قراءة في المجموعة القصصية "رجل آخر" للقاص "أحمد أبو حليوة"
بقلم الروائي محمد فتحي المقداد
في لقاء أدبي خُطِّط له مع الأستاذ القاص "أحمد أبو حليوة"، للاشتراك بأمسية أدبية جمعتني به، بالإضافة للشاعر الشاب المُتأجّج شعرًا "محمد كنعان"، ومع الكاتب الواعد "رائد العمارات"، وكان ذلك بتنسيق من الشاعر الرائع"أحمد الحشوش" في منطقة "غور الصافي" بتاريخ 2023/1/19، متعة التسامر مع الأصدقاء حطّمت طول المسافة، وقرّبت عهدنا بمعرفتي بهم بعمق أكثر، بالطبع إلّا "أحمد أبو حليوة" الذي عرفتُه منذ أعوام خلت.
النّسخة الوحيدة كانت بيد أحمد، ليقرأ منها ما اختار من نصوص قصصيّة له، وكأنّه استشفّ ما بنفسي من شغفي لقراءته قصصيًا، من خلال عمل متكامل للعديد من النصوص التي تحمل سمات ونفس الكاتب؛ فتفضّل بإهدائها لي، وما لم يكن بالحسبان بأن هذا الإهداء كان بمثابة تكليف ضمنيّ لي بالقراءة؛ للبحث عن ذاك الرجل الآخر، بعد أن كتب أبو حليوة بخطّ يده على الصفحة الأولى من مجموعته القصصية إهداء لي نصّه: "إلى صديقي القاص والروائي محمد فتحي المقداد، أهدي عملي القصصي هذا، علّكَ تجدُ فيه ذاك الرّجل الآخر".
عتبة العنوان:
العنوان هنا جملة اِسميّة مُكتملة البناء من مبتدأ محذوف وكلمة "رجل" خبر للمبتدأ المحذوف "رجلٌ آخر"، وكلمة "آخر" هي نعت للرّجُل؛ فهي ذات بُعد دلاليّ على رجل ما غير معروف ليكون مُعرفًا بأداة تعريف، ولكنها مُنكّرة، والتنكير نحويًّا يأتي للتكثير بفتح آفاق أكبر للتدليل على رجل من رجال كُثُر. والإشكالية الأخرى في كلمة "آخر"، فمن هو الرجل الذي نبحث عنه، ولم يُعثَر عليه أو معرفة أي خبر عنه، ليُدخلنا العنوان بكلمة "آخر" في تساؤلات أخرى.
يعني ذلك أنّ البحث لم يتوقّف رغم معرفتنا بجنسه أنّه "رجل"، وستمتدّ رحلة البحث المُضنية عن ذاك ال"آخر"، فمن هو هذا الآخر، وما هو شكله ولونه وكنهه، وعمله وعمره، وشهادته وذوقه، وووو...، لتُسلمنا هذه المفردة إلى ما لا نهاية من الاحتمالات الواردة، بتجريب جميع التّخمينات والتأويلات، ربّما تكون سليمة من جهة، وبعيدة من جهة أخرى، ولكنّنا بصدد مجموعة قصصية اتّخذت من الجملة الاسمية "رجل آخر" عنوانًا لها، فلن نستطيع البحث إلّا في النصوص والعناوين الداخليّة لكلّ نص، لأنّ مجال البحث سيكون بين الكلمات والأفكار والرسائل التي أراد إيصالها القاص "أحمد أبو حليوة".
نظرة على الكتاب:
سيجد القارئ نفسه وجهًا لوجْهٍ أمام عشرين عنوان نصٍّ قصصيّ، ذات مضامين واقعية ببعدها الاجتماعيّ، جاءت مليئة بالهموم الثّقيلة والأحزان والأفراح، بالآمال والأحلام، ولم يغب البُعد للوطني والنّضالي للقضيّة الفلسطينيّة، قضيّة العرب المركزية، فالبحث عن رجل في كومات الحياة ليس سهلًا، وعلى الأخصّ إذا كان هذا هو النُسخة عن الكاتب المسكون بقضايا أمته ومجتمعه، حدّ الغرق في مستنقع القاع الاجتماعيّ، بمشاكله وهمومه المُتناسلة على الدوام ولا تنتهي أو تتوقّف.
جميع النصوص ذات أبعاد إنسانية بآفاقها الرّحبة، وبتسليط الضوء على قصة "سباريس" وهي كلمة تعني أعقاب السجائر بعد رميها عند انتهاء المُدخّن من سيجارته، فإنّنا أمام نصّ مُبكٍ برؤية الأولاد المُتسرّبين من المدارس، والانحرافات والشذوذ، نتيجة الفقر والتفكّك الأسري، وضياع الأجيال وانحدراها في مهاوي السرقة والمخدرات والانتهاكات والتحرّش في ظل غياب الأسرة ودورها التربوي.
والعنوان الأخير في قائمة فهرس المجموعة بعنوان "الأم" وهو عبارة عن سبعة نصوص للقصّة القصيرة جدًا (ق. ق. ج) مليئة بالحزن والشّجن، لتمحورها حول الأم ومرضها، وموتها، وافتقادها وفقدها.
الجمل المفتاحية:
• "استشهد في زمن مجهول ومكان مجهول، وعلقت صوره على جدران المخيم التي تعجّ بالصور، وقيل إنّ الفلسطينيين عندما يحررون أرضهم -كلّ أرضهم- سيقيمون نصباً تذكارياً في القدس لهذا الرجل، يطلقون عليه نصب الجندي المجهول" ص13.
• "رأيت جزءًا كبيرًا من المدينة المترعة بالأضواء، جزءًا يغريك، يحرك فيك فطرة الشهوة لمشاهدة امرأة نصف عارية، تؤكد لك أنّ الإغراء أكثر لذة من العري" ص21.
• "كيف يفرح الفقراء" ص22.
• "حسب الجميع أنّني صغير لا أعرف حجم ما فقدته، فجدتي كانت أمي وأبي بعد رحيل والدي مع رجال المقاومة من أجل استرداد الوطن، وزواج والدتي من رجل آخر غير مكترث بأمر الوطن" ص69.
• "سيدي الجنرال.. عندما تملك الكاريزما، أنت لست بحاجة إلى كلّ هذه الخطابات، سيصدقون كلّ ما تقوله، لأنّك تقول ما يريدون أن يسمعوه، وإن كنت تقول ما لا تصدقه" ص25.
• "تتلوى الدروب على الدروب صعودًا ونزولًا، يمنة ويسرة، كأنثى شرقية تجيد فنّ الرقص، أو أفعى تنساب باسترخاء على رمل بحر، على حصى نهر، جففته إرادة الرب عام قحط" ص35.
• "الوطن سطح ساخن مع الفقر والقمع" ص41.
• "هو الواقع الذي دفع صعاليك الجاهلية لغزو مخيلته، وجعل الغجر الرحّل ينصبون خيامهم على فسحة ضيّقة من عقله، لم يطأها تفكيره من قبل، ثم يرحل معهم إلى مدينة أخرى، لا تعرفه، ولا ذاكرة له فيها، يفتح معها صفحة جديدة لرجل آخر، يتصفّح الجريدة، فتستوقفه ملامحه، وقد كُتب أسفلها: خرج ولم يعد" ص45.
• "يقشر حبات الصبر بصبر وبسكين صغير وبكفين عاريتين إلّا من المرارة والحاجة، يزيل ذاك الجزء الضار المليء شوكًا بأصابعه البريئة المحكومة بالأشواك" ص 49.
• "ما فائدة العلم إن كنتَ معدمًا؟! ما قيمة الوظيفة إذا بقيت فقيرًا؟! الثروة في هذه الأيام هي المال، مصدر الراحة والمتعة" ص 58.
• "علمت منه أيضًا أنّه يكره المدارس لأنّها تشبه السجون، إذ لها أسوار عالية، وأبواب حديدية كبيرة وحراس من المعلمين والطلاب. قال لي: أنا أعشق الحرية، والعيش في هذه الحياة بلا قيود، الحرية شيء جميل يا صديقي، ولكنّه مُخيف أيضًا" ص58.
• "إنه أمر موحش ألّا تجد من ينتظر عودتك في هذا العالم !" ص 58.
• "لا أحبّ ذكر الماضي وتذكره، المستقبل وحده الذي أعيش من أجله، وأريد أن أتحدّث عنه وأحياه" ص58.
• "لا أطيق الطيّبين لأنّهم يثيرون الشّفقة، فالكُره والشّفقة لا يلتقيان" ص59.
• "في هذا الزمن باتت الأنانية مفروضة على الجميع، إنّها سمة العصر أيّها الأحمق" ص60.
• "احتضنتُه فأعطى مساحتي الضيّقة أفقًا ومدى، وملأ جدراني الأربعة حياة تضجّ بأولئك الذين يعشقون القماش، ولا يعرفون إلّا ارتداء الملابس المُفصّلة" ص65.
• "هكذا هم الكبار كثيرًا ما يقترفون جرائم بحقّنا –نحن الصّغار- دون سلاح ودون دماء ودون أدنى تأنيب ضمير" ص70.
• "في البورتريه علينا أن نُنطق الصّمت" ص 76.
• انظري نحو أفق المدينة، وحاولي بنظراتك أن تحتضني أرجاءها كافّة، أن تُلخّصي الماضي والحاضر في هذه النّظرة" ص76.
• "الضحكات الصفراء... هكذا تقول أمّي عن ذاك النوع من الضحك الماكر الخبيث المشوب بخضرة عفن الخبز" ص85.
• "كانت مُخيّلتي تنتقل مع ساعي البريد بين هذا العنوان وذاك" ص 95. • "بقيتُ واقفًا مكاني إلى جانب ظلّي المدهوش مثلي من كلّ ما جرى حوله وحولي" ص95.
• "سمحتْ له ذات خريف أن يُرسل أصابعه سرب حمام يُحلّق بين غيوم شعرها النّاعم كعشب والمُنساب كنهر" ص 100.
• "تساقطت دموعها نحوي، شعرتُ أنّ أعشاب الأرض البريّة كلّها تجمهرت على مساحة قبري" ص101.
الخاتمة:
ختامًا من يقرأ المجموعة القصصية "رجل آخر"، يودّ متابعة المزيد من النّصوص، وذلك للتحصّل على فائدة ومتعة القراءة، خاصّة بالتركيز على اللّغة السليمة التي صيغت بها القصص، بلهجة تضجّ بالصدق، بعيدًا عن التصنّع والبهرجة والتزويق، وبأسلوب سردي بسيط، أي بمعنى السّهل الممتنع، الذي استطاع المؤلف من خلاله إيصال رسالته بسهولة، رغم أنّه ليس من السهل أن تستوي جميع النّصوص بنفسٍ قصصيّ مُتقن، كما هي في المجموعة القصصية "رجل آخر" للقاص أحمد أبو حليوة.
عمّان. الأردن
20/ 2/ 2023
*******
أحمد أبو حليوة
قراءة نقدية عميقة في أتون مجموعتي القصصية "رجل آخر"
شكرًا لصديقي الرائع الروائي والناقد السوري محمد فتحي المقداد، وهو يشرع الباب بكلّ عمق وألق على مجموعتي القصصية "رجل آخر" التي صدرت قبل ثمانية أعوام، حاملة الكثير مني، وأنا الذي على الدوام مسكون بي وبقضيتي الفلسطينية وبمن حولي، أقلّب الحياة إبداعيًّا قليلًا بحكم انشغالاتي الكثيرة، ولكنّني أحيا الحياة حياة بكلّ ما أوتيت من أنفاس زكية مختلطة بغبار الدروب، التي أخيطها سيرًا على الأقدام كلّ يوم، وأنا العاشق للمشي، حدّ اعتباره أحد ركائز قوتي، وأنا السعيد بهذا العمر الذي لي، رغم هائل التعب الذي مررتُ وأمرّ به، ولكنّها القبل التي تأتيني من حين لآخر من هذا الإنسان أو ذاك، ربما بذات القدر من الصفعات والطعنات التي أتلقاها من صديق خائن لعهد الصداقة بين فترة وأخرى، ومع ذلك أمضي وسأمضي ما دمتُ حيٍّا نحو هذا الكم الهائل من الأهداف السامية، التي أمارسها غير مبتغٍ منها شهرة، بقدر ما أريد الموت بسلام، وبابتسامة أتركها على وجهي ساعة الاحتضار، كي أقول لكم: إنّ الحياة جميلة ببعض من فيها من البشر الهائلي الروعة والإحساس بك أو بأبطالك، الذين لم يكونوا مجرد حبر على ورق، بقدر ما كانوا بالنسبة لك هالة من مشاعر فيّاضة، وإحساس كبير بألمك، الذي اختزلته إبداعيًا كي تقدمه حلوى طازجة على شكل قصة، يتناولها الآخرون قراءة لك، فتبقى روحك في بعضهم قاصًا أو بطلًا أو عبارة لا تغادرك ولا تغادرهم.
شكرًا حبيبي محمد على هذا الجهد الكبير والوقت الثمين الذي منحتَه لي كي تقرأني بكلّ هذه القداسة.
#أحمدأبوحليوة
https://www.addustour.com/categories/3-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9?type=archive
******
ﺍﺣﻤﺪ ﺍﺑﻮ حليوه: يااااااه يا صديقي القاص والروائي الكاتب العزيز محمد فتحي المقداد... أنا لستُ كلّ هذا... بل أنتَ أكثر من هذا، وأنتَ تدهشني بي وتحدّثني عنّي، فأتعرف من خلالك عليّ.
أنا مدين لك بما أنا فيه الآن من فرح، وما أنا عليه من حالة السعادة التي غزت قلبي، كما تغزو فؤاد طفل، عرف للتو أنّ العيد غدًا.
مهما كبر مقامنا كأدباء، نبقى صغارًا في حضرة السرور والحنين، وهذه الرغبة الداخلية العميقة، بأن نُقلَّب ككتاب مفتوح وعتيق وعريق من جديد، من حين لآخر، كنقش فرعوني علاه الغبار الذي أزيل للتوّ من قبل مستكشف، يدرك قيمة الأشياء، فيعيد لها بهاءها الآفل، فتعاود سيرتها الأولى في الألق والتألق، كما لو أنّها القبلة الأولى لحبيب عذري على جبين محبوبته الغافية كحورية على سرير قلبه وحجرة حلمه.