍّ يربطنا ما دُمتَ حيًّا.

-هاتِ يا سيّدي.

تنحنحَ. وعيناهُ شاخصتان إلى السّماء؛ كأنّه يقرأ من صفحتها الخالدة: "سوابِقُ الهِمَمِ، لا تخرقُ أسْوارَ الأقدار".

   انتبهتُ إلى صفحة دفتري، وأعيدُ ما كتبتُ. زاغت عيناي بحثًا فيما هو حَوْلي، ما زالَ فُنجان قهوتي مُحتفظًا ببقايا دفءٍ. خامرني إحساسٌ غريبٌ للمرّة الأولى في حياتي، دافقًا بمعاني السَّعادة الشَّديدة، المليئة بالسَّكينة والاطمئنان، كلمة نيرفانا التي سمعتُها؛ فتحت  في نفسي راحة وابتهاجًا.

   عرفتُ مُتأخِّرًا أنّ (نيرفانا) اسمٌ أكثر جمالاً؛ ألا وهو السُّمُوّ والابتعاد عن كلّ ضيق بالنفس. اتّسعت الرُّؤية بصدق العِبارة، وانتشى القلب ببهجة الإصرار لمتابعة المِشوار، يقينًا بالوصول إلى نهايته.

***

 

 

 

(2)

 

   الذكريات تتجدّد بعد حين، وتأبى إلّا أن تعود لصدارة الاهتمام كلّما سَنَحت لها فرصةٌ للانتقام من فُسْحة الحاضر لها؛ لمنافسته؛ لِتحتلَّ مكانًا يليق بها، والاستحواذ عليه ولو لزمن قصير.

  

   نبرات صوت أبي ذرٍّ لم تشأ مُغادرتي منذ ذلك اللّقاء، تحفرُ مساربها في أعماقي إصرارًا، وتطردُ خوف دواخلي المُستكنّ فِيّ منذ تَشَكُّلي جَنِينًا في بطن أُمّي.

  

   الخوف لا يُنتجُ إلّا مخاوف؛ تتّخذ لها حسابات مُختلفة تمامًا عن الوضع الطبيعيّ في العيش؛ انطلاقًا إلى آفاق الحياة برغبة جامحة، لِنَهْل مشاربها بشغف؛ كالعَطِشِ في مفازة الصحراء، السّراب لا يفتأ تَغْشيشَه حينًا.

 

   أخيرًا وَجَد الماء، عَبّ منه حدّ الارتواء، بعدها ليأخذ نفسًا عميقًا. شعورٌ باعثٌ على الارتياح. عندما تبلّلَت عُروقه؛ اتّسعت رؤيته للحياة بِهِمّة عزيمة قويّة دافعة للمُتابعة في المسير لبلوغ الهدف المُراد.

 

   والأهداف تُراق دونها أَمْواهُ الحياة بسَخاء، وبلا حساب لا لصغير أو كبير، مَهما عَلَا وكبُر من البشر، ولو كان حاكمًا قابضًا على عصاه الغليظة المُخيفة، إذا هَوَتْ على رأسٍ مليءٍ بالعِلْم والأفكار، ثمّ تَسْحَقه بدم باردٍ.

   كان يُقال: (العصا لمن عصى).

 

   فهل إذا طالبتُ بحقّي في العيش بكرامة، أكونُ عاصيًا..!!؟. وإذا أردتُ استرداد حُريّتي في بلدي، بالتعبير عن رأيي؛ أسْتحقُّ التنكيل والتعذيب والموت، وضياع عُمُري خلف الجدران، وعلى أعتاب الزنازين، وظلامها؟.

  

   في زمن العِزّة في عصر الإسلام الأوّل، لم يُقبَل ذلك من صحابيّ جليل، سابعُ سبعةٍ في الإسلام. خاطَرَ بنفسه بالبحث، وتلمّس طريقه بنفسه، بعدما أيقنَ بما لا يدع مجالًا للشكّ، أو فُسحة للتراجُع.

  

   في الاعتقاد لا مجال للحلّ الوسط، كما لا مكان لقول: لا للحاكم مهما كان؛ فكيف بمن تباعَد الزّمان به تاريخًا عن نور وهدي النبُوّة، ورحمة الأديان بطروحاتها ذات البُعد الرّوحيّ، الذي يرتقي بالنّفس إلى مصافّ السُّمُوِّ الإنسانيِّ الأعلى، وتحثُّ على التراحُم، والقول بالتي هي أحسن، والإنسان أخو الإنسان، والاحترام للرأي والرأي الآخر.

  

    هذه النُّقطة الأخيرة، يبدو أنّها نَبْتٌ عَاقٌّ غير مرغوب به في صحراء العرب، ومتاهات قُصور الحُكم فيها على الإطلاق.

  

   تداعي الأفكار يتصبّبُ كالسَّحَاب المُنهَمِلِ بغزارة.. ما زالت البدايات طازجة حاضرة في ذهني، آلامها.. أحزانها.. دموعها.. آهاتها ماثلةً لا تتزحزح قيد أُنملة، ما بارَحَتْ ساحاتي؛ لأستريح من أسبابها يومًا واحدًا منذ عشر سنوات، يبدو أنّ انتظاري للحظة كنتُ أتمنّاها، جميع المُعطيات تقول: أنّ أمَانِيَّ ستُدفنُ معي إذا وُسِّدْتُ في قبري.

  

   مِثلَ صديقي عمّار.. ألْكانِ مُتشبّثًا في بيته الذي بناهُ بكلّ نفس ذائقة صُنوف الحرمان، ومكابدة هموم الاستقرار ليلَ نهار، عَزّ عليه الخُروج منه، جازفَ بالبقاء مُتجذّرًا فيه. كلماتُه كانت تأتيني عبر الموبايل مليئةً خوفًا وهَلَعًا، من مَنظر العساكر والميليشيات المُتحرّكة في محيط منطقته السَكنيَّة.

  

   كلمته الأخيرة: "الأمور على الله". لا أملك جوابًا إلّا تكرار: "والنّعْم بالله". أربع سنوات كان على انتظار وترقّب اللّحظة التاريخيّة، التي فَرِحنا بها بتحرير "بُصرى" من الميليشيات وقُطعانها، لم تكتمل الفَرحَة، التي انطفأت في عَينيْه قبل يوم واحد فقط من الفرحة الجماعيّة.

   مؤكّدٌ أنّ فرحتني ناقصة، لم تُطربني الأهازيج الفارحة على نطاق واسع، عكفتُ على احتساء أدْمُعي، وأنا أُلملم بقايا نبراتِ صوته، وأضُمُّها على صدري مع نبرات أبي ذرٍّ.

   مشروع القراءة عندي مُتواصل بشكلٍ دائمٍ، أذكرُ أنّني مَرَرْتُ بنَصٍّ قَصَصيّ لـ(باولو كويللو) الروائيّ البرازيليّ، يقول فيه:

(كان الأبُ يُحاول أن يقرأَ الجريدة، ولكنّ ابنه الصغير لم يكفّ عن مُضايقته، وحين تَعِب الأبُ من ابنه؛ قام بقطع ورقة في الصحيفة، كانت تحوي خريطة العالم، ومزّقها إلى قطع صغيرة، وقدّمها لابنه، وطلب منه إعادة تجميع الخريطة،  ثمّ عاد لقراءة صحيفته ظانًّا أنّ الطِّفل سيبقى مشغولاً بقيّة اليوم، إلّا أنّه لم تمُرّ خمس عشرة دقيقة، حتّى عاد الابن إليه، وقد أعاد ترتيب الخريطة؛ فتساءل الأبُ مذهولاً: "هل كانت أمُّكَ تُعلِّمكَ الجغرافيا؟".

   ردّ الطفل قائلاً: "لا؛ لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدتُ بناء الإنسان؛ أعدتُ بناء العالم".

   كانت عبارة عفويّة، ولكنّها كانت بقوّة الإنسان، وذات معنىً عميق، عندما أعدتُ بناء الإنسان.. أعدتُ بناء العالم..!!

   العالم  كلّه يبني.. ونحن نهدم ما بَنَيْناهُ، لماذا؟.

   حقيقة الأمر أنّه غير مفهوم أبدًا، ولا أظنّ أنّ أمْهَر المُفكّرين والعُلماء؛ إيجاد الجواب المُقنع. شبعتُ من وهج الشِّعارات حدَّ التُّخمة؛ فتخدَّرت مشاعري، ليس من السّهل تصديق أيّ كلام.. أيّ وَعْدٍ.. لكنّي لا أطيقُ سماع خطاب زعيم، استقرّ في ذهني مفهومُ الدَّجَل، والكذب المفضوح على الملأ، بلا أدني درجات من الحياء.

   أين بلادنا من إنسانها..!!؟.

قُتل عمّار لأنّه ابن هذا التراب..!!..وهو الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة هذا التراب، وصيانته من أي عدوٍّ خارجيٍّ، حسب عقيدتنا الجماعيّة: (حبُّ الوطن من الإيمان).

   بعد سنوات كلّما ذكرناه في جلساتنا الافتراضيّة (أنا ومحمد وفاضل) نبكيه بدُموع حرّى. ولسان حالنا جميعًا يُردّد يقينًا: (وطالبُ العَدلِ من مُعْتَادِ مَظْلَمَةٍ، كطالبِ العَطْفِ من ذِئْبٍ على الغَنَم).

.. *..

 

   مزيدٌ من أفكار تتداعى حضورًا، قادمة من مجاهل الأكوام، ليس أكوام الزّبالة من مكبّات النِّفايات، ولا من تَجَمُّعات المسيرات المُؤيّدة، بل من مَقبرة ذكرياتي المليئة بأحلامي الموؤودة، وأحلامي المُنكسرة، وطُموحاتي المقهورة.

   أعتقدُ أنّ هذا الاستغراق في حالة التّداعي، لم يكن ليُخالطني لولا مُعاناتي للفراغ، الخطواتُ البطيئة ستصل لا محالة بأمان، وإن تأخّر بها الوقت على خلاف السّريعة المُتسارعة بلا حساب؛ بحرق المراحل دُفعة واحدة، إنّها مجنونة بنتائجها غير المحسوبة.

   تداعياتٌ تشكُو إحباطاتها على الدّوام، لم تمسَّها ألوان الفرح في تاريخها الحزين.. كما أنا بالضبط.

   على ما أذكر هُناك طائفة من أمثال تقول:

-                     (الفاضي بيعمل قاضي).

-                     (قِلّةُ الشّغل بتعلِّم التّطريز).

-                     (لا شغلة ولا مَشْغَلة، خُذ منهُ كَثْرَة حكي).

   كحدّ السّيف الرّهيف البتّار؛ الوُقوف أمام الذّات لا يرحم، لا مجال للكذب أو المُراوغة، تتصاغر عظمة الرّجال في هذا الموقف، إذا استقرّ في أذهانهم فُقدان فاعليّتهم، وعلى الأخصّ إذا ما تقدّم بهم العمر، الفئة اللّامبالية من بدايات نشأتها، لن تَفْرِقَ الأمور معها لا بكثير ولا بقليل، لن يَعدِموا ابتكار الوسائل لبلوغ غاياتهم، مهما كان الثّمن الذي عليهم تقديمه، الأمر سيّان على مبدأ: (فلأعِشْ، ولَيَفْنَى العالم من بَعْدِي).

   لا أنا من أولئك.. ولا مع هؤلاء، شاءت الظُّروف حُكمها عليّ بالتعطّل عن القيام بأيّ عمل، ساءت ظُروفي النفسيّة أكثر.. اِنْسدَّت جميع منافذ العمل، كان بحثي دؤوب، والنتيجة حُصولي على وعود خُلبيّة؛ بانتظار اتّصال يأتيني ذات يوم.

   اختلّ نظامي المعيشيّ. سَهَرٌ طويلٌ حتّى الفجر.. نومٌ إلى وقت العصر.. هكذا انقلبت حياتي رأسًا على عقب.. إدمانٌ (للفيسبوك) قَتَل كلَّ تفكيري بقيمة الوقت المهدور، تحوّلت إلى كائن آخر، غير أنا تمامًا، انقلبت مفاهيمي لكثير من الأشياء. ضاعت الثّوابتُ في زحمة الرّغبات لإهدار الوقت، كنتُ أدركُ قيمته، وهل ضاعت محفوظاتي القديمة: (الوقت كالسيف، إذا لم تقطعه قطعك)، بالتوقّف هنا: لا أدري صراحة مَنْ الذي قطع مَنْ، فِعلتي كانت حرقًا لإزالة أيّ أثر له، بالقطع ينشطر إلى نصفين أو أكثر، من المُمكن إعادة لململته، وتشكيله من جديد.

حاولتُ مرارًا.. وحاولتُ الخروج من مأزقي؛ فلم أُفلِح في مَسْعاي، استعنتُ مِرارًا بطلب استشارات من أصدقاء فشلتُ في تطبيق شيءٍ منها، مَثلي كمثَل مرضى القلب المُدخّنين، الذين خضعوا إلى عملية القلب المفتوح، إذْ لم تُفلح إرشادات الأطبّاء في ثَنْيِهِم عن التعاطي مع السّجائر.

   بل كانت المفاجأة المُشاهدَة على نطاق واسع: أنّ التَّدخين أصبح بشراهة؛ للانتقام من أيّام انقطاعهم عنه؛ ولتعويض ما نقص عليهم وزيادة، كأنّ لسان حالهم، يقول: (العمر مكتوب، والموت ما منّو مهروب، والسّيجارة ما بِتْمَوِّتْ حدا، إلّا إذا كان عمره  خالص).

   على مدار أشهر اكتسبتُ مهارات تقنيّة جديدة؛ وصلتُ بها مرحلة الأستاذيّة فيها، والاستشارات تنهالُ عليّ عبر الهاتف والواتساب والماسنجر.

   ومن مجال إلى آخر.. ومن مُنزلق إلى آخر، مُقابل تناقص النّجاحات السّابقة في حياتي، إلّا أنّ استحقاقات المرحلة تسارعت، وانتهت إلى وصلتُ إليه.

   جاءتني فكرة العودة إلى الكتابة بعد انقطاع مُدّة ليست بالقصيرة، بحثتُ عن أصدقائي القُدامى ذوي الباع الطويل في القراءة والكتابة؛ التي كانت المُستغرقة لجُلّ أوقاتهم كما أعرف سابقًا، ولا فراغ لديهم.

.. *..

 

 

 

 

 

 

 

(3)

   مقاييس الفشل أكبر من نجاحات كثيرة.. أمرّغ وجهي بما استقرّ في حنايا ذاكرتي من ملامح أبي ذرّ؛ فَتُبَلّلها دُموعي؛ فَتُندّيها؛ لِتَدبَّ فيها الحياة من جديد؛ دافعة لمُتابعة المشوار الذي أتعب وطني، وعن التنازل عن موقفي.

   لم يكن استقراري مبدئيًا - أنا (فطين) - إلّا في المكان اللَّا مكان، المُفتَقِد لزمان. كنتُ أفترض وجودي به تِلقائيًّا، وهو الفضاء الوَهْميّ  كما تواصلي الافتراضيِّ الآن عن بُعد، فضاءٌ أزرق لم يُغيّر من ذاتي وجوهري، ببساطة شديدة: لأنّه لا يمكن أن يَتجسَّد في إطار مكانيٍّ مُعيَّن بالنسبة لي.

   فالمكان لا يتشكّل إلّا باختراق الأبطال له، ولا يُمكن تحديده مُسبَقًا، وفي ذهني لا تتشّكل الأمكنة إلّا من خلال الأحداث بفعل الأبطال، من هنا يكون فَضَائي الروائيّ، هو الذي كتبَ القصّة قبل أن تكتبَها يدايَ.

 

    بلا تنافس مثل الذكريات، عندما تتباعد بها مسافات الزّمن؛ تُصبِح حنينًا وشوقًا حارقًا للماضي.

 

   ولن أدّعي أنّني لستُ ماضَوِيًّا، حتّى لا أكون كاذبًا. جلساتُ التأمّل للماضي تستغرق ساعات طويلة من أيّامي؛ للإجابة على تساؤلات مقطوعة الرَّأس بلا إجابات، تركض لاهثة مُتخبّطة؛ لاستعادة الحياة من جديد.

 

 كان عليّ أن أُعيد توجيه حياتي؛ لتسلكَ حركة دائريّة؛ تُعيدني إلى نُقطة البداية، وعلى قدَر مُحاولتي التّعبير عن فكرتي هنا؛ لأنّها السَّبب الوحيد الذي مكّنني من خوض غِمار هذا العمل الروائيّ خلف الباب.

 

   المُتوافق مع ما أذكره بعد سنوات من مروره على ذاكرتي، عندما اِنْجلتِ الغمامةُ، واتّضحت الصُّورة بجلاء: نقيّة لا غُبار عليها.

 

   وكلّما أوغلتُ في ذلك المضمار ازددتُ قناعة، بأنّني أسعى إلى تسطير  فكرة حقيقيّة، عايَنْتُها وعِشتُها مع أبطالي، كما أنّه لم يعُد في حياتي التالية دعمٌ للفكرة القائلة: بأنّه مُؤَكَّدٌ انتمائي لقضيّتي، ولن أحِيدَ عنها، بحكم العادة والتباعد عن الوطن، ولا يمكن إقامة علاقة مُتنافرة متناقضة مع مُقتضيات ما أفكّر به.

  

   إنّ المُركّب القصصيّ من خلال هذه الصّفحات: هو جزء لا يتجزّأ من لُبّ مُفرزات الثَورة السوريّة، وهل من سُخرية الأمر العودة إليها بعد هذه المُدّة، التي ناهزت العشر سنوات؟.

  

   إنّما التوكيد على إكمال ما كتبتُ سابقًا في (دوامة الأوغاد) و(الطريق إلى الزعتري) و(فوق الأرض)، وما كنتُ أظنّه نقصًا في دائرتي الثُلاثيّة، ونقلها إلى عام الرُّباعيّة انطلاقًا من خلف الباب، لتكتمل الرّؤية بشكلٍ جليٍّ واضح تمامًا.

      من مركز الدَّائرة انطلقتُ مُحاولًا تعديل وضع المُثلَّث؛ بإيصاله إلى المُربّع المنشود في ذهني. نقلةٌ نوعيَّةٌ تستلزمُ طاقةً، وجُهدًا مُساويًا لمساحة ضِعفَيْ المُثلَّث؛ ليستويَ مُربَّعًا بأركانه الأربعة.

..*..

 

 

 

 

الرسالة الأولى من أبي فندي

   وصلتني رسالة غير مُتوقّعة، عبر الإيميل من صديقي أبي فندي، رغم أنّي كنتُ بانتظارها على مضض؛ تزامنت مع الكتابة، وكأنّ يدَ الغيبِ أخبرته: بأمسِّ الحاجة لها، ما أروع الظّروف إذ تآلفت من غير إرادة منّي على تكميل أدوارها.

 

   أظنّ أنّ خبرَ عودتي للكتابة أبهجه. افتراقُنا ربّما سيطول إلى نهاية العمر، وَلِيَقينه، بأنّني لم أعرف شيئًا عنه؛ بعد افتراقنا هناك في البلد قبل سنوات، أحَبَّ إخباري بتفاصيل لم أكُن أعلمُها من قَبْل.

 

   سأجيء يا فطين، ومعي صفحتي الأخيرة التي دَوّنتُ فيها موقفي، واللّحظات الأخيرة لاستنشاقي هواء الطّمأنينة، واستقرار خفقان قلبي.

 

   اللِّقاء لم يكُن حارًا بالأحضان والقُبل. لم يستطع مُعادلة حرارة الأشواق. البُعْدُ الجغرافيُّ جعله باردًا، كأنَّهُ تمَّ في كانون مليئًا بالثُّلوج، ودرجات الحرارة المُتَدنية. والأنفاس خارجة كمداخن مدافئ الحطب؛ تبثُّ بُخارها، لتُشكِّل مساحة هُيولى حول الرّأس؛ حاجبة بعض ملامح الوجه، خلف هُلاميّة قناعها المُؤقّت. 

 

   وأينكَ يا صديقي..!!.. من حقيقة ظنَنْتُها وإلى الآن، أنّني كنتُ في المكان اللّا مكان، أذكُر تمامًا ما حَكَيْتَه لي مِرارًا عنه، وأضيفُ أيضًا: أنّه الزّمان اللّا زمان، أتظُنّ مثلي.. وما أنا فيه: هو الضّياع الحقيقيّ، الذي أخافهُ بلا مُواربة، إن كابَرْتُ وتماسكتُ ظاهِرًا، بينما دواخلي بقايا حُطام الحروب والدّمار، والشّتات والموت والأحزان.

  

   تناقضت أوضاعُنا مع الوطن، وتناقض معها الزّمان تمامًا، كما أراكَ أمامي الآن خيالًا، وأنتَ تفتحُ حاسوبك، لقراءة رسالتي، مُتأكِّدٌ من أنّك ستقرأها، وتُعيدها لمرّات عديدة قبل توثيقها خلف الباب:

 

   من غير المُتوقّع أبدًا أن يكون أمام بوابة المُخيّم، وها أنا أستعيد حرارة مشاعري المُتوهّجة بعد سَنوات، لم تُغادرني إلى ساحات النِّسيان، كما حدث للعديد من فاقدي الذّاكرة.

 

   كنتُ أخاطِبُ (أبو فندي) نفسي، وقْتَها، وعلامات التعّب والإرهاق تبدو على وجهي آثارًا عتيقة علاها غُبار السِّنين:

 

   *[أخيراً ها أنا أقف أمام بوابة الزعتريّ وجهًا لوجه.. لحظات مليئة بالغيظ والكمد، استوقفني شيء ما غامض؛ ليكون لي حديثُ مُطوّلٌ مع نفسي، مُستدركًا على موقفي هناك.

 

   لتثبيت ما حدث معي بدقّة في سجلّ ذاكرتي، ولا يضيع في زحمة النسيان القسريّ، حينما وقفتُ أمام صورة والدي، قُبيل مغادرتي البيت، وها أنا أقف الآن أمام بُوّابة مخيّم الزعتريّ.

  

هاتان وقفتان مختلفتان، مليئتان حسرة وندامة، أيقظتا في ذهني الكثير والكثير.

  

   أين قطراتُ دمك يا أبي، وأنتَ تُقاتِل العدوّ الصهيونيّ؟.

ومن أجل أيّ شيء قدّمتَها، وبذَلتَها رخيصةً يا أبي؟.

 

   وهل هذا الشيء الذي ضحيتَ من أجله يَستحّقُ ذلك؟.

وأنتَ يا جدّي، ما الذي بقي لنا من تُراب قبركَ؟.

 

   بقِيَتْ ذكراكَ ماثلةً في عقولنا، وأنتَ تُقارع فرنسا، وها نحن أحفادك تركنا الوطن، الذي من أجله أرخصتَ الغالي والنَّفيس، وصرنا مُهَجّرين مُرْغمين، لا خيار لنا غيره.

  

   ها أنا أنيخ رحالي أمام بوابة مخيّم الزعتريّ مُنكَسِر الخاطر، فما كان في السَّابق مُستحيلاً أن تتطرّق له نفسي بِمُجرّد التفكير، ها هو أصبح واقعاً، دوّامة جديدة دخلتُ فيها.

  

   صارتْ حياتي جزءًا كئيبًا منها، ومَسْخًا من مُسُوخ الذُّلِّ والهوان، هروبٌ من الموت يُسمّى لُجُوءًا.

  

   خاصّة في هذا المكان سيّء السُّمعة؛ لعدم موافقته لمواصفات العيش والكرامة الإنسانيّة. فهو قطعة من الصحراء، الغبار جزء أساسيٌّ من الحياة اليوميّة.

  

   الخيامُ بائسة كَبُؤس ساكنيها المُتطاول إلى حافّة القمر، رغم تعاطفي الكبير مع إخوتنا الفِلسطينيّين، نُكِبُوا، ونَزَحُوا، وشُرِّدوا، وانتفضوا، وما زالوا يُقاومون عدوّاً شرساً لئيماً بإصرار، وصمود مُذهل لكلّ بني البشر، بحثتُ طويلاً مُتعمّقاً مُحاولاً الوصول إلى حقيقة مشاعرهم، نظرتهم للحياة، والكون من حولهم، فلم أستطع النّفاذ للبّ وجوهر ذلك، بل لم أزدَد إلاّ بلادةً جامدة باردة جليديّة، إلى أن انقلب الزّمنُ علينا.

  

   وانقلب وجه الوطن صقيعًا قُطبيًّا، لفّ حياتنا من أقصاها إلى أدناها، كما (الأسكيمو).

  

   نُكِبْنا بالوطن الذي أحبَبْناه، وهو نُكِبَ بنا، عندما تنَكّبْنا لثوابته، ورميْنا بها خلف ظهورنا؛ فجعلناها (شَرْقَ الذَرّايات)، وطنٌ أسَّسْتُموهُ على المحبّة.

  

      فقوّضته ثقافة الكراهيَّة الحاقدة؛ الخارجة طازجة من بُطون الكُتُب، تَفِحُّ بِكِيِرِ الطائفيَّة المقيتة..، ستحرق الأخضر واليابس.

 

    وطنٌ ديست كرامته ببسطارٍ جُنْدِيّه، الذي كان من المُفترَض أن يَحمِيَه من عاديات الدَّهر، وتغوّل البشر.

 

   السيّد البسطار يَدوسُ كرامة النّاس، يسحقُهم بحقد مجوسيّ مَنبوشٍ من تاريخٍ مُشوّهٍ. ربّما تأتيني لحظة أقترفُ فيها جريمة الكفر بالوطن.

  

فما هو الوطن؟. 

 

وما الوطنُ فِيَّ وأمثالي؟.

 

   أعتقد يقيناً أنّني أستطيع أن أشير لِخَوَنَةِ هذا الوطن..!!، الأمر انفضح، لم يَعُد ذلك خافيًا على كلِّ ذي لُبٍّ فَهيم، عندما يقرأ ما خلف السّطور.

 

   فالأزمنة والأمكنة هي أغلفة أجسادنا الفعليّة، فيها تضجُّ حياتنا بأحلامها، وأشيائها الجميلة.

   فالوطن هو الزّمان والمكان.

  

   فلماذا تتواضع أحلامنا، وينخفض سقفها إلى لقمة خُبز، وازدادت حالنا بؤسًا؟.

 

   الوطن يستمدّ حريَّته من حُريّة أبنائه، وعندما يُسادُ ببُسطارٍ فوق بُسطار؛ يُحِيلُ حياة أبنائه ليلَ عبيدٍ، ويجعل الذُلَّ أكاليلَ استعْبادٍ واسْتِبْعادٍ.

 

   والمراوغ المُتَلَوِّن - البَيْنَ بَينْ - هادئ مُنَاور بمهارة في ملكوت البساطير. يُقَبِّل هذا ويمسح غُبار هذا. يُلَمِّع هذا وذاك، تغمره السعادة من مفرق رأسه إلى أخمص قدميْه. مُقيم في المنطقة الرماديّة، لا يُكلِّفُ نفسه مَشَاقَّ البحث عن طريق قريبة من الحقّ بعيدة عن الباطل، يجدُ فيها نفسه وهويَّته؛ لأنّه فاقد لها، ويبتعد بأشواط طويلة عن الانتماء الحقيقيِّ لإنسانيَّته؛ ليجدُ نفسه مُلتصقة في لجّة الباطل؛ فيصير وقت ذاك قائدًا، ومُنظّرًا.

  

   مسافات كبيرة تبتعد به عن الحقّ، بعيدًا عن صراعات القِوَى على افتراس إنسانيتّه، المسحوقة تحت سنابك آلتها الهمجيّة؛ فأخَذَ عهدًا: أن يُكوِّن جهة مُغايرة، مُتناقضة مع بُناة خيمة الحُريَّة, فضلًا عن تعزيز ثوابتها، بل راح يتأمّل بخشوع أرضيّة البُسْطار، يحسبُها أنّها السّماء، بل ذهب به الأمر إلى أن تَعَبَّدَهَا بطاعة عمياء، مُتَبَتِّلاً في محراب جُبنِه وخوفه. راجيًا دوام العَلَف، والعزّ في ظلال آلهته.

 

   الأكثريّة الصَّامتة، تُغري السيَّد البُسطار بالمزيد من نهب مُقوّماتها، ظنًّا منه أنّ جُموع المُتجمهرين المدّاحين الردّاحين السَّدَّاحين المُصفّقين، هي جماهيره المؤيّدة الطائعة، باستطاعته أن يأمرها، فَتُطيع وتُجِيب: "سمعاً وطاعة".

 

   تداعي الأفكار قادني؛ لأتذكّر مقولةً من قديم قراءاتي، لـ(ميخائيل شولوخوف)، في  رائعته رواية (الدُّونُ الهادئ):

  

[في كلّ ثورة، في كلّ عاصفة اجتماعيّة؛ يوجد دائماً أُناسٌ يُحاولون خِداع أنفسهم بهذه الفكرة البريئة من الوهلة الأولى..، فكرةِ الحِيادِ السِّياسيِّ، ولكنْ كَمْ من النّاس قادته إلى حافَّة الهاوية؟، وكم من النَّاس دفعتْ به إلى دوّامة مصائب، وعذابات لا حصر  لها ؟.].

   

يا للغرابة ..!!. كيف استطاعت ذاكرتي أن تستعيد ما قرأتُه من سنين بعيدة؟، في هذا الموقف العصيب، وخُصوصيَّة الظرف.

 

   المزيد من تداعيات أفكاري انهالتْ عليّ، وأنا أقفُ مشدوهًا أمام البُوّابة الكبيرة المُحاطة بالأسلاك والحُرَّاس. عيناي مُركِّزتان على لوحة كبيرة جميلة مكتوب عليها بخطٍّ أنيق:

(أهلا بكم في مخيّم الزعتريّ).

  

   عصفتْ بارقةٌ بشريط ذكرياتي؛ فأضاءت غَيْهَبَ الظُّلَمِ في نفسي، لأستمع إلى شاعر المقاومة الفلسطينيّة (سميح القاسم):

"تقدّموا.. تقدّموا، كلُّ سماء فوقكم جهنَّمُ، وكلّ أرضٍ تحتَكُم جهنّم، لن تكسِروا أعماقَنا، لن تهزموا أشواقَنا، نحنُ القَضَاءُ المُبرَمُ".

 

   كما أنّ صديقي الشاعر (سليمان الشيخ حسين) من مدينة (مِصْيَاف)، كتبَ لي ذات يوم تحيّة صباحيّة على صفحتي على (الفيسبوك):

 

   [صدري يُشبهُ واحات حُلُمٍ، وركضُ خُيولكَ الجامحةَ لا يتوقّف، وكان عليّ أن أزرع موْجَ شوق على وِسَادتكَ، وكان على المرايا أن تُريَني وجهي.. كما تعرفَه]. جاءت هذه الكلمات كشحنة عظيمة مملوءة أملًا وتفاؤلًا، وبَلْسَماً شافياً، في توقيتها الصحيح.

  

   وها أنا اللّاجئ أتخشّبُ وحيدًا كَصَنَمٍ منبوذٍ، على بُوَّابة المُخيّم. الحُرَّاس من أمامي، والحدود من خلفي. اِلتَفَتُّ إلى الخلف، وتَفَفْتُ ثلاث مرّات على حالتي الذَّليلة.

  

ولأنّ الظلام يلفّ غفلتي، لم ينتبه أحدًا لفِعلتي. صوتُ الحرّاس يقرعُ سمعي؛ فيُخْرجني من عُزلة غَفلتي؛ لِحثّي، وممن هُم حَوْلي على التحرّك، والدخول؛ فحملتُ حقيبتي، وتفقّدتُ أولادي، بخُطوات قليلة بطيئة؛ وطئت قدماي عتبةَ المخيّم، وأنا أردّد عبارتي الشهيرة:

"لا عتب لي إلاّ على من باع". و"كلُّ أرضٍ تُنبتُ الحبَّ وطن"* ]

ـــــــــــــــــــــــــــ (النص مقتبس من رواية الطريق إلى الزعتري – الروائي محمد فتحي المقداد)

*مقولة للشاعر محمود درويش.

***

(4)

      في زمن الأزمات يتبدّد اليقين ضَياعًا على أعتاب تناقضات الأشكال غير المُتوافقة. ضبابيّة الرّؤية لهذه المتناقضات، خلقتْ رُؤىً جديدة بمخالفة نَمطيّةِ الواقع؛ انتقالًا لمساحات مفتوحة أتاحَت المُراقبة التأمليّة لِمَسْلكٍ يكاد أن يكون آمنًا لي.

   لكي لا تتعرّض مَحاور فكرتي إلى الشكّ والتشكيك، ولا أن تكون فيما بعد؛ مطعونة مَوْصُومَة على أنّها فكرة هُلاميَّة التعاطي مع الحدث، أخطبوطيّةٍ واهِمَةٍ بكَذِبِها، وتحريفها، أو ذات محورٍ أُحَاديٍّ؛ أرجوها مفتاحًا لأبواب ونوافذ الحوار الرّحبة، حاضرًا ومُستقبلًا بين فُرقاء القضيّة، ومُراقبيها، ومُنتقديها، ومُؤيّديها، ومُعارضيها.

  

    وإذا كان نَسْجُ هذه الرّواية قد اقتضى المُراوحة الزمنيّة بين عوالم التفكير والتأمّل، فإنّي أطمحُ لها القَبول لدى القارئ العربيّ، وإذا ما تُرجمت للقارئ الأجنبيّ؛ فسيكون الأمر مُراوحًا، وأكثر تعقيدًا، وتدويخًا تحت مِطْرَقة الدّراسات البحثيّة عندهم، التي لا تقبل الجمع بين المُتناقضات في ذات القضيّة الواحدة، منهجيَّة البحث بمقدّماتها السّليمة، من المُفترَض بالنَّتائج المُتوافقة مع المُقدِّمات، ليحصل الإقناع التّام.

    ربّما أُبرّرُ دوافعي العودة إلى كتابتي في مِحْورٍ، بعدما ظننتُ نفسي أنّي أوفيته حقّه، لكن تبيّن بُطلان ما ظننته سابقًا، لأنّ التقصير هنا هو ارتباك حقيقيّ، فيما أعتقدُ من مُعارضتي الذاتيّة غير المُنتمية حزبيًّا لأيّ اتّجاه، سوى تيّار سوريّتي، وحُبّي لها، أو بمثل تعقيداتها المُتشعبّة بكثرة توجّهاتها، التي يعجز المُراقب عن الإحاطة بها جميعًا.

 

   ولربّما من قائل يقول: إنّ هذا جنون وتخريف، ولا يُمكن أن يُسِرَّ به صاحبه أو يحكيه هَمْسًا، إلّا في أذُن طبيبٍ نَفْسَانيٍّ، وأنا مُدرِكٌ حقيقة بأنّ الكتابة الصَّريحة بواقعيّتها؛ ستعيش، وستبقى حتّى بعد مَوْتي، وإنُ كُّذِّبت حينًا، أو غَطَّتها غشاوات الكذب والتضليل الإعلاميّ.

   بل يتوجّبُ عليّ الإضافة بهذه الرّواية (خلف الباب)؛ لتُكمل سِفر ثورتنا المجيدة ذات البُعد الإنسانيّ، بعد عِقدٍ لم أُعْلن للمَلَأِ هزيمتي أو استسلامي على الأقلّ، لكنّي.. ما زلتُ أرى نافذة عالية ساميةً يأتيني منها نور، عِلمًاً أنّني لم أستطع النّصر إلى هذه اللّحظة المُكافحة بعنادها على صَوابيِّة موقفها، وما يضيرني مخالفتي للعُموم الجازع المهزوم نفسيًّا.

   مقولة الرّافعيِّ كما أحفظها من (وحي القلم): فإنّه "لا تَتِمّ فائدة الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ، إلّا إذا اِنْتقلتِ النَّفس من شُعورٍ إلى شُعور؛ فإذا سافرَ معكَ الهَمُّ؛ فأنتَ مقيمٌ لم تبرح”.

   وهو ما لم يتحقّق لي من استقرارٍ نفسيّ وعاطفيّ، إلّا عندما عثرتُ مُجدّدًا على صديقيَّ (محمد الفهري أبو فندي، وفاضل السّلمان)، حتّى، وإن كان اللّقاء اِفْتراضيًّا؛ نسبحُ جميعًا في لُجّةِ فضاءٍ رقَميٍّ أزرق، رغم ذلك استعدتُ شيئًا من توازني النفسيّ، وحاولتُ من جديد أمدّ الخطوط استقامة بعد انطوائها، وأيقنتُ أنْ لا أهميّة لبداية التاريخ، أو نهايته على رأي (فوكوياما)، إذا لم تكن ذات تأثير يُذكر في ظلّ وضعي الرّاهن، مع مَنْ كُنتُ أتمنّى لقاءهم، ولو عبر الأنترنت.

   باعتقادي أنّ اللّقاء سيصنع تاريخًا جديدًا رطبًا؛ يُندّي قُلوبًا طالتها يد الجفاف سنينًا تناءت بنا؛ باستعادة البدايات على وجه الدِّقَّة واليقين، طازجة كيوم حُدُوثها.

   ذات مرّة أخبرني صديقي رياض المعلوف، نقلًا عن صديقه (ليون الأفريقي) الشّهير؛ عبر رسالة على الماسنجر: (في كلّ طائفة عُصاةٌ، يُلعَنون في العَلَنِ، ويُدعَى لهُم في السِّرِّ). كنتُ أظنّ أنّني من أولئك العُصاة، إعادة ترتيب حساباتي بدقّة أفضل ممّا كان سابقًا، والأخذ بالأولويّات الرّاسخة برسوخ وطنٍ كان. ولا أرجو من لَعَنَاتٍ تُلاحقني علانيّة، ولا بدعاء الخائفين والمُنافقين سِرًّا.

   الوُضوح غايةٌ، وليس وسيلةً. وما نَفْعُ الوُقوف في النّقطة الرماديّة. هناك فرق كبير بين من هو في بؤرة الحدث، وبين مُراقبٍ يُصفِّقَ في قلبه، وأفكاره الواهِمَة مَرْتعًا فسيحًا للأقوى، الرّماديّة ضارّة في اقترانها في الجانب الآخر الأسود، وهي أقرب له في كثير من مُعطياتها؛ بل هي مَطَبٌّ تتساقط عنده أكثر الأوراق، وتتعرّى الحقائق.  

..*..

ملأأ

   بحثي الدّائم مُختلفٌ تمامًا عن الثرثرة المُتأجّجة في دَوَاخلي لا تهدأ، وأحيانًا أخرجُ للآخرين بأحاديث؛ لاستجلاء بعض ما غَمُضَ وغاب عنّي. تعدُّد الرُّؤى يُوَسِّع مجال القرار النهائيِّ لكلّ حدث.

  

   في كلّ ما كتبتُ، وما فكَّرتُ به ما زالت نهاياته مفتوحة، الحَدَث لم يتوقّف، وإنْ اِسْتطال استغراقه للزّمن، ولم تتضّح حقيقة النِّهايات بعْدُ. كثيرًا ما تموتُ البدايات قهرًا على أعتاب الانتظار المأزوم.

 

   وما هي حقيقة النهايات المفتوحة..!!؟ كأنّها بُوابّاتٌ أضاعت مفاتيحها بتقادُم الزّمان عليها، وبقيت مُستباحةً للعابرين بلا قيْد ولا شرط.  جهلُ آخر النّهايات حريٌّ به إيقاف نُبوءات، وتوقّعات بأبعاد تأويليّة تَتَجافى مع مُستجدّات واقع جديد، سيفرض نفسه تحت مُسميّات مُستحدثة، وحتّى لا تكون رواية خلف الباب رجمًا بالغيب؛ رجعتُ للرُّؤية الوثيقة الصّلة بالواضح، وما استبانَت مُخرجاته بدقّة مُتفاوتة النِّسبة من الصِّحة.

 

   في صباح يوم شتويٍّ بارد.. اِنْهالتْ الأفكار اِنْهمارًا على وقع احتمال نوافذ البيت. ارتطامُ المطر المُستمرّ طوال اللَّيل، مُنَبِّهٌ لي على مدار السّاعة يوقِظُ أحاسيسي، أرفعُ رأسي.. أُطلِقُ نظراتي عبر الزّجاج المُعتّم بالبخار  الذي يكسوه، لا بُدّ من استخدام إحدى يديّ، أبحثُ عن ورقة منديلٍ لأمسحَ بها. تعبَثُ يداي تحت المَخدَّة السّاخنة؛ لا شيء.

  

   اليُسرى تخرجُ دافئة تتلمّس طاولة صغيرةً جانب السّرير، تلتقطُ بقايا مِنديلٍ مُستعملٍ سابقًا. بعد مَسْح البلّلور؛ تتّضح حبّات المطر  متلألئة على أضواء الشّارع الجانبيّ الصّفراء؛ فتتلوّن بِلَوْنها الذّهبيِّ، الذي يتمنّاه المُغْرَم بالغِنَى والثّراء. غرامي يتجدّد أملًا جديدًا مع كُلّ قطرة مطر.

  

   (مطر.. مطر.. مطر) يتردّد ذِكْرُ السَيَّاب اِسْتحضارًا في دماغي، وعلى لساني، مُحاولًا استذكار بعضًا من أُنشودته الخالدة؛ فلم يُجد جُهدي سِوى العُنوانَ فقط، وكلمة مطر المُكرّرة. شعورٌ داهمٌ بالخيبة من ذاكرة واهنة؛ تتراخى حدّ التَّزامُن مع نومي، وخُلود كامل أعضاء الجسم للنّوم.

 

   تداعيات الأفكار سلبتني النَّوم.. كلما دوّنت فكرة؛ أحاول الخُلود للنَّوم ساعة؛ أستعيد بها قواي. لمتابعة يوم عمل طويل، أحتاجُ فيه للتركيز والثبات. بدل التَّثاؤُب المُزعج للزبائن إذا ما جاؤوني.

 

   مكاني الذي يليق بي خَلْف متاريس أفكاري، لا أستطيعُ الفكاكَ منها، ولا هي تنفكّ منّي إذا ما حاولت ذلك. التَمَتْرُسُ قُوّةٌ وضعفٌ في آنٍ واحد.

 

.. *..

