بنســيون
الشــارع الخلفــي
رواية
محمد فتحي
المقداد
2022
ملاحظة هامَّة:
الأسماء مُتخيَّلة حتَّى وإن تشابهت
مع أسماء في الواقع، لضرورة أن تمُارسُ الشخصيَّات قيادة وإدارة الحدث
المُؤثِّث للعمل الروائي، وليكون شبيهًا للواقع، ومقنعًا بتسلسله للقارئ.
لأنَّه من الممكن أن تتشابه بعض
الأحداث بتقاطعاتها مع الواقع، قطعًا لا أحد بعينه هو المقصود أو المُستهدَف.
|
(1)
رنين
الهاتف أوقف اِسْتعدادي لتناول أوَّل لُقمة كنتُ أشتهيها، لِشُعوري بالجوع منذ نُهوضي من النَّوم. في البارحة كانت نفسي مسدودةً لم تطلب الأكل
بتاتًا، ولم يدخُل بطني سوى الماء، ليس هُناك شيءٌ ظاهر محدَّد لما كنتُ فيه.
أعصابي
مُتوتِّرة مُعظَم الأحيان بسببٍ أو بلا سببٍ، لا شيء يبعثُ على الهدوء والاِسْترخاء،
وضع بلدنا عُمومًا مليء بالمآسي والنَّكَبات، باعث على خلق الكآبة من آخر نقطة في
الكُرة الأرضيَّة، وجلطة القلب.
كلُّ
رنينٍ يهزُّ أعصابي، بداية تعييني في التعليم قبل خمس سنوات، كان بسبب جرس
المدرسة، عند الاجتماع الصباحيِّ قبل الدُّخول إلى الصُّفوف الدراسيَّة، خاصَّة
إذا ما تأخَّرتُ لدقائق خوْفًا من تأنيب المُديرة، وعند انتهاء الحُصَّة تنقطع
أنفاسي، ويتوقَّف تدفُّق أفكاري فجأة، ولا أستطيعُ إكمال الفِكرة التي كنتُ
سأقولها للأولاد لأهميَّتها، ممَّا يضطُّرني لإعادة الجُزء الضَّائع من معلومات
الحُصَّة السَّابقة. جرس الهاتف الثَّابت في غُرفة الإدارة يُصيبني بالغَثَيان
والتشتُّت؛ لاعتقادي أنَّه من مديريَّة التربيَّة؛ لتبليغ المديرة بِعُقوبة لأحد
المُعلِّمات، أو نقلٍ لأحدنا إلى مدرسة أخرى.
رنين
هاتفي النَّقَّال؛ أوقفني عن مُتابعة برامج الصَّباح في التلفزيون التي تستهويني
في أيَّام العُطَل. مع كُلِّ رنَّة تتوقَّف شهيَّتي للطَّعام، رغم اِعْتيادنا الدَّائم
وجبات الزَّيت والزَّعتر واللَّبن المُصفَّى والزَّيْتون في طعام الإفطار، إضافة
للشَّاي، إلا أحيانًا كانت تُضاف بعض التَّحسينات عمَّا اِعْتدناه في ظلِّ عدم
وجود البدائل المُتاحة سابقًا، كصحن البيْض المقلي أو المسلوق أو الجُبنة البيضاء.
انقطع
الرَّنين؛ بمجرَّد ضغطة قويَّة من إبهامي الأيمن على كبسة فتح الخطِّ، الصَّوت
القادم ناعم، من ابتدائها بالتعريف بها وبمكان عملها، أَشَاع في قلبي هُدوءًا غير
مُتوقَّع، اِلْتقطَّتُ أنفاسي، واِسْتجمعتُ قِوايَ للردِّ:
-
آلو..مين معي؟.
-
عيادة الدُّكتور موسى النِسائيَّة.
-
أهلا وسهلًا، ويسعد صباحك.
تواثَبَت
أحلام الأمومة أمام عينيَّ خيالات أطفال يتصايحون يتشاكون: "ماما..
ماما" أجمل كلمة في الدُّنيا، وفَتَحت آفاقُ السَّماء أملي بالله الذي لم
ينقطع، وتجدَّدت أمنيتي بسماع كلمة: "ماما". لا غير.
-
لقد تحدَّد موعدُكِ لمقابلة الدَّكتور في 1/9/2018 السَّاعة الثانية عشرة ظهرًا.
-
كلُّ الشُّكر لكِ. لكن ألا يمكن تقديم الموعد قبل ذلك، شهران من الانتظار فترة
طويلة. الأهمُّ في الموضوع أنَّ الموعد بهذا التَّاريخ مع بداية العام الدِّراسيِّ،
واِفْتتاح المدارس.
-سيِّدة
"نورما"، لا تنسي أن تُحضِري مَعكِ كلَّ الأوراق، والصُّوَر،
ورُوشِّيتَّات الأدوية السَّابقة، التي كتبها لكِ الأطبَّاء الذين تعالجتِ عندهم؛
ليستطيع الدُّكتور دِراسة حالتكِ بشكلٍ جيِّد، ووضع المعلومات كاملة في مَلفِّكِ.
مع السَّلامة. بالنسبة للموعد من الصَّعب تبديله. اُعْذُريني.
-
بكلِّ تأكيد. شكرًا ثانيةً لكِ على اهتمامكِ.
غبارٌ
يلفُّ المكان بأكمله؛ تزامن مع انقطاع المكالمة المُقتضبة ذات الغرض المحدود. اِسْتفقتُ
من غيبوبة الصَّدمة بعد نصف ساعة، ألفيْتُ زَوْجي يجلسُ فوق رأسي، ويرشُّ الماء
على وجهي، ويقوم بِمَسحِه بقطعة قماش ناعمة بيديه المُرتجفَتيْن، إحساسي
الدَّاخليِّ أنبأني بذلك مع صُعوبة عدم اِنْطلاق الكلام على لساني، كان من الصُّعوبة
رُؤية أيِّ شيء على الإطلاق في محيط بيتنا، تعسَّر التعرُّف على المعالم الجديدة
التي أحدثها الاِنْفجار، الشَّبيه بما حدث في ناغازاكي وهيروشيما.
مع
فارقٍ بسيطٍ أنَّ ما حدث هنا قبل نصف ساعة، لم يكن إلَّا قذيفة ظننتُها بِرميلًا،
وهو ما أطلقوا عليه القذائف الغبيَّة الوَسِخَة.
قيل:
"لأنَّها تجمع نفايات الحديد والصُّلب المُهمَلة".
لكلِّ
حرب مُصطلحاتها، للمرَّة الأولى في تاريخ الحروب تُستخدَم كلمة برميل للدَّلالة
على القنابل الفتَّاكة التي تقذفها الطَّائرات. حاويات حديديَّة مليئة بقِطَع
الحديد والمسامير، وكلِّ ما هو مُؤْذٍ وقاتل.
زوبعةٌ
غير مسبوقة أبدًا لفَّت المكان، غبارها غطَّى سماء المكان لنصف ساعة تعذَّرت معه
رؤية أيِّ شيءٍ، مع ذلك تسارعت سيَّارات الإسعاف إلى المكان من جميع الاتِّجاهات،
والنَّاس يتراكضون، بعضهم يصيح أثناء ركضه بالآخرين، كي يلحقوا بهم للمساعدة،
وتقديم العَوْن للمُصابين.
ما
إنْ اِنْجَلَت السَّحابة عن المكان، وانسحبت آخر خيوطها المُتكاثفة؛ لِتُفسح
المجال لتحسُّن مدى الرُّؤية لمدايات قصيرة في المُستويات التي دون عشرة أمتار،
وكلَّما تعالت العُيون بالنَّظر للأعلى، تتكاثف ذرَّات الغُبار؛ ليستحيل لون
السَّماء الأزرق، لِلِوْنٍ بُنيٍّ قاتم.
بعد
كلِّ قصف أو اِشْتباكات هناك ضحايا. مشاعرنا تبلَّدت، لدرجة أنَّني لم أعُدْ أُدقِّق
جيِّدًا عن دِقَّة الإحصاءات.
النتيجة
أنَّ تنقُّلاتنا مُستمرَّة ودائمة؛ نترُكُ المناطق السَّاخنة قاصدين الأكثر أمنًا.
ضاعت منَّا أشياء ثمينة عزيزة على قلوبنا مع كلِّ اِرْتحال. التشبُّث بالأماكن غير
مُجدٍ هذه الأيَّام.
اختلطت
الأمور بتشابُكات مُعقَّدة بذهني. قذيفة المدفع التي سقطت في السَّاحة. لا.. لا أبدًا لم أسمَعْ هدير المروحيَّة هذه
المرَّة؛ عادة فإنَّ هدير مُحرِّكها يُسابقها إلى أسماعنا عندما تأتينا فجأة دون
سابق إنذار؛ لرمي حُمولتها من البراميل.
صوتها
المثير للرُّعب؛ مُفزِعٌ للناس تراهُم يتراكضون مُبتعدين عن الأبنية خوْفًا من
الشَّظايا القاتلة المُتناثرة في كلِّ اتِّجاه؛ لينبطحوا في الأرض الخلاء إلّا من
أشجار الزَّيتون وسِوَاها.
لم
أمتلك شيئًا من عِلم الغيْب، ولا الإحساس بأنَّها ستكون آخر قذيفة تسقط في محيطنا
هذا اليوم، وخاتمة حرب طالت واِسْتطالت؛ فأكلت الأخضر واليابس، ولم تُبق لنا شيئًا،
ولن تكون قريبةً كما هي التوقُّعات، وبداية مُصالحات مفروضة، وبعضها مدفوعة
الثَّمن برعاية مركز المصالحات الرُّوسيَّة في مناطق عديدة من ريف دمشق،
قبل ذلك بأشهر أو سَنَة على الأقلِّ، والمناطق الأخرى سائرة لا محالة على طريق الاستسلام
بِغِلَاف المُصالحات.
بعدها
نشطت حالات الاِغْتيالات والاِنْتقامات، والضَّحايا بازدياد، وباتت شبه يوميَّة.
اعتياد الحرب أصبح إدمانًا كالمُخدِّرات تعبث بنا.
ساحة
الحارة مُزدَحِمة بالغُبار. صُراخ مع خليط من بكاء وَوَلْولة نساء مذهولات من هَوْل
الصَّدمة. من المرَّات النَّادرة التي تضيق هذه السَّاحة على مَنْ فيها، إلَّا
فيما مضى في المُناسبات القوميَّة العظيمة؛ مثل اِحْتفال عيد الجلاء، وعيد العُمَّال،
وعيد الحركة التَّصحيحيَّة، وعيد ثورة الثَّامن من آذار، وعيد ميلاد الحزب، وعيد
الاِنْتصار في حرب تشرين.
هذه
المناسبات تجعل من السَّاحة مُلتقى للموظَّفين الرَّسميِّين والطُّلَّاب والمُعلِّمين
والجماهير الغفيرة، ترى السَّعادة تغمر الوجوه، والتَّصفيق الحادّ المُصاحبُ
للهُتافات، خاصَّة عند مُرور عَدَسة (كاميرا) النَّقل التِلفزيونيِّ، وعلى
الأغلب أنَّ البثَّ عادة ما يكون مُباشَرًا.
سعادة
ما بعدها سعادة، لمن تكُن قد دَعَتْ له أمُّه بإخلاص في آخر ساعة من ليلة القَدْر،
بالتوفيق والفلاح، إذا صادفت (الكاميرا) ابتسامته طافحة على وجهه أثناء هُتافه، وتصفيقه
بحماس وعَفْويَّة؛ فإذا كان مثلًا مُعاونًا لمدير مدرسة ما، من المُؤمَّل والمُرَجَّح
في دورة التَّعيينات الجديدة سيُصبِح مُديرًا للمدرسة، لغلبة الظنِّ عنده، بأنَّ مديره
الحاليِّ لم يتبقَّ له إلَّا سنة واحدة لإحالته على التَّقاعُد عندما يبلغ تمام
الستِّين.
ومن
بعض الحزبيِّين ذوي الصفِّ الأول من قيادات الشُّعبة الحِزبيَّة، منهم من يأمل أن
يُصبح أمين فرع، أو عضو قيادة فرع.
أمَّا
الصفِّ الثَّاني الأقلّ طُموحًا في أن يُختارون أمناء للفِرَقٍ الحزبيَّة، أو
أعضاء في قيادة الشُّعْبة، وفي الحقيقة التي تُداخِل هؤلاء جميعًا: "لو أنّهم
يختارون لأمانة الشُّعْبة وأعضاء قيادة".
اليومُ
استثنائيٌّ في تاريخ السَّاحة العتيد النِّضالي، حينما صارت المكان الأبرز
للاعتصامات والمُظاهرات المُناهضة للدَّولة، التي يقودها الشَّباب.
كلُّ
شيء تبدَّل بين عَشِيَّة وضُحاها، ما الذي جرى حتَّى تبدَّل الحالُ من حالٍ إلى
حال. تعاكُسٌ وتبايُنٌ، هبوط القديم، وصُعودٌ للجديد؛ حينما جُرِّدَت جَنَبات السَّاحة
من رُموزها التقليديَّة، إلى رُموز جديدة تمامًا مختلفة بمعطياتها المُشاهَدَة.
قيل:
"إنَّ عجوزًا قضى عشرة سنين أو أكثر في فترة سابقة من عمره في السِّجن، أمضى
حياته بانتظار لحظة لم يكُن لِيَحلم بها على الإطلاق، بعد الثَّبات الطّويل
للنِّظام في حُكم سوريَّا أمِّ الاِنْقلابات الدَّائمة على مرِّ تاريخها، منذ عهد
الاِسْتقلال إلى بداية السَّبعينيَّات". قال:
-"سبحان
مُغيِّر الأحوال من حال إلى حال، من غير المعقول أنّه بين عشيَّةٍ وضُحاها تتبدَّل
الأمور، لم أكُن لأتخيَّل ما حَصَل. عقلي عاجزٌ تمامًا عن اِسْتِيعاب ما حَدَث، تجمَّد
صبري على قارعة الانتظار سِتِّين عامًا".
