الجمعة، 30 أغسطس 2024

زوايا دائرية .كتاب

 

 

 

 

 

زوايا دائريّــــة

محمد فتحي المقداد

 

قصص قصيرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


قصص قصيرة

 

 

 

 

 

 

 

 

زوايا دائرية

 

تأليف

 

محمد فتحي المقداد

 

 

 

التصنيف

ــــــــــــــــــــــــــ

الأدب العربي الحديث\ القصة القصيرة

اسم الكتاب \ زوايا دائرية

المؤلف \ محمد فتحي بن قاسم المقداد

رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية

المملكة الأردنية الهاشمية

(          )

 

 

 

 

 


ردمك (                  ) ISBN

 

الطبعة الأولى

 

كافة الحقوق محفوظة للمؤلف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتحمل المؤلف كافة المسؤولية القانونية عن محتوى مصنفه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي دائرة المكتبة الوطنية، أو أية جهة حكومية أخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

تصميم الغلاف:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المقدمة

 

الحمد لله وبه نستعين

زوايا دائرية مجموعتي القصصية الأولى، وهي ثمرة عمل ما يزيد على السنتين، وكانت البداية من العام 2009م وامتدَّت إلى بدايات العام 2011، مع أوَّل نص "طبيب على قارعة الطريق "، وبعد تتالت كتابة النصوص، وهي التجربة الأولى في هذا اللون الأدبي لي في هذا المجال، فالبدايات لقيت بعضًا من التشجيع وبقيت طيَّ الأدراج، وهي مقياس لمدى تطوُّري.

وبعد تطوُّر تجربتي للأفضل، بلا شكٍّ أنَّ لكل تجربة مستويات تعلو وتهبط في ميزان خبراء الأدب، الذين ربَّما يختلفون حول الكثير، ويتفَّقون على القليل.

وأنا على علم ويقين أنَّها خطوتي الأولى، فهي محبَّبة إلى نفسي عزيزة على قلبي، راضٍ عنها وأترضَّى عليها. بواقعيَّتها البسيطة والمُباشرة، بكل بساطة آثرت أن لا تمتدَّ لها يدي بإعادة التحرير، جماليتها بأنَها بنت زمانها، باعتقادي بأنَّه لا يجوز تزييف زمن الكتابة، لتتضح بجلاء تجربتي في زمن القراءة.  

ــــــــــا30\ 8\ 2024

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حنظلة

 

 

الطفل حنظلة.. حافي القدمين .. ثيابه رثة.. ترك المدرسة من شدة الفقر, والده لم يستطع أن يفي باحتياجاته من قلم رصاص ودفتر. دروب العمل معطلة..، البطالة متفشية, الفقر أصبح موضة الأكثرية لدى العرب.

كان حنظلة نموذجاً حيّاً مباشراً لأطفال العرب خصوصاً, وأطفال العالم الثالث عموماً..، فَهُمْ لا يشربون كأس حليبهم الصباحي كل يوم، ولا بيضة مسلوقة..، يسمعون عن حليب (النيدو)..، ولا يروْن إلاّ علبته الأنيقة الصفراء في الاستخدامات المنزلية بعد رميها مع المخلفات..، بينما يشربون على فترات متباعدة حليب أكياس الوكالة.

مُذْ وعيتُ على هذه الدنيا، كانوا يحكون لي عن حنظلة, كبرتُ, وبقي هو طفلاً رغم أننا نجايله, سرحنا في متاهات الدنيا, وبقي مرابطاً مكانه على  ثغرة أحد التُّخومْ؛ يخشى أن يخترقها العدو.

تطمئن نفسي، ويرتاح قلبي, كلما أراه في مكانه متسمراً في موقعه, رابضاً ثابتاً لا يعبأ بما يجري خلفه, عيناه للأمام, وجهه للأمام, صدره للأمام, لا يتطلع للوراء كي لا تضعف عزيمته من حالنا إذا رآنا , تعلّم  تركيز  رؤيته للمستقبل, وأقسم أنه لن ولن يلتفت للخلف أبداً.

ملامح وجهه مجهولة للجميع, يكذب من يَقول أنه يعرف قسماته, أبوه ناجي العلي فقط من يعرفه, وأمه فلسطين التي أنجبته.

في السنوات الأخيرة، تطوّرت عمليات استنساخ الأجنة وأطفال الأنابيب, وبرامج (الفوتشوب)، فقد قاموا بنسخ  صور وأجنة شبيهة بحنظلة, لكنها يبدو أنها أشكال بلا مضمون, مسوخ بلا أرواح.

 فاتني أن أستوقف أحدهم؛ عندما مرّ ممسكاً بيد والدته في السوق في محلات الألعاب الإلكترونية, وآخر يركب عربة يدفعها والده بيد, ويمسك بالأخرى ذراع زوجته، وهما يتمشيان على الكورنيش، والنسيم العليل عند المساء.

في محل ألبسة الأطفال رأيت أحد هذه النّسخْ المستنسخة, والدته تشتري له طقماً من الجينز، هو يتفلَّتُ من يدها محاولاً اللعب، والعبث بمحتويات المحل, شدّني الفضول لوسامته الأنيقة,  نسيتُ ما كنت قد جئت من أجله, تابعتُ ذلك الطفل الأشقر, كأن الشمس قد بَثّتْ الذهب بشعره فصبغته بلونها, والبحر قد وهب زرقته لعينيه, لحين انتهاء شراء الملابس، وقصدوا مطعم الوجبات السريعة "ماكدونالد"، جلس قُبالة والدته على الطاولة الملونة, راح يلتهم الوجبة المحببة له, بعد أن وضعتها  النادلة أمامه.

ما إن مشيت قليلاً في السوق,  مررتُ برجلٍ على عجلة من أمره, يُطوّقُ عنقه بالكوفية الفلسطينية, ويمسك طفلاً ما استطعتُ أن أتبين وجهه بجلاء, شَكْله من الخلف أنبأني أنه حنظلة, كاد قلبي ينخلع وراءه, وأنا أصرخ عليه أن يتركه, إنه ابن ناجي العلي, وكأن صيحاتي كانت في وادٍ سحيق الهوّة, لا أسمع إلا نفسي، ورجع صدى صوتي يرّن في أذنيّ, أخيراً أيقنتُ أنه ليس ابن ناجي, لأنه يركض والفرح والسرور بادٍ عليه, رغم قِصَرِ المسافة الفاصلة بيننا في زحمة المتسوقين, يركض بجانب والده، يسابق الزمن بخطاه الواسعة؛ ليلحق بموعد مدينة الألعاب.

ناديتُ بأعلى صوتي: حنظلة .. يا حنظلة..،  خشيتُ أن يكون ليس هو بذاته الذي ببالي, لم يَطلْ الأمر حتى أنجدتني ذاكرتي، ونهرتني, وأكدّتْ لي أنه ليس هو.

قالت لي: "إنه هناك لا يزال محتجباً، مُشيحاً بوجهه عن الجميع, مُحْتَجّاً على الوضع العربي, ولن يدير وجهه للخلف لأن فلسطين لم تتحرر, وبغداد سقطت, والربيع العربي انقلب إلى حريق, وتحوّل لخريف دائم, حفظ الطفل وصية أبيه ناجي, وبقى مرابطاً على شفير الهمّ العربي المتطاول من طنجة, والمستطيل حتى رأس الخيمة".

عُدتُ لرشدي ..، انفرجت أساريري ..، انشرح صدري..،

بأعلى صوتي ..، ناديتُ: "راجعين يا بلادي .. راجعين..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أسامة حِلّسْ

 

 

كثيراً ما تكون أحلامنا وَبَالاً على حياتنا, بما لها من انعكاسات للطموحات, يبدو أن أحلامنا خلقت فقط..، لا لتتحقق..، هكذا يبدو..!!، الأحلام الطموحة متهوّرة، تجلب الكثير من المتاعب على الطامح المُتَطَلّع.

هناك أحلام بسيطة, لا تتعدى نَهَمَةَ البطنِ، وشهوة الفرج, هذا النوع مُرتكِسٌ في حمأته المسنونة, واهنٌ لا يقوى على التطلع لأكثر من ذلك, هو ديدن لأكثرية  توهمت السعادة بملء بطنها، وإخماد حيوانيّتها الشهوانيّة.

أما ما لا يتحقّق من أحلامنا في واقعنا، فإنه ينتقل معنا ليعاقرنا في منامنا, تقصر معه المسافات, يتوقف الزمن أمامه, منطلق لأعلى القمم لا حدود له, حرٌّ في اختيار ما يحلو له.

ذات ليلة، أوى إلى فراشه, يحمل على عاتقه هموماً كثيرة, بمقارعة الجنود الصهاينة, فرأى فيما يرى النائم خيراً, أن شخصاً أخبره أنه (أسامة)، هناك في المشفى شهيد, اذهبْ، وتعرّفْ عليه, فإن أحداً لم يعرفه.

قام أسامة من نومه حامداً لله, منطلقاً من بيته الكائن في حي الزيتون في غزة, مشياً على الأقدام إلى المشفى, بعد نصف ساعة وصل, جبينه متعرّق، التعب بادٍ على وجهه, ولكن الهمّة العالية في تصديق الرؤيا, جعلته يسابق ظلّه، ويُسرّع خطاه, غير آبهٍ بحرارة الشمس الحارقة.

توقّف أمام ثلاّجة الموتى..، طافت به أمنيات طالما راودته, في نيل الشهادة في سبيل الله, ملتحقاً بركب شهداء الثورة الفلسطينية, الذين أرخصوا أرواحهم، ودماءهم من أجل ذلك الهدف السامي.

مدّ يده كاشفاً الشرشف عن وجه الشهيد ..، ضحك ساخراً من نفسه..، الوجه وجهه..، والجسم جسمه..، عاد من سكرته يتلمس جسده الحي..، وكأنه تخلّف عن رَكْبِ الأبرار الذين سبقوه، يا سبحان الله..!!

كيف أكون شهيداً, وأنا ما زلت على قيد الحياة..، ساورته الشكوك أن يكون هو ذلك الجسد المسجّى..، طلب المساعدة من القائمين على الثلاجة, استفسر عن ذلك الشهيد..، قيل له: إنه أسامة حِلّس.

رفع رأسه للسماء طالباً من الله تحقيق حلمه..، يتمتم بكلمات كان الصعب معرفتها لمن يقف بجواره..، وينتظر أن يسمع منه شيئاً..، بينما طال تطلعه للأعلى يطلب ويتمنى..،  بهمسٍ لا يكاد يتجاوز شفتيه.

انطلق مسرعاً, بعد أن ودّع مشرف الثلاجة..، انتظرني قريباً سأعود إليك بإذن الله, أنا بانتظارك يا أخي.

بَخٍ .. بَخٍ ..، بئست من حياة طويلة..، إنها طويلة  جداً.. كأنها دهور ثقيلة..، كأن دولاب الزمان توقف..، تجمّدَ الكلام على لسانه..،  تيبست شفتاه..، كأنها حطبة مجذوذة من سنين بعيدة.

عاد وتطلّع للأعلى من جديد..، انشرح صدره، بان البِشْر على تقاطيع وجهه الملائكي, تكلل بابتسامة عجيبة..، مليئة بتلك المعاني الغامضة، ولا تفسير، كأن روحه استقرّت..، وهدأ نبض قلبه المحزون.

يبدو أن الجواب اليقين أتاه..،  قد كان..؛ فنادى عليهم: "هيّا يا أخوة أسرعوا في الإعداد..، مللتُ الانتظار، لواعجُ أشواقي تنازعني  سرعة الوصول .."، نهض من فراشه مسرعاً فزعاً من تأخره. نور سماوي يضيء الوجه بمسحة قلّما تجدها في وجوه الكثيرين.

وضاءة واثقة بسلامة الطريق والنهج, للوصول لغايته بأنظف و أنصع السبل, دأب جلّ حياته في السعي إليها.

كمينٌ على أطراف غزّة..، دورية إسرائيلية مُؤَلَّلة..، يشتبكون معها..، قتال شرس لا يَدَعُ مجالاً لالتقاط الأنفاس..، المعنويات عالية، ازدادت علواً..، تكبير يعانق السماء على مقتل معظم أفراد الدورية.

تأتي الطائرات لإنقاذ ما تبقى من الكلاب ..، تصبّ جام حُمَمِها على المكان..، يتعالى الغبار ليصنع هالة كما هيروشيما..، تتطاير الشظايا بكل اتجاه..، تتراجع مجموعة أسامة عن مواقعها.. لأماكن أكثر أمناً من غضب الطائرات, وهم يحملون شهيدهم الوحيد أسامة, ليدخلوه الثلاجة في مشفى الشفاء.

صعدت روحه وهي تعانق أشواقها ..، طال  انتظار السماء  لأرواح تستعجل أمنيتها في الوصول..، ها قد تحققت الأحلام والأماني.

تلاقى الجسدان..، جسد رؤيا في المنام, وجسد صاحبه الحقيقي؛ انطبقا في صفحة أبديّة واحدة بعد اللقاء الأمنية.

زغاريد بزفاف أسامة..، تهاني و تبريكات..، شموخ وفخار يسيطر على خيمة العزاء.

"الحمد لله الذي شرفني بشهادته, لمثل هذا اليوم أعددته, إن شاء سيكون لنا شفيعاً يوم نلقاه في جنة الخلد..، لو أن لي مئة ابنٍ لجعلتهم على طريق أسامة..".

هذا ما كانت تردده أمه على مسامع أهل غزة جميعاً.

أسئلة برسم الجواب

 

أطلّ الجدّ بطلعته البهيّة من على رأس الدرج الحجري في جانب الدار الشرقي, مرتدياً (قمبازه الأغباني)، متكئاً على عكازه, وقف يخاطب أهل الدار الواسعة، وهو معتمرٌ كوفيته وعقاله, رافعاً كفّه بمحاذاة حاجبيه؛ ليخفف بها حدّة انبعاث ضوء الشمس، حاثّة خُطاها مسرعة لمأواها الأخير، إيذاناً بانتهاء يوم حافل للبشرية، وقدوم ليل جديد, بينما ينسحب الضوء تحت وطأة مطاردة خيوط العتمة، تتسلل، تستعجل الانتشار بعد هروب الضوء.

الجدّ المتوفي منذ سنوات, لا تزال روحه تُهوّم على الدار وأهلها, كأنه لم يبرحها، ولم تفتقده العائلة طوال هذه الفترة,  يجيء إليهم في المنام كأنه متواجد معهم دوماً, يكاد ذكره لا يخلو منه يوم على الأقل في حياة كل فرد منهم على حِدَةٍ.

وقف في ذلك اليوم، تصادف أنه يوم الجمعة، العائلة كلها تجتمع من أولاده وبناته وأحفاده وأسباطه, فجأة توقف الضجيج، ساد الهدوء لما ظهر, حتى أن رنّة الإبرة تسمع في أرجاء البيت الكبير إذا وقعت على بلاطه, توجهت الأعين مشدودةً متلهفة، والقلوب تهتز,  يتوقعون منه أن يحكي لهم شيئاً مهماً. إذا لم أحترق أنا, وتحترقوا أنتم, فكيف سنخرج من الظلام إلى النور. قالها، وهو يفرك عينيه, تكاد الدموع تنهمل، وهو يدافعها محاولاً التماسك أمام العائلة.

 صوته يتهدّج, وتابع: لقد عشت في جيل، ونحن نفتح أذاننا وقلوبنا كل صباح لعلنا نسمع (مارشاً) عسكرياً؛ والبيان رقم واحد، لنُصَفّق في اليوم الأول، ونَبْصُق عليه في اليوم الثاني, وننتظر (مارشاً) آخر، و بياناً في اليوم الثالث.

بهرتنا الشعارات، دغدغت عواطفنا ومشاعرنا، سمحنا لها أن تدخل إلى قلوبنا المتلهفة؛ لتقديم شيء من أجل مستقبل الأمة, اندمجنا معها, بالطبع إنها ليست قضيتي لوحدي، بل قضية أجيال مثل جيلنا بلعتْ الطُّعْمَ, واستفاقت على هول المأساة. كنا حزبيين..، اجتماعاتنا لا تنقطع.. نحلل المفاهيم..، و نتساءل: ما هي الاشتراكية؟. ما هي الحرية؟. ما هي الوحدة؟.

أيهما أسبق في التطبيق الوحدة أم الاشتراكية.. وكيف ؟

وما معنى كلمة جماهير؟. وما هو الصراع الطبقي؟.

تساؤلات كثيرة، كنا نريد أن نفهم مَنْ نحن ومَنْ هُمْ؟, مثلُنا مثل المؤمن الذي يسأل عن أمور دينه؛ وقد انسربت الشكوك إلى قلبه؛ فيُطلب إليه أن يؤمن فقط ..وكنا ..!!، وكان لهم ما طلبوا.

ما زالت التساؤلات قائمة، والقيادات حينها  لم تُجِبْ أبداً..، رغم تبدل الوجوه والزمان, ولا أظنها كانت قادرة على أن تفعل، ولو استطاعت لأظهرت هويتنا بجلاء، ولعرّفْتنا من نحن, ولا حار فينا البشر, و حِرْنا في أنفسنا كل هذه الحيرة التي تروْنها.

لكن ما خطر ببالي الآن هو أن القيادات, هل كانت  مؤمنة بهذه الأحلام الرائدة؟. فعلى ما أذكر أن تلك القيادات كانت تتذرع بضيق الوقت، وكثرة المشاكل، والتحديات القومية, ولو أننا حسبنا ما أفنته من عمرها في الذرائع، والتبرير لكان  أضعاف ما أخذته الإيديولوجيا.

كانت مرحلة مليئة بالكلام الكثير, وراءها وهْمٌ بفكرة غامضة غائمة السُّدْوَة والنسيج، استفقنا بعد فوات الأوان على الخطابات، و (المارشات)، والأناشيد الوطنية الحماسية, ويبدو أن من يفكر كثيراً بالنجاح بلا تخطيط دقيق سيفشل, لكن كان عليه أن يؤمن أولاً بفكرته، به ثم يجازف.

في لحظة الصحوة المتأخرة؛ بعد فوات الأوان، و استهلاكنا, هي أن الحقيقة الوحيدة والأصيلة في تاريخنا الحديث, هي السجن والسوط و الجلاّد..، وكل ما عداه وَهْمٌ ..؛ لمن اشتطّ قليلاً عن المسار المرسوم, كنا أدوات تلك الحقيقة الغائبة عنا. ها نحن احترقنا، وها أنتم تحترقون، لم نخرج من الظلام إلى النور؛ بل ابتلعتنا دوامات الظلام الحالك, واستحالت الحياة فينا شيئاً رخيصاً، لا تساوي بضعة قروش، أي قيمة الطلقة التي تنهي كل شيء؛ عندما تضغط اصبع مأمورة على الزناد.

آمنّا بأفكار..، جعلتنا نحلم بغد أجمل؛ لم تستطع تلك الأفكار أن تتزاوج مع واقعنا لتمهد لنا طريق الغد. جاء الغد الذي لم نكن نتوقعه.. فترحمنا على البارحة, وهكذا كلما جاء يوم جديد صرنا نترحم على سابقه. العيون لا تزال متسمرة تنظر إليه, الآذان مصغية باهتمام لحديثه, خَفَتَ فجأة صوته، تلاشى طيفه،  رويداً .. رويدا، بعيداً وراء الغيوم, يبدو أن الحلم كاد أن  يكون واقعاً, استفقتُ على صراخ ابني الصغير بُعَيْد الفجر بقليل؛ فحمدت الله، وأنا أتلفتُ حولي، والعتمة ما تزال تلفُّ الغرفة؛ ونهضت للصلاة.

 

 

 

 

 

 

سورية يا حبيبتي

 

جلس في مكتبه وأمامه كومة من المعاملات التي لا تنتهي كالسيل الجارف, مليئة بمشاكل الناس، وهي تأخذ معظم الحيّز في غرفة المكتب، ويكاد لا يبين من خلفها، وهو يجلس وراء طاولته, وللمواطن المراجع الذي يدخل على مكتبه أن يتوقع أنه غير موجود, وتكون المفاجأة بأن الأضابير والمعاملات تعتلي؛ لتشكل حاجزاً يضيع هو بدوامتها.

 خفّتْ حركة المراجعين؛ كان أخذ منه الجهد والتعب كلّ مأخذ؛ أخرج سيجارته أشعلها، وراح يثعبُ عليها, ضغط بإصبعه كبسة الجرس، حضر المستخدم؛ جلب له فنجان القهوة, استند إلى الخلف، رفع رأسه إلى صدر المكتب, راح يتأمل خارطة سورية المتربعة على جدار بأكمله, رغم أنها أمام ناظريه، لكنه قليلاً ما يتأملها، أو تلفت انتباهه, لأنه أدمن أشياء المكتب، ولا يكترث بها, ألفةُ الأشياء تُذْهِبُ روْنَقها، تراكم الأعمال اليومية، وكثرة المراجعين, فكثيراً ما كان ينسى سيجارته بين أصابعه، ودخانها يسني عليه؛ فما إن تصل نارها إلى إصبعه ليشعر بالألم؛ فيرجعها للمنفضة.

راحت أفكاره تسرح في رحاب طفولته، وأولاد حارته بشقاوتهم، وضجيج ألعابهم و لهوهم, والمدرسة التي ضمتهم جميعاً على اعتبار أنها في حارتهم، قريبة من منازلهم جميعاً بذلك يشكلون تجمعاً,  لاختلاق المشاكل مع  زملائهم القادمين من الحارات البعيدة عن المدرسة قليلاً, كثيراً ما تنهي تلك  التحرشات بالمشاجرات، وأحياناً تمتد للمعارك، والاشتباك بالأيدي، والتراشق بالحجارة؛ عندما يبتعد الفريقان على قدر مسافة بينهم.