 

 

 

 

   عندما يتقزّم الوطن بحجم خيمة.. تَصغُر الحياة وتَهون.. تَموتُ الأحلام الكبيرة.. تنطفئ الآمال.. بعد ذلك فلا مُستقبلَ يُرتَجى.. يُصبح رغيف الخبز أغلى الأماني. يا لخيبة الحياة في زمن للحروب، تُعْتِم جميع دروبها، والبحث عن النَّجاة بالنفس.

 

لُيون الأفريقي لم يتردّد بالإفصاح عن مكنونات دواخله المُتعبة المُرهقَة، وهو في حديث طويل مع صاحبه رياض معلوف، أثناء روايته حكايته: (عندما يلوحُ لك ضيق عُقول النّاس؛ فَقُل لنفسكَ أرضُ الله واسعة، ورحبةٌ هي يداه وقلبه. ولا تتردّد قطّ في الابتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع التُّخوم، والأوطان والمُعتقدات).

 

   صباحُ الزوجةِ (زوجة فاضل) مُزدحمٌ بأفكار، لا تجد اللّحظة المُناسبة للإفصاح عمّا يدور في ذهنها، انتقالها من إلى الغرفة الأخرى بعصبيّة تَكْظُمُها في قلبها، لسانُها مُتجمِّد؛ كأنّ فمها قارّة القُطُب.

 

   عيناها زائغتان لا تتركزان على شيء مُحدّد. مُشاغبات الأولاد لا تُلقي لهم بالًا على خلاف عادتها بتهدئة الجوّ، وتبريد حرارة الاحتكاك بينهم. طلب النّجدة من أحدهم لإنقاذه من أخيه الجالس بجانبه، وفمه مليء بالطَّعام، وآخر شرب الشّاي من كأس أخيه، وما إن كفكف دموعه، حتّى وجدَ صحنَ البَيْض المقليّ فارغًا: "ماما.. يا ماما.. هذا فجعان.. أكلَ بلقمة كبيرة أنهى البيض، لم يترك لي شيئًا".

 

   تشاكيهم طالَ، وهم جلوس حول المائدة، الماما تتفّقد الخزائن والحقائب؛ لاستخراج الملابس الشتويّة المرفوعة على السّقيفة منذ انتهاء موسم الشّتاء في السَّنة الماضية. عملٌ موسميّ يستنزفُ وقتها على مدار أيّام؛ لإعادة ترتيبها في أماكنها المُخصَّصة لأفراد الأسرة كلّ في مكانه.

 

.. *..

 

ملاحظة فاضل السلمان في السّويد

الرسالة الأولى من فاضل السمان (السويد)

   بعد الرّسالة الأولى من أبي فندي، وما تلاها من تفاعلات جدّدت الجُرح في نفسي على مدار سبوع كامل، أعادتني للأيّام الأولى من عُمر الثّورة، لم أتنفّس نسائم الحياة مُجدّدًا؛ طاقة حيويّة اجتاحتني، ودقّت أوتاد النّسيان في جنبات نفسي، بثّت فرحًا عميقًا في أوصالي، على إثره شذّبتُ شعر رأسي ولحيتي عند الحلّاق، خطوط اللِّحْية رسمتْ حدودَ ملامح وسامة قديمة، انمحت كثيرًا من مُعطياتها. 

 

   ما إن ذهبت إلى البريد الإلكترونيّ في يومي الموعود من كلّ أسبوع لفتحه، حتّى توقّفتُ عند رسالة من صديقي فاضل المُقيم في ألمانيا، أمّا وقد اكتسب الجنسيّة، بعد استكمال مراحل الاندماج على مدار سنوات، من تعلّم اللّغة والتدريب، حتّى انطبقت عليه الشّروط، مع تطابق الفترة الزمنيّة المُستمرّة في إقامته. رغم أنّه كان ينوي الاستقرار في مملكة السُّويْد، يبدو أن عناد الظّروف هو ما حال بينه، وبين إكمال مشواره.

 

   غالبتني الدّموع المُتساقطة على لوحة مفاتيح جهاز الحاسوب، مع كلّ كلمة أقرأها:

 

   [انتظار مُمِلٌّ مُقرِفٌ أمام (كرفانات) مكاتب مُفوضيّة اللّاجئين في (الكامب) المُنفصل عن ساحات المخيّم بأسلاك معدنيّة متينة، الدّخول إليها مُتاح عبر بُوَّابة وحيدة؛ تُفضي إلى ممرّات تتعرّج مُلتويةً كأفعى تلتفّ على نفسها، غير آبهةٍ بما يجري حولها، تحترسُ من أيّ خطر داهم مفاجئ. 

 

   رجُلُ أمْن أسمر البشرة شارباه يتدلّيان كذَيْل غراب، تختفي تحتهما شفتان غليظتان كَمِشْفَريْ جَمَلٍ، خطوط الزّمن حفرت مساربها على جبهته، عيناه واسعتان بلونهما البُنيّ الدّاكن، صرامة ملامحه رواية بوليسيّة تبثّ الرّعب في نفس قارئها، تأخذ بتلابيبه لمتابعة الحدث المشوّق لبلوغ النِّهاية، وانتصار البطل على أعدائه.

 

   إشارة معيّنة من يده، مَتبوعة بحركة اهتزاز من رأسه، مُترافقة مع رفع حاجبه الأيمن للأعلى، مما يعمّق خطوط جبهته كخطوط ممرّات إنسانيّة آمنة صالحة لخروج الُمحاصرين باتّفاقات مُعقّدة عبارة عن خارطة طريق فقط، وبضمانة وساطات أُمَميّة، عيون من تجمّع اللّاجئين الجالسين على إسْفِلْت السّاحة الواسعة مُتعلّقة به تنغرز نظراتها في وجهه، والأسماع مرهفة للتمكّن من معرفة الاسم الذي يُنادي عليه ذلك الحارس الجامد كَصَنَم لا يبرح مكانه أبدًا.

..*..

 

   من الأن فصاعدًا صرت من رعايا دولة الـ ( (UNالأُمَميّة، وقّع هنا على استلام بطاقتك الرقميّة، حافِظ عليها.

 

-"احذر المساس بالشريط الأسود اللّاصق على خلفيّتها؛ فإنّه يحتوي على كافّة معلوماتك الشخصيّة، ومن خلاله نتعاملُ معكَ، لأنّك أصبحتَ تحت حمايتنا، ألف مبارك؛ صرت الآن لاجئًا، وستحصل على كلّ امتيازاتك المُتاحة لك، اعتبارًا من الخَيْمة والبَطّانِيّة وكوبون الخبز"

   تأمّلتُ بقايا من نضارة قديمة باهتة على وجه الموظّفة. صرامةُ ملامحها حادّة كقرارات الأمم المتّحدة القاسية، ومُقرّراتها التي لا ترحم مَنْ صَدَرت لأجلهم. مكتب الكَرَفان نظيف أنيق بطاولته الخشبيّة البيضاء، والموظّفة جالسة خلفها، وعن يمينها طابعة موصولة بجهاز (اللّابْتُوب).

  

   تمدّ يدها لسحب أوراقٍ منها، وإيداعها في مصنّف حَوَى ملفّات ممن سبقوني بالدخول. زوجتي تجلس على الكرسيِّ المقابل لي أمام الطاولة, على صدرها الطفل سامر. يلهو بمصّ الحليب من ثَدْيِها، المُغطّى بطرف منديل رأسها المُتدلّي على صدرها. الطفل لم يتجاوز عمره الأربعة أشهر، ذكرى مولده كان يوم اعتقالي.

 

   تاريخ لن يُنسى، سيبقى محفورًا في سُويداء قلبي. والطفل (مَجْد) ذو الثلاث سنوات، عيناه تدوران في رأسه كَلَوْلَبٍ دائمِ الدَّوَران. مُتّكِئٌ على رِجْل أمّه الثابتة على أرضيّة مكتب (الكَرَفان).

 

   صامتٌ درجة السُّكون على غير عادته. وجهه يحكي ألف وألف حكاية، رغم أنّه لم يفهم شيئًا مما سِمعَ ورأى، فقط اِنْتبهَ حينما أجابت أمّه على سؤال الموظّفة عن اِسْميْ وعُمْرَيْ طِفليْها].

*النص مقتبس من رواية فوق الأرض للروائي محمد فتحي المقداد). 

..*..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(5)

ملاحظة (أبو فندي) استقرّ في النورماندي شمال فرنسا

 

 

*الرسالة الثانية من أبي فندي

   أخي فطين سأعلنُ عمّا تُخفيه نفسي بصراحة افتقدناها لزمان طويل، أرجو الأخذ بعين الاعتبار: تباعد الوقت بنا. هذا التباعد أتاح لي عقلانيّة الرّؤية، ضمن مساحة فسيحة من التفكير بشكل حُرٍّ، بعيدًا من عوامل الخوف التي كانت قائمةً، كي أستطيع البوْح بها بوضوح تامٍّ.

   بعد بحبوحة العيش انكمشت الحياة حدّ القبضة، بيتي إذا اعتبرتُه وطني الصَّغير؛ فقد أصبح خيمة. نقلة نوعيّة على كامل المُستويات، والوطن الكبير الذي احتواني، وقلبي احتواه. اللّجوءِ قزّم مفهوم الوطن في المخيّم هنا  مُجرّد مَلاذٍ آمن.

   لعلّي أقول لكَ: إنّها نبوءة شاعر مأفون، نزار قباني لمّا وصلت به الأمور إلى الطّريق المسدود؛ صار الوطن عنده بحجم عُلبة السّردين لإشباع جوع بطنه، وقرص الأسبرين لتسكين آلامه.

   الجدارُ عارٍ عن نفسه، ومن نفسه. دقّقتُ النّظر.. لم ألمحهُ..!!. قبل قليلٍ ظننتُ أنّه هو. الولدُ يلعبُ في الخارج، ضَرَبَ بِعصاهُ؛ فاهتزّتِ الخيمةُ بأكملها.

   غُصّة في قلبي كلّما اختليْتُ بنفسي، اختلاطي بِهُموم يَوْمِيّاتي يأخذني بعيدًا في متاهاته، أخرُجُ من طور ذاتي لتذويب مشاكلي الخاصّة في كؤوس أصدقائي الجُدُد في بلاد التَّوْطين.

    بل هو التَّوْطين وإعادة غسيل دماغي تمهيدًا لدمجي. قضيّة الدّمج عندما أفكّر بها: أعتبرُها تغييرًا جوهريًّا  طرَأَ على دواخلي، مَحْوٌ لسابق حياتي، وبداية جديدة، تترافق مع كثيرين ممن وُطّنوا مثلي، مطلوب مِنّي نسيان كلّ شيء، شَرْقِيّتي مُختلفة عن غَرْبِيّتِهم. كيف لي أن أهدم صرح ذاتي، وأُعيد بناءه جديدًا بمواصفات مختلفة.

   لا أستطيعُ الجزم في استطاعتي للتكيّف مع الوضع  المُستجدّ، يغلبُ على ظنّي وتفكيري، العَوْدة بعد وبعد.. بعد أن ينعُمَ وطني بالهدوء والأمان، وحُصولي على الجِنسيّة مَطْمحُ كلِّ من وَصَل منّا، ومن لم يَصِل إلى هذه البلاد.

   في يومنا الأوّل في المُخيّم، كان لقائي الأوّل مع نفسي بعدما خَلَدَ الجميع لسُلطان النّوم، من تعبِ وإرْهاقِ الأيّام الماضية. تساؤلات مُرهقة طاولت لحظة هُبُوطي إلى الحياة من بطن أمّي.

   الخيمة بيت لا تُحقّق أبسط شيء من اِسْتقلاليّتي، ولا تحمي خُصوصيّتي، شُعوري بأنّها مُنتهَكة بتشاركها مع الآخرين. لا خُصوصيّة في خيمة.

   جدرانها متهاوية..  تحوَّلت من أربعةٍ قائمةٍ متقابلةٍ مُتناظرةٍ بتآلفٍ، إلى جداران مُتَعَاشِقان، لم يحتملان افتراقهما بهذا البُعاد، وأنا أُناظرهما، عندما هَوَيَا بِرأسيْهما؛ فتلاصقا.

   غير آبِهَيْن بأنّني بينهما، أنقّبُ في أشواقي المُعتّقة في لُجّة مَتَاهات النّسيان. ونَسِيا حالهما في عناقٍ طويلٍ اِسْتَبدّ بهما، يغترفان حبّهما، وقد اِحْتَوياني بينهما كجنين بانتظار لحظة المخاض.

   كلّ الأبواب التي دخلتُ وخرجتُ منها في حياتي، كانت في أغلبها ذات شكل مُستطيل، أدخلُ منها رافعًا رأس، شامخًا. أمّا الخيمة فلا أستطيعُ اِجْتيازَ بابها المُثلثيِّ إلّا مُنحنيًا، والبُومة ثابتةٌ قُبالتي هُناك على عمودٍ حَديديٍّ حاسِرَ الرَّأس؛ بانتظار أسلاك الكَهْرُباء؛ لِيُنير عَتْمَتنا، رغم أكْداس الظلام  الهائلة، إلّا من بقايا ضوءٍ خافِتٍ قبل اختفاء القمر في آخر حياته من هذا الشهر.

   تأكّدتُ أنّها هي نفسها البُومة.. نعم بذاتها..!! هي التي راقبتنا ليلة خروجنا من بيتنا خُفيَة تحت جُنح الظلام، هناك نَعَقَت بشدّة غير مُكترثةٍ بأصوات رَشَقات الرّصاص المُتقّطعة بين الفَيْنَة والأخرى، تَشُقّ صمت الهُدوء الحذر عند توقّف الاشتباكات القريبة نِسبِيًّا من حارتنا.

   أذكرُ لكَ يا صديقي فطين: أنّه كلّما تأتيني ذكرى تلكَ الأيّام لا أعادها الله؛ تَعتَصِرُ الآلام قلبي، تتجدّد كما لو أنّها تَنِزّ دَمًا الآن: يومها كان خوفي على أطفالي الصّغار من إصابة أحدهم بِمِكروه، والبومة تنعق.. تصيحُ بنا هيّا اُهْربُوا للنجاة بأنفسكم، ولا أظنُّ إلّا أنَّها؛ ستكون شاهدةً على الخَرَاب والدّمار مُنذ بدايته، وعايَنَتْ خوفَنا وذُلّنا وهروبنا.

   وها هي حزينة ابتلعت شجاعتها، لم تشأ كَسْر خواطِرَنا، وهي ترانا في اللَحظة التّاريخيّة الغارقة بتجاعيدها.

+الكلام هنا لفطين:

   لم أستطِع السّيطرة على مشاعري، وأنا أقرأُ رسالة صديقي (أبو فندي)، المُقيمُ في الرّيف الشماليّ الفرنسيّ، حصرًا في (النُّورماندي) على شاطئ الأطلسيّ.

   في صغري عرفتُ كلمة (النُّورماندي) من خلال الدِّعايات لأجهزة التِلْفزيونات المُلوّنة، ومازال وَجْه فتاة الإعلان الصّبوح بابتسامته السّاحرة، وطولها الفارع المكسوّ بثياب مُزركَشةٍ، وهي تُردّدُ كلمات الإعلان عن ماركة الجهاز المُلَوّن بنظام (بال وسيكام) بغَنَجٍ مُغرٍ.

   حقيقة إلى الآن لم أعرف معنى هذا المصطلح التقنيّ. بينما تابعتُ بعض البرامج عن إنْزال القُوّات الأمريكيّة الشّهير على شواطئ النُّورماندي، وانتهاء الحرب العالميّة الثانية بانتصار دول الحلفاء (أمريكا وبريطانيا وفرنسا مع الاتحاد السُّوفييتي)، على دُوَل المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان).

***

   دموع تتجاوز سيطرتي تفرّ من عينيّ؛ كحبّات لؤلؤيّة تتساقط إحداها في فواصل لوحة (الكيبورد)، قبل وصول يدي حاملة المنديل لتجفيفها، ليت الذي بين يديّ كان دفترًا ورقيًّا، يحتفظ بأثر الدَّمعة، لأكتب تاريخًا مٌميّزًا؛ لحالة حُزن فريدة بتعاستها، وعلى الأخَصِّ، والأشواق تحوّلت إلى أشواك، ناخزة كلّ خليّة في جسمي، بتأنيبٍ عِقابيٍّ انقطع عنّي منذ فترة بعيدة؛ ليُعاودني هذه اللّحظة العائدة إلى ذكرياتٍ مُدرجةٍ في قوائمِ النّسيانِ، وأنا أقرأ ما كتب صديقي (أبو فندي).

   فُنجان القهوة اختفى بُخاره تمامًا، وتلاشت سُخونته، تغيّر مَذاقه، وتوافق مع تغيّر مِزاجي؛ رشفةٌ خفيفةٌ أعادت لي شيئًا من صَحْوي؛ نفضتُ جَحيمَ الأشواكِ؛ مُجدّدًا ذَهَبَتْ بي إلى رحاب أشواقي، وتابعتُ:

"ما أتعسَ المرء، حينما تتحوّل أشواقه إلى أشواك". عبارة أوقَفْتني في دهاليزها المُظلمة، أخذَتْني بعيدًا بعيدا، ليتَكَ ما كتبْتَها يا صديقي.

ولكنْ ما أتعسني..!! وأنا المُتوقّف عند البدايات، التي لا تبرحُ ساحة تفكيري ساعة واحدة من ليلٍ أو نهار، رغم سَعَة العَيْش الهانِئ الرّغيد كما تعرِف، ربّما أكونُ محسودًا عليه من آخرين.  

    إنّها خيمةٌ يا فطين.. وما أدراكَ ما الخيمة..!!.. أبدًا ليست كخيمة جيراننا في كَرْم العِنَب أيّام موسم الصَّيْف، ولا مثل التي سَكَنْتُها أثناء خدمتي العسكريَّة، كَرَاهتي لها..!!، مثلما كرهتُ تلكَ التي كانت تنتصبُ على الحاجز في وسط بلدتنا.. ألَا تذكرها، أسمعُ صوت ارتطام عنيف خارج الخيمة، استعادني من رحلة بعيدة في مجاهل الزّمان الغابر".

الكلام لفطين

   -"نعم أذكرُها..!!".

   أظنُّ أنّني رَدَدتُ على نفسي، وأنا أقرأُ.. ولم أسمع صوته حقيقة، لكنّي كأنّي سمعته، هكذا خُيّلَ لي، اِلْتفتُّ حَوْلي؛ لأجدَ الجُدران تُراقبي بدقّة، بانتظار اقتناص أدني حركة أو كلمة.. أحسستُ بحركة لساني ناطقًا: "الحمد لله لم يسمعني أحد".  

   "كأنّ المُخيّم اشتُقَّ اسمه من تجمّع الخِيَام، سبحان الله..!! حتّى خيم النَّوَرْ (الغجر) أطلقوا عليها: خرابيش النّور، أو بيوت النّوَر كما بُيوت الشَّعْرِ للبَدْوِ؛ المنسوجة من صوف الغنم ووبر الماعز. برغم أنّها تجمّعات للخيام، لم يُطلق عليها لفظ مُخيّم التي ارتسمت صورته مُسبقًا في الأذهان. كأنّي بكلمة المُخيّم أصبحت مُصطلحًا رديفًا للحروب والنَّكبات، عندما أخذ منحىً آخر؛ فالخِيَم منذ عام ألف وتسعمئة وثمان وأربعين، ومأساة فلسطين أصبحت لغة عالميّة، مختومة بشعار هيئة الأمم ((UN موضة العصر الحديث، حروب وقتال ودمار وتشريد ومخيّمات".

..*..

الكلام هنا أبو فندي

   "وصلنا في ساعة مُتأخّرة من اللّيل بعد اجتيازنا خطّ الحدود، خيمة عظيمة الحجم ابتعلت الوافدين الجُدُد في بطنها، افترشنا ساحتها مُنزوين في زاوية منها، مُتشاركين المكان المُعدِّ سابقًا من أجلنا، أخذ منّا التّعب كلّ مأخذ على مدار ثلاثة أيّام سابقة، بعد أن أنعمت علينا الإدارة عند وصولنا ببطانيّتَيْن لكلِّ فَرْدٍ، حملتُ عشرةً منها، تدبّرنا بها ما تبَقّي من تلك اللّيلة.

   هواتفنا النّقالة التي رافقتنا رحلتنا من هُناك، خرجت عن الخدمة لا حرارة فيها، غادرتها الحياة كجَسَدٍ بارد مُتخشّب مُسجًّى بانتظار حمله إلى مأواه الأخير. كنّا بحاجة لطمـأنة الأهل بوصولنا سالمين.

   الأولادُ مُبكّرين جاؤوا مع شقشقة الظلام عن نور الصّباح، يدورون في أرجاء الخَيْمة الكبيرة، مُحتوياتها من البشر المُتكدِّسين فيها، تقريبًا هم بِتِعْداد سُكّان حارة مُتوّسطة.

    يعرضون علينا شراء شرائح لخطوط هاتفيّة، أخبرونا أنّها لشركات (زين وأمنية وأورانج)، بعد مُشاوراتٍ استقرَّ الرأي على الـ (زيْن)، قيل: "إنّها الأقوى"، مقارنة بما كان لديْنا من شرائح (سيرياتل، وإم تي إن)، وما تزال ذكرى انقطاع الكهرباء عنّا لمدّة أسبوعيْن؛ عقابًا جماعيًّا على الاحتجاجات بالمظاهرات السّلميّة، وتخفيض قوّة الاتّصال. مما أفقدَ الأجهزة الخِلْيَويّة أهميّتها.

   ما أشْبَه اليوم بالأمس مع فارقٍ كبيرٍ بالمعطيات التي بين أيْدينا الآن، ضمن هذا الحيّز الشّبيه بمعسكرات اعتقال دائمة.  

   مع استبدال الشّريحة السّوريّة بالأردنيّة، دبّ سَرَيان دماء الحياة في جهازي الـ((n70، أضاءت شاشته بأيْقُونات خدمة الزّين الجديدة، تجدّد الأملُ في نفسي بالتواصل من الأصدقاء داخل المُخيّم وخارجه.

   دندنةٌ تضجُ في رأسي على وَهْج طمأنينة تسرَّبت إلى نفسي: (يا مرسال المراسيل عالضَّيْعَة القريبي، خدلي بدربك هالمنديل، واعْطيه لحبيبي)، فيروز إدمان الصّباحات البعيدة، حضور صوتها الدّافئ فيّ، وكأنّني بانتظار قهوة الصّباح، رائحتُها تخلقُ انتعاشًا شَغوفًا بحبّ الحياة، بتفاؤل ضَغَطتُّ على كَبْسَات الموبايل أقلِّبُ قائمة الأسماء، وعيني على السّاعة. "أوه..!! يا إلهي ما زال الوقتُ مُبَكِّرًا".

   عادة في مثل هذا الوقت أكونُ مُسْتدفِئًا بحرارة الفِراش، أتقلّبُ في نومٍ عميقٍ مُسْتطابٍ، بعد سَهرٍ طويل على قنوات الأخبار، ومُتابعتها من خلال وسائل التواصل.

   الطَّريقُ المُحاذي للبيت، ضجيجُه لا يهدأ مع أصوات خُطُوات العابرين إلى مَقَرِّ حافلة البولمان المُسافرة إلى دمشق مع أوّل رحلة، ولا الموظّفين والعُمّال في القطّاع الخاصّ، المُبكّرين بالذّهاب إلى وظائفهم خاصّة في مركز المُحافظة، مُتَجنّبين الازدحام والتوقّف الذي ربّما يطول أمام الحواجز العديدة للتَّفتيش على طريق درعا.

   الصّغار كانوا مُرهقين مُتعبين ممّا مرّوا به ليلًا، ما زالوا نائمين حواسّهم صمّاء لا تستجيب للأصوات من حولهم، الضجيجُ يأخذ مداه في أرجاء الخيمة، اختلاطاتُ بكاءِ الأطفال الصّغار مع أصوات الصّاحين منهم، يملأ الأجواء، لا مجال للاستمتاع بنوم هادئ".  

   ساعة انتظار عادلت رحلة عُمُرًا بحثًا عن الذّات، أتعبتني بحثًا دؤوبًا بين صحوٍ وغفلة؟. مؤكّد أنّ المطلوب هو ذاتي..!!. رااااائع..!! نتيجة قويّة لم أستحصل عليها منذ زمن. كلّ المرايا حَوْلي وجدتُ فيها كلّ شيء، إلّا أنا.

ماذا لو ربحتُ العالمَ بأجمعه، وتوثَّقتُ بأسباب القُوّة والرّفاه بين يديّ، ولم أجِدْ نفسي في كلّ ذلك؟.

    اتّكائي على جدار، لا ليس جدارًا.. ولا أظنُّه، بل هو عمود الخيمة الكبيرة المتين، شَادِرُ الخيمة البلاستيكيّ حاجز باطن الخيمة عن داخلها، عَزَل عنها برودة الصّحراء القارسة ليلًا، واحتفظ بدفء المدافئ الغازيّة، التي تبثّ دفئها لمقاومة قساوة الطقس، لترطيب نُفوس الوافدين ليلًا، ومعظمهم يأتي ليلًا تحت جُنح الظّلام، ليكونوا بمنجاة بعيدين عن رؤية القنّاص، والعسكريّ صاحب الرّشاش وقد أخذ مكانه قريبًا من ذاك.

  حائلٌ يحولُ بين ظهري وعمود الخيمة الحديديّ، منع تسّرب برودته؛ المُتناغمة تَصاعدًا مع جُزئه المغروس بباطن الأرض وصولًا لأعلى نُقطه فيه، إضافة لما يكتسبه من محيطه.

   شيءٌ من البرودة المُنعشة اللّذيذة، بنسمات رقيقة تداعب وجهي، تستفزّ خاطري، يا إلهي ..!! إنّها مُحمّلة برائحة الوردة الجوريّة على مدخل بيتي، والياسمينة المُتعربشة على شُبّاك غرفة نومي.

   ويا بن زيدون ما بالُك الآن توقظُ مواجعي، بهذه النّسمات الأندلسيّة، التي لا تختلف عن نسمات حوران الأبيّة، كلّ الأوطان لها نسمات، لكنّها أصبحت برسم البُعد والهُجران، اختلفت مقاصدنا، فخطابُك لولّادة الحبيبة، وأنا لوطني المهجور، صدّقني يا بن زيدون، فالمرأة والوطن يُشعلان الوجود في القلوب. فكلاهما محبوب معشوق لي ولكَ، يا لها من نسمات كما نسماتكَ..!!، اِسْتَنْجَدناها سَوِيًّا؛ لأنّها أبلغتني رائحة التُّراب هُناك، وأنتَ تُرسلُ من خلالها، وتُحمّلها تحاياكَ إلى الأميرة ولّادة ابنة المُستكفي:

(يَا نسيمَ الصَّبَا بلّغْ تحيّتَنَا\\ مَنْ لَوْ على البُعْدِ حَيّا كان يحيِينا).

   تسمّرتْ نظراتي أمامي انغرست تُعاين حبّات الحصى البيضاء الوافدة على هذه البُقعة، لتخفيف حِدّة الغُبار المُتولّد على الدّوام، إذا ما ثارت هَبوب الرّيح صفة المكان الصّحراوي عُمومًا.

   أشكالها أحجامها المُتقاربة بتناسقٍ مُريب مُوشٍ بشيءٍ أجهلّ كُنْهَه هذه اللّحظة، وبما يُشبه المُتناقضات المُعاشَة في حياتنا، كأنّها مُجبرة بقُوّة على التعايش فيما بينها، كخيار وحيدٍ لا يقبلُ حقّ الاعتراض، تمامًا مِثلي، ومِثْلَنا جميعًا مُبرمجين للسير في طريق وحيد الاتّجاه، من غير المُمكن أبدًا للتجاوز فيه، خطر مُميت قاسٍ ينتظر الكلمة من الأفواه، ليُحكم حِباله وأسبابه حول الرّقاب، فالموت سيّد الحياة لا مناص، إلّا بقُدرة قادر.

   عابرون من أمامي كُثُر في اتّجاهات مُختلفة، تزداد أعدادهم وحركتهم في كلّ سنتيمتر تعلو فيه الشّمس مشرقها، الذي لا أراه لامتداد أكوام الخيام المُتلاصقة، في خطوط مُستقيمة طولًا وعرضًا، المساحات مُقسّمة بتوازن باعث للوهلة الأولى بتشكيل هندسيٍّ جميل، مُريحٍ للنّاظر، كمن يُعاينُ لوحة تكعيبيّة لبابلو بيكاسو، تفتح أُفقًا واسعًا للتأويل المُتباعد المُتقاربِ، المتناظر المُتنافر، المتناسق بأبعاده المُؤطّرة في لوحة بألوان غير مُتجانسة، خليط يصعبُ تحليل موادّه المكوّنة. 

   أمّ تحمل على صدرها صغرها، وتقود آخر بيده، والأكبر قليلًا مُتعلّقٌ بثوبها الأسود ذي النُّقوش الجميلة على صدرها وأكمامه، المتدليّة على كفيّها، أنا لم أرَ إلّا الكفّ التي من جهتي، ولا أعرف شيئًا عن الأخرى، علامات الإرهاق بادية على وجهها المُنبئ عن رفاه ودلال. لم تشأ نغمات بكاء الذي على صدرها، وشعره المنكوش غير المُهذّب بالتمشيط؛ يثير اشمئزازي، ونقمتي بلا مُبرّر على الأقلّ في هذه السّاعة عند الصّباح، أطفالي الذين ما زالوا يغطّون في نومهم ليسوا بأحسن حال.

   ما بال البُكاء تحوّل إلى نغمات..!!؟.

   يا إلهي ليس لديّ تفسير الآن..!!.

   إلّا أن للحزن أنغامًا اجتذبت بخيوطها العنكبوتيّة هؤلاء الأطفال، بالطّبع ونحن معهم إلى المُستنقع خلف الباب الجهنّميّ الكبير.

   نظراتي تابعت المرأة في مسيرها إلى أن انعطفت لليسار على طرف الخيمة الكبيرة، خمّنتُ  أنّها ذاهبة إلى ذاك المكان المقصود لنا جميعًا لتفريج هموم بطوننا، المُشتاقة للسّفرة الصبّاحية، مُؤكّد أنّه لم يَحن موعدها هنا، أتوقّع مع بداية الدّوام الرّسميّ لموظّفي مكاتب المُفوضيّة حوالي التّاسعة؛ ليكونوا مُستعدّين مُباشرة مهامّهم المُعتادة يوميًّا، لا.. لا.. لن تكون سُفرة إفطار صباحيّة كما اعتدنا هناك في بيوتنا، على الأغلب لن تعدو سوى وجبات جاهزة. المُهِمُّ الآن أن يُطعمونا, وكفى.

   دوافع انتفاخ بطني؛ جعلتني، وفور وصولنا في ساعة مُتأخّرةٍ؛ أسعى بسؤالٍ خجولٍ ممّن ألتقيهم، ولا أعرف أحدًا فيهم؛ أشارُوا لي إلى جهة ذهاب الأمّ مع أطفالها، تأكّدتُ النُسيْماتُ القادمة تحمل إلى أنفي رائحة مُقزّزة ما زالت عابقة في جُيوبي الأنفيّة؛ منذ ذهابي إلى هناك، مُجرّد أن تذكّرتُها.

   إحساسٌ مفاجئٌ برغبة الاستفراغ، أتلّمس طيّات جلد بطني الخاوي، وعصافيره تُزقزق من جوعها، كأنّها على أبواب مُفارقة الحياة انتحارًا.

   تلمّستُ أنفي المُحمّر بفعل فَرْكي له منذ دقائق، ضيق أنفاسي، كأنَّ اِلتهابَ الجيوب المُزمن عاودني، للأسف لم أستطع تذكّر جلب عُلبة العلاج الذي آخذه بانتظام له، عندما تشتدّ الحالة.

   جلستُ بِمُؤخِّرتي على الأرض بدل القُرفصاء، غير آبِهٍ بنتوءات الحَصَى، ورُؤوسها الحادّة النّاخِزة، مددتُ رجليّ، لمحاولة أخذ نَفَس عميق عدّة مرّات، لاستجلاب الأوكسجين لِرِئتَيَّ، ضيقٌ يملأ قفَصِي الصّدريّ، كأنّني على وشك الاختناق.

   أرى اقتراب النّهاية بين عينيّ، أغمضتُهُما أثناء عمليّة الشّهيق السَّريعة، والزّفير أنفثُه ببطء على دُفُعات، لماذا.. لا أدري..!!.


   أُنفّذُ ما سمعتُه قديمًا من طبيب أثناء مُتابعتي لبرنامج الصّحة والحياة الأسبوعيّ على التّلفزيون، ألهذه الدّرجة كانوا حريصين على صحّتنا، ويشتغلون من أجلنا؟.

 

*هنا فكرة الصرصور  واحتكاكه بأحد رجليّ أبي فندي:

    كَشّ جسدي كأنّ ماسًّا كُهربائيًّا صَعَقه، اهتزّت أعضائي، اِنتفضتُ مَرعوبًا مَذهُولًا من استغراقي مُبتعِدًا كثيرًا بمسافات عظيمة عمّا أنا فيه.

    سحبتُ النّفَس الأخير، ما زالت عينايَ مُغمضتيْن مُسْبَلتيْن مُسترخيتيْن.. مُحاولتي العاجلة بفتحهما أو إحداهما؛ لأرى ما حصل، باءت بالفشل؛ استجابةٌ بطيئةٌ لأوامر فوريّة عاجلة، بانتظار اتّخاذ القرار المُناسب للحدث الطّارئ، لا بدّ من تدخُّل يدي لِعَرْك جفنيّ، لتنشطيهما.

   صُرصور ينتظر..!! من ينتظر؟ حقيقة لا أعرف..، خُيّل لي أنّه، أو أنّني من يقفُ على حاجزٍ بانتظار تصريح العسكريّ له بالمرور، بعد التّفتيش الدّقيق، والتَّفْيِّيش على البِطاقات الشَّخصيَّة، إن كان أحدٌ من أصحابها مطلوبًا للجهات الأمنيّة.

   قَرْنا الاستشعار يتحسّسان شُعَيْرات ما فوق كَاحِلي، وقد انكشفَ عنهُما حِجْلُ بنطال الجينز الفضفاض. شعرت بهدوء أعصابي، ما تبادر إلى ذهني عندها إلّا الأفعى، رغم تأكدّي أنّها في مثل هذا الوقت من السَّنَة الباردة لا يمكن أن تظهر. لم يخطر ببالي الصّرصور أبدًا.

   تُرى هل أعجبته لُعبة العبث بِشَعْر ساقي. هل يعلمُ أنّها ساقي، وأنّني بني آدم قادر على سحقه بحركة بسيطة منّي؟.

   ما الذي جاء بك في هذا التّوقيت اللّعين؟.

   مُؤكّدٌ أنّه أجابني: بل ما الذي جاء بكَ أنتَ إلى هُنا؟.

  هل أعجبتكَ ساقي لتُداعِبَها، ألَمْ تعلم بأنّها ليست ساقًا مرغوبة لامرأة؟.  

   لا.. أبدًا .. فقد خابت ظنونكَ؟.

   أوُه.. يا لوقاحتكَ أيُّها الصُّرصور..!!.

   لا أدري من منّا الوَقِح حقيقة.. الذي يحجز طريق الآخرين، ويمنعهم، ويؤخّرهم عن أعمالهم، أمّن هو مثلي ذاهب في سبيله قاصِدًا باب الله؟.

   كأنّني سمعتُ ما قال، أظنّ أنّه ما تكلّم بشيء ما. لكنّه أَلْجَمَني عن تأنيبه، وإلقاء اللّوم عليه. لم تُخبرني ما الذي جاء بك إلى هُنا؟.

  الذي جاء بكَ، هو السبّب.

   آه.. يعني أنّكَ لستَ من أهل هذه المنطقة الأصليّين؟.

   كأنّه راقَ له الاعتراف.

   كنتُ مُختبئًا بين ثنايا ملابس صاحب البيت الذي كنتُ فيه، ولفترة طويلة كانوا مشغولين بما حصل في البلد هُناك، ونَسُوا المُبيدات التي كانوا يُحضرونها في العادة، وهو ما أبقاني على قيدِ الحياةِ، فقلتُ: "كيف لي أن أبقى وحيدًا بين الخراب والدّمار، بعد مُغادرتهم إلى المُخيّم، ما إن فتحتِ السيّدة حقيبة الملابس، وجدتُ الفُرصة للهَرَب من سِجْنها إلى رِحاب حياة جديدة".

  "يا لَحِظِّكَ الجميل.."

   احتكاكٌ حادٌّ بين الأحذية في أرجلهم مع الحصى. أصواتٌ مُتناغمةٌ مع الحالة بلا نُفُور منّي؛ فلو ألقيتُ بَالي إليها، لَرُبّما صَرَفَتني عن تركيزي، وتواصلي مع الصُّرصور.

   انفصالي عن المُحيط الباعث على الإحباط، أمري وأمرُ هؤلاء مكتوبٌ مقروءٌ، لكنّه بلا عُنوان، في قرارة نفسي يقينٌ راسخٌ، بأنّ البُوابة الكبيرة للمخيّم، التي رحّبت بنا ليلًا من خلال اللّافتة الكبيرة: "أهلًا بكم في مُخيّم الزّعتري".

   ما انفتحت إلّا على هاوية الضّياع القادم، لإكمال الدّرس لنا لنحفظه جيّدًا، لنعتبر؛ ويعتبرُ بنا كلَّ مُعتبِر.

   اكتشفتُ في جلستي هذه؛ الجزء الغائب عن التّفكير به في الظّروف الطبيعيّة، دائمًا يُطالبونني: "ارتقِ في تفكيرِكَ".

   أحاولُ الارتقاء.. الإمكانيّات غالبًا لا تسمحُ بذلك. الارتقاءُ غير مسموحٍ به هكذا أعرف، لو سألتني كيف كوّنتَ معرفتكَ عنّي!!؟، سأجيبُ بكلّ تأكيد: "لم أقرأ ذلك لا في كتابٍ، ولا نشرةٍ حزبيَّةٍ لأيّ من أحزاب الجبهة، ولا في وصفة طبيب، أو ورقة روزنامة".

   لو قلتُ مصدرًا واحدًا، ووصل خبره إلى مسامِعِهم؛ لانقلبت حياتي جحيمًا إلى الأبد، وما كنتُ الآن وجهًا لوجه مع صُرصور. مع هذا ليس في نيّتي التحوّل إلى صُرصور للخروج من العُزلة، كما حصل مع "رشيهورس سامسا" بطل قصّة التحوّل عند (كافكا): عندما صحا من نومه ذات يومٍ، على إثر أحلامٍ مُزعجه ومخيفة؛ ليجد نفسَه مُستلقِيًا في فِراشه، وقد تحوّل إلى حَشرة مُتوحشّة.

   حرّكتُ يدي.. أوه..!! رائع، يدي الأخرى هَرَشت فروة رأسي، بموازاة الصُّرصور تحركّت أصابع قدميّ.

   أُقسِم بالله إنّني واثق من أنّ العشرة لم تتجمّد. رَمَشتُ بجفنيّ مرّات ارتفاعًا وهُبوطًا. أقنعتُ نفسي أنّني أنا (أبو فندي)، لساني أكّدَ ذلك، لا أشكُّ في ذلك. لستُ مُضطَّرًا لإقناع أحدًا غيري.

   الصّرصور من جديد: "ما لي أراكَ شاردًا؟".

   "لا ..لا.. لا شيء".

   عينايَ مُصوّبتان على كاحلٍ أبيضٍ مرمريٍّ رَهِيف البَشرة، لم ترتفعا لمعاينة صاحبته، الذّاهبة بعكس اتّجاه أُمّ الأطفال الثلاثة تلك، شاشةُ الموبايل السّوداء انتحلت صِفَة المِرْآة؛ رأيتُ وَسَامتها، لم أجد الرّغبة في رفع رأسي للأعلى، ولم ترسخ صورتها في ذهني، وجهٌ قمريٌّ وضيء باعثٌ على ارتياح، مع بداية نهار طويل، لا أعرف هل سأبقى على تفاؤلي..!!؟.

   يقطعُ المشهدَ صوتُ امرأة، تقول: "سأسبقُكَ إلى هُناك، لأُمْسِكَ دَوْرًا في الطّابور. قالوا: "إنّ اليومَ سيجري تسليم موادٍ غذائيّةٍ".

   أظنُّ أنَّه ردَّ عليها: "سألحقُ بكِ بعد تسجيل اِسْمي عند افتتاحهم العيادة، لأخذ موعد مع طبيب المَشْفى المغربيِّ؛ ليكتب لي وصفة لصرف دواء الشَّبَكات".

"هل كان يعني شبكات القلب؟. ربّما".

   تذكّرتُ سُؤال الصُّرصور.. كدتُ أنساه في زحمة اللّحظة القاتلة. قلتُ: "لا أبدًا.. لا شيء، بل ذِهْني ما زال مشغولًا في مفاتيح بيتي، عندما سلّمتُها إلى جارتنا؛ لتفتحَ البابَ لهم، إذا ما جاؤوا للتفتيش، لا أدري، لماذا أُقلّلُ من قُدرتهم الفائقة على كَسْرِه. صدَى دعواتُ جارتنا تَطِنُّ في أُذُني الآن، وأنتَ تسألُني".

   "ظننتُ غير ذلك".

   "رغم إنّ كثيرًا من الظنّ ليس بإثمٍ. أُكرّرُ: يا لحظّكَ..!!".

   "ثانيةً تُعيدُ نفسَ الكلام، أكْرهُ الحاسدين أمثالَكَ، ألا ترى أنّكَ تحسدني، كما تَحسدُ الآخرين، ونفسكَ أيضًا، على وضعنا الذي لا أتمنّاه لصديق، ولأتجرَّأ أكثر: ولا لعدوٍّ أيضًا، يا صديقي: كلانا لاجئ في هذه اللّحظة".