اِمْرأةٌ
تقف على مَقرُبَة منه، سمعتْ كلامه لنفسه، ردَّدت صدى كلامه:
-"الله
كبير، ما في إشي عليه صعب".
يتعالى
صوْت شابٍّ هُناك وسط السَّاحة، كان يحمل بيده مُكبِّر صوت على البطاريّة، بلونه
الأحمر والأبيض يتماوجُ بحركته في الأعيُن على وقع لحن هُتافه، يهتزُّ صُعودًا
وهُبوطًا، كمؤشِّرِ ميزانِ حرارةٍ يقيسُ حرارة الصُّدور والقلوب لكلٍّ من هُم في
المظاهرة:
-"الله..
سوريَّا.. حُريَّة وَبَسْ".
تصفيقٌ
حادٌّ بحماسٍ زائدٍ، مثل ذاك الحماس أيَّام احتفالات المُناسبات والأعياد
الوطنيَّة والقوميَّة بل أكثر. ترتفع بعض الأيدي بأجهزة (الموبايل) للتَّصوير.
كلُّ ذلك جرى ويجري تحت نظر تمثال السيِّد الرَّئيس، الذي تحطَّم في الفترة
الأخيرة، بفعل الغضب الجماهيريِّ، لكنَّ أحدًا لم يخطُر بباله أن يحتفظ ولو بقطعةٍ
من حُطامِه، كما فَعَل الألمان عندما اِحْتفظوا بِقَطَعٍ إسمنتيَّة صغيرة، ومُتوسِّطة
الحجم من جِدَار برلين، مُتَّخذين منها تُحفًا؛ حينما حطَّموه 1989 اِنْتقامًا
لحُريَّتهم؛ ليقترب بصموده الأسطوريِّ كرمزٍ حارسٍ لثُنائيّة القُطْبِيْن، وحربهما
الباردة على مدار ثلاثة عقود إلَّا قليلًا.
مسكين
تمثال الرَّئيس الذي لم يتجاوز صُموده نصفَ عِقْدِه الأوَّل فقط؛ لحين الثُّلُث
الأوَّل من عام 2011 على قمَّة القاعدة الرُّخاميَّة المَلْساء اللَّامعة وَسَط
السَّاحة ذات المهابة المُؤثِّرة في نُفوس النَّاس.
نهارًا
يتلألأ بريقه البرونزيِّ تحت أشعَّة الشَّمس، وليلًا لا تَدَعَهُ أضواء الكشَّافات
عالية الإنارة بحاله، كأنّهم لا يُريدون له الرَّاحة، دائرة الضُّوء مُقلِقَة على
الدَّوام.
هناك
البعض ما زال يُردِّد آخر كلمات سمعوها من العجوز:
-"يا
إلهي..!! إنَّه الفَجْر الصَّادق، والوعد الحقُّ".
خُيوط
الفجْر تسلَّلت عبر النَّافذة على خَجَلٍ واستحياء، مع كتابة آخر الكلمات، إيذانًا
بالنَّوم.
..*..
(2)
أتعبها
المشْيُ لِسَاعاتٍ أربع، وأخَذَ كلَّ مَأْخذٍ. المشيُ على غير هُدًى، أو البحث
العشوائيُّ عن مكان ما، كمن يبحثُ عن إبرةٍ في كوْمةِ قَشٍّ.
بعد
العصر عادةً ما يضيق الوقت؛ بانقضاء الدَّقائق، والسَّاعة تِلْوَ السَّاعة.
الخيارات تذوب مساءً على مَدارِج الحِرْص على البقاء. ومع تَسرُّب أوَّل خيوط
العتمة تتشابكُ مع اِنْسحاب آخر خيوط ضوء النَّهار؛ تخلو الشَّوارع حتمًا من
المارَّة، وتنخفض مُستويات الضَّجيج بشكلٍ ملحوظٍ.
تميلُ
الحالة للهدوء كلَّ يوم في مثل هذا الوقت. خُطوات العابرين مُتعجِّلة بالوُصول إلى
مقاصدها. الأيدي مُثقلةٌ بأكياس الخُبْز والخُضراوات، والحاجات الضروريَّة
كالشُّموع، وقَنَاني المشروبات الغازيَّة الفارغة بعد إعادة استخدامها كعُبوات
لزيت الكاز (الكيروسين).
اِنْتعشت
تجارته إلى جانب مادَّة البنزين والمازوت (الدِّيزل) أيضًّا، أصبحت هذه
الموادُّ تُباع على جوانب الطُّرُقات. بعض
الشَّباب وَجَدُوا فيها مَصدَر دَخْلٍ؛ يُدِرُّ عليهم رِبْحًا معقولًا من فارق
الشِّراء والبيْع.
لا
نقاش، ولا جدال على الأسعار المُتحرِّكة مع كلِّ دقيقة. لا ثَبَات هنا. المؤشِّرات
للأسعار اِعْتادَت الصُّعود دائمًا. الهُبوط غير وَاردٍ أبدًا، ولا يُمكن تخيُّله
ولا في الأحلام.
شهَقَ
أنفاسَه بصُعوبة ترافَقت بجفاف حلقه، تطلَّع يمينًا ويسارًا باحثًا عن شفَّة ماءٍ
تُرطِّب شفتيْه الجَّافَّتيْن وفمه المُتخشِّب من العطش. تذكَّر عبوة ماء كان قد
خبَّأها منذ زمان تحت، وخلف الكَنَبة المُتهالِكَة على وشَك الانهيار.
تابع
"نبهان" كلامه عن الوضع بشكلٍ عامٍّ لصديقه "محمود"، الذي اِلْتقى
به بطريق الصُّدفة، بعد اِنْقطاع علاقتهما لأكثر من خمس سنين مَضَت، لا يدري كلٌّ
منهما شيئًا عن صديقه..!! بل على الأغلب أنَّ ظُروف الحرب والشَّتات؛ لم تسمَحْ
لأيِّ شخصٍ إلَّا التَّفكير بنفسه فقط، وبهُمومه اليوميَّة في تأمين رَغيفِ خُبْزٍ..
لا يهُم، حتَّى وإن كان الرَّغيفُ يابِسًا عَدَا عليه العفَن والنَّشَفان؛
فَسَرقَه الزَّمان من أيَّام الرَّخاء لِيَرْمِيَه في زاويةٍ مُظلِمةٍ.
"نبهان" يستأنفُ حديثه؛ بعدما شَعَر
بارتياحٍ بحُريَّة دُخول وخُروج الهواء إلى رِئتيْه. "محمود" سلَّم
أُذنيْه طواعيةً لحديث صديقه، يستمعُ، ولم يُعلِّق بأيَّة كلمة:
-اعتاد
السُّكَّان عُمومًا، وفي هذا الحيِّ على وجْهِ الخُصوص، العَوْدة إلى منازلهم من
بعد العصر. إلَّا مِمَّن تأخَّر منهم خارج بيته لأمرٍ ضروريٍّ خارجٍ عن إرادته.
منذ
سَنتيْن ونصف، وأنا مُقيمٌ في هذه المنطقة، بعدما تقطَّعت بي السُّبُل، ولم يبق لي
أحدٌ من أفراد أسرتي الصَّغيرة (أمَّي وأبي وأختي). قذيفة مدفعيَّة سَقَطت على بيْتنا
فَدَمَّرته بأكمله.
في
أحيانٍ كثيرة يكونُ الصَّمتُ أبلغ من الكلام. "محمود" لم يتأثَّر على ما
يبدو، ولم تتغيَّر معالم وجهه الجامدة كوجوه الموتى بلا أيَّة انفعالات تُذكَر؛
لعلَّ التَّعبَ والإرهاق مَنَعاه من التعليق، ورُبَّما أنَّه أصَمٌّ، لم يسمع كلمةً
واحدة من حديث صديقه..!!
ومن
دَرَى: أنَّه أبْكَمٌ يسمعُ ولا يتكلَّم.. ولعلَّ مفتاح التأويلات لحالته يُشرِّح
غُموضَ وضعه، وفي رِحاب التأويل يكمُن الشَّيْطان، للإيحاء بسوء الظنِّ في أحسن
الأحوال.
..*..
(3)
لم
تستغرب "نورما" قلَّة السَّالكين للطَّريق الخلفيِّ المُحاذي
للشَّارع الرَّئيس في أحد ضواحي العاصمةِ الجُنوبيَّة، وعلى الأغلب، كما أفصحَتْ
عن المكان فيما بعد بزمانٍ طويلٍ:
-"إنَّه
في منطقة مُخيَّم اليرموك، وبالتحديد خلف "شارع لوبية"، المكان
الذي كنا نقصده كلَّ فترة؛ لشراء الملابس مع البعض من زميلاتي المُعلِّمات".
مع
كلِّ خُطوَة تخطوها؛ تُسابقها هواجسها وليدة مخاوفها، وصلت من المنطقة الجنوبيَّة
من جهة "الحجر الأسود" ثم "يلدا"، لم تقصد التَسُلُّل
إنَّما اِلْتواءات الأزقَّة الضيِّقة في الحارات، ومن غير دِرَاية منها على
الإطلاق إلى أين يُمكن أن تستقرَّ في نهاية المطاف؛ عَبَرت إلى هذه النُّقطة دون
المرور على الحاجز.
جلست
مَرَّاتٍ خلال رِحْلتها في ظلال الأبنية الصَّامدة أو المُهدَّمة جُزئيَّا. ملابِسُها
مُلَطَّخةٌ بالأتربة.
الغُبار
شكَّل طبقةً تكسو ملامحَها، كأنَّها بدويَّةٌ من سُكَّان البراري البعيدة، دَكُنَت
بشرتُها بفعل الشَّمس، أساسًا كانت قبل ذلك لا تخرُج إلَّا للضَّرورة القُصوى، بعد
أن تضَعَ الكريم الواقي الشَّمسي ماركة "بيرفكشن"؛ لتخفيف الآثار
السيِّئةِ على بَشَرتِها الحسَّاسة أصْلًا.
تنَفَّستْ
بعُمقٍ عندما توقَّفت أمام عِمَارةٍ، على ناصية الطَّريق ذات الطَّوابق الثَّلاثة؛
لتقرأ على كَرْتونةٍ مُعلَّقة بِمْسمار فُولاذيٍّ مَعْقوفِ الرَّأس، لا تزال تتأرجحُ
ذات اليمين واليسار في أعلى البوَّابة الرَّئيسة مع كلِّ هَبُوب ريحٍ خفيفٍة، والشَّديد
كان يقلبُها رأسًا على عَقَب. كَمْ تأفَّف نبهان من هذه الحالة..!!، ممَّا
يضْطَّره لوضع تَنْكَة مَعدنيَّة عتيقة، أو بقايا كُرسيٍّ مُتهالِكٍ على يمين
المدخل، ويَصعد لِتعديل اللَّوحة.
بصعوبة
قَرَأتْ الكلمة الأولى المكتوبة بخطٍّ سيِّئٍ "بنسيون"، تتهجَّى
بلا فائدة، ما زالت تُجاهِدُ عَقْلها الضَّائع في الاهتداء لهذا المعنى الذي لم
تسمَع به من قبْل. الكلمتان الأُخريان واضحتان إلى حدٍّ ما "الشَّارع
الخلفيِّ".
الحيْرة
أمام ترجمة هذه الطَّلاسم لم يَطُل، إلَّا حينما اِنْزلقت عيناها على الجدار الأسوَد
المُعتِم، لتتمعَّن بكلمة فُندُق، المكتوبة بشكلٍ مائلٍ بحجمها الكبير بفرشاة دِهَانٍ
ضخمةٍ، كأنَّ اليَدَ التي كتبَتْها بعجَلةٍ من أمْرها؛ جاءت بشكلٍ ظريفٍ يُمكنُ
التَنَدُّر عليه.
تجدَّد
الأمل في قلبها، وهي تقرأ كلمة "فندق"، لسانها ردَّد تلقائيًّا:
-فندق..
فندق.. فندق.
صوتٌ
جاءَها من الخلف لم تجفل حوَّاسُها منه، ولا اِهتزَّت أعضاؤُها اِرْتجافًا، على خِلاف
الأصوات الجَشَّة الخَشِنة الباعِثَة على الرُّعْب؛ صوتٌ أُنثويٌّ رقيقٌ هذه
المرَّة. يقول:
-فندق..
يا حبيبتي.. فندق!!
اِنْتبهت
"نورما"، اِنْفرجت أساريرُها قليلًا؛ أذْهَبَتْ تقطيبات جبينِها
التي اِسْتَوطنتها في الفترة الماضية. نظَّفَتْ حُنجَرَتَها من أَثَر البَلْغَم
المُتجمِّع في حلقها من التَّعب والعَطَش. قالت:
-أشكُركِ
حبيبتي، بالفِعْل إنَّني أبحثُ عن مأوى؛ لأنامَ، وأستقرَّ فيه، ولو بشكلٍ مُؤقَّتٍ.
-مَرْحبًا
بكِ. اِسْمي "سيرا" من القامشلي.
-وأنا
"نورما" من ريف دمشق.
..*..
(4)
ما
إن اجتازت "نورما" مدخلَ
العمارة بأوَّل خُطواتها الحذِرَة، تتبَعُ "سيرا" الدَّاخلة قبلَها؛
دليل المكان. صوتُ طَقْطَقة كَعْبِ حذائها تتلاحَقُ بلا توقُّف حتَّى أثناء صُعود
الدَّرَجات، كضَرَبات المطارِق في سُوق النَّحَّاسين.