أناشيد حفظها أيام الطلائع، ما زال صداها يتردد على مسامعه بين فينة وأخرى, تسمّرتْ نظراته بتلك الخريطة، التي تعلّم رسمها بإتقان على يديّ أستاذ الجغرافيا المتميز, عندما غرس الكثير من القيم الجغرافية في قلوب، و أرواح الطلاب الذين تشربوا حب تلك الأرض والتراب, ولو طلب إليهم لافتدوه بالغالي و النفيس، فليس بالكثير على ذلك الوطن.

جال بنظره من أسفل الخارطة؛ لتحديد مكان قريته, حدّدَ موقع جلوسه عن الخارطة, تحوّل إلى الأعلى شمالاً حتى بلغ خط الحدود، ومن ثم اتجه للغرب، ليشاهد زرقة مياه البحر المتوسط, ثم اتجه للشرق تجاه الجزيرة السورية، تخيّل خيراتها، وفراتها و دجلتها, وسدّ فُراتها العظيم.

لم يتمالك نفسه أمام الإحساس المفاجئ، الذي انتابه في تلك اللحظة,  شعر أنه قد انهار أمام سيل الدموع المتدفقة, حين وجدت طريقها، دون أن يكون له أي القدرة على إيقافها، وهو يرى أن الخارطة قد بكت من كل جنباتها؛ بعد أن اصطبغت بالدماء السورية، ويخيم عليها الأنين والجراح, والدموع التي رفدت أنهارها.

انطلقتْ حنجرته، تشدو بالأنشودة الطلائعية، التي تجعل جسده يهتز بعنف، ويرقص قلبه فرحاً، وتطرب روحه؛ فيرفع رأسه بشموخ، وهو يردد الكلمات بمعانيها الكبيرة والجميلة: (سوريا يا حبيبتي .. أعدت لي كرامتي، أعدت لي حريتي .. بالعدل والكفاح، وشعلة الجراح..)

تبددتْ الأحلام، غامتْ الرؤية بعد انسداد الأفق في جميع الاتجاهات, إلا اتجاه السماء التي تقبل الأدعية من الأكف المرفوعة، والأصوات المبحوحة, وهذا هو المتاح فقط بالمجان، دون رقيب و حسيب اتصال مباشر بالله, الجميع يأمل بانتهاء المحنة, وتوقف سيل الدماء السورية على الخارطة السورية, الكل يقتل الكل, والكل يدعي حب سورية، من أجلها.

لكن سورية قطعتْ عليه نوبة تحليقه الحزين، وهو يغني أنشودته الطلائعية, قائلة: "يجب عليكم أن تحبوا بعضكم بعضاً, ومن ثمّ تعالوا، وأحبّوني".

أنا لكم .. وأنتم لي..

أنا منكم .. و أنتم مني..

أنا منكم وإليكم..

وأنتم مني وإليّ..

قام من وراء مكتبه, راح يمسح ربوع الخارطة بيمناه, ويجفف دموعه بالأخرى، و انخرط في تقبيل كل أجزائها, علّهُ يحصل منها على قُبلة تكون قادرة على فتح أفقه  المسدود من جديد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وُلدِتُ سنةَ الصهاريج

 

ولدتني أمي وهي تعاني من العطش.

جئت و أنا أبكي من العطش.

القرية كلّها عطشى.

ناسُها عطاشى.

بهائمهم عطشى.

الأراضي و الحقول تشققت من الجفاف الذي طال لسنوات عجاف متتالية.

***

 

سألتُ أمي: متى وُلِدتُ؟.

أمي أميّة, لم تدخل المدرسة أو الكتاتيب, فهي تجهل القراءة و الكتابة.

هي لم تعرف متى وُلِدَتْ, ولا أحدٌ يعرف متى وُلِدَتْ.

قالت: يا وليدي, جِبْتُكَ (ولدتُّك) سنة الصهاريج*[1].

***

تأوّهتْ.. !! .. وأخَذَتْ نفساً عميقاً, أتبَعَتْه بزفير كلحن جنائزي حزين في يوم خريفي, عيناها تجوبان السماء بحثاً عن شيء لا تعرفه, ولو عرفته لا يعني لها شيئاً .

تمتمتْ: إيه .. الله يرحم أيام زمان, وهي تفرك يديها التي عدا عليها الزمن بخشونته, وتابعتْ: كنتُ حُبلى بك، وبطني إلى حلقي, والحاجة للماء وللحياة لا تتوقف..، والجهير*[2] نضُب وشحّ ماؤه, ندخل مغارته حبواً على رُكَبِنا حتى نملأ دلو ماء, كل قطرة تنزّ من الصخر, تنزّ في روحنا أملاً جديداً في الحياة، وتدمي قلوبنا أسى على شقاء مستطير يحيق بنا لا يفارقنا, نتشبث بأرضنا بأسناننا بالقوة, وننتزع لقمتنا من فم القساوة بكل نفس ذائقة..

***

 

بقي  ألْتِّريْن (القطار) هو الأمل الوحيد لنا, صهاريج ماء ينقلها إلينا من أماكن بعيدة، والتوزيع على المخصصات لكل بيت بما فيه من الناس والحيوانات, ولذة العيش الآن, أرى أن الناس تعيش في مهد عيسى(عليه السلام) الماء بالصنابير، والخبز مخبوزٌ في فرن السّوق, والغسالة الأوتوماتيكية, وكل هذا، ولا تعرف قيمته نسوة اليوم.

ما بالهن في هذه الأيام وكأن الحياة لا تعني لهن شيئاً وهن في هذا النعيم والعز, كنا نتمنى أن نملأ بطوننا من الطعام ؟.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قطار الأحلام

 

 

أفقٌ قاتم ..، أشباحٌ من الأوهام تراءتْ له، أحكمت أطواقها حول عنقه.

 كاد أن يختنق. اِ زْداد  لهاث أنفاسه، وكادت أن تنقطع أو تتوقّف.

***

 

قطار المستقبل توقف عن الحركة, بعد أن شاخ،  وهرم مهموماً بلحظة الوصول المكتومة الأنفاس.

***

أشباح أوهام عشعشت في المكان؛ فسيطرت على أفكاره. حاول جاهداً و بكل إمكانياته أن يستعيدها, لكنها تكلّست وتجمدت, فأصبحت كالمستحاثات في متحف التاريخ, لا تلمسها الأيدي أبداً.

فقط تلحظها العيون, وممكن أن تبدي الدهشة إذا استثارت شيئاً في عينيه.

***

توقف (جبر) أمام سُلّمٍ متكئٍ على الجدار الحجري في بيت جدّه القديم الموروث، تذكر أن طموحاته مثل هذا السُلّم، فكان يحلم بارتقائه، حينها بنى قصوراً من الأحلام الوردية بعد تخرجه من الجامعة، تراجع للوراء, ولم يستطع أن يضع رجله للآن على الدرجة الأولى ..، بينما كان يَهُمّ بالصعود. أرجعها لمكانها.

راح يستعرض درجات السُلّم, فوجدها بعيدة المنال. قرر تخفيض سقف طموحاته, إلى دون الدرجة الأولى.

***

 

انزوى في البيت أولاً؛ انكفأ منطوياً على نفسه, متلذذاً بشهوة محاكاة نفسه, صار يتجنب الخروج للالتقاء بأصدقائه.

غادرته الرغبة في الاتصال بأي منهم.

ازدادت شراهته للتدخين؛ سُحُبً الدخان تتكاثف حوله في أغلب أوقاته.

اصطبغتْ شُعَيْراتُ شاربيه البيضاء باللون الأصفر.

بينما علب الدخان الفارغة؛ أصبحت كومة كبيرة في أحد زوايا البيت, تعادل في حجمها أكوام الهموم المغلفَةِ لحياة جبر.

***

 

طيف أرغفة الخبز طاف بذاكرته, حرضتها قرقرة بطنه و هي تتلوى من ألم تسبب بها فقدان الرغيف؛ عندما تباعدت المسافة بينهما. أصبح الرغيف سراباً, طال لهاثه وراءه في سبيل الوصول إليه.

 

***

 

ليتني ما خُلقت في هذه الدنيا..، ليت أمي لم تلدني.

يتساءل: هل جَنَيْتُ على أحد؟،ربّاهُ هل أنا في حلم أو في علم؟.

تذكر من قالها له قبل عشر سنوات: " جبر من بطن أمه للقبر", وقتها كَبُرَتْ الحكايةُ في رأسه، مُسْتَهْجِناً ما سمع, وقال:  تأكدتُ الآن.

 

 

 

العكاكيز..

 

فاضلٌ، أنهكه المرض، طالتْ مُلازمته للبيت، وعدم خروجه, بسبب وجع الظهر الذي يشتبه بأنه (ديسك)؛ فلازم الفراش، لا يخرج إلا للضرورات القصوى، بعد أن تحسنت صحته قليلاً, كانت الأشواق تحدوه للتواصل مع الآخرين، كان يتمنى  تغيير أجواء الغرفة وكآبتها, الموبوءة بدخان السجائر المتعاقبة منه ومن زواره أيضاً.

 بينما زاره صالح برفقة علي, واطمأنّا عليه، والحديث تشعّب في اتجاهات متعددة, صالح يسافر كل يوم إلى درعا لوظيفته بطبيعة الحال, وعليٌّ يريد البحث عن عقد عمل مؤقت  لدى دوائر الدولة، واتفقا على الالتقاء في التاسعة من صباح الغد.

فاضل أصابته الحماسة لتغيير الجوّ, ووجد الفرصة السانحة، والظروف المواتية بمرافقة الأصدقاء الذي يحبهم، ويرتاح قلبه لهم, والركوبة التي ستأخذه من البيت وتعيده إليه, لعله يستطيع أن يحصل على صورة طبقية محورية لظهره في المستشفى.

و بعد أن تركوه للذهاب لبيوتهم قضى ليلاً طويلاً, بانتظار الموعد ليتخلّص من هواء الغرفة الموبوء والمخنوق, و يهرب من قرف السرير المقيت, وشعوره بأن السرير، هو القيد لأحلامه، و الغرفة هي السجن الذي يقيد حركته, ولو كان ذهابه معهم على مضض، ومكابدة على نفسه, كان ليله طويل، جفاه النعاس إلى ساعة متأخرة؛ وهو يتقلب في فراشه يميناً ويساراً, و (الريموت كنترول) بيده, ينتقل من فضائية لأخرى، وقد حالف الحظ معظمها بالمرور عليها.

 قبيل الفجر غفا، وغطّ في نوم عميق, بعدها استفاق على صوت مؤذن الفجر، جاءه الصوت عميقاً، رغم أن بيته تحت المئذنة لا يبتعد عنها سوى أمتار قليلة؛ أخيراً صحا بعد أن ذكر الله؛ قام لأداء الفريضة، وهو يتحامل على نفسه من الألم, و الماء البارد جعل القشعريرة تسري في جسده, لكنه استراح، وانتعشت روحه, شعر بالدم يسري في عروقه من جديد, والحياة بدت تدبّ في أوصاله؛ فانتشى، ورجع للفراش بعد أن انتهائه من الصلاة, جلس فيه، يذكر الله ويسبّح ويقرأ المعوذات, دعا ربه بالتخفيف عنه، وأن يُذهِب عنه المرض والبأس والصحة للمؤمنين أجمعين.

حاول معاودة النوم, لكنه لم يستطع, فشغّل التلفزيون من جديد, راح يبحث عن القنوات الإخبارية التي تبثُّ المآسي و الرعب، وتنشر الكثير من الكذب والأضاليل, هكذا استمر إلى أن استيقظت الأسرة من أجل التهيئة للمدارس، جاءته زوجته بفنجان قهوته  السادة، و هو الأول في هذا اليوم, احْتَساهُ على مَهْلٍ استغرق حوالي الساعة, و قد نسيه وهو يتابع الأخبار. 

في الثامنة والنصف رنّ الموبايل, كان على الطرف الآخر صالح، الذي طلب منه أن يجهز نفسه, فأخبره بجاهزيته، وأنه  بانتظارهم، ليحتسوا قهوتهم الجاهزة, وصلوا بعد ربع ساعة, انطلقوا بعد الانتهاء من القهوة. 

هناك في المدينة لكلٍّ منهم وِجْهةٌ هو مُوَلّيها, صالحٌ ذهب لعمله وتواعد معهما على اللقاء بعد انتهاء دوامه, عليٌّ وفاضلٌ ذهبا للسلام على صديق لهما ذو منصب مُهِم, بهدف مزدوج, بعد طول عناء وتعب ومشقّة, فاضلٌ يعتمد بشكل أساسي على عكازته التي تعينه, ومرة  أخرى يتكئ على الحائط, فوجئا بعد وصولهما للطابق الثالث أن المدير مسافر إلى دمشق, كانت الخيبة كبيرة حطمت آمال علي, وألقت بظلالها على فاضل المريض الذي كابد, ولم ينل غير العناء والتعب, عادا لنزول الأدراج، وذيول الخيبة تتدحرج خلفهم، والتذمر يَسِمُ وجوههم.

بعدما فشلت خطتهما, فتشاورا واستقر رأيهما على التجوال في السوق لحين موعد انتهاء دوام صالح, بعد نصف ساعة هدّ التعب جسم فاضل، ولم يستطع التقدم خطوة واحدة، فجلس على الرصيف، وهو يلهث، واربدّ وجهه من شدة الألم, وبينما هما على هذه الحال, وإذ بأبي سامح يقف خلف فاضل.

فنظر إليهما, وقال: ماذا تفعلان هنا؟.

ردّا، وقد بدا السرور عليهما مع ابتسامة: نشحدْ.. !!,

- أبو سامح: معقول..!!.

وبينما هم على هذه الحال, إذ مرّ بهم شحّاد يطلب الصدقة منهم, ردّ فاضل عليه, ها نحن مثلك نشحدْ, أرجو أن تتابع طريقك, يبدو أنه شحّاد حاذق ماهر في استدرار العطف, فنظر إلى عكازة فاضل, وطلب إليه أن يتبادلا بالعكاكيز, كون عكازته مكان القبضة فيها كسر وتفتت, بينما عكازة فاضل صحيحة.  وقاحته عوّدته؛ أن لا يخرج خالي اليدين من أي مكان، كأنه لصْقة، أو عَلَقَة تنشب في جسم الضحية حتى تمص دمه, فما كان من فاضل، إلاّ أن أشار إليه بالانصراف, و إلاّ نال جزاءه.

تابع الشحّاد طريقه إلى زبون آخر, علّق عليّ: سبحان الله!!، أناس بِهَناها، وأناس بِعَزاها, العمى يضربه, ألا يرى أن الرجل مريض، وغير قادر على الحركة, إن لله في خلقه شؤون, والله صدق فيه المثل (ركّبْناه وَرَانَا مدّ إيده على الخّرج), و(علّمناهُ الشحادة سبقنا على الأبواب).

ولم يَطُلْ بهما الانتظار، وهما على هذه الحال, حتى وصل صالح بسيارته، عادت بهما السيارة، وهي تلتهم الطريق، وتنهب معه ذكريات استنفذت أعمار الموظفين على مدار سنين من خدمتهم, وخروجهم على التقاعد فيما بعد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تداعي أفكار..

 

طق .. دق ..

 

 قرعات صوت عكاكيز (مِزْيَدْ) تنبئ الموظفين في مكاتبهم بقدومه, من وقت دخول باب دار البلدية, ذلك المبنى القديم المهيب ببابه العالي جداً، كذلك نوافذه ذات النمط الفرنسي الجميل, حيث أنشئ  هذا  البناء في حقبة  ما قبل الاستقلال.

ما إن يصل باب غرفة المكتب؛ حتى يكون اللهاث والتأوّه من التعب؛ وقطرات العرق كأنها خرز اللؤلؤ على جبينه العريض, الذي يعلو ذلك الوجه القانئ البياض، مُكَلّلاً بالابتسامة  المشرقة كأنها متلازمة معه بتآخٍ لطيف, وعينان واسعتان تلمعان ببريق, متلونتان بلون الربيع.

سماع صوت العكاكيز. يستجرّ تداعي ذكريات أحاديثه الكثيرة، والمثيرة باختلاف مساحة مواضيعها المُتّسِعَة بمختلف اتجاهات الحياة.

منذ وعيتُ على الدنيا، وأنا أرى (مِزْيَدْ) ذلك الشاب المعاق وهو يستخدم عكاكيزه, وفي كثير من ظني أنه خُلِق معاقاً, وقد ارتبط بذهني بذلك الشاب الآخر عيسى الذي يصغر الأول بسنوات, و يبدو أنه يجايلني، وهو يلبس جهاز تقويم الأرجل من أجل تصحيح مشيته, لكنه يستطيع المشي بلا الاستعانة بالعكاكيز, معتمداً على يده التي يضعها على ركبته.

 شقاوة الطفولة تجعل هذا المنظر مثيراً و عجيباً, لتقليده, وتارةً لعملٍ ما يُزعج صاحبها, ولم نكن ندري أنه بحاجة للمساعدة بدل الشيْطنة, التي نندفع إليها دون وعي وتفكير.

ولا أدري ما الذي كان يلعب بعقولنا المحدودة الرؤية, فقط لعبٌ من أجل اللعب  والضحك, لنقوم ببعض الأفعال التي تستمطر الضحكات المنطلقة من قلوبنا, كادت أن تجفّ ينابيعها في هذه الأيام, ونحن ننام ونصحو على أصوات القنابل وأزيز الرصاص و الانفجارات, وفضائيات الأخبار, فقد غرست فينا الأمراض من كثرة تدخلها في حياتنا, واستباحتنا بشكل سافر وعجيب في داخل بيوتنا, فلا تدعنا نهنأ بلقمةٍ ولا بشُربةٍ, نتسمر أمامها ببلاهة، لتستلب عقولنا، وتهدم أرواحنا، وتزرع في حياتنا اليأس.

تعلّم (مِزْيَدْ) في مطلع شبابه الضرب على الآلة الكاتبة, وحصل على وظيفة في دائرة الآثار في نفس القرية, وعلى ما أذكر أن دوامه كان موزعاً ما بين البلدية ودائرة الآثار؛ ليقوم بطباعة المراسلات للدائرتين.

كانت تجمعني به الجلسات الكثيرة و الطويلة, أثناء عملي في دائرة الآثار التي عملت بها, عندما انقطعت عن الدراسة وأنا في الصف الحادي عشر العلمي, لأنني نويتُ التحوّل للفرع الأدبي, ومن سوء حظنا وأنا وصديق لي أنه لم يكن وقتها في القرية كلها شعبة أدبية.

اضطررتُ التوقف لسنة كاملة, وبدل أن أقضيها جالساً في البيت بلا فائدة, قام أحدهم بالتوسط لي عند دائرة الآثار للعمل فيها, كعامل مؤقت (مياومة) في مجال التنظيفات في قلعة بصرى.

تمتنت العلاقة مع مِزْيَدْ خلال جلوسنا في المكتب، يروق لي تأمل قسمات وجهه الصبوح المستدير، والذي يكاد الدم ينفزر من وجنتيه, ابتسامته لا تكاد تفارق محيّاه, مما يجعل وسامته تأسر جليسه الذي يطلب المزيد من الوقت للكسب من حديثه ذي الطلاوة، ولا يُمَلّ منه.

آسِرٌ بمرحه ..

آسِرٌ بحميمة حديثه..

ماهرٌ بعمله، وهو يعزف على تلك الآلة التي تنقر أصوات حروفها في رأس من يجلس بقربه, وتفاخر بأنه يطبع ثلاثين كلمة في الدقيقة, لدرجة أنه يقرأ بعينيه, ويداه تتحركان على (الكيبورد), ويتابع موضوع الحديث مع يجلس قبالته في غرفة المكتب, بحيث لا يجعل السأم والملَلْ يتسرّب لنفسه، أما تلك الأصوات الناشزة غير مألوفة إلا في الدوائر الحكومية.

يرتشف الشاي من كأسه، وغالباً ما يشربها باردةً, أو أنه يغيّرها عندما تصطاد ذبابةً أو بعوضةً, إذا تسلّلت في غفلة منه, ويستطرد في الحديث بكل الاتجاهات, وكثيراً ما كان يعرض علينا مناماته التي يراها أثناء نومه, وتتمحور على سبيل المثال.

مرة رأى نفسه في احتفال مأهول في استقبال الرئيس صدّام حسين, حيث تكلل المنام بمصافحة الزائر الذي كانوا ينتظرونه, ومرة رأى الملك حسين, وأخرى جمال عبد الناصر.

العكاكيز تأخذ مساراً آخر في تفكيري في تلك السنوات المبكرة من عمري, أتخيل لو أنها سرقت من قبل حرامي محترف, فما الذي سيحلّ لـ (مَزْيَدْ), أو أنها كُسِرت أو أنها.. وأنها..

أتوقف عاجزاً عن متابعة التفكير في شيطنة الأفكار, وتعود من جديد تلك الروح الرائفة بمثل هؤلاء الناس؛ لعجزهم عن الكثير مما كنا نمارسه عليهم في حياتنا. المثير بأحلام (مِزْيَد) أنه يمارس المشي على رجليه, وكأن ليس به عِيّاً يمنعه من المشي.

يقف صحيحاً على حافة العجز العربي الغارق في وهدة النسيان, عن تحقيق مطامح شعوبه المعذبة في متاهات الفقر و البطالة والضياع تَوْهاً في دروب الظلام, ولا تختلف كثيراً عن ظلام ما قبل الاستقلال من براثن الاستعمار.

كما تتداعى الأفكار عندما كنت أسمع (طَق .. دُقْ).. توقف العقل عاجزاً عن التفكير مرة واحدة, عندما قمنا في العيد بزيارة (عبد العزيز)في مأوى لذوي العاهات الدائمة من ضحايا حوادث السيارات.

ها نحن نقف على بداية طريق مدينة  (الخَرْجْ) السريع في العاصمة الرياض, الحياة تسير بسرعة البرق على رجع هدير محركات السيارات، وهي تغذّ السير مسرعةً للحاق بأعمالها.

ما إن تدخل بضعة أمتارٍ إلى داخل المركز, حتى تُصعق بتوقف الحياة, يأكلون ويشربون.. وينتظرون ساعة أجلهم حتى يأذن الله بها. تأبى ذاكرتي إلا استحضار تداعي أفكارها, فتذهب مُسرعةً لاستعراض مكنوناتها, وتستحضر مِزْيَدْ وعيسى.

الدموع تجد طريقها بسهولة في هذا المكان الرهيب, لكلٍّ منهم عربة يتنقل بها لقضاء حاجاته, مصممةً حسب إعاقته,  واحدٌ يُحرّك مِقْوَد عربته بذقنه؛ لأنه شُلّت جميع أطرافه, وآخر شللٌ جزئي يستطيع تحريك يدٍ واحدة, ومنهم من يستطيع تحريك كلتا يديه, والكلّ يبتسم ويحلم ومتفائل.

سكنتْ وجوههم ذاكرتي، و أبَتْ مغادرتها, وكلّما جاءت ذكراهم اقشعَرّ جسدي، ووقف شعر رأسي.. وأذهب لتعداد نِعَمِ الله .. (وإن تَعُدّوا نِعْمَة لا تُحْصُوها)، وأتحسسُ أعضائي، وأحمد الله.

 

 

 

 

 

 

إرادة التحدّي ..

 

 

صُورٌ تحتلّ واجهات الغرف من بيوتنا, احتلّت قلوبْ مُحبّيها قَبْلاً, زعماءٌ في مقدمة الرّكب أحبّتهم الجماهير فالتفّتْ حولهم, وأيقنتْ بقدرتهم على قيادة المرحلة من حياة الأمة, ومع  مرور الزمن اكتست بصبغة صوفية فيها شيء من الروحانية, تتكئ على كثير من العقلانية، المرتكزة على اطلاع تام بطبيعة المرحلة الوَهم, بعد أن استجرّت خطاباتهم المتكررة و المكرورة في مناسبات امتدّت على كثير من أيام السنة.

الأمة انقسمت لأمم كثيرة، كلٌّ منها اعتنق صورة زعيم أحبّه, فحفظ كل دقائق حياته، اعتباراً من تسريحة شعره وعطره وربطة عنقه وشاربه ولون بدلته ولمعة حذائه وأزرار قميصه ونومه و صحوه المبكّر، وساعات دوامه في المكتب السياسي الذي يعمل على حلّ مشاكل الناس؛ بحيث أصبح مكتباً لحلّ الخلافات الكثيرة بين مختلف الأعضاء, ومكتب تشغيل للبطالة المتفشية، وتكديسها حوله، بدلاً عن الشارع والعمل الحر في مكاتب ودوائر الدولة, ويعتبر ذلك إنجازاً لا يقلّ عن تحرير فلسطين بالنسبة لهذا الحزب أو ذاك, في احتلال مراكز الدولة، واقتسام نفوذها حسب (الكوتا) المتعارف عليها شفاهيّة. و كلّ شخص طبع صورة زعيمه في عقله وقلبه و روحه، يتغنى بكلماته وخطاباته المتكررة.

تمرّ الأيام و الجماهير تتطاحن على لقمة الخبز, وأنفقوا جُلّ نضالهم لحل مشكلة الازدحام على أبواب الأفران, والعمل على الاصطفاف بالدّور على باب المؤسسة الاستهلاكية, و مثل هذه القضايا كانت تناقش على صعيد المكتب السياسي لكلّ حزب على حِدَة, وأصبح هناك من الأدبيات في هذا المجال، تتناقلها جماهير كل حزب على أنها إنجازات كبيرة وعظيمة؛ قد ضحوا وناضلوا من أجلها.

 

***

 

بعد انتهاء حصة الدرس الثاني, رنّ الجرس إيذاناً ببدء الفرصة الأولى, خرج الطلاّب من صفوفهم باتجاهات مختلفة, فريق توجه للحمامات, وآخر للبوفيه, وآخر يركض و يلهو مع أصحابه.

جمال اتّجه إلى رُكْنٍ منزوٍ خلف المدرسة, وأشعل سيجارة و التحق به خالد وأكرم ومعاذ, هذه الثُلّة من الأصدقاء هادئة متجانسة, أشعل كل منهم سيجارة، إلاّ معاذ فإنه مقتنع بالضرر الناجم عن التدخين؛ فهو لم يقربه منذ فترة طويلة.

يلتقون في كل فرصة لتجاذب أطراف الحديث, و التشكّي من بعض المدرسين القساة، وينتقدون المهملين منهم, ويمتدحون من يتعب معهم من أجل شرح وتبسيط الأفكار.

لكنّ اليوم اتخذ منحىً آخر, بعد أن أكّد جمال أن والده قد أسماه على اسم زعيمه المحبوب (جمال عبد الناصر) تيمناً به, و الذي يعتبره بحق أنه زعيم الأمة العربية وينسب إليه أيام العزة وقوة العرب, ويترحم على أيامه كلّما دخل غرفة الضيوف؛ حيث يتوقف دقيقة و هو صامت, ويسرح بخياله في استعراض ما يستطيع تذكرّه من انجازاته. ومن شدّة حبه له, فقد اختار والدي أيام شبابه لقب (أبو جمال), و ما إن تزوّج حيث تأخر في مشروعه لأسباب لازلتُ أجهل جُلّها, حيث كنتُ بِكْرَهُ فما إن نزلتُ من بطن أمي, حتى عمّت  الفرحة على الجميع, وعجّت الزغاريد من بيتنا تعلن للحارة أن (جمالاً) قد أتى؛ لتكتمل فرحة والدي بفرحة أهل حارتنا له, عندما تحقق حلمه في ذريته, و فوراً لقبني بـ (أبي خالد), ضحك الأصدقاء, وقالوا: أهلاُ أبا خالد, لماذا لم تخبرنا بلقبك من قبل؟.

أمّا خالد, فقال: لقد حدّثتني أمي أن والدي كان مناضلاً في صفوف الحزب الشيوعي، ومن شدّة إيمانه بقائده التاريخي(خالد بكداش)، فقد أخبرها بأنه اتخذ قراره بتسميتي خالد, لأنه كان مسجوناً, عندما قدمتُ لهذه الدنيا، ولم أعرف وجه أبي إلاّ من خلال صورته، وهي تحتل واجهة غرفتنا, إلى جانب صورة الزعيم المؤسس، والذي تربع على قمة هرم الحزب منذ التأسيس حتى وفاته, ومن ثم أورث الحزب لزوجته، وبعد وفاتها أورثته لابنهما, رغم الانشقاقات العديدة عن الحزب الأم, وانفضاض رفاق الدرب إلى درب آخر, ولكنه بقي ممسكاً بتلابيب القيادة.

بينما أكرم حدّثهم بأن والده كان ممن أحبّ (أكرم الحوراني) بجنون، كان يرى فيه القائد الجريء و المُخلّص, وعلى اعتبار أنني أصغر الأبناء في عائلتنا, فقد أطلق اسم أكرم عليّ في فترة تلاشى فيها الكثير من الخوف, حتى لا ينقطع ذكر الحوراني من ذاكرة أبي على الأقلّ, بصراحة لم يكن أبي يعلق صورة للزعيم في البيت، رغم حديثه في كل فترة عنه, و قد اختار اسمي أكرم تيمناً, و في إحدى المرات تناولت كتاباً من مكتبة أبي, وما إن فتحته حتى وقعت عيناي على صورة بالأسود والأبيض بحجم الكف, تأملتها باهتمام بالغ, ولم أتبين من هو صاحبها, حتى خلتها لأحد أعمامي أو أخوالي أيام شبابهم, وفي هذه الأثناء دخل والدي، فرفعت الصورة في وجهه الذي تهلل لها, وسألته عنها، وما هو سرها أنها مخبأة في بطون الكتب؟ حاول التملّص بداية, والتمويه بأن ذاكرته لا تسعفه في تذكر صاحبها, و أمام إلحاحي و إصراري, ولمّا لم يكن بدٌّ من الإجابة, فأوصاني بعدم التحدث عن سرّها لأحد, لأنه مجرد حيازتها جريمة, ممكن أن تكلّف ممن تضبط معه حياته, ويصبح في عِداد الذين كانوا, بعد أن تنسب له تهمة اليمين العفن والرجعية.

الحمد لله في بيتنا لا توجد أية صورة لأن الصور والتصوير حرام, هذا ما قاله معاذ وتلا عليهم الآيات والأحاديث النبوية التي حفظها عن والده بتحريم الصور بشتى أنواعها, وأكدّ حفظها بعد أن قرأ كُتيّباً متخصصاً في هذا الموضوع, ولا زلت أذكر عندما أخرج والدي كلّ ما لديه من صور إلى جانب البيت، وأضرم بها النار؛ فيكون قد أطلق رصاصة الرحمة على جزء من تاريخه وتاريخنا, حيث أنني نسيت شكلي في صغري الذي كان موثقاً في الصور التي لقيت حتفها على يدي أبي؛ بعدما أطلق لحيته، ولازم الجامع وقراءة الكتب الدينية.

أطفأوا سجائرهم، و توجهوا مهرولين لقاعة الدرس, عندما رنّ الجرس الكهربائي؛ وهو الإنذار لبداية حصة جديدة, والويل والثبور لمن يتأخر أو يتهاون, فالإدارة صارمة في تطبيق النظام, في الفرصة الثانية لم يلتقوا، حيث أن المدرس تأخر حتى يُنهي فقرة مهمة في الرياضيات, و انتهت الربع ساعة وهي وقت الفرصة, ولم يخرج مدرس الرياضيات إلا حين دخول مدرس التاريخ للحصة الخامسة.

عند انصرافهم في نهاية الدوام, توقفوا قليلاً عند باب المدرسة وعقدوا العزم على إتمام مناقشة موضوعهم على الأنترنت مساءً, من خلال غرف الدردشة في الثامنة  التأم شملهم, واتخذ حديثهم في هذا المساء طابع الجدية؛ يبدو أنهم وجدوا أنفسهم على مفترق طرق, جدير بهم أن يشاركوا مناقشة ما كان من حياتهم و مستقبلهم, وأين سيكون طريقهم من طريق آبائهم؟.

كثرت الطروحات والنقاشات, أخيراً استنتجوا بالإجماع, أنهم لا يمكن أن يكونوا صورة عن آبائهم التي تخلّت عن حريتها لصالح زعيم اعتقدوا أنه الأوحد و الأجدر, بينما ألقوا على عاتقه كل مشاكلهم, و لم يُحلّ منها أي شيء, أخيراً وصل الآباء لنهاية الطريق؛ فوجدوها مسدودة, استولى عليهم اليأس و الإحباط, وكانت معزوفة الاستعمار و الصهيونية والرجعية والإمبريالية, هي التي سدت الطريق, حتى الخلافات الزوجية؛ اعتقدوا أن مرجعها هذه الإيقونات التي أصبحت مشجباً لكل مشاكلنا, فإذا تزاحمنا على باب الفرن فالسبب يعود للاستعمار, وإذا لم يتقدم الدَّوْرُ في مكتب تشغيل البطالة منذ سنوات؛ فله المبرر نفسه.   - - حلقة مفرغة أصبحت مدار حياتنا, وهي آخر كلمة قالها جمال، - وآباؤنا فشلوا.. هذا ما قاله خالد.  

- يا شباب نحن الذين سنغير وجه التاريخ.. قال أكرم.

- لمّا تركت الأمة درب ربها وابتعدت عن  طريق الله, سلّط الله علينا الأعداء.. ختم  مُعاذ السهرة من خلف جهاز حاسوبه.

باي .. باي..  شباب.. إلى اللقاء غداً في الفرصة الأولى.. الآن الساعة الحادية عشر،  بحق أن ثلاث ساعات أرهقتنا. تصبحون على خير, وأغلق كل منهم حاسوبه.

 

 

 

 

 

 

دراجة هوائية..

                        

دراجة هوائية قديمة مركونة في المستودع, وهي من بقايا مجدٍ وعِزٍّ كان لها, في مرحلة تطوّر أهل القرية من امتطاء الحمير, إلى الدراجات الهوائية؛ فكانت بمثابة (الرولز رويس) لمن يركبها في تلك المرحلة الغابرة, بعد أن تقمص شخصية (كلاي) عندما لبست اسمه محمد علي, فإذا ناديته (كلاي) فإنه يجيب النداء, وكذلك إذا ناديته محمد, ويفتخر باللقب المحبب إلى نفسه, حاول أولاده جاهدين بيعها لمُصْلِحِي الدّرَاجات بثمن بَخْسٍ كَخُردَةٍ؛ للتّخلص منها، لكن الوالد وضع عليها (فيتو)، حفظه كل أفراد العائلة، بعدم الاقتراب منها أو المساس بها, وأصبحت خطاً أحمر كمثل بعض العرب القابعين تحت مظلة الأميركان.

لم يحاول أحد من العائلة استجلاء اهتمام الوالد بها, خطر ببالهم أن والدهم سيعود يوماً لإصلاحها، وإعادة تأهيلها من أجل ممارسة الرياضة, أو وضع برنامجاً لها, على ضوء نصائح الطبيب المتكررة، والملحّة للتخفيف من الوزن الزائد, الذي فرض على الجسم  زيادة الكولسترول, والضغط, والسكر الذي ظهرت بوادر ارتفاعه؛ إثر صدمة نفسية برسوب أحد الأبناء في الثانوية العامة.

الوالد كان ينوي دخول التاريخ من خلال تلك (الكَرْكُوبَة) المتهالكة, نواياه غير المعلنة بالتبرع بها للمتحف الوطني, وأن يُكتَب اسمه على لوحة صغيرة بجوارها, على اعتبار أنها أثرٌ نادرٌ؛ لارتباطها في ذهنه بثلاثين سنة, منذ ذلك اليوم الذي كان سيؤدي به إلى السجن في العاصمة.

اشتراها من سوق الحراميّة في شارع الثورة, بسعر مُغْرٍ بالنسبة لأسعار مثيلاتها في السوق, و بَدَتْ له كأنها جديدة من الوكالة, بعد مفاوضات حصل على تخفيض للسعر بما يتناسب مع ميزانيته, طلب من البائع كتابة ورقه؛ يتعهد فيها البائع أنها غير مسروقة, ودوّن فيها المعلومات الضرورية من البطاقة الشخصية, ثم توكل على الله, بعد أن جرّبها، وتأكد من صلاحيتها، وجودتها التي تستحق الثمن المدفوع بها, وهي أول ثمرة لعمله؛ لمدة شهر كامل في سوق الهال.

ذات يوم، بعد أن أجمع رأيه واتخذ قراره, بعبور بوابة التاريخ, والتخلص من دراجته الأثيرة عليه, توجه لإدارة متحف المدينة, استقبله المدير أجمل استقبال, شرب فنجان قهوته, و ابتسامة مصطنعة لم تفارق وجه المدير، الذي بدا كوجه تمثال روماني, أو مومياء فرعونية, كُلَّ قليلٍ يتطلع إلى ساعته, كأنه يطلب من الضيف أن يظهر حاجته وسبب زيارته, و أعرب عن انشغاله بمواعيد رسمية تتعلق باجتماعات مع الجهات العليا, بينما في الحقيقة كان ينتظر خلوّ المكتب ليجلس مع السكرتيرة, مرتبطاً معها بعلاقة حميمة، منذ أن سعى بتعيينها بعقد عمل مؤقت, ونصب كمائنه وراء حاجتها، و مساعدته لها, وهي بدورها بحاجة أن تساعد عائلتها الفقيرة.

- (كلاي) تنحنح، وتوجّه بالكلام للسيد المدير: شاكراً له حُسن الاستقبال ثانية, وأخبره بأنه يملك تحفة أثرية يريد التبرع بها للمتحف, على اعتبار أنها تراث وطني وقومي، يجب المحافظة عليه من الضياع والاندثار, والوقوع بيد لصوص (الأنتيكا)، وتهريبها إلى خارج البلد, فتصبح كمعظم آثارنا وكنوزنا المنهوبة.

- يستفسر المدير: عن ماهية التُّحفة؟.

- بصراحة يا سيدي, هي  (بسكليت) قديمة, لا زلتُ محافظاً عليها من عبث أولادي, ورميها مع النفايات أو التصرف بها.

يَزُمّ المدير شفتيه, ويحدق بنظرة استغراب من حديث (كلاي), و فيما بينه وبين نفسه، يشكّ بسلامة قوى الرجل العقلية, وقد اربدّ وجهه بغضب بدت ملامحه عليه, وهو يتمالك نفسه من الانفجار, عندما ظنّ أن الرجل يستهزئ به. راح يفرك يديه بحركات عصبية, ويفرقع أصابعه,

- وقال: شكراً لك, ولكن ألا ترى أن هذا التبرع لا يليق بمتحفنا الوطني.

- دافع (كلاي) عن رأيه, بقوله: هذه الدراجة أثرية من الجيل الأول الذي ظهر في قريتنا, أيام كان يُشار لها بالبنان, وينالنا من الحسد ما يجعلنا نُصابُ بأعتى الأمراض, ويومها كانت بأعداد لا تتعدى حدود أصابع اليدين, أول مرة ركبْتُها في دمشق أيام الشباب و الولدنة, ورحتُ أجوب بها الشوارع المليئة بالسيارات, وبينما أنا في منحدر شديدُ وبعده بقليل منعطف يؤدي إلى طريق الربوة, فقدت السيطرة عليها بعدما ارتخى شريط الفرامل, فأصيح بأعلى صوتي على المشاة أن ينتبهوا، كي أتفادى الاصطدام بهم.

بينما أنا على هذه الحال و الحيرة من أمري, فوجئت بذلك الرجل الذي يتكئ على عكازته, ويعتمر قبعة (كسليت) غامقة على رأسه, ونظارته المتربعة على أنقه،  بدا لي ساعتها كأنه جبل قاسيون شامخاً, فاصطدمت به, ووقع أرضاً, ووقعت فوقه, ارتمت الدراجة إلى الطرف الآخر من الطريق, وحكمة الله أن السيّارات لم تتواجد في المكان, و كأنها حجبت عن الطريق في هذه اللحظة.

- المدير يتبرم بالحديث: نعم , وبعد ذلك, أرجوك أوجز .. أوجز.

- أشكرك, ولكن لابد أن تأخذني بحلمك وسعة صدرك, من أجل المصلحة العامة, بينما نحن على هذه الحال, نهضت بسرعة وأمسكتُ يد الرجل، وأرجعتُ له نظارته وقبعته, وأمسكتُ بيده وأنهضته, تململ ببطء شديد؛ بسبب حجمه الكبير, وكرشه المتدلي أمامه - الحمد لله على السلامة - يا سيدي, كرامة لله لا تؤاخذني, على شنيع فعلتي, هل أصابك مكروه؟.

- فأجاب العجوز: لا, الحمد لله جاءت سليمة, وكنتُ ظننتها نهايتي, ومن كان له عُمُرُ لم تقتله شَدّة.

 ما إن لملمنا حالنا, إذا بدورية الشرطة تقف إلى جانبنا, نزل المساعد مع عنصرين مستفسراً عما حدث, طلب بطاقاتنا الشخصية, هزّ برأسه, و همّ بإصدار أوامره بأن نصعد إلى السيارة, لولا أن العجوز أعرب له, بأنه لا يريد الادّعاء كونه سليماً ومعافى.

- رد المساعد: و لوْ, لا بد لنا من كتابة الضبط هناك في قسم الشرطة، وأخذ الأقوال من أجل الحق العام, ووضع بصماتنا بإقرارنا على صحة أقوالنا.

- نظر المساعد للعجوز، وهو يلوّح بهويّته, و يهزّ برأسه, كمن يتوعد: إذن أنت؟، كم سمعتُ عنك يا محمد الماغوط؟، فرصةٌ سعيدة، كنتُ أتمنى أن أراك في غير هذا الموقف.

- أصيب العجوز بحالة هستيرية من الخوف, وهو الشيء الذي يملكه من المحيط إلى الخليج, ولديه في أعماقه "احتياطياً" من الخوف، أكثر مما لدى السعودية وفنزويلا من احتياطي النفط, ويقول لنفسه: في الزنزانة عرفتُ الخوف لأول مرة, وانطبعتْ روحي بوشم التوجس من العالم, وهربَ مني الأمان ربما للأبد, كل شيء يخيفني, حتى لو كان فاتورة الكهرباء, لذلك تراني مسكوناً بالذعر.  

- المساعد: كرامة للوطن الذي أسقيته كأسك, وضيْعةُ تشرين، وغُرْبَة, فإنني سأترك سبيلك، وهذا الحيوان من هذا المكان، لكي لا أزعجك شاعرنا, وأقبل عليه تقبيلاً, ومصافحة وتمنى له الصحة والعافية, وركب السيارة بعد أن ودعه.

و الماغوط يكاد قلبه يخرج من بين أضلاعه, حتى أن دقات قلبه  تسمع من مسافة مترين, وهو يرتجف, والكلام  يتلعثم على شفتيه بارتجاف ظاهر. تابع الماغوط طريقه إلى مقهي أبي شفيق, المكان الحميمي الأثير له على مدار ثلاثين عاماً, في الفترة الصباحية, وقد كتب فيه معظم أعماله وروائعه.

تمتنت علاقتي بالشاعر، وكنت كلما أذهب للعاصمة, أضع في برنامجي زيارة ذلك المقهى المتربع على كتف الربوة, وهو يطل على بردى, يعانقه بحنان في الربيع وحتى أواخر الصيف, وأصبح مزاراً لي فقط من أجل المكان، وإن لم أجد الماغوط في فترات غيابه لمرض أو سفر. كل هذا السرد, والمدير يتلظى ويتأفف: وما المثير في ذلك, الحوادث كثيرة, ففي كل ساعة يقع مئة حادث؟.

نعم سيدي, ولكن ثروة قومية وأدبية؛ بمثل قامة الشاعر، يجب أن نحافظ على دقائق حياته وكل تراثه, كما فعل الألمان مع غوته, والفرنسيين مع فولتير, والذين كرمتهم أممهم بجعل بيوتهم متاحف ومزارات, و الماغوط لا يقل أهمية عن أي من هؤلاء وغيرهم, وخصوصاً أن نصون تراثه من الضياع.

- المدير: على كُلٍّ اكتُبْ لي طلباً حتى أوقِّعَه وأرفعه للوزارة, لاتخاذ القرار بذلك.

 - ربّنا يطوّل بعمرك يا سيدي.

خرج من مكتب المدير، عاد حاملاً الطلب, فناوله للسكرتيرة وغادر الدائرة، , تناوَل المدير الطلب من يدها، ومزّقهُ ورماهُ في سلة الزبالة, وأطلق العنان لضحكته التي دوّت في أرجاء المتحف؛ فأجفلت التماثيل الكئيبة المدمنة الرتابة والهدوء، جامدة كجمود القبور, إلا من ضحكات السكرتيرة وهي في تقضي معظم وقتها تحتسي العواطف على وقع ألحان جسدها الملتهب. طال .. وطال انتظار مجيء الموافقة, انقطعت آماله عندما وُورِيَ جثمانه هناك في المقبرة.. رحمه الله.

 

 

 

السُّبْحَة ..

 

 

يأتي صوتُه عبر أسلاك الهاتف, وهي تُعاودُ طلب أرقام صديقاتها وأقاربها كل يوم, لتتلذّذَ بنبراته التي تعني لها الكثير، وتَشِي بما وراءها, من شخصية جذّابة لذلك الشخص القابع في مكتب البريد، في غرفة المقسم, وراء الطاولة القديمة الشاهدة على عهد الأتراك, يتربع عليها المقسم اليدوي الذي يربط خطوط القرية كلها.

بصبرٍ و أناةٍ, وهو يلتقي بالأصوات التي تطلب رقماً, أصواتٌ تأتيه من بعيدٍ يجهلُ أصحابَها, يجهلُ وجوهَم وأشكالَهم, ينزِعُ المقابِس من ثُقوبها ليضعها بأخرى, تنفيذاً لطلبات الأصوات المنبعثة من المجهول له, هو مجهولٌ لهم, وهُمْ مجهولون له.

نبرات الأصوات تتمايز, منها المحبب الذي يأخذ مساره بلا حاجبٍ لقلب ونفس المستمع, تبدأ النفس بإلحاح لا ينتهي، ولا يتوقف لمعرفة الشخص صاحب تلك النبرة التي سَرَتْ في نفسه وتربّعت فيها.

ذات يوم, بعد انتهاء الدوام دخَلَتْ مبنى البريد, لإرسال رسالة لأخيها في الخارج أطلّت برأسها إلى غرفة المقسم, وهي تلقي السلام عليه, لتلتقي العيون، ويجفّ الكلام، في قرارة نفسها أيقنت أنه هو.. هو، بالضبط كما رسمته في خيالها, شعرٌ أشقر مفلفل، عيونٌ زرقاء بوجهٍ يرسم علامات كثيرة في الحياة, بتقاطيعه و ملامحه المحببة الآسرة, لمن يلتقيه للمرة الأولى, تراجعتْ بسرعة إلى الخلف، واستدارتْ لتنطلق بسرعة, وكأنها في عجلة من أمرها, لتتملى بصورته المبدئية التي انطبعت بخيالها, وانطلقت لتحلق في سماء رومانسيتها.

صارتْ تتعمدُ كَثْرةَ الطّلَبَات حتى أصبحت حتميّةً يومية, حبائلُ الحبّ استولتْ على قلبها، وحياتها وفكرها, حتى أنّ خياله استوطن غرفتها وسريرها, تشعر بحرارته يؤنسها, سَكَنَ معهم في البيت، تتخيّله في كلّ جنبات البيت, أمام البحرة في وسط البيت وهو يناديها: " يا حبيبتي "، تغمض عينيها, وتسرح في متاهاتٍ بعيدة.

أثناء ذهابه للسوق لشراء بعض الأغراض من أجل مناوبته لهذا اليوم, لمَحَتْهُ في السوق, بينما لاحت منه التفاتة بغير قصد للجهة التي كانت فيها برفقة أمّها, اختلف لونها، وكأن الشفق استقرّ على خدّيها, ارْتَبَكَتْ من نظراته التي تتبعتها, حتى ابتعدت، وغابت في زحام المتسوقين.

صوته صديق لكل أهل القرية, يحظى بكثير من الاحترام لديهم لتواضعه وأدبه الجمّ, عرفوه من خلال صوته، تمتّنَتْ علاقتهم به من خلال بعض اللقاءات العابرة في المحلات, حيث أنه لم يكن من أبناء قريتهم,  كان هو في بداية تعيينه في الوظيفة, وقد فرز لهذه القرية البعيدة عن قريته، و في محافظة أخرى.

 استأجر مع زميلين له غرفة مع منتفعاتها في أحد حارات القرية, غير بعيدة عن المركز, وعلى مسافة عشر دقائق بالمسير العادي.

جاءه صوت أبو خليل عبر الهاتف، بُعيْد دوامِه الصباحي بقليل, بعد التحية و السلام, قال له:" عم عليّ تفضّل غداً للغداء عندنا, أرجو أن تقبل، ولا تتردد، نحن كأهلك, والبيت بيتك, بانتظارك بعد انتهاء دوامك في الثانية ظهراً.

من لحظة وداع أبو خليل, لم ينقطع سيل الأفكار بمراودته, من ترتيباته التي يجب عليه اتخاذها, راح يفكر أي قميص وبنطلون سيرتدي, وأي حذاء, لتكتمل فكرة الأناقة التي اتّسم بها منذ بداياته, وانسحبت على باقي حياته, وصارت لازمة من لوازمه، لا يمكن أن يتنازل عن شيء من لوازمها.

صُعِق بعدما فُتِحَ الباب, كاد أن يُغشى عليه عندما لمحتها عيناه, مش معقول..!! أهي بذاتها..؟ يا للمصادفة الغريبة.. يتلمّسُ وجهه, يفركُ يديه، بَدَتْ الحيرة عليه, خطر له أن يرجع للوراء, جاءته نوبة الخجل؛ فأذابت كثيراً من ملامحه.

أتى صوت أبي خليل من داخل البيت مجلجلاً: تفضل عم عليّ.. أهلا وسهلاً.. تفضل ..تفضل, خطواتٌ بطيئةٌ رغم محاولته تسريعها, كأنما شيء ما يجذبه للخلف, تقدّم أبو خليل لمنتصف ساحة الدار، حيث جلسوا على الكراسي أمام النافورة، وشجرة النارنج تتعانق مع الياسمين, والعطر ينتشر على ربوع البيت الذي يبدو أنه قطعة من الجنة, وابتسامته تَشي بلباقة التعامل، وحُسْنَ الاستقبال.

خرجت أم خليل من المطبخ, لترحب على عادتها بالضيف.

هذه خالتك أم خليل, وهذه هالة ابنتي في الثانوية العامة، تستعدّ لتقديم البكالوريا, نتوقع لها العلامات العالية, لأننا عاقدين الأمل عليها أن تحصل على مجموع يؤهلها لدخول كلية الصيدلة, وعندي ابني البكر مسافر في أوربا, وسامر هذا الصغير في الابتدائي.

جاءت هالة بإبريق القهوة العربية النحاسي, وتعتبر من لوازم الضيافة, وشيئاً أساسياً خاصة في الأرياف, تناول أول فنجان, وهو يتأمل يدها الممتدة, وشرب الفنجان الثاني, تمنى الثالث حتى يتملى بحُسن يدها البيضاء الشفافة الرقيقة, ولم يخبْ ظنّهُ, حين قال أبوها: هالة صُبّي له فنجاناً آخر, يبدو أن قهوتنا أعجبته، ولن ينساها إلى أن يموت, ستبقى ذكرانا ماثلة في عينيه وقلبه.

حضر طعام الغداء بأشكاله الكثيرة  فامتلأت الطاولة بأصنافه, اتخذ كلٌّ من أفراد العائلة كرسيّه، ألحّ أبو خليل على عليّ, واستحلفه باسم الرب أن يأكل ولا يخجل, البيت بيتك ونحن أهلك.

تناولا الشاي مترافقاً مع (الأراجيل) بعد الغداء, راح دخانها يتصاعد في أجواء أزعجت الياسمين، و الكبّاد اللّتان عافتا المكان, وعلى وقع تصادم أحجار النرد، و قرقعتها تنتهك أجواء الجمال البهية والهدوء في البيت, مع أصوات قرقعة النراجيل  المتحدّة مع النرد؛ لتكوّن سيمفونية قلّ نظيرها, مع أنفاس  تنفث الدخان، عينا عليّ تحدّق بحِدِيَّةٍ في ميدان اللعبة, ويفكر في اتخاذ شوْط جديد على ضوء الرقم، الذي يثبت عليه حجر (الشيش بيش).

 مالت الشمس للغروب, تنسحب، وتجرّ آخر ذيولها الذهبية, لتأذن بقدوم ليل طويل على المحبين, و للمرة الرابعة امتدت اليد التي تمناها عليّ أن تبقى ممدودة مدى الحياة أمامه, تأملها عندما ناولته السّبحة ذات الخرز الأسود المُطَعّم بالفضة. وقالت: تفضل. تردّدَ عندما تسمّرت نظراته على اليد, وقد صُمّتْ أُذناه على نسيم نبرة صوت داعبت قلبه, واستفاق على شيء سيترقبه في اتصالها القادم, فما صحا من دوّامتة إلا على صوت أبي خليل: خذها عمّو, هي من بركة القدس وبيت لحم, عندما ذهبت للحج العام الماضي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شهادة دكتوراه ..

 

قاتل الله حرف الدال ما أجمله, خصوصاً إذا كان متربعاً أمام اسم أي شخص, فهذا ما يثير الغيرة فِيَّ  حسداً, لهذا الشخص أو ذاك, ممن أفنى عمره في طلب العلم حتى وصل إليها, و بقيت حسرة في قلبي تحفر طريقها في أعماقي، و مسارب نفسي.

و بما أنني أعمل حلاقاً رجالياً, هذه المهنة التي أحببتها بداية كهواية, كنتُ أُقَلّد فيها حلاقاً موهوباً ماهراً بصنعته الأنيقة بلمساته الفنية؛ لتضفي الجمال على رأس كل زبون يقوم عن كُرسيّه.

هكذا توالت الأيام بعد أن أصبحت الهواية لديّ, مهنة عملتُ بها في معظم الدول العربية ما بين الشرق والغرب, واكتسبتُ من الخبرات المتراكمة, مما جعلنني مُتكاملاً بالمهارة, وصارت الفنيات والتقنيات روتينية, أقوم بها بيسرٍ و سهولة.

هذه الهواية برزت من ضمن مجموعة من الهوايات,  يتربعُ على رأس قائمتها, القراءة والمطالعة المستمرة, بجميع الاتجاهات التي تروق لنفسي, حيث جعلت المخزون المعرفي هائلاً, ووجدت نفسي منساقاُ للكتابة والتدوين لكل ما يثير اهتمامي مما أقرأ و أطالع, أو ينال إعجابي بعمق فكرته و دلالتها.

تراكم لديّ الكثير من الدفاتر دوّنتها بيديّ, ما ينوءُ بحمله الجّمَل, أحرصُ عليها أشد الحرصِ, وكأنها الجواهر المكنونة, وهي المقربة والمحببة على نفسي, وعند كل فاصلة ونقطة, أجد نثرةً من روحي, وبين كل سطرين أجدني ملتصقاً به, حتى أن صفحة من أي دفتر لها صفة قدسية, وكأنها كُتِبَتْ بقطراتٍ من دمي.

لم يكن يخطر ببالي يوماً, أن يأتي الوقت الذي ستكون هذه المجموعات مرجعاً لي وأعيد مطالعتها من جديد, وأنقل منها ما كتبته من خواطر، و منثورات على قدر استيعابي للفكرة وقتذاك, لأستخرجها من ظلمات الصفحات في بطون دفاتري, وأنشرها على  صفحات المنتديات الأدبية التي بحثت عنها طويلاً, بعد أن تيسرت الأمور، واشتريتُ جهاز حاسوب متواضع, ومستعمل من صديق لي يملك الخبرة بهذا الوافد الجديد إلى عالمي, وكذلك رغبتي الجامحة إلى معرفة كل شيء عن الحاسوب, وكم واجهتُ من الصعوبات الهائلة, عندما لا أستطيع أن أخرج من ملف فتحته, أو أعطيته أمراً لا أعلم ما جرى بعده.

بالطبع, توقفت أمام المقولة الأصيلة, العلم في الصغر كالنقش في الحجر, والعلم في الكِبَر كالنقش في الكَدَر. أصرخ على ابني الصغير آنذاك طالباً منه النجدة, وأضحكُ من جهلي عندما يحلّ المشكلة العويصة بكبسة زر، و أنا أنظر ببلاهة الجاهل.

عاودتني فكرة الدّال, وقاتل الله الشيطان، عندما كان يغريني بتحقيق تلك الرغبة الجامحة؛ لإرضاء شهوة عارمة.. وماذا عليك؟, يا ولد أنت على النت, ولا أحد يعرف أحد, الكلّ بأسماء مستعارة ووهمية, توكّلْ على الله.. وضع الدال المُدَللة أمام اسمك وأتبعها بشرطة لتمييزها عن الاسم, وهكذا..!!.. وبعد فترة ممكن أن تضيف قبلها ألفٌ فوقها همزة ( أ ), لتصبح الأستاذ الدكتور, مثلك مثل الآخرين.

لم تطل حيْرتي، فاتخذتُ قراري بالعمل، والبحث على الشبكة الدولية, عن مزوري الشهادات، و الاطلاع على شروطهم, كلّ همّي أن أحصل على كرتونة أضع لها إطاراً مُذَهّباً، وتقبعُ صورتي ملتصقة على إحدى زواياها, وعليها ختمٌ نافرٌ بحروف غير مفهومة, وأزيّنُ بها صدر غرفة الضيوف، لأتباهي بها.

كانت رغبتي أن أحصل على دكتوراه في الحلاقة, رغم أنها رغبة نادرة عند وكلاء الشهادات, بعد مداولات طالت فترة حتى وجدوا لي الفتوى المناسبة, حيث قمت بإرسال صوري الشخصية على بريدهم الإلكتروني, مع إرفاق رقم بطاقتي المصرفية ليأخذوا أتعابهم, لكنهم أخذوا تعبي وتعبهم، حيث لم يَكُن في حسابي إلاّ القليل الذي زاد عن حقّهم المطلوب, كانت فرحتي غامرة، يوم أرسلوا لي الكرتونة في البريد المضمون, عندما استلمتها في مكتب البريد المركزي, غامت نظراتي وكأنني في عالم آخر, من الأبهة والمكانة التي سأحظى بها لدى الجميع, ورسمتُ صورتي، وأنا ألبسُ البدلة الرسمية، وربطة العنق الأنيقة, و (السامسونايت), ونظّارة الرّيبان السوداء.

الأصدقاء والأحباب, كان الخبر عندهم مسبقاً بأنني أدرس في جامعة وهمية, وعما قريب سأكون دكتوراً عندما أقدم الامتحانات الوهمية، على مدار شهر كامل و التهاني و التبريكات كان تنزل في جرائد الإعلانات الأسبوعية, خلالها حققتُ شهرة على مستوى المحافظة.

رجعتُ لنشر الخبر مترافقاً مع التهاني في الجرائد, على أقسام المناسبات في المنتديات التي كنت مسجلاً بها, وأضفتُ لها الجديد من المنتديات المختارة بعناية, وطالبتُ إدارات المنتديات بوضع الدال أمام اسمي, حيث تغيرت لهجة من يكتبون الردود على مشاركاتي. هجعتْ أوهامي, وهمَد غروري, وحققتُ أمنيتي الزائغة, ورضيتُ بالدال أمام اسمي رغم أنها مزورة.. رضيتُ بها

قرار تعيين ..

حدّثني صديقي الحمار بن الحمار الأبيض ابن المُستحمر, بينما هو مستغرق في نومه, رأى فيما يرى النائم, أنني أصبحت مديراً لمدرسة، وأجلس وراء الطاولة في غرفة الإدارة, والكرسي الدوّار يمور بي ذات اليمين واليسار بحركات لطيفة, و البسمة بادية على وجهي, المعلمون والمعلمات جميعاً ينصتون، لما كنت قد ابتدأت به من ضرورة الالتزام بالدوام والمحافظة على النظام، والتحضير الجيد للدروس، والمعاملة الحسنة للطلاّب, واستخدام الطرق التربوية الحديثة، التي تبتعد هن العقاب الجسدي، و استعرضت كلّ مهاراتي الفنية والعضلية والتعبوية والخطابية. جاءني ذلك الصديق في الصباح, بينما أرفع باب المحل, رحبتُ به، دعوته للجلوس, ورحتُ أمسح الطاولات، وأرتبُ معدات العمل، ووضعتُ رَكْوَةَ القهوة على الموقد الكهربائي.

- قال: اسمعْ, خير والصلاة على النبي, بينما أنا نائم إذا رأيت أنكَ أصبحتَ مديراً لمدرسة, هنا انفلتت مني ضحكة عالية, رغم المزاج الصباحي غير القابل لمثل هذا الموقف.

- قلت له: خير إن شاء الله, لكن يا حمار يا بن الحمار, ألا ترى حالي، ومثلك خير عارف بأحوالي, بأنني لم أكمل تعليمي ولم أصل للجامعة، بل اكتفيت بالثانوية العامة, يا حسرتاه كنت أتمنى وظيفة حكومية, حتى لو كانت وظيفة مستخدم في أبسط إدارة حكومية, رغم الوساطات الكثيرة والمتعددة والوعود, ولم أُفْلِحْ للأسف بالحصول على تلك وظيفة المستخدم, بسبب يباسة رأسي بدفع إكرامية فنجان قهوة للواسطة.

- قال: بسيطة وسهلة, وهو يهزّ رأسه باطمئنان عجيب أثار الفضول عندي.

- سألته: وما هو البسيط و السهل؟.

- قال: ستصيح مديراً، و لو كلّفني ذلك الغالي والنفيس, اليوم سأفتح مكالمة تلفونية لشخص مهم ونافذ, وخلال أسبوع سيصدر قرارك.

أنظرُ لهذا الحمار باستهزاء, وأرى علامات الغباء البادية على طريقة تفكيره بتناوله الأمور كما لو أنها (كُبّةُ برأس المنسف ), لم أُعِرْ حديثه الاهتمام الكافي, لأنه من غير المعقول، والمتوقع أن أصبح مديراً، استودعني, بعد أن تناولنا القهوة، وقد عكّر صباحي, لكنني شعرت برغبة شديدة للنوم, وضعت رأسي على حافة الكرسي، غرقت بنوم عميق، تراءى لي صديقي الذي تركني قبل قليل في المنام, ألقى التحية.

- قال: والله كانت أمورك ميسرة, للتوّ صدر قرار تعيينك رغم المنافسة الشديدة على المنصب, والمتنافسين الأشداء بوساطاتهم الثقيلة, ولكن أنت الذي تستحق الوظيفة بجدارة, ومن الغد بإمكانك مراجعة مديرية التربية لمقابلة المدير الذي سيكلفك بمباشرة مهامك, أصبتُ بالحيرة وساورتني شكوك بعدم كفاءتي, وصرّحت له بذلك, فنهرني بشدّة, وراح يحدثني عن شاب أميّ كان يرعى الماعز و الغنم , ووصل عن طريق وساطة لمسؤول كبير حيث استصدر له قراراً بتعيينه معلّم في مدرسة, باشر دوامه في هذا اليوم، وفي اليوم الثاني عاد إلى ذلك المسؤول، وأخبره أنه غير مؤهل لوظيفة المعلم, نهره المسؤول وعنّفه, وقال له: أليس في المدرسة كرة قدم؟ أعطها للأولاد حتى يلعبوا و يجب أن تعلم أنه من المستحيل التراجع عن قرارك, عاد الشاب للمدرسة وأصبح فيها معلم الرياضة المختص لكافة الصفوف. بعد أن أنهى صديقي الحمار هذا الكلام, توجهت من فوري لمدير التربية وسلمته قرار تعييني, أبدى كلّ ترحيب بذلك وكتبَ لي أمر مباشرة, في اليوم الثاني توجهت للمدرسة، وتسلمت مهامي كمدير, وبعد أن جلست على الكرسي, جاءني المستخدم بفنجان قهوة ووقف ينتظر أوامري, حيث طلبت منه تقرير مفصل عن المدرسة وطلاّبها ومعلّميها وكلّ شيء مهما كبُر أو صغُر, وأن يبلغهم باجتماع هنا في الإدارة بعد انتهاء الدوام؛ والذي استمر حتى قبيل العصر, وكان الإجهاد والتعب والتثاؤب بادٍ على الوجوه، بعد أن شرحت لهم طبيعة المرحلة التي نَمُرّ بها، وطبيعة المعركة التي نخوضها ضد العدو الصهيوني، وأمريكا وكل قوى الاستعمار في العالم، والمؤامرات التي تُحاك ضدّنا، والتي تستدعي منّا رصّ الصفوف لكشف العملاء, وطبيعة المؤامرة التي يرسمونها لأجيالنا من الشباب, أخيراً بعد ذلك الخطاب العتيد, صحوْتُ على صوت رنين الهاتف.  - يأتيني صوت ابني من البيت: بابا الماما تعبانة تعال بسرعة..

 

 

 

 

 

 

 

استشارة ..

 

في بادرة طريفة, فاجأني ذلك الصديق الذي يعمل في محل لبيع المواد الغذائية, في ذلك الصباح البارد, حيث انخفضت درجات الحرارة, والريح الشرقية تعصف, وهو متدثر بملابسه الصوفية, ويلف رأسه ونصف وجهه، أنه سيقوم بإغلاق محله, والذي قلّتْ فيه البضاعة, من كثرة ما يعطي زبائنه حاجياتهم بالدّيْن، وهم قد ضاقت بهم السبل بمعظمهم, بحيث أنهم لم يستطيعوا إيفاءه حقه المترتب عليهم أو جزءاً منه؛ وبالتالي بدأت ملامح الخسارة تكسو محله المتواضع مقارنة بالمحلات التجارية الأخرى, وانطلق يحدثني عن فكرته الجنونية البديلة للمحل التجاري, فوقفت مُنْصِتاً إليه, رغم أنني على عجلة من أمري, حتى أصل إلى المكان المخصص لدفع فواتير الهاتف؛ خوفاً من أن ينقطع الخط, وبالتالي أنقطعُ عن التواصل مع عالم النت الذي أصبح جزءاً من حياتي, حتى أنني صرتُ أقربُ للإدمان في مرحلة من المراحل, وصديقي يحدثني عن المرأة النورية بملابسها القديمة والممزقة وبألوانها الباهتة, وعلامات الإجهاد على وجهها, تجيء كل فترة وهي تحمل على يدها طفلاً صغيراً, تبدو عليه علامات الفقر بملابسه الرثة؛ فتثير الشفقة في نفس من يراه, وهي تطلب أي شيء من المال بمقولتها الشهيرة (من مال الله) فيعطيها الكثير من الناس مما تيسّر، والكثير يشيحون عنها كل لأسبابه, منهم من لا يملك شيئاً في جيبه من القطع النقدية صغيرة الفئة, ومنهم من لا يملك لنفسه أي شيء حتى يعطى تلك المرأة المتسولة, وصديقي كان قد استطلع حالها, وعن دخلها من هذه المهنة الشريفة, وهل تملك بيتاً, أم هي فقط لا تملك من هذه الدنيا سوى خيمة الخيش المتنلقة، حيثما يحل أهلها وأسرتها, وكانت الصاعقة التي فتكت بنفسه وأفكاره, بأنها تملك بيتاً في منطقة راقية من العاصمة, جُن جنونه, وهنا اتخذ خياره الصعب, بإغلاق محله لينطلق في دنيا الله، ويلتقط رزقه بهذه الطريقة السهلة, ولكن الصعوبة التي تواجهه وهي الخطوة الأولى, وكيف سيمدّ يده للآخرين؟, يستشيرني ليأخذ برأيي في هذه المسألة العويصة, خيّم الصمت على المكان للحظة, كانت الدهر بطوله, حار دليلي بالإجابة على ذلك الامتحان الصعب, فطلبت منه أن يمهلني, لعلي أن أحصل على إجابة شافية له, من خلال الانترنت, بعد أن أعرض قصته على من يملكون الخبرة أو الرأي.

طبيب على قارعة الطريق

 

 

قديماً في الأرياف, كانت الخلافات تحدث ما بين الفلاحين لأسباب عديدة, أكثرها وأهمها خلافات الأراضي، وحدودها والتعدّي على المزروعات من أصحاب الدوّاب والأغنام و ذلك بأكل الزروع .

وفي الربيع كانت سقاية الأراضي وكروم العنب من الأقنية وغير ذلك, سبباً كافياً لقيام كثير من المشاجرات، والخلافات، حدثَ أن تشاجرت مجموعة من الفلاحين بالعصي والهراوات ولكماتُ الأيدي, وتركوا وراءهم رجلاً ممدداً على الأرض, مضرجاً بالدماء, مُغْمًى عليه, من شدة وهول ما حدث من المعركة الحادة, هرب مَنْ هرب من موقع المعركة, خوفاً من مجيء الدّرَكْ (الشرطة)، والقبض على المتشاجرين.

 وفي ذلك الوقت لم يكن في بصرى, لا مشفى ولا صيدلية ولا أطباء, بل بالكاد أن تجد ممرضاً يحقن الإبر، وكان الناس ينادونه يا دكتور ..، وتصادف وجود طبيب في تلك الأيام.

ذهبوا، واستدعوا الطبيب الوحيد ربما في المنطقة, حظيت به بصرى على اعتبار أنها مركز الناحية, و أكبر تجمع سكاني.

 

وصل الطبيب, ماذا يفعل ؟، أمام هذا الحادث المؤلم, والرجل ممددٌ على الأرض، والدماء تغطي وجهه, تقدم الطبيب، ووقف أمام الرجل الممدد، ولَكَزَهُ برجله مسخرةً و استهزاءً, بعد أن فهم سبب إصابته تلك.

 

بقَرَفٍ قال: (شو هادا, حمير, بأر أنتم - بقر-)، ومن هذه المسبّات و اللعنات؛ التي انفلت بها لسان الطبيب على الناس؛ جاءت ردّة الفعل الغاضبة من الناس المتواجدين؛ الذين افترضوا أن الطبيب سيعمل إجراءات إسعافية, ولكن عندما لكزه برجله؛ هيّج مشاعر الغضب والغيظ في القلوب؛  فما كان من أحدهم إلاّ أن هوى بعصاه الغليظة على الطبيب؛ بضربة شديدة كانت كافية لأن تكسر يد الطبيب, الذي احتاج على إثر ذلك لمن يُسعِفَه, و جاؤوه برجل طيّب عنده الخبرة القديمة والطويلة بتجبير الكسور, بالطريقة التقليدية المسماة (جِبَارْ عربي), والذي يعتمد على حاسة اللمس، وحدس المُجبِّر بتحريك العضو المكسور, بحركات مُعيَّنة، علّه يستطيع أن يجزم ليُحدد مكان الكسر, وقتذاك لم يكن هناك أجهزة التصوير الشعاعي و(الإيكو) والجبيرة الجبسية أو البلاستيكية الحديثة خفيفة الوزن وذات الألوان، وعندما شخّص المجبّر الحالة جيء له بقطعة قماش بيضاء  من بقايا الثياب القديمة والمستعملة (لعدم وجود الشاش) ووضع خليطاً من البيض مع شعر الماعز على الساعد ولفه بالقماش، وجاء بقطع من الخشب الرقيق بطول 20سم وعرض 3سم, ثبتها بواسطة رباط لفّهُ عليها جميعاً, فأصبحت جبيرة ممتازة, ووضع قطعة قماش عريضة, حيث ربطها من طرفيها, ووضعها في العنق، وأدخل يد الطبيب فيها, وقال له: الحمد على السلامة يا دكتور وبسيطة وعليك العافية, وأوصاه بشرب الحليب يومياً مع البيض وهنا, وبعد فوات الأوان أدرك الطبيب المحترم فداحة تصرفه الخاطئ؛ نتيجة كلامه الشنيع والسب والشتم و الاستهزاء بالفلاحين البسطاء بعد أن انفض العراك, وأصبحت يد الطبيب معلقة في عنقه, جلس وقد أسند ظهره للجدار, محملقاً في أرض الغرفة, وراجع ما حدث؛ أدرك حجم الحماقة التي ارتكبها, متنازلاً عن شرف مهنته الراقية, والإنسانية التي هبط منها في أعين وقلوب الفلاحين, وعاد لمعالجة الرجل  الذي أصيب وجاء أساساً من أجله.. وندم على تسرعه ولكن بعد فوات الأوان, وخراب البصرة, ووصل الخبر إلى شيخ القرية, ذلك الرجل المهيب بجاهه وماله, ونفوذه اللا محدود على قبيلته الكثيرة العدد, وعلى معظم أهل القرية من خلال حاشيته من القبضايات, والذين ينفذون أوامره دون تردد وتفكير, ومهما كانت.

 

أرسل الشيخ في طلب أطراف الخصومة, فمثلوا كلهم ومعهم مجموعة من أقاربهم, وذلك بعد أن حضر رئيس المخفر ومساعده وشرطي وحضر معهم كذلك الطبيب ..

 

رئيس المخفر يريد كتابة ضبط بالحادث, وإلقاء القبض على المتشاجرين, ولكن شيخ القرية طلب منه أن يجلس ويَرُوقْ, وبدأ الشيخ بتأنيبهم، وتوبيخهم، وترهيبهم بتسليمهم للشرطة, وهناك يكون حسابهم, والمساكين أصبحوا  بين فكي كمّاشة واحتاروا, تعالت أصواتهم يطلبون إلى الشيخ أن يحل الموضوع بطريقته، و لا أن يصلوا  إلى المخفر (الرعب الحقيقي لمن يصل إلى هناك)، وفي هذه الأثناء دخل أحد حاشية شيخ القرية واقترب منه هامساً في أذنه, بأن الجماعة دفعوا المعلوم, فهزّ الشيخ  رأسه, وتمتم بقوله: بسيطة, اذهب أنت الآن لمتابعة شغلك.

عاد الشيخ لموضوعه السابق، وقرر بأنه يجب عليهم أن لا يشتكي أحدٌ على أحد, وأنه سيقوم بمصالحتهم وتطييب  قلوبهم, استجاب الجميع لطلبه الذي لا يُرَد, انفرجت أساريرهم، وأمرهم بالمصافحة والتقبيل، وأن يتسامحوا فيما بينهم, وأخذ عليهم المواثيق بأن لا يتعرض أحدٌ لأحد بعد الآن. وطلب طرف المعتدين من شيخ القرية بأن يكون غداً الغداء عندهم إكراماً له ولجهوده, وكذلك لتطييب قلوب من وقع عليه الاعتداء وأهله. أما الطرف طلبوا أن يكون الغداء عندهم بعد غد, قَبِلَ الشيخ ورئيس المخفر والطبيب دعوتهم, وقاموا منصرفين إلى بيوتهم, وودعوا الشيخ وضيوفه, ولمّا همّ رئيس المخفر والطبيب بالقيام للانصراف أشار إليهم أن يجلسوا, لاقتراب موعد الغداء, فبقي كل منهم في مكانه, ولكنهم تمدّدوا بعد أن توسعت الفسحة في المضافة, متجاذبين أطراف الحديث, وتحليل ما حدث اليوم, ورئيس المخفر بمكره وخبثه يثني على حكمة الشيخ, وعلى  حسن ما فعل, وحل المشكلة.

 

وردّ الشيخ: يا سيدي  (الحَقُّ على الدكتور, شو إلو بِهَيْكْ مشكلة, يا أخي الجماعة نادوك للإسعاف, مش مشان تشتمهم و تسب عليهم, لأنو (اللي بحط راسو بشي ما يعنيه، لازم يشوف شي ما يرضيه), (واللي يفوت بين البصلة وقشرتها, ما رايح ينوله غير ريحتها, ولسانك حصانك).

هنا دخل أحد أبناء الشيخ؛ ليخبر والده بأن المنسف جاهز, وعقّب الطبيب على كلام الشيخ: (يا سيدي, ما بأا نعيدها، واللي صار صار..)

رئيس المخفر قال: (هذه المرّة جاءت سليمة, احذر ثاني مرّة, يا ...دكتور) دخل الطعام، وقاموا أولاً بغسل أيديهم في إناء يحمله الابن بيد والإبريق بيد أخرى .. تفضلوا .. أهلاَ وسهلاً, البيت بيتكم .. انتهوا من طعامهم وذهب كل إلى شأنه وعمله, وذكّرهم الشيخ بموعد الغداء غداً ..

----------------------------------- 

مدينة بصرى الشام تقع جنوب سورية في محافظة درعا

 

 

 

 

 

 

 

أمام الخاقان ..

 

 

دخلت في قمقم المتاهة

لديّ ركامٌ هائل .. يجبرني على النسيان ..الشتوي ..

و ها هو الربيع .. الذي قهر الخاقان ....

أوشك أن يودعنا ، ويسلمنا للصيف ..

و في الصيف ..

متاهاتٌ وقماقم جديدة ..

 

 

***

 

أقف بين يدي خاقان التتار الأعظم .

الشرر يتطاير من عينيه ..

رائحة الموت تفوح من سيفه الذي أشهره في وجهي ..

ما رمشتْ جُفُوني .. ولا اهتزتْ شعرة في جسدي ..

ولم يتغير لون وجهي، حتى يصبح كليمونة جافة ..

رجْعُ صدى صوت الخاقان .. أرعب الجند والأتباع ..

أمرهم أن يأخذوني ..

ازداد الغيظ في قلبه

أزْبَدَ .. و اربدّ وجهه ..

فصار قاتماً قبيحاً .. كوجه خنزير

جحظت عيناه .. فَغَرَ فاهُ، صاح برئيس الجند: أعيدوه إلى هنا، وأشار بإصبعه لنقطة كائنة أمامه.

أعادوني، وقد امتثلوا أمرهُ، وارتعدتْ فرائصهم خوفاً وهلعاً.

حانَتْ منّي ابتسامة .. لم أتمالك نفسي من الضحك، وأخذتني نوبة هستيرية من الضحك بأعلى صوتي، الذي غطّى على زمجرة الخاقان، حيث ذُهِلَ من تصرفي الغريب، و غير المألوف، لأنه ما صادف في حياته كخاقان منذ أكثر من عشر سنوات مثلما حصل مني أمامه, وهو وريثُ الخاقانية من أبيه. وَوَرِثَنَا معها ..

يحاول أن يصنع بنا ما يشاء ..

اتخذ قراره الذي لم يجد بديلاً عنه، بقطع رأس رئيس الجند، فتدحرج أمام الملأ من قومه ، فخرّوا ساجدين .. يسبّحون بحمد الخاقان حتى المساء ..

 

***

:: وقف الخاقان على بوابة أحلامي،

اتخذ قراره الظالم ..

بتحجيمها ..

ومن ثم ..

خنقها في مهدها،

سيّافه العُتُلُّ الزنيم ...

حدّق في وجهي، وعيناه تبَرْقُان شرراً،

شارباه قميئان .. كذيل غراب كهل..

تأججت في المكان رائحة فمه المخمور..

خيّم الصمت المطبق..

ساد الظلام ..

أعاد سيفه إلى غمده، يقطر ..

ازدادت رأرأة عينيه ..

الخاقان يكسر رتابة الصمت، بصوت قهقهةٍ

بعد انتشائه، وكأن النصر قد حالفهُ ..

ظنّ أنه انتصر على أحلامي

ولكن ..

هيهات..!!

 

 

 

 

 

 

 

 

لقاءُ الصُّدفة..

 

عواء لا ينقطع، آتٍ من جهة المقبرة، كأنه نذير شؤمٍ كصفّارة إنذار تنبئ عن غارة جوية, يطرقُ أذنيَّ بعنف غير معهود، يأخذني من نومي العميق إلى أحضان القلق، سرَقَ النوم من جفنيّ، أتقلّبُ في فراشي يمنةً ويَسْرةً، باءت كل محاولاتي بالخيبة والفشل، لاسترجاع الوَسن المسروق من ليلتي المشهودة.

العواءُ مستمرٌ، ويزداد سُعَارُ العوّاية (ابن آوى)، تاهَتْ أفكاري، وذهبتْ بي مذاهب شتّى، لعلَّ أحد جيراني في الحارة، قد وافته المنية، الساعة متأخرة، ولا أستطيع استخدام الهاتف لمحادثة أحد من الأصدقاء، ليشاركني هواجسي.

انكفأتُ على نفسي، ألملمُ بقايا من شجاعة قديمة، مكنوزة في حنايا قلبي من أيام الشباب الرّافض لكل معاني الخوف، كان من الممكن أن تتسرب خيوطه إليه.

نهضتُ قائماً مُترنِّحاً، كاد جسدي يهوي إلى الأرض، لولا إتِّكائي على الجدار، فاتّأدْتُ مُستعيداُ توازُني، رفعتُ السِّتارةَ عن النافذة، صدمني الظلام، و السكون الرهيب الموحي بعظمة وهالة الليل، سَكَتَ صوتُ العَوّاية، لبضع دقائق و أنا لا زلتُ على هذه الحال، فتحت النافذة .. فتنَسّمْتُ عبير الندى الذي حمل إلى حاسة الشمِّ عندي، رائحة السنابل النديّة، صافحتْ أثير روحي، فأحالتني كائناً آخر، أعبُّ النّدى ملء رِئَتَايَ، وأستزيدُ بعنف، و كأنني وقعت على كنزِ محاولاً كسب المزيد منه.

استغرقتُ في لُجّة من التأمل العميق بعيداً، وما إن أتممتُ ربع ساعة بعد الثالثة فجراُ، حتى شق السكون صوتها الرهيب، بوتيرة لم أكن أتوقعها هذه المرّة، أيقنتُ ساعتها، أن القيامة قامت، وأنه لا بد من أمر عظيم سيحدث، أجهلُ كُنْهَهُ.

قادتني قدماي خارج غرفة النّوم، وعلى غير إرادة بتخطيط، تابعت مسيري سالكاً الباب الخلفي المؤدي إلى السّطح، ارتقيتُ الدّرجات ببطء غير مُتَصَنَّعٍ مني، وصلتُ قُبالة السّماء الصافية، النجوم متلألئة، استنارت روحي قليلاً، وكانت على وشك انتشالي من دوّامة الأفكار، العواءُ يزداد، أصيب الأموات بالقلق، ضجّت القبور بساكنيها ضجراً، قاموا متلفعين بأكفانهم، و ساروا باتجاهات شتّى، باحثين عن شيء ما.

يا إلهي، ما الذي يحصل، أَأَنا في حُلُمٍ، أم في عِلْم ؟, أفركُ عينيّ، تجمّدت الدماء في عروقي, جفّ ريقي، وانعقد لساني عن الكلام، وأنا أحاول قراءة المعوذات وآية الكرسي، تحركت يداي بصعوبة بالغة؛ حتى استحالت عصاً غليظة، كنت أحاول تلمًّسَ رأسي، هل أنا على قيد الحياة، أم في عداد لابسي الأكفان؟.

خفقان  قلبي مضطرب بشكل غير معهود أبداً، أيقنت أنه لا مفرّ، تراخت أعصابي ، خارت قوايَ، فافترشتُ الأرض، وتعطل إحساسي ببرودة الباطن المتسربة إلى جسدي، قشعريرة سَرَت في جسدي. الحشود المتقدمة تقترب مني، و إذا بوجه جدّي، بدا لي من بعيد كالبدر، أحاول التلويح له، خانتني الشجاعة هذه المرّة، وأعضائي غادرها توتر الحركة، صرتُ كومةً جامدة، فقط الأنفاس التي تُثْبِتُ الحياة في أوصالي الخائرة. بوصلةُ جدّي حددتْ مكاني بدقة بالغة، انْتَحَى جانباً من الحشود المندفعة، متقدماً بثبات إلى ساحة البيت، أومأتُ إليه أن يصعد إليّ، أصابني العجب العجاب، أنه فهم ما بنفسي، دون أن أتكلم. وما إن جاء وَقْعُ خُطاه مُرتَقِياً درجةً إثْرَ درجة، وإذ بي أنهض، وقد انفكّت كل المشاكل التي عانيت منها على مدار أكثر من ساعة، تقدمتُ إليه، فَقَبّلْتُ رأسه، تلاقت أعيننا، وتسمّر كل منا في مكانه، ورحت أتأمل قسماته الوضيئة، فاستنارت روحي، وانبسط قلبي بعد انقباض، دبّت الحياة في أوصالي من جديد.

 - وانطلق لساني في الترحيب: أهلا يا جدّي، كيف حالك، طمئني عنكم؟.

- الحمد لله يا بني، فلا أشعر إلا بالراحة والهدوء في قبري.

- فما الذي يحدث أمامي، أصبت بالجنون مما أرى، وأظنُّ أن اسرافيل قد نفخ في بوقه، فانتشرتمْ ؟

- في الحقيقة لا يا بني، ولكن العوّاية أقلقتنا، وقبورنا ضاقت بنا، فقذفتنا، وها نحن كما ترى.

- يا أَبَتِ الحزن ينهش قلبي ألماً.

- ولِمَ يا بُنيّ ؟.

- أمرٌ لا أستطيع أن أخبرك به، ولكن يدي بيدك، سنذهب سوية إلى أحبِّ أماكن الدنيا إلى قلبك.

- هيّا بنا.

و ما هي سوى لحظات من المشي السريع، حتى بدأت تطالعنا مئذنة العمري الحزينة، على شنيع ما حصل لها اليوم، عندما أقدم الشَبِّيحة على قصفها بالصواريخ.

أسرع الجدّ بخطواته، متوجهاً إلى ساحة الجامع الغربية، يروم الصعود إلى المئذنة، عبر الدرج الحجري النابت من الجدار، بحجارته الطويلة.

- أصيح به: أرجوك، ارجع، لا تصعد.

لم يأبه لندائي، وتابع يرتقي درجة إثر أخرى، وما كاد يبلغ الدرجتان الأخيرتان؛ حتى انبعثت طلقة القنّاص المصوبة إليه. عاودتُ النداء بحرارة، راجياً منه العودة، وما إن استدار حتى وصلت الرصاصة الثانية، لتترك علامة سوداء على الجانب الأيمن من الأكفان، بعد أن ارتدّت عن الحائط، حمدتُ الله على نجاته، وعندما وصل إلى حيث أقف في ذروة، متوارياً عن أعين القنّاص، وجدتُ أنهُ لم تهتزّ شعرة في جسمه مما حصل له.

- يا بني، عُمري بعمر هذا الجامع، وأصبحتُ جزءاً لا يتجزأ منه، فعلى مدار أربعين سنة، وأنا أصعد للأذان في الأعلى، للأوقات الخمسة، وقبل أن تصلنا الكهرباء بسنوات كثيرة، الفانوس بيدي اليمنى، وأتكئ بيُسْراي على الجدار.

- ألم تكن تشعر بالخوف؟.

- و مِمَّ أخاف يا بني ؟، فقلبي عامر بالله، ولساني يلهج بذكره، وأصعد لأُبَلِّغ القرية نداءه الخالد.

- كنا نسمع عن الجن الساكن هنا.

هزّ رأسه، رافعاً حاجبيه للأعلى، وهو يردد: " كلام لا قيمة له وهراء", واندفعت الدموع من عينيه المًصوّبة للمئذنة، التفتُّ حَوْلي فلم أجدهُ، وقد اختفى، بينما أحسست على صوت جرس المنبه لصلاة الفجر، حمدتُ الله، تلمستُ جبيني المُتعرِّق، نهضتُ للقاء ربي. وكتمتُ رؤياي لغاية في نفسي.

مذكرة بحث..

 

 

الظلام يلفّ المكان، مشاعر(فطين) متناقضة حيال عبوره الطريق من الحارة القديمة، مروراً عبر القناطر الأثرية، يتلاشى زخم خطواته؛ فتتراخى قليلاً، خَطَرَ له تغيير الاتجاه، الساعة تشير للواحدة بعد منتصف الليل، على بُعْد خمسين متراً منه، لمعانٌ وبريقٌ، أصواتٌ غريبة تصدر من هناك، تجمّد الدم في أوصاله،  تيبست عروقه، شَعْرُ رأسه انتثر واقفاً، سَرَتْ قشعريرة في جسده، توقف عقله عن التفكير.

- يا إلهي هل أتابع، أنظر إلى خلفي، حائط من الظلام أغلقَ الأفقَ أمام عينيّ، ولا مناص لي في النجاة، إلا بالتراجع فراراً من هذه الورطة، سأنتظر قليلاً، عسى أن يبعث الله عابراً آخر، يؤنسني، لأجوز معه هذه المفازة، تتالى شريط غامض من الذكريات حاضراً أمام عينيّ، مستعيداً و متخيلاً أحاديث سهرات العجائز في مضافة جدّي، عن الغولة  و الجن، و إمكانية تشكلهم بأشكال غريبة الأطوار، اللعنة .. !!، يدي تمتدُّ إلى خصري، لتسحبَ المسدس من تحت الحزام، وبسرعة أتوماتيكية، و بلا وعي فكَكْتُ صمّام الأمان، متهيئاً لمباشرة الإطلاق. بلا مقدمات، جاء صوتٌ هاتفاً بي، سادت لحظات صمت مُذْهلة، أربكتني.

- " إياك أن تطلق النار، هيّا تقدّم، لا تَخَفْ " .

- فطين، و بلهجة حازمة، صرختُ بكلمات خرجت دون وعيٍ مني: "من أنتَ.. ؟ " . 

- صديق .. أأتقدم إليك ؟. 

- فطين: "لا .. بل أنا سأتقدم لمتابعة طريقي"، سُرِّيَ عني قليلاً؛ فتنفستُ الصّعداء، أتقدمُ خطوةً ثم خطوة، حذري الشديد، دفع بِحَوَاسّي للتأهّب في حالتها القصوى، وما إنْ خطوْتُ الثّالثة, حتى أضيء المكان؛ وانشقّ الظّلام عن جسم غريب، كأنه (روبوت آلي)، هواجس الخوف تعصف بذهني وقلبي، أخيراً ترجّحت لديّ فكرة الجنّ، وقدرته على التشكّل بأشكال غريبة، وما إن صِرْتُ على مسافة خطوات قليلة منه، صرختُ بوجهه ثانية: "من أنت؟".

- ألا ترى أنني روبوت .. واسمي شمشون؟.

- فطين: "روبوت..!!، هنا بين البيوت القديمة والخرائب..!!، غير معقول، أأنت جِنِّيٌ متحوِّل؟ ".

- الروبوت: "لا عزيزي، سلامةُ فَهْمِك".

- جاء كلامه برداً على صدري، شيءٌ من الطمأنينة تسرّب إلى قلبي، تفَرَّسْتُهُ بِدقّة .. تأكدّتُ الآن،  يا إلهي ..!!.. فِعْلاً، كما قال..، هيّا أخبرني: "ما الذي جاء بك إلى هنا، أيها الأحمق ؟".

- الروبوت: "سأحدثك بقصّتي التي تتشابه مع عالم الأساطير، وأظنك ربما تًكذِّبني".

- فطين: "لا عليك، كُلّي آذان صاغية، على فكرة .. ما رأيك أن آخذك معي إلى بيتنا؟".

- الروبوت: "لا مانع لديّ، هيّا على بركة الله".

 

***

 

الدّارُ مُعتِمة، الجميع نِيَام، تسلّل فطين بحذر شديد، لاستكشاف الأمر و الاطمئنان، رجع مُسْرعأ إلى شمشون, مُوصياً إيّاه بعدم إصدار أيّة أصوات مثيرة، من شأنها إيقاظ النّيام، وإخافة أهل البيت، وحفاظاً على السر، حتى يجدَ مخرجاً آمناً لك.

- فطين: " ها .. لم تخبرني للآن، كيف وصلت إلى هنا؟ ". 

- الروبوت: "أرْعِني سمعكَ كي أقصّ عليك ما حدث لي، ولن تسمع ذلك في نوادر (شارلوك هولمز)، يا سيدي، أنا في الأساس خدمتي متخصّصة في مركز الأبحاث العلمية، ومنذ أيام حصلت اشتباكات في محيطه، وإطلاق نار كثيف، بين الجيش الحر، والحراسات و المتحصنين في المركز من قوات الأمن، حدثت حالة من الهلع و الفزع، وما كان منى إلاّ أن تسلّلتُ خلسة، بعد أن كلّفوني بمهمّة المراقبة على الحاجز المتقدّم، في الليل اشتد البرد وتدنّت درجات الحرارة جداً، وبدأ الثلج يتساقط، وفرّ العساكر من الخدمة، ولحقتُ بهم، وها أنا صرت ملاحقاً لفراري من الخدمة".

- فطين: "من يومين، قرأتُ إعلاناً على  (الفيس بوك)، في صفحة الجيش الإلكتروني للنظام، عن هروب روبوت من مركز البحوث، ورصدوا جائزة ماليّة كبيرة لمن يجده أو يرشد عن مكانه، ومن غريب الصُّدَف أن تكون أنت بين يديّ الآن". 

-  الروبوت: " أفهمٌ من كلامك، أنني مطلوب لهم؟. 

- فطين: "نعم، مذكرة البحث صدرتْ بحقك، وتكليف للجهات المعنيّة بملاحقتك للقبض عليك، لأنك تعتبر من الأسرار العسكريّة، وتسربها يضر بمصلحة الدولة. و لكن، ما هي المهمة التي كانت مُناطة بك؟".

- الروبوت: "في الأساس كنت أعمل على مراقبة الأقسام المنتجة للغازات الكيماويّة السّامة، ثم نُقلتُ إلى قسم فرع أمن المراقبة الإلكترونية لشبكة الأنترنت، واختراق (الإيميلات)، وحسابات الفيسبوك".    

- فطين: "وهل يوجد من جنسك الكثير عندهم، يا شمشون؟".

- الروبوت: " في الحقيقة، لا ، فقط نحن على عدد أصابع اليد الواحدة".

- فطين: "المهم الآن، البحثُ عنك يجري على قدمٍ و ساق، واستنفارٌ كبير على كافة الأصعدة، ولو أن الوضع  في غير هذا الظرف الطارئ، لقمتُ بتسليمك لهم، وحصلتُ على الجائزة الضخمة، التي ربما تحلّ كل مشاكلي المالية المستعصية منذ سنين عديدة, يجب أن يبقى أمرك بسريّة تامة، وأن أجد لك  المكان المناسب لتختبئ فيه ".

- الروبوت: "سأخبرك شيئاً هائلاً، فقد رصدتُ في تلك الزاوية التي كنتُ قابعاً فيها، بعض الأشخاص منهم من يحمل البارودة على كتفه، ويحمل بين يديه مسروقات من بيوت، وهناك من سرق دراجة نارية من أحد الثوّار، وثائر آخر كان غاضباً وهائجاً لسرقة سلاحه ، بعد أن دفنه في حفرة، بحضرة فيمن يظن أنهم ثوّارٌ أمناءٌ مثله".

- فطين: "وهل لديك الدليل ؟، لأنني من الصعب تصديق ما سمعتُ منك".

- الروبوت: "بكل تأكيد، هيّا افتح جهاز (اللابتوب)، واشبكْ منه وصلة (اليو إس بي) إلى هذه الفتحة التي بجانبي، لتسمع بالصوت، وترى بالصورة، الحقيقة المؤلمة التي لا تدعُ مجالاً للشك أبداً، بإمكانك الاحتفاظ بنسخة منها على جهازك كوثيقة، من أجل المستقبل. و ها أنا أعلن انشقاقي على يديك".  

- فطين: "هل تحتاج لشحن كهربائي لتجديد طاقتك، لأن موعد قطع الكهرباء بعد ساعتين، ولا ندري كم من الوقت حتى تأتي مرةً أخرى".

- الروبوت: "أنا طاقتي ذاتية، تتولد من خلايا نووية تتجدد باستمرار".

فطينٌ في حالة ذهول وشرود ذهن، وأفكار سوداء تعتمل في عقله، ويأس وإحباط لسيطرة  تلك الحالة عليه لفترة من الزمن، ضربَ كفّاً بكفِّ متأسِّفاُ.. " يا حيف على الشباب ".

 

 

يا ولدي قد مات شهيداً

 

الدارُ خاويةٌ على عروشها في عيون العائلة المَكْلُومة، جفّت ينابيع السعادة في حياتهم، أسراب الحزن تُخيِّم كآبةً على ربوعهم، مرارةٌ ترسّختْ في حلوقهم، دموع الأم لا تنقطع على مدار الساعة، الأب متماسك فلا ينحني، ولا تظهر ملامح الجزع عليه مخافة أن يتسلل الدّاءُ للأسرة، نَفَقٌ مُظلِمٌ كَمَتاهةٍ جليدية قُطبيّة.

رنينّ جرس الهاتف الثابت، لا يهدأ، أقضّ مضجع أبو حمزة، تَمْلَمَلَ .. تَقَلَّبَ .. غالبه النُّعاس .. الوقت متأخر.. عقارب الساعة تُشير للثانية صباحاً.

 صوتٌ أجَشٌّ يأتيه بارداً عبر الأسلاك، في ذلك الصباح الربيعي، فيرفع درجة حرارة أبو حمزة، ضاقت أنفاسه، صخرةٌ أطْبَقَتْ على صدره، كَتَمَتْ أنفاسه، هواجس تنهبُ روحه، رفع السَمّاعة: "ألو .. مَنْ ؟".

- "هنا مكتب المحافظ".

- أهلا وسهلاً، تفضّل.

- "عليكم الحضور في العاشرة صباحاً لمديرية الصحة، لاستلام جثة ابنكم حمزة".

- رجاء أّعِدْ، لم أسمعك جيّداً.

- جواب مُكرَّرٌ يأتيه كالمرّة الأولى.

 تراختْ يدهُ عن سمّاعة الهاتف لتقع على الأرض، صدمة هائلة غير مُتَوَقّعة أبداً، صورة حمزة لم تفارقه لحظة واحدة، كل لحظة كان ينتظر إخلاء سبيل طفله ذي الأحد عشر ربيعاً.

 

***

 

هبّتْ الأم من فراشها مذعورة، لمّا تأخرتْ عودته للفراشْ، لم يُسْعِفها لسانها بالسؤال عن المكالمة، نظرتْ للسمّاعة تتدلى على الأرض، زوجها يفترش الأرض، كأن الفالج قد أتى عليه، فَحَطَّمّ قدرته الحركيّة، أمْطَرَتْهُ بوابِلَ من أسئلتها، ولا مِنْ مجيبْ..

انخرطتْ بنوبة بكاءٍ هِستيرية غير معهودة، لسانها يتلجلج بكلام مُغَمْغَمْ:" يا ولدي قد مات شهيداً " .

صحا أبو حمزة من سَكْرَتِهِ على وقع صدمة كلماتها، نائحِةٌ على ابنها الذي لم يقترف ذنْباً، راح يسترجع شريط الذكرى الدامية، عندما حمل حمزة ربطة خبز لأهل مدينة درعا المُحاصَرين، اعتقل حَيَّاً مع الكثيرين يوم 29\4\2011م، في مساكن صيدا، هذا اليوم المشهود غير المسبوق.

 

        ***

        

 في مكتب مدير الصحة، قُدِّمتْ له ورقة، عليه أن يُوقِّعَها: "يتعهد فيها بأن لا يقيم عزاء عاماً، و لا يحق له أي مُلاحقة قضائية لأية جهة تمثل الحكومة مستقبلاً، وأن العصابات الإرهابية هي التي قامت بٍقَتْل ابنه", تهتزّ يده .. يرتجف القلم، أصابه شيءٌ من التردد، احتجّ : "هذا كذب وهُرَاء".

- صوتٌ أجشٌ، بلهجةٍ آمِرَهْ : " كلامٌ سخيف ..!! ..، وَقّعْ بالتي أحْسَنْ، جثةً ابنك تنتظركَ هناك في الثلاّجة، وإلاّ .. و إلاّ".

 

***

 

شاع الخبر في القرية وجوارها، أثار صدمة، غير متوقعة همجية اعتقال الأطفال، وموتهم في المعتقلات، أجواء مشحونة بالغضب، الوجوهُ كاشحةٌ عابسةٌ، كأن ملَكَ الموت نظر إليها، ذهولٌ عجيبٌ، عويلُ النَّساء يأتي كَمَيَاسِم تَكْوي قلوب الرجال والشباب، يقرع أسماعهم بعنفٍ مثيرٍ لرغبتهم في الإصرار على المضي في الطريق، فإما النصر أو الشهادة.

 

***

 

يُفتَح التابوت المشموعُ، (الكاميرا) نَقَلَتْ آثار التعذيب الوحشي البادية على الجسد، والتمثيل به و(قطع العضو الذكري)، كما أنَّ بعض الأجزاء أصابها التفتت و التفسّخ، جراء الإهمال للجثة بعد الوفاة، عيون الرجال تدمع ..، عيون الشباب تدمع..، صيحةُ التَّكبير أطلقها أحدهم، اهتزّت لها القلوب، هتاف الأفواه المبحوحة، بقوة وعنف غاضب:" الله أكبر.. الله أكبر "، فتزلزلتْ جَنَباتُ الكون.

 

***

 

أًعيدتْ أجزاء الكَفَن لتغطية الجثة، وتركوا الوجه المشرق، أمُّ حمزة ارتمتْ على جسد ابنها .. تقبيل عميق .. دموعها بَلّلَتْ وجهه، بضع دقائق وهي على هذه الحال..

***  

 

اكتمل تصوير المشهد وتشييعه لمثواه الأخير، بعد ساعة فقط، وكالات الأنباء العالمية بثّتْ مقطع الفيديو، المنشور على اليوتيوب، (حمزة الخطيب.. أيقونة الثورة السورية).

 

ن

 

 

 

 

مع الذات ..

 

 

سماكة الجدران ورطوبتها  اكتنزت الظلمة الدامسة, و تقهر النظرات فتحدّ من الرؤية التي تنكسر إثر اصطدامها بالجدران, ورائحة العفونة المنبعثة إلى الباب العلوي وهو المنفذ الوحيد الذي يرتفع لأكثر من أربعين درجة, وهي ضِعْفُ سنوات السجن, الذي يقبع به وهو يحرك يديه للتأكد من وجودها خارج القيود والأصفاد، ويتلمس أعضاء جسده, وبحمد الله، يتيقّن أنه ما زال على قيد الحياة, التي استحالت إلى لا شيءٍ معدومة الفعل والفاعلية, مُنفعلة وهي تحاكي خيوط ضوء خفيف يتسرّبُ إلى القبو من قارّةٍ أخرى, تشقّ عُبَاب الظلام، تكتب أنشودة الأمل من جديد، و تجعله مشرقاً في تلك العيون التي بهرها ذلك السنا الخافت, وأيقنَ أن هناك على السطح؛ ما زالت الشمس تشرق من جديد كلّ يوم, وأن القمر ما زال في السماء, وقد يرسل خيوط نوره الشاحب؛ عندما يَبْدُرُ في منتصف كل شهر هجري. يمدّ يديه بشكل مستقيم بحيث تتوازيان مع الكتف؛ لإحساسه بالفراغ الهائل حين سَاقَهُ ظنّه إلى أنه ذرّة تائهة في درب التبّانة, ولكن جاءه الجواب بسرعة؛ حين اصطدمت يداه بالجدارين المتقابلين, نزلتْ الطمأنينة على قلبه، وخطا خطوة واحدة فقط حتى التصق جسده بالجدار بقوة, فتسللتْ إليه نبضات متوترة عبر الجدار، وقد اقتبسها ذلك البناء الضخم المتكوّم فوق سطح الأرض في صحراء النّقَبْ (سجن عسقلان), سَرَتْ النبضات بطيئة جداً ببطء الزمن الذي عاني منه على مدى أكثر من عشرين عاماً, و هو الطالب الذي كان يدرس في الثانوية العامة, حين أمسكت به دورية من الجيش الصهيوني، وهو يرمي الحجارة مع الصبية الذين معه على أطرف مدينة جنين, وسيق مع قطيع مثله وأصبح رقماً فقط, لا يعني شيئاً إلاّ أنه في سجلاتهم موجود كإرهابي يعمل على تقويض دولة إسرائيل, وعدوها اللدود، فلم تشفع له طفولته, بل شارف الآن على أن نهاية العقد الرابع من العمر الذي لم يكن عُمُراً, كان حالماً وهو في المدرسة يرنو إلى المستقبل بأن يكون طبيباً، يداوي جراح الناس البسطاء في جنين، ويحنو عليهم, الزنزانة المظلمة دُفِنَ فيها، ودفنت أحلامه فيها؛ فكانت كالقبر الأبدي، ماتت أحلامه، و لم تجد طريقاً لها؛ بعد الحكم الظالم الذي صدر بحقه، من  القضاء الإسرائيلي بخمسة وعشرين عاماً, هنا انتبه فجأة على انقطاع لحظة الصمت الثقيل المُرين على المكان, بصوت صرير الباب العلوي عندما يُحدث ضجيجه  مختلطاً بأصوات الجنود بِلُغَتِهم العِبْرِيّة، في كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة؛ لإدخال الطعام لسكان الزنازين, هنا استفاق، وحاول أن يُبعد نفسه خُفيةً عن أعين الجنود, ويغطي عينيه  بضع دقائق؛ ليتمكن من أن يفتحهما؛ و ذلك من توهج النور الذي دخل من الباب، و مع تشغيل المصابيح الكهربائية التي لا تعمل إلا عندما يدخل أحد السجانين أو الحراس....

 

 

 

 

 

 

 

 

حفيدة الآغا ..

 

صمتَ الجميع عندما اقترب خيالها من باب الصالة, توجهتِ العيون تلقاء الباب لاستقبالها, دخلتْ والخُيَلاءُ يسبقها , ورائحة العطر استباحت أنوفهم؛ واستقرت في قلوبهم, والتنهدات من بعضهم, ومن يحدث نفسه تفضحه ملامح الوجه، وقفوا تبجيلاً واحتراماً وتملقاَ, كبير الجالسين بوظيفته تقدم لمصافحتها، وقبّل يدها، ورفعها إلى جبينه, وهي تتعالى بأنفةٍ ذات عمق برجوازي قديم موروث من جدّها الآغا, الذي كان يملك تلك القرية, وكل من فيها , من رعايا الآغا, يعملون ويأكلون ويتناسلون, وهم في بيوتهم الطينية الحقيرة البائسة, ولا أحد بمنجاة من سلطة الآغا وحاشيته التي تعمل على إرضائه، ومسايرة نزواته اللامنطقية, ويقبضون أجورهم من فتات ما تجود به يده, و يملؤون بطونهم من بقايا مائدته, انمحى عهد الآغا منذ أكثر من خمسين عاماً, وأصبح تجمع قرية الفلاحين مدينة كبيرة فيها الشوارع المعبدة والكهرباء, ومبنى البلدية الجميل ومخفر الشرطة, ونسي الناس الآغا وأيامه السوداء, لكن الأجيال الحديثة لم تعلم ولا تعرف شيئاً عن قديم تلك القرية التي أصبحت من أهم المدن. جاءت حفيدة الآغا لاستخراج وثيقة إثبات شخصية من دائرة النفوس في مسقط رأسها, فاحتفى بها الكبار, في صالة البلدية, وهي تتعالى على طيبة ووفاء هؤلاء الناس البسطاء الذين يتعاملون مع الآخرين بنبل أخلاقهم، وما نسوا الخبز والملح رغم صعوبة الحصول عليه في زمن جدها الآغا، ولسان حالهم يقول العشرة لا تهون إلا على أولاد الحرام.

 

 

 

 

 

 

هاربٌ من نرجسيّتي

 

اكتشفتُ نفسي متأخراً، أنني على درجة عالية من النرجسيّة، فأرى في نفسي أني أحسن وأفضل من الآخرين، ممن أراهم و ألتقيهم، وأتعامل معهم بحكم عملي المهني كـ (حلاّق). فصنعتُ بُرْجاً عاجِيَّاُ.. جلستُ فيه أعاينُ الأمور من موقعي، مُترَفِّعاً بعيداً عن واقعي.

في الخريف تأملتُ شجرة رابضة في ساحة الدار من خلال النافذة، بعدما تعبتُ من الجلوس خلف حاسوبي لساعات طويلة، قمتُ من مكاني، الخَدَرُ يتناسل من أصابع يديّ وقدميّ، عظامي واهنة، وجهي شاحبٌ، عيناي غائرتان في مِحْجَرَيْهِما أرهقهما طول النظر في شاشه الحاسوب، وأنا أنتقل بين مواقع الأنترنت، بإدمان عجيب، فنجانُ القهوة بجانبي يتجدد كل ساعتين، و ابريق الشاي لا يفارقني إلاّ في حالات النوم، كما أن ثلاث علب سجائر باتت لا تكفيني خلال اليوم الواحد، حيث زادت لتصبح أربع علب، بعملية حسابية ضاق بها عقلي، ثمانون لفافة تبغ يومياً، احتراق وأي احتراق، انتحار عجيب يأخذني في متاهات مجهولة، حقيقة لا أدري تلك المخاطر عندما استجدَّتْ في دروب حياتي، وإرهاق مادي، رغم أن أول أولوياتي كلاجئ رغيف خبزٍ لأطفالي، و هم يتضوَّرون جوعاً، ينتظرون (كُوبُونَ) الإعاشة من العم (بَانْ كيمون)، فلو لا ذلك الرجل الذي يرأس الهيئة الأممية الشحّادة الدُّمْيةُ في أيدي الكبار، وهي تكيل بمكيالين، فما الذي يجري لنا، بلادنا قذفت بنا إلى قعر مخيمات اللجوء، لنترك البيوت العامرة، ونسكن بؤس الخيام، وما أدراكم ما الخيام..!!، الصعوبات الحياتية اليومية وعلى مدار الساعة، هربتُ مع عائلتي في ليلة ليلاء، قاطعاً أسلاك المخيم لأول قرية مجاورة له، في رحلة عذاب طويلة في مسلسل لا ينتهي من غلاء المعيشة، و ارتفاع إيجارات البيوت، و البحث عن عمل مهما كان، الاستغلال لي في النواحي التي سلكتها، صبرتُ متجرعاً مُرّ العلقم.

سُوسَةٌ نَخَرَتْ شخصيتي، كما نَخَرَتْ عصا سيدنا سليمان عليه السلام، و شيئاً فشيئاً تعرّى داخلي، قواعدي و مرتكزاتي في لحظة ما، صارت تافهة بلا معنى، انهدم كل شيء وانتهى، و كأنّ شيئاً لم يكنْ ..، عندما فقدتُ المحبة الحقيقية، أهلي عافوني، أصدقائي وخِلاّني هجروني.

أصحبتُ عارياً تماماً كالشجرة تلك..!!

فلم أكنْ أرى إلاّ نفسي ..،  فلا عطر أزكي من عطري ..، و لا ثوب أجمل من ثوبي ..، و لا وجه أنضر من وجهي ..، و لا فكرة أقوى من فكرتي .. أنا ..، وأنا فقط ..، فلأعِشْ، و ليفنى العالم من بعدي. في صحراء تيهي .. تورّمَ غُروري .. وتضخّم أنَايَ بين الكُثبان.. منبوذاً كصنم حطّمة عُبّادهُ بعدما اهتدوا.. يا إلهي ..!!،  ما العمل ..؟.

ها أنا وحيدٌ أُكلِّمُ نفسي، الجُدران عابسةٌ كوجه مُغَسِّلِ الأموات الكالح، لا يأبه لغبار الموت وهو يغطي ملامحه، ضاقت الدنيا فصارتْ كَسُمِّ إبرة، أذوي شيئاً فشيئاً، فأهرب للعالم الافتراضي على الأنترنت، كوَّنْتُ عالماً وهمياً من الصداقات، لا أعرف شيئاً عمّنْ أطلب صداقتهم أو يطلبوني إياها، أهُمْ من الأخيار أم من الأشرار..؟، يا تُرى هل هم مثلي؟، هجروا واقعهم كهجرة الأدمغة العربية، من مستنقع بلادهم الضحل، فاضمحلّتْ قدراتهم، ومات ابداعهم، فاستقبلتهم بلاد العم سام، تُمَهِّدُ لهم الطريق المزينة بالورود وتحقيق أحلامهم. الصمت القاتل يخيّم على غرفتي، عفنٌ مُتوطِّنٌ، كآبة دائمة، اطفأتُ الأنوار قبيل الفجر، الكسل وحُبّ النوم، أفقدني عملي الذي لم أكنْ أكسبُ منه إلا الشيء القليل، أرباب العمل يطلبون الكثير من الأعمال، ولا يدفعون إلا أجوراً زهيدة.

 

 

جدّتي منيفة ..

 

شاءت الأقدار، أن تكتبَ صفحة مغايرة لحياتي الطبيعية، وأن تكون جدّتي لأمي - منيفة -،  حاضنتي، بعد طلاق أمّي بشهرين من ولادتي، أمي تزوّجت، وكنت يومها في عامي الخامس من عمري، حدث فراغ هائل، كأنه المجهول في حياتي.

- وأي حضن يعادل حضنك .. يا أمي، إلاّ حضنك .. يا جدّتي.

 نبع حنان دافق بعطاء بلا حدود، عوّضني الكثير عما أحتاجه من دفء أحضان أمي، أغدقت عليّ من الأمان و الاستقرار الروحي والنفسي، من أنفاسها نسجتُ أحلامها؛ بأن أشِبًّ على مدارج الشباب، ومن صفحات روحها البيضاء أضافتها إلى صفحتي ، فانتشَتْ التربة الصالحة لِنَبْتٍ مُعافى من التشرّد و الانحراف.

- شآبيبُ الرّحمة تُرطِّبُ تربة قبركِ .. يا نبع عطاء لم ينبض .. حتى وُوْرِيَ الجسدُ النحيل مثواه الأخير.

من القصص الأثيرة إلى  نفسها، فلا تفتأ تتحدث بها، تُعيدها وهي لا تدري أنني حفظتها عن ظهر قلب، وكثيراً ما كنتُ أتعمّد تذكيرها بها؛ بقصد إدخال السرور على قلبها، و يحدُثُ ذلك على فترات متباعدة كنت أُذَكرّها بها، فتبتسم، وتغيب في سراديب ذاكرتها، لتصل إلى رحاب شبابها، ولأولى سنوات عمرها المليئة بالحيوية و النشاط .. وتسردُ القصة نديةً ، كما سمعتُها منها لأول مرة في حياتي، نعرف أنّ زمنها غير زماننا بحياة مختلفة، ففي أيام الفلاحين، و في الأرياف كان بساطة الحياة لدرجة كبيرة, كانت جدتي تذهب إلى مسجد فاطمة الأثري بجانب بيت جدي في كل وقت، هكذا بكل بساطة على سجيّتها، وفي ذات يوم كانت تتجاذب أطراف الحديث مع جارتها، التي يبدو أنها سمعت معلومة؛ بأنه لا يجوز خروج المرأة من البيت إلاّ بإذن الزوج، وهي بهذا تُعْتَبَر مثقفة، وحالتها متقدمة على حالة جدتي، وتوجهت بسؤالها لجدتي: فهل تأخذين إذن زوجك للمجيء إلى المسجد؟.

- قالت جدتي: " لا والله، هذه أول مرة أسمع وأعرف ذلك".

- قالت لها الجارة: " إذا كان ذلك فإن صلاتك غير جائزة، عليك أن تأخذي الإذن من زوجك".

- هزّت جدتي منيفة رأسها باستغراب مما سمعت، وتأسفت على تعبها الذي ضاع في العبادة، كونها لم تأخذ إذن جدّي. كان ذلك وقت صلاة الظهر.. وصممت فيما بينها و بين نفسها، أن تسأل جدّي الإذن لها بذلك.

حان وقت العصر؛ فتهيأتْ للذهاب للمسجد، و عرّجت على جدي وهو جالس في المضافة، فاتكأتْ على صرعة الباب، وقالت:" يا محمد، أريد الذهاب للصلاة في المسجد، فهل تأذن لي؟ ".

- ضحك .. وأطلقها مجلجلة ..!!، وقال لها:" لا مانع عندي طبعاً، حتى لو ذهبت للصلاة في الجامع الُأُمويّ ".

 وعند هذه النقطة؛ تنفلت ضحكتها حتى يصعب عليها متابعة الكلام والإفصاح عن مشاعرها, و أقول لها يا جدتي: " هذا إذن مفتوح بلا قيد ولا شرط ".

تهزّ رأسها إيجاباً ..، وكأن الموقف تجسّد أمام عينها الدامعتين،  وهي تجففهما بقطعة قماش ناعمة.. مربوطة بطرف منديلها. ثم تصمت فجأة، كأن شيئاً أصمتَها، وتغرورق عيناها بدموع غير تلك السابقة.

 

رنيـــــــــــــــــــــــــن ..

 

على غير العادة، جاء هذا اليوم حافلاً بمفاجآتٍ غير متوقعة أصلاً، حتى ولو حدثَتْ فَلَنْ تأتي على الشكل الذي حدث، وتكون نسخةً نموذجيةً لفوضى التقنية المستخدمة حالياً على نطاقٍ شعبيٍ واسعٍ، أمران عندما أتذكرهُما، ينفجر قلبي من نوبة الضحك الهستيرية التي تنتابني، ومَنْ لا يعرِفُني فقد يتهمني بالجنون، في كثير من الأوقات أكتمُ أنفاسي متحاملاَ على نفسي، لِكَيْلا تأتيني الحالة، ويكون أمراً غير محمود أبداً.

صمتٌ مُطبِقٌ، مُجَلّلٌ بخشوعٍ إيماني منقطع النظير، تتجلى الرحمة على المكان، ونحن في إحدى المقابلات الربانيّة، قلوب ترتفع وتهبط ، وألسنة تلهج بالدعاء، مستكينة مُتذللةً آملة الإجابة من خالقها، ننتظم في الصف، ونُنْصِتُ لتنبيه الإمام .. الآمِرْ: "استوَوُااااا ... يرحمكم الله.. لا تدعوا للشيطان فُرجة بينكم " وهو ينظر إلينا طالباً الالتزام بالخيط المنتصب من الجانب الأيمن إلى الأيسر في ذلك المسجد القديم، المليء بعبق التاريخ، روحانية هائلة تكتنفه، ورهبة مشوبة بالطمأنينة الروحية عندما تطأ قدمايَ عَتَبَتَهُ.

استوى الصف على استقامة، و اطمأن الإمام لذلك .. فاستدار للمحراب، ورفع يديه محاذاة أذنيه مُعْلِناً تكبيرة الإحرام، فما إن دخلنا في الصلاة،  - و كان وقت الظهر- إلا أن رنين هاتف أحدهم النقال، انطلق بنغمة مخصصة بصوت الربابة الشعبية، و التي تستوي مع لدى الكثير ممن يسمعها ويترنم على نغماتها الشجية، المترافقة مع صوت عازف بنغمٍ شجيٍّ، أو شاعر يشدو بقصائده النبطيّة باللهجة المحلية المحكية، ومن الناس من يحفظ تلك القصائد عن ظهر قلب. المُتَّصِلُ ينتظر الإجابة حتى انتهى وقت الرنين، ثم أعاد الكرّة، لينطلق الرنين من جديد، تشتتْ أفكاري، وتبددت سحائب الخشوع من قلبي، وهو ما أصاب جميع المُصلّين مثلي، انتهى زمن الرنين الثاني، وقبل أن يبتدىء بالمرة الثالثة، كنا في الركعة الرابعة؛ فأعلن الإمام الانتهاء من الصلاة بالتسليم.

 - بالطبع ما أصابني أصاب كلّ المصلين في المسجد -

ما لم نكن نتوقعه غضب أبو خالد الشديد مما حدث، فانطلق باللّوم والتعنيف على صاحب الموبايل مما حدث: "ما هذا يا محترم، قُمْ وانقلع، إنّ الله ليس بحاجة لصلاتكم..".

رد أبو خشم: " هذا ليس هاتفي، بل هاتف الفلتان ..".

- : "قاتلك الله أنتَ والفلتان".

نقاشٌ ممتع، رغم خسارتي للخشوع، ولم أعرف ماذا قرأت، وفي أية ركعة صرتْ، ولا  دَرَيِتُ كيف انتهت صلاتي، صوت الربابة يدوي في المسجد؛ بضجيج كسر رتابة الهدوء المطلوب هنا.

استدار الإمام بوجهه إلينا، وهو يتمتم بالأدعية التي تعقب الصلاة، رفع صوته: "لا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم، يا شباب كان الأجدى أن تضعوا هواتفكم على الوضعية الصامتة، ما حصل مزعج جداً، وقد ضاعت علينا الصلاة، ما رأيكم أن نعيدها، حتى ننال الأجر و الثواب كاملاً تاماً" .

اختلفت الآراء، فقام من قام من المصلين، ومن بقي انخرطوا في نقاش حادٍّ، استغرق بعض الوقت، الأمر الذي حَدَا بالإمام لسحب مقترحة خوفاً من حدوث ما لا تُحمَدُ عُقباه..

 

                                                                                                  

 

قواعد جديدة ..

 

في لحظة فارقة من الحياة، جلستُ أستريح من عناء يوم عمل طويل، أنتظر مجيء الطعام بفارغ الصبر، جاءني ابني للحديث معي، وإخباري بما ينوي القيام به، وبما توصل إليه من خلال تحليلاته وملاحظاته.

- أبي، سأحدثك بفكرة جنونية، تراودني منذ أيام، ولم أستطع التوصل لنقطة حاسمة بشأنها، وسأحكي لك تفاصيلها، لعلني أجد بُغيتي في نقاشي معك.

- هات أسمعني، وكلي آذانٌ صاغية لك.

-  فكرتي بخصوص لعبة الشطرنج.

- و ما بها ؟.

- ألا ترى يا أبي، أنها بالطريقة المعروفة، صارت موضة قديمة، خلال بحثي الدائب، لم أجد من فكّر بتطوير هذه اللعبة، بأسلوب جديد يتماشى مع روح العولمة.

- أوه .. ما هذا الكلام الذي أسمعه ..!!, وهل ضربتَ بعرض الحائط، كل خطط أبطال العالم فلا يأتيها الفشل من بين يديها، ولا من خلفها ؟، ومعلوم لديك كاسباروف، وخططه الجهنميّة التي تُدَرّس على مستوى الكون أجمع، أما قصة تفوقه على الحاسوب فلها حديث آخر و مُطوّل . أجدأأ

- أبي .. أرجوك اسمعني، و لك أن تحكم على فكرتي بعد سماعها.

- تفضل، وها أنا كُلِّي آذان صاغية لك.

- تعلم أن هناك فريقان (أسود وأبيض) يتصارعان بعداوة، ولكل فريق قيادته، وأدواته، وحِيَلهُ، وخططه المستخدمة، من أجل النّيْل من الخصم، أليس كذلك ؟، وعلى هذا الأساس وضعت الخطط لهذه اللعبة.

- نعم.

- لكنني سأقلبُ المعادلة كلها رأساً على عقب.

- وكيف ذلك ..!!..؟.

- سأجعل من الفريق الواحد فريقيْن متخاصميْن متناحريْن، وسأبني استنتاجاتي على ذلك، في تفصيل القواعد الجديدة على هذا الأساس.

- هذا لعبٌ بالثوابت، أعتقد أنه غير مسموح به.

- ما رأيك لو أنني قمتُ بتسجيل اختراعي، في جمعية الملكية الفكرية، من أجل المحافظة على ابتكاري من السرقة.

- يا خوف قلبي من القادم المجهول، فنظريتُك من الممكن أن تُهَدِّدَ السلم العالمي، وتمحور الكتلتين الشرقية و الغربية، مما يجعل الاستنفار الكامل، و القلق يسيطر على سادة العالم.

- ولكن يا أبي، أنا بعيد عن هذه الحسابات الدقيقة و الحساسة، كل تفكيري منصَبٌّ فقط على لعبة الشطرنج.

- نعم يا بني، كلامك صحيح، العالم كله صار رقعة شطرنج، واللاعبان الأساسيان هم من يتحكمان بالرقعة، وتحريك بيادقها، بالطريقة التي تعجبهما، وعليها يشربان نخبيْهما.

- أبي .. يا أبي .. لو كنت أعلم شيئاً عن هذه الحسابات الدقيقة، لما فكرتُ في ذلك، اعذرني.. إن تسببت لك بالمتاعب مستقبلاً.

- كل التعب يهون، و أنا أرى نظريتك موضع التطبيق، عندما يتبنّاها أحد القطبين العالميين.. !!، وتفوز بالجوائز العالمية، إن بقيتُ على قيد الحياة.

جاء الطعام، وتقدمتُ إليه ألتهمه، لأسْكِتَ عصافير بطني، بينما ابني قام إلى جهاز حاسوبه، يتابع طريقه الذي بدأه..

 

غَفْوةٌ في مقبرة

 

 

ما هي إلا بضع دقائق من انطلاق الباص المتجه بنا إلى عمّان، حتى دخلنا في قرية الجُدَيْدَة، وقديماً كانت تسمّى (رجم الغراب)، لولا قراءتي لرواية (أهل الخطوة) للكاتبة رِفْقَه دُودِينْ، لما كنتُ قد عرفت شيئاً عن التاريخ غير البعيد للمنطقة، الباص يسير بسرعة الريح، على مسافة بعيدة من القرية شرقاً شيئاً ما، على تخوم صحراء موحشة، تقوم مقبرة القرية محاطة بسورها الإسمنتي الحديث، ومظلة للوقاية من عوامل الطقس صيفاً و شتاء للمشيّعين.

حقيقة لا أدري ما الأمر الذي جعلني في هذه اللحظة، في هذه البقعة كذلك، أن أستحضر الشاعر مالك بن الريب، عندما رثى نفسه، وقد تخيّلَ حاله يُقْتَلْ في معركة ما، و هو الفارس الصنديد المعدود في فرسان العرب، يموت فلا يجد من يبكي عليه إلا فرسه ورمحه وأخته وباكية أخرى تُهيِّجُ البواكيا.

الموت حق و لا جدال في ذلك، أموات هذه المقبرة بؤساء حقيقة، فلاةٌ مُنْفَتِحَةٌ على قساوة الطبيعة، ممتدة على امتداد البصر، فكما يقال: " فلا طير طائر، ولا وحش غاير"، وحده صفير الريح موسيقى صوت بؤس المكان، ونباح الكلاب الضالة، أخيراً تأكدتُ أن مشاعري ترفضُ الموت في قَفْرَةٍ من الخلاء، لا ناس فيها ولا بشر، ولا ماء ولا شجر..

في المنتصف الأول من عقد تسعينيات القرن الماضي، سافرتُ إلى أبو ظبي بقصد العمل هناك، لتحسين أوضاعي المادية المتردية، قادتني الظروف للتعرف على الصديق ناصر المتميز بثقافته الواسعة الباهرة، ازدادتْ دهشتي به؛ بما رأيت منه ذاكرة قوية مترافقة مع فصاحة بالنطق، بلكنةٍ محببة إلى قلبي بموسيقاها وطريقة الإلقاء، عندما روى لي قصيدة مالك بن الريب كاملة ، علقتْ بذهني، أتعبني البحث المضني عنها بسؤال أهل العلم في مضمار الشعر، جميعهم أقرّوا بمعرفتها لكن المشكلة كانت في المرجع الذي يحتويها، بعد ثلاث سنوات انعقد معرض للكتاب في أبو ظبي، حيث أنه فرصة لي للاطلاع على الكتب الجديدة و القديمة، شاقتني رواية عبدالرحمن منيف (مدن الملح)، سوء حظي لازَمَنِي في هذا المعرض، لأنني لم أجد طلبي، ولكني وجدتُ روايته الجديدة وقتها (عروة الزمان الباهي)، تحكي قصة مناضل جزائري، من أصدقاء الكاتب، تسمّرتْ عيناي، شدّة التأثير أسَرَتْني، وأنا أقلبُ صفحاتها من آخر الكتاب إلى بدايته، لا أدري إن كانت هذه العادة مرذولة في القراءة، انتبهت فيما بعد لنفسي كثيراً في هذه النقطة بالذات، القراءة المعكوسة لكل كتاب جديد تقع عليه يديّ.

أعتقد أن الرواية كانت كنزاً كبيراً حصلتُ عليه، خاصة و أنها المرة الأولى التي أقرأ فيها شيئاً من أدب (منيف)، سَرَتْ الطمأنينة في نفسي، وأنا أقرأ القصيدة، ازداد قلبي سروراً كلما عُدْتُ لها، ولو أنني أتمتع بشيء من التركيز لكنتُ حفظتها تلاوة، الأيام باعدتني عن صديقي ناصر، ولم ألتق به منذ تلك الأيام وجهاً لوجه، عدا عن لقاءاتي به من خلال الفيس بوك.

من الطرافة شعورنا بالموت، ونحن نمارس الحياة، إلا أن ذلك الصباح الذي توجهتُ فيه إلى العاصمة عمّانْ، خالجني أمر الموت،  تخيّلتُ أن قبري في هذه القفرة البائسة، رغم اخضرار الأرض بربيعها الموسمي على امتداد البصر، لكن الخوف استبد بقلبي و أحاسيسي، يا إلهي ..!! هجرتُ بلدي، لجأتُ إلى الكرك، أريد أن يكون قبري في بلدي، حبال مقبرة رجم الغراب أوثقتني، لم تمهلني لاجتيازها حتى أصل إلى منطقة (اللّجُون)، ونبع مائه الصافي الزلال، هو لا يبتعد سوى ثلاثة كيلو مترات، حيث الماء و الحياة، تضج في مزارع الخضروات، مجاميع الأغنام في هذه المنطقة الرعوية، حياة تتشبث في الأرض أملاً بالعيش، رغماً عن قساوة الطبيعة. 

في المقبرة لا ماء و لا شجر، لا أنيس ولا مؤنس، صفير الريح أنشودة القَفْرِ الكئيبة، قبور متجاورة بصمتها المطبق المرعب، استلمتُ قبري بعد جهد جهيد من تشييعي، افترشته بعد أن غادرني الصَّحْبُ، وقْعُ أقدامهم يبتعد رويداً رويدا، يتلاشى كطوفان السراب في المدى، يا إلهي ..!!، الموتُ كَمَداً في غربة وبُعَادٍ على الوطن، ودندنة أمي بأغنية شعبية حفظتُها على غير إرادة مني، على كثرة ما رَدَّدَتْها أمامي، و على مسمعي: (يا يُمّهْ يلّلا على الغُرْبَهْ ... ما لي صديقن يُسَلِّينِي - حفرُوا قبري أهْل النَّخْوَهْ ... وشيّعُوا نَعْشِي الغريبيني).

أمّاه .. يا أمّاه ، ها هي ورودي ذبلتْ، وجفّ ماؤها، الحياة جفّت في عروقي، توقف نبض قلبي، ولا من يَبْكِينِي .. ولا من دُموعٍ تُبَللُ ثرى قبري ..، جلستُ مُتبرِّماً بحالي مُتّخِذاً قراري بتقديم طلب نقل رُفَاتي إلى مقبرة قريتي، وها أنتظر من جديد الموافقة, اسْتَفَقْتُ من غفوةٍ؛ أخذتني في مجاهل بعيدة قريبة، وإذا بالباص ينعطف نزولاً إلى وادي اللَّجون، حيث الماء وضجيج الحياة.

 

اشــــــــــــــــتباك ..

 

 

لعلها المرة الأولى التي حصل فيه اشتباك، متزامن مع انصراف طالبات الثانوية من المدرسة، المقابلة للحاجز المتربع على ناصية الطريق المؤدي إلى بوابتها الرئيسة، الحاجز أصبح مصدر قلق وإزعاج لأهل البلدة عموماً، وسكّان الحي خاصة, لا سيّما أن حياتهم مرتبطة بالسوق لابتياع حاجياتهم اليومية، و المرور بهذه النقطة إجباريٌّ لا مفر منه.

عند الاقتراب من العسكري، تخفق القلوب باضطراب وخوف، الأيدي تتلمس الجيوب للتأكد من حمل الهويّة, ولكن ما بالك إذا كانت الهوية مكسورة، فهنا تضيق الأنفاس، و تهتز الثقة بالنفس خوفاً من افتراء العسكري عليهم، بأنهم كسروها لاستبدالهم بهوية الإمارات السلفيّة، حسب ما كانت تروّج له وسائل إعلام النظام. 

الأيدي على الصدور، التراكض في جميع الاتجاهات، الالتصاق بالجدران، فئة من الطالبات حالفهنّ الحظ بالدخول للمحلات التجارية حيث كان بعضها مفتوحة الأبواب.

شابٌّ يقف خلف الطاولة، التوترُ بادٍ على ملامحه، عيناه تدوران في رأسه برأرأةٍ تَشِي بِفَزَعٍ مُقْلِق، يفرك يديه ببعضهما، وهو يعضُّ على شفته السفلى، كاد الدم ينفر منها، وهو لا يدري بحاله، مجموعةٌ من الطالبات دخلن فجأة لدكانه المتخصص ببيع المواد الغذائية.

فوجئ الشاب(خ) بوجود الطالبة (ن) مع المجموعة: يا إلهي ها هي أمامي بشحمها ولحمها.. !!، نورها كالقمر أضاء المحل، كم تمنيت مواجهتها وجها لوجه، كمْ ملأتْ عليّ حياتي، أحببتُها فقط أنا، هي لا تدري بحبي، الخجل يمنعني من التصريح لها بمشاعري، ولكن ما العمل..؟، وكيف لي أن أتصرف..؟، الحيرة تقتلني، والمفاجأة تعقد لساني عن التفوّه ولو بكلمة.

أزيز الرصاص صمّ الآذان، وسيطر على الموقف، فلا تسمع صوتاً إلاّ همساً، خوفاً وتحسُّبا، نصف ساعة من الزمن امتدت عليها فترة الاشتباك بلا توقفٍ، غريزة القطيع سيطرت على الجميع، وحدها العيون تتحرك، والألسنة جامدة منخرسة لا تقوى على الكلام ولو همساً.

طلقة طائشة ارتطمت ببوابة الدكان المغلة، أثارت هلعاً، مما أخرج البنات من حالة الصمت المطبق، إلى الصراخ الحاد، في الخوف ينقلب كل شيء إلى مَوَاتْ، وتهبط المعنويات لدرجة يكاد أن يكون القبر حاضراً متخيلاً أمام أعينهم، و تصبح الحياة لا شيء، والتشبث بها دافع للنجاة.

قدماه ترتجفان، قلبه يخفق بقوة جعلت القميص يتحرك على وقع دقّات قلبه، رغم ذلك يتشجع الشاب (خ) ليظهر شجاعته ورجولته المكبوتة أمام البنات، ليقول: اطمئنوا يا بنات جاءت سليمة، ويمشي مجازفاً باتجاه الباب، يرفع باب السحّاب للأعلى، يجثو على ركبتيه، يُطِلّ برأسه من الفتحة التي أحدثها، رأى الطريق خالية تماماً، إلاّ من شاب و أمه يلوذان في زاوية متواريةٍ مقابلةٍ لدكانه، قام من مكانه متجهاً للثلاّجة، أخرج منها زجاجة ماء، شرب منها، وناول أخرى للبنات الواقفات، وهو متأكد أن حلوق الجميع جفّت، كما حصل معه.

عاد لمكانه على الكرسي وراء الطاولة، تلاقت عيونه بعيونها، اشتباك لا يقلُّ ضراوة عمّا يحصل في الخارج، سرح بعيداً، غاب على الوجود، جرى حديث مُبهم لا يعرفه إلا (خ و ن)، اتسعت حدقتا عينيْه؛ فسالت منهما دموع قاسية رغماً عنه، راح يجففهما بمنديل أخرجه من جيبه، هي غضّت بصرها خَفَراً وحياء، وتوارت برأسها خلف رأس إحدى زميلاتها.

هدأت الزوبعة، وصفا الجوّ من الأزيز، هدأت القلوب بعد ارتجاف، الأصوات تعلو في الخارج، قام من مكانه رافعاً الباب للأعلى، أطلّ برأسه في اتجاهات مختلفة، خرج صوته متلعثماً: يبدو أن الأمور هدأت، هيّا توكّلوا على الله، فقد ذهب الخطر.

كما أن الشاب الذي برفقة أمه نادى بأعلى صوته: هيّا بنا نذهب بسرعة قبل أن يتجدد الاشتباك ثانية, الحمد لله على سلامة الجميع، أكيد لم يُصَبْ أحد بمكروهٍ، لا سمح الله.

اتكأ الشاب (خ) على زاوية الباب، وهو يرقب خطوات (ن) فقط من بين زميلاتها، حتى انعطفت إلى طريق فرعي يؤدي إلى بيتها.

غرق في نسج خيالات بعيدة وقريبة، بنى عليها قصوراً من الأحلام، ولواعج قلبه الهائم، رنين الموبايل أخرجه من حالته على صوته أبيه ليطمئن عليه، و الاستفسار عمّا حصل.

 

 

 

ثرثرة على كرسي الحلاقة

 

 

ترك يده مرفوعة للحظات، عندما ألقى السلام على الحاضرين في الصالون، عيناه تتبعان إشارة بتلقي التحية منه، إلى أن رفعت يدي رداً على تحيته، أتبعتها بابتسامة وترحيب بقدوم (أبي عوض)، أنزل يده من محاذاة رأسه لتستقر مسبلة جانبه، ومن ثم لتعبث بجهاز الموبايل. 

يدخل للقلب بلا استئذان لبساطته التلقائية في تعاطيه مع الآخرين، إن كان يعرفهم أو لا يعرفهم؛ فيبادر بسؤالهم عن أحوالهم، ويبدأ بالدخول في موضوع ما، أو فيما يجول بخاطره.

قاطعته عندما شَبك بحديث جانبي مع شاب كان يجلس بجانبه: كيف حالك (أبو عوض)، أهلاً، ما أخبار (الفل أوبشن )؟.

- الابتسامة ملأت وجهه الأسمر المتغضن بخطوط امتدت إليه من مرارة الأيام ، فحفرت مساربها بعمق على جبينه وخدّيْه: (الفل أوبكشن) تمام مئة في المئة.

العقد السادس من العمر، أعتقد أن (أبا عوض)  تجاوزه بقليل من السنوات، أتصوّر أنها دون الخمس، ولكن المرح و روح الشباب تتزاحم مع عوامل أخرى؛ لتجعله يتقبل كل مزح بروح رياضية، و كما عبّر لي كثيراً عن رأيه، أنه لا شيء في هذه الحياة يستحق منا التعصيب و الزعل، رغم كثرة المعطيات المعيقة للمرح و التفاؤل.

مصطلح (الفل أوبشن)، وبلفظ أبو عوض (الفل أوبكشن)، تستهويني نبرة لفظها منه، وهي تقع على سمعي بسهولة، رغم كراهيتي لاستخدام الكلمات الأجنبية وإدخالها في الكلام فيما بيننا، وهذا المصطلح يطلقه (أبو عوض) على العديد من الأشياء التي يستخدمها في حياته، مثله في هذا كمثل أبي هايل وهو يطلق كلمة (المَجْحِي) على أشياء كثيرة، بحيث أن من لا يعرف طريقته تلك في التعبير و الكلام، يظنّها مسبّة وشتيمة، وقفت حائراً بين هاتين الكلمتيْن، وأجدني أقترب تحبباً إلى الكلمة العربية (المَجْحِي)، وهي تعبير عن إصابة الشيء بلعنة جحا، وأنفر من تلك الكلمة الغريبة عن روحي وقلبي.

انتهيت من الزبون الذي كان بين يديّ على كرسي الحلاقة، التفتُّ ثانية إلى أبي عوض وقد بقي وحده بعد خروج الشباب، قلت له: "تفضّل يا شيخ".

- أبو عوض: "زاد الله فضلك، يا أبا محمد، والله تعبان من الحياة والعمل، ولا راحة لأمثالنا إلا في القبر".

- صدقت، سيّدي، كأنك نسيت يا رجل، أن لقبي أبو هاشم، واسمي محمد.

- أبو عوض:  "آه، لا تؤاخذني فالعتب على الذاكرة، يا رب يرزقك بمحمد، كما أتمناه لك".

- سلمك الله.

- أبو عوض: "الصحبة بيننا لم تتعمق بالشكل المطلوب، فلو أنك تخدمني ببنت حلال سورية، فأنا أريد الزواج على سنة الله ورسوله، ولا أريد الحرام، وفي المدينة كل شيء مباح بالفلوس ومتاح بسهولة، بلا تعب وعناء، ولكنني في أول حياتي ما مشيت درب الزلق، ففي هذا العمر أوْلى بي أن أصون نفسي، وقد سبق لي أن عرضت الموضوع عليك بقصد مساعدتي، ولكنك (طنّشت) ولم تلق بالاً لطلبي، و(الفل أوبكشن) تمام، هناك من البنات من يطلبن الستر في ظلِّ زوج تعيش معه، ويحميها من صروف الدهر.

- سامحني، في الحقيقة أن علاقاتي الاجتماعيّة محدودة، ولو تذكر أنني اعتذرتُ منك سابقاً بخصوص هذا الموضوع، وليس بمقدرتي، كرامة لله اعذرني، أتمنى أن أسدي لك خدمة ذات قيمة، لو أنني أستطيع.

- أبو عوض: على كُلٍّ اعملْ جهدك، ولا تقصر، فإن الزواج بثانية موّال يدور في رأسي منذ زمان مضى.

- إن شاء الله، ولا أظنّ أنني قادر على ذلك.

سادت لحظة صمت في المحل، إلا من صوت طقطقة المقص، وهدير محركات السيارات العابرة للطريق الرئيسي من أمام الصالون. في هذه الأثناء انتهيت من قص الشعر ونفض بقاياه (بالشيسوار), و قلت: " نعيماً يا (أبا عوض)". ثم تناولتُ علبة (الجِلْ) السوداء، وأخذت منها قطعة على رأس إصبعي، رائحتها زاكية، وقرّبتها من أنفه، استنشق بعمق وهزّ رأسه علامة الرضا و السرور.

- أبو عوض، ابتسامة عريضة على اتّساع وجهه: "ربي يعطرك من عطر الجنّة "، اسمحْ لي أن أجلب لك مشروب بيبسي، إكراماً لك، أنت تستحق كل خير، وهذا تعبير عن محبتي لك، ومن أجل أن نجلس ونتحادث.

- لك ما تريد، لك خالص شكري.

 

 

 

 

 

 

 

 

 


*(محمد فتحي المقداد) من مواليد 1964 بصرى الشام جنوب سورية من محافظة درعا. ناشط ثقافي مُتعدّد المواهب الأدبية، إضافة لعمله الأساسي بمهنة حلّاق.

البريد الإلكتروني (rafy2bos42@yahoo.com)        

..*..

*عضو اتحاد الكتاب السوريين الأحرار. عضو اتحاد الكتاب الأردنيين. عضو رابطة الكتاب السوريين بباريس. عضو البيت الثقافي العربي في الأردن. مدير تحرير موقع آفاق حرة الإلكتروني. 

*فقد أنجز العديد من الأعمال الأدبية، حملت عناوين لكتابات في الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدًا والخواطر والمقالة. نشر منها ستة أعمال ورقية، ونشر جزء منها إلكترونيًا، وما تبقى ما زال مخطوطًا طي الأدراج.

..*..

*المؤلفات:

1-كتاب (شاهد على العتمة) طبع 2015 في بغداد.

2-رواية (دوامة الأوغاد) طبعت 2016 في الأردن.

3-كتاب (مقالات ملفقة ج1) طبع 2017في الأردن.

4-رواية (الطريق إلى الزعتري) طبعت 2018 في الأردن.

5-رواية (فوق الأرض) طبعت في 2019 في الأردن.

6-مجموعة أقاصيص(بتوقيت بصرى) طبعت في 2020 في الأردن.

7- كتاب خواطر (أقوال غير مأثورة).

8- كتاب خواطر (بلا مقدمات)

9- كتاب خواطر (على قارعة خاطر)

10- كتاب مقالات نقد أدبي (إضاءات أدبية).

11- كتاب تراث (رقص السنابل)

12- مجموعة قصصية (قربان الكورونا) خاصة في أدب العزلة زمن الكورونا.

13- حوارات متنوعة بعنوان (على كرسي الاعتراف).

14- قراءات أدبية سورية\ ج1

15- قراءات في الأدب العربي الأفريقي

16- قراءات أدبية سورية ولبنانية\ ج2

17-المحرر الثقافي .ج1. (بطاقات تعريفية بكتب صدرت حديثًا)

18- تقديمات لكُتُب.

19- قراءات في الرواية الأردنية.

20- قراءات في الأدب الأردني الحديث.

21- حديث المنجز .

22- قراءات  في الشعر الأردني الحديث.

23-قراءات روائية في الأدب العالمي.

24- (بين بوابتين) رواية تسجيلية.

25- (تراجانا) رواية فنتازيا تاريخية متزاوجة مع الواقع بإسقاطاتها.

26- (دع الأزهار تتفتح) رواية بين الماضي والحاضر.

27- (زوايا دائرية) مجموعة قصة قصيرة.

28- (رؤوس مدببة) مجموعة قصة قصيرة.

29- (سراب الشاخصات) مجموعة قصة قصيرة جدا \ق.ق.ج.

30- (قيل وقال) مجموعة قصة قصيرة جدا \ ق.ق.ج.

31- (مياسم) خواطر أدب نثري.

32- (جدّي المقداد) سيرة الصحابي الجليل المقداد بن عمرو.

33- (الوجيز في الأمثال الحورانية) تراث حوراني.

34- (الكلمات المنقرضة من اللهجة الحورانية).

35- (مقالات ملفقة ج2).

26- (دقيقة واحدة) مجموعة قصة قصيرة.

37- رواية خيمة في قصر بعبدا.

38- رواية خلف الباب

39- قراءات في الأدب العربي الحديث.

40- كتاب قراءة في رواية يابانية ((1Q84 للروائي هاروكي موراكامي

41- كتاب خواطر (كيف، وكاف وياء وفاء).

42- موسوعة (دليل آفاق حرة للأدباء والكتاب العرب) خمسة أجزاء، بالتعاون محمد الأديب محمد حسين الصوالحة.

43- كتاب:  حوارات في المنفى (حوارات أدبية).

44- رواية: (بنسيون الشارع الخلفي)

45- كتاب (حوارات سورية في المنفى)

46- كتاب (صريف الأقلام) ما بين الفكرة والكتابة

47- كتاب (تغاريد) خوطر تويتريَّة

48- كتاب المحرر الثقافي ج2  (بطاقات تعريفية بكتب صدرت حديثًا)

49- كتاب حول تجربة محمد زعل السَّلوم.

50- كتاب فضاءات محمد إقبال حرب الأدبيَّة.

51- الدرُّ المكين في كتاب المساكين. للرافعي.

52-رواية "سكلمة" قيد الإنجاز.

 

*دراسات كتبت عن أعماله:

-بحث (الواقعية في الأدب العربي. أنموذجًا  رواية دوامة الأوغاد- للروائي محمد فتحي المقداد) تقدم به الباحث طالب عبد المهدي الفراية في جامعة مؤتة، خلال دراسته الماجستير.

- "أدب اللجوء" بحث كتبه الكاتب والباحث محمد زعل السّلوم، لصالح مركز حرمون للدراسات، ودخلت كتابات الروائي محمد فتحي المقداد (كتاب شاهد على العتمة, ورواية الطريق إلى الزعتري) ضمن بحث أدب اللجوء هذا المصطلح الذي قُنن نتيجة ظروف  الحرب في سوريا والمنطقة.

-بحث لنيل شهادة الماجستير في جامعة مؤتة، تقدم به الباحث مالك الصرايرة، بعنوان (الأزمة السورية وانعكاسها على الأدب في بداية الألفية الثالثة- رواية الطريق إلى الزعتري للروائي محمد فتحي المقداد).

-  بحث لنيل رسالة الماجستير بعنوان(أثر الحرب في تشكيل صورة المرأة في الرواية السورية دراسة في نماذج مختارة) تقدمت به الطالبة: "سلسبيل الزبون" في جامعة العلوم الإسلاميّة في الأردن، وكانت رواية (الطريق إلى الزعتري- للروائي محمد فتحي المقداد) إحدى النماذج المختارة. تحت إشراف الأستاذ الدكتور: "موفق مقدادي". ومناقشة الأستاذ الدكتور: "عماد الضمور".

-بحث مُحكم في مجلة الرسالة للبحوث الإنسانية، جامعة محمد الصديق بن يحيى جيجل الجزائر، كتبته الباحثة "سعاد طبوش" بعنوان "كورونا منعرج جديد للأديب حول العالم. هاجس الخوف والضياع في قربان الكورونا. لمحمد فتحي المقداد ".

-بحث لنيل درجة الدكتوراه، بعنوان (الجملة المشهديَّة بين الشِّعر والرواية. الشاعر عبد الرحيم جداية، والروائي محمد فتحي المقداد نموذجًا)، وقد سلطت الدراسة الضوء على مجموعة روايات (دوامة الأوغاد. والطريق إلى الزعتري. فوق الأرض).

* كتب العديد من الدراسات النقدية عن مجموعة أعماله الأدبية المطبوعة، قدّمها أدباء ونقّاد عرب . كما صدرت له العديد من النصوص في كتب مشتركة عربيًّا، ونال العديد من شهادات التقدير، والتكريمات خلال مشاركاته من الهيئات الثقافية الواقعية والافتراضية. ونشر الكثير من أعماله في المجلات والجرائد الورقية والإلكترونية.

*له العديد من المقابلات  الحوارية التلفزيونية، على قناة الأورينت، قناة العربي وسوريا، وقناة الرافدين، وقناة الحوار، وقناة الغد وغيرها.

*وقريبًا- تحت الطبع رواية (خيمة في قصر بعبدا) دخول في محاولة إشاعة مفهوم السّلم الاجتماعي بين الشعبين السوري واللبناني على ضوء ما حصل في ظروف الحرب واللجوء، بعيدًا عن مخرجات السياسة القذرة.

-تحت الطبع رواية (خلف الباب) الخاصَّة بحياة اللَّاجئين في المخيَّم.

* عمل على جمع وإعداد (دليل آفاق حرة) للأدباء والكتاب العرب، بأجزائه الخمسة التي وثقت لألف اسم أديب وكاتب عربي، وهذا العمل يعدُّ موسوعة عربيَّة. بالتعاون مع الأستاذ محمد حسين الصوالحة من الأردن، مؤسس ومدير موقع وصحيفة آفاق حرة.

***

ملاحظة: هناك العديد من المشاريع الكتابية التي يجري الاشتغال عليها. سترى النور قريبًا.

 

 

 

 

 

 

الفهرس

الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع                                             الصفحة

المقدمة  5

حنظلة  7

أسامة حِلّسْ    11

أسئلة برسم الجواب   15

سورية يا حبيبتي   19

وُلدِتُ سنةَ الصهاريج  23

قطار الأحلام  26

العكاكيز.. 29

تداعي أفكار.. 34

إرادة التحدّي .. 40

دراجة هوائية.. 47

السُّبْحَة .. 54

شهادة دكتوراه .. 60

قرار تعيين .. 65

استشارة .. 70

طبيب على قارعة الطريق  72

أمام الخاقان .. 78

لقاءُ الصُّدفة.. 82

مذكرة بحث.. 87

يا ولدي قد مات شهيداً 93

مع الذات .. 98

حفيدة الآغا .. 101

هاربٌ من نرجسيّتي   103

رنيـــــــــــــــــــــــــن .. 109

قواعد جديدة .. 112

غَفْوةٌ في مقبرة 115

اشــــــــــــــــتباك .. 119

ثرثرة على كرسي الحلاقة  123

 

 

تمت بحمد الله وتوفيقه

المجموعة القصصية

(زوايا دائرية)

***

 

للتواصل مع المؤلف. محمد فتحي المقداد: rafy2bos42@yahoo.com

 

 



[1]  *الصهاريج: خزانات ماء كبيرة. يجرها القطار من مدينة درعا إلى بصرى الشام

 

[2] الجهير هو النبع الجوفي التاريخي الذي كانت بصرى الشام ومحيطها ينهل من مياهه، ويقال أن بصرى هبة الجهير. كما مصر هبة النيل.