   "لا ليس هذا.. لا تذهب في تخميناتِكَ بعيدًا، بل كان قصدي، أنّك لاجئٌ حُرٌّ بحركتِكَ كيفما تشاء، ها نحن الاثنان هنا، أنتَ غير مُقيّد في سِجِلَّات الـ UN, ولستَ مُضْطَّرًا للاصطفاف في الطّوابير، بإمكانكَ التسلُّلَ إلى أيّ مكان يُعجبُكَ، ويطيبُ لكَ المُقام فيه، حتّى لو كانَ مكتب المُفوّض السّامي للمُخيّم، كما تستطيعُ تجاوزَ أسلاك حدود المُخيّم بِحُريّة، فلا خوف من أن يقبض عليكَ العسكريّ الحارسُ المُتشدّد، الذي لا يتهاونُ مع المُتسلّلين في الاتّجاهيْن، ولو تسلّقت على مثلًا على بارودته، ورُبّما قادك فُضولك للتَسَلُّل داخل السّبطانة، ويقودُكَ غرورُكَ إلى باطنها؛ وتُسبّب عُطلًا ميكانيكيًّا مانعًا لها من إطلاق النّار إذا احتاج العسكريّ لذلك، وتذهبُ ضَغطاتُ اُصبعه السُّبَّابة على الزّناد هباء؛ فتفشَلُ محاولاته بالإطلاق على أحد الفارّين المُتجاوزين للأسلاك، أو عابر للدّاخل من ثغرةٍ نائيةٍ هُناكَ على الأطراف.

   ولَسْتَ مسؤولًا عن إطعام عائلة تنتظر بفارغ الصّبر، ولا توجعُ قلبكَ دُموعُ طفلٍ يريد لُعبته التي تركها هُناك، وكيف لأمّه تلبية طلبه؟، هو لا يعرفُ ما هُم فيه، يُريدُ أن يلهو ويلعب فقط".

   اهتزاز عنيفٌ لِقَرنَيْ الاستشعار، كأنّهما اِنْفعلا من كلامي، لا أدري أهُوَ غضبًا ممّا سمِعَ، أم حُزنًا علينا؟.

   كأنّي سمعتُه قال، ولا أظنّ أنّني سمعتُ شيئًا منه: "معكَ الحقُّ فيما قُلتَ، وترى فيما أنا فيه من حُسن الحظّ، وأرى أنّكَ كنتَ تتمنّى لو أنّك تتحوّلُ صُرصورًا". انتبهتُ إلى ساعة هاتفي: "أوه..!! إنّها السّابعة".

   فطين يتلمّظ ما ارْتشفَ من فنجان قهوته الباردة. ينْسخُ ما قرأ ممَّا وصلهُ من أبي فندي.

   هدوء الغرفة مُغْرٍ للاستغراق في الحالة، صمتٌ مُريبٌ برتابة الأشياء الذّابلة في المقابر، وهو مُندمجٌ بكُليّته مع الموضوع.

   القلم الأزرق بين شفتيّه؛ يُشفُط نَفسًا عميقًا، حَسِبَهُ سيجارة بين اُصبُعيْه. سَحبُه بعصبيّة، ورَمَى به على الطّاولة بجانب اللّابتوب.

   انتبه فجأةً كَخَيْلٍ جَفِلَتْ لمّا رَأتْ صورتَها على صفحة الماء الصّافية الرّاكدة.

   ما دُمْتُ أنا.. أنا فطين.. أمتلكُ لسانًا كالآخرين، لن أدعَ من يحكي عنّي هذه المرّة، ما المانع من أن أتكلّم عن نفسي، وإلى نفسي بلا موانع.

   قال ذلك بصوتٍ مُرتفعٍ؛ فأعجبَتْهُ نبرة صوته:

"الله ما أرْوَعَ صَوْتي..!!".

ربّما كنتُ سعيدًا بعض الشيء عندما تواصلتُ من جديد مع أصدقائي، لكنّ مشروع تدوين رسائلهما أذْهَبَ البهجة من نفسي، وأعادني لعشر سنوات خَلَتْ، مليئة بالوجع، ما إن أنسى أو أتناسى قصدًا، حتّى تعود على محمل الأشواق للأصدقاء.

   استفقتُ هذا اليوم متأخِّرًا على غير عادتي، معاناتي لا تنتهي باسترجاع ذكريات الألم، فتُعكّر صَفْوَ نفسي كلّما سَلَوْتُها قليلًا، وفرحتي بأصدقائي لا تتمّ إلّا على محامل الذّكريات، ولا أريدُ أن أكون كأحد الجاحدين؛ عندما حضرتني مقولته: "شو بدّي أتذكّر منّك يا رمضان غير الجوع والعطش".

   ولن أتخفّى خلف النّظّارات السّميكة القاتمة بسوادها، ولن أدعَها تحجبُ رُؤيتي للحياة بتفاؤلي المعهود. نسيتُ أنّ الظرف يحبسني اليوم بسبب الحظر لمدّة أسبوع اعتبارًا من اليوم.

   استحوذني لقاء قبل ذلك في يوم البارحة، وبمحض الصُّدفةِ العابرة جمعتني بِشخصِ مُتأفِّفٍ، كان مع صديق لي لم ألتقه منذ فترة، بادر من فوره بعد السّلام.

   فهمتُ منه أنّه عَرَفَ بإعادة فرض الحظر الشّامل قبل قليل، نظرًا لانتشار وباء الكورونا على نطاقات واسعة، وصلت حدّ المُعدّلات المُنذرة بالخطر القادم: "غير معقول ما يحصل".

    ابتسامتي المبذولة لمن أعرفُ ولا أعرفْ؛ أغاضته، وأنا أُنْصِتُ إليه حتّى انتهى من كلامه المُضطرب بلا تركيزٍ على شيءٍ مُحدّدٍ. عبثُ النّقاش للاستفهام والتّفهيم مُجازفة محفوفة بالمخاطر في مثل هذه المواقف. من فوري؛ بادرتُه: "بأنّ ما سمعتُهُ منه هذه اللّحظة هو: أفضلُ خَبَرٍ لهذا اليوم". جهلُ الآخرين بطبيعتك عند أوّل مُقابلة، طبيعيّ، ولا مُلامة عليهم بالطَّبع.

   معذور هو إذا لم يستطِع ضبْط أعصابه وقت اللّزوم، اِلتمستُ له العذر.. لم يعرِف حقيقةً: أنّني مُقاطع لنشرات الأخبار منذ سنوات، لم يُفسِح لي الفُرصة؛ لأخبرَه بجهلي بكثير ممّا يجري حولي، وفي العالم الخارجيّ، حتّى تَنَبُّؤات الطّقس الجويّة أتجاهَلُها تمامًا، كأنّ العامل النفسيّ أثّرَ فِيَّ، لأنّهم ربطوها معها، وجعلوها في نهاية كلّ نشرة، أظنّ لتشتيت المُستمع بين مرارة الواقع، وانتظار باستقبال أخرى لا يد للبشر فيها، لتتآلفا قسوةً عليه.

   رَغْمَ سُهولة الحصول على حالة الطّقس مُتاحة بين يديّ على الموبايل أيضًا؛ إصراري غير المُبرّر بتجاهلها، لا أستطيع تحديد هذا المنحى السّاكن دواخلي؛ صبيحة كلّ يوم أسأل زوجتي، ليس لشيء، إلّا من أجل تثقيل ملابسي أو التخفّف من بعضها.

   "أشتاقُ لمُمارسة الكَسَل يا صديقي.. باعتقادي أنّ الكَسل غاية لا تُدرَك مهما طال مُقامي فيه. كما أنّني أجدها فُرصةً هادئة ينعدم فيها الضَجيج الذي أُعانيه ليلَ نهار؛ لأخلوَ بنفسي، وأجلس معها للاستمتاع بالتّفكير الهادئ والقراءة، فيما هو مُؤجّل عندي، لتراكم الكثير من المواضيع المُصْطّفَة بانتظار مجيء دَوْرها؛ لمزاحمة المُستعجل منها على الأولويّة".   

   غادرني صديقي مُبتَعِدًا؛ قساوة انقضاء اللّحظة.. عاجلًا، لم تسمح لي بالتبسُّط بأسئلتي له، والحديث معه؛ وما زال صَدَى بَرْبَرَة الشّخص الآخر بكلماتٍ مُغَمْغَةٍ، لم أفهم مِنها شيئًا على الإطلاق.

   شجّعني ذلك على الانخراط بمُحاكاة مع نفسي، لم أجد المُبرّر المُقنع لها وسط أصوات هدير مُحرّكات السيَّارات العابرة، وزماميرها المُنْبِئَة عن ضيق سائقيها من الازدحام المُروريّ الخانق.

      بين اللّهفة الجارفة لتلقّي رسالة من أيٍّ منهما، واحتراق الأشواق مُجدّدًا بانتظار أخرى، لا بدَّ من ترتيب الأولويّات، وإعادة بناء الجدار النفسيّ المُتداعي بأجزاء كثيرة منه، اختلاط المتناقضات، الفرح والحزن، وهذا ما يصعب عليّ شرحه في مفردات تَصِفَه، أحسّ به بوضوح تامٍّ، أقولُ: عجزًا، لكنّ العجز يبقى مطيّة الضّعفاء، كأنّ الحيْرة تصنع حواجز عالية من الشوَش يصعب الخروج منها.

..*..

 

   التقنيات هذه التي بين يديَّ الآن، قضت تمامًا على روح الأشياء، وتغيير أنماط، ومظاهر الحياة عمومًا.

 

   في الصفِّ الأوّل الابتدائيِّ كتبتُ أوّل رسالة في حياتي إلى خالي في دمشق. لم تَصِلهُ قطعًا؛ لأنها لم تُرسل أصلًا.

 

   تهجئتي لحروف أيّ كلمة؛ قَضَت على صعوبة أيَّةِ كلمةٍ أريدُ كتابتها، لا أزال أفتخرُ بتلك الرِّسالة إلى الآن، كمقولة خالدة في قلبي منذ تفتّح وَعْيِي أنّ: (ما الحُبّ إلّا للحبيب الأوّل)، لأنّها مُنجزي الأوّل، فلا أستطيعُ إحصاء عدد الأخطاء فيها، ولا أتصوّرُ ضحالة التعابير والكلمات، كانت جَدّتي هي مُلهمتي الأولى فيما هي ترسم لي أفكار الرسالة، وأترجمها إلى الفصيح كما أفهمه منها؛ لتكون صالحة في سياق كنت أظنه سليمًا، وكلّ سطر أنتهي منه، أقرأه عليها، وتعطيني التوجيهات اللّازمة، تبتسمُ لي مع اهتزاز رأسها بحركات وإيماءات، تستحسنُ ما تستمعُ، وهكذا إلى نهاية الرِّسالة عندما ختمتها: "الدّاعي لك فطين ابن أختك".

 

   مرات عديدة تلوت قراءة الرسالة كاملة لنفسي أوّلًا بصوت مسموع، وإلى جدتي وأمي وخالتي وجاراتنا في الحارة وصديقات أمّي وجدّتي في زياراتهن، وأظن أنّني قرأتها لكلّ من في القرية آنذاك.

 

   نسيتُ أنْ أخبركم أنّ جدّتي أُميَّةٌ، لا تقرأ ولا تكتب، وكذلك أمِّي، وكلَّ من سمعَ برسالتي آنذاك، ربّتَ على كتفي، ويردفُ قائلًا: (عَفَارِم.. شاطِر..) وكلمات ثناء وإطراء، كانت أوسمة ونياشين أسْكنَت غُروري.

 

   الآن رجعتُ للتدقيق في هاتين الكلمتيْن ببركة، مَثَلي مَثَلُ: "الدّوْلة يوم ما تُفلّس، ترجعُ تبحثُ عن دفاتِرِها المُشَلّخة (المُمَزَّقة القديمة والتَّالفة)"، لتحصيل الضرائب والمُستحقّات الميّتة بحكم تقادم الزّمَن عليها. أغلبُ ظنّي أنّ عَفَارم كلمة من بقايا اللّغة التُركيّة القديمة، ما قبل علمانيّة أتاتورك، وتبديل الحرف العربيّ باللّاتيني.

   وماذا سأفعل لو أنّ أحدهم وصفني الآن بالشّاطر؛ فهل سأغفر له مقولته؟. خاصّة بعدما عرفتُ معانيها من قاموسي (مختار الصّحاح) المُرافق لي أينما أذهب وأسافر، لا يُمكن أن أستغني عنه أبدًا، لأكونَ مَوْصَوفًا خلافَ طَبْعي، وطبيعتي المُسالمة: (الَّذي أَعْيا أَهْلَه لُؤْمًا وخُبْثًا).

   لكنّي سأميلُ إلى منحًى مجازيٍّ آخر، خلاف المعنى الأصلي:  (فَتًى شاطِر هو النَّبيه الماضٍ في أُموره، وحَسَنُ التَّخلُّص، ماهِرٌ في تَدُبُّر أَمْره، وبارِع في الخُروج من المأزق). وفي هذا إرضاء لغروري، بما يتطابق من اسمي فطين. وفي مقام المدح قيل لي مرّات: (لا أَقْلَقُ عليك، فأنت شاطِرٌ كِفايةً).

   في الصفوف التالية عندما ارتقيتُ إليها، كنتُ قد حفظتُ كليشة كانت مُتداولة لدى كاتبي الرَّسائل آنذاك: (بعد التَسْمية باسم الله. سلامٌ سَليمٌ، أرقّ من النَّسيم على قلب السَّقيم، إذا جازَ لكم حُسْنُ سُؤالكم عنَّا؛ فنحنُ بخيرٍ وصِحَّة وسلامة).

 

   مرّات عديدة كتبتُ رسائل لبعض الجارات في الحارة إلى أزواجهن المسافرين، كنتُ أستمعُ باهتمام بالغٍ لما يَطلُبنَ منّي كتابته أوّلًا، أحاولُ جهدي كتابته بطريقة أظنُّ أنَّها مُتماسكة مُترابطة.

لم أكُنْ أفهم كثيرًا من ملامح وجوهِهن؛ كي أُفسّره وفق ما تذهب به صِبْيانيّة ظُنوني، ونبرات كلامهِنَّ المختلفة المليئة بالأشواق، عند مُلامسة هذه النّقطة تتخربطُ مُخيّلتي؛ لأنّني لم أستطع ترجمة ما ألمحُه من حيرة النّظرات الغامضة الغائمة بنظرات تجاه السّماء، أو سقف الغُرفة، ومن تردّد النّبرات بين الخجل، ولهيب الأشواق، وضجيج الرّغبات حبيسة القلوب والصّدور، تتجمّدُ على الألسنة ثآليلٌ، وندوباتٍ مُعيقةٍ للإفصاح عنها.

 

   رغم إدراكي البسيط آنذاك لخصوصيّته ما يرتسم على الوجه، وطريقة خروج الكلمات، أجِدُني عاجزًا عن دقّة توصيف هذه النّقطة بالذّات؛ فلا هي تستطيعُ الإفصاح، ولا أنا أريدُ الغوصَ في ذلك. بعد كلّ هذه السنين التي دفنتُ الموضوع في مجاهل النِّسيان.

 

   وأنا أطالع رسائل أصدقائي القُدامى على الإيميل هذه الأيّام؛ أستطيعُ تحليل المُثير منها، المُتخفّي تحت ملاءة الرُّومانسيَّة المكبوتة آنذاك بعوامل الخجل الشديد.

 

   التعبيرُ عن المشاعر عند الفلّاحين غير وارد تمامًا، هو كانتهاكٍ للمُحرّمات، وخرق للقوانين الاجتماعيّة الصّارمة، ولا تتسامح به إلّا خلف الباب في الغرفة.. حَصْرًا في الفراش مُترافقًا مع الممارسات الحميميَّة للحظات قليلة، وتنْفَضُّ الجلسة للنّوم، أو للانصراف لمهام الحياة الكثيرة.

***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(6)

 

(6)

الرسالة الثانية من فاضل السلمان (السّويد)

 

 

** خلف الباب أبواب..

(مقالة فاضل  على صفحته الجديدة)

 

فاضل:

   "انفتح الباب الكبير على بوابات وهميّة لا تُعدّ ولا تُحصى، لطوابير الخِيَم المُصطَّفة بانتظام بخطوط مستقيمة طولًا وعرضًا، وخلف الأبواب ينكشف المستور، وتُنثَر العطور، وتُقام المذابح، وتُبنى المسالخ، ويُهان المشايخ. 

 

   وخلف الأبواب تُكتَم الأسرار، وتُنتهَك الحُرمات، وتُجتَرَع الغُصّات، وتُسكبُ الدّموع على وَقْع العذابات.

 

   المُتضايق من شيء ما؛ يُطلّ من النّافذة، والخائف  يُغلق الباب ويجلس خلفه. ومن قائل يقول: (الباب إلّلي يجي منه الرّيح سِدّه، واِسْتريح).

   خلف الأبواب تنحني القامات.. تتمدّد صحارى العَثَرات.. تستطيل الإحباطات في النّفوس الخائفات اليائسات.

   خلف الأبواب تُسْدَل الرّحمات.. تتنزّل المَغْفِرات.. تطمئنّ القلوب المؤمنة في كَنَف خالقها، هنا تُسكَب العبرات لتطهير القلوب، وتنقية الدُّروب من أشواك الذّنوب.

   وخلف الأبواب يَحتجِبُ المتآمرون، والمنافقون، والسَرّاقون، جميعهم ذوي الأيادي السّوداء المُستحوذة على البَيَاض؛ فلوّثته بِدانستها" .

..*..

 

 فطين:

   تنازعتني الأفكار شرقًا وغربًا، وطافت بي مُحيطَ الكُرةِ الأرضيَّة مرّات ومرّات؛ قبل انتهائي من قراءة مقالة صديقي (فاضل السلمان) بعد أن عثرتُ على صفحته على الفيسبوك، قبل وصولِ أوّل رسالةِ إلكترونيّة منه على الإيميل.

 

    أضناني البحثُ عنه لفترة طويلة، انقطعت أخباره عنّي، وتطابق ذلك تزامنًا مع تهكير صفحته المعروفة، وجاءت هجرته إلى أوربّا عبر البحر؛ لتُؤكّد التباعد القسريّ بيننا. والدُّنيا في عصر وسائل التواصل؛ جعلت من عالمنا قرية كونيّة صغيرة.

 

   كانت مفاجأة سارّة فتحت شهيّة الحياة عندي مُجدّدًا، وآمالي لم تَمُت، ازداد نبض قلبي من فرحة طويلة، بعدما انقطعت أخباره تمامًا ليس عنّي فقط، بل  على جميع الأصدقاء.

 

    خلف الباب فلسفة كبيرة لم يتطرّق ذهني لهذه المعاني التي قرأتُها في مقالة صديقي فاضل، فتحَتْ عَيْنيّ على أشياء جديدة، ومَعَانٍ غارقة في العمق، و "كلّما ضاقت العبارة اتّسع المعنى": على رأي "النَّفري" الرُّؤية غالبًا مُتَّسِعًة برحابة فضاءاتها بلا حدود، بينما تبقى الكلمات قاصرة عن الإحاطة بالمعاني والأسرار، مهما كانت قويّة المعنى والمبنى بدلالاتها، وبالتالي؛ فلا تعدو الكلمات أن تكونَ غطاءً للحقيقة، وملاءة تسترها.

 

  أخذتني بعيدًا إلى عوالم لم أتصوّرها، هناك كلمة تكون مفتاحًا(ماستر كيْه) تفتح جميع الأبواب الموصدة بلا استثناء؛ هذا ما استدعاني لاستذكار آخر كلمة في رسالة أبي فندي، وهو ينظر إلى اللّوحة: (أهلا بكم في مخيّم الزعتري).

 

   أدخلوه، وأغلقوا البُوابة؛ فصار هو وعائلته، ومن معهم جميعًا من اللّاجئين خلف الباب، كأمواتٍ بلا قُبور.. اللّجوءُ موتٌ بطيءٌ، بمرور الوقت تَتَهرّأ الأجساد هُزالًا هَرِما، وتذبُل على أعتاب المنافي مقهورة، كانت مُتلهّفةً لرؤية ذكرياتها، أمنياتٌ ماتت على أعتاب أحلام العودة، غصّةُ البُعاد والموت تآخَيَتا؛ لإخماد أنفاس الحياة. 

..*..

 

أبو فندي:

   داخل الخيمة.. خلف بابها نام هو وأولاده، التي أخبرني عنها سابقًا بمقولة، كأنّها السّكين الماضية غُرست بقلبي، وما زالت تنخزني برأسها الحادّ، ودمي ينزّ منذ عشر سنوات، ومازال:

   "إنّها خيمةٌ يا فطين..!! وما أدراكَ ما الخيمة..!!.. أبدًا ليست كخيمة جيراننا في كَرْم العِنَب أيّام موسم الصَّيْف، ولا مثل التي سَكَنْتُها أثناء خدمتي العسكريَّة، كَرَاهتي لها..!!، مثلما كرهتُ تلكَ التي كانت تنتصبُ على الحاجز في وسط بلدتنا.. ألَا تذكرها؟".

..*..

فطين:

   محطّاتٌ التوقّف فيها إجباريٌّ لا مناص منه؛ هدأت أعصابي قليلًا، وخَفَّ توتُّري، استعدتُ صوابي، استغرقتُ بتفكير عميق، أطْلَلْتُ من نافذة ضيّقة على فضاء واسع، استنشقتُ هواء نقيًّا، نبَضَتْ رئتاي بقوّة، وتباطأت دقّاتُ قلبي بعد التسارع المديد، وأنا أعيشُ على أعصابي التَّالفة.

 

   استقرّ الرّأي على نُقاطٍ ارتكز عليها هذا العمل الروائيّ، خلف الباب.. والخيمة، نُقطتان بارزتان، نبّهني إليهما أبي فندي؛ فالخيمة خلف باب المُخيّم.. الخيمة وطن صغير، فقط من أجل مُمارسة الحياة بحدودها الدّنيا، وخلف بابها أسرة وحياة خاصّة، وهي لا تسترُ أدنى الخُصوصيّة أبدًا.

   ومن خلف باب المُخيم.. انهالت الخيالات بالمعقول واللّامعقول، وما لم يخطر على البال، ما أروع انفتاح الأفق برؤاه، لكنّ المشكلة إذا استدعى الأحزان والآلام لتجديد مواسمها.

 

   وتتالت الرّسائل من محمد أبي فندي، وفاضل أبي المجد بحماس، بعدما كنتُ أودّ إخبارهَما: بِنِيّتي جمع رسائلهما في عمل روائيّ؛ أطلقتُ عليه (خلف الباب)، إكرامًا وإجلالًا لذكراهم.  

 

   ولم يكُن أمامي إلّا احترام رغبة صديقَيّ (محمد وفاضل) باجتهاد فيما أسعى إليه؛ لأنّهما شَهِدَا بأمّ أعيُنِهِما، و(من رأى ليس كم سمع)، وشاهدُ العيانِ وثيقُ الصّلة بالحدث المُنحفِر في دواخله، لا يمكن اِنْمحاء آثاره حتّى الموت، وإن اِخْتَفَت مُؤقّتًا في مجاهيل غابات النّسيان.

 

   أنا من شهدتُ ولادة فكرة وخاتمة الرواية، ومن خلال ما أرسلوا لي أصبحتُ بمنزلتهم، لأنّهم مصدرٌ موثوق عندي، آخُذُ عنهم باطمئنان، وأروي عنهم بثقة؛ وكأنّني رأيتُ بأمِّ عينيَّ، لا بدّ لي من إكمال مِشوار مُشاهداتي.. والإدلاء بشهادتي.. بصدق وأمانة لله والتاريخ، والمستقبلُ الذي سيكون لأبناء سوريّة.

 

   لم أشأ إخبارهما بقراري الأخير هذا. بل أبقيْتُه طيّ الصّفحات؛ لأفاجئهم به فيما بعد، لأنّني شهدتُ ما شهدوه، في كلّ ما ناقشناه ثلاثتنا، كنتُ واثقًا بحقيقة وقوعه، مُتيقّنًا من صحّته، أعرف أبطاله، واعٍ تمامًا ما حصل بدقّة، وإن باعدتني عوامل الزْمان عنها، أظنّ أنّني كنتُ خائفًا من خيانة ذاكرتي الهَرِمة.

 

   المتعةُ لا تكتمل؛ لأنّها كانت افتراضيّة. تداعي الأفكار كثيرًا ما يُنقذ السّقوط في متاهات اليأس والإحباط".

 

..*..

 

فاضل:  

المطرقة تهوي بقوّة ضرباتِها السّاحقة على رأس الوَتَد الحديديّ. أشعرُ بأنينِه يكوي قلبي. ماذا لو كانت ضربة واحدة منها انحرفت عن هدفها إلى اُصْبعي؟، لا شكّ أن صُراخي سيشُقُّ تجمّع الأولاد من حولنا؛ وسيُغطّي على صُراخهم المُتَماوِج مع حركاتهم السّريعة غير المُنضبطة، اِنْتباهي مركّزٌ على المكان الصحيح لضربات المِطرقة التي لا ترحم.

   لا أذكر أهي ثمانية أم عشرة أوتاد، التي كانتُ مُعدّة لتثبيت حبال الخيمة، عندما تنتصبُ بكامل أرْكانها، قويّة بوجه الرّياح العاتيات، كما لا أنسى أنّني سأنام في باطنها، كيف لو نمتُ، وأنا خائف غير مطمئن، ونبضات قلبي تتسارع عندما كنّا هُناك؛ بمُجرّد سماع هدير الطّائرة المروحيّة، لستُ وحدي ممّن لم يتمالك نفسه، جميع أهل الحارة يُسارعون بالخروج هائمين على رؤوسنا إلى الأرض الخلاء، نتراكضُ في اتّجاهات شتّى طالبين النّجاة، لننتشرَ مُنبَطحين بين أشجار الزَّيْتون المُتقاربة بصفوفها المُنتظمة طولًا وعَرْضًا بخطوطٍ مُستقيمةٍ، مُتشابهة مع ترتيبات مُخَطِّطْ المُخيّم كما أراد له المُهندس، الذي رسم الخطوط على الورق، لو لا بعض الخيام انحرفت عن أماكنها المُقرّرة من؛ فَشوّهت التناسق المرسوم مُسبقًا.

     ما إن بدأ الدّوام حوالي التّاسعة في يومنا الأوّل، كُنّا قد تناولنا إفطارنا، استعدادي المفعم بأمل الاستقرار  منذ ساعات النّهار الأولى، توجّهتُ مع القادمين المُستجدّين حسب إرشادات المسؤول عن النُّزل الجماعيّ، بالتوجّه إلى الجانب الآخر إلى المُستودع لاستلام الخيمة وأدواتها.

   مشوارنا ذو هدفٍ واحد، آراؤنا مُختلفة. نظراتي حائرة.. عينياي تُوصْوِصان بلا ثبات على شيء مُعيّن، أُذُنياي أظنّ أنّهما تسمعان، كأنّي لم أُدركْ أنّ أحدهم، يشكو لمن في جانبه موت ابنه في المُعتقل، وآخر يهمسُ بصوت مَبْحوحٍ، لا يكادُ يُفصح عن كلامه: "من يوميْن جاءت الحوّامة، ورَمَت بِرميلًا على بيت أختي، وما خَرَج من البيت المُخبِّر عما حصل، لأنّهم كانوا مُجتمعين على طعام الغداء". ثالثٌ: "حملة أمنيّة مُشتركة كبيرة مُدجّجة بالعتاد الثقيل؛ داهمت بيوتنا في القرية".

   سأله آخر: "سمعتُ أنّهم يملؤون جيوبهم ممّا يجدون من الموبايلات والمصاري". بوتيرة أعلى أجابه: "بل حتّى المصوغات الذهبيّة، والله أخبرني صديق لي من حارة أخرى، أنّهم أثناء التفتيش في أحد بيوت المُغتربين الأثرياء، أخذوا منه خمسة كيلو غرامات من الذهب، جرّدوه من ثروته التي أفنى عمره يجمعها، ضاعت في لحظة".

   ما زلتُ أسمعُ، أحمدُ الله أنّ أحدًا لم يسألني. خُطواتي مُتسارعة قليلًا عنهم؛ فأتقدّم قليلًا عنهم، كأنّي لم أكُن معهم. طليعة القوم من المتوقّع تلقّي الصّدمة الأولى، على مدخل المُستودع أوّل وجه رأيتُه خارجًا منه، يُرسل بكلماته: "إذا كنتم تريدون استلام الخِيَم، مَن هُم في الدّاخل؛ أرشدوني إلى الجهة الجُنوبيّة، هناك.. الخِيَم منصوبة جاهزة لاستقبالكم".

   أتلفّتُ حوْلي، لعلّه يقصدُ أحدًا، لكنّ عيناه مُصوّبتان نحوي تفترسان ملامح وجهي بنهم. تلمّستُ وجهي بِنَيّة حمايته، خوفًا من إصابته بسوء من أثر نظراته الغاضبة، أوّل ما تَبَادر إلى ذهني صفعة قويّة؛ كتلك التاريخيّة من يد ذاكَ السَجّان اللّئيم.. يا إلهي..!! ما زلتُ أحسبها بمساحة سهل حوران.

   كأنّ لَسْعةَ الألم المُخدّر تحرّكت الآن، تشنّجت  عضلات وجهي، امتدّت يدي لتليين ومحو آثار الصّفعة. أذكرُ أنّني صرختُ بصوتٍ مُفاجئ أخرج من حوْلي من حكاويهم الطويلة، انتبهوا لي..!!.

   مؤكّدٌ أنّهم ظنّوا بي جُنونًا، هكذا كأنّني سمعتُ مقولاتهم المُتولدّة في قلوبهم، وما هَمَسُوا به لبعضهم بعضًا، رَغْمًا عنّي حفظتُ ما تناهي إلى مسمعي.

   أُذُناي أخبرتاني أنّهما لم تسمعا شيئًا؛ إحداهُما مُعَطّلة عن مُهمّتها من أثر صَفعة السجّان منذ أشهر، وطنينُ الأخرى منذ انفجار  البرميل قربَ بيتي، يمنعني من سماع أصواتٍ قريبة، لأيّ كلام،  ولو من مسافة وما يزيد.

   استدرنا عكس الاتّجاه من تلقاء أنفسنا، دون تلقّي أمْرِ آمِرٍ، وكيف أستطيعُ تفسير حركات شِفاهم؟. كلامهم مُجدّدًا. تأفَّفَ أحدهم: تكسّرت رجلاي، لولا ضيق الوقت لجلستُ في مكاني. أنفاسٌ تصعد وتهبط من آخر.

   حاولتُ استجلاء وجهه المُتعب، هيأته؛ كأنّها تقول: "إنّه سِتينيّ  على طريق الكُهولة، خلفيّته رأسه بشعره المُشعّث، ولباسه المهلهل يحكي فقره". موقعي تحوّل إلى مؤخّرة المجموعة، بعدما كنتُ في المُقدّمة. آخر: "هل المكان بعيدٌ من هنا؟". لا إجابة تلقّاها. تباطأت خُطواتي لإبقائي في موقعي المتأخّر بقصد.

   "لم يعرف أحدًا ذلك، إلّا أنتَ يا فطين.. والآن فقط أقولها للمرّة الأولى: "تمنيّتُ لو أنّني اِسْتطعتُ التقاط صورة لأقفيتهم، لحظة ذهنيّة كنتُ أتمنّاها، كأنّ هناك من دغدغ دواخلي؛ فأيقظها لو أنّ اللّوحة أمامي لتشكيل ربّما أنال عليها جائزة دوليّة، فيما لو أرسلتُها لمسابقة، وأحقّق حُلُمي بالشّهرة كما بيكاسو".   

.. *..

 

     مئة خطوة أو يزيد بقليل؛ وضعتنا قُبالة الشّارع الرّئيس الوحيد المُعبّد في المّخيّم؛ كان فاصلًا ما بين قِسميْه الشّرقيّ والغربيّ، حسبما عرفتُ، أنّهما تشكّلا قبل سنة.

 

   من غير المُتوقّع الذي لم يكُن يخطر على بالي أبًدا، ولم أعرف مُسبقًا بوجود مساكن  الكرفان الجاهزة. صُدِمتُ للمنظر.

 

   بصوت عالٍ من أحدهم، هذه المرّة أسمع: "هاه..!!، لماذا لا يُسلّموا الكرفانات للجميع؟".

  آخر: "ليس عدْلًا".

  صوت غاضب: "يا عمّي هناك خيار وفَقُّوس".

 كأنّي بملامح وجه الأخير، وهو يتفوّه بكلماته المُقتضبة الشّائعة: "عُوجَة من يوم يومها يا خال، ما رَحْ تَتعدّل الآن..!!".

  

   بنظرة ماسحة لأقفيَتِهم، شَعْر رؤوسهم الأشيَبِ المُشعّث، كمكنسة البُلّان. مرآةُ مُخيّلتي عكست لوحاتَ وجوهِهِمُ الباهتة. غُبار الحرب يكسوها بُؤسًا بلمسات الموت. قراءتُها وتفسيرها لا تحتاج لمهارات فنيّة مُتخصّصة.    

 

   هالةُ غُبارٍ مُتولّدةٍ ليس بفعل رياح. خُطواتُهم تضربُ الأرض بعُنف ظاهر. يا إلهي..!! هل هم يقصدون ذلك؟؛ انصرف تفكيري بحثًا عن الرّابط بين طبقَتيْ الغُبار. تَزاوُج حالتَيْ الاغبرار بِعُرسٍ غير مُعْلَنٍ عنه؛ سأنتظر وليدهما بصبر طويل. تصوّراتي مُشوّهة عنه.

 

   خُطواتنا على الإسفلت هَدَأت حدّة ضغطها على الأرض، لم أعُد أسمعُ وَقْعَها، وغُبارها اختفى خلفنا؛ انفتح الأفُق أمامنا، وانقشعت الرُّؤية بشكل جيّد عكس ألوان الكرفانات الباهتة أيضًا بغبار صحراويّ مائلٍ للاحمرار، وكأنّها باقية هنا من عهد الأنباط، مُرابطة بجوار قصور عَمْره والحرّانه والحلّابات، تستمتعُ بغبار حوافر خُيول عبد الملك بن مروان.

 

   وعند نهاية وادي الزّعتري المُنحدِر من هُناك، كأنّ أحدهم مُستفسرًا: "من أين..؟".

رفعتُ نبرة صوتي: "من جبل حَوْران" وأشرتُ باُصْبُعي إلى الجهة المقابلة.

انتبهتُ: "لا أحد سمع جَوابي".

تذكّرتُ أنّني من سألتُ نفسي بنفسي.

 

   ربوعٌ تنتظر بداية الرّبيع بفارغ الصّبر، صراعُها العنيد، وإصرارها المُتجذّر في مُقاومة غضب الصحراء، مَلْءُ الآبار والبِرَكُ في قرية الزَّعتريّ فرضُ عيْنٍ، له طقوسه وتراتيله من كلّ عام، تُقام في محرابها، وجِوَارها الغافي على مَجْدٍ أثِيلٍ تحتفظ به من أجلنا، والزّعتر فيها؛ يُعبّق الوجود برسائل السّلام .

  

   الصحراء ما زالت بنتًا بِكْرًا من رَبّات الخُدور، عتّقها الزّمان؛ فنامت قريرة العين على صخب التّاريخ، وعَبَق الحضارة؛ لتستفيق على دموعٍ وأحزانٍ، لم تكُن مُنتظرةً أبدًا بهذا الحجم، الغارق في مُستنقعات الدّماء والدّموع، التي لا تروي عطش المُتعطّشين لها.  

  

   الشارع الوحيد.. السّوق الوحيد هنا، اختلف الوضع قليلًا عن نغمة مجموعتي الاحتجاجيّة غضبًا وتنفيسًا عن أوجاعها، أصوات الباعة بدّدت اهتمامنا وأنا معهم.

 

   "يا إلهي.. ماذا أرى.. محلّات تجاريّة على الجانبيْن، اكتظاظ مُكثّف.. ازدحام العابرين في الاتّجاهين، هدير مُحرّكات السيّارات القليلة المُصرح لها بالدّخول هُنا لخدمة النّاس في نقل أمتعتهم، أو السيّارات الرسميّة الحاملة لشعارات زرقاء بلغة أجنبيّة، أظنّ أنّها تابعة للـUN)).

  

   صراع بالكلام بين مُتناقشين، يقفون أمام إحدى المحلّات على شيء غير مفهوم لي. أولادٌ يتراكضون؛ يشُقُّون طريقهم بصعوبة بين الجُموع، كأنّهم يُطاردون شيئًا. شبابٌ آخرون خطواتُهم مديدةٌ مُتعجّلة. "أهم على موعد..!!؟" أظنّ ذلك.  

 

   بعض العابرين فرّق شمل جماعتي، "لا تغفل عنهم" تنبيه لي مجهول المصدر، تلفّتُ حولي؛ مُستفسرًا من وجوه لا أعرفها، ولا تعرفني. باهتمام تابعتُ من هو أمامي مُباشرة على مسافة متر واحد، بحركة روتينيّة كانت خُطواتي التي تنقلني للأمام؛ تقع مكان خُطواته، كلّما تقدمّت إحدى قدميْه، حلّت محلّها قدمي، مُشكلة إذا فقدتُ أثر خُطواتهم في هذا الخِضَمّ الهائل.

..*..

 

نحن  الآن في مواجهة الخيام المنصوبة التي قيلَ لنا أنّها مُعدّة لنا، رنين الهاتف. صوت صديق: "أين صِرْتَ؟" لم يُمهلني: "سأرسل لكَ ابني حالًا، فقط وقّع على استلامك للخيمة، وسننقلها فورًا إلى جانبي هُنا؛ فحجزتُ لك فسحة بجانب خيْمتي".

 

   ما إن انتهت المُكاملة، حتّى رجع رنين الهاتف: "أخي فاضل، إيّاك أن تترك الخيمة، أو تبتعد عنها، لأنّك ستعود ولن تجدها، ستُسرّق، الحراميّة ولا أكثر منهم هذه الأيّام..!!".

 

   مفاجئة غير مُتوقّعة، "سَرِقة..!!؟.. شيءٌ غير معقول.. أظنُّهُ يمزح". أمرٌ غير مُتوقّع أبدًا، لاجئٌ يسرقُ لاجئًا..  الجميع طُرَداء في خانة اللّجوء، أمكتوبٌ علينا تلقّي الظّلم على أيدي أعدائنا؟، ومن ثمّ نتسلّط على ضعفنا ووجودنا، يا إلهي الأمر لا أستطيعُ تصوّره..!! شيء فظيع بحقِّ الإله". 

 

   آخرُ وَتَدٍ أصْرَرْتُ على تثبيته بيديّ، المطرقة تعلو وتهبط على رأسه بلا رحمة، لا يستطيعُ الثَّبات؛ فلا مفر أمامه إلّا الهُروب إلى باطن الأرض؛ لينعم بالرّاحة بين ذرّات تُرابها، كأنّه ارتضاها قبره الأبديّ ليستقرّ فيها.

  

   صديقي يشدّ الحبال البلاستيكيّة المتينة لتوثيق الشّادر الذي انتصب خيمة ما زالت تهتزُّ، وتتمايل، بانتظار التوازن في شدّ الحبال من كافّة الاتّجاهات.

 

   حركات الأولاد العابثة كالرّقص على الحُطام، يلتقطون الحصى الحجارة من داخل الخيمة، قبل كانت هذه الفسحة مشاعًا للجميع، الآن اختلف الوضع تمامًا، صارت حِمًى مُعتبَرًا لا يجوز اقتحامه بأيّ شكل كان، حتى لا يُعتبَر ذلك عُدوانًا، وواجب التصدّي له وَرَدّهُ.

  

   صحوة زوجتي أمّ المجد، جاءت متأخّرة عندما افتقدت مجد، بعدما تفقدّته مع جَمْعِ الأولاد لم يكُن بينهم، في دوّامة العمل لإنجاز مأوانا الجديد، الانهماك الذي استغرقنا حوالي ساعة.

 

   صاحت بصوتها: "يا مجد.. يا مجد" لم تأتِها استجابته السّريعة المعهودة، استنفرت الأولاد بالبحث عنه في دائرتنا المُحيطة. اتّسعت دائرة البحث وُصولًا إلى قطّاعات أخرى، ومن ثمّ ذهب أحدهم، للإعلان عنه قُبيْل أذان المغرب في المسجد، الذي يبعدُ عنّا مسافة تستغرق عشر دقائق وصولًا إليه بالخُطُوات السّريعة. 

   دموعها الملهوفة، بعدما سمعت أحد الأولاد يحكي قصّة خطف طفل، وآخر يحكي قريبًا من ذلك، وتفتّقت أذهان الأولاد عن خيالاتهم الخصبة في إذكاء الحالة، وإعطائها بُعدًا دراميًّا جديدًا، لتكتمل لوحة البؤس في أعيينا. غياب مجد لمدّة ساعة، كفيلة بتبليل مساحة المُخيّم بدموع أمّه الملهوفة على غيابه.

 

   تتلوّى بآلام مكبوتة في داخلها، احمرار عينيها، طرف منديلها يقطر  دموعًا، بعدما استنفدت آخر المناديل الورقيّة التي كانت بحوزتها في محفظتها المُعلّقة بكتفها على الدّوام، فيها وثائقنا الرسّميّة  الباقية معنا، ولم نُسلّمها هناك في مركز الاستقبال؛ حين عُبورنا الحُدود في اللّيلة الفائتة. 

 

لم تَطُل مخاوفنا لأكثر من ذلك، حتّى جاء أحد الشّباب من جيراننا في البلد، يقود ابننا (مجد) بيده، ركضت أمّه لاحتضانه، وأشار إلى أنّه وجده يلهو هُناك عند سِيَاج روضة الأطفال القريبة من هنا، ويُراقب بعض الأطفال الذين كانوا يلعبون على الأراجيح والألعاب الأخرى الثّابتة، انصرفوا جميعًا، بينما بقي هو مُتمسِّكًا بشبك السّياج مُلتصِقًا به.

..*..

 

 

فطين :

   بعد رسالة فاضل في يومه الأوّل في المُخيّم، تبدّدت أفكاري في اتّجاهات شتّى، يومان كاملان كلّما انتهيتُ من قراءتها؛ أعود إليها ثانية؛ كأنّ بي جوعًا لحياة لم أعشها، وما تمنيّتُها لصديقي، ولا لأيّ إنسان على الإطلاق.

  

   يا إلهي.. كيف حدث كلّ ذلك..!!؟. سؤالي الأهمّ: كيف احتملوا العيش بهذه الطّريقة الجديدة عليه؟. عقلي إلى الآن بعد هذه السّنوات لم يُصدّق ذلك.

 

  عاودني الشّوق ثانية إلى صديقي أبي فندي؛ فحاولت قلب الموجة باتّجاهه، فقد أدمت قلبي رسالة فاضل، لسؤاله عن أوّل ليلة كانت له في المخيّم. هذه مُحاولة جديدة منّي لتقسيم الأدوار وتناوبها بينهما، لترتيب الفقرات حسب التسلسل الذي يدور في ذهني للرواية، ولكي لا يحدث ازدواجيّة الكلام؛ ما دفعني لذلك، اعتقادي بتشابه الأيّام في المخيّم، وطريقة الحياة المفروضة، أشبه ما تكون بالعسكريّة.

 

   والمُخيّم أخو وصِنْوُ المُعسكر. لا أدري ما الذي ذكّرني بهذه النقطة بالذّات، سأبحثُ عنها؛ فإن وصلتُ إلى نتيجة سأكتبُها هنا.

 

   جاءت استجابة أبا فندي سريعة كما عهدتُه، فأرسل علامة قبضة اليد ترفع إبهامها على الماسنجر، لم يكتبْ أيّ شيء، يبدو أنّه مشغول بأمر ما، رددتُ عليه بإشارة مثل تلك التي أرسلها؛ فنحنُ في حالة تعادُل، لا لي ولا عَلَيّ.

..*..

 

أبو فندي سيحكي عن ليلته الأولى في الخيمة

في رسالة أخرى لفطين

 

   أبو فندي:

   برأيي أنّه وعلى الدّوام: يُذكَرُ أوّل الأمر وآخرة وما بينهما، هي مسافة مُكمّلة بينهما، وتحصيل حاصل.

 

   في حياتي أستطيعُ تحديد الأهمّ والأوّل في عدّة أشياء.. نُزولي من بطن أمّي، لحظة رأيتُ النّور فيها، لم أستطع فتْح عينيّ من شدّتِه المُبهرة، وبِشارة القابلة لأبي وأمّي، وتقييدي في سجّلات النّفوس، وليلة الدُّخلة عندما تزوّجت. حفظتُ ذلك بتواريخه؛ لأنّها نقطة بداية أولى. هذه النّقاط مفصليّة في وُجودي على الكُرة الأرضيّة. بإمكاني إضافة أوّل ليلة نِمتُها في المُخيّم، كأنّي لحظتها كنتُ عل حافّة الكون، مشاعري مُشتّتة، فاقد التّركيز في أيّة شيء أبدًا مهما كانت، داهمتني حالة من الهبائيّة بفجاجة، مرحلة على وَشَكِ الخُروج من الجاذبيّة الأرضيّة، وأصبح فاقد وزني كريشة تتقاذفني الرّيح كما تشاء بلا أدنى خيار لي بتحديد وجهتي، لا كما يشتهي شِراعي.

اللّيلُ هنا غير ليلنا هُناك.. لا شيء يُشجّع على السّهر. شمعتان تَنُوءَان بذبول أنفاسهما كالموتى. كلّ شيء حَولي له خيال ظلّ شاحب أكبر من حجمه الطبيعيّ، مُنطبعٌ على قماش الخَيْمة الدّاخليِّ، نراه حسب شروطها المفروضة عليه، بانحناءاتها المائلة على شكل مثلّث نعيش داخله، كما فُرضَت هي علينا بظروف لا فُرصة لنا للرّفض، خيارنا الوحيد القُبول بلا حوْل ولا قُوّة منّا. عمودها الأوسط بِتَحَابٍّ يتعانقُ بظلّه مع أيّ ظلٍّ آخر مُنعَكِس، ويقف إلى جانبه كحارس أمين. لا أظنّ أنّه يُراقب، بل أظنّ يُذكّرني على الدّوام هو القَيِّمُ علينا، وأنّنا نقيم في كَنَفه، وعليه اعتماد ثقل الخيمة وأعبائها في مقاومة الرّيح الشديدة عند ثورانها.

  

الأولاد انتبهوا لأنفسهم.. لا تلفزيون يُلهيهم، يتساءلون ضجرًا، بلهجة احتجاجيّة: "أصغُرُهُم: يا ربّي..!! أينَ طُيور الجنّة؟"، بشماتة يُجيبه أخوه الأكبر قليلًا: "الحمد لله إنّو ما في تلفزيون". البنت مُتضامنة من الأصغر: "يي عَليكْ.. البابا سيشتري جهازًا خاصًّا لنا، وسأضعُ قناتي المُحبّبة على المُفضّلة، ولن أغيّره عنها طوال النّهار".

   الصغير يرتفع صوته يغني: "أنا البندورة الحمرا..". الأكبر يُحاول إسْكاته؛ يحدثُ عِراكٌ بين ثلاثتهم، بالكلام، وحركات إيمائيّة بإخراج اللسان، اقتربوا حدّ الاشتباك بالأيدي. تدخّلت أمّهم لإقرار هُدْنَتِها بالقُوّة، وتُصدِر أمرها بالنّوم.

   كلّ منّا لزم فرشته يتدثّر بثلاث بطانيّات مطبوع عليها شعار المُفوضيّة، وكتابات باللّغة الإنجليزيّة بالخط العريض.

   خطواتُ ولد راكضة عبرت عن يمين الخَيْمة، صوت احتكاك حذائه بالبَحْصِ والحَصَى، هَمَمْتُ على القيام من فراشي؛ لأعاين هذا الاختراق الصّارخ لحُرمَة مَسْكَننا.

   اِبْتِعَدتِ الخطوات لم أعدُ أسمع وقْعَها، هوّنتُ الأمر بعد الاستفزاز، أخذتُ نفَسًا عميقًا مُتعدّدًا. خُطُوات جديدة شغلتني عن سماع زفير أنفاسي الحَرَّى. تشتّت ذهني عندما أصغيتُ لنبرة جميلة تقرع سمعي بحنان، إنّهما امرأتان، واحدة تشكو: مرارة العيش منذُ مجيئها، زوجُها عاطلٌ عن العمل، حتّى لا يستطيع دفعِ مصروفٍ يوميّ للأولاد، الذين انحرموا من الشِّيبِس والبسكويت المُغطّس بالشكولاته.

   يبكون يوميًّا، وأعدُهم ولا أفِي بِوُعودِي "كمواعيد عُرقوب"، التي لم يعودوا يُصدّقوني، و"كلام اللّيل يمحوه ضوء النّهار"، أو "كلامُ اللّيل مدهون بزبدة".

   أصغَرُهُم تجرّأ على التَّصريح؛ وللتنفيس عن غضبه منّي: "الماما بتكذب". وفي مرّة أخرى قال: "ماما كذّابة، تواعدنا ولا تُعطينا شيئًا".

   المرأة الأخرى تتنّهد كأنّ يدها امتدّت للمسح على وجهي، شعرت بطراوة يدها ونعومتها، تقول: "الله يفرجها علينا.. بِدْها صبر يا خَيْتي، الحالُ من بعضه، لا تَشْكِي لي.. أبْكيلِكْ".

   ما أن تململتُ في مكاني بنيّة القيام؛ للتَطَلُّع من باب الخيمة الذي هو قطعة من قماش الشّادر، مربوطة مع الجانب الثابت من الخيمة، لمعرفة من هُما، بهدوء حتّى لا أستثير انتباههما، وتعرفان أنّني أتطفّل عليهما، وتشعران بالحَرَج إذا عرفتا بمراقبي لهما.

   لم ألمح إلّا طيفهما الأسود الذي شكّل خيالًا طويلًا لهما، لانعكاس ضوء مُنبعث من الصفِّ الآخر من الخيام على بُعد خمسين مترًا تقريبًا، لمبة على أعلى خيمة تنير ما حولها.

   الظِّلُّ يتحرّك خلفهما ببطء باتّجاهي، وهُما تتقدمان بخطواتهما لوجهتهما، ويتلاشى شيئًا فشيئًا أمام نظراتي التي لا ترى إلّا لمسافة أمتار قريبة.

هدأ همسُ أولادي، رجعتُ لفحص حالة السّكون: "أوه.. لقد ناموا". سكونُ اللّيل مبعثُ طُمأنينة وخوف معًا، الوقت ما زال بحدود الحادية عشر، ما زالت السّهرة في بدايتها قبل مجيئنا، والجلوس الطويل لتقليب القنوات الفضائيّة حدّ الإدمان اليوميّ، وانفتاحي على عالم الأنترنت سلبَ عقلي، امتدّ بي الجلوس يوميّا إلى الفجر أو قريبًا منه.

..*..

 

 

   (سَكَنَ اللّيل، وفي بعض السُّكُونِ، تختبي الأحلام \\ وسعى البدر، وللبدر عُيون؛ ترصد الأيّام). وهل بقي شيءٌ في حياتي لتختبي الأحلام خلفه؟ في مثل هذا الموقف لا بدّ لي من مناقضة جُبران في موقفه.

   "لماذا..!!؟".

   بكلّ صراحة: "لا أدري..!!؟".

   ولِمَ يتوجّب عليّ قول الصّراحة, وأنا في مثل هذا الموقف الذي لا يُحسدُ عليه لا عدٌّو ولا صديق.

 

   "جُبران.. يا جُبران" انتفضتُ في مكاني، جاثيًا على رُكبتيّ  لأواجه خيالي المُنتفض توتّرًا هكذا بدا لي، لدرجة شَكّكْتني بوجود أحدٍ غيري في الخيمة. مسحتُ بيدي على جسمي، رأيتُ يدَ الظِلِّ تتحرّك أيضًا.

 

   رأيتُ جُبران جالسًا على كُرْسِيّه أمام مِصباحه الشّمعدان، في آخر اللّيل على طاولته الخشبيّة العتيقة، التي طالما رأيته خلفها، وقلمه بيده، لكنّي حاولتُ مِرارًا التلصُّصَ على خصوصيّة خَلْوَته، لأكون واقفًا خلفه، أراقب ورقته المليئة عادة بالرّسومات بقلم الرّصاص، وبعض العبارات.

 

   شمعتي تنوسُ بين الحياة والموت، في رُبُعَها الأخير قبل نهايتها، تتراقص شُعلتها اهتزازًا على وَقْعِ نبضي المُرتفع، أخاف أن لا أصل إلى مشواري الموعود الذي تمنيّته مرارًا؛ منذ زمان مضى إلى جُبران، قبل انتهاء حياة شمعتي.. سأسيرُ على هُداها ما استطعتُ. أخشى التَعَثُّر والسُّقوط، أتوقَّع أن يكون الأخير والأبديّ. لا خوف بعد ذلك، مصباحُه سيُغطّي بقيّة سهرتي.

 

  هبوبٌ مُفاجئ هزّ أركان خيمتي العتيدة، في أوّل امتحان لها أمام حالات الرِّياح المُتكرّرة في هذه المنطقة، فرحتي عظيمة بصمودها، شعرتُ بنشوة عارمة، وأنا أتلمّس بقايا فُقاعات في راحة كفّي اليُمنى من يد المطرقة عندما دققتُ بها الأوتاد.

 

   انطفأت الشّمعة، كدتُ أبكي هزيمتها من أوّل موقف لها، كما حصل لنا يوم النّكسة. هي لم تتعرّض مُباشرة لهجوم الرِّياح، بل بما تسرّب إلى داخل الخيمة من خلال الفتحات، التي أفصحت عن حالها، نبّهتني لمعالجتها غدًا في الصّباح.

..*..

 

ما إن أقلعتُ بخطوتي الأخيرة من عتمة انطفاء شمعتي، اختفى ظلّي المشُوه، حتى استقبلني شمعدان جبران بنوره المُتوهّج بأضعاف مُضاعفة لِقُوّة شمعتي، رسم البهجة في نفسي مُجدّدًا رغم الأسى والقهر، وأعاد تشكيل ظلّي بما يليق بي.

   ارتياحٌ عامٌّ، وارتخاء أعصابي المُتشنّجة، نظراتي توزّعت على الجدار تتبَّعُ تفاصيل تداخلات ظِلّيْن أسوديْن؛ اتّحدا بتطابق مُنقطع النّظير، بياضُ الجدار المائل للاصْفِرار قليلًا، لم يُظهر انزعاجه من حمل ظلّي المُتعانق مع ظلّ جُبران. وكأنّني أمام شاشة عرض سينمائيّة، أدمنت ظلًّا واحدًا.

   ردّ تحيّتي، بعدما ألقيتُها عليه. ترافق مع سَحْبِه لِشَفْطَةٍ من سيجارة، كانت أمامه على جانب منفضة السجائر. دُخانُها شكّل حاجزًا، فَطِنتُ أنّ لساني لمْ يتحرَّك أبدًا، ولم أتذكّر أنّ كلمةً خرجت من حاجِزِ شَفَتيَ المُغلق في وجه حركة العُبور والخروج، أزعمُ أنّ أُذُنُيَّ ما سمعتا شيئًا؛ خرق سُكُون اللّحظة الفارقة من حياتي.

   شُحوب سيطر على سَوَاد الظلال على الجدار، سُحُب الدُّخَان حاولت تعميق الهوّة بالمُباعدة بيننا، لولا تدخّل نسمة لطيفة؛ لطرد فُلُولِها إلى خارج الغرفة من النَّافذة المفتوحة.

   اِنْتبهَ لِوُقوفي خلفه، صمتي موحٍ بالقلق. مُستفسِرًا: "كيف تتجرّأ على اقتحام عُزلتي..!! يا فتى؟".

   تلعثم لِسَاني لسؤالي ترافق مع فرحتي لإحساسه بِوُجودي معه، كي لا أبقى أُحاكي نفسي كمجنون راقت له مُمَارسة الحالة، وكنتُ أظنّ استغراقه في بحار تفكيره المُعتادة.

"   يا سيّدي تكسّرت أجنحتي عندما تركتُ بيتي، وجئتُ إلى خيمتي التي أصبحَتْ قَدَري المحتوم".

"   ولمَ لمْ تأتيني هنا في اِبْشِرّي، لكنتُ أعطيتُكَ جُزءًا من بيتي الكبير".

"   كأنّك ما سمعتَ بما فعلوا؛ بمن جاء من السّوريّين إليكم..!!؟".

"   حقيقة مُعتزلي هذا أبعدني عن مُحيطي.. هات حدّثني، غرابة كلامكَ جعلتني أشكُّ أنّني يوم قدمتُ من الشَّام مع أُسْرتي، كنتُ صغيرًا، وما أذكُرهُ عكس ما تقوله تمامًا، رُغم سَكَنِنا في قُرى عديدة من البِقاع حتّى هنا؛ فما الذي حدث لكم الآن".

"   يا سيّدي: إنّها السّياسة..!!".

"   أذكرُ أنّنا عَبَرنا من الشَّام إلى هنا، ولم يعترض طريقنا أحدٌ".

"   يا سيَّدي اِسمحْ لي أن أُخبِركَ: أنّ معلوماتك قديمة جدًا جدًا. هُناك حدود وأختام على صفحات جوازات السّفر، ختم خروج من الشّام، وآخر لدخول إلى لُبنان، وتفتيش، وتدقيق، وتحقيق في دوائر أمنيّة، إذا حدَثَ لديهم أدنى شكٍّ بتشابه شَكْلٍ مع آخر، أو إذا تشابهَتِ الأسماء، وهو الغلط الشّائع الأكثر حدوثًا، وأسوأ مصيرًا".

   "ما الذي أسمعه؟".

 

    علامات الدّهشة بادية على وجهه، وخفتت نبراته صوته المُتهدّج لشدّة تأثّره، هرَش فروة رأسه بشدّة، أسمع صوت احتكاك رؤوس أصابعه تَقْحَطُ القشرة الأولى من الجلد، لينزّ الدَّمُ خلفها مُباشرة.

 

   "ولماذا الحُزن على الوطن، وأنتم سلّمتُم قِيادَهُ لغرباء، وتقتتلون من أجل الحُريّة، وهل تعترفون بها في نفوسكم وفي بيوتكم..!!؟".

 

   "يا سيّدي، سأحكي لكَ بعضَ مزاعمي: وأنا في بطنِ أُمّي، وهي تجلس مع جاراتها يتجاذبنَ أطرافَ الحديث، بمرحٍ وسُرور، وضحكاتهنّ تتعالى لتفيض على ساحة الدّار الواسعة، قالت إحداهنّ بصوت هامس لمن كانت في جانبها، وأسمَعَت الأُخريات، وحرّكت يدها على شفتيْها علامة التحذير بقفلهما، والتوقّف عن مُتابعةِ الحديث في شأن عامٍّ: "يا خَيْتي اُسكتي.. للحيطان أذان". تبدّل الموضوع فورًا إلى محور آخر.

  

   أنا لم أحتمل لمّا سمعتُ التّحذير، أصابني رُعب مُفاجئ، انكمشتُ على طريقة القُنفُذِ، وصار رأسي بين فخذيّ، وتحوّلتُ إلى كُتلة كرويّة تتدحرج بعصبيّة اهتزّ لها بطنُ أمّي، عندما رفستُ أحشاءها، استندت على الجدار، تقطّعت أنفاسها الحرّى، ولسانها يتلجلج: "بسم الله.. شو إللي صار"، يا سيّدي منذ تلك اللّحظة خِفتُ، وما زلتُ إلى هذه اللّحظة".   أنفاسأأ

 

 

   جلجلت ضحكته في أرجاء الغُرفة، ارتجّتِ الطاولة، اهتزّ الضّوء، كاد أن يقع المصباح البِلّلوريّ، لولا امتداد يده لحمايته من السّقوط، غضبُ ظِلّيْنا جعله يتلوّى، وتتخربط معالمه، شُعوري أنّه ذُعِر لذعري القديم، هكذا أظنّ.

 

   "يا بنيّ هذه حال الشّرق منذ القديم.. وتجدّد مع توالي الأيّام والحكّام.. وصار الأمرُ نهجًا تبريريًّا: "العادل الظالم". بالله عليكَ..!! كيف يتّفق العدل مع الظُّلْم؟، وهما نقيضان مُتباينان، فإمّا عدلٌ أو ظُلمٌ، لا حَلّ وسط بينهما، هذا السّياقُ تبريريٌّ تزلّفيٌّ من عالم مُنتفِعٍ باع ضميره للشيطان، طمعًا بمكاسب".

   "يا سيّدي: أنا موقنٌ بما تقول، وهو نُعانيه من هذه الفئة. بنفسي سُؤالًا حيّرني زمانًا".

 

   قبل أن أُنهي كلامي، بدا مُستعدًا للانفتاح أكثر، قاطعني: "اِسْأل ما بدا لكَ".

 

   "يا سيّدي، ما بالُ كلّ ظالمٍ وقاتلٍ ومُحتلٍّ وسفّاح، بحاجة لِمُفْتِيه، وصار المُفتي من لوازم المشهديّة؟". 

 

   أخذ نفَسًا عميقًا مُترافقًا مع شهقة، ظننتُ أنّه لَفَظ أنفاسه الأخيرة، مسح جبينه بقطعة قُماشيّة من تَعَرُّق جبينه، ثمّ تنحنح، كهيئة من يقف خلف مايكرفون يُريد إلقاء خطاب ما، تنبّهتُ إلى أنّه ما زال. تابع: "كأنّك تُسابقني تَعَجُّلًا في استخراج أفكاري المُرتّبة حسب أولويّات الحديث يا بُنيّ. قوّة أيّ حاكم ليست نابعة من مُفرده، ولكن دَعْني أستعيرُ لكَ تمثيلًا وصفيًّا لجوقة الحُكم في أيّة دولة، أُشبّهها بصحن سلطة -كدتُ أنفجرُ بضحكة غير مُتوقّعة منّي، في مثل هذا الموقف: "صحن سلطة!!؟"، تماسكتُ وأنا أكتُم أنفاسي، مهابة الجلسة قمعتني بشدّه، استعدتُ توازني للاستماع لما سيقوله -

   قد تكون، وأنا أزعمُ أنّ السُّلطة جاءت من التَسَلُّط, الذي يأتي من الغلبة بالقُوَة, أي أنّ هُناك غالبٌ ومغلوبٌ, قويٌ ومُسْتَضعفٌ مُستهدفٌ مُهدَّدٌ بِعَصا السُّلطة, والتي يكون صاحبها سلطان تسيَّد بقبضته على مَنْ هم دونه أولاً، وعلى راكبي السُّلْطة, ومن خلال الفُتَات الذي يَرميه أمام أفواههم؛ فَركضُوا لاهثين لإسكات عَضَّةِ البَطْن, وهكذا تَمَسَّكوا بمُكتسباتِهم لإشباع البطن الذي اِسْتحال إلى نَهَمَةٍ شَرِهَةٍ, بحيث أصبحُوا رباطاً وثيقاً حول سيّدهم, الذي حوّلهم إلى عصًا غليظةُ طائعةً؛ تضرب أعداءه المُجاهرين بعدائهم له، والذين يُعتبرون مُتهوِّرين بجرأتهم الكاسحة لحالة التَسَلُّط من جرَّاء المظالم، التي ارتبط مصيرها بمصير السُّلطان صاحب السُّلْطة؛ وبالتالي أصبح هؤلاء الأتباع المُنتفعين، هم العَصَا القادرة على القَهْر لأبناء طبقتهم التي استضعفها سيَّدهم؛ وكذلك أصبحُوا قلعةً يتحصَّن خلفها، وهو الذي يسعى على الدّوام؛ لتجنيد المزيد من هؤلاء المُسْتضعفين المُطيعين, ومنهم الذي حظي بقُرْبِه من سيّده؛ لأنه تنازل عن مُقوِّمات إنسانيَّتِه؛ فصار من القماءة والدَّناءة بما يكفي؛ لاعتقاد سيّده به: أنّه أصبحَ عبداً مأموراً، يأتَمِرُ بأمره، ولا يستطيعُ رفْضَ أيَّة مُهمَّة سيكلفه بها, وبذلك يخلعُ عليه شيئاً من الألقاب والرُّتَب، ويغدق عليه المال، ويمدُّ له أسباب التَسلُّط على مَنْ هُم دونه, وعند ذلك يكون قد أصبح قائداً للسُّلطان بجدارة".  

   كلامه أخذني بعيدًا بعيدًا، حفّز ذهني لخيالات أثيريّة؛ انفتحت على عوالم المقارنات والتأويلات، لم تكُن لتخطر لي على بالٍ أبدًا: وفي لحظة هاربة من هنا، مُتمثّلًا نفسي, وأنا أجلسُ إلى طاولة في أحد المطاعم؛ فجاءني النَّادل بصحن سَلَطَةْ بشكله المُنَسَّقِ الجميل, تأمَّلتُ.. بِبُعدٍ فلسفِيٍّ تلك الخلطة من الخُضار المُختلفة الشَّكل والطَّعم, جيء بها، وجعلوها وجبةً ضَروريَّةً مُرافقِةً للوجبة الرَّئيسَة, وقد كان للملح والحامض والزَّيْت، الدَّوْر الأساسيّ في جعل ما اختلف من الخُضار شكلاً ولوناً, طَعْمًا ومذاقاً، في سياقِ وحدةٍ متناسقةٍ مُسْتساغةٍ.

   لفَتَ اِنْتباهي مرور رجلُ سُلْطَة حِذاء طاولتي بِبِزَّتِه الأنيقةِ، ومُرافِقيهْ يُحيطونه. رجعتُ لتأمُّل صحن السَّلَطَة، وصاحب السُّلْطة؛ فتبيّن أنّهما يرتبطان بشكل أو بآخر على أنَّهما خليطٌ غير متجانسٍ أصْلاً, لكنَّ بوتقة الصَّحن، والسُّلْطان هما اللَّتان مَزَجتا الخليط؛ حتّى صار مقبولاً مُتذوَّقًا بتلذُّذ من الزبائن في الصّالة الفسيحة، وكذلك صاحبُ السُّلطان ينتظرُ بدوره صحن السَّلَطَة محمولًا على أيدي النّدَلَة". جَمَحَ الخيال بي شطَطًا لاختراع هذه المُقارنة. الخيال إذا تحفّز اِنْتظرْ نتائجه. والتفكير الحُرّ حتّى على جناح الخيال؛ سيبُدع بما يُشبه الجُنون.

..*..

    لم أشَأْ إِخبارهُ بما عَنّ لي من كلام كثير، ما وعيتُ شيئًا منه. تباعدنا كلّ في وادٍ بعيد عن الآخر. الحواجز تصنع التباعد، وهو ما حصل في هذه اللّحظة بيننا. مهابةُ المُعلّم في قلب تلميذه، يجعله مُقِلًا بالكلام، أو التبسُّط في حضرة الأستاذ بِهَيْبَته وَوَقارِه. ولا أودُّ إضاعة الفُرصة بكلامي الذي  لا يعنيه بشيء، بل مُنتظرًا منه المزيد والمزيد، لِحُصول المُراد الذي طالما انتظرته على حافّة أمنية.

   شعوره بشرود أفكاري، جعله يُنادي بوتيرة أعلى: "هل تسمعني..!!؟".

   "نعم يا سيّدي.. كُلّي آذان صاغية لك".

   كيف لي تبرير كَذِبي بجوابي له، إذا لم يتوقّع أنّي أكذب، لكنّي حقيقة كذبتُ على نفسي. الكذب على النّفس جريمة عُظمى، اقترفتُها بِحَقّ ذاتي.

   فِعلًا كانت آذاني تسمع صوته، تفكيري شرد. بقيَ مُستمرًّا بكلامه، وا أسفاه على ما ضاع منّي، علّ فيه زُبدة كلامه، ولا نَفْعَ لِلَوْمٍ بعد فَوَات الأَوَان.  

   "يا سيّدي إذا سمحتُ لي بسُؤالٍ أخير، سامحني لأنّي أثقلتُ عليكَ، وأخذتُ من وقتكَ الثّمين".

 

   "تفضّل، وأنا على استعداد لإجابَتِكَ، لو بقيتَ تسألني حتّى بُزوغ الشّمس".

 

   "وا عجبي من قوم أنتَ فيهم، بنوُا لأنفسهم صُروحًا مُتعالية؛ مليئة بالكراهيّة، المُتأجّجة كنيران تأكل الأخضر واليابس، وتركتَ فيهم نبيّكَ دليل محبّة الإنسان لأخيه الإنسان، والتعاليم التي ما فتئتَ تتحدّث بها، ودوّنتها للرجوع إليها".

 

   تغيّرت ملامح وجهه، قطّب جبينَهُ، ارتسمت خطوطًا عليه مع ارتفاع حاجِبَيْه للأعلى. لا أدري.. هل غضب من سُؤالي، أو ممّا عرفَ من حقيقة النّاس الذي كتبَ لهم، وحاول جاهدًا بثّ أزاهير الحبّ والتآخي الإنسانيّ للعموم.

 

   تهدّج صوتُه بِبُحّة مكتومةٍ، ذابلةٍ كَسِيرَةٍ ناضحة بأسىً لم يقُله، لكنّي أحسستُ به، أو هكذا توقّعت، وُقُوفي خلفه أخذني إلى دائرة التّخمينات، والكلام على ذمّتي، وترقرقتُ دمعة بين جَفْنيْه تُغالبه الهطول إلى مُنحدر خدّيْه؛ كأنّه لم يُمارس الكلام منذُ مئة سنة، سمعتُه هكذا أظنّ: "يا بُنيّ لن أزيد على ما قيل: لا يُطاع نبيٌّ في قومه".

 

   اِمْتدّت يده لإطفاء فتيل شَمْعدانه، في لحظة لفظَتْ شَمْعَتي آخر أنفاسها. صوتٌ غريب أرجفَ جسديْنا، وأرغمَ جُبران للاستدارة في محاولة منه؛ للتأكّد من حقيقة الصّوت:

 "انتبه لمن خلفك..!!".

 

   واختفى ظلّي عن جدار خَيْمَتي، وما زال خيالي لاصقًا هناك على جدار غُرفة جُبران، تمنّع من عودته لي، إِلْحَاحي لم يُجْدِ نتيجةً، صَرفْتُ النّظر عنه مُؤقَّتًا، فطنتُ لمعصمي وساعته، أضأت شاشة الموبايل، لأجدَ عَقْرَبَاها قد تطابقا، كأنّ الذّكَر منهما اعتلى ظهر أُنثاه للتزاوج، ومُمارسة غريزته اليوميّة مرّتيْن، المخاضُ الآن يعتصر وِلادَة الدّقيقة الأولى من اليوم الجديد.

 

   عاصفةٌ هوجاء من صور الضفادع والقطط والسّلاحف والدّجاج والحمير، اِجْتاحتني بهمجيّتها الفَظّة، وأعادت فتح أبوابًا جَهَنَّمِيَّةً في ذاكرتي، وجدّدت نَكْشَ ثُقْبٍ قديمٍ، تَعَالت عليه سِنِي عُمُري بعقلانيَّتِها، وقد ودّعتُ طُيوفَ طَيْشٍ استبدّ دَهْرًا بتوثّب غرائزي.

..*..

 

   لم تكن هذه الولادة مُبشّرة بإيذانِ مَوْلدِ فجرٍ جديدٍ. فطنتُ في الحال لمغالبة البول على الخروج، يتزاحَمُ مع شرودي؛ لاِسْتِراق الوقت المُتوقِّف في ذهني عندَ شرعيَّة، أو لا شَرعِيَّة وِلادةِ الدّقيقة في هذه اللّحظة مع تَحوُّلاتي البيولوجيّة.

   بواعثُ التفكير تنتشي في رحاب السّكون الهادئ. خيال جُبران لم يَبْرَحني؛ لألتقط أنفاسي في مُستنقع السُّكون غارقًا بأوحاله الآسِنَة، صوت فيروز حاول شقَّ سُكون المُستنقع، فَشِلَ، وانسحبَ من المُحاولة الأولى: (سَكَنَ اللّيل، وفي بعض السُّكُونِ، تختبي الأحلام \\ وسعى البدر، وللبدر عُيون؛ ترصد الأيّام). لا أرى إلّا سُكونًا يُضمر شيئًا لا أعرفه، شعورٌ بالخوف استبدَّ بي مُجدَّدًا بعدما ذهبت السَّكْرَهْ، وجاءت الفِكرة؛ إذْ وَجَدت الفُرصةَ مُواتِيَةً لها.

   وهل بقي لنا أحلامًا لتختبي، ضاعت تحت بساطير العساكر، آلهة الرُّعْب. اِحْتَلَّت ضوء القمر، وعَصَبَتْ عينيْه، واحتكرته لها وحدها، ممنوع على الشّعب رؤية القمر.

   وعقارب السّاعة ما زالت في حالة تزاوج شَبَقِيٍّ شغِفٍ لا يتوقّف.. تزاوج قسريٌّ بما يُشبه التَّزاني المُشَرْعَن، من خلال خلوات غير شرعيّة.. تحت نظر الآخرين، وحَظِيَ بِمُباركتِهم، ونَيْلَ رِضاهم، ولم يطالب أحدهم: بإقامة حدّ التَّزاني عليهم.

   رشاقة حركة عقرب الثواني في عجلة من أمره، لرصد المشهديّة من جميع النّقاط. حريصٌ على المُتابعة، مُكْتَفِيًا بِدوْرِه، فقط يُشاهد ويتحسّر، ويُبارك المولود.

   تساؤلي: هل هو فاقد لخصائص ذُكورته؟.

   الغريب أنّه لا يُستثار مما يرى، ويحدث تحت سمعه ونظره، لا يعدو إلّا  كونه حارسًا مؤتمنًا لإتمام العمليّة. هو الشّاهد الصّامت المُشارك.

   ما لي ولوجع الرأس.. وصُداع ملأ رأسي تفكيرًا بعقارب السّاعة؛ فلتذهب هي وعقاربها إلى الجحيم.

   سأنوي وضع خُطّة للتخلّص منها. خياري الأوّل تحطيمها وَدَقَّها بين حجرين، بعد سنوات لم أعرف كيف كشفت زوجتي بما نويته، فتدخلت بكامل ثقلها في اللحظة الأخيرة بتهديدي بأشدّ العقوبات إن فعلتها، وذكّرتني بأنّها هدية من صديقي ولها قيمتها وذكريات فرحي بها. وفي مرحلة طويلة من المُفاوضات، واللجوء لخيار عرضها للبيع، هو الأجدى، احتجاجي لم يُجد نفعًا معها: "برأيكِ، وهل ستكون بقيمة ساعة إيلّلي كُوهين؟". ردّها أسكتني: "لكن حاجتنا الماسّة لثمنها".

   بلا تصويتٍ.. نال القرار إجماعنا بالتزكية، بنسبة تسع وتسعين وفاصلة، كما انتخاباتنا الدِّيمقراطيّة، التي تركت واحدًا، ولم تُعلِنْ المئة كاملة، أظنّ أنّ الواحد برأيهم: هو فنار الديمقراطيّة في بلادنا. الواحد الوحيد المُتوحّد لم يُقل: "لا.. بل أشار إلى نعم"، وهو على يقين بأنّ عين حاجب الصندوق الشّفاف؛ ترقبُه باهتمام.

   بعودتي للحظتي في الدّقيقة الأولى، أردتُ مُباركتها؛ فتكلَّمْتُ كثيرًا بحريّة تامّة، أُذُناي لم تسمعان ما قلتُ، حتّى موضوع الرّغيف، وسبب بقائنا.

   اقتحامٌ مُفاجئ، تبيّنتُ هُويّة المُقتحِم. آآآه.. يا لروْعَتِك حمزاتوف..!! جِئتَ على قدَرِك بالضّبط، ولو تواعدنا لاختلفنا في الميعاد؛ فقط لِتُخبرني: "القَدَرُ كان طَيِّباً معي، لم أكُنْ مَجنونًا، ولا أعمى، سِوَى أنَي ما زلتُ أريدُ رؤيةَ الرَّغيفِ بِسِعرٍ أقلَّ، وحياة البَشَر بِسِعْرٍ أغْلى".

   مادام الوقت هنا مقتول على مذبح الانتظار، فما حاجتي لساعة تعيد إليّ توتّري والإحساس بإهمالي في هدر الوقت، وما سَيَتلُوه من تأنيب ضميري على أمْرٍ مُقرّر من فوق..!!. لا يد لي فيه مُطلقًا، بل مفروض على الجميع هنا.

غافلتُ زوجتي بعدما اطمأنّت إلى مُوافقتي، وعلى أطراف المُخيّم المُنزويَة، توارَيْتُ عن الأنظار، بهدوء تامٍّ، وعن سابق إصرار وتصميم، تركتُ حُطامها هُناكَ، وعُدْت وليس بي ندَمًا عليها. ادّعائي بضياعها لم يُقنع زوجتي، لكن لن يُخبرها أحدٌ بالمصير الأسود الذي واجهته ساعتي بنفسها. ولم تُنقذها من جُنون انتقامي، شفاعة الشّافعين فيما لو علموا قبل ذلك.

..*..

فطين:

   لا شكّ أنّك عانيْتَ؛ كما عانى صديقنا أبا فندي في ليلته الأولى في المُخيّم.. أرهقني، وأرهقَ نفسه في آن واحد. فقد ظهرت لي دواخله النَّاثَّة حُزنًا في بكائيّة جارفة، وكأنّي على موعد عاشُورَائيٍّ بموسم المآتم الحُسَيْنيَّة السَّنويَّة، أشعرُ بمن يُعاني من آلامٍ تاريخيَّة قديمة مُتواكبَة مع مسيرة أجيال مُتعاقبة، دُموعها مُتواصلة بلا انقطاع.

   تكشّف لي صديقنا عن حالة إبداعيّة سحبتني إلى تداعيات أفكار القلق، هيّج دواخلي. أبكاني.

   مغصٌ حادّ كسكاكين تُقطّع أحْشائي، عصافيرُ النّوم فَرّت من أعشاش ليلي، أشرقَتِ الشّمسُ، تباعدَ النُّعاس بمسافات مُنهكة لأعصابي التَّعْبَى أصلًا.

   شُعوري لا يوصف، بمعاينة بُركانه النّاشط بثورانه؛ اِنْهارَت جميع حُصوني بلا مقاومة، عندما اِمْتدَّ رماده إلى ساحتي؛ فصبغ حياتي بلونه الحزين.

   ظنّي لم يصدُقني هذه المرّة، بأن عشرة سنوات فيها الكِفاية؛ لإخماد بُركانه. ضحكتُ من ضحالة تفكيري، بوقوفي مُباشرة على ناصية الحَدَث بِطَزاجَتِه القديمة كأنّه الآن. أعيشُ الحدث مُتمثِّلًا مأساتنا الكبيرة، التي تُعادل مأساة البشريّة أجمع منذ بدء الخليقة إلى لحظتنا هذه.

   وماذا سأحكي يا فاضل، وما الذي أستطيعُ إخفاءه عنكَ يا صديقي؟. سَأُرسِلُ لكَ ما أرسلَ لي، علّكَ تُشاركني إحساسي، لأتأكَّدَ ممَّا حدث لي، أهو خاصٌّ بي، أم سينتقل التأثير لك؟.

   حسِبتُ أن غُربتكم، ورغد العيش سيغيِّرُكُم. أدركتُ أنّني أمام هَرَم لا يتزحزَحُ بِعَنادَةِ ثباته، وَثِقَلِه. اطمأننتُ إلى أنّ الحقّ لا يموت، وإن ماتَ؛ حِيْلَ بينه وبين صاحبه؛ بموت أو تباعد زمكانيٍّ.

   كما تخبُرني أؤمن بالتَّجْزيء، والحِمْل إذا وُزَّعَ سهُل حَمْلُهُ ونقله. وأسوأ أنواع التجزئء الثّقيلة على نفسي، المقيتة بِثِقلها، الكريهةُ بنتائجها: "سايكس بيكو".

   هذه المرّة. شهدَ أبو فندي ميلاد الدّقيقة الأولى في اليوم الأوّل له  في الخيمَة، لا شكّ عندي بأنّك شهدتَ ما شهِدَ هوَ؛ فسَتُكملُ بقيّة اللّيلة هذه التي أخبرتكَ عنها، وسيكون الوقت معك، لاستعادة أفكارك، وإعادة ترتيب أوليّاتها، لتكون شهادتكَ مُترافقة، بل مُتزاوجة عُرفيًّا بلا عَقْدٍ شَرْعيٍّ مع شهادة أبي فندي.

..*..

فاضل:

   الميلاد بداية انحدار على دَرَجات السُّلّم، ونقصٍ في عمر الوقت والإنسان. لحظتُها تكون مليئةً فرحًا وسرورًا، ونهايتها تُبلّلها دُموع الفَقْد والخُسران.

   فرحٌ وحزنٌ لا يأتيان معًا. تُباعدُ بينهما بداية ونهاية اللّحظة الوليدة. وقتذاك على ما أذكر.. كتمتُ انفعالاتي على وقع تلك اللّحظة الفارقة.

   حاولتُ التفكير بهدوء، ربّما تبوء محاولتي بالفشل. على الأغلب هكذا أتوقّع، المؤشِّراتُ تشيرُ بأدلَّتِها عكس ما أتمنّاه، وعليّ توجيه شراعي من جديد.

   فكرة الموت باغتتني هذه اللّحظة. رغبةٌ صادقةٌ استبدّت بي، وَدِدْتُ صرخةً تَشقُّ نصف الكُرة الأرضيّة المُظلم، لا بل لو كانت تجتاح النصف الآخر المُعاكس.

   انتصبتُ واقفًا بجانب عمود الخيمة، فأصبحتُ مُتَخَشِّبًا، تماثلنا في الحالة، حواسّي شغّالة بأدنى درجاتِ طاقَتِها، أعضائي تصلّبَتْ؛ عندما فتحتُ فمي بأقصى مدى اِسْتَطعتُه اتّساعًا؛ اِرْتدّت صرختي مُتدحرجةً في الاتّجاه المُعاكس إلى داخلي، كقُنبلة موقوتة على وَشَكِ الانفجار.

   اهتزّت أركان الخَيْمة كادت تتهاوى، عمودُها لم يحتمل ثقل جسمي المُتأرجِح خوف السُّقوط أرضًا، لا مساحة فارغة تستوعبُ حجمه وثِقَله، صوت زوجتي أيقظني من كبوتي، كأنّ النّوم غادرها مثلي: "بسم الله.. ما الذي يحدث يا فاضل، ظننتُ زلزالًا ضرب المُخيّم".

   أيقنتُ أنّها قالت شيئًا ما استطعتُ سماعه، ولا هي سمعتْ صُراخي، ولم أسمع كذلك صُراخي مع "السَيَّاب" في لياليه الأخيرة، قُبيْل احتضاره في المشفى، ورئته تَتَمَزَّق، وعُمُري يتمزّقُ أيضًا، هو على سريرٍ طَرِيٍّ مُحاطٍ بالعناية، وأنا في خيمة مجهولة.. في مكان مجهول.. لا شيء يُشجّع على الحياة.. كما لا شيء يُشجّع على الموت: "كمْ ليلةٍ ناديتُ باسمكَ أيّها الموتُ الرَّهيب// وَوَدِتُ لا طَلَعَ الشُّروقُ عليّ إِنْ مَالَ الغُروب// واحَسْرتا..! كذا أموتُ..! كَمَا يَجِفُّ نَدَى الصَّباح..!".

   كلانا أمامَ قَبْرِه الفَاغِرِ فَاهُ لابتلاعنا. المآلُ مُتشابهٌ، ويقيني يفهم ماهيّة القبر؛ فلماذا نستعجله؟.

   الفارق الوحيد أنّنا أمواتٌ بلا قُبور. هيئة الأمم آَوَتْنا في خيمتها، تُطعمنا. تسقينا، تُعالجنا بحبّاب الأَسْبرين، حِرصًا منها على حياتنا؛ وللابقاء علينا أحياءَ كالنّمور في أقفاصِها؛ وكأنّهم يُريدون ترويضنا على الذُلّ، كما في قصّة (النّمور في اليوم العاشر) لـ"زكريا تامر"، يتحوّل النمر إلى قطٍّ خلال عشرة أيّام تحت ضغط سياسة التجويع.

   إلّا أنّ صديقًا علّق على قصّة الترويض هذه. ذات لقاء فيسبوكيّ بدردشة عابرة وعلى الخاصّ طبعًا، أنّ: "النُّمور في اليوم الحادي عشر.. وفي اليوم الحادي عشر هرَب النِّمْر من قصّة زكريا تامر؛ ليترك حياة القِطَطِ، ويعود نمراً كما كان.

إِنَّما لم يجد الغابات والأحراش. وعلى أوّل مَزْبَلة اِلْتقى بصديقته النِّمْرة، التي قالت متسائلةً: كلّنا صِرْنَا قِطَطًا، هل تُحبُّ المزابل؟.

صدر عنه صوتٌ يُشْبِه المُواء، وأجاب قائلاً: إنْ قُلتُ:(نعم)، أو قلت: (لا(.... ؛ فلن يتغيّر حال الطَّعام على المزابل".

    أقعدني الإرهاق أرضًا مُلتصقًا بالعمود. هدأ اهتزازه. لم يظهر لي خيال اهتزازه ولا لزوجتي، انطفاء الشّمعة أضاع مُتعة رؤية مشهديّة ربّما لن تتكرّر مرّة أخرى.

    يا لها من امرأة عظيمة. تحاملتْ على متاعب جسمها المُنْهَدّ، صمتُها كصمتِ قَبْرنا هذا، صَبُورةٌ وهي تُهَدْهِدَني على صَدرِهَا، وتدفع بي إلى فَرْشَتي الإسفنجيّة؛ تُغَطِّيني بِبَطَّانِيَّتيْن، تمسحُ على جبيني بِلَمْسَة بَلْسميّةٍ؛ ردّتْ بعضي إلى بعضي.

   فأنا لستُ النبيَّ العائد من غَارِهِ مُرتَجِفًا من لقاء الوَحْي، ولا هي خديجة تُدثّرهُ اِمْتثالًا لطلبه.

..*..

 

 

 

   الوسادة تَئِنُّ تحت وطأة رأسيَ المُثقل هُمومًا وأحزانًا، تتوالى الأفكار بِطَرْد هدوء الدّماغ؛ للاستجابة لاِنْهِداد أعضاء الجسم المُنهكة من تَعَبٍ؛ وَقِلّة نَوْم على مدارِ أيَّامٍ سابقة، إلّا قليلًا لا تَفِي بالغرض.

   لا ضوء للقمر الآن. العتمة تلفّ الخيْمة بسِتَارٍ عازلٍ للرُّؤية. هلْ من المُمكن أنّ التيَّار الكُهربائيِّ اِنْقطعَ تمامًا؟. أعمدَتُها الطَّويلة أوَّل اللَّيل، كانت تنشرُ ضوءَها في محيطها، وَهَجُه الخَافِت يحيطُ بِخَيْمتي.

   شاقَنِي تسجيل هذه الذكرى، مَدَدتُ يدي لكتابةِ شيءٍ كان بنفسي على قِمَاش الخيْمة أمام وجهي، كأنَّ مَاسًّا كُهربائيًّا سَرَى بها، ارتدَّت بحركة لا شُعوريَّة.

   هاتفٌ صاح بي: "لا تكتب.. لو كتبتَها على جدارِ سِجنٍ؛ لكان أشرف لك". اِسْتَدَرتُ برأسي، زاغت نظراتي في الظلام ضَيَاعًا.

   عندما بحثتُ عن قلم، لم أفطَنْ لِنِسْياني له هناك على طَاوِلتي؛ يُؤنِسُ وِحْدَة أوْراقي الموحِشة الحزينة. بجانب وجهي على الوِسادة، وجدتُ مساحة مَلْسَاء مُسْتَوية وأنا أتلمَّسُ خَدِّي، وأمسحُ دمعةً باردةً اِنْزَلَقتْ مُنحدرة قاصِدَة طَرَف شاربي، خَطَّت سُبَّابَتي المُبلّلة بماء الدّمعة، أحْرُفًا وكلماتٍ على الوِسَادة، ارتياحٌ داخليٌّ لما فَعلتُ، أغمضتُ عِيْنيّ بمحاولة جادَّة للنَّوم.

   لسانُ زوجتي لا يتوقّف عن البسملة، والحَوْقَلة، والتَضرُّع إلى الله؛ أسمَعُها هامِسةً، وَدِدتُ مُشاركَتِها عبثًا ما اسْتطعتُ. سَكَتَتْ، ما عُدتُ أسمعها.

   من يَمينِ خيمتِنا وَصَلني صوتٌ هامِسٌ بِتَأوُّهاتٍ مُتقطِّعةٍ، ومُتواصل مرَّةً مع غَنجٍ..: "يا إلهي.. كأنَّهُ..!!".

   شريط صُوَر وخَيَالات اِنْثَالت بعرض كما في صالة السِّينَما، أو مَقْطعًا مُخِلّا على اليوتيوب. أرفعُ رأْسِي لأتأكّد من نوم زَوْجَتي، لا أودّ أن تسمعَ ما أسمعْ. دقائِقُ قليلةٌ اِخْتَفى العِراك العاطفيّ، وهدأت العاصفة، لتثور من مكان قريب منّا، عاصفة أخرى، امرأة تستنجدُ بأهل النّخوة، وضوح صوتها أفصح: "بأنّ أحَدَهم اِقْتَحمَ مَخْدَعَها الخيمة".

   أيّ نوع من اللّصوص هذا الشَّابُّ، مُؤكّدٌ اِطْمئنانه إلى خُلُوّ  المكان. بعد مُنتصفِ اللَّيْلِ معظم النّاس ناموا على الأغلب، القليلُ القليل منهم من يصحو، لِشَأْنٍ خاصٍّ به.

  أصواتُ المُتراكضين للنجدة، وللاِسْتطلاع لما حَدَث. اِثْنان عَبرَا من جانب الخيمة، أحدهما يقول: "إذا كان من هو بظنّي، هذا الولد الأزعر كلّ يوم يسطو على خيمة، بعدما يترصّدها نَهارًا، قالوا عنه: أنّ غايته افتراس النِّساء".

   الآخر: "والله هنا كلُّ شيءٍ جائز، لو أمسكتُه لفصصتُ لحمه عن عظمه".

     الأوّل: "فَلْتَة حُكُم، ولا رادع يردعُ، والشُّرطة لَيْلًا ممنوع عليها الدّخول إلى عُمق المُخيّم، بأوامر من قيادة المُخيّم".

   ردّ عليه: "يبدو لي أنّ هُناك أكثر من واحد، لأنّه من غير المعقول أن تتكرّر في نفس الوقت في أنحاء مُتباعدة من أطراف المُخيّم".

  اِضْمَحلَّ صوتُهُما. خُطُواتهم المُتسارعة بين الهرولة والرّكض تباعدت عنّي، اِسْتفاضَتِ الأصواتُ الُمختلطة بتبديد هدوء اللّيْل على مدار نصف ساعة.

   وِسادتي خاليةً منّي، وأنا خالٍ منها؛ فهي غريبة عنّي لا أدري من أينَ جاؤُوا بها إليّ، ولا أرى فيها أيّ رابط بيننا، إلّا أنّها تُسْتنِدُ رأسي. لا أدري كيف حدث أنْ كتبتُ عليها بِدَمْعتي..!؟.

   غَطَس رأسي بثقله في عُمْق الوِسادة بضغطها بِقُوّة وعصبيَّة، كيف لي أن أنامَ قرير العين، وأسمعُ ما أسمع. نشيجُ خافتٌ يُحفّز مشاعري، كانَ عليَّ الخُروج من عَجْزي، والعودة إلى طبيعتي، خاطبتُها: "لا تَبْتَئِسي يا أمَّ مجدٍ.. عيني سَاهِرةٌ حارِسَةٌ لكم، نَامِي واِطْمئِنّي".

..*..

   رأسي مُثقَلٌ حُشِرَت فيه أشياء كثيرة الهامُ منها، وأغلبها لا فائدة تُرتَجَى منه. أنينُ الوِسَادة بأَحْمال أَثْقَلَتها زِيادة، وهي مُجْبرَة على ذلك؛ فلا خياراتٍ إضافيَّة لها.

   لا أَسْتَهوي سَحْقَها ولا مصلحة لي في ذلك. ما الحلّ إذا لم تَكُن عَوْنًا لي في مثل هذه الأيَّام الحَرِجَة؟، لا راحة لها مِنِّي إلَّا إذا غادَرتُ من الخيمة لأمرٍ ما.

   كأنها تقول: "ثِقَلُ رأسِكَ أَهْوَنُ ألفَ مَرَّة مِنْ غَرْزِ زاوية مِرْفَقِكَ في أحشائي، أنتَ تَستمتِعُ باتّكائكَ على جَنْبِكَ، وأنا أتقطّعُ ألمًا".

   وَلَوْلَا المُلامَة لَتَوسَّدتُ حِذائي؛ لِيَبقَى يحكي لي بحنان دائِمٍ: "قِصَّة الطَّريق؛ الذي أوصلني إلى خَيْمة شَبيهةٍ بِخيامٍ. أماكنُ تواجُدِها لا تختلفُ بشيء عن بعضها أينما كانت..!، هي مُخرجات الحُروب والنّزاعَات، وكأنَّ اليدَ التي تُشعل فَتِيلَها، هي نفسها تَبْنِيها؟.

   كلُّ ما حَوْلي مُثيرُ للرُّعب، خلال ساعةٍ سَمِعتُ ما سَمِعتُ..!؛ فكيفَ أستطيعُ العَيْش هنا؟. تَوَحُّشٍّ يأخُذُ مَدَاه بأَبْعادٍ مُخيفةٍ.

لماذا لا أُفَكِّر بالهروب؟. والله صَدَقُوا، "الهَزيمة ثُلثَيْن المراجل". الهزيمة ستبقى هزيمة.. انكسار.. اِنْدِحَار بكلّ المعايير، حتَّى وإنْ جمّلوها وخَفّفوا وِقْعها على نُفوسِنا وقلوبِنا، بقولهم: "نكبة.. نكسة".

"يا ناس.. إنَّها هزيمة".   

   جيوشُنا اندحرت وانهزمت أمام العدوّ.. أنا أنهزمُ أما ضيق العيْش، لا طاقة لي بتبعات هذا الوضع وحدي، مهما كنتُ.. وكنتُ..!!، لا شكَّ أنّني أضْعُف.. وضَعُفَتْ قُدرة احتمالي، حِملي ثقيل.. زوجة وأولاد ومسؤوليّات الحفاظ عليهم، وصيانتهم ممّا أخاف، ورأيت بعيني هنا في أوّل يوم ولم يكتمل..!!. فلأُبَرِّر الهزيمة لنفسي هذه المرّة، رغم قَسَاوَتِها على نفسي، وعلى رأي: (مُكرَهٌ أخاكَ لا بَطَلْ).

   خَدَرٌ ناخِزٌ في عضلات كَتِفِي، أتلمَّسُه.. أَفْرُكُه؛ لتخفيف التَنْميل، بحركة لا إراديَّة اهتزّت يَدي، كأنَّ يَدَ جِنِيّ سَحَبْتها للأمام، وارتدّت من تِلْقاء نفسها. اِعْتدلتُ لِأَسْتوي جَالِسًا.

   منذُ زَمنٍ بعيدٍ، كما أذكرُ ما خَدَرَ لي عُضْو؛ فطنتُ لِمَسْحِ الفرشة التي أنَامُ عليها، بهدوء تامٍّ، وحركاتٍ بطيئةٍ صامتةٍ.. بِحَذَرٍ شديدٍ؛ لكي لا أُصاب بِجُرحٍ في كَفِّي؛ فَلْأَبْق كَامِدًا على جُروحي، التي لا أستطيعُ التَّخَلِّي عنها، ولا هي كذلك.

   "أوووه..! إنَّها رابِضةٌ على أرضٍ غيرِ مُستويَةٍ مَليئةٍ بِنُتُوءَاتٍ مِن حَصًى، وبقايا كُتَلٍ تُرابيَّة قاسيةٍ مُتحجِّرة".

   تململتُ مُتثاقلًا؛ لإحساسي بِشيءٍ ضَاغِطٍ كَابِسٍ على مُؤَخِّرتي، تَزْحَزحتُ من مكاني، لم أتمالك نفسي من الاِضْطِرار لِلاِنْتصاب قائمًا مُتوازيًا مع عمود وسط الخيمة تمامًا.

   العتمةُ تَحجُبُه عنِّي بمسافات تُعادل سفر سنين. عندما مَدَدتُ يدي لِأَتِّكِئ عليه، خذلتني.. لم تصله. اكتفيتُ بتوازني الذَّاتِيِّ.

   رَفعتُ الفَرْشَةَ وما تَحْتَها من قطعة شَادِرٍ قُماشيَّةٍ؛ لاستخراجِ مجموعةٍ من الحصى بأحجامِها المُختلفة، وقطعة خشبيَّة تحتضنُ مِسْمارًا ناتِئًا؛ تأكّدتُ أنّه كان يُحاول النّفاذ بِشَقِّ ما فَوْقَه ليصل إِليَّ. مَهَّدتُ مكانها من التراب الناعم.

   في الصّباح سنعملُ ورشةَ عَملٍ جماعيَّة أُسَرِيَّة؛ لإفراغ الخيمة من أغراضنا الأَساسيَّة، والجديدة المُستلمة؛ لتنظيفِ الأرض تَحتَنا، وتمهيدها حتَّى تصيرَ مُستويةً.

   لم أستَطِع سُؤال زَوْجتي، خَوفًا من إقلاقها معي. يَكفيها مُعاناتها من التَّعب الذي أعجز عن اِحْتماله.

صوتُ شَخيرٍ عَاليَ الرِّتْمِ. قريبٌ جِدًّا، أظنُّ أنّهُ صادر مِنْ خيمة تقعُ خَلفَنا؛ وَتَّرَني.

   ذكّرني بأيام دورة الأغرار بداية الخدمة الإِلْزاميَّة، كُنَّا ثمانية شباب في مُقتبلِ العُمُرِ محشورون في الخيمة. في مثل هذه السَّاعة كنتُ أستفيقُ ويغادرني النَّوم. شَخيرُ زملائي يَتَعالى بِوَقْتٍ واحدٍ من الاِثْنينِ، كما لو أنَّهما على موعد لا يُخْلِفَانه.

   يسكتُ عَزْف هذا الذي بِجانِبي؛ لِيبدأ من الجانب الآخر، بِاِتِّفاقٍ غير معلن. اللَّيل مُتواطئٌ على إزعاجي. بِشَخيرهِم المُمتَدِّ بحبل ذَكراه منذُ عشرين عامًا إلى الآن.

   طويلٌ أنتَ يا ليل..!!

   دَقائقُك تسيرُ بسرعةِ نَمْلةٍ عَجوزٍ..!!

   ما زالت السّاعة تُشير إلى الثالثة، كما ظهرت لي على شاشة الموبايل.

رغبةٌ جارِفَةٌ بالهُروبِ.. لكن إلى أين..!؟.

   سياجٌ بأسلاكٍ شائكةٍ، وَحِراساتٍ عَسكريَّةٍ ثابتةٍ على أطراف المُخيَّم بعربات (BMB) على مَدارِ الساعة، العساكرُ يَتأَفَّفُون، بانتظار انتهاء نَوْبتهم؛ ليذهبوا إلى أهليهم في مناطق مُختلفة من المملكة.

   لم يُخالطني أَدْنى خوفٍ من وُجُود هذه الآلة الصَمَّاء المُخيفة.. هي وعناصرها سَاهِرون على حِمَايتي وأَمْنِي، لا أَرَاهَا تُكَشِّر لنا عن أَنْيابِها، وتذهب بنا إلى جُنونِها القاتل، كما مثيلتها هُناك في بلدي، كانت تقتلُ بلا رحمةٍ، تضربُ بكامل قُوَّة جاهزيّتها. عُقدَتُها أنّها لم تُحارب عدوّنا الإسرائيليِّ لِصَدِّ عُدوانِه، ولا اِسْتَطاعتْ اِسْتِرجاعَ شِبْرًا واحدًا من الجولان.

   صُراخٌ مُفاجِئٌ؛ أَجْفَلَني؛ اهتزَّ جِسمي خَوْفًا من شيءٍ غيرَ مُتوقَّعٍ. "يااااه..!!". الصوتُ قريبٌ مِنّي ليس خارج الخيمة، هذه المَرَّة من داخلها، تأكّدتُ أنّها زوجتي هي المصدر، رفعتُ الموبايلَ؛ لاِسْتيضاء الخَيْمَة.

   "ما الذي حدَثَ لكِ؟"

   "شيءٌ ما..؛ كانَ يحبو على يَدِي، نَفَضتُه، ظَنَنْتُه عَقْرَبًا، صوتُ ارتطامه على ما أظنّ هُناك في الزاوية المقابلة، خلف المدخل".

   بِخُطواتٍ حَذِرَةٍ، اِنْتقلتُ.. فلا أضَعُ قدمي إلا بِمَكانٍ فارغ قبل انتقالها. أزحتُ الأغراض والأحذية، لم يَطُل البحثُ؛ لأجدَ خُنفساءَ سوداءَ قابعةٍ في نُقطة ضَيِّقة يَصعبُ إخراجُها. تركتها وشأنها.

..*..

   رُبّ لحظة شاردة من سياقها في غفلة من الزّمن؛ تصنع تاريخًا. تشجّعتُ لفكّ تشابكات خِطامُ باب الخيْمة، دافعُ الحياة له الكلمة الأخيرة بشكلٍ دائمٍ.

   مَضتِ السّاعات في مُراودتي للخلود إلى النّوم، وأين النّوم للمهموم والمقرور والخائف مثلي أن يجده؟.

   مع كلّ عُقدة تنفتح ثغرة صغيرة، تفتح في نفسي بصيصُ أمل، لكن لا شُعاع من نور يخترق الثُّقوب، مع آخر عُقدة رفعتُ السّتار التي هي شكل باب وَهْميٍّ؛ لينطلق بَصَري يُسابقني في فراغّ هائلٍ، ما وجدتُ شيئًا بعد الصّدمة غير المُتوقّعة.

   بالأمس عندما دخلتُ، كانت هناك أشياء. صوت نبّهني: "لا تستغرب..!! ما زلتَ في المُخيّم.. أمام خيمتكَ". صحوتُ من ذُهول تعطّلت معه مشاعر الإحساس بمحيطي. انحنيتُ قليلًا، ويكفيني انحناءات تقوّس قلبي لها.

   ارتفعت قدمي قليلًا فوق الأرض؛ لتنقلني بخطوتها الأولى خارج الخيْمة، ولِتَحُطَّ في فراغ سَدِيميٍّ، لا أدري كم من الزّمن استغرقها لِتَستقَرَّ على مسافة عشرين سنتمتر، اِنْتصبتْ قامتي بكاملها وُقوفًا. انطلق لساني: "لا إله إلا الله.. الحمد لله".

   مع اِسْتنشاق نسماتٍ رقيقةٍ مفعمةٍ بروح الحياة. اِنْتعاش غريق أنجدته الأنفاس الأخيرة. رغبةٌ عارمة في عبِّ المزيد من الهواء الطازج لم يستنشقه إلّا القِلَّة القليلة. افترشتُ الأرض كذلك برغبة. ممارسةُ الحياة باستعادة فضاءاتها ليس سهلًا. رطوبة التراب تتسلَّل إلى دواخلي. طيفٌ عابرٌ اقتحم لحظتي.. "اللّعنة..".

   "كأنَّ شوقَ لقاءٍ قديمٍ..!!".

   "مرحبًا بكَ عزيزي.. وأنا كذلك، منذ فترة اِسْتوقفتني مقولتكَ على صفحات الفيسبوك: "أنا لستُ أنا، كما عهدتُ نفسي في الماضي. لا أعلمُ كيف تكوّنَ هذا الشعور فِيَّ، ولا كيف تنامى. لم أتغيّر إراديًّا بالتأكيد؛ فأنا مثل بقيَّة البشر، أطرقُ بمطرقةِ زُملائي البشر، ومطرقةٍ أخرى تحملها الظُّروف الطارئة؛ فتتشكَّلُ نفسي، هكذا بأشكال تحكمها الصدفة العمياء"*.

   أتابع اِسْترسالي مع نفسي، لم يحضر فُؤاد الآن، ولم أَرَهُ يقف أمامي، ولا أعرفُ نبرة صوته أبدًا: "كأنّني طلبتُ منكَ أن تكتب، أو أنّ لقاءً روحيًّا في عوالم الغيب حصل بيننا؛ لتوصيف ما أنا فيه".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الروائي فؤاد التكرلي. اقتباس عن رواية(الأوجاع والمسرّات)

  هلوساتُ آخر اللّيل.. فطنتُ لأتلمّس نفسي، وجدتُ خاتمي على اِصْبعي، تذكّرتُ أنّني أنا فِعلًا. بالضَبط، مضيتُ بالتحقّقِ، آه.. هذا شاربي سأحلقهُ في أوّل فُرصة، كِذْبة طوني حنّا: "خَلّي الشوارب ع جنب"، لم تَعُد سوى شَعْرٍ قاسٍ غير مرغوب فيه بِوَجهي، شعر رأسي أيضًا تلمَّسَتْه يَدِي، تأكّدتُ أنّه اِبْيَضّ. غادره سواده إلى غير رجعة.

   أمُّ مجْدٍ زَحفَتْ إلى جانبي رغبةً بالأُنس المُفتقَد بيننا، تُمسِكُ بكتفي، تبًّا لقماش الخيمة يفصل بيننا، يمنع تَوتّر الشُّحنات الإيجابيّة حتّى السلبيّة لم تصل بيننا. سُباتُ مشاعر وأحاسيس، وأعضاء جسمي، وجسمها أكيد مثل جسمي. مؤشّرات الحضيض تتوقّف مُتخشّبة في قاع مُستوياتها الدُنيا.  لا أدري كم من الوقت غِبْنا في إغفاءة.

   طافَ بنا طائفٌ، لم أتبيّن ملامحه بدقّة، مرّ من أمامنا، أنا والخيمة وأمّ مجد زوجتي، كان يُردِّد شيئًا جميلًا أثلج صدري، لكن لا أدري من كان يُحادث، ما رأيتُ أحدًا برفقته: "من الحكمة على ضوء تطوّرات الزّمن: أن نسعدَ بشُروق الشْمس، وأن نُحاول رؤية أنفسنا بأبهى صورة نأنسُ إليها".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الأستاذ والمفكر عبدالمجيد جرادات. اقتباس من مقالة له.

   الصحراءُ فضاءٌ بلا حدود للتحرّر الإنسانيّ، سِرٌّ عظيمٌ مُنْطَوٍ على غُموضه، مُستعصٍ على أوهام الخائفين، تتجلّى أقصى درجات الخلاص البشريّ فيها، لا اِنْتصار يُحَقِّقه الإنسانُ على نفسه إلّا فيها.

   الصحراء خيار الأشِدَّاء صَفِيّو السّريرة، وما سرُّ الحنين، اِنْتقلتْ عدوى  حُبّها لي بِشَغَفٍ، كما مَيْسون المَشْغُوفة هُيامًا بها، اِنْفلتَتْ مشاعري خارج سَيْطرتي؛ للتحليق بعيدًا ليس بِنِيَّة الهُروب من واقعنا، ولا لِدَفْن رأْسي في الرّمال.

   اِنْخرَطُّتُ في سَرْدٍ لِزَوْجتي، أقربُ لِلهَمْسِ، رغبة عارمة للكلام، اللّحظة مُشجِّعة، كنتُ مُتأكِّدًا أنّها سَتَسْمَعُني حَتْمًا، لِقُربها منّي حَدَّ الالتصاق.

   عينايَ ساهمتان في فَراغ  السّماء. تتسّع رُؤى العقل بِاتِّساع السّماء والصّحراء، القاسم المُشترك بينهما الحُريّة. اِنْطلاقٌ جُنونيٌّ صاعقٌ، عَصفَ بذهني بعد ذُبولٍ مُؤقَّتٍ خلال الفترة الماضية.

   اِتِّقادُ ذاكرتي المُتخمَة تَعَبًا. اِشْتعالُ نشاط خارجٌ عن سِياق ما نحن فيه، ما الذي جاء بميسون الكلبيّة، وبيتها في صحراء نجد، وحياة البساطة وقراءة العين التي اِفتقدتها في دمشق ذات النّعيم الموصوفة بجنّة الله في أرضه.

   لهفة ممزوجة بدموعه المليئة بالأشواق، وكانت جُعبته ملآى باستحضار هناءة العَيْش والإقامة، ومُفكَّرَتِّه تحكي التَّاريخ والأمجاد، منذ أيّام مَيْسُون؛ التي ما زالت تتنّسم عبير الصَّحراء، كأنّها لم تطرَبْ: لــ "هذي دمشق"، و "سائليني"، ولا "عَبَقُ التَّاريخ يا أمَّ السَّنَا", ولا "سلامٌ من صَبَا بَردَى"، ولا المُتنبِّي، وأبي تمَّام.

   مع كلّ ما اِسْتَحضرني الآن من عاشقي دمشق؛ ألتمسُ لها العُذر، الحنينُ حرّاقٌ.. الشّوْقُ جارفٌ، تَلَوْتُ بِتَلذّذٍ، والجوّ مُشجّعٌ لتعزية نفسي، في مُحاولةٍ لِلْتَأقلُم:    

"لَبَيتٌ تَخفِقُ الأريــــــــــــــاحُ فيه \\ أَحَـــــــــــبُّ إليَّ مِن قَصــــــــــــــــــــــــــــرٍ مُنيــــــــــــــــــــفِ

ولُبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيـــــــــــــــــــــــــني  \\ أَحَـبُّ إليَّ مِن لُبْــــــــــسِ الشُّــــــــــــــــــــــــــــــفـوفِ

وأكلُ كُسَــــــــــيرَةٍ مِن كَسرِ بيتي \\ أحــــــــبُّ إلــــــي مِـــــــــن أكْــــــــــــــلِ الرَّغيـــــــــــــفِ

وأصــــــواتُ الريـــــــاحِ بِكُلِّ فَــــجٍّ \\  أحــــــــــــــبُّ إليّ مِن نَقــــــــــــــــــــــــرِ الدُّفــــــــــــــــــــــوفِ

وكَلــــــــــــــــبٌ يَنــــــــــــــــــبَحُ الطُّراقَ دونـــــــــــي \\ أحـــــــــــــــــــــــبُّ إليَّ مِن قِـــــــــطٍّ أليـــــــــــــــــــــفِ

وخَرْقٌ مِن بنــــــــي عَمّـــــــــــي نَـحيــــــــفٌ \\ أحــــــبُّ إليَّ مِن عِلـْــــــــــــجٍ عَلــُــــــــــــــــــــــــــــوفِ

خُشونَةُ عِيشَتي في البَدْوِ أشهى\\ إلى نفسي مِن العيشِ الظَّريــــــــــــــــــــــف".

   البشرُ عُمومًا يفرّون من قساوة العيش في الصّحراء، إلّا أصحابها. الطّامعون يأتون من أطراف الدُّنيا من وراء البِّحار؛ تحدوهم أحلام السيّطرة، وللاستحواذ على الثّروات؛ فَيَقْتَتِلون عليها، وأهلها يُدافعون عنها ببسالة؛ بِكُلِّ بَساطةٍ بلا فلسفة وتحليلات:  "لأنّها وطنهم".

   عمُر المُختار هل مات من أجل رمال..!!؟

   وما الذي حدا بأبي ذرٍّ الغِفاريّ بالعودة إليها بعد سنوات قضاها في دمشق..؟

   دَافَعُوا عن حُريَّتِهم.. دافَعُوا عن ميدان مسقط رؤوسهم في خيمة؛ كانت ذات يوم في مكان، ترتحل بلا توقّف. بلا حدود وحواجز وتأشيرات عبور لخطوط حُدودٍ وَهميَّةٍ، رُسمت هُناك خارج أوطاننا، بأقلام مُذَهَبَّةٍ جلبت البُؤس، والتفرقة بين الأهل في كانتونات، ومُسميّات ذات تابعيّات مُختلفة؛ فماذا لو أنّ أبا ذَرٍّ أراد العودة الآن إلى دياره، من المُؤكّد أنّه لن يصل، حتّى لو كان الرّسول بنفسه لن يُسْمَح له باختراق الحدود، حرس الحدود ساهر على سلامة الحدود، ومنافذ العبور المسموحة، لا تتعامل إلّا بالإثباتات الشخصيّة، والتأشيرات، وأختام العبور والمُغادرة.

 

 

   صُراخُ استغاثة شقَّ سكون صمتٍ أحببت الاسترسال فيه لأفضفض همومي لزوجتي، التي جفلت مذعورة، أدركتُ أنّها لم تسمع شيئًا مما قلتُ.

   الأقدام تَتراكضُ، باتّجاه مصدر الصّوت المُتوقّع، وصلني استفسار من أحد: "ما الذي حدث؟". سمعتُ من أجاب: "خيمة تحترق".

   لُهَاثُهم يتصاعد في صدورهم، صَعَّد أنفاسي حُزنًا على صدمة الحريق، من هَرَبَ من بيته خوفًا، طمعًا في ملاذ آمن. يموتُ احتراقًا هو وأطفاله، يا لَبُؤسَ خيْمةٍ مُسَخّمةٍ، نسمة حزينة تحمل إلى أنفي رائحة شِواء.. يا إلهي لحمٌ يحترق، دُمُوعي بلا استئذان تُحاول إطفاء لهيب قلبيْنا أنا وزوجتي.

   صَحْراؤُنا كُنزُنا لم تَعُد سوى سِجْنًا لنا، قيّدت حُريّتنا، هربنا لِنِنْجُوَ بأرواحنا من اِسْتعبادٍ مُحقّق لنا ولأطفالنا، إلى ملجأ شبيه بسجن مُصغُّر محاط بأسلاك وحُرّاس وبُوابة كبيرة تسمح بالدُّخُول والخُروج من خلالها؛ علاقة كراهيّة وليدة رائحة الشّواء التي زكمت أُنُوفَنا، لو لا فراغ بطني لما تردّدت في صدِّ اِسْتفراغ ما به.

   لا شيءَ يُشجّعني على الأقلِّ في هذه اللَّحْظةِ؛ بأن أُدافع عن سِجْني، ولن أفتديه لا بدمي ولا بمالي، حتَّى ولا بالكَلام دِفاعًا عنه.

   فما زلتُ أفكّرُ في مساحة ما هو مُمكنٌ ومُتاح لنا، رغم مساحة الحِرمان المُتّسعة بمساحة صحراء بلا نهاية، المحصور بحدود خيْمة.. خيمة فقط.

 

..*..

 

   مئتا متر تفصلُني عن الحمّامات العامّة، بعد ساعة من جلوسي على الأرض أمام الخيمة. يدُ زوجتي ما زالت قابضة على كتفي، رقبتُها مُسترخيةٌ المتاعب أثقلت رأسَهَا،  أخيرًا وَجَدتْ له محطَّة يرتاح فيها.

   نُسيماتُ الهواء قبل قليل كانت مُنعشةً، لم يكتمل فِعلها في نفسي، بل انقلبت الأمور عكس ذلك تمامًا، وعلى ما أظنُّ أنّ زوجتي أيضًا اِسْتَحوذَتْها الحالة، بلاغة صمتُها المُطبِق كفاية.

   تَلَوْنا تَراتيلُنَا في محراب الصَّمت.. ساعات السَّحَر برجاء، لا أستطيعُ وصفه بالصّادق، ربّما هو عكس هذا، ولكنّنا تَلوْنا بألسنَتِنا المُستجدِيَة ضعفنا، وقلّة حيلتنا.

قلّما كنتُ في مثل هذا الوقت من ليلة ما، وما اِنْقطعتُ لها.

   بأبي وأمّي.. من يجلسُ لها..!! إلّا قائِمًا؛ يتلو ويتهجَّدُ بمناجاتَه الرّاجيةِ الخائفةِ الرَّاجفةِ المُرتعشةِ. مَهَابة الوُقُوف وجهًا لوجه مع الخالق.

   إذا أجزتُ لنفسي بتساؤل، ليس من باب التشاؤم: هل يوجد هنا في خيمة ما، من هذهِ العَيِّنة؟. 

   المُشاهدات الأولى قبل ساعات؛ حكَتْ سيرةً أخرى مُتعاكسةً مع استرسالي الذي أُفكّرُ به.

   يا لهف نفسي..!! على موقِفٍ حُرِم من بركاته آخرين خارج الدَّائرة.

   وكأنّي بالثلاثة عندما اِنْسَدَّ بابُ مغارَتِهم بصخرةٍ عظيمةٍ؛ عجزُوا عن زحزحتها لِيَخرجوا؛ لما يئسوا.. ورأوا الموتَ المُحقَّقَ دَعَوْا الله بِأَرْجَى عمل عمله كلٌّ منهم في حياته؛ فانفرجت اِتِّساعًا؛ فخرجوا.

   وما نحن فيه؛ ألا يستحقّ البحث عن عمل لا يُضَاهَى في سجلّاتِ أعمالنا، إنْ وُجِدَ منه شيءٌ منه في سيرتِنَا؟.  تناقضاتٌ مُربِكَةٌ سَوَّدَتِ في وجهي مَحَاسِنِ المكان.  

   رغبةُ التَبوُّل مُلحَّة تتساوق مع رغبة جَدِيَّة لمُغادرتِه؛ سَاقَتْني كُرْهًا إلى الحمّام، انطبعت صورة القذارة منذُ أوّل ساعة احتجتُ فيها لقضاء حاجتي الضروريّة عند وصولنا.

..*..

 

   في الظلام لا يُمكنُ اِصْطناعَ هَيْبَةٍ لي، لا أريدُ، ولا أحبُّ تقليد الأقوياء، إذا ما اِسْتطاعُوا اِصْطناعَ أيَّ لَوْنٍ من التواضُعِ المُزيَّف.

   عَالَمِي هُنا لَيْس على هيئَةِ نَمُوذَجِي الأصليِّ الذي كنتُ عليه هناك. بل أرى نفسي في لُجّة عالمٍ من المُخادعينَ، والدَجَّالينَ من كلِّ نَوْعٍ، لا سِيَّما المُنفلتين زُعَماء الشَّغَب والفساد.

   حينما اِسْتُبعِدُوا تراجَعُوا مسافات سوء. ولمّا بَدَأ ظُهورُ يَباسِ الحَقْلِ، واِنْتهاء اِخْضِرار الرَّبيع. تباطُؤ الحَمَاس، وخُفُوت النُّور من ساحات حياتنا؛ وَضَعَنا جَنْبًا إلى جَنْبٍ في المُستنقَعِ القَذِر.

   رُطوبةُ النَّسائِمِ حَمَلت روائحَ كَريهةٍ؛ قَذَفَتْها في جميع الاِتّجاهاتِ؛ قَطَعَتْ اِسْتغراقي.. فيما كنتُ في وَقْفةِ صَحْوٍ بعد سَكْرَةٍ، وغَطَّت بقوّة نَفَاذِها على رائحة الشّواء، التي عَشْعَشت في أنفي، واِسْتدرَّت دمعتي البليدة.

   القاذورات أشدُّ فتكًا.. الخَرَابُ أَسهلُ ألفَ مَرَّة من البناء. مع كُلِّ خُطوةٍ تتوالدُ الأفكار، وتنفتحُ مساحاتٌ واسعةٌ لنظراتي السّاهمة في فراغ الظلام الذي يلُفَّني، آثرتُ التَنقُّل بها ما بين واحدة أستجدي بها طريقي، وأُخرى إلى السَّماء؛ لأَسْتَجْدي بَابَها الذي لا يُغلقُ؛ لاِسْتيعابِ كُلِّ دعواتِ المظلومين، والمقهورين مهما كانت أعدادهم بلا إحصائيَّات وتدقيق.. ضاقت نفسي عليَّ كثقب إبرة.

   بعدما دخلنا هنا. أغلقوا الباب خَلفنَا، مع إجراءات التفتيش والتدقيق، والأسئلة، التي دوّنوها في أضابير، ومَلفَّاتٍ كَمْبيوتَريّة.

   مع كلّ خطوة للأمام، يَثُورُ القرف المُختزن في دِمَاغي منذ زمان بعيد. فَوْضَويّة الرَّوائح، لا تحترم طبيعة المكان، ولا الوقت الذي تَنطلقُ فيه.  

   مُعاناة المُسافر إلى المُدن، الحمَّامات العامّة محصورة في أماكن مُتباعدة، والحاجة مُلْجِئَة لدخولها، جميعها مُتشابهة بصورتها المُوحدة، إلى أن جاء عصر التطوير والتحديث، والتنمية المُسْتَدامة. مَوْضَةُ شعارات مرحليَّة شاعَت. أثمرَتْ فأينعت فسادًا جديدًا ببيع مُمتلكاتِ الدَّولةِ بأثْمانِ بَخِسَةٍ. خَصْخَصُوا الحمّامات العامَّة، أصبحَ لِكلِّ منها مُدير يجلس وراء طاولةٍ عتيقةٍ من مُخلَّفات المزابل، بملابسه المُنْبِئَة عن سوء حاله، هو لا يستجدي الزَّبون بالدَفْع، بل وَضَع لَافِتَاتٍ واضحةٍ بخط مقروء: "اِدْفَع وَاُدْخُل".

   يثيرون شفقتي لغلبة ظنّي فُقدانِهم حاسّة الشّمِّ، تَسَاوت في أنوفِهِم رائحةُ الحَمَّاماتِ، مع رائحَةِ الكالونياء، أو العطر الرَّخيص إذا ما رشّوهُ على أنفسهم.

   أمشي بِبُطءٍ.. خُطوة للأمام وأخرى للخلف، لِتَبْطيء وُصُولي إلى المكان الذي نُسَميِّه بيتَ الرَّاحة.

   وأين هي الرَّاحة مع الأذى الأكبر منها؟.

   صدمة الدُّخول أذهلتني. صَفَّان من الغُرَف الصَّغيرةِ جدًّا، شبيهة بزنازين السُّجونِ، لا تتعدَّى مساحتها المتر طولًا، والمتر عرضًا.

   أبوابُ العَدَد الأكبر منها مَفقود، من غير المعقول أنّها بلا أبواب أصلًا، عندَ كُلِّ بابٍ؛ أُوجّه ضوء الموبايل للاستطلاع، إذا كان بلا باب لا أدخله، وآخَر يَغُصُّ فَيَضانًا، وآخر بلا حَنَفِيَّة.

   أوه.. يا لها مُصادفات..!!، تفسيرُ الأمر الغامض بحاجة للوقت لأفهمه. بالأمسِ رأيتُ بعضَ الكَرَفانات، والخِيَام لها سِيَاجَاتٍ من الأخشاب، والأسلاك، والفَرْشاتِ الإسْفِنْجِيَّة، وأبواب خارجيَّة، شبيهة بأبواب الحَمَّامات هذه، ولا أنْسَى الخَيْمات المُميَّزةِ بحجمِها الذي يفوقُ حجم خيمتي بمرّتيْن أو ثلاث.

   في السُّوق الرَّئيس المُكوَّن من الخيم على جانبيْه، الكثير من أرفُفِ المحلَّات التِجاريَّة من مُكوِّناتٍ؛ أعادوا تدويرها في استخدامات جديدة.

   سمعتُ شابَّانِ يتحدّثان، كانَا واقفيْن أمام خَيْمة كبيرة بَنَتْها المُفوضِيَّة كمسجِدٍ للصلاة، لم يبق منهُ إلَّا الأعمدة المعدنيَّة المتينة المغروزة بالأرض بواسطة الإسمنت المُسلّح.

   فما يُرتجي مِمَّن يسرق شيئًا عليه مُسمَّى: الله؟.

   أتوارى من خَجَلي، عندما أقابلُ ربِّي بعد قليل.. هل سأشكو له سوءُ حالي، أمْ من سوءِ مُجتمَعٍ منكوبٍ من أعدائه؟.

   لا أشكُّ أنّ هُناك الأخيار.. شِرِّيرٌ واحدٌ يكفي لِلْتغطيةِ على كُلِّ الفضائل الضّائعة في حَمْأةِ المُستنقع.

   بعد تردُّدٍ طويلٍ في دُخول أيّ حَمَّام؛ تأكَّدتُ من اِنْقطاع الماء، الخزَّانات فارغة، في الصَّباح حتَّى تمتلِئَ من جديد.

   لا حياة بلا طهارة. رجعتُ لإحضار قارورة ماء.  والهواجس هذه سيطرت عليَّ أيضًا أثناء عَوْدتي؛ لإنجاز راحة جَسَدي، وأستعدُّ بالوُضوءِ للقاءِ ربِّي في فَجْرِه المُتكرّر بلا توقّف، ولا تلكُّؤٍ.

   ستكونُ فرصة لانتشالي من واقعٍ مجنونٍ.

   سأقول له كلّ شيء، ولن أتردَّد أبدًا.

..*..

 

   تمنيّتُ لو أنّ يَدِي طَالَتْ عقاربَ السَّاعاتِ جميعًا؛ لانتزعتها من أماكِنَها، وَرَميْتُ بها في أُتُون المحْارقِ العُظمى المُدمّرة لكلّ أثَرٍ لَها، وَلَنْ أَدَعَ هياكلَ السَّاعات أيضًا، بجميعِ أَشْكالِها، وأنواعِها وأحجامِها وماركاتِها العَالميَّة الشَّهيرة، إلى المَوْصُوفة بِمَالِ الكِيلُو، ولن أستثني منها حتّى "بيغ بين"، رَغْم أنِّي من زَمَن طويلٍ، لم أَسْتَمتِع إلى نَشَراتِ الأخبار خاصّة من إذاعة لَنْدُن (BBC).

   وما زالت دَقَّاتُ جَرَسِها تَطِنُّ في أُذُنيّ، مقاطعتي لنشرات الأخبار عُمومًا لم تمنعني من صمّ أذنيَّ، لتخفيف وَهْجُ صَدَى ضربات جَرَسِها القويّة؛ امتثالًا لِرَغْبَتي في الحِفاظ على صِحَتِي، ولكي لا تعاجِلَني الجَلْطَة القلبيّة، عندها سأقضي ما تَبَقَّى لي من حياتي بين عيادات الأطباء، والاستشارات، والخوف مِن كُلِّ شيء، حتّى طَالَت شُكوكي نَسْمَة الهواء، ولُقمة الخبز، وتخفيض الكولسترول والسُّكَّر والضَّغط.

   الإحساس بالوقت قاتِلٌ إذا خامرني شعورٌ بِتَباطُؤ سَيْر العَقَارب. الدَّقيقةُ الواحدة تعملُ تَحطيمًا بتفكيري؛ بِمَا تفتَحُ من اِمْتداداتٍ. أنا في غِنًى عنها؛ تُعادلُ لحظةَ نَزْعي الأخير، مع مّغادرة آخر أنفاسي، تحت رَقَابةِ عَيْنيَّ الزَّائغتين السَّاهِمَتَيْن في لا شيء ذي أهميّة تُذْكَر.

   رغبة الموتُ العارمة اجتاحتني مع مُلامَسَة ماءِ الوُضُوء لوجهي. لم يخطر على بالي في زحمة المُستَجَّداتِ منذ وُصولنا إلى هنا، التفكير بالموتِ أيضًا عمل شاقّ. ما حاجتي لِأَتمنَّى الموْتَ الآن.. أَلَسْتُ في عِدادِ الأَمْواتِ حقيقةً..!!؟.

    ما إن وقفتُ بين يدي رَبِّي عَاقِدًا النِيَّة على أداء أوَّلِ فَرْضِ صلاةٍ لي في خيمة. ما إن: "اِسْتعذتُ من الشَّيْطان". اِنْتَصَبَ أمامي مُحتجًّا في محاولاته اليائسة، لإقْناعي بعدم مسؤوليّته على حالتي: "ما علاقتي بما حصل لكَ؛ لِتَستَعيذَ منِّي..!!؟".

   "لاشكَّ لديَّ بعدم إخلائك من المسؤوليّة أو جُزْءٍ منها".

   "أستغربُ حُكمَكَ الجائر بِحَقّي، اذهب وتأكد من اليد القاتلة، أنا لم أمدّ يدي لأقتل إنسانًا واحدًا،  أنا بريء من دمائِكم، كبراءة الذئب من دم يوسف".

  كلامُ الملعونِ قريبٌ من العقل، مُحاولاتِه معي ستبوء بالفشل: "أنتَ.. أنتَ يقينًا. لا أدنى براءة في نفسي، وأنت تُغري أتباعكَ، توسوسُ لهم".

   اِمْتَعضَ من رَدِّي الصَّارم عليه، لكنّه لم يَيْأَس، تابع: "راجع موقفكَ، وتبصَّر بمن هو عدوّكَ الحقيقيّ، الذي أخرجكَ إلى هُنا، وقَصَفَ بيتِك، وسَجَنَ إخْوتَكَ، وقَتَلَ أقرباءَكَ. وفَعَلَ.. وفَعَل الكثير".

"اِسْتَعْذْتُ ثانيةً".

   اِمْتقعَ وجهُه الذي بَدَا يتلاشَى من أمامي، يبدو أنّهُ لم يحصل على نتيجة بِحَرفِ رُؤيتي، تابعتُ: "مثلما أعرِفُ من هو عدوّي المُباشر، وأنتَ في صَفِّه بطريق غير مُباشر".

   ذهبَ مُسرعًا إلى ساحاتِ تفكيري.. لكنّ صدى صوته، ما زال يقرعُ سمعي: "لم أَكُنْ أنَا من أقمتُ المُخيَّم، ولا صنعتُ لكَ الخَيْمة.. ولم أَسْرِق أبوابَ الحمَّامات.. ولا من استخدم الماءَ بِشَراهَةٍ، وأَهْدَرَ نصيبَ إخوانه، ولا.. ولا.. راجع نفسكَ للتأكُّد..!!".

   وِجهةُ نظره، وحُرقةُ قلبه؛ جعلتني أتوقَّفُ عنِ اِتِّهامه، وتوجيه اِهْتمامي إلى جِهَة أخرى.

   "يريدُ تبرئةَ نفسِه من أفعالٍ, فِعْلًا.. هو لم يَرتَكِب شيئًا منها، لكنَّه نَبَّهني إلى أشياء جديرةٍ بالاِهْتمام؛ لتبقى على طاولة البحث، أستطيعُ بوضوح تامٍّ أنْ أُشيرَ على المَقْصودِ بكلامه.. وأوجِّهَ له الاِتِّهام...!".

..*..

 

   مع كلِّ قطرةِ من ماء الوُضوء تَتَساقط ذُنوبي الوَسِخة في المُستنقع القَذِر؛ لكي لا تُلوّث طُهْر الصَّحراء، كما يفعل الآخرون. بحنان سمعتُ صوت ارتطام القطرات على أرضيَّة الحَوْض، طرطشتُها نغمة مختلفة؛ أجبرتني للانتباه الدَّقيق للمرّة الأولى في حياتي.

   إدمانُ الأشياء يُغشّيها بغلالة من عمى البصيرة، جماليّة منسيّة، ليتني أحسستُ بمُتعتها سابقًا، ربّما أصبحتُ شاعرًا، أو رسَّامًا تشكيليًّا مُميَّزًا بإظهار شفافيَّة القَطْرة الواحدة، وأجزائها المُتكسّرة عند اِرْتطامها على سَطْح قاسٍ.

   تَتَوارَى مُتلألِئَةً، كَنجومٍ مُتهاويةٍ من السَّمَاء في لَيْلٍ صافٍ. اِنْعكاسٌ شحيحٌ من ضَوْء شاشَةِ الموبايل؛ اِرْتسمت لوحةٌ سُورياليَّةٌ في ذهني، كَحبَّاب عِقْدٍ ثمينٍ؛ انفرطت حَبَّاته مُتَناثرة بفوضويّة يَصعُبُ جَمعُها ثانِيةً.

   القطرات تنتظم من جديد بعد تناثرها، وبتسارعٍ مفروضٍ عليها بقوّة، فتسلكُ طريقها طوْعًا عبر المصرف بسهولة؛ لتختلط هناك مُكرهة مع بقايا البشر الكريهة.

   لَيْتَني أستطيعُ جمعها للاِحْتفاظ بها، لأنَّها تحملُ ذُنوبي التي أعرفُها؛ فَلتبقَ ذُنوبي على طهارتها.

   عَقَدتُ النِيَّةَ تعلُّم الرَّسْمَ في المُستقبل إذا أدْركتُه، أو شيئًا منه؛ فقط من أجل تَوْثيق هذه المَشْهديَّة النّادرة بِفَرادتها، ومهما شَرَحتُ حقيقة مشاعري عنها لأَقْوى التَشْكيليِّينَ؛ فلا أتصَّورُ اِسْتطاعته لترجمةِ إِحْسَاسي الدَّاخليَّ؛ فَلْأَضَع بَصْمَتي بِنَفسي مهما كلَّفني الثَّمن.

..*..

   كُلُّ شخصٍ يستطيع أن يفعل كثيرًا من الأشياء، إلَّا عند الصلاة؛ فإنّه يتركها جميعًا خارج إطار ذاتِه؛ ليكون في إطار الذَّاتِ الإلهيَّة. هكذا يُفترَض. الأمر مُختلفٌ هُنا.. الخروج من الدَّائِرة الضيِّقَة، والدُّخول في أوْسَع منها، يستوجبُ اِسْتجماع الطَّاقات الدَّاخليَّة جميعها. وتوجيهها إلى المركز، باِنْتباهٍ شديدٍ.

   كما تصاغرت الدّنيا لتجتمع تحت سقف خيمة. تدنو السّماء بتقاربها حد الانطباق على الخيمة. لتلقط نفحات الأرواح المُتعبة المُتوجّهة لأبواب السّماء ساعيةً لبثّ شَكْواها، واِسْتِمداد الاِسْتقرار والهدوء في رِحابها.

   ما زالت الأعضاء رطبة بماء الوضوء. ومن أطراف غُرّتِه تتقاطر حُبيبات ممّا تبقّى على جبهته. هو مشغولٌ لم ينتبه لِدَغْدغتِها، ولم يفطن لمسحها ولو بطرف كُمّهِ. فضلًا أنّه لم يبحث عن البشكير لتنشيف وجهه، تذكّر.. ويقينه بأنّه لن يجده بسهولة في مثل هذه السّاعة، وصُعوبة الحركة داخل الخيْمة. المساحة مشغولة كلّها بالفُرُش والبَطَّانيَّات.

   النّداء الخالد ينطلقُ من المئذنة الشّامخة في القرية المُجاورة للمخيّم. بعد ثَوانٍ قليلة لم تتعدّ نصف دقيقة. اِرْتفعَ الأذان من مسجد المُخيّم. إجابة المؤذّنين لسانه يتحرّك بالكلمات، مع كلّ كلمة تخرج منه، تفتح نافذة في روحه؛ فتتطاير منها المتاعب والقلق. أعماقُ أعماقِه عادتْ بِكْرًا شيئًا فشيئًا، ما إن ختم ترديده مع انتهاء المُؤذّن. ارتفعت يداه للإمساك بحبال الحقّ بالدّعاء.

    بالأمس انطلق الأذان في مسجد قريب من السّوق الرّئيس، كنتُ مشغول الذهن. بعضُ من مررتُ بهم كان يُجيب مُردِّدًا مع المؤذّن، وآخر يستحثُّ خُطى صديقه: "لنلحق تجديد الوُضوء، قبل الإقامة".

   آخر سمعتُه يقول لصديقه: "هيّا استعجل. لنصل قبل وصول المُصلّين، أريدُ أن أخبر الشّيخ لكي يتفرّغ معنا مساء هذا اليوم، لعقد قِرانِ اِبْنتي على ابن أختي". صديقه مُستغربًا: "ما شاء الله، صارت اسم الله عليه عروسة. كم أكمَلَتْ من العُمر؟".

   "أربع عشرة سنة". "أمَا زالت صغيرة؟". "لا أبدًا سنّها مُناسب، والشّابُ رائع. ولا أريدُ أن يَفْلتَ منّا، وزواج البنت سِتْرٌ لها، وتلتهي بحياتها إذا حملت مباشرة. ولا تنتبه إلّا لنفسها".

   لمّا لم يجد مجالًا لمزيد من النّقاش في اللّحظة الأخيرة، باركَ خطوة صديقه: "ألف مبارك.. ربّي يُتمّم على خير".   

   صديقه: "المُؤذِّن هذا ابن حلال ومحترم؛ فقد أسدى لي معروفًا لن أنساهُ ما حَيِيتُ، ورأيتُ الكثير ممّن يمتدحونه، ويحكون عن الخدمات التي قدّمها لهم ".

..*..

 

 "أللّهمَ لا تُؤاخذني فيما لم أستطع فيه السّيطرة على نفسي وخارج إرادتي، وفيما لا أملكُ من أمر نَفسي".

   كلماتُ "فاضل" خرجت من قلبه المحروق تألمًا عُمومًا، عندما اِسْتفاق من سُجوده الأوّل في الرّكعة من صلاة الفجر، ولأشياء خارجة عن إرادته، لم يَستفق إلّا بعد فوات الأوان.

   مع إشراقة أولى خيوط النّور تَوارَت تناوباتُ اللّيل بأشباحها، حياة اللّيل غير حياة النّهار التي تختفي فيها أسرار الظلام.

    أضاءت نفسي بارتياح منقطع النّظير، لا يُشبه ما كنتُ فيه قبل غفوتي الإجباريّة التي أخذتني بعيدًا بعيدًا..!! عوالم كانت مجهولة واقعًا. إلّا ما اختمر بذهني منذ أيّام طُفولتي.

   وأيّام الانبهار ببرامج الأطفال التلفزيونيّة قبل القنوات الفضائيّة، وقتها فقط محطّتان واحدة بالعربي، والأخرى بالأجنبي للأفلام المترجمة والمباريات لكرة القدم. كنّا محظوظين في الجنوب باستطاعتنا بكلّ سُهولة متابعة ومُشاهدة القناتَيْن الأردنيّتيْن.

   ما أودّ أن أخبر به أبنائي وأصدقائهم، أن جميع المحطّات التلفزيونيّة، تّغلق عند الثانية عشرة ليلًا، برفرفة العلم على وقع النّشيد الوطنيّ، ولربع ساعة قبله فقرة مُنوّعات من الأغاني والأشياء الخفيفة التي تتكلّل بوصلة رقص شرقيّ، لا أظنّ إلّا أنّها لنجوى فُؤاد. تبقى القلوب تتمنّى لو أنّها تستمرّ إلى الفجر، ولم يُرفرف العَلَم.

   حديث الذكريات يَستحوذني بشدّة، خاصّة مغامرات السُندباد وعلاء الدّين. في إغفاءتي مرّ بي السُّندباد المُحبَّب إلى نفسي. الذَكِيّ بما جعلني أُحاول تقليده مثل بقيّة الأولاد في تلك الأيَّام، وكم كنتُ سابقًا أتمنّى لقاءه ومُرافَقته.

   جاءتني الفُرصة على طبق من ذَهَب لم أكُن أحلُم بها أبدًا. وجدتُ نفسي صبيًّا مُجايِلًا له، مليئًا بالحيويّة على استعداد للمغامرة في استكشاف المجهول، ذهني مليء بالعَفرتَة، وعلى اِسْتعداد للقيام بمصارعة العفاريت والجنّ، ولن أستطيعُ خُذلان صديقي السُّندباد.

   رغم معرفتي مُسبَقًا بالمخاطر، التي سأتعرَّض لها في رحلتي معه. بلا أدنى تفكير حزمتُ أمري.. تَبِعتُهُ برفقة علاء الدّين.

..*..

 

   عَثرتْ قدم علاء الدين؛ فوقع مصباحُه السحريّ من يده. التقطه أحد أفراد الجنّ الصغار. بيننا سقطَتْ قدمُ السُّندباد في حفرة، يدي الماسكة بيده لم تستطع مَنْعَه من السُّقوط في الهاوية؛ ليختلَّ توازُني وأتكوّم فوقه.

   فجأةً تُضاء الحُفرة بمصباح علاء الدين، وطائفة من الجِنِّ يتحلّقون حول الحفرة. يتصايحون بِفَرحٍ.. تصفيقُهم وصفيرهُم رَجَّ أركان الكَهف، وبدَّد سُكونَه الأبديِّ بِفَظاظة. 

   سمعتُ صوت علاء الدين المُتهدِّج بِتَماوُجاتٍ مُلتويّة تخترقُ اِلْتواءاتِ وانحناءاتِ الممرِّ الضيِّق الذي سلكناهُ معه. رَمُوا لنا حِبالًا متينةً؛ تَشَبّثْنا بها، وسَحَبُونا للأعلى.

   اِقْتادوني إلى تجويف داخل الكهف، مغارة جانبيّة مُتفرِّعة عنه. واسعة من الدَّاخل تتدلَّى من سقفها وجدرانها أشباحٌ أظنّ أنّها خفافيش، ضجيجُ أصْوَاءُها جفَّفَت عُروق شراييني بأصواتها الشَاذَّة، التي أسمعُها للمرّة الأولى في حياتي، نقيقُ ضِفدعٍ خُيِّلَ لي أنّه بحجم عِجْلٍ مُتوسِّط الحجم، يَفُضُ بَكارةَ السُّكونِ المُريبِ، رسم في مخيّلتي أنّه على حافّة بحيرة عظيمة.

   صوتٌ غليظٌ يُشبه أصواتًا بشريَّة أعرفُها في حياتي، يصعبُ عليّ تحديدُ هويّتها. تبيّن بعد قليل أنّه صوتُ كبيرُ دَهَاقِنة الجِنِّ؛ أيقنتُ من اِقْترابِه من المكان.

   لا أعرفُ مصيرَ علاء الدِّين والسُّندباد. قَلَقي عليهما من حُدوث مَكْروهٍ لهما، وأينَ هُما الآن.. هل ما زَالَا في الكهف؟. أمْ خَرَجَا بواسطة الجنِّي خادمهما القويّ الذي يُنقذَهُما في أحرَجِ المواقف، كأنّي أسمعُهُ يهدِرُ بصوته: "شُبّيك لبّيْك.. عَبْدك بين إيديك".

   لو أنّه ظهرَ أمامي لَصَرَخْتُ به من فَرْط ضِيقِي، وقِلّةِ حِيلَتي: "دخيلك أخرجني من هُنا.. أرجعني إلى خيْمتي.. لا أعرفُ ما الذي حصلَ لأطفالي..!!".

   خُطواتي بطيئة.. سلاسلُ الزَّرد الحديديَّة تحيطُ بِقَدَمَيّ.. وأخرى في رقبتي، أحدُهم يمشي على بعد خطوات يتقدّمني، وبيده مِقوَدي، طرَفُ السِلْسِلَة المربوطة في رقبتي.

   أوصلوني إلى مُنتصَف ساحة المغارة.. تقدّم حشدٌ كبيرٌ يحيط بمخلوقٍ ضخمِ الحجمِ. غريبُ الشّكل، له وجْه آدميٍّ، وَجِسم غُوريلّلا، يكسوه شعر أسود كثيف، متُهدِّلٌ للأسفل حول رأسه الكُرويِّ.

   صوتُ خُطواته هَزَّ كياني المهزوز أصلًا. العَرَق يتفصَّد من مسَامَّات جِسمي، شعرتُ باِرْتِجاج الأرض عندما تنزِلُ إحدى قَدَمَيْه عليها.

   أيقنتُ أنَّها نهايتي المحتومة، خاصّة عندما أشار إلى كِبار مُساعِديه بيده، بحركة إيمائيَّة، خِلتُها أمْرًا بقطع رأسي.

  المُساعدُ أمرَهَم بفكِّ السَلاسل جميعها. وتمديدي على طاولة خشبيَّةٍ، قوائمها جُذوع أشجار غليظة أُسْطُوانيَّة الشَّكل، لو حاولتُ تطويقَ إحداها بذراعيَّ لما اِسْتطعتُ.

   أشعلوا شُموعًا على نُتوءات الجُدران، شمعدانٌ ضخمٌ وضعوه عند مقدّمة الطاولة من جِهة رأسي.

   أصواتُ ترانيم من جَوْقة إنشاد في الخلف. لم أفْهم شيئًا ممَّا يقولون. اِنْطلق صوت زعيمهم بِبَرطَمةٍ سريعة.. مع حَرَكات من يديْه أمام وَجْهي وعينيّ مُباشرة. تراتيلُه لا تنتمي لِلُغة مُعيّنة، ولا من خليطِ لُغاتٍ أنتجَ لغة أخرى.

   تلخبط ذهني.. ولم أَسْتوعِب ما يحصل.. شَلَلٌ تامٌّ كأنَّ مُخدّرًا سرَى في جِسمي. تهدّلت جَفْنَاي، اِرْتَخى لِساني.. جَهِدتُ بإبقاء فَمِي مُغلقًا.

   هدوء تامٌّ سيطر على المكان من جديد؛ كأنّما دخلنا في حضرة طُقوسٍ تَعَبُديَّةٍ، ورائحةُ البُخور تَعبقُ بالأُنوف، ودُخانه يزيد الرَّهبة في نفوس الحُضور، بالطبع وأنا لم أَشُذُّ عن القاعدة.

   نوّمَني المُشعوذُ بخبرته العريقة بالتنويم المغناطيسيّ. لم تُسعفْني قُدُراتي النفسيَّة والعصبيَّة بمقاومة مَهاراته الفائقة، بالتماسُكِ الذهنيِّ، حاولتُ صُنعَ حاجزٍ صَادٍّ، لكن رغم ما حدث لم تتصدَّع إدراكاتي الذِهنيَّة بداية؛ بعدها تحطّمت قُدرة أعضائي على القيام بأدنى حركة، في النهاية توقّف كُلَّ شيء.

   الملعون ضغَط بجميع وسائله للكشف عن  دَوَاخلي بوسائله الخاصّة، التي تَفُوق قُدرة جِهازَيْ المِرنان (الرَّنين والمغناطيسيِّ). والطَبَقيِّ المِحوريِّ.

   اِصْطدامه باستفاقة ذهنيّتي؛ أذهله. يبدو لي أنّه لم يَرُق له ذلك، ممّا استدعاهُ لتغيير خُطَّتِه الجَهنميّة كما في حكايات الأساطير، أو ممَّن نَقَل حكاية خُرافيّة عن ناقِلٍ، وهذا عن آخر, وهكذا في سلسلة وهميّة لم تتأكَّد صحّتها، لا علميًّا ولا تاريخيًّا، وما زالت مُصنّفة في عوالم الخيال الجامحة شَطْحًا في اللَّامعقول، وبالتالي اكتسبتْ هالَةً هَيْمَنت بمُسُوح الخَوف والتقديس.

   للتغلّب على فشله، أشار إلى مساعد آخر له، بتوجيه أسئلة كانت روتينيَّةً في تحليلي لها.

- من أين أنتَ؟.

- "من سوريا".

- "أوَ مِنْ قلّة الموت في بلادكم، جئتنا هنا؟".

- "يا سيّدي لم آتِ بمحضِ إرادتي، كنتُ مُستغرقًا في حلم إغفاءتي أثناء صلاتي، أتلمّسُ مَتاعِبي وخيباتي والمآلات التي أوصلتني إلى خيمة، إلى أن مرّ بي ذلك السُّندباد الذي أحببتُهُ منذُ صِغَري أيّام التلفزيون الأسود والأبيض.

   جاءتني فُرصة لقائي به من جديد؛ فنهضتُ معه لتلبية رغبة مُغامرة ساكَنَتْني طويلًا، ولم يكُن بِحُسباني أنْ أكونَ بين يديْكَ".

   هزّ رأسه مُتعجِّبًا من كلامي. تابَعَ المُساعد: "أبهذه السُّهولة تريدُ أن تغامر، وأنتَ محبوسٌ في مُخيَّم..!!؟. يا للغرابة أنّكَ لم تحسب العواقب المُترتّبة على ذلك..!!".

- "يا سيّدي.. هناك حنينٌ جارفٌ لذكريات الطُّفولة التي لم يتحقّق فيها شيءٌ من أحلامي وطُموحاتي..!".

   اهتزاز رأس الزَّعيم لم يتوقّف. "اللّعنةُ عليه.. كيف يَفهَم كلامي.. ولماذا لم يسألني هو، بلْ كلّف مُساعِدَه؟".

   - "نعرفُ أنّكَ نَدِمْتَ على مغامرتكَ، وعدم ظُهور خادم السُّندباد القويّ لِنَجدَتِكم، وتحقيق مطالبكم. لكنّي سأُعطيكَ فُرصةً؛ لتطلبَ ما تُريد كَمِنْحَة لن تنساها، وأنا كفيلٌ بِتلبية مَطالِبَكَ، وهذا لم يُعطَ لأحدٍ من قَبْلكَ قطعًا".

   لم تُسعفني ذاكرتي بكلمات الشُّكر، وعِبارات الاِمْتنان على ما حَظيتُ به، جاءَت فُرصَتي للاستفسار عمّا أقلقني منذ أوّل يوم لي في المُخيّم، وعلى الأخصّ ما شاهدتُ بعد الدَّقيقةِ الأولى في السّاعة الثانية عشر بداية اليوم الجديد.

   قلتُ: "يا سيّدي هل لي من تفسير ممّا يحدُثُ في المخيّم".

- "حَدِّدْ أيَّة نُقطة تُريد منها".

- "أنتَ وَسَط مُعسَكرٍ مُتوحّش، تأكلون بعضكم بعضًا، وتنهشون لُحوم بعضكم بعضًا".

-"فَاجَأْتَني..!! وهل كلُّ مَنْ في المُخيّم هُم على هذه الشّاكلة؟".

- "لا.. لا أبدًا.. كان قصدي الأقليّة المُتنفِّذة، عندما اِنْتهَزَتِ الظُروف، والأكثريّة أُناس طيِّبون مُسالمون مُنقادون، ومنهم من لا هُمْ بالعير ولا  بالنّفير".

-" أفْهِمْني لو سَمَحتَ: شيخُ الجَامع سمعتُه يُؤذّن لصلاة الفجر، نفسي أنَّبَتْني؛ لأنّني كُنتُ أجيبُ مُؤذِّنَ جامع القرية المجاورة للمُخيَّم، ولم أتعاطف حتّى بذكر الله مع صوت أذانِه، ولم تتحرّك عاطفتي حتّى بالخُشوع مثل أحاسيسي سابقًا.

   كأنّ هُناكَ من وضَعَ حاجزًا بيني وبينه، رغم أنّني لا أعرفه بَتاتًا، مع أنّني سمعتُ النَّاس يمتدحونه، ويُثنون عليه بالأمس أثناء مروري بالسّوق. هل من تفسير لذلك يا سَيِّدي".

- "المُشكلة أنّكم تتَّبِعون المظاهر البرّاقة بطيبة قُلوبكم، ولم تُكلّفوا أنفسكم عناء البحث، ولو بقليل من إثارة الشَكِّ بأيّ شيء، لِيثبتَ لكُم صِحَّة الشَكِّ أو عدمه.

   هذا الشاب المُتمَشْيِخُ نموذج فريد من نوعه، وحيّرني بأيَّة فئةٍ سأُصَنِّفه. وكنتُ سأحكي لكَ سيرته. وتنتهي مقابلتنا".

- "كُلّي آذانٌ صاغية.. يا سيّدي.. تابعْ".

- "في الحقيقة إضبارته حُبلى بالمعلومات، ووقتي يضيق عن سَرْد حكايته، ولكن سأزوّدكَ بنسخةٍ طِبْق الأصل عمّا هو محفوظٌ عندنا. وتجلس في خيمتك لمطالعتها بصفاء ذهن. انتهت المقابلة.. أعيدوه إلى حُلُمه".

   أعاد الزَّعيم ما يُشبه كلامه الأوّل عند تنويمي، وبِحركاتٍ من يديْه أمام وجهي.

   شعرتُ بِنَخْز في ظهري من أثر سُجودي الطّويل. حاولتُ رَفْع ظهري بصُعوبة، كأنّ برودة الصَّباح خَشَّبَتْ عمودي الفقريِّ، اِستفقتُ من غَفوتي، ولساني يَلْهج: "الحمد لله". أمسحُ وجهي لإزالة آثار النْعاس، ولم أمسح حُلمي، ورحلتي السُّندباديّة.

   وقفتُ من جديد باب الخيمة، نُسَيْماتٌ قادمةٌ من شَمْأَل من هُناك من حَوْلِ بيتي خلف الحدود؛ أنْعَشتْ رُوحي، دَبيبُ الحياة تجدّد في جسمي. نشاط وحيويّة، وتفاؤل بيومٍ جديدٍ.

وضعتُ ملفَّ الشَّيخ تحتَ وِسَادتي للعودة إليه فترة ما بعد الغداء. الآن من جديد ذهبتُ للحَمَّامات، أَعَدْتُ الوضوء؛ ليبدأ يومي بالصَّلاة، قبل الدُّخول في مَعْمَعة الحياة المُزدحمة.

..*..

 

الملف:

   هدوءٌ معقولٌ بتوقُّف ضجيج الأولاد ولَعِبِهم. أخَذَتهُم أُمَّهم إلى الحمّامات على مسافة مئتي متر، المُخصَّصة للنساء. لا أظنّ حالة تجهيزاته بأفضل مما رأيتُ في حمّامات الرِّجال. بخلاف وُجودِ الماء على الأغلب، لأنّ الخَزَّانات مُلِئَت صباحًا.

الحركة البعيدة، وفي جِوَاري لم يكُن لتأثيراتها في تشتيت تركيزي دَوْرًا هامًّا كما أولادي وَهُمْ حَوْلي، ويطلبونَ أشياء منِّي، ويريدون تَجاوُبًا مع طلباتهم، وتأفُّفِهم من الفراغ القاتل لأسباب لَهْوِهِم ولعبهم.

   كلمةُ ملفٍّ بداية ذهبت بأفكاري إلى مئاتٍ من الأوراق؛ فهو لم يتجاوز الخمس عشرة صفحة، وثُلُثا معلوماتِها محجوبة بالطَّمْس أو بالنُّقاط وإشارات الاستفهام.

   حيَّرتني هذه النُّقطة.. بتركيز شديد لم تستغرق الكلمات التي قرأتُها العشرة دقائق، وقبل عودة الأولاد مع أُمِّهِم.

   رغم قلقي من نتائج مُتعبة لي مما عرفت. أهونُ مئة مرَّة من أن أبقى على جَهْلٍ بما يدور حَوْلي (كالأطرش في الزفّة)، والأصعب من ذلك، أنْ يُساقَ إنسانٌ إلى حبل المشنقة؛ ويموتُ ولم يعرف السَّبَبَ الذي أوصله لذلك..!!.

   *(اِسْم الشّيخ مجهول.. متأكّدٌ من تثبيته في النُسخة الأساسيّة عندهم، بدليل أنّه مَطموسٌ بقلمٍ عريضٍ أسوَدِ اللّون. 

   عندما هربَ من قريتِهِ هُناك إلى المُخيّم في ظُروفٍ غامضةٍ. تَشَعَّثَ شعرُ رأسه ولِحْيَته المُتَعَثِّنَة؛ لانشغاله بِمهامِّه تحت مِلَاءة المظاهر الثَوريّة.

ما إنْ وَضَعُوا "الكرفان" المُزدوج بحجمه الكبير، وخصّصُوه كمسجد صغير. كان على رأس الحُضور لحظتَئِذٍ، بَقيَ مُرابطًا في المكان، وراح يُساعد العمّال.. فكّر  بتغيير سيرته السّابقة؛ ليكون مُؤذِّنًا وإمامًا، والعدّة جاهزة -لحية طويلة هذّبها وشذّبها، وثوب أبيض قصير، وطاقيّةٌ بيضاء على رأسه- وعلى رأي من قال: (رأسمالها مِتريْن قِماشْ.. ولحية بِبلَاشْ).

   كان قبل ذلك ممَّن أُطلِقَ عليهم صِفة الثُوَّار تَشَبُّهًا بثُوّار مُسلسل باب الحارة، والعقيد، وغيرهم. عندما لَفَّ رأسه بغطاء مُلوَّن غير معهود الاستخدام. مُمَيَّز بشكله ولونه الزّاهي.

حمَلَ السّلاح، بانت عليه علامات المُحارب.. اختلفت وُجهات نظر المجتمع فيه. منهم من رآه ثائرًا مقاومًا للظُّلم، ساعيًا في الظّاهر للخلاص في سبيل الحريَّة.

والقسم الأعظم من الجمهور جنحوا إلى جانب الدعاية الإعلاميَّة للنِّظام، على أنَّه من العصابات الإرهابيَّة الخارجة على القانون.

- لقد خَانَ رفاقَ القضيَّة؛ فسرق السِّلاح الذي دفنوه بأيديهم سويَّة، وبَاعَه.

- تحت غطاء سلاحه، سَحَب كَابِلات الهاتف الرَّئيس الأرضيِّ من باطن الأرض، بواسطة جَرَّارٍ زِراعيٍّ بِمُساعدة مجموعة من أصدقائه، وبيعه كمادَّة نُحاسيَّة. بأبخس الأثمان.

   - اِسْتشهادُ أحد الشباب من مجموعته، حَزِنَوا عليه. ثم اِلْتَفُّوا على زوجته للاِسْتحواذ عليها. مع زوجات شهداء آخرين عندما قدَّمُوا لهُنَّ حليبًا وحفَّاظات لأطفالِهِنَّ.

   فالمساعداتُ أسْهلُ طريقٍ لاستمالة الشَّخص، وحدثت فضائحُ لهم من بعض الشَّريفات؛ وأُخْمِد صوتُهنَّ تحت التَهْديد بالتَصفِيَة الجسديَّة.

   -اِشْتُهِر الشَّيخُ بتجارة الماتورات (الدَرَّاجات الناريَّة) بأسعار مُنافسة.. شكاوى كثيرة وتبليغات عن سَرِقات الماتورات بشكل يوميٍّ وفظيع.

ذاعت أخبارُه مع بعض أصدقائه بشُرب الخمر حتَّى في شهر رمضان.. وكانُوا يخرجون بحراسة وحماية المدنيِّين في المظاهرات.

ونُسِبَت له سرقة أجهزة الكُمبيوتر من المدارس والمركز الثقافيِّ، وللتمويه قاموا بإشغال النيران في المكان.

    في المُخيّم فور وصوله حصل على خَيْمتيْن، ونصبهما إلى جوار من جاؤوا قبله ذوي الخَيْمة الواحدة.

   اِلْتفّ على أحد مُوظفّي المُخيّم يعمل في المُستودعات، واِشْتغَلوا في تهريب ما تيسّر لهم من مَوادٍّ غذائيّةٍ, وأثاثٍ مُخصَّصٍ للَّاجئين. إلى جانب عمله في المسجد، بعد أن تمّ تعيينه رسميًّا من إدارة المُخيّم كإمام ومؤذّن.

- المُحْسنُ السَعوديُّ (أبو ذرٍّ) الذي وَزَّع المساعدات. أخي فطين كنتَ قد حدثَّتَني سابقًا عن الصحابيِّ الجليل أبي ذرٍّ، أنّهُ قد اِفْتتح بداية هذه الرِّواية، في مقاومته للظُلم. وأبو ذرٍّ هذا صاحب الشَّيْخ.. لم يستطع مقاومة غريزته.

   إلَّا بالزَواج من بنتٍ فقيرةٍ، وإذا أحسنتُ تقديرَ عمرها أنَّها لا تعدو إلا أنّها من جيل أصغر بناته. إذا لم تكن من جيل أحفاده. بعد توزيع المساعدات بمعرفة وتنسيق مع الشَّيخ ظِلَّهُ وساعده الأيمن؛ أعْرَبَ له أبو ذرٍّ عن نيَّتِه بكفالة طفلة يتيمة فقدت ذويها. الشَّيْخ أغراه بتزويجه إيّاها: "وهكذا يُصبح الأجر أجْرَيْن".

   ذلك عندما لمَسَ بذكائه وإحساسه؛ تأكَّد من تأجُّج الرَّغبة في عُيون المُحسن أبي ذرٍّ، وهو يجلس خلف الطاولة، كان يَمُدُّ يدَه لمناولة مساعداته العَيْنِيَّة يدًا بِيَدٍ؛ ليتأكّد من وصول مساعداته لمُستحقّيها، ويغرز نظراتَهُ المُفترسة بتركيز في البنات، والنِّساء بِشَبَق يُشِعُّ من عَيْنَيْه.

   مُسبقًا عند قدومه أفصح عن رغبته بتقديم مُساعداته للأرامل واليتامى من أبناء الشُّهداء ولهم الأولويَّة عنده. تحوّل الشَّيخ فيما بعد إلى مُعتَمَدٍ موثوقٍ ذاع صيته للمُحسنين القادمين من دول الخليج المختلفة، بناءً على تزكية أبي ذرٍّ لأصدقائه الذين يريدون الانخراط في العمل الإغاثيِّ، وتقديم المُساعدات للسّوريّين في المُخيّم.

   مُمارسات الشَّيخ تحت ملاءةٍ شرعيَّةٍ سميكة.. تحت شعاره المعروف: "قال الله.. وقال رسول الله").

  بعد الانتهاء من الصفحات التي أتيح لي قراءتها من التقرير. لا أدري ما الذي اِسْتَدعاني للتوغُّل بعيدًا، لأتوقّف في ساحة شمس التبريزي: "لا تحكُم على الطَّريقة التي يتواصل بها النَّاس مع الله، فَلِكُلِّ اِمْرِئٍ طريقته وصَلاته الخاصَّة، إنَّ الله لا يأخذنا بكلمتنا بل ينظر في أعماق قلوبنا، وليست المناسك أو الطُّقوس هي التي تجعلنا مُؤمنين، بل إنْ كانت قلوبنا صافية أم لا".

  في الأمس سمعتُ ما قيل عن الشيْخ، قلتُ لنفسي: "لكم ما تشاؤون من إبداء آرائكم، ولكم أحكامكم. ولِيَ حُكْمي الخاصّ بي، لا أُطلقُه إلّا بعد يقيني القاطع، بعيدًا عن الشكِّ، ولو بنسبةٍ ضيئلةٍ، مهما قيل، فاِعْتقادي الوثيق مُتَمَحْور حول مقولة: "رُبَّ قاطعُ طريق، أحبُّ إلى الله ممّن يأكلُ الدّنيا بالدِّين".

..*..

 

   *ملاحظاتي على الملف بعدما إلقاء نظرة عابرة سريعة، وقبل إعلان نتائج ما ورد فيه.

   - لا تاريخ محدد لهذا الملف.. لأنَّه طَمَس مع الاسمِ صاحبَه.

   - في الحقيقة لا أدري كيف استطاعوا جمع هذه المعلومات خلال فترة قياسيّة. لما تحتويه من تفاصيل دقيقة مَهُولة لأبسط الأشياء، التي لم تكُن ببالي أبدًا لو لم أقرأها هنا.

- بعدما قرأتُ تفكَّرتُ بأبعاده، تبادَرَت إلى ذهني النّماذج المُتشابهة الكثيرة مع الشّيخ.

- عزائي المُشجّع حتّى لو أنّ أحدًا طلبَ الملفّ الحقيقيِّ منّي؛ أنَّه ذَكَر أفعالًا بلا أسماء. تشابهت حالاتهم كثيرًا في غياب قانونٍ يضْبِطُ الجميع.

- هناك أيضًا مجموعة أسْطُر في صفحات عديدة مَطموسة، وبعض فقرات أُشيرَ إليها بمجموعة علامات اِسْتفهام ونُقاط.. فقط. الصُّعوبة تكمُن في اِسْتِنباط دلالاتها. والمَيْل للتخمينات، وربّما تقودُ لتأويلات فيها من سوء الظنِّ ما تُحمَد عُقباه، واِفْتِقاد الثِّقة بكلِّ من سلَكَ طريق الحريَّة. عندها يذهب الصَّالِح بِحُجَّة الطَّالح.

..*..

 

 

 

 

 

 

(7)

أبو فندي

   من الذي شبّه الوقت بالسّيف، أظنّ بأنّه صدَقَ لكن خارج المُخيّم، أمّا من وصفه كالقطار لا يتوقّف لانتظارك، هنا توقُّفٌ حتميٌّ بلا أدنى شكٍّ، محطّة إجباريّة.

   البحثُ عن حكايا في المخيّم عملٌ غير شاقٍّ أبدًا، لو أنّي أمتلكُ أربع آذان أو أكثر؛ لوجَّهتُ كلَّ واحدةٍ باتَّجاهٍ خيمةٍ لالتقاط معلومةٍ جديدةٍ، أو قصَّةٍ، أو ثرثرات البائسين، أو تشاؤمات اليائسين.

   الفراغ يجب ملأه، ولا شاغل إلّا الكلام من أجل الكلام فقط، الجميع يعلمون أنّهم فاقدوا الأهميَّة، خارج حدود الزمان والمكان.

   قُبيل السَّابعة صباحًا أكملتُ اِسْتعداداتي للذّهاب برفقة ابني إلى مقرّ توزيع الخُبز. المفوضيّة فعَلت خيرًا، بضمان مُستلزمات البقاء على قيْد الحياة بالحدِّ الأدنى؛ فلن أظنّ أنّه ستأتي اللَّحظة؛ لأفعل كما فعل "جان فالجان" الذي عانى من الحرمان، عندما سرق رغيف خبز اِحْتاجه؛ لكي يُؤمِّن القُوتَ لعائلته، تَمَّ سِجْنه بسبب هذا الرَّغيف خمس سنوات.

   اِمْتدَّت بسبب مُحاولات الهُروب التي قام بها إلى تسع عشرة سنة. اللّعنة..!! اِسْتعدتُ رُشدي.. كيف لي أن أسرق..!!؟. ومن الذي سأسرقه رغيف خُبزِه؟، أأسرقُ أمثالي من اللّاجئين، وما الذي سيحصل لأطفالهم..؟. يا لدموعهم.. يا لحُرقَةَ بُطونهم الجائعة..!!.

   الجوع كافر بلا شكٍّ، وهل مقولة أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه:  )عجبتُ لِمَنْ لم يجِدْ قوتَ يومِه، ولم يَخْرُج شاهِرًا سَيْفَهُ)، أن تكون فتوى مرجعيَّة، بإمكاني التأرجُح عليها، والاحتجاج بها؛ لأجدَ العُذْرَ لي أمام نفسي بدايةً، قبل الدِّفاع عنها أمام الآخرين.

   أخي فطين، بكلّ المعايير أجدُ نفسي في مأزقٍ بين مِثاليَّاتي الأخلاقيَّة، وواقعٍ يوميٍّ مأزوم، أخافُ ضعفي أمام الاحتمالات الزَّلِقَة، وما كنتُ أعيبُه على الآخرين، فكيف لي أن أقع فيه؟. وتصدُق فِيَّ مقولة سيّدنا عليٍّ كرّم الله وجهه: "ما شَبِعَ غَنِيٌّ إلَّا بما جاعَ به فقير".

   "فكتور هوجو" عندما كتب قصّة البُؤساء بمعطيات أيّام الثورة الفرنسيّة، تشابهت حالنا مع بؤسائه مع تثبيت فارق الزَّمان؛ فكلّنا ندفع ضريبة الحرب القذرة المُضادَّة. لكنَّ لكلِّ ثورةٍ ثَمن، وها نحن ندفع جُزءًا منه.

   رُبع ساعة من المشي السّريع بلا توقّفٍ، تصوّراتي لا تنتهي عن الطوابير الطويلة، وأكثر ما يحزّ بنفسي ممّن يخترقون حُرمة الدَّوْر؛ فهُم بلا شكّ مُعتدون على الجميع، شُعوري بالحَرَج والمهانة عندما يحصل ذلك، فهو سرقة لوقتي، كمن يسرق رغيفي، فهو سرقة حياة.. فهو قاتل.. سارق لعمر طفل.

..*..

 

   ربَّما تموتُ الأيَّام في عينيَّ قَهْرًا. وحدها الحكايات تأتي بعد حين لتُحْييها، وتَرشَّ مِلْحَها على الماضي لتُنَكِّهَهُ بجمال الذكريات، وتنشر غِلالةً صَفيقَةً من مِلاءَتَها على سواد الحاضر.

   حكايا المستقبل لم تُصنع بعْدُ. تُحييني إذا ابتدأ مِشوارها في وقت الرّاحة.. تتواطأ مع النَّوْم للذَّهاب به بعيدًا، ترمي به بعيدًا خلف الحُدود هُناك. تُخادعني في مُحاولة الانتصار على الواقع.

   الحكايات تتزاحم مُتَوافدة بلا استئذان، ولا اختيار وبحث منّي. تتوالدُ على مدار السَّاعة كَسَيْلٍ جارفٍ لا ينتهي، أستجهنُ..!! كيف تتّسع لها المساحة الضئيلة؟، مؤكّد أنّ فَيِضها خارج أسواره، سيَطْمُر رمال وأتربة الصَّحراء، اِتِّقاء غبارها المأساويّ إذا ثار. لكنّها تبقى حكايات لملأ الوقت وتزجيته، ستذهب أدراج الرّياح. والخيام ما تزال حُبلى بحكايات لا تنتهي. أقلّها المفيد والنّافع، وأكثرها بلا فائدة، صلّاحيّته مُنتهية من زمان موغلٍ في القِدَم. وأبلغ وصف لها: "بأنّها من وراء الحمار.. لا تضرّ ولا تنفع". حينما وصف أحدهم صخب الأولاد وعبثهم، وهم يركضون خلف حمار يركبه شخص أجنبيّ، وآخر يقود به الذي ما فتئ يطرد الأولاد في كُلِّ مرّة يقتربون منهما، لكنّ شراستهم تزداد في التصميم على ملاحقتهم. إلى أن فاض الغضب بمن يركب الحمار، فعبّر له عن غضبه: "نحنُ نسير، والطريق مفتوحة أمامنا بلا عوائق، دعهم.. لا عليكَ منهم، كلامهم من وراء الحمار".

..*..

   كنتُ أظنّ أنّ كثيرًا ممّا أحفظُ، وسمعتُ من حكايا سيموت، أو سيندثر في دائرة النسيان، وعدم الاهتمام. صحوتُ من نوم عميق.. عميق على غير عادتي، شعور مُباغتٌ بانعدام الجاذبيّة، مُحاولاتي بمقاومة الارتفاع عن الأرض تبوء بالفشل، أثّرت على ظنّي أنّني جُننتُ، الأنا في حالة توحّد أو تحوّل أميبيّ، ما هذا الذي أسمع.. يا أناي؟.

   - "غريبٌ ما يحصل لكّ..!!. أظنّ أنّ مثيلنا الثالث "ظلّ الأنا".

   - "يعلم يقينًا الجواب، ولم ينتظر منّا توجيه السّؤال له".

   ههههههه حالة ضَحِكٍ هستيريّة ألجمت لِسانيْنا، أجاب: "يبدو أنَّ صديقنا الأنا، في داخل في حالة توحّد اِنْطوائيَّة على نفسه".

   ضحكاتُه تحرقُ دواخلي غضبًا، مع ذلك أستمعُ إليه باهتمام. أظنّ أنّني سمعته: "أين أنتَ من نظريَّة "الثابت والمُتحوِّل"، وجِدَالاتها العقيمة؛ التي ما زالت أثارها بين مُؤيِّدٍ ومُعارضٍ لها، وبعد أربعين عامًا لم يُحسَم الأمر بالاتِّفاق على شيءٍ مُعيَّنٍ بخصوصها، بل ما زال الاختلاف والتَراشُق بالتُّهم قائمًا، أنت جِنْسُ كائنٍ حيٍّ وحيد الخليّة، تنتمي إلى مملكة الطلائِعيَّات، وشُعبة الأنبوبيَّات. التي تعيش داخل الجسم بشكلٍ طُفَيْليٍّ أو مُتعايشٍ".

   -ظِلُّ الأنايَ: "الآن تذكرتُ كأنّك تقصد: أنّ الأميبا تنمو عن طريق زيادة حجمها، وذلك لأنّها وحيدة الخليَّة بعكس الكائنات المُتعدِّدَة الخلايا، التي تنمو عن طريق عمليَّة الانقسام المتساوي".

   الأنا: "أدونيس مفهوم نوعًا ما، رغم إغراقه في فلسفة الأمور بين الثابت والمُتحوّل، أمَّا كلام هذا المنحوس (ظلّ أناي) مُقلق، ومن أين طرأت على باله هذه الفكرة اللّعينة. (بتشبيهي بجسم الأميبا ذات الخليَّة الواحدة فقط، التي تُعتبر كُتلة عديمة الشَّكل من البروتوبلازم (المادَّة الحيَّة الأساسيَّة الهُلاميَّة الموجودة في خلايا كلِّ الكائنات الحيَّة، حيثُ يُحيط بالبروتوبلازم غشاء رقيق مَرِن يحميها، ويجعلها متماسكة.

   الماء والغازات يدخلان إلى الأميبا، ويخرجان من خلال هذا الغشاء، ما زلتُ أذكرُ هذه المعلومة من أيَّام الصفّ العاشر. أذكُرُها جيّدًا، خاصّة نعم عندما جُنَّ جُنُون مُدرّس مادَّة الأحياء (العُلوم الطبيعيَّة)، بأنّ أحدًا من الطُلَّاب في شُعبتنا لم يُجب على أيِّ سُؤال؛ ليتأكَّد من فهمنا لما شرح في الأسبوع الماضي.

   اضطرّ مُجبَرًا لإعادة الشَّرح السَّابق، وتوعدَّنا في الدَّرس القادم بالوَيْل والثُّبور إذا لم نحفظ المعلومات عن ظهر قلبٍ غيْبًا، مع تثبيت درجة الصُّفر في دفتر العلامات.

   كان أغلبُ ظنّي أنّه سيُنفِّذُ تهديداته بلا تردُّدٍ.. لا أشكُّ في ذلك أبدًا، مثلما تهديدات إسرائيل الصَّادقة، التي هي بمثابة تنفيذ قائم بضرب أيِّ هدف في بلادنا، بلا سابق إنذار في أيَّة لحظة، حتّى وإن تدخَّلت السياسة من تحت الطّاولة، لِثَنْيِها عن ذلك". 

..*..

 

 

 

   السَّامع من السَّامع .. كالوارث من الوارثِ، وناقلُ الحديثٍ عن ناقِلٍ، لاشكّ بارتكابه حماقة فَلَتَان لِسانِه هَذْرًا بما لا يعرفُ. فواجِعُ ناكبةٌ بنتائجها الجُنونيّة؛ وكثيرًا ما تَحدُث من عدم التأكُّد، والتثبُّت قبل إطلاق بثَّ ما اُسْتُمِع إليه آنِفًا.

   لم أنسَ حديث صديقي عن اِسْتعداداته بإحضار أدوات، وموادِّ الطَّعام؛ لتقديمه كواجب عزاءٍ لجارتهم المُتعبة والمُنهكة صِحيًّا؛ فَظَنَّ اعتقادًا منه أنَّها ماتت.

   لم أتمهّل بتعزية قريبها فوْرًا..  إنّه صديقي الآخر؛ ليؤّكِّد لي فيما بعد كذِبِ الخبر من الأساس. وقعتُ في حرَجٍ.. لعقتُ بِصِمْتٍ فجيعة أّني أصبحتُ ببَّغاءً.

   وفيما بعد جاء إعلانُ بعض الصَّفحات عن موْت اِمْرأةٍ، كانت تتمتَّع بصحَّةٍ جيِّدةٍ، وبتتبُّع الخبر؛ تبيَّنَ أنَّهم أرادوه فَخًّا؛ لاصطياد ابنها المُتواري عن الأنظار. مُحاولةٌ احْتياليَّةٌ للقبض عليه، لمّا عجزوا عنه.

   الأنا، والأنايَ، وظِلُّ الأنايَ؛ لا أظنُّهم إلَّا أنَّهم كحوض نهر اليرموك تصبُّ فيه فوائضُ الحكايات، يستوعبون كلّ ما يسمعون، لا يُسكِتُون لسان مُتكلِّمٍ أبدًا، ولا يقطعون سلسلة أفكار مُتحدِّثٍ، يكتنزون ما يصل إلى أسماعهم بالحفاظ عليه في مأمن من التحريف والتزييف، يتركونَهُ كما هو بلا تدخُّلٍ منهم في مسَار الكلام. ربّما يُعلّقون عليه.. لا بل يُعلِّقون بكلّ تأكيد.

   شُعوري لا يُضاهى بمتعةٍ غامرةٍ، و"أنا" أَسْتحْوِذُ على حكايا المُخيَّم.. أنَايَ مازال قابعًا حارسًا للخيمة. و"ظِلُّ أنَايَ" مُتمرِّدٌ على قوانين الوضع عُمومًا، لِسَانه، كأنَّه بأربَعِ شُعَب، كأفعى مُتعدَّدة الرُّؤوس.. دؤوب الحركة بنشاط مثيرٍ للشُّبهة.

يخبرُني: "فجأةً.. اِحْتَرَّتْ عيناي كأنَّما ذُرَّ فيهما الفُلفُل.. رائحةُ بارودٍ مُقزِّزة. ما الذي جرى؟.. سمعتُ هُتافاتٍ مُندِّدةٍ مُترافقةٍ مع التكبيرات.. بصَوْتٍ واحدٍ مُنغَّمٍ بتصفيقِ الأكُفِّ. هناك من يقول: إنَّ مجموعة من الشَّباب الغاضبين؛ حاولوا اِقْتحام مكاتب المُفوضيَّة احتجاجًا على موْتِ طفلةٍ في مُستشفى المُخيَّم، تعاطُفًا مع أبيها عندما نادى بأعلى صوته في الشَّارع الرَّئيس.

   توافَد الغضبُ من جميع الأرجاء. التي تُردِّدُ مع صرخَتِه من الخِيَم القريبة والبعيدة؛ لِيِنتَشِر الخبر كمَا النَّار في الهشيم".

..*..

 

حوار أبو فندي (الأنا) مع (ظلّ أنايَ)

    ساعة أُريقت دقائُقها وثوانيها على مَذبَح الانتظار، في طابورٍ طويلٍ  لاستلام مُخصّصات الخُبز اليوميّة، الصّباح مازال في بداياته، الشّمس لم ترتفع إلّا قليلًا، ونُسَيْمات تحمل في هبّاتها اللّطيفة برودة مُحبّبة، غيرُ آَبِهةٍ؛ تُلطِّف حرارة النُفوس والقُلوب.

   السّادسة صباحًا. الطابور في كلّ لحظة يكتسب مُصطفِّين جُدُدًا، كبارًا وصغارًا، مُتحدِّثٌ من أوّل الصّف، حديثُه يبدو أنّه غير موُجَّهٍ لشخصً مُحدّدٍ، صوته مسموع بوضوح: "اُربُط بَكِّير؛ بِتْحِلْ بَكِّير". أيقنتُ أنّه فلّاح ابن فلّاح، لهجته شبيهة بما أتكلّمُ به. فهمتُ مُراد مقولته: بأنّه جاء مُبَكِّرًا، ليُمسِك دورًا في أوّل القادمين بعد صلاة الفجر قُبيل شروق الشّمس.

"ظِلُّ أنايَ" ترَك أنايَ هُناك حبيس الخيمة، ما من أحدٍ هُنا اعترض على وقوفه قُبالتي. غمز لي بعينه اليُسرى، وارتفعت قبضته رافعة إبهامها علامة الإعجاب.. أظنّ أنّه مُعجَب باصطفاف القادمين، لم أفطن أنّني وبعد نصف ساعة من وصولي إلى أنّ موقعي صار في المنتصف، توافقت نظراتي للخلف مع نظرة "ظلّ أناي"، لأقُدّرَ أنّ العدد تضاعف.

   يضحك بأعلى صوته مُقهقِهًا، لكنّ من هُمْ أمامي، وخلفي لم يضحكوا، ولم يحتجُّوا على ضَحِكِه مع الصّباح. مؤكَّدٌ أن لا شيء يُثير رغبة أحدٍ بالضّحك في مثل هذا الوقت.

   تكشيرة الوُجوه الكاشِحَة؛ مُنبِئَةً عن لوائح الأحزان.. دفينة الصُّدُور، والعُيون المُنْتَفِخة أجفانُها، ودوائر هُيولى سوداء حولها، كأنّهم في حفلة تَنُكرِيّة.

أثارني منظره، وهو يضحك بهذه الصّورة، صرختُ في وجهه بأعلى صوتي:

    -"ما الذي يُضحككَ..!! الموقف لا يحتمل مثل هذه التفاهات والمُزاح".

   -"صدّقني أنّني لا أضحكُ ساخرًا من أحدٍ، وأعوذُ بالله أن أفعلَ. ما أثارني حقيقةً هو اِنْتظامكم هنا في صفٍّ واحدٍ، رغم كلَّ التعليمات هُناك؛ اعتبارًا من الاصطفاف اليوميِّ في المدارس بالطّابور الصباحيّ، والتأكيد عليه، ودُروس الطّلائع والتأكيد على الاصطفاف في المجموعات، وبعدها دروس مادّة التربية العسكريّة (الفُتُوّة) في المرحلة الثانويَّة، وقبلها الإعداديّة، لم تُفلح في إقناعِكِم بالاصطفاف، حتّى مُحاولات الاصطفاف على باب الفُرن جميعها باءت بالفشل. وليست صُفوف صلاة الجمعة مع الفرائض الخمس بمنأى عن  الفشل أيضًا، ولم تتعلَّمُوا منها شيئًا..!!. هل اقتنعتَ بسبب ضحكي، وقناعتي الموقف باعثٌ على البُكاء. قولًا واحدًا لا تراجُع فيه".

   -"ذكّرتني بكلامٍ كنتُ أسمعُه من صديق مقهورٍ من التزاحم اليوميّ على باب الفُرن، والمُناوشات التي تحصل، ومقولته استحضرتني الآن: "إذا تعلّمنا كيف نصطفُّ بالدّور على باب الفُرن، لحظتها سنتقدّم، وسنكون في عِداد الأمم المُتحضّرة في أوروبَّا".

   حقيقة لم أكُن أدركُ أنّ مقولته بهذه الأهميّة، فهي ثقافة وسلوك نستطيع مُمارسته، لكن كيف نستطيع الالتزام بالصفّ، ويُفتحُ باب الفُرن لمن يعرف عامِلًا في الدّاخل، والشّرطي ما إن يصِل إلّا ويتناول خُبزاته بعيدًا عن الازدحام، ومثله من كان يضع مُسدّسه على جانبه، فقط يُشير باِصْبَعِه".       

   -"أفهمُ من كلامكَ.. أن لا فائدة من الانتظام والاصطفاف؟".

   -"نعم عزيزي.. ثقافة المقموعين ناضحة بالفوضى، لا قانون ناظم لشؤون البشر، القويّ  بقوّته يعلو فوق القانون؛ لينتَهِكَ.. بما يُحقِّق له مصالحه".

-"لم أستطع إخفاء مشاعري حقيقةً، وأنا أرى أنّكم على أبواب نقْلَةٍ نوعيّة على الصَّعيد التربويِّ، بإعادة تشكيل رُؤاكم بكثير من القضايا التي كُنتم تعيشونها".

-"عُمومًا كلامك لا غُبار عليه، من المؤكّد أنَ التغيير قادم على جميع الأصعدة -صُراخٌ بين اثنين في آخر الصفِّ، يبدو أنّهما اختلفا عن من جاء قبل الآخر-  الحرب تحفر مساربها عميقًا في النُفوس؛ غالبًا ما تتبدّل طرائق التفكير، ومنظر الحياة يتجدّد بإصرار للابتعاد عن ويلات ومُخلّفات الحرب".

-"عن أيّ تغيِّير تتكلّم..!!.. وها أنتم تدفعون باهظ الثّمن من حياتكم؟".

-"في كلِّ تغيير لا بُدّ من أحدٍ سيدفع.. فلندفع لتنعم أجيالنا القادمة بحياة هادئة هانئة".

-"وهل أنتَ متأكِّدٌ، ومتفائل لهذه الدّرجة.. أخوَف ما أخاف أن تذهب تضحياتكم سُدًى، وبلا مُقابل".

-"ستُثمِر..!! ولو بعد حين.. إيماني أكيد".

-"لكن ليس بالضرورة للأفضل..!!".

..*..

 

   الأنا ما زال على موقفه ثابتًا في الصفِّ. سيّارة الخُبز تأخّرت. الخُبراء ببواطن الأمور. قالوا: "لا يُمكن أن يحدُث مثل هذا التأخير، إلّا لأسباب قاهرة، خارجة عن إرادتهم". المُحلّلون تضاربت وُجهات نظرهم، مذاهب النّقاش أخذت مناحٍ لم يطرُقها الخُبراء الذين صمتوا، أمام سَيْل الآراء المُتباعدة والمُتقارِبة. أحدهم بقَرَفٍ وتأفّف: "يا خي نحن هون كأنّنا لسنا بشرًا". ابتسامات اِرْتسمت على وجوه  البعض. من أوّل الصفِّ، لا أدري على وجه الدِقَّة ، فلو عَدَدتُ من كانوا قَبْله، لا أظنُّهم أكثر من تسعة أشخاص، وهو سيكون عاشرهم: "هم يريدون إذلالنا.. قَسَمًا بالله..!! لو كان أمر العودة إلى البلد بيدي؛ فلن أتأخر لحظة واحدة، ولن ينتهي النّهار إلّا وأنا في بيتي هُناك".

   مُعارضةٌ غاضبةٌ من أحدهم؛ جاءت من وسَط الصفّ، بيني وبينه خمسة شباب بالضَّبط: "يا عمّي ما فائدة هذا الكلام، الذي لا يُسمِنُ ولا يُطعمُ من جوع. فلننتظر..!!، مهما انتظرنا ونحن آمنين على أنفسنا وأولادنا، أهوَنُ ألفَ مرَّةٍ من الاعتقال، أو السِّجْن.. أو الموت تحت الرَّدْم".  

   مُهدِّئٍ من الخلف بصوته النّاعم، بصعوبة بالغة فهمتُ مقولته: "يا جماعة ما بِدْها كلّ هالعصبيَّة.. وما الذي نستطيعُ فِعلَهُ غير الانتظار".

   شابٌّ مُلْتَحٍ: "يا إخواني صلُّوا على النبيِّ، ما زال الوقتُ مُبكِّرًا، ضمن الحدِّ الطبيعيِّ، اِدْعوا الله أن تَتَيسَّر الأمور بأسرع وقت".

   سَبْعينيٌّ مظهره مُنْبئٌ عن حاله: "يا أبنائي.. في كلِّ تأخيرةٍ خِيرَه، لَشُو العَجَلَة، حتّى لو أخذْنا الخُبْزَات..!! سنرجعُ إلى الخيْمة.. لا شيء بانتظارنا سِوَاها، ولا عمل لدَيْنا. الانتظار قدرُنا ولا مفرَّ منه".

   الرَّجُل الذي أمامي مُباشرة، وحّدَ الله: "لا إله إلّا الله محمدًا رسول الله"، ومَسَح وجهه بطرف غطاء رأسه، وأتبعها بِحَوْقلةٍ: "لاحوْل ولا قوّة إلّا بالله". لا أدري هل النِّقاش أعجبه أم لم لا، نبرة صوته كالمغلوب على أمره، ليس له من أمر نفسه شيئًا، وإعلان عجز، لكنّه مُتفائلٌ أنَّ الحلَّ بيد الله. هذا حلّلتُ نبرته، بعد تقلبيها على عدّة أوجه. لم يسمعه أحدٌ غيري. 

   استغراقي في دوّامة ممّا سمعتُ من القليل الذي اِسْتطعتُ إدراكه، لكنّ الكثير من الآراء لم أدركها، وما تَعْدُ إلَّا أنَّها ضجيج غير مفهوم، في صالة الخيْمة الكبيرة، أحد المُوظَّفين يجلس خلف طاولة، لم يألُ جُهدًا في تهدئة غضب الغاضبين، بسمة مُفاٍجئة طَغَت على ملامح وجهه الأسمر، أثناء مكالمة هاتفيَّة في شخص على الجانب الآخر، صاح: "أبشِرُوا يا جماعة الخير.. نصف ساعة، وستصلُ سيّارة الشّحن الكبيرة، والأخرى المُتوسّطة. إن شاء الله لن تتأخَّروا بعدها أكثر من رُبع ساعة؛ إذا اِنْتظمْتُم بالصَفِّ، واِلْتزمتُم الهُدوء، ولا يعتدي أحدٌ على دور الآخر. الكُلُّ سيأخذ.. الكميَّات وفيرة". صفيرٌ وتصفيقٌ اِرْتجَّتْ له أرجاء الصَّالة. تجدَّد الأمل في النُّفوس، اِسْتقرائي لما رأيتُ بعد كلام المُوظَّف، واِسْتعدادات مُساعديه.

..*..

 

   لم أتقدَّم خُطوةً واحدةً إلى الأمام أبدًا، يُزعجني أحيانًا انضغاطي بين ثبات من هُمْ أمامي في الصفِّ، وبين حركة المُصطفِّين من خلفي، إحساسٌ مُقلق على الدَّوام بخللٍ ما: "يا إلهي هنا  مكان يتسّع للجميع برحابته..!!. مُقابل ذاك الحجر المسكين أمام نافذة التوزيع (الطاقة) على باب الفرن، كم احتمل على ظهره الأملس من ثِقَل وغلاظة البشر على مدار أكثر من نصف قرن. 

   باب الفُرن كان أشبه بمدرسة تعلَّمنا فيها على مدار سنين عديدة.  كما تعلَّمنا في مدارس الحكومة الرسميّة، مبادئ القراءة والكتابة، والنّظافة والتعاون، والاجتهاد في حفظ الدروس وكتابة الوظائف، واحترام المعلّم. التعلّم هنا مجانيّ على باب الفُرن، ومنذ صباح كلّ يوم، تنطلق بعض الألسنة بالسبِّ والشّتم، تُكيلها لبائع البَسْطة، وعلى الخُبر المُعجّن والمُجَعْلَك والمحروق، ترسّخت في ذهني عبارة شاعت آنذاك: "والله هالخبز الكلاب ترفض أكله" وأحيانًا يقولون: "الحمير"، ومن يقول: "الحيوانات". اختلفت الألفاظ، لكنّها دلالة سوء تصنيع الخبز، لكنّنا كُنا مجبرون عليه. ولم أنس دروس العِرَاكات اليوميّة، وتسديد اللّكمات بالأيدي على الوجه والصّدر، والشدِ بالشّعر، والشّباب منهم الأقوى يبطح الأضعف ويُرديه أرضًا، ويجلس على بطنه ليضربه، بالطّبع يترك النّاس دورهم، لفضِّ الاشتباكات، أمّا بعض الأشقياء ممّن كان يسحب سِكّينًا (موس كبَّاس) ويُشهره في وجه خصمِه. ذاكرتي ما زالت تحتفظ بأوسخ الشتائم والمسَبَّات الوَسِخة طازجة.

   ولو لا أنّني أمسكتُ لساني بقوّة  لانْفلَتَ بشيء منها.. الآن..!!؟ على الذين يدفعون من الخلف. بالتأكيد إنّها شتائم مُعتَّقة.. عميقة المعنى أكثر بكثير من شتائم هذه الأيّام.. كأنّي أشعر بتفاهتها.   

   كلّ ذلك قبل انطلاق المخبز الآليِّ، الذي أراحنا. لكنّ ذكريات مدرسة باب الفُرن، أعتقدُ أَنَّها كانت رديفًا لصعوبات حياتنا التي لم توقّف، بل إنّها في ازدياد مُستمِرٍّ على الدوام".

على غير انتظار.. أو موعد مُسبق مع أنايَ الذي ترَكَ مكانه الذي جعلته فيه، التحق بي.. وكأنّه استوحش وحده في الخيْمة. لم يجد من يتكلّم معه، بل بقي مُستمعًا لمحيطه. اتّخذ مكانه بجانبي، لم يلحظهُ أحدٌ، ليعترضَ عليّ في خَرْق نظام الدَّوْر، والتجاوز على حقِّ الآخرين.

-"ها اسمعني، لقد فاض بي الكيْل، كاد عقلي ينفجر، انفلت حزام صبري؛ فلم أحتمل مزيدًا من القصص".

-"هاتِ ما عندكَ"

   -"أوّلها.. امرأتان لم يَرُق لهما إلّا التوقّف جانب الخيمة. ظنًّا منهما أنّها فارغة، بل كان الجميع ما زالوا نيامًا. أظنُّ: أنّ واحدة منهنّ، بدا لي أنّها الأكبر سِنًّا، تشكو لصديقتها من سُلوك يعض الشباب والبنات، وكم كانت خائفة على بناتها؛ فاسْتَشارَتها.

   ما أثارني أنَّ الصَّباح مهمومٌ لا فرح فيه، تنفيسُ أخطاء اللّيل المستورة، الفضائح لا تنتظر أن يتقادم عليها الوقت؛ لِتَسحبَها حَبائلُ النِّسيان إلى غَياهِبِها. نور النّهار بِساط تُنثَر عليه حكايا الظلام المخبوءة في الصُّدور.

   قالت المُستشارة: "الحلّ عندي، لكن بشرط تحسبي حسابي بمبلغ من مهر ابنتكِ". -يبدو أنّها سمسارة، وليست مستشارة-.

-"تكرمي -طفِحَت علائمُ السُّرور على وجهها-؛ فلم تَحِرْ سُؤالًا: "وكم تريدي يا خَيْتي..!!؟".

-"خمسمِيتْ دينار".

-"إذا كان المبلغ مُجزي، أزيدك مِيَّه منّي إكراميّة. لكن بِدّي أخبرك: إنّه بنتي الكُبيرة، ما بلغت الخمس عشرة سنة بعد، بِدْها ستّة أشهر حتّى تُكملها".

-"ما عليكِ الشّيْخ يُدبّر الأمر بمعرفته، ودِرايته، هو خبير كبير .. لا تخافي..!!".

-"دخيلِكِ.. مين هاظ الشّيخ".

-أخبِّركِ بَعْدَيْن".

-"لا لا.. الآن خبِّريني خلِّي قلبي يطّمَّن".

-"ما إشي مُخَبّى عليكِ.. هو شيخ جامع كرفان السّوق".

-"سمعتُ عنه أنّه ساعَدَ الكثيرين. قالوا عنه: ابن حلال، الله يُقدّم إلّلي فيه الخير".  

..*..

 

   أنايَ قال أشياء كثيرة كان قد سمعها، أظنُّ أنّ كلام الاِمْرأتيْن طالَ، وقبل افتراقهما. السِّمْسارةُ جاءت بخبر طازج من تحت جُنْح ظلام اللَّيلة السَّابقة: "والله يا خَيْتي مبارح من حولنا كانت غُوغَة كبيرة.. أخيرًا سمعت حديثًا دار بين اثنين راجعين على خيْمهم، أنّهم لَقَطُوا شابًّا وبنتا مُتَخفِّيَيْن في زاوية المطبخ الجماعيّ في المربع القريب من خيمتي، ولمّا سمعوا صوت خطوات شخص تقترب من الباب، دخلوا تحت الطاولات الإسمنيَّة. فاجأهم بتشغيل جهاز الإنارة، وبيده الأخرى دلّة قهوة. صَرَخ فيهما حاولَا الهرب، وكان مازال قريبًا من الباب؛ فأغلقه من فوره، أصواتُ العِراك جلبت فضيحة".

-"آه.. - تنهيدة صديقتها أمَّ البنات اِخْترقت قلبي -  عَرَفْتِ ليش أنا خايِفة ع بناتي، كل يوم مشكلة أو ثِنْتَيْن.. نسمع العشرات.. إشي بخوّف يا خَيْتي.. نحن بآخر وقت".

   غادرتا.. وما زال كثيرٌ من كلامهما لاصق بِشَادر الخيْمة، بحاجة إلى إعادة تحليل، وإعادة تركيب. مُشكلتي تكمُنُ في جهلي بالأسماء، وببعض مُصطلحاتٍ طَرَحنها، لم أسمع بها من قبل. بشكلٍ عامٍّ الحوادث مُتشابهة، كأنَّها وُلدت من رحم واحد.

   بعد مغادرتهما. صوت حديث غير مفهوم، يقترب بخُطوات صاحبه، شيئًا فشيئًا؛ بدأت تتّضحُ فحواهُ. أحدهما يُخاطب صاحبه عندما وصلا جِوار الخيْمة: "اليوم يومنا يا صديقي.. ستكون هَبْشِتْنا كبيرة".

-"ليش شو بِدْهُم يُوزّعوا اليوم؟"

-"النيّة.. وإذا صدقوا.. حرامات (بطانيّات صوفيّة) سعوديَّة من النوعيَّة الفاخرة".

-"نحن شو دورنا إلِّلي سنقوم به؟".

-"بعد اجتماع العدد الأكبر من النَّاس، سنُثير فوضى في الطَّابور مع النَّاس المصطفِّين بالدور، كَمَانْ نسَّقت مع مجموعة من الشباب، لإثارة مشاكل في مكان التوزيع مباشرة. وعلى الباب، وإرباك الوضع عُمومًا.

- " وبعد ذلك؟".

- "الفوضى؛ ستدفع باللّجنة لإيقاف التوزيع، ومع زيادة الضغط منّا، سيُغلقون الأبواب، والشّاحنات سترجع إلى المُستودعات المُفترضة".

-"يعني هاي الخُطّة مضمونة؟، خايف أن تتدخّل الشُّرطة".

على أطراف المخيّم وصل صوت ضحكته المُقهقِهَة، بينما خفَّض صوته حدَّ الهَمْس، سمعتُه بصعوبة، يقول لصاحبه: "لا تقلق.. كلّ إشي مُتفّق عليه مع الشيْخ، وهو مُزبّط الأمور أيضًا في الخارج".

-"مين هو الشيخ؟".

-"يا زلمة شيخ الجامع إلِلّي بالسُّوق".

كأنّي به بهزّ رأسه، ويتساءل: "أكيد سيدفع لنا؟".

-"أكيد ميّة بالميّة، أنتَ علاقتكَ معي، في أسوأ الظروف، لو دفعتُ لكَ من جيبي الخاصِّ، سيصلُكَ حقَّكَ، على دَايِر مَلِّيم".

-"توكّلنا على الله".

.. *..

 

أحسُّ بتعب مفصل قدمي اليُمنى، أبدِّل اتِّكائي على اليُسرى، الوقوف والثبات في حيِّزٍ محدود عُمومًا غير مُريح أبدًا. صاح مسؤول توزيع الخبر من جديد عبر مُكبر الصوت: "أيّها الأحبَّة أبشروا، ما هي إلا عشر دقائق وتصلنا شُحنة الخبز، رجاءً.. كلّ واحد يصطفُّ في مكانه، وجهِّزُوا كوبونات هذا اليوم، انتبهوا لا تُخربِطوا برقم يومٍ آخر".

شخصٌ واقفٌ خلفي، بهمس في أُذُن من يقف أمامه: "هذا المُحترم.. كثير من الأيَّام يأمر بتوَقيف التوزيع، ويأخذ كميَّات الخبز؛ ليبيعها بالجملة لمُربّي الغَنَم والحلال في القُرى المُجاورة".

-"هذا الأمر كلّ يوم يحصل؟".

-"لا.. لا؛ عندما يشعرُ بضعف الرَّقابة عليه، المؤكّد أنّ هذه العمليّة تتمّ مرّة واحدة في الأسبوع على الأقلّ، ربَّما تصلُ إلى ثلاث. حسب الجوِّ..!!".

-"شيء غير معقول، عقلي يكاد ينفجر من كثرة ما أسمع مثل هيك قصص".

-"المال السَّايب؛ يُعلِّم النَّاس السّرقة".

-"لكنّها مخصَّصات اللَّاجئين".

-"أثرياء الحرب وتجّارها مُفتِّحين عُيونهم بشكلٍ جيّد، مثل الفَارْ ما يَعُوفون إشي".

.. *..

أبو فندي

   يستحيلُ أنْ أَعِي كلَّ ما يدور حَوْلي، لا أدري لمن أستمع، لأنايَ، أم لظلّ أنايَ الذي اختفى، مؤكّد أنّه سيأتيني بأخبار جديدة، لم أسمع بها من قبْلُ. لُجّة الضجيج شتَّت تركيزي على أيِّ شيء، لأنّني لم أُدْرِك شيئًا. أنايَ لم يتوقَّف عن الكلام منذُ مجيئه، حكى كثيرًا. المشكلة لم أحفظ منه إلَّا أقلَّ القليل.

   انصرف اِنْتباهي لرجل طويل، رأيته من بعيد، وصلتني، مقولته: "الله يفرجها، ونرجع ع بلادنا".

   نبرتُه ناضحِةٌ بالقهر، هكذا أحسَسْتُ، ولا أظنّ خَطئي في اِكْتشاف ضِيقِه وتبرُّمِه بالوَضُع، لكن تساؤُلي: ما الذي دعاهُ لما قال؟.

   كلّما وصلتُ لتخمينٍ ما، أجده لم يُشْفِ غليلي، أبحثُ مرَّة أخرى عن جَوَاب آخر، حتَّى تعدَّدت خيارات الأجوبة عندي؛ فأوقعتني في حَيْرةٍ وتردُّدٍ، ولم أَرْسُ على أيٍّ منها.

   أنايَ لا يمتلكُ الصّبر، مُتعجّل في جميع شؤونه، لم يتوقّف عن الكلام، بينما هذا الرّجلُ أثار دواخلي بشكل فظيع.

   -هل سمعتَ آخر خبر؟. -انخرط في نوبة ضحك، أذهلتني عن محيطي المُتوتِّر - .

عيناي مغروستان في وجهه بتحديق قويّ. أخافُ أن يُلاحظ من هُم ورائي حركاته، أو أن يسمعوا شيئًا من كلامه. أجبتُه: لا أبدًا.. لا أعرفُ بِمَ ستُخبرني!!.

   -سمعتُ كلامًا بين اثنين كانا يتكلّمان عن ليلة البارحة أيضًا، وفي موقع آخر. ضبطوا شابّيْن في الحمّامات العامّة، وفي زاوية مُظلمة يتلاصقان  وبحركات مَشبُوهة، انكشف أمرهما وهما أنصاف عُراة. بينما صَدَر من خيمة قريبة من هذا المكان صُراخ امرأة تستغيث مُناديةً بأعلى صوتها: حرامي.. حرامي.

لم أستطع مُتابعة حديثة. زامور سيّارة الخبز يقترب من مكاننا، تنبّه الجميع، من جديد تعالت الأصوات؛ فصار المكان شبيهًا بساحات التظاهر.

ما زال مُستمرًّا بكلامه. رغم أنّي لم أفهم شيئًا ممّا قال، ولم يتوقّف. لعلّه توقَّع أن يسمعه أحدًا غيري، كأنّه معنيٌّ بإيصال معلومة لأحدٍ ما. هكذا يَظُنّ.. وهكذا أنا أظنُّ.

.. *..

أبو فندي

غير بعيد من خيمتي اِنْزلقت رِجْلي اليُمنى. اختلّ توازُني، وماذا يعني السّقوط أرضًا مثلما حصل لي؟. إنّها رِجْلي المُتورِّمة، أخبروني بعد ثلاثة أيّام من مُراجعتي لهم في المستشفى الميدانيّ المغربيّ: "قدمُك مُصابة بتمزّق أربطة، وبحاجة لجبيرة؛ لضبط وضمان عدم حَركتها، لكي تتماثل للشفاء سريعًا". ثلاثة أنواع من حُبوب المُسَكِّنات، ومُضَّادات حيويَّة، مع "البانادول" الصَّديق الدَّائم المُصاحب لمعظم الأدوية.

"الحمد لله.. إلّلي إجَتْ هيْك، ما انكسرت..!!". زوجتي تُوَجِّه كلامها لي عند عودتي للخيمة. تابعَتْ: أخطأتَ بانتظاركَ كلّ هاي المُدَّة، كنتُ أسمعُ تأوّهاتكَ، أحسُّ بإطباق إِشِي ثقيل على صدري.

لم يكُن في حسابي أنّني لم أعُد أستطيع الوقوف والمشي، كنتُ أظنُّها غير ذلك.   

مُلازمة الخيمة تفرض شروطها بقوّة.. لا مَنَاص لي من الهروب بأيّ اتّجاه أبدًا.

   شعورٌ قاهر بالحصار يَحُوطني، ولم يترك لي نافذة.. ولو صغيرة أنفُذ منها، فرارًا وهروبًا مقصودًا عن سابق إصرار وتصميم، ضاربًا عرض الحائط حتّى لو أيقنتُ بوجود عقوبات ما.   

   مُتوالِيةُ الأيّام تتدحرج أمام عينيّ قريبًا من باب الخيْمة.. تتراكم حكايات العابرين، وما يتنامى إلى سَمْعي من بعيد. قدمايَ اِشْتاقتا حذائي المَرْكُون عند باب الخيْمة منذُ أسبوعين. طبعًا ليسَ خارجها؛  حِرصًا عليه لأنّي لا أمتلك غيره؛ فماذا لو سُرِقَ..!!؟.  

   ذرّات الغُبار لم تترك مساحة فارغة على سطحه، استوطنت ظاهره  شكّلت طبقات شبيهة بتراكمات أخطاء في حياتنا أوصلتنا إلى هنا. يا لوعتك يا قلبي المُتَفَطِّر ألمًا...!! أوَطَنٌ تقزّم بعينيّ. كما "نزار" عندما رفض أن يكون الوطن علبة سردين أو حبّة أسبرين.. حدود الخيمة منتهى نظري. الضوء يقتحم بفجاجة مشاعري المُحبطة، لا أدري عدم الاستجابة لدواعيه... تكاد تتساوى عندي اللّحظات السوداويّة؛ عندما تنتصب أمامي الآلام بكلّ مآسيها، ومقاومتي تضعف شيئًا فشيئًا، والوهن يتسرّب إلى جسمي. دبّ الهُزال فيه. هبوط وزني انعكست صورته بضعف وجهي، زوجتي مرآتي، كلّ يوم تُخبرني بذلك، لم تمتلِك أكثر ممّا قدّمَتْ، تكادُ أن تستنفذ جميع وسائلها الإيجابيّة؛ لإيقاف تدهور الإيجابيّات بهذا الشّكل المُريع.

حكايات تعادل ذرّات غبار الصحراء بأكملها، تكوّمت حول خيمتي كادت تطمرها. ضاقت عليّ أنفاسي، أريد اِسْتنشاق هواء نقيًّا، عرفتُ القليل منها، وأنكرتُ الكثير، وعيتُ النَّزْر اليسير منها، ونسيتُ أو أُنْسِيتُ معظمها، لا أستطيعُ تخمين الحقيقة على وجهها الأصْوَب. أنايَ أقنعني بهذه الفكرة، لم أتبيّن صدق نواياه، لعلّه يستغفلني، وما يُدريني لعلّ الغفلة تنفع في بعض الأحيان..!!؛ فتكون منفَذًا صالحًا؛ لتجنُّب كثير من المتاعب.    

..*..

 

   الوقتُ كائنٌ مستعجلٌ دائمًا بطبيعته، لكنّه يتشكّل مُتكيِّفًا مع ظروف المكان، الذي يفرض شروطه بلا جدال، ولمّا سَقَط السَّيف المثلوم من يد الوقت، لم يعُد قاطعًا، ولن أخاف مُفردة السَّيْف مع الوقت: "الوقت كالسَّيْف، إنْ لم تقطعه قطَعَك".

   فقد ضاعت هويَّتنا جميعًا هنا، عندما اِسْتحوذ علينا المُخيّم، كما تضيع هُويّة فنجان القهوة إذا ما داهمه السُكَّر، لتبرز  الاتّهامات المُتبادلة؛ بينما القهوة تَتَّهمه بعدم الصَّبر، ويتّهمها بالمرارة؛ فَنَارُ الحربِ تحرق الجميع؛ لإنضاج رغيف خبز ليأكله المنتصر.

تتأكّد فِكرتي رويدًا رويدًا، على الأقلّ نظريًّا في هذه اللَّحظة:  بأنّ العالم كلّه، أو ما هو أبعد من العالم استحوذه شادِرُ خَيْمتي. فهل وطني هو الذي يسكن في المستقبل...!!؟، يا حسرتا على شيء اقتنعتُ به، أو أقنعوني به بالقوّة: بأنّ هناك مُستقبلًا في وطني، لم يكُن أبدًا، وما كان إلّا وَهْمًا خَدَّرُونا به سنينًا.

   انتصف النّهار والحرارة تشتدُّ، بينما الحكايات المُتراكمة حول خيْمتي تسُوخُ، وأنّ كلّ حكاية تُقاتل الأخرى؛ بُعثِتْ في نفسي سكينة أفرزت هدوءًا؛ لتريحني من إعادة تقييمها، لن أُتعِب نفسي وأذهبَ بعيدًا في سَبْر مجاهيلها؛ فلتذهب إلى الجحيم. لماذا؟. لأنَّني لن أهتمَّ بصوابها، أو صحّتها، أو كذبها، بقدر ما هي  إلّا مؤشِّرًا مُؤلمًا للحقيقة التي علاها الصّدأ زمانًا؛ فكنّا هُناكَ لا نرى إلّا شَبَهَها، لا بُدَّ البحث عن أفكار جديدة؛ لمُحاربة ما طَفَى على سطح مياه المُستنقع القَذِر الرَّاكد.

    هذه الصّحراء المحيطة بي أصحبتُ جُزءًا منها، ولا أرى إلّا قبائل اللّاجئين تعيد سيرة معاركَ "عبس وذُبيان"، ولماذا يترتّب عليَّ تأريخ صراعاتها، وإعادة ترتيب فوضاها القاتلة. ولا أستطيعُ تجفيفَ غُدرانَ وبِرَكَ الخلافات والمساوئ.

   وكيف لي أن أردَّ الغُزلان العطشى إلى هنا؟. فَضلًا عن أن تُصبِح هذه البِرَكُ مرآةً تستخدمُها السّماء؛ لترى نَفْسها حَوْل خَيْمتي.       أجل إنضاج رغيفإإإ‘

   فكرتي تائهة تَسُوقني لتقمّص شخصيّة الزُّومبي، تلك الجُثَّة المُتحرِّكة بعكس الجُثَّة الهامدة الثَّابتة، لكنّها حُرَّة بلا قيودٍ مباشرة لحَجْر الحُريَّة هنا، اِنْفلتَت الألسنة بِسُيول حَكْيٍ يُعادل فيضان نهر اليرموك إذا تدفّق بِهيَجانِه. الألْسنة التي سَكَتَتْ طويلًا..  أفواهها كانت مُغلقةً على الدّوام لا تُفتح إلَّا في الحمَّام للتأوّه الإجباريّ؛ ولتجريب صوتِها لاكتشاف موهبة مخبوءة، أيضًا يُجبرها  طبيب الأسنان.

   الأصوات الصَّدِئة لا تسكُت على مدار السَّاعة، الحكايا تتدفَّق من الخيام إلى جِوَار خارجيٍّ مُتخَمٍ بالرُّغاء. التراكمات أثقلتني.  

ما لم أدركه للتوّ نشاط ذاكرتي المُرهقة؛ فلن تستطيع اختزان كثير ممَّا ينقله لها السَّمع؛ فكيف لي توثيق كلَّ ما سمعتُ، سأراهن على ضياع جُلِّه لا محالة، ولم أستطع تحديد وجه التشابه بيني، وبين "عبد الوهّاب البيّاتي" فيلسوف المنافي، و أنا أتملّى مقولته:

"منذ صرختي الأولى، وأنا في يد القَابِلة؛ شعرتُ برماح النّور تطعنُ عينيَّ، وبريحٍ صَرْصرٍ عاتيةٍ تَهُبُّ على المدينة التي وُلدتُ فيها.. أحسستُ عند ذاك أنّني في اللّامكان واللّازمان، أو أنّني جئتُ مثل البداية أو النهاية".

و"كلُّ المنافي تٌصبح وطنًا واحدًا، لكنّه وطنٌ خُرافيٌّ، ولربّما أسطوريّ، يجوب فيه إلى أن يموت", و"العالم منفيٌّ في داخل منفى، والإنسان مركّبٌ من ذَرَّات تنتمي إلى أمكنة متعدّدة. لعل الحضور في المكان هو المنفى الحقيقيّ للإنسان. لأنّه لا يعرف ماذا يفعل، وكيف يتمرّد على شرطه اللّا إنسانيّ".

   على ضوء فلسفة البيّاتي؛ فهل خيمتي تجاوزت حدود آخر نقطة للمنفيِّين على وجه الأرض؛ من هُنا أطلِقُ صرختي، لتكون أشبه بصرخة "مَلِكِ بُصرى"، وهو يلطم وجهه، ويقضم أصابعه نَدَمًا على ما فَعَل عن غير قصد، ويلعن كل شيء حوله: الصيف والحرارة وكروم العِنَب، ويومه وغده ومستقبله الذي انطفأت فيه أحلامه الزّاهية، بعدما سمع من العرّافين موت ابنته بلدغة عقرب، راح فابْتَنَى لها سريرًا يعلو كل الأبنية، ليمنع عنها الفاجعة؛ لكن أن يحمل لوحيدته الموتَ لابنته الوحيدة داخل قطف العِنَب، التي كانت سَتَرِثُ عرشه؛ فإذا حَلَّتِ الأقدار عَمِيَت الأبصار؛ فلا نامت أعيُن الجُبناء.

   شعوري بأن كلّنا هنا داخل السّياج، لا نعدو أن نكون أكثر من رغوة هُلاميّة، تعظُم حينًا وأحيانًا تتبدّد، لن أتعِبَ نفسي في استنتاج أو الإمساك بأدنى فائدة منها، سأبقى آكُل وأشرَب، وسأموتُ، وستبقى الأسلاك تحوطني بأمانة بلا أسَف، ولن تَبْكيني الخيْمة، كما ستَبْكيني حِجارة بُصرى, وما زالت.

..*..

(أبو فندي)

   قبل خراب ذاكرتي ربّما أجد الوقت الكافي؛ لأحكي لك أخي فطين، عن حكايا كلّ واحدة تُقاتل الأخرى، وحريصة على وَأْدِها في مهدها، قبل أن تتبرعم مع أسئلتها على حَوافِّ عقلي؛ لتنمو وتنتشي بإجابات تتردَّد على الألسنة.

   الأمُّ أوَّل المعنيِّين بإطلاقها، لأنَّها كانت أوَّل من يُسأَل عن أيِّ شيء يخطر بِبَال طفلها، الذي كنتُه في صغري، وفي اِنْطلاق لِسَاني في تجليَّات الكلام، لم أذكر أنَّها كانت بحاجة إلى لُغةٍ خاصَّة لأفهم عليها، هي نسيج لُغة وحدها وأبجديّة مُتكاملة، لم أكُن لأفهم كلَّ ما تقول؛ لتتفجَّر على لساني المزيد من التَساؤُلات، دائمًا كنتُ أتلقّى إجاباتها بلا تذمّر أو تردّد منها، شعورها بلذّة كلماتي، تتلمَّظُ عليها كما حبَّة سُكّر تستمتعُ بمذاقها مُنزلقًا في فَمِها.

   ربّما لن أجد الوقت الكافي؛ لأروي لكَ كلَّ ما يجولُ بخاطري، ويتردَّدُ صداه في عقلي، ولا ينطلق لِسَاني؛ لأنّني أفتقرُ إلى من يستمع...!! ولا أجدُ السَّبيل لكتابة ما أودُّ قوله لكَ.

   سيقعُ عليك كاملُ العِبْء باستخدام اللّغة المناسبة؛ لمتابعة توثيق ما رَوَيْتُه سابقًا وتداولناه مع صديقنا فاضل، وما سنرويه لاحقًا.

   اِسْتغراقُ فطين كما تبدو صورته عبر "الزووم"، لم أسمع منه كلمةً واحدة، بل اِهْتزازُ رأسه أكثر من مرّة باتّجاه الأسفل، كأنّي فهمتُ منه علامة الموافقة، لم أُؤَكِّد عليه بِسِماع كلمة مُوافق، بل اِكْتفيتُ بالإشارة؛ لِثَقَتي القديمة الرّاسخة بعمق علاقتنا، بلا تردُّد، انطلقتُ مُجدَّدًا بمتابعة الكلام:

   -تباشيرُ الفجر ببرودة مُندّاة بعبير حياة ذات أرواح مُتَوثِّبة؛ لتتصالح الأرواح مع خالقها، وتستشعر استيقاظ الكون المُتثائِب استعدادًا ليصحو، على زقزقة  مجموعة من الطيور  تقف على الشَّريط الشَّائك للمُخيَّم، النُّزوع للحريَّة بالانتحاء جانبًا بعيدًا عن خَيْمتي التي مَلَلْتُها على مدار أسبوعيْن من جلوسي المُتواصل على مدار السَّاعة بداخلها، كأنّي وتدٌ مُوثَقٌ مشدود إلى حبال الخيمة برباط متين أتحرّك في مدارها الفلكيِّ لا أخرج عنه، إلّا في حالات الطّوارئ إلى الحمّامات العامّة، لعلّني أخبرتُكَ سابقًا أنّني أكرهُ الذّهاب إليها لأسباب لا مجال لذكرها الآن، كي لا أنسى ما هو ضروريٌّ لتثبيته الآن.

   ما أثارني حقيقة ولم أصل إلى نتيجة، أو أحصل على إجابة لتساؤلاتي حول هذه الطّيور. هل هي سعيدة بمكانها الذي تقف عليه؟. وإلّا لما غرّدت، ولكانت وقفت صامتة، أتخيّل أنّها تبكي حالنا نحن أسرى اللّجوء في مخيّم.

   أمِنْ سُخرية بنا؛ تقف تُعانق الحياة منذ فجرها، وتُطلِقُ زقزقاتها غير آبهة بحالنا، أمْ إنّها تُرتِّل أحزانها على ما رأت من حالنا،  وتصلّي من أجلنا هنا على أطراف المخيّم، لتُشعرنا أنّها مُتضامنةٌ معنا في محنتنا.

   أمْ أنّها تبكينا بقصائد وأنغام حزينة على إيقاعات الحرب والموت والدّمار، أم على مَقَام الخوف المُستوطن قلوبنا جميعًا.

   من لي بِنَبيِّ الله سُليمان؛ ليُخبرني بما تقول، ويُريحني من هَمِّ، وقَلَق الأسئلة التي تقضُّ مضجعي على مدار السّاعة. خيوط الفجر تتلألأ خلف الأسلاك. أغراني المنظر لتوثيقه في الحال؛ فاستخرجتُ هاتفي النقّال، وهيَّأتُ الكاميرا لالتقاط صورة للطّيور التي تركتني في حيرتي، واستشاط الغضب في قلبي، عندما غادرتني الطيور إلى مكان آخر، لماذا هذه الجفوة بيننا.

   أيقنتُ الآن من سُخريتها منّي، وكأنّها تقول: ابْقَ مكانكَ داخل الأسلاك أسيرًا لها، في قفصِكَ الذي اعْتَدتَه من أجل حياة فقط، لقمتها مغموسة بِذُلِّ الحَسَنة والصّدقة من العالم أجمع.

   انطلقتُ أترقَّبُها لعلَّها تعود. عيناي تتابِعُها في فضاءات الحُريّة، ضاعت معالمها التي أصبحت كشريط أسود، لا يعدو أن يختلف كثيرًا عن السِّلْك الشَّائك، الذي هو حارِسي وسجَّاني، وما استطاع أنْ يفعل شيئًا إزاء الطُّيور بتقييدها في سِجْنه، كما يفعل بي وبأمثالي. 

..*..

 

 

 اِسْتَوَت الشَّمس عالية في السَّماء، برودة الصباح لم تنهزم أمام حرارةٍ طاردةٍ لها بحزمٍ على الدوام، بينما أنا مُقبِلٌ على افتتاحيّة يومٍ، بدايته كانت مُحبِطَة مع فرار الطُّيور، مُخلِّفة وَحْشة المكان المستفزَّة للامتعاض؛ لتفرِضَ كآبتها بقسوة.

   استقرّ بي المُقامُ جالسًا أمام الخيْمة على حجَرٍ كِلسيٍّ مُفلطَحٍ مُتوسِّطِ الحجم، بعد تقليب أوجُهِه، اِسْتصلحتُ جانبًا منه أمْلسَ المظهر.

   ما إن ثبَتُّ عليه مَدَدتُ رجليَ المُتورّمة قليلًا، من أثَر إعادة تركيب الخيْمة، وقبل ذلك فَكَّها، فرشُ أرضيَّة المُخيَّم ببقايا المقالع الكلسيَّة البيْضاء، أُجْبَرنا على هَدْر نهار آخر؛ لإعادة تأهيل الخيْمة من جديد. قالوا: إنّ هذه المادّة الكلسيّة؛ تُخفِّف من الغُبار؛ عند ثَوَران الرّيح الشَّديدة.

   اِشتياقٌ قاتلٌ لدرجة التحشيش لفنجان قهوة الصَّباح، على مدار سنوات مضَت؛ ترافقت القهوة بمهابة سَطوَتها على المشاعر، والأحاسيس تتقلَّب على عَبَقِها، الذي يسبقُ حُضورها.

   تهيئةٌ خَفيِّةٌ بالانتعاش، والمتعة بطقس مُتكامل. الطربيزةُ أو الطاولةُ على البرندة، وكأسُ الماء البارد مُترافِق مع السِّيجارة، خاصّة إذا كانت هي الأولى ذاك الصّباح بمذاقها الخاصِّ، مع دُخانها الممتزج مع بُخار القهوة المُنطَلق؛ ليُنْبِئ حاسّة شمٍّ تلتَهِبُ سَلَفًا، لا تنطفئ جُذْوَتها إلَّا مع أوَّل رشفة مليئة بحُبٍّ وشوق. لكن إذا رافقت الفنجان وردة جوريّة. مؤكّدٌ بأنّه شُعور مُختَلف تمامًا لا يوصَفْ، كأنَّه مثل أيَّام زمان ما قبل الحرب.

   الحِرْمان يوقظ الاشتياق؛ ليجعل لذّة الحُلُم بطَعْم الحقيقة الأصليّة لأيِّ شيء. رائحةُ قهوةٍ اِخْترقت خُطوط دِفاعي الصّامدة أمامَ حالةَ صيامٍ، مُغشّاةٍ بملاءة النِّسيان للقهوة، وماذا سأفعل حِيَال الوضع الرَّاهن ومُستجدّاته؟.

   رغم القهر؛ فأنا مسرور في غاية السّعادة، وقد اِنْزاحت  معظم الأثقال الجاثمة على صدري. نفسي تُحدِّثني: بِتَتبُّع مصدر الرّائحة؛ تمهيدًا لاقتحام المكان عُنوة.

   كأنّني تأكّدتُ أنَّها ليست من الخيْمة المُقابلة لي مُباشرةً، بل من التي تَلِيها بأمتار. يا لسعادة لَحَظاتٍ ينعُمُ بها من يَحتسيها.. لا شكَّ أنَّه مُسَلْطِنٌ مع سيجارته، ويتأمّل عينيّ زوجتِهِ، وماذا لو جاءه الإلهام وغازَلَها، ونَثَر عواطفَه في حِجْرِها، وضحكتْ من قلبها بِغَنَجٍ، ضِحْكةً ماجِنَةً؟.

نسيتُ أنَّه لاجئٌ مثلي، مُتساويان في التشرُّد والحِرْمان، ليتني أُحيِّيه على اِقْتناصه للحظته، ولماذا لا أفعلُ مِثْلَه، وأرمي خلف ظهري الهموم والمشاكل، ولو للحظة!؛ أخرجُ بها من دائرة الضِّيق إلى رِحَاب الحياة.   

   انتصبَ أمامي "أنايَ"، لم يترك لي فُرصةً لالتقاط أنفاسي الصَّاعدة، والهابطة بِتَسارُعٍ ملحوظٍ من حركات صَدْري الرّاجفة من تحت الجلابيّة البَيْتِيَّة.  تزامَنَ مع مرور اثنين يحُثَّان خُطاهُما، لم تُدركني الفِطنة للتعرُّف إلى وَجْهَيْهِما، قَفاهُما امتدَّ ظلّه حتَّى تجاوزني بمسافة تَطُول مع كُلِّ خُطوة لهُما إلى الأمام، قبل أن يختفيا خلف صفِّ الخيام المُقابلة لنا، مع ذلك ما زال صوتُهما يقرعُ سمعي، لا أظنُّ أنَّ كلامهما اختلط عليّ.

   أذكرُ أنَّ أحدَهُما كان يُحدِّث زميله: البارحةَ في الشَّارع الرَّئيس حدثت معركة شرسة دارَتْ رَحَاها بالحجارة، يقذفُها الجانبان المُتحاربان، وغالبِيَّتهم من الأولاد، هُما من قريتيْن مُتجاوِرَتيْن هناك في البلد، وبينهما حساسيَّات قديمة؛ تفتَّقَتْ عن أحقادٍ قديمةٍ نائمةٍ في طيَّات النِّسيان العتيقة.

   رغبتي لم تتوقّف في دَعْكِ عينيّ منذ البارحة، لا مِرآة بين يديّ لأُعاينهما، ولم يخطر ببالي طلبها من زوجتي، أعتقدُ أنّها تحتفظ بواحدة صغيرة في محفظتها الخاصّة التي لا تفارقها، عندما دخلتُ للخيمة لتناول الإفطار حوالي التاسعة، أرعبتني ملاحظتها.

   ربّما لم أكُن على استعداد لأخْذ لهجتها الخائفة من توقّد الجَمْر في عينيّ على مَحْمَل الجدّ، طالبتني بالذهاب للطبيب لعلاج الحالة التي لا تَحتَمِل الانتظار: "كُلْشِي... ولا العين يا محمد".

   رائحة الغاز الحرّاقة للأنف عشعشت في دماغي، كأنَّها محفوظة منذ الأيّام الأولى للمظاهرات؛ حينما أطلقوه في الحارة الشرقيّة؛ اِنْتشر على مساحات واسعة في حارات أخرى، كأنّ هُناك من ذرَّ الفُلفل الأسود في عينيّ، سيْل الدُّموع أخافني من جفاف الغُدَد الدمعيّة التي تُفرِزه، ونَشَفَان ريقي، جاء من بيده رأس بصل يابس، تناولتُ قطعةً منه اِسْتنشقتُها بعُمق خفّفت من حدّة الغاز، أذكُر أنّ أحدهم كان يركض، وبيده علبة مشروب "بيبسي كولا" وناول شابًّا مُتعبًا قطعة قماش مُبلّلة بالسائل السحريّ؛ هدأت حالته عندما جلس على حجر بجانب حائط كان مُتّكئًا عليه، خلال رُبْع ساعة استعاد حيويّته، قام مُسرعًا حاثًّا خُطاه؛ ليبحث عن أصدقائه الذين كانوا معه، صراخٌ وأصوات عبر مُكبّر صوت بيد أحد من كان يهتف في مُقدّمة المُتظاهرين، ثلاثة شباب حالتهم خطيرة نقلوهم للمشفى الميدانيِّ.  

   صديقه مُستغربًا باستهجان: وما الذي أجَّجَها في هذه اللَّحظة التاريخيَّة هنا؟.

   ردّ عليه: أشياءٌ تافهةٌ جدًّا، خلافاتُ الأطفال على اللّعب، عندما ضَرَب أحدُهُم الآخر، من أجل قطعة بلاستيك مُدوّرة..!! كما سمعتُ؟. قالوا: إنَّها غطاءُ لِعُلبة حلاوة. كلٌّ منهما اِدَّعى أنّه مُلكًا له؛ فتدخَّل الرِّجال اِنْتصارًا  لابنهم المغلوب؛ عندما جاء إلى أبيه مُتظلّمًا بدُموعِه المُنساحة على وجهه؛ اِسْتشاط الوالد غضبًا؛ فغضب لغضبته جميع أبناء قريته القاطنين حوله، وهكذا انتقل العِرَاكُ للسُّوق القريب من ساحة المعركة.

   الغاز المُسيل للدّموع كان السّبيل الوحيد لمواجهة الفوضى، وتفريق الجموع المُتجمهرة، لم يكُن من السّهل الفصلُ بين مُثيري الشّغب، وبين العابرين لقضاء حوائجهم، الشُّرطة تُحاول معالجة الموقف على طريقتها، في سبيل المُحافظة على الاستقرار، وإنهاء المُشكلة بفضّ الاشتباكات عندما اقتربت من مكاتب المفوضيّة القريبة من البُوابة الرّئيسة.  

   باِسْتفزازه لي بشكلٍ مُفاجئ. "أنايَ": اِسْمع.. اِسْمع.. أُذناي ما زالتا مُندمجتان مع أجواء المعركة، التي أسفَرَت عن نقل اِثْنين من الشَّباب إلى مُستشفى العَوْن، تأكّدتُ ممَّا سمعتُ من كلام المُمرَّضِين هُناكَ في الممرّ: بأنّ حالتَهُما ليست بالخطيرة، ومن كان حولهما على جمْر الانتظار؛ يتوعّد الطَّرَف الآخَر بغضَبٍ مُريعٍ. 

   لكنّي أسألُكَ: هل هُناك مبرّرٌ لما يحصل؟.

   وهل وضْعُنا يسمحُ بمثل هذه التُّرَّهات القاتلة؟.

   ألا يكفينا ما حصل لنا...!

   ألا نبكي حظّنا العاثر الذي أوصلنا إلى هُنا؟.

   لا تتذمّر من مُقاطعتي لكلامكَ.. ها أنا كُلِّي آذانٌ صاغيةٌ لكَ..!! هاتِ.. أكْمِل.

   تابَعَ أَنايَ: مررتُ عابرًا صوْب جهة بُوابة الُمخيَّم الرّئيسة، لفَتَ اِنْتباهي الأعداد الكبيرة من النَّاس المُصطَّفين بالدّور بانتظار دَوْرِهم. لم أكُن لأصُدّق، لو أنّ أحدًا: حدّثني عن سيّارات الخبز والماء، والمُؤَن والخُضار في رَتْلٍ طويل.

   الأهمّ من ذلك بشكلٍ حقيقيٍّ: رأيتُ ثلاثة أشخاص مع السّائق المحليّ، الآخران يبدو من مظهرهما أنّهما أجانب، سيّارتهم البيضاء تتقدّم الطّابور الطويل من السيّارات والشّاحنات، كأنّهم بعثةٌ إعلاميَّةٌ،  ملامح سُتُراتهم منزوعة الأكمام  بجيوبها العديدة صارت علامة مميّزة دالّة عليهم.

   نزل من كان يجلس في الكُرسيِّ الأماميِّ، بجانب السّائق من سيّارة الجِيِب ذات الدَّفْع الرُّباعيِّ، ولا تحمل أيّة إشارة تدلُّ عليهم.

   كان بنفسي معرفة لأيّة شبكة إخباريّة ينتمون. الأمر تعسّر، إلى أن اِستدَار مندوبهم، الذي ترجّل إلى غُرفة بجانب البوابة، قرأتُ على ظهره كلمة (CNN).

   صرختُ مقاطعًا له ثانية: أووووه..!! هذه أهمّ وسيلة إعلاميّة عالميّة، أذكرُ أنّه في حرب الخليج الثانية، جميع مُراسلي الشَّبكات الإخباريَّة غادروا بغداد، بعد تحذيرات، وتهديدات التحالُف الدوليِّ، ولم يبق هناك إلّا "بيتر آرنت"، وفريقه المُصغَّر، كان هو الوحيد الذي ينقل من قلب الحدّث، وقد حقَّق سَبْقًا في العديد من المجالات، وأصبح من أبرز إعلاميّي القرن الماضي... سامِحْني على مُقاطعتكَ.

   بلا اِكْتراثٍ لكلامي هكذا أحسستُ؛ فلم تتغيَّر ملامح أنايَ، وتابَع، وكأنّ ما قُلتُه لا يعنيه أبدًا: مثاراتٌ من التساؤلات هيَّجَتْها خواطري المُختزنة منذ الصّباح البّاكر، وهذه الأُمَم الغفيرة؛ جاءت تتسابق إلى هذه النُّقطة، كنتُ أظنّ أنّنا مُعزولون على العالم بين غبار ورمال الصّحراء، هؤلاء عزّزوا مخاوفي الهاجسة قَلَقًا على الدَّوام، إنّهم يتراكضون بهمَّةٍ عالية؛ لتحقيق مكاسب.

   -ولكن أخبرني: ما المكاسب برأيكَ؟.

   -أنايَ مُنهمِكٌ بكلامه: هذا الصحفيُّ القادم من وراء البحار.

   -لا تقُل لي: إنّه اِمْتثالًا لتكليف مؤسَّسته له..!!.

   -لا.. لا أبدًا..!! هو يحلمُ ببناء أمجاده المِهنيَّة على حالنا، خلف الأسلاك الشّائكة وبين الخِيَم، ولتسويق اِسْمه، وتقديم مادّته باجتهاد. (تسويق: بؤسنا.. تشرّدنا.. فقرنا.. خوفنا.. قلقنا). تحركّت سيّارتهم، ودخَلَت عتبة المخيّم بعدما رجعَ ذلك الشّخص، وهو يُعيد الأوراق إلى محفظة جلديّة، ذات حزام مُعلَّقة بِكَتِفه. تابعْتُهم داخل الُمخيَّم بِعيْنيَّ من بعيد، حتَّى لا يشعرا بمُراقبتي لهم، وقبل أن يغيبا. كُنتُ أحُثُّ الهِمَّة خلفهم؛ لأبقى قريبًا منهم. كان ذلك بالأمس، واِستغرقني الأمر معظم ساعات النّهار، حتّى بُعيْد الظّهيرة بقليل.

   نَخْزٌ في ساقي حرَّكَ عضلة رِجْلي بحركاتٍ لا إراديّة تُثير مواجعي الهامدة هذه اللّحظة، حاولتُ تدليكها؛ لتخفف التنميل الداخليِّ، أغرِزُ أظافري في الجلد، تراخَتْ رِجْلي إثر ذلك. آثارُ الحكِّ الشَّديد؛ خلَّفت خُطوطًا حمراء، لكنّ الدم لم ينزف من هذه التخرُّشات المُؤذية على المدى البعيد.

   لم أودُّ تبديدَ اِنْتباهي عن حديث "أنايَ" الشيِّق الذي يستهويني. شَهَقتُ بعُمق أنفاسي، ونفثتُها من جديد، بعدها امتلأ صدري بالأوكسجين المُنعِش، أكّدتُ رغبتي بالاستماع للمزيد.

..*..

 

 

  

   بحركة لا إراديّة امتدّت يدي لِتهرُش ساقي بشدّة، رؤوس أصابعي أمسكَتْ بجزء من الجلد بطريقة عنيفة. وَخْزٌ عميقٌ مُستمرٌّ؛ ظننتُ أنّ أحدهم دقَّ مسمارًا في ساقي. اِرْتعاشةُ كفّةُ قَدَمِي واضحة، كأنّ يدَ جانٍ أمسكت بالسّاق من أعلاها، ولوّحت بها كعصا راعٍ بوجه كلبٍ مَسْعور، ليصدّه عن خرافه.

   حركاتها اللّا إراديّة أفقدتني السّيْطرة بمحاولة تثبيتها، شعوري بالخزي لعجزي أمام أربعة عيون تُراقبني، بينما عيناي راحتا تُشاركهما ولكن بترقّب حذر، هذه المرّة تجاوزت مرحلة الوخز المُعتادة المُحتملة، أناي، وظلّ أناي يُحملقان، ستّة عيون استطابت التَّحديق المُركّز في مكان واحد، مساحة ضيّقة لا أظنّ أنّها تتسع للنظرات المُركّزة، لا أدري هل هي تتألّم لألمي، أم أنّها تتشفّى.. أو تحديق اعتياديّ منها.

   هالة من الضجيج أحاطت برأسي، وكأنّ عقال ألسنة اللّاجئين انفلت فجأة عن أفواههم بآنٍ واحد، بسيْلٍ من الحكي، الذي أُقدِّره بتدفّق نهر النيل قبل إقامة سدّ الوحدة الأثيوبي. ما بال الألسنة التي عاشت حبيسة خلف الشّفاه التي لم تضحك منذ زمن طويل، ولم تنفرج عن الأفواه إلّا عند أطبّاء الأسنان، ضرورة العلاج أجبرتهم على فتحها.

   تلك الأصوات الصّدئة المُتحشرجة كصرير جنازير دبّابة لم تتحرّك من مكانها على خُطوطنا الخلفيّة منذ عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين، إلّا عندما تحرّكت شرق خط الهُدنة تحت رقابة جنود قوّات الأمم المُتّحدة الملوّنين، وبقيت في مكانها مُتخندقةً تَسْطَعَها الشّموس فتمدّد، وتنكمشُ في برودة وصقيع الشتاءات. لكنّها في نظر الجيش الإسرائيليّ: كومة حديد من الخُردة، وغنائم حرب سيُعاد تدويرها في مصانع الفولاذ.  

   كثرة التدفّق للصُّور أنساني وجع ساقي، بل نشُطت ذاكرتي فأصبحت كدلّة القهوة عندما يستبيحها السُكّر بتعجّل افتضاض بكارة مذاقها اللّاذع؛ فتتّهمه بنزق المهزوم المخذول الذي لم يسمعه أحد: بعدم الصّبر. أشكّ أنّها فكّرت جديًّا بقول ذلك، بينما لسانه بلا تردّد: يتّهمها بالمرارة.

   نار الحرب تحرق الجميع بتلذّذ مُتمّهل لانضاج الرّغيف؛ ليأكله المُنتصر، لإشباع شهوة النّصر الشّبقة للدماء. المُشكلة في ذاكرتي المرهقة، فلا تستطيع اختزان كثيرٍ ممّا أسمع؛ فكيف لي استعادة ما حصل معي،  وما سمعتُ من أشياء بإرادتي، أو جاءت عرَضًا بلا سعيٍ لها.

   آآآآه.. لو لم أتمالك نفسي لصرختُ ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا. نوبة ألم أخرى من غير فاصلٍ زمنيٍّ وبين سابقتها. ذاك اليوم توقّف الصُّرصور أمام ساقي هذه، أحاول تأكيد أنّها هي أم الأخرى؟. لا أدري على وجه الدقَّة، على الأغلب أنّها هي، سربُ نملٍ يمرّ من فراغ بسيط بينها وبين الأرض غير عابئ بأوجاعي، مؤكّد أنّ ألمي لا يعنيه، ولا تأوّهاتي تستجلب تعاطفه معي. كأنّ الشيء بالشيء يُذكر. هنا على باب خيمتي نملٌ ماضٍ في عمله، وهناكَ على عتبة خيمة الاستقبال صرصور على ما أذكُر أنّه لاجئٌ مثلي.    

   "ظلّ أناي" بإشارة استفزازيّة يُشير إلى الجهة المُقابلة لظُهورنا. لم أتمالك ضجري منه، امتلأ بطني بالشتائم القبيحة له، أنا في حالة وهو في حالة أخرى، بلادة أحاسيسه ومشاعره تنفّرني منه، أتمنّى سرب النمل مشى على جسمه، ودخل فُتحات أذُنيْه وأنفه في طريقه إلى دماغه، لينهشها ويُريحني منه ومن إشارته تلك.

    أسناني تضغط على شفتيّ المُتخدّرتيْن؛ ظننتُ أنّ وخْز ساقي انتقل إليهما، صُراخ وعويل امرأة اخترق الأجواء، تبلّدُ مشاعري عن الاستجابة لآلام الآخرين، مساحات الألم كلمّا استطالت ستشمل أكبر عدد ممّن هم أمثالي؛ فإذا تقاربت الأحوال انمحت التفاوتات، وتقارب الأحوال وتشابهها يصبح حدّ التطابق، فالتساوي في الألم إحدى درجات العدالة. يا إلهي.. أمنية في حياتي رؤية العدالة ولو في مثل ذلك.

   تباطئي في استجابتي الفوريّة لإشارته؛ جعله يُشير ثانية. لم أستطع الاستدارة إلى الخلف أبدًا. وتيرة الصوت القادمة واضحة تمامًا، أصوات المحيط سكتَتْ فجأة على غير عادتها. الآذان جميعُها تُنصِتُ مثلي باهتمام، حبُّ الاستطلاع دوافعه مغروسة في طبائع البشر.. هكذا بلا ريْب ولا شكّ. هل عليّ تخمينُ عدد الذين يستمعون معي هذه اللّحظة. أوه.. يا إلهي..!! حتّى الأولاد لم أسمعهم.. عجيب.!!.

   بحِسبَةٍ بسيطةٍ لو افترضتُ: أنّ ألفَ أذُنِ تستمع، مقابل خمسمئة لسان ستنطلقً لاحقًا روايات متناقضة مليئة بثرثرة، وتأويلات تستنهض ذوي الخيال الواسع، لاختراع قصص مُتفاوتة بدِقّة الصياغة، على العُموم نحن بحاجة سماع مشاكل الآخرين لننسى أنفسنا مُؤقّتًا.

أوّل جملة تناهتْ إلى سمعي جيّدًا، وتيقّنتُها:

-"الله لا يوجه ليك الخير يا بن الحرام".

لغطٌ هناكَ، اختلفت نبرة الصوت؛ فتسألُها:

-"مين هاظ إللي سوّى بكِ كلّ هذا".

-"يا ريت يكون الضرر لحق بي أنا، اتّصلت بنتي قبل شوي من عمّان، وعجزتُ أن أفهم  عليها، وما حصل لها، أخيرًا بعد تهدئتها، بصعوبة تخرج الكلمات مع نشيجها بعد أن توقّفت عن البكاء، ما زالت أنفاسها تعلو وتهبط في صدرها، وأنا نفد صبري، ونبض قلبي على وشك التوقّف، وأنفاسي انحبست في صدري".

المرأة الأخرى تستمع، وأتشاركها مع "أناي" و"ظلّ أناي"، والمحيط الذي وَصَله الصوت؛ فصرخت في وجهها:

-"إلى الآن لم أفهم ما حصل لبنتَكِ..!".

كأنّ الأمّ هدأت قليلًا، وانخرطت في سرد القصّة:

-"الساعة العاشرة هذا الصباح، فتحت البنت باب شُقّتها في أحد ضواحي عمّان، رنين جرس الباب المُتواصل أجبرها على الصحو من نومها؛ لتنصدم بمنظر اثنين من أفراد الشّرطة، حينما سألاها: "عن اسمها، واسم زوجها السّعوديّ".

-أجابتهم: "خرج من البارحة الصّباح ليشتري لنا فطورًا وإلى الآن لم يعُد، طمِّنوني. عسى ما صار معه حادث، أو مشكلة ما".

   كأنّي بها انخرطت في نوبة بُكاء، اختلطت دموعها ببقايا كُحل من اليوم السابق، تشكّلت وِشَاحاتٌ وهالاتٌ سوداء حول عيْنيْها، ومسارب الدّموع المُنزلقة على خدّيها المتورّديْن، تشكّلت لوحة طبيعيّة بلا تدخّل من ريشة فنّان، لا تقلّ بهاء وروعة عن لوحة الطّفل الباكي العالميّة. أصابعها تمسح ما يتقطّر من عينيْها، جفنيْها نالهما اسوداد خفيف، فصارتا كما عيون المها.

   رقّ لحالها قلب الشُّرطيّ الذي يحمل مُصنّفًا مليئًا بالأوراق. مُحرجٌ من صدمة الموقف غير المُتوقّع في مثل هذا الصّباح، مع أوّل ورقة تبليغ، ما زال النّهار في بدايته، شعوره بجفاف ريقه، يحاول الضغط لتحليب لُعابه، لم يستطع طلب كأس ماء من البنت، ظنًّا منه أنّها لا تستطيع تلبية طلبه، أو أنّها تنتظر عبوات الماء منذ ذهاب زوجها.

   أغلبُ ظنّي أنّه نسي نفسه، ولم يفطن لطلب كأس الماء. أخيرًا بعد تردّدٍ أشفق على حالها، بحسّه المهنيّ، أدركَ أنّها ضحيّة نصب واحتيال، عندها تذكّر عددًا من الحالات المُشابهة لحالتها خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وكأنّ القصّة تتكرّر بحذافيرها.

   أظنّ أنّه فكّر بالموقف، واستنتج، وهو يتذكّر بأن ذلك: "مسرحيّة مُتشابهة، أكيد أنّ كاتب السيناريو والمُخرج واحد، ولا أستبعدُ أن يكون وراء ذلك عصابة مُنظّمة ولها سلسلة داخل المُخيّم حصرًا، ومعها من يُساعدها هنا، البشر عند هؤلاء سلعة قابلة للبيع والشّراء. نخّاسون قاتلهم الله".

استلّ القلم من جيبة سُترته ذات اللّون الكُحلي، وسجّل كلمات مُرمّزة على وجه المغلّف الذي يحتوي على أوراق التبليغات بداخله.  صديقه الآخر ما زال واقفًا على رأس الدّرج بعيدًا عدّة أمتار عنه، يتأفّف ضجرًا، ولم يتدخّل أبدًا أو شارك ولو بكلمة واحدة، أراد التنفيس عن قَهْره بإشعال سيجارة، استخرجها من علبة "مارلبورو" بيضاء، أعادها مع الولّاعة إلى جيب سُترته العلويّة.

   لا أدري هل خطر له أو خمّن ما طبيعة الملاحظة التي كتبها زميله، ليس من عادته أن يكتب ملاحظات، تحرّضت رغبة لديه لمعرفة ما كتب، أظنّ أنّه أيقن أنّ زميله، سيكتب تقريرًا مُفصّلًا عن مثل الحالات التي مرّت به خلال الفترة الماضية.

  بعد وضع نقطة في نهاية الكلمات على المُغلّف الذي ناوله لصديقه، وضع القلم خلف أذنه اليُمنى، ثمّ رفع رأسه بحركة بطيئة، لا يبدو أنّها غير مبالية، بل على العكس كانت حزينة حائرة، ولا يدري ما هو فاعل إزاء الموقف. أجابها  بكلّ هدوء وإشفاق عليها:

-"يا أختي. حقيقة أنّني لا أدري عن زوجك أيّ شيء أبدًا، إنّما أنا مُكلّف بتبليغك عن دعوى مقامة عليكِ أنتِ".

-"أنا؟".

-"نعم. مو حضرتك فلانة بنت فلان وأمّك فلانة؟".

-"ولكن ماذا فعلتُ حتى يشتكي عليّ مالك الشّقة؟".

-"حضرتُكِ مُتخلّفة عن دفع إيجار الشّقة منذ ثلاثة أشهر، والآن نحن علينا إخبارك بأمر التنفيذ، معاك خمسة عشر يومًا للدفع، أو الحبس".

-"يا أخوي ربّي يُطوّل بعمرك.. زوجي خبرني أنّه هو مالك الشُقّة، وأنه اشتراها من أجلي، وكنّا ننتظر مُعقّب المعاملات لاستكمال الأوراق، لتسجيلها باسمي".

-"لكنّ الحقيقة غير ذلك تمامًا يا أختي، مالك الشّقّة قدّم للمحكمة عقد إيجار باسمك أنتِ, مُدّتُه ستّة أشهر، مدفوع القسط الأوّل الأشهُر الثلاثة الأولى، والدفعة الثانية لم تُدفع".

انفلتَ لسانُ الأمّ بالشتائم، تعاقبت الأمور مجيئًا عليها دُفعة واحدة، ولم تدُم الفرحة طويلًا.

-"الله يلعن هذيك السّاعة إللي جمعتني بالمستشارة اللّعينة، يا ريتني لا شفتها ولا شافتني..هالسمسارة الشيطانة ورّطتنا..!".

أووووه..!!.. امتدّت يدي لحكّ رأسي، رجلي كأنّه لم يكن بها ألم قبل قليل، صرف انتباهي عن التركيز على أوجاعي. كأن "أناي" تستهويه مُشاكستي لدرجة إغاظتي، عندما أعطاها ضحكة، أظنّ أنّها غطّت على أصوات المرأتين. ببساطة لا مبالية، استشففتُ من نبرته شماتة مُغلّفة بتأوّه استهزائي، راودتني نفسي برمي فردة نعلي في وجهه، إذ انصرف تفكيري لوجهة أخرى؛  شككتُ أنه يسخرُ منّي. هدأت فورة غضبي، عندما قال: "أمّ  البنت امرأة كذّابة لا تستحقّ الاحترام، ولا تحترم نفسها، أتذكُر يا أبا فندي قبل فترة، عندما طلبت من السّمسارة إيجاد عريس لبنتها، مُقابل عمولة. يومها طلبت منها خمسمئة دينار، ومن شدّة فرح الأمّ، وَعَدَتْها بإعطائها بقشيش مئة دينار من نفس خالصة، إذا كان مبلغ المهر مجزي..!!".

"ظلّ أناي" عيناه تدوران في رأسه، تتنقلان ما بين وجيهنا مرّة تلو المرة، ثمّ يوجههما إلى مصدر الكلام الذي نسمعه ثلاثتنا، بالطبع الجميع حولنا يسمع ما نسمع، يعني أن الحادثة صارت مُتواترة، وكلّ سامع سيرويها بطريقته.    

..*..


 

 

 

 

*عرس.. دعوة لحضور عرس..

-الشيخ يعقد القران عُرفيًّا.

-البنت ثلاثة عشر عامًا، والشاب 15.

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة الرواية

1-      في الخاتمة على لسان فطين, سيكون الكلام عن أبي فندي الذي أجريت له عملية جراحية في الكلية؛ فاستخرجوا منها بحصة بحجم جوزة الطيب إذا كانت يابسة. وهي كلّ ما تبقّى أو حمل معه من وطن.

2-      سيحكي عن فاضل أثناء مرضه، وخضوعه للعلاج المُكثّف، لاحظ الطبيب جُرحًا طوليًّا غائرًا في ساقه، وهو ما استطاع حمله معه من الوطن.

3-      مازال يراودهما حلم العودة إلى الوطن. الأمر الذي لم يتحقّق، الحلم الذي بثي يداعبهما في الخيال. تواريا عن الوجود بعد لائحة طويلة من الأمراض والعلاجات المدونة في سجلات المستشفيات. هكذا حسب ما أخبراني به، أو استحصلتُ عليه من خلال محادثاتي اليوميّة معهم.

4-      عند اكتشاف البحصة في كليته.

أظنّ أنهم.. أنهم سألوه، لا أدري إذا كان ذلك جاء ببالهم.

-هل سألوه عن الماء الذي كان يشربه. أهو نظيف ونقي؟.

-هل سألوه عن الفحوصات الدوريّة التي كان يجريها لنفسه على الأقلّ لّ سنة؟.

- هل تساءل هو مع نفسه. أنّه ما حمل من بحصة في كليته، ما هي إلّا ذرّات وتراكمات الوطن الذي هجره، لكنّ الوطن أبى إلّا أن يرتحل معه؛ فحمله معه إلى المنفى.

(ثنائيّة الوطن والألم)    

 

*آخر عبارة في الرواية: (يا أبا ذرٍّ إنّها أمانة.. وإنّها يوم القيامة خِزْيٌ، وندامة) الرسول الكريم يخبر أبا ذر رضي الله عنه لمّا جاء يطلب إمارة.

الأبواب وفلسفتها:  (لتوظيف المقطع على الأغلب سيكون في الخاتمة)

هل قدَر الأبواب الاختلاف.. والتشابه قدَر الخيم؟

ولماذا تقف الابواب تقاوم الريح. والخيم هاربة أمامه فرارًا من مكان لا يعني لها شيئًا، ولا تستجمع قدراتها؛ لتدافع عن وجودها..!!

وهل تُلامُ الأبواب إذا لم تصمد أما هجمة شرسة عاتية كسرتها، واقتلعتها من الجذور؟.

من الأبواب توصد ولا تفتح أبدا، وأخرى لها بوّاب قيّم على خدمتها وصيانتها، بينما هناك من تفتح كسرًا وغصبًا وعنوة، أمّا من تلتهم المزيد من عابريها، فهي كأبواب جهنم.

(هناك عدد لا يحصى من الأبواب التي لم يتم فتحها مند عقود أو حتى قرون في هذا العالم ، لكن لماذا؟. في الوقت الحاضر من المفترض أن البشر يمكنهم فتح الباب الذي يريدون).

لكن الحقيقة هي أن بعض الأبواب تبقى مغلقة لإخفائها بعض الأسرار الخطيرة، وأبواب السّماء  مفتوحة على مصراعيها ما أغلقت، وستبقى مفتوحة على سجيّتها. لا فائدة من الأبواب بلا أقفال.