خُفوتُ
النُّور مع أوُلى خطواتِهِما لم يمنع "نورما" من مُتابعة تقاطيع
ظَهْرها وأردافها المليئة "سيرا"، عريضةُ المنكبيْن. شعرها
الأسود المُنسَدِل على مساحة ظَهْرها، وُصولًا إلى منتصف الرَّدِفيْن
المُكتَنِزيْن المُتَرجْرِجيْن؛ بأثر حَركات قدميْها مع صُعودِها أوَّلِ دَرَجة. حَوْضُها
العَريض شَكَّل حاجِزًا حَجَبَ "نورما" من إرسال نظراتها للأعلى
لفحص الدَّرَج.
اِنْغرَست
عيْناها في جَيْبة بنطلون الجينز الأزرق الذي ترتديه "سيرا".
انتفاخُ الجَيْبة اليُمنى بالمحفظة الجلديَّة الخاصَّة، وطَرَفُ زاوية (الموبايل)
يُطلُّ برأسِه من أعلى الجَيْبة اليُسرى.
-
لا شكَّ أنَّ "سيرا" مُهمَّة وخبيرة في هذا المكان، وتُقيم فيه مُنذ
زَمَن، وكيف وصَلتْ من القامشلي إلى هُنا في مثل هذه الظُّروف -نورما تُحدِّثُ نفسها- لا مجال إلَّا بالتآلُف
معها، ولا يُمكِن رفضُ معرفتها وخِبرتها، المهمُّ أنَّ اِمْرأةً تقفُ بجانبي؛ ليطمَئِنَّ
قلبي مَبْدئيًّا، وعلى الأخصِّ عندما عرَّفتني على أنَّها من القامشلي، تابعَتْ:
-"مرحبًا
بك في البنسيون –هذه الكلمة لم أُحْبِبْها، لا أعرفُ
سَبَب ذلك- مبدئيًّا أنتِ ضَيْفَتي هذه اللَّيلة في غُرفتي الخاصَّةِ المُحجوزةِ
على حِسابي، خلال الأيَّام القادمة لو اِرْتحنا لبعضنا، وتفاهَمْنا ربَّما نستمرُّ
سويَّة، لو لم يكُن عندكِ مانعٌ يا حبيبتي "نورما".
فطنت
"نورما" لِردفيْها ظنَّتْ
أنَّهما يَتَرَجْرجان، اِنْتقلتْ يدُهَا بحركةٍ آليَّةٍ؛ لتتأكَّد أنَّ ضعفَهُما
خلال الفترة الماضية؛ قد أذابَ شَحْمَهُما، واتَّسع بِنْطَالَها عليهما، رغْمَ أنَّها
في السَّابق كانت تتمنَّى تخسيس وَزْنها، واتَّبعت (روجيمًا) قاسيًا، لكنَّها لم
تفقِدْ سوى كِيلَوَيْن فقط.
-يا
إلهي.. كيف لهذه المرأة بهذه الانطلاقة بلا قُيودٍ، ولم تتأثَّر بِمَا يحدُث في
البلد، وهل حقًّا لم تُفكِّر يومًا ما بإنزال وَزنِها..!!.. يا "سيرا":
لقد أكرمكِ الله بِرَدفَيْن دليلا راحة بالَكِ..؛ ففي الثَّورة قُتِل أهلي جميعًا،
يا ليتني كنتُ معهم الآن، ولم أصِلَ لهذا المكان المُخيف. شكلُه الخارجيُّ بثَّ
القلق في قلبي، وحقيقة دواخلي حزينة على حالي، وقلَقي على الأيَّام القادمة من
المجهول، عندي إيمانٌ راسِخٌ: أنَّها لن تحمِل لي إلَّا المفاجآت غير السَّارَّة، إنَّ قدَمِي هذه
أضعُها على الدَّرجة الأولى صُعودًا خلف "سيرا"، وتلتَصِق آثار
قدمها بقَدَميَّ، أتبَعُها بلا أدْنى تَردُّدٍ. أين..!! لا أعلم.
المجهول
مخيفٌ ومخيف جدًّا. وها أنَذَا كالسَّجينات المُعتقلات يُزْفَفْنَ لجلَّاديهنَّ
بلا رَغْبة منهنَّ، بلْ مُجبراتٍ مُكْرَهاتٍ على برنامج الاِغْتصاب الدَّوريِّ.
فوضى
المَدْخل رسالةٌ مقروءةٌ بوضوح بلا شكٍّ، استقبلت "نورما" جُرعةَ كآبَةٍ
زائدةٍ عن فائض حُمولة نفسها الواهنة أصْلًا.
الأغراض
العتيقة، وبقايا أخشاب، وَكراسي خَشبيَّة وحديديَّة، وأشياء غريبة غير معروفة
يصعُب تمييزها بسُهولة؛ شكَّلت لوحة سِرْياليَّة بتنافرها الغامِض العَصِيِّ على
أيِّ تفسيرٍ معقولٍ: للتراكُمات التي اِحْتلَّت مُعظَم المساحة الجميلة أيَّام
زمان.
المُوزِّع
فيما بين الشُّقق صار خلف جدارٍ مُتماوج بَيْن مُيول للدَّاخل والخارج من البُلوك
(أحجار البناء الإسمنتيّة) المبنيِّ بطريقة بِدائيَّة، مُعظَمُه من بقايا البُلوك
المُكَسَّر؛ صُفَّت بِعَشْوائيَّةٍ مُثيرة للشَّفقة، قام بها شَخْصٌ مُبتَدِئٌ يتَعَلَّم
فنّ المعمار، ولا عَلاقةَ له بأعمال البِنَاء سابقًا.
"سيرا"،
تنقُلُ خطواتها بثقة اِعْتادت عليها يوميًّا، أَلِفَت المكان؛ فلم تكتَرِثْ لمثل
هذه المناظر، ولم يلفت اِنْتباهها أيَّ شيء.
لا
تريد إلَّا أن يكون بداية مدخل الدَّرج سالكٍ بشكل دائم. عدَّة مرَّات أبلغت "نبهان"
باحتجاجها:
-دخيلَكْ
يا "نبهان" أنقذني..!!. هلكتُ حتَّى اِسْتطعتُ الوُصول، أنتَ
عارف.. غالبًا تكون كُندَرَتي ذات الكَعْب العالي دومًا، هي التي ألبسها في قدميَّ،
بينما ذاتُ الكعب المتوسِّط أحيانًا وأقلَّ بمرَّات، ولا يَروقني من الأحذية إلَّا
الأنواع ذات الكُعوب العالية.
بينما
هذه الكُندرة التي تراها الآن جلدها من النَّوْع النَّادر، جاءتني هديَّة من
القاهرة، من أُختي أثناء ذهابها مع زوجها المُهندس، عندما أرسلوه بدورة تدريبيَّة
في مركز زِراعيٍّ يتبعُ لجامعة الدُّول العربيَّة.
"نبهان"
بطبيعته الودودة، ولكي يُعطي اهتمامًا لكلامها، بطريقة مُوحيَةٍ بعفويَّتِها
لكنَّها غير بريئة، ولِحُبِّه أن يتقرَّب منها على الدَّوام، كان يتساءل:
-سيِّدة
"سيرا"، فيما مضى اِشْتغلتُ في محلٍّ لبيع الأحذية، وأمتلكُ من الخبرة في
هذا المجال؛ فقد شوَّقَتني مقولتكِ في كلِّ مرَّة أشعرُ بضيقِكِ من الممرِّ،
لأسألكِ عن نوعيَّة جلد كُندرتكِ؟.
"سيرا"
ترفع حاجبيْها للأعلى علامة الاهتمام، مع شهقَةٍ خفيفةٍ ترتفع معها حمَّالة صدرها
للأعلى، الحركة التي ينتظرها "نبهان" في كلِّ مرَّة يُثير معها
أيَّ حديث أو نقاش، عادة ما يفتعلُ موقِفًا بحركة مُثيرة لاِسْتفزازها، لِتتوَّقف
أكبر مدَّة زمنيَّة يتجاذب معها أطراف الأحاديث، بطبيعته يُرسل نظراتِه اِسْتراقًا
لِتَضاريسها المُتحرِّكة عُلُوًّا وهُبوطًا.
ترتسم
اِبْتسامة عريضة على وجهها تتآخى مع حركة واضحة من رأسها، وتردُّ عليه:
-بكلِّ
سُرورٍ يا "نبهان"، كما تعرف أنَّ خُصوصيَّاتي لا أستطيعُ
الإعلان عنها، أو الخَوْض في بعض جُزئيَّاتها إلَّا للخواصِّ من الأصدقاء من
أمثالكَ، تواضُعي يتنافى مع الكلام عن نفسي، بالطَّبع هو جلدُ أفعى.
تبدو
علامات الدَّهشة على وجه "نبهان". يخفضُ رأسه للأسفل، ثمَّ بحركة
سريعة يرفعه، ليُحدِّق في السَّقف، وتمتدُّ يده اليُسرى ليهرُشَ فروة رأسه، بينما
اليُمنى يتكِّئُ عليها على طرف الطَّاولة العتيقة، ويقول:
-بالفعل
كما تفضَّلتِ حضرتكِ؛ فإنَّ الأحذية المصنوعة من جلد الأفاعي نادرة في السُّوق
السُّوريَّة، كما أنَّها غالية الثَّمن، ولا يطلبها إلَّا الأثرياء من الزَّبائن،
كنساء الضُّبَّاط والوُزراء والفنَّانات، كما أنَّ أغلب هذه الموديلات نستوردها من
مصر وإيطاليا وإسبانيا، وأسعارها فوق.. فوق في العلالي.
شعورٌ
داهمٌ بنشوة يجتاح "سيرا" طربًا لما تسمعُ من "نبهان"،
وتُعقِّبُ:
-يُعجبني
ذوقكَ الجميل كما أنتَ يا "نبهان"، قليلون مَنْ يعرفون كلامكَ،
ومنْ يُقدِّرون نوعيَّة الحذاء وماركته؛ لذلك ستبقى تسمع اِحْتجاجي، لأنَّني أعرفُ
أنكَّ حريصٌ على راحة نُزلَاء البنسيون.
-بكلِّ
تأكيدٍ سيَّدتي كما تعرفين؛ فإنَّ حِرْصي شديد على راحتكم.
تودُّ
لو أنَّها تستطيعُ تسجيل اِحْتجاجها على ورقة، أو كرتونة تُعلِّقَها على الجِدار
المُقابل لطاولة "نبهان"، لكي لا ينسى، ويبقى يتذَّكر طلبها
المُتكرِّر، وتتابع:
-لو
تستطيعُ إبقاء الممرِّ سالِكًا؛ ففي بعض الأحيان يضيقُ ممَّا يضطَّرُني للمَشْيِ
الجانبيِّ بحذَرٍ، خوْفًّا من التعثُّر والسُّقوط، أو اِنْحشار جِسْمي بين الأغراض
التي يكتظُّ بها الدَّرَج من أوَّل درجة عند المدخل حتَّى هنا، ومن الأوساخ التي
ستعلقُ بملابسي، التي يصعُب تغسيلها وكَيَّهَا كما تعلَمْ.
في
كلِّ مرَّة كان يستجيبُ لها على طريقته الوحيدة؛ بصبِّ جَامِ غَضَبه على مُساعِدِه
"أيمن" الشابِّ الصَّغير ذي الخمسة عشر عامًا على أكثر تعديل.
..*..
(5)
العمارة
الضخمة ذات الطوابق الثلاثة في محيطها تُعتَبر شاهقة، تطالعُ الشَّخص العابر من
بداية مدخل الشَّارع الخلفي لشارع "لوبية" الرّئيس كوجهٍ مومياء
عتيقة لا أحد يحبُّ النَّظر إليه، مهما كانت الظُّروف.
مظهرٌ
كئيبٌ باعثٌ على الإحباط للوهلة الأولى للقادم إليه للمرَّة الأولى. تنافَرُ
الألوانُ بِتَآخٍ بشكلٍ عجيب، الجُدران المُقشَّرَة من طول مُعاناتها من الاِشتباكات
المُتبادلة يوميًّا بين المُتحاربين الأشدَّاء، والقصف المُتكرِّر من الجيش
والميلشيات من أماكن بعيدة، المكان تقدَّم لمقدَّمة الحَدَث عربيًّا وعالميًّا،
عندما دخل مقاتلو داعش مُخيَّمَيْ "فلسطين" و "اليرموك".
لا
يحتاج الخوف لمُبرِّرات لكي يستقرَّ في ذاكرتكَ، المشهد يبوح بخفاياه بلا كلام.
مع
درجة أخرى تعلوها قَدَمُ "سيرا" ما زالت مُسترسِلةً في كلامها،
بينما لسان "نورما" كأنه مربوط ولا تستطيع الكلام:
-"نورما".
عزيزتي "نورما"، أرجو أن تتقبَّلي الوضع هنا، وتأخذي الأمور بكلِّ
بساطة: لتستطيعي مقاومة صعوبات العيش التي تعيشها البلد كاملة، ربَّما نكون
محظوظين بلقائنا غير المقصود، ومن غير ترتيبات أو تحضير، وكما يُقال: (فإنَّ
الصُّدفة خير من ميعاد)، أو مئة ميعاد.
الدُّنيا
لا تبخلُ علينا بل تجودُ بالضِّيق على الرَّغم من رحابتها؛ ففي بعض الأحيان لا
نراها إلَّا كُخرم إبرة. تخلَّينا عن الكثير في سبيل صُمودنا في الحياة الصَّعبة
أصلًا قبل مرحلة الحرب التي نحن فيها الآن، فما بالُكِ فيها الآن. وأنتِ لستِ
غريبةً عمَّا سأقوله؛ فكما أعرفُ.. أيضًا أنتِ تعرفين وأكثر، لا شكَّ أنَّ المُعاناة
امتدَّت من أقصى الجنوب إلى أقصى الشَّمال، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشَّرق.
صمت
المقابر المُريب جاثِمٌ بأثقاله على صَدْر "نورما"، لا يعلمُ
أحدٌ إلَّا الله، أنَّها سمعت كلام "سيرا"، فلا هو صمتُ التفكُّر
في خلق السَّماوات والأرض كما يُظَنُّ من صَمْت العُبَّاد والزَّاهدين، ولا صمتُ
العاجزين عن الردِّ. ولا هو بالسُّكُوت الذي يُقال عنه علامة الرِّضا، لا أحدٌ
يعلم حقيقة الرِّضا عن أيِّ شيء، عن الخوف والجوع مثلًا..!؟.
فلا
هي صامتَةٌ ولا راضية، لكن لم يبدُ عليها السَّخطُ. "سيرا" تَصْعَدُ
درجةً تِلوَ أخرى، ولسانها لم يتوقَّف عن الكلام المُوجَّه لـ"نورما".
اِسْتغراقها منعها لم تكترث، ولم تلتفت للوراء؛ لتتأكَّد من مُتابعة "نورما"
لها.
روائحُ
مُختلطَة يصعُب على حاسَّة الشمِّ فَرزها، كما هي العُطور المُركبَّة من عدَّة
أصناف مختلفة، الضعيفُ يغيب في قوَّة القويٍّ، بينما القويُّ يفقد كثيرًا من قُوَّته
المُتبدِّدةِ في ضعف محيطه.
المرحلة
الأولى من صُعود تسع درجات، تتماثل مع الأعوام التِّسعة من عمر الحرب. والتِّسعُ الثَّانية
كأنّها حصاد خَيْبات الحرب. بينما "نورما" تباطأت خُطواتها
المُتثاقلة عن متابعة الصُّعود.
"سيرا"
تمتدُّ يدها اليسرى، لتهرُش ظهرها، ثم تستدير لتهرش أسفل بطنها، وبالأخرى تُبعد
خُصَلات شعرها المُتناثرة على وجهها، لترى الطَّريق بوضوح.
..*..
(6)
النُّهوض
من الرَّماد عملٌ شاقٌّ، وسيبقى الرَّماد مُحيطًا كالوَحْل عالقًا يصعُب التخلُّص
من آثاره بسهولة، لمن وقع في أُتونِه بِمَحْض إرادته أو كان مُجبَرًا على ذلك.
كراهة
المُحيط، والتأفُّف ظاهرة عاديَّة، ما داموا مُتأقلمين بجُزئيَّات حياتهم، إدمان الحالة
مُوحٍ على الأقلِّ بالرِّضا بِالمُخلَّفات؛ وأيّ شخص مجبَرٌ على التوافق مع مُعطياتٍ
مفروضةٍ عليه بحكم الواقع. لا يد له فيها.
لا
خيارات أمام المغلوبين. المغلوب على أمرهم لا يستطيعون حيلة، ولا فَتْل فتيلة وإن
كانت بِسَماكة شَعْرة واحدة.
جدار
نبهان إضافة جديدة على الطَّابق الثَّاني للعَمارة، على غِرَار الجِدَار في
الطَّابق الأرضيِّ المُقابل لِبُوَّابة المدخل الرَّئيس، كِلَا الجِدَاريْن عَزَلا
خلفهما الشُّقَق الأربع المُكوِّنة لكلِّ دَوْر، المُستجدَّات تُعطي أفكارًا
خلَّاقة بإضافات ضروريَّة لطبيعة الاِسْتخدام، وتغيير المعالم القديمة، ليس دائمًا
يكون التَّغْيير للأفضل، إنَّما لَتلبية حاجة في نفس صانعها.
مشروع
نبهان اِسْتثمار في الخراب، ومن يدري..!! ربَّما يكون مشروعًا ناجحًا. عقليَّة
تجاريَّة حملها معه من أيَّام عمله بتجارة الأحذية على مدار سنوات.
كان
ذلك قبل الحرب، اقتصاد الحرب قائم على عقليَّة تستقطبُ مهارات كيفيَّة جمع المال
كيفما اِتَّفق.. على قاعدة: كلُّ شيء في الحرب مُباح، وبلا حَرَج، والشَّاطر
بِشطارته.
شهيَّة
الثَّراء قابليَّة بشريَّة عُمومًا، المُحاكمة العقليَّة تختفي عند الأكثريَّة،
لاستغلال الظرف الطَّارئ، حتَّى أنَّهم يقولون:
-"حلال
على الشَّاطر، أموال وأرزاق على قارعة الطَّريق، ستذهب لي ولغيْري، فأنا أوْلى بها".
"نبهان"
من غير المُؤكَّد أنَّه سمع بــ"ميكيافيلِّلي"، ولا معرفة له
إطلاقًا باسم من قالها:
-"الغاية
تُبرِّر الوسيلة".
والده
أخرجه من المدرسة؛ عندما أيقنَ أنَّ ابنه حفظ جدول الضَّرْب، ليستطيع إجراء
الحسابات البسيطة اللَّازمة بالجمع والطَّرح والضَّرب للأرقام أثناء التَّعامُل مع
الزَّبائن، مهارته الآن صقلتها تجربته في صغره، وكأنَّها منقوشةٌ على صَخْر،
إصراره العنيد في أن يُصبح صاحب رأسمال، ويمتلك محلَّه التَّجاريّ الخاصَّ به.
الحرب
فُرصةٌ خاطفةٌ لـ"نبهان" وأمثاله لاِنْتهازها، اِخْتلفت الظُّروف
الآن بعد دمار بيتهم وموت أسرته، تركَّز عقله عند الحاجة للمال كغاية كيفما كانت
الوسيلة؛ لتكوين ثروة من أجل المستقبل، الحرب لن تدوم مدى الحياة مهما طال
الزَّمن، عند مجيء السِّلم ستدور عجلة الحياة بِرِتْمٍ مُتسارع لِلَّحاق
بِمُتطلَّبات العَرْض والطَّلبِ على كُلِّ شيء.
الحاجة
أمُّ الاختراع، عبارة أسَرَّها "نبهان" في نفسه، ولَهَج بها لِسَانه
مِرارًا في فترات سابقة ولا زال، صباح كلِّ يوم مُبكِّرًا يبدأ بالعمل بتشليح
العمارات المجاورة القريبة والبعيدة المُسْتَقرَّة، يعمل مع أجيره "أيمن".
المنطقة
فارغة تمامًا من سُكَّانها الأصليِّين، أصحاب البُيوت ومالكيها، والمُستأجرين.
جميعهم هُجِّروا عُنوةً، لم يتبقَّ منهم إلَّا أقلَّ القليل، لم ينتبه لهم أحد من
كبار السِنِّ؛ الذين عجزوا عن الفرار بأرواحهم، أصَّروا على الحياة والتجذُّر بمكانهم. اِخْتاروا البقاء حتَّى
الممات في مكانهم. إصرار عجيب بمواجهة الموت بلا خوف.
..*..
(8)
ابتكارٌ
جديدٌ غير مسبوق بفكرته، جديرة تسجيلها بموسوعة "غينيس" للأشياء
الغريبة: تجارة التَّشليح. للوهلة الأولى تبدو غريبة لا يمكن اِسْتيعابها.
في
الحرب تتآلف المُتناقضات وتتقارب؛ فتموت القِيَم، وتنتشي شهوة تحويش الأموال.
الحربُ فرصةٌ عابرةٌ ربَّما لن تتكرَّر ثانية على المدى القريب.
عندما
أحسَّ "نبهان" بخطوات تقترب من الدُّخول، وصوت "سيرا"
يسبقها؛ بدأ يُخفِّض من صوته لصديقه "محمود "الجالس قريبًا منه،
الذي ما زال يستمع لــ "نبهان"، ولم يُعلِّق بكلمة واحدة على مدار ساعة
سابقة على هذا الوقت:
-المُسيْطرون
على المنطقة من عناصر الأمن والشبِّيحة من قادة الدِّفاع الوطنيِّ الشَّبيهة
بالميليشيات المُتعاونين مع القائمين على الحواجز يتحكَّمون بمداخل ومخارج
المنطقة، يقومون ببيع العمارات والبيوت والمحلَّات المهجورة، لِتُجَّار الخُردة
الذين يدفعون مبالغ مقطوعة، مُقابل السَّماح لهم بنقل كلِّ المُخلَّفات من الأثاث
والأدوات المُتبقيَّة، مثل الأبواب والشَّبابيك وإكسسوارات الحمَّامات والكهرباء،
حتَّى الأسلاك الكُهربائيَّة يسحبونها من أماكنها داخل الجُدران؛ لبيعها كمادَّة
نُحاسيَّة، أيضًا بلاط السِّيراميك يخلعونه، وبلاط الأرضيَّات ينزعونه أيضًا؛ لأخذ
مادَّة الرَّمل التي تحته؛ لبيعها، وإعادة تدويرها في أعمال إنشائيَّة أخرى.
مفهوم
التَّشليح ينطبق بما هو متعارف عليه بالسَّرقة وقُطَّاع الطُّرُق، أو عندما يَشْلَح
المرء لِبَاسه ليبقى عاريًا، وهو مثل حالة البيوت والأبنية تُصبح جدرانها عارية من
كلِّ شيءٍ.
تجارة
الخردة أصبحت سوقًا مُوازيًا له ثقله، كلُّ أغراضه مسروقة ومنهوبة، الأسعار فيه
أرخص بكثير من الموادِّ الجديدة بكلِّ المعايير.
..*..
(9)
"سيرا"
بطبيعتها بشوشة بِسُطوع شمسها دائمًا، طبيعة وجهها الواسع المُدَوَّر المليء،
الُمتورِّد الوجنَتَيْن. رسالة تسبقها بالتعريف بها، قبل انطلاق أيَّة كلمة منها.
توجَّهت
أعيُنُهما صَوْبها. "محمود" بدا نظره مَشْدوهًا من صدمة المنظر
المُباشر غير المألوف له قبل ذلك عن قُربٍ، وهذه الاِبْتسامة الودودة بجاذبيَّتها
الأخَّاذة.
تسمَّرت
عيناه في نُفور صدرها المُتوحِّش المُندفع للأمام؛ يُريد الانقضاض على خصمه. شفته
السُّفلى مُتهدِّلة للأسفل؛ أفسحت المجال بنصف اِنْفراجة من فَمِه، لترى أسنانه
المُصْفَرَّة؛ ربَّما أنَّها قالت لنفسها:
-"مسكينٌ
لا يملكُ فرشاة، ومعجون أسنان".
اِبْتسامة
عريضة اِرْتسمت على وجه "نبهان"، بادرها قبل أن تتكلَّم بأيَّ كلمة:
-يسعد
لي هالمسا يا رب، صدِّقيني لا يرتاح قلبي، ولا تعود أنفاسي لي إلَّا حين عودتكِ
كلَّ مساء، لا أدري لماذا هذا الإحساس يُسيْطر عليَّ. أعرِّفكِ بصديقي "محمود"،
اِلْتقيتُه صُدفة قُربَ كَرَاجَات "باب مُصلَّى"، لا أدري إلى
أينَ كان سيذهب، لو لم أمسك بيده؟.
للوهلة
الأولى نَظَرنِي بغرابَة؛ أشعرتني بالخوف. عُبوسُ وجهه الجامد كَلَوْح ثلج، إلى أن
صرختُ بوجهه:
-"محمود"
أينَ أنتَ كلَّ هذه السَّنوات، اِستعاد وَعْيَه، وابتسمَ لي، وأخذنا بعضنا
بالأحضان، والعِنَاق لخمس دقائق، رُدَّت رُوحي إلى صدري، وأخبرني لحظتها مثل ذلك.
-مرحبًا
بكَ "محمود". سعيدةٌ بكَ لمقامكَ عند "نبهان"،
نحنُ هنا صِرْنا عائلة واحدة منذ لقائنا لأوَّل مرَّة، وها هي صديقتي "نورما"
قادمة ورائي مازالت تصعد الدَّرجات ببطء، كأنَّها سُلحفاةٌ هَرِمَةٌ أتعبها
الزَّمان.
-من
تكون هاي البنت يا "سيرا"؟. يسألها "نبهان".
-في
الحقيقة تعرَّفتُ إليها الآن عند مدخل البنسيون، كانت حائرة، وهي تتهجَّى
كلمة (البنسيون) المكتوبة كخرابيش الدَّجاج. بإحساسي الذي لا يخيبُ، جاء
مُطابقًا لظنِّي بأنَّها تبحثُ عن مكان لتأوي إليه.
مع
ذلك أجابتني بلهجة العارف بأصل الكلمة، واِسْتفدتُ منها المعلومة، لأنَّني لا حاجة
لي بمعرفتها:
-"أصل
كلمة "بنسيون" فرنسيَّة تعني النُّزُلْ, عادة ما يكون بيتًا
عاديًّا مُصمَّمًا للإيجار، ويقوم صاحبه بتأجيره، وغالبًا ما يُقيم مع
المُستأجرين، حَيْرتي غير المُبرَّرة: أن لا شيء يدلُّ على ما أعرفه عن طبيعة (البنسيونات)
في العادة".
-أهذا
كلَّ شيء تعرفينه عنها..!!؟.
-يا
"نبهان"..!! اِنْتظر دقيقة أو اثنتين فقط، وستكون البنت هنا إلى
جانبي، وستفهمُ بنفسكَ منها بما تُريد سُؤالها عنه.
"محمود"
شارد الذِّهن. نظراتُه سائخة في تضاريس "سيرا"، يسمع كلامهما،
ولم تصدُر عنه ولو كلمة واحدة، على الأغلب أنَّه لم يرُدَّ السَّلام عليها، عندما
ألقت تحيَّة المساء عليهما.
التَّضاريس
الصَّعبة تمتصُّ صدمة النَّظرات، وتُحطِّم الإرادة الضَّعيفة. "سيرا"
انتبهت لنظرات "محمود" المغروزة فيها. شعرت بوخزها العميق
بدواخلها. عندما فاجأتهُ؛ خَفَق قلبه بشدَّة، كأنَّما سمعت طقطقة أضلاعه في صدره، وكان
قميصه يهتزُّ بحركات، بِخِبْرتها العريقة دخلت إلى عقله المسلوب، وفسَّرتْ مشاعره
المُتهافِتَة، وشعرت بقلبه المُرتَجِف، لكنَّها لم تُحدِّد هل من الخوف أو الحُبِّ
من أوَّل نظرة، أم هو شَبَق الاِشْتهاء، الاشتهاء الظَّاهرة الفجَّة عند الرِّجال
عُمومًا.
فعلى
أيِّ مَحمَل فهِمَتْ نظراته، لم يمنعها ذلك من توجيه الكلام له؛ تريد أن تسمع نبرة
صوته:
-سلام
يا "محمود". ومدَّت يدها له.
-عليكِ
السَّلام. مرحبًا بكِ. ليلتقطها بخجل، لكنَّه تلذَّذ بطراوتها، تمنَّى لو يستطيعُ
ضغطها، ليُبقيها لصيقة يده. لم يستطع إلَّا شرح مشاعره لصديقه "نبهان"
إلَّا في اليوم الثَّاني أثناء خَلْوتِهما، عندما تأكَّد من خُلوَّ (البنسيون)،
وبصوت خفيض:
-
يا رجل شعرتُ بِكُهْرُبائِها سَرَت في أعصابي، وتَّرَتْني، لو بقيتْ ربع دقيقة
أخرى لأصابني البَلَلَ.
من
بُحَّةُ صوته الواهنة. أدركَتْ بأنَّه لن يزيد على ما قال بكلماته الأربع، ولا
رغبة لديْه بالمزيد من الكلام. لا تريدُ الإثقال عليه، ولا أن تُحرجه بما كانت
تنوي من فتح حديث معه، أو ثرثرة للتسلية. قالت في نفسها:
-"الأيَّام
قادمة، سأدعه الآن". لم تُدرك اِرْتجافه الدَّاخليِّ، وتوتُّره.
بينما
"نبهان" مشغولٌ بكتابة شيءٍ ما في دفتره الخاصِّ لمتابعة مراجعته
اليوميَّة، الذي لا يسمح لأحد بالاطِّلاع على ما فيه. يده اليُسرى كان يضعها فوق
السَّطر الذي يكتبه. كأنَّما تذكَّر شيئًا ضروريًّا في هذه اللَّحظة، واِنْفصلَ
كُليًّا عنَّا.
دُخوله
في حديث مع صديقه جاء فرَجًا له، يده اليُمنى تكتُب الأحرف والكلمات المصحوبة
بأرقام؛ بتعجُّل واضحٍ من حركتها السَّريعة.
تركيزه
شديد لم ينتبه لي على غير عادته. استغلال الوقت ضروريٌّ قبل وصول نورما مع
أنَّه لا يعلم بقدومها. مؤكَّدٌ. أنَّه لم يسمع سلامي على صديقه الجالس بجانبه، ولا
ردَّهُ عليَّ. هكذا قرَأَتِ "سيرا" المشهد في سرِّهَا، ومن وِجْهة
نظرها.
..*..
(10)
الساعة
حوالي الخامسة مساء، الشَّمس تميل بطبعها المُتأصِّل فيها إلى جهة الغروب ببطء
نستطيع اِسْتيعابه بشكلٍ منطقيٍّ. الاِسْتعداد النفسيّ لأيِّ شيء مُنتظَر لا
يفجعنا فيما لو حصل فجأة.
سَعْلةٌ
خجولةٌ. حاولت "نورما" كَتْمَها في صدرها بوضع يدها على فَمِها
بإحكامٍ، مع ذلك نبَّهت "محمود" لترقُّب القادم. "نبهان"
مُنشَغِلٌ مُستغرِقٌ بتوثيقٍ مُهِمٍّ. الحساباتُ لا تحتمل التأجيل قطعًا.
عينا
"محمود" سبقتا عينا "نبهان" بالتَّرحيب
بـ"سيرا" وصديقتها التي يشاهدها للمرَّة الأولى، لم يزد في رَدِّه
عليها، حينما سألته ثانية:
-كيفك
يا "محمود".
-الحمد
لله.
بينما
اللَّهفة تنهش قلبها لمعرفة من يكون هذا الضَّيف الجديد، قدَّرت أنَّه صديق حميم لــ"نبهان".
اِتَّكأت
بكوعَيْها على مُقدَّمة الطَّاولة الحديديَّة ذات الحجم الكبير، مثل تلك التي كانت
في دوائر الدَّوْلة المُختلفة، عليها قِطْعة من السِّجَّاد الرَّقيق -بدل لَوْح
البلَّلور -مثل التي تُعلَّق على جدران الغُرَف، لأنَّها عادة ما تحمل لوحة فنيَّة
جميلة لافتة للنَّظر، وتُعطي بُعْدًا آخر للجدار.
بينما
تدَلَّى صدرُها المليء ليرتاح على سطح الطَّاولة، وشدَّ فتحة صدْر الكنزة (تي
شيرت) القُطنيَّة الواسعة؛ فعندما تتَّسِع مساحة الرُّؤية تضيق العبارة ذَرْعًا
باللِّسان المُتجمِّد بلا نُطْق؛ لتسبح نظرات "محمود" عميقًا
تتحسَّس مساحة مُنبسطة بيضاء بمساحة غوطة دمشق، وقناة بَيْن بَيْن، كزقاق ضيَّقة
في حارات دمشق القديمة. واضحة المعالم من تحت حمَّالة الصَّدر السَّوداء.
تَفَرَّستْهُ
بعينيْها الدَّعْجاويْن، بنظراتٍ شَغُوفة تتهيَّأ لأكله بلا مِلْحٍ، كانت
مُتأكِّدةً بإحساسها الشَّفيف إلى أين وصل بنظراته.
نبرات
صوت "نورما" واهنة، لم تَكَد تصل إلى سمع من هُم في الدَّاخل،
لذلكَ لم تلفِتْ انتباه أحد. الاستغراقُ سيِّدُ الموقف في هذه اللَّحظة
التَّاريخيَّة، مجالات ثلاثة أغرقت نظراتَ كُلًّا من ثلاثتهم.
اصطدمت
نظرات "نورما" ثانية بعجيزة "سيرا"، ووجه "نبهان"
المُنكبِّ على دفاتره، ووجه "محمود" اللّاَهي بنظراته الغارقة في
صدر "سيرا"، بينما عينا التِّمثال الجِبْسِيِّ المُذهَّب
تُحدِّقان بحدَّة في وجه "نورما".
كأنَّه
حارسٌ واقفٌ مـُتأهِّبٌ على قائِمتَيْه الأماميَّتيْن في حالة ترقُّب، تبثُّ
الرُّعب في قلب القادم للمرَّة الأولى إلى هذا المكان، وشُعورٍ غامرٍ بهيبة وقوَّة
من يجلس خلف الطَّاولة أيًّا كان.
مرآةٌ
ذات إطار خشبيٍّ بلونه البُنيِّ القاتم المحروق، بحجم كبير أخذ مساحة نصف الجدار
خلف طاولة المكتب، لا أحد من سكَّان (البنسيون) يعلم الحكمة من وضع المرآة في هذا
المكان.
"نورما"
دُهشت من شكلها المُهلهل غير المُتَّفق
مع أناقتها المعهودة قبل ذلك، منذ أسبوع أو أكثر لم تعرف شيئًا عن مظهرها الذي
نسيته، هالها ما رأت، توجَّست من اِزْدراء من ستُقابلهم بعد لحظات.
المرآة
شغَلَت "نورما" عن نفسها؛ فتأمَّلت وجه وصدر "سيرا"
المُندلق على الطَّاولة، ومؤخِّرتَيْ رأس "محمود"، ورأس "نبهان"
المُنخفضة للأسفل تتابع ما يشغله.
لُغَة
العيون تتَّخذ بلاغتها من الصَّمت الموحي بفلسفة غُموضٍ مُنتَظَر على أحَرِّ من
الجَمْر. لكنَّه مُثير للقلق.
..*..
(11)
"نورما"
وقفت للحظة مَبْهُوتة حائرة. تململت "سيرا" بتثاقُل، ورفعت رأسها
بينما يدها اليُمنى؛ لتزيح عن عينيْها ما تناثر من شعرها البُنيِّ المُوشَّى بِخُصلات
حمراء بلون النُّحاس، ألوان تدرُّجات الغُروب، لا تُطيق إلَّا أن تبقى حاضرة في رأسها
على الدَّوام.
ربَّما
في هذه اللَّحظة ذهبت سَكْرَةُ صدمتها، وجاءت الصَّحوة، نظرة سوداويَّة، حرَّكت
رواسب أفكار قديمة من بقايا قراءات منسيَّة:
-
القهر والخوف يَحْرفان الرُّؤية باتِّجاهات السُّبَات، والمُستنقعات الرَّاكدةربَّما تكون آسِنَةً، على الأغلب لا
تصلُح إلَّا للطَّحالب والإشْنِيَّات، التي تنمو في بيئة مُنغَلِقة غير طبيعيَّة
أبدًا.
"سيرا"
لمحت "نورما" واقفة عند مدخل (البنسيون). لم ينتبه أحد
لها، اِسْتدارت وبخطوات نَشِطة تقدَّمت منها، أخذت بيدها، وقادتها؛ لتكسر حاجز الحَيْرة
والخوف أمام طاولة المكتب الحديديَّة.
أأتأــ
مع
كُلِّ خُطوة من مدخل العمارة، كانت الدَّرجات تمتصُّ تَعَبَها، وتستنزف ذكرياتها.
تكمُد
في نفسها قلقها من فُقدان زوجها الذي اعتُقِل على الحاجز، عندما أنزلوه، ومالم
يكُن في الحسبان، ولو بنسبة ضئيلة من التوقُّعات، حُدوث هجوم مفاجئ تَبِعَه اشتباك،
قبل أن يتحرَّك الباص بلحظة مثل رَمْشة عَيْن، فيما بيْن عناصر الحاجز ومُسلَّحين.
..*..
(12)
مبدئيًّا
أغلقَ دفتره، وترَكَ القلم بداخله بنفس الصَّفحة التي كان يكتب فيها؛ فعلى غير
عادته، لم يقُم على حَيْلِه للترحيب بالضَّيْفة الجديدة.
هل
نسيَ ما كان يترتَّب عليه؟.
أمْ
إنَّه غير مُكترثٍ؟.
لا
أظنُّ أيًّا من الاحتماليْن. تبدَّدت شُكوكي بقوله:
-عيناي
زائغتان ما إن رفعتُ رأسي حتَّى داهمني دُوارٌ، وخَدَر في رِجْلي اليُمنى، سامحيني
"سيرا" وأختنا صاحبِتُكِ.
-سلامتكَ
عليك العافية، ما تَشُوف شَرْ. قالت "سيرَا".
"نورما"
خافضة رأسها لم ترفع عينيْها، قالت:
-سلامات
أخي.
-أوَّلًا
يجب أن أُعرِّفكَ على صديقتي "نورما" التي تعرَّفتُ إليها منذ
دقائق عند مدخل العمارة، سُبحان الله..!! أحْبَبْتُها من أوَّل لحظة رأيتُها دخلتْ
قلبي.
بعد
كلامها توجَّهت بكلامها لي:
-حبيبتي
"نورما" من فضلكِ أنا تعبانة جدًّا، يومي كان حافلًا بالعمل منذ
الصَّباح، وقبل الثّامنة موعد الدَّوام الرَّسميِّ، كما تعلمي أنَّ يوم الأحد من
كلِّ أسبوع؛ تكون المواصلات مُزدحمة جدًّا، تستلزم الانتظار، فضلًا عن اِنْشغال
الموظَّفين المُكثَّف.
ولولا
علاقاتي بهم منذ زمن، لن أستطيع إنجاز توقيع واحد على أيِّ مُعاملة، فما بالُكِ في
هذه السَّفرة؛ فقد جلبتُ معي خمس وعشرين إضبارة للحُصول على جوازات سفر مُستعجلة
لعائلات، وشباب ينطُرون بفارغ الصَّبر للسَّفر أينما كان. هذه المرَّة سأرسلها
بالباص فور إنجازها، لن أُسافر مرَّة ثانية إلى القامشلي. سأكلِّفُ من يستلمها
هُناك ممَّن أثق به، لإيصالها لأصحابها بطريقته.
بعد
أن حُرِقَت في محافظتنا الحسكة دائرة النُّفوس والأحوال المدنيَّة، ومقرُّ
دائرة الهجرة والجوازات. لم تبق طريقة لإنجاز المعاملات المُستعجلة إلَّا هنا.
أهون عليَّ من الذَهاب إلى حلب.
أظنُّ
أنَّ لدى "سيرا" المزيد من الكلام بلا انقطاع، يبدو أنّها
مُضطَّرة للدُّخول إلى غرفتها. عندما اِسْتدارت بخطواتِها رأيتُها مُتعبة، وبَلَل رُطوبة
العَرَق على ظَهْرها، خاصَّة تحت إبْطيْها، قالت:
-"نورما"،
أنتظركِ فوْر اِنْتهائكِ من "نبهان"، اِدْخُلي فورًا الغرفة بلا
اِسْتئذان. أنتظرُكِ هُناك. ثناأأاأأ
-أهلًا
بكِ "نورما" أنتِ أختٌ لنا. مرحبًا بكِ. نحن هنا بمثابة أسرة
واحدة، مصيرنا مُشتَرك، قدَرَ اِسْتطاعتنا يجبُ المُحافظة على بعضنا، ومهما حدَثَ
من مصاعب ومشاكل، سنحاولُ حَلْحَلَتها بأقلِّ الخسائر. ولا أن نخسر أحدًا منَّا.. ساعتها
يتركنا ويذهب.
"نورما"
ما زالت خافضة رأسها، اِعْتدالُ الجوِّ لم يمنعها من مَسْح جبينها المُتعرِّق على
غير عادتها، اِرْتباكٌ. "محمود" يتابع بِعَيْنيْه حركات الأيدي
وتعابير الوجوه. لم يُشارك ولو بكلمة واحدة، كان وجوده مثيل عَدَمه.
في
الغرفة تشرح "سيرا": أسئلة "نبهان" لا غِنَى
عنها خاصَّة عند قُدوم أيِّ شخص جديد يَفِدُ إلى (البنسيون)، لا يُمكنه
تأجيل ذلك، للتأكُّد من هُويَّة نُزلائه. ضروريٌّ معرفته بمعلوماتٍ كثيرة عنهم.
وهذا
ما رأيتُه سابقًا عندما جاءت "لارا" بعد أسبوع منَّي، ومن ثمَّ بعدَها بِيَوميْن
بالضَّبط قدمت "فايا". بالطَّبع لمْ أنْسَ السَّاعة الأولى عندما وصلتُ
إلى هنا قبل تسعة أشهُر، أخضعني لجلسة تحقيق، وقتها تخيَّلتُ نفسي في فرعٍ أمْنيٍّ.
الفرق
هُنا لا ضرب، ولا تعذيب لاِنْتزاع المعلومات، هَلَكَني بأسئلته الذكيَّة، لا أظنُّه
إلَّا أنَّه كان قد خَضَع لدورة تدريبيَّة في التحقيق مع المُعتقلين على أيدي
مُحقِّقين مُحترفين.
خلال
لحظة واحدة اِسْتطاعت "سيرا"؛ اِسْترجاع شريط ذكرياتها في هذا المجال، وبسرعة
بديهتها تأكَّدَتْ من ملامِحِ البدايات قبل ذلك بزمَنٍ، بحديثها مع نفسها.
..*..
(13)
واهًا
يا قلبيَ المحزون.. واهًا....!!
واهًا
يا دُموعيَ المكبوتة.. واهًا..!!
واهًا
يا زوجي المغدور.. واهًا..!!
واهًا
يا زمان الموت.. واهًا..!!
واهًا
يا أيُّها الوقت المُتسرِّب من حياتي.. واهًا..!!
واهًا
يا أنا.. واهًا..!!
حتَّى
اللحظة الأخيرة من الوقت الضَّائع مفقودة لم أحصل عليها، ولم تُتَحْ لي؛ لأبكي
زوجي. في زحمة الموت تجفَّ الدُّموع، ويتوقَّف العقل عن التَّفكير. عندما تأتي
وقفة مع الذَّات بعد اِبْتلاع الصَّدمة، تكون الأعصاب بَرَدَتْ، وتأتي مرحلة
التّفكير والتَّفسير باِسْتذكار تفاصيل التفاصيل، باستغراق واعٍ كما أنَّه عميق.
وهذا ممَّا لم يحصل حتَّى لحظتي الرَّاهنة، مؤكَّدٌ أنَّني سأُرتَهَن لها زمانًا
طويلًا لاستيعابها.
"نبهان"
يُعاين بطاقتي الشَّخصيَّة (الهويَّة).
نظراتُ زوْجي الأخيرة عندما أنزلوه مُكبَّلًا، يداه خلف ظهره، ووضعوا الطُمَّاشَّة
الجلديَّة السَّوداء على عيْنيْه، اِخْتفى النُّور صار كالأعمى، اِقْتاده
العسكريُّ بخُشونة وقَساوة، كانت النِّهاية عند خُطوَته العاشرة باتِّجاه مكان الاِحْتجاز.
بُوغِتْنا
جميعًا بزخَّات رصاص. هُجومٌ مفاجِئٌ لمسحلَّين؛ أرادوا اِقْتحام الحاجز، للسَّيْطرة
عليه. الصِّراع تِنِّينٌ لا يفتأ يُطلِق النَّار على كلِّ ما يُصادفه، لا يهدأ إلَّا
إذا أحْرَق كلَّ شيء، وحطَّمه.
جحيم
جهنَّم اِنْفتح لمدَّة نصف ساعة، ونحنُ غارقون في نوبة رُعْب غير مسبوقة في حياتي،
ولا أظنُّ إلَّا أنَّ جميع من كانوا في الباص هم مثلي، قادَتْهُم الصُّدفة لهذا
المأزق الحقيقيِّ.
ما
زالت المشهديَّة ماثلة أمام عينيَّ، جافَّة لم تُبلِّلها دُموعي الغافلة باِنْشغالها
بي. ووجهه المُكفهِّر، وقد تجمَّدت نظراتُه الأخيرة، يُحرِّكُ عيْنيْه بلا فائدة،
لكنَّني رأيتُ توسُّلاته القائلة:
-"اُعْذُريني
حبيبتي "نورما".. لم نُكمل طريقنا لإنجاب طفل يُكمل مسيرتنا، لم
تُكتَب لي الحياة؛ لنكون سَوِيًّا أمام طبيب النسائيَّة الماهر، وبعدما انتظرنا موعدنا
معه لمدَّة شهريْن، بسبب سفر الطَّبيب، ولطبيعة الاِزْدحام الكثير عليه، فمواعيده
بعيدة؛ إنَّما هو القَدَر؛ لنكون مع حفلة الموت نواجهه سَوِيًّا، فأنتِ من بعدي
حُرَّة لا فائدة من اِنْتظاري أبدًا، ها أنا أسيرُ بخطوتي الأولى عُنوة نحو
النَّفق المُظلم، أسيرُ إلى حَتْفي الذي أراهُ يقينًا أمام عَيْنيَّ، النَّفق
يبتلع الدَّاخل إليه ليُصبحَ مفقودًا، وإذا حصل أنْ كُتِبَ لأحد الخُروج منه فإنَّه
مولود من جديد.
كم
حَلِمْنا بكلمة: ماما.. بابا. تشقَّقت جُدران صبرنا لسماعها، وعقدنا الأمل في هذه المرَّة،
وهي الأولى بعد أن دَلُّونَا عليه، وهُمْ ممَّن رزقهم الله بأطفال على يديْه، ووصفوه
بأنَّه شاطر، ومُتفوِّق، وله من الشُّهرة على مُستوى سُوريَّا كاملة، يجيئونه من
أماكن ومحافظات بعيدة".
دمعةٌ
حرَّى تُعاندني بقوَّة لِتَنحدر على وجهي، أمسحُها لتنزل أخرى، بينما "نبهان"
يقلبُ هُويَّتي على الوجه الآخر، ويقرأ المعلومات بتمعُّن، كأنَّه ينبُش عن شيء
مجهول. نظراته واِهْتمامه بطريقة عجيبة أثارت اِنْتباهي، ثمَّ أخرج جهاز هاتفه
النَّقال، فَتَح الكاميرا؛ ليُصوِّرها على الوجهيْن.
حركاته
لم تصرفني عن اِسْتذكار هامٍّ، جاء في لحظة صعبة، الأفكار تأتي وقتما تشاء من غير
المُمكن إيقافها، أو تأخيرها لوقت آخر:
-قبل
خمس سنوات كان زواجنا، وعجزنا من كَثْرة مُراجعاتنا لأطبَّاء النسائيَّة المُختصِّين
بعد سنة من زواجنا، عندما ابتدأت رحلة البحث عن حُلُم الأمومة المفقود بطفل.
زوْجي
كان أمله بالله قويًّا، وَعَدَني بأن يسعى لتحقيق حُلُمنا، ولو باع جميع ما يملك
ما كان ورثه عن والده من أراضي، وإذا لم يبق من ذلك أيَّ شيء؛ اِسْتَدان الأموال
لذلك، كان كلامه بَلْسَمًا لقلبي، وبحر أمانٍ تَسبَح فيه روحي، وحاجز صدَّ عنِّي كلام
الأقارب المُحيطين المُؤذي لمشاعري، على الأخَصِّ حَمَاتي وبناتها أخوات زوْجي،
بعد كلِّ لقاء معهم، يتعكَّر مِزَاجي، وأكره نفسي، ودمعتي لا تجفُّ طيلة يومي
وليلي، إلى صباح اليوم الثَّاني.
أذهبُ
إلى دوامي بالمدرسة بلا نوْم أبدًا، ملامحي تفضح إخفاء دواخلي المُتعبة حدَّ
الإنهاك. زميلاتي لا يهدأ ولا يقرُّ لهنَّ قرار إلَّا إذا اِسْتطعنَ رسم بسمة على
ملامحي.
جميعُهُن
يُدركنَ مأساتي الداخليَّة. حريصاتٌ كلَّ الحرص على عدم إيذاء مشاعري، إذا أرادت
أحداهنَّ الكلام عن أولادها. رغم يقيني الرَّاسخ أنّها حكمة الله، نداء الأمومة
يُنازعني يقيني.
..*..
(14)
رفع
رأسه نحوي بنظرة غير عاديَّة؛ وَخَزَتْ
صدري، وقال:
-تفضَّلي
سيِّدة "نورما" بالجلوس.
عينا
"محمود"؛ أضافتا نظراتهما الثَّاقبة المغروسة بوجهي، لتتآلفا بِمَكْرٍ
مُركَّزٍ مع نظرات صديقه "نبهان" النَّافذة.
أدفعُ
عُمري فداءُ لمعرفة ما يدور بذهنِهِما تجاهي، لا شكَّ بأنَّ نظراتَهُما فاضحة،
وخلفها تدبيرات كمائن لطريدة جديدة لهم، الغابة لا شريعة لها، ولا قانون تسير
وِفْقه الأمور، الأقوى يأكل الضَّعيف، من الطبيعيِّ جدًّا أنَّني طريدتهم
المُستقبليَّة، ولن يعدموا وسيلة لتجريبها. لاستنزاف صمودي. وإيصالي لمرحلة الاِسْتسلام
بلا قيْد ولا شرط، بلا أدنى مُقاومة، شُكوكي مَبنيَّة على مدى صُمودي غير
المُتيقِّنة بمدى فعاليَّته لفترة طويلة، كلُّ ما حصل لي مُؤشِّرٌ بإعلان اِنْهيار
آخر حُصوني، وسيكون السُّقوط المُدوِّي في أُتون الهاوية.
لا
شيء مُشجِّع على التفكير بغير هذا التوجُّه الذي تتبدَّى ملامحه أمام عينيَّ. كلُّ
المُؤشِّرات تأخذ أفكاري في هذه الاتِّجاه، ليس من باب الإحباط، والحكم المُسبَق
على الأشياء.
وتابع:
-كم
ستكون إقامتك في (البنسيون)؟.
-في
الحقيقة لا أعرفُ الآن، مبدئيًّا هذا أوَّل شهر أكيد أنَّني ملتزمةٌ معكم؛ لأنَّ
إمكانيَّاتي محدودة، والمبلغ الذي أملكه محدود؛ لدفع أجور الإقامة والمصاريف
اليوميَّة.
-من
جهة المصاري لا تحسبي حسابها، أنتِ ستكونين واحدة منَّا على أيِّ اِعْتبار، ولن
نتخلَّى عنكِ أبدًا مهما حَصَل، الأهمُّ عندي راحتكِ أوَّلًا.
-أشكركَ
أخي "نبهان".
-مصيرُنا
مُشترَك، إنْ قصَّرتُ عن نفسي بشيءٍ، تأكَّدي فَلَن أُقصِّر عنكِ أبدًا بأيِّ شيء.
هَدَأت
أنفاسي. كلامه مبدئيًّا أشعَرَني بارتياح مُؤقَّت، تدفَّق الهواء إلى رِئتيَّ
بسلاسة، شَرَح صدري. كخطوةٍ أولى على طريق الاِسْتقرار، لا بدَّ من التَحوُّط
والتفحُّص لكلِّ كلمةٍ تُقال. كلام البدايات ناعمٌ كَفَخٍّ شرس مُغطَّى بحشائش
يابسة لخداع الفرائس. لا أثقُ كثيرًا بكلامه، كلُّ صاحب مصلحةٍ يُسوِّق بضاعته على
طريقته، لا شيء ورائي فـ"الانتظار سيِّدُ الموقف".
لا
شيء ممَّا أراهُ هُنا حوْلي في الصَّالة الواسعة، لا يمتُّ إلى (البنسيونات)
المعروفة، أو الفنادق غير المُصنّفة بأيَّة صِلَة تُذكَر. لا شيء يدلُّ أنَّني في
المكان الصَّحيح.
اعتبارًا
من طاولة مكتب "نبهان"، أظنُّ أنَّها من أحد مكاتب الدَّوائر
الحكوميَّة. دِهَانُها الرَّماديُّ كَاحتٌ اِسْتحال إلى لَوْن آخر، مع بعض لَطَخات
لَوْن أسود مَرْشُوش عليها من عُلبة دهان بخَّاخ سريع الجفاف.
المرآة
خلفه. ما زلتُ أرى قَفَا رأسه ورأس صديقه.
أجْزِمُ
قاطعة الرَّأي: أنّها كانت في صالون حلاقة رجاليَّة فخم من أيَّام زمان، إطارها
الخشبيُّ القديم المدهون بِلَوْن البَيْج، هو دليلي لأن أمِيلَ إلى هذا المنحى من
التفكير.
أمَّا
المُجسَّم الحيوانيّ لا أدري من أين جاء به..!!. أغلبُ ظنِّي أنَّه كان على باب (فيلَّلا)
فخمة، وفي العادة يكون المُجسَّم مُكرَّر النُّسخة نفسها على جانبَيْ مدخل (الفيلَّلا).
يأخذني
الظنُّ: أنّه وجد المُجسَّم الآخر إمَّا مُحطَّمًا بفعل فاعل، أو أنَّ أحدًا أخذه
للبَيْع، وكان في نيَّته العودة لهذا الثَّاني؛ فسبقه "نبهان"
إليه. الله يلعن الشَّيطان.. يا إلهي..!! إلى أين أوصلتني ظُنوني، سامحني يا ربِّ،
رُغْم أنَّ أكثر الظنِّ ليس بإثْمٍ.
الكُرسيُّ
الذي جلستُ عليه مُريحٌ مع الكراسيِّ الأخرى من نفس النَّوع، لكنَّها مُختلفة عن
الأخرى المقابلة لها قُبالتي، هذه كَنَباتٌ جلديَّة من النوع الفاخر المفروشة في
مكاتب المُدراء العامِّين، أو رُؤساء الأقسام في أحد دوائر الدَّولة، بينما تلك من
القُماش الفاخر المُشجَّر، بألوانه المُتداخلة فيما بين البُنِّي والعسلي.
إضافة
إلى كراسي دُوَّارة ذات عجلات مُتحرِّكة، منها الفخم بِسنَّادة الظَّهر العالية،
ومنها ما كان تستعمله مكاتب الرَّسم الهندسيِّ، وأخرى منها ثابتة مُرتفعة بقوائمها
الحديديَّة المبرومة مثل المُستخدمة في المطاعم الحديثة. في الوسط يتركَّز أيضًا طَقمْان
من الطَّربيزات منها الزُّجاجيُّ، والخشبيُّ الفخم بلونه البُنيِّ المحروق.
يا
للمفارقة العجيبة..!! أتصوَّر اللَّوحة التي كُتِب عليها كلمة (بنسيون)،
أبدًا غير معقولة..!! لا أريد أن أدْعي بالكَسْر على اليد التي كتبتها، حرامٌ
والله.. نفسي لا تُطاوعني.. الخطُّ السيِّئ بحدِّ ذاته سبَّب لي ضيقًا، وأنا واقفة
في محاولتي بقراءة اللَّوحة، ولكن كلمة (بنسيون) أثارت مكامن ذكرياتي
العتيقة، خاصَّة عندما سمعتُ بالكلمة لأوَّل، أثناء مُشاهدتي لأحد الأفلام
المصريَّة بالأسود والأبيض.
كان
هذا قبل مُطالعتي لرواية "ميرامار" لـ"نجيب محفوظ"
بسنوات، أثناء دِراستي في معهد إعداد المُعلِّمين. اِسْتعَرتُها من زميلتي "سمراء"
بعدما أنهتها، وسمراء هي من حبَّبتني بداية الأمر بمطالعة كُتُب الرِّوايات
على وجه الخُصوص العربيَّة والمُترجمة.
ومنذ
أن انقطعت أخبارها عنِّي قبل عشر سنوات بعد تخرُّجنا من المعهد، ما رأيتُ وجهها
ثانية، لا أدري أين اِخْتفَت المخلوقة، كأنَّها فُصُّ مِلْح وذاب مع أوَّل قطرة
ماء لامسته ولو بطريق الخطأ، وبين الحين والآخر، وإذا صَدَفَ، وأن اِلْتقيتُ بأحد
زميلات الدِّراسة، أسأل عنها: بإلحاحٍ ولهفةٍ. مُتعمِّدَةً الحصول، ولو على خبرٍ
طائشٍ، ضاعت لهفتي للقائها هباءً وسُدًى.
هناك
أشخاص يزدوان رُسوخًا في حياتنا، رغم أنَّنا نجهل عنهم كلَّ شيء، تأثيرهم حَفَر
مساربه عميقًا في دواخلنا، لا يُغادروننا إلى مجاهل النِّسيان، وإن تباعد الزَّمان
بيننا.
مُثولها
الدَّائم بخيالي لم أجد التفسير المنطقيَّ له، إلَّا أنَّ حضورها هذا في أغلب
ظنِّي حالة روحيَّة متصَّلة تجمعنا في نفس الوقت. مع أوَّل صفحة في الكتاب الذي
يكون بين يديِّ.
من
حُسن حظِّي أنَّني ما زلتُ مُثابرة على القراءة الجادَّة بِنَهمٍ. أحيانًا كانت
تصل الأمور بي حدَّ الشَّراهة، الموحية بهَوَسٍ اِكْتئابيٍّ، فيما لو تتبَّعتُ
حالتي النفسيَّة، ووقتي المصروف في هذا المجال، بلا مُبالاة وتطرُّف بما يجري
حوْلي.
"ميرامار"
كانت أوَّل عمل روائيٍّ أقرأه لـ"نجيب
محفوظ" كاملًا، قبل معرفتي بثلاثيَّته الشَّهيرة: "بين القصرين"
و"قصر الشوق" و"السُّكَريَّة". وقد كانت جُزءًا
من المقرَّر الدِّراسيِّ في الفرع الأدبيِّ للثانويَّة العامَّة، لما فيها من التَّاريخ
في مقاومة الاِسْتعمار الإنكليزيِّ في مصر، والفترة الملكيَّة، وما بعد الاِسْتقلال
وصولًا إلى ثورة يوليو.
(بنسيون)
"نبهان "البائس قرَّفني الكلمة، حينما افتكرتُ (بنسيون) رواية
"ميرامار"، وبطلها "عامر وجدي" كان أوَّل مَنْ فُتِح
الباب الرَّئيس، بعد اِنْقطاعه لعشرين عامًا قبل عودته هذه؛ ليتأمَّل وجه
"مدام ماريانا" صاحبة (البنسيون)، والتي تعرَّفت بِدْورها عليه؛ يُطالِع
الدَّاخل إلى صالة الاِسْتقبال؛ تمثال العذراء وخلفه مجسَّم زجاجة البارفان
الكبيرة، والكَنَبات الثَّقيلة ذات الخشب المحفور بأناقة ظاهرة، والترتيب الدَّقيق
لوضع كلِّ غَرَض في مكانه الصَّحيح الذي يليق به، وكـأنَّ اليد التي رتَّبت هذه
الأشياء دَرَست فنَّ العرض والأتيكيت في أرقى أكاديميَّات الفنِّ الأوربيِّ
الشَّهيرة.
رؤية
التُّحَف الدَّالَّة على أُرستقراطيَّة وثراء أصحاب وزبائن (البنسيون)، تأخذ
بألباب من يراها لأوَّل مرَّة؛ ليقف أمامها مُتأمِّلًا بعناية مُتفحِّصة لدقائقها
بانبهار ترتسم آثاره على ملامح وجهه.
المكان
هنا أخذ على عاتقه عدم التناسق، شهادة اِمْتياز بالتشويه البصريِّ المُتنافِر، كما
يُقال: "من كلِّ قطرٍ أغنية". شُيوع التَّنافُر ليكون شأنًا
عامًّا هذه الأيَّام، ولا شيء في مساره الصَّحيح المُعتاد قطعًا.
فلو
قُيِّض لهذه الأغراض الكلام للتعبير عن نفسها ومشاعرها، لم تزد على حُكمي عليها، ولما
تردَّدتُ بوصف هذ الصّالة بقاعة صفٍّ مدرسيٍّ، بضجيجها الهائل قبل دخول
المُعلِّمة؛ ليهدأ الضَّجيج الهائل، وتُغلَق أفواه التلاميذ جميعًا بفعل خوف
يسكنهم على الدَّوام، وكأنَّ ما كان ليس له سابق وجود هنا، الحال تتبدَّل مع سماع
ضربات كَعْب كُندَرة المُعلِّمة، بمُجرَّد خروجها من غرفة الإدارة قادمة إليهم،
بعد التَّنبيهات غير المسموعة من كلام عريف الصفِّ.
..*..
(15)
فندقنا
هذا ليس فيه من مزايا الفنادق إلَّا اِسْمه، كلُّ ما فيه يبعث على الكآبة. هذا آخر
ما قالته "نورما" لنفسها. بينما خرجت "فايا"
المُتورِّدة الوجه من غُرفتها، ومازال الوَسَنُ يستولي على جَفنيْها النَّاعِسيْن،
تفرُكُ عينيْها، تفتحهما على اتِّساعهما.
خرجت
إلينا من مدخل الشُّقَّة التي دخلت إليها "سيرا"، تتمايل من تعب
أثر النَّوم لساعات طويلة أو تكاسُلٍ على الأغلب، ما زالَ شعرها مُشعَّثًا لم
يمسَّه المشط منذ يوميْن، مظهره موحٍ بذلك بل ربَّما ثلاثة، قميص النَّوم الأسود
يشفُّ عن بياض كالشُّعاع اللَّاصِفِ باِنْعكاسه من على وجه بُحيرة في مُسطَّح
مائيٍّ.
متوسِّطة
الطُّول، يظهر أنَّها رياضيَّة الجسم بتناسق جميل، فلا اِنْدلاق لبطن للأمام، ولا
عجيزة للخلف، تقاطيعها مُختلفة تمامًا عن تقاطيع "سيرا" الدَّبْدُوبة.
-يُسعد
مساكِ فايا. قال نبهان.
-
يُسعد مساكَ "نبهان" بيك.
-سأعرِّفكِ
على أطيب إنسانة وقعت عينيَّ عليها اليوم، سأعرُّفُكَ على "نورما"
ضيفتنا الجديدة لهذا اليوم.
مدَّت
"فايا" يدها لمصافحة "نورما" التي نهضت بِدَوْرها،
ثمَّ مالتْ بصدرها ووجها للأمام لإكمال السَّلام بالتقبيل، بينما "محمود"
يُدخِل عينيه عُنوة فيما بين خَدَّيْهما، اِحْمرَّ وجهه عندما حدجته "نورما"
بنظرة احتجاج جريئة. أحسَّ؛ كأنَّها تقول له:
-"اِجْلس
مكانكَ، ولا تتعدَّى علينا".
على
العُموم فإنَّ هذا الفُندق، أو فَلْنُسمِّه على رأي "نبهان" (بنسيون)؛
فهو طابع بيتيِّ، وعلى الأخصِّ شُرفاته المُغلقة بألواح الخشب، وبطبقات من الكرتون
العاديِّ والمُقَوَّى، ولم يبقَ من النَوافذ الزُجاجيَّة إلَّا العدد القليل،
أغلبُها تحطَّم بفعل القصف، ومن القذائف، واِرْتجاجاتها القويَّة المُؤثِّرة،
وشظاياها المُتطايرة في جميع الاتِّجاهات.
هذه
المناظر لا تُعطي اِنْطباعًا مُستقِّرًّا بعلاقة المُقيم أو العابر مُؤقَّتًا بالمكان،
سوى أنَّه مكان الضَّرورة التي لا غِنى عنها، الإيواء في هذه الأيَّام ليس سهلًا بإيجاد
مكان آمن على هذا النَّحو.
ولا
تتعدَّى علاقة من يُقيم فيه أن تبقى عابرة، فكأنَّكَ هنا لا لتُقيمَ فيه بشكل دائم،
ولا لأنْ تمكُثَ، ولو للحظة من الزَّمن لتلقطَ فيه أنفاسَكَ، ولو عبرتَ فيه؛ فلن
تتركَ وراءكَ أثراً أو تحمل معكَ أثرًا منه.
الحياة
هنا مختلفة تمامًا؛ فليس هنا من ميِّزات إلَّا أنَّه شبيه بمركز إيواء مُؤقَّت حسب
الظُّروف السَّائدة، والمُتغيِّرة باِسْتمرار بلا ثَبَات، ولا ضمانة من أحد
مُطمئنةً، الحياة في مهبِّ الرِّيح، ما إن تهدأ عاصفة القصف، لتبدأ عاصفة الاِشْتباكات
من غير موعد مُنتَظر من أيَّة ساعة من ليل أو نهار. حتَّى أنَّ الفندق، مهما كان مُجهَّزاً
بكلِّ وسائل الرَّاحة، مُصمَّم على أساس العُبور. دائمًا ما ينطوي على شيء يُذكِّركَ
بالمغادرة، حتَّى وأنتَ تحِلُّ فيه.
ولمَّا
سُئل الفيلسوف "جان جاك روسو":
-(ما
هو الوطن؟. فأجاب: الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه مواطِنٌ من الثراء ما يجعله
قادرًا على شراء مُواطِنٍ آخر، ولا يبلغُ فيه مُواطِنٌ من الفقر ما يجعله مُضطرًّا؛
لأن يبيع نفسه أو كرامته).
ومانحنُ
هُنا إلَّا في هذا المكان الحقير؟، فكيف لي أن أُسمِّيه وطنًا، فضلًا إذا كان
يحقُّ لي ذلك..!!
لحظة
عصف ذهنيٍّ في رأس "نورما"، بعد انتهائها من السَّلام على "فايا"،
التي تابعت طريقها إلى الحمَّام. مازال "نبهان" يعملُ على
إجراءاته قبل أن يُرجِع لها هُويَّتها.
..*..
(16)
جاء
صوت "سيرا" عندما فتحت باب غرفتها؛ لتنادي على "نورما":
-حبيبتي.
عندما تنتهي. أنا بانتظاركِ.
هزَّت
"نورما" برأسها المُثقَل بهمومه علامة الإيجاب، ظنَّت أنَّ "سيرا"
سمعتها، أيقنتْ أنَّها ستحلُّ ضيفةً على "سيرا" في غُرفتها هذا
المساء، التي لم تتأكَّد من موافقة "نورما" على دعوتها لها
للمجيء، وكيف لها التأكُّد من موافقتها.
بينما
انخرطت "نورما" في حوار داخليِّ. نسِيَتْ بأنَّ لسانها بقي
جامدًا خلف أسنانها المُطبقة عليه، وما سمحت له بالحركة ولو بكلمة واحدة، وقالت
لنفسها:
-"الوطن
هو رغيف الخبزُ، والسَّقفُ مُظلَّة لنا عن الشَّمس والمطر، والباب الذي يُغلَق دونَنا،
والشُّعور بالاِنْتماء دفء وإحساس بالكرامة، وهل من كرامة لإنسان بقِيَت على هذه
الأرض؟.
أتمنَّى
الإحساس بغير هذا الشُّعور المُحبِط، حتَّى ولو جُزئيًّا على الأقلِّ؛ لأستعيدَ
ذاتي من ضَيَاع لم أتصوَّر للآن ما الذي حصل..!! ولا كيف كان ذلك..!! هوْل
الصَّدمة أنْساني حتَّى نفسي.
الوطن،
وإن تقزَّم بحجم مكان يتمدَّد فيه الإنسان للنَّوم على فرشة إسفنج عتيقة، أو سرير
مُتهالِكٍ من بقايا أسِرَّة المُعسكرات المنهوبة ذات اللَّون الأخضر العتيق، أو
على قطعة كرتون مُهملة، هو في خير التَّشريد.
الآن
أنا في خيرٍ أنِّي وجدتُ دفء المكان بِمَن فيه من النُّزلاء. بنفسي لو أستطيعُ
النوم بعمقٍ ملء جفنيَّ؛ لتعويض ما فاتني في الأيَّام الماضية، ولا أتذكَّر كيف مرَّت
عليَّ.
من
بداية البدايات إلى نهاية النهايات.. الاِحْتراق أشعل جدائل العمر وسحائب الوقت، واِسْتَهلَكَ
الأعصاب والتفكير، والبداية اِخْتيار، والاختيار حقٌّ إنسانيٌّ. لن أكذب على نفسي:
-"لا
خيار لي باتِّخاذ أيِّ قرار، وهل من قرار بلا نتائج ولا تَبِعات؟".
..*..
(17)
نورما
وهي جالسة تنتظر، تتأمَّل المُتناقضات من
خلال مُعاينتها لأغراض صالة الاسْتقبال (الريسبشن)؛ فتقول لنفسها:
-"من
لي بذاكرة المرآة الكبيرة، أتشوَّف للاطِّلاع على الوجوه والأجسام المُختزنة فيها
بتراكماتها على مدار سنوات: رؤوسٌ مُختلفة الأشكال والأحجام، وألوان الشَّعر، والتَّسريحات، والوُجوه
الضَّاحكة والمُكتئِبَة. وهناك أفكار مُختَزنة مُعشعِشَة في كلِّ رأسٍ مرَّ بها.
ومن
لي باِستْرجاع بما رأَتْ عَيْنا التِّمثال الجِبْسيِّ المُتجمِّد بثباتٍ دائمٍ، مُؤكَّدٌ
أنَّه لم يكُن على باب إحدى فِلَلِ المسؤولين الكبار؛ لأنَّها ما زالت تتمتَّع
بحراسة جيِّدة للآن.
من
لي بذاكرة طاولة المكتب، وفي أيِّ دائرة من دوائر الدَّولة كانت، لا شكَّ أنَّها
شهدت شهادة حقٍّ على فساد المُوظَّف أو اِسْتقامته.
ومن
لي بذاكرة الكَرَاسي والكَنَبات.. وماذا
لو تجرَّأتُ باِسْتنطاق المكان هذا.. والعمارة بطوابقها الثَّلاثة، أين هم
أهلها وأصحابها وساكنيها قبل ذلك؟.
ومن
لي بذاكرة هذا الحيِّ على أطراف العاصمة، الذي كان يومًا ما مضرب المثل في الحركة
التجاريَّة، شارع "لوبية" الجديد على الخارطة التجاريَّة العتيدة لدمشق
نسبيًّا، نافس سوق الحميديَّة، ومحلَّات شارع الحمرا في الصالحيَّة. أصبح مقصدًا
للتسوُّق لِغِنَى الموديلات في معارضه الأنيقة، ولأسعارها الأرخص مقارنة مع
مثيلاتها في مناطق أخرى أكثر اِزْدحامًا.
..*..
(18)
اللَّيل
يستوي فيه من يلبِسُ نظَّارته ليرى، ومن بطبيعته يرى ولا يحتاجها أساسًا، ومع
الكفيف عند اِنْطفاء الكهرباء، التي أصبحت عادة شبه دائمةٍ في جميع المدُن
السُّوريَّة. التَّقنين بساعاته الطَّويلة تُغطِّي ثُلُثَيْ النَّهار، وفي أحيان
كثيرة ثلاثة أرباع اليوم، ومرَّات لا تأتي أبدًا لأَّيام، حسب مزاجهم.
السَّاعة
الثَّامنة مساء، "سيرا" تضحك بلا مُبرِّرٍ بصوتٍ عالٍ، كأنَّها
تريد تشجيع "نورما" على
الانفتاح، لمعرفة قصَّتها بحذافيرها، ولو اِسْتغرَق ذلك فترة طويلة منها، وتقول:
-صدِّقيني
يا "نورما" أنَّنا اِعْتدنا على الاِنْقطاع شبه الدَّائم
للكهرباء، ولم نعُد نتأفَّف مثلما كُنَّا مع بداية التقنين. تأقلمنا بشكل معقول، شُوفي
مثلًا قبل عشر سنوات، عندما قطعوا الكهرباء لفترة أسبوعيْن دفعة واحدة. تذكُرين
هذا.. أليس كذلك؟، وقتها كانت الموبايلات قليلة مقارنة مع الوقت الحالي بانتشارها
على نطاقاتٍ واسعة، أذكُر أنَّ كثيرًا مِنْ حَمَلَتِها فوجِئوا عندما اِنْتهى شحنها
وفرغت بطاريَّاتها؛ أصبحت وقتها آلات عقيمة لا فائدة منها، مثل أيِّ شيء تافهٍ، اِحْتاروا
بما سيفعلون بها، لا أدري كيف فَطِنوا لكهرباء المُستشفى الحكوميِّ التي لا تنقطع
أبدًا..!!؟.
-
تقريبًا رأيتُ ذلك عندنا، ومثلما ذكرتِ بالضَّبط أثناء زيارتنا لجارتنا، وهي بنفس
الوقت ابنة عمَّة المرحوم زوْجي، التي كانت قد أجرت عمليَّة جراحيَّة في مستشفى "الكِسْوَة".
كانوا
يجتمعون عند أفياش (مقابس) الكهرباء المُنتشرة في أماكن مُتفرِّقة من ممَّرات
المبنى الواسع، وتتدلَّى أسلاك شواحن الموبايلات، وينتظرون بفارغ الصَّبر لاكتمال
شحنها. تتوافق "نورما" بقولها مع ما سمعت، وكأنَّها تُكمِلُ
قصَّة بدأتها "سيرا" طوْعًا.
-
تخيَّلي أنّ الثلَّاجات صارت أيضًا بلا فائدة منها، يا إلهي..!! كيف خسرنا كلَّ
أكياس المُونة المُجمَّدة في (الفريزرات)؛ فقد كنَّا دفعنا الشَّيء الفُلانيِّ من
أموال اِقْتطعناها من حاجاتنا الأساسيَّة؛ فحاولنا الحفاظ عليها. عدَّةُ مرَّات
ذاب عنها الثَّلج الجامد، إلى أن اِهْتدت أمِّي بتوزيع الكميَّات الزَّائدة على
جيراننا وبعض أقاربنا، لمَّا يَئِست من الحِفاظ عليها بالشَّكل المطلوب الذي
ترغَبَه، للاستفادة من الموادِّ المحفوظة حتَّى لا تفسُد، ونخسرها. قرارها
القسريِّ بالتخلِّي عنها بصراحة جاء في مكانه، حينها كان النَّاس يبحثون عن الموادِّ
الغذائيَّة في المحلَّات التجاريَّة، وطارت أسعارها في العلالي، ولم يكُن بمقدور
الكثير شرائها أو الحُصول عليها، خاصَّة وأنَّ أصحاب الرَّواتب من المُوظَّفين
والمُتقاعدين، يقبضون أيديهم، ولا يصرفون إلَّا لما هو ضروريٌّ ولا يُستغنى عنه.
صدِّقيني يا "نورما" ما زال قلبي محروقًا على تعبنا في توضيب هذه
الموادِّ، والوقت الثَّمين الذي اِسْتهلكَتهُ بتنقيتها، وتوفير الشُروط اللازمة
لحفظها.
- كما يُقال: "لُقمة العيْش مُرَّة،
ومُغمَّسة بالتَّعب"، وكأنَّ ما تتحدَّثين عنه حصل معنا بالضَّبط مثله،
كأنَّنا أصبحنا نُسخًا عن بعضنا، بلا فُروقات تُذكَر.
كلام
كثير يستجرُّ بعضه بعضًا بما يُشبه تداعي الأفكار، انتبهت "سيرا"
للعينيْن المُسبَلَتيْن أجفانهما، كأنَّها ذهبت في إغفاءة إجباريَّة، توقَّفت في
حديثها لـ"نورما" المُرهَقة بشكلٍ غير طبيعيِّ، أشفقت عليها؛
فسكتت عن المزيد من الكلام.
انتفضت
"نورما"؛ كأنَّما ماسٌّ كهربائي أصابها، واِسْتوَت جالسة في
مكانها، راحت تعتذر:
-لا
تُؤاخذيني.. من أجل الله، حدث ذلك على غير إرادة منَّي غفوْتُ، داهمني الآن وجعٌ
في رأسي لا يُطاق، إحساسي بأنَّه سينفَلِقُ نصفيْن. بالله عليك يا "سيرا"
لو عندكِ حبَّة (باندول أو أسبرين)، أو أيِّ شيء آخر مُتوفِّر حاليًّا.
ضحكت
في سرِّها على الفرصة الذهبيَّة التي جاءتها على طبق من ذهب، و في أوَّل ساعة من أوَّل
جلسة للقائهما، من فَوْرها تناولت شَنْطَتها، وأخرجت منها سَحْبَة قِصْدير فِضِيَّة
اللَّون، عليها كتابة بلون أزرق من الخلف عير مفهومة، تتشابه مع مثيلاتها المُحتوية
على حُبوب الدَّواء، لا يُمكَن الشَّكُّ فيها أن تكون غير المُستحضرات الطبيَّة المُسكِّنَةِ
المُرخَّصة على الأقلِّ، ولا علاقة لها بتسكين ألم الرأس، بل بتخدير الأعصاب
ومراكز الإحساس في الجسم.
-
تفضَّلي حبيبتي هذا القُرص سيُريحكِ كثيرًا، هذا الدَّواء تهريب من لبنان وغالي
الثَّمن، ولا يُباع في الصَّيدليَّات عندنا، أُوصي عليه الأصدقاء الذين يسافرون
إلى بيروت، وأنت تعرفين أنَّ الدواء الأجنبيِّ أفضل من المحلِّي. وهذه قنينة الماء
تناوليها بجانب السَّرير. نسيتُ تحذيركِ من بلعها إلَّا بعد تناول الطَّعام،
الدواء سيِّئ على المعدة الفارغة بضَرَرِه الكبير. إذا كنتِ ترغبين بالذَّهاب إلى الحمَّام
قبل النَّوْم، تعاليْ لأعُرِّفكِ على المكان، ربَّما تحاجينه إذا قُمتِ أثناء
نومي.
-
بكلِّ تأكيد أنا بحاجة لدخول الحمَّام، للضَّرورة القُصوى؛ لِرَغبتي المفاجئة
لقضاء حاجتي.
-
اِذْهبي أنتِ، حتَّى أكونُ قد اِسْتخرجتُ لكِ بيجامة للنَّوم من خِزَانة ملابسي،
بإمكانك اِعْتبارها خزانَتكِ، ولا حَرَجَ عليكِ في اِسْتخدام أيِّ غَرَض تحتاجينه
من ملابسي وأغراضي، معاكِ إذنٌ مفتوحٌ منِّي بلا قيْد ولا شرط، إن كنتُ هنا أو
خارج (البنسيون). أوَّلًا يتوجَّب تعريفَكِ بتفاصيل المكان قبل كلِّ شيء. هيَّا اِتْبَعيني،
وسأرجعُ لأهيِّئ لكِ البيجامة.
-
أشكُركِ على كلِّ ما تعملينه من أجلي، ولا أدري كيف سأردُّ لكِ الجميل بمثله، أو
أكثر إن اِسْتطعتُ.
-
لا شُكر على واجب خاصَّة بين الأخوات، وأنتِ أختٌ لي منذ لحظة اللِّقاء الأوَّل
قبل ساعات قليلة، عند بوَّابة العمارة.
قبل
خُروجها أشعلت تطبيق النُّور في (الموبايل)؛ فأضاء المكان بقوَّة، خيال "سيرا"
انعكس بنسخة أخرى تُحاكي تفاصيل جسمها على الحائط المقابل لهما، غطَّى قسمًا لا
بأس به من واجهة الجدار المُقابلة لهما، لأنَّها تمشي بخطوات دليل إلى الحمَّام
تتقدَّم صديقتها الجاهلة لتفاصيل المكان.
"نورما"
تسير بخطوات واهنةٍ. قدماها تحْتكَّان ببلاط الأرض بقوَّة، كأنّها تجرُّهُما عُنْوَةً.
الصَّوتُ الخفيضُ في المكان الصَّامت كالضَّجيج الهائل يصُمُّ الآذان.
غير
أنَّ "سيرا" لم تَأْبَه لذلك، ولم تستغرب من صديقتها هذا التصرُّف
الذي لا يليق بها، ربَّما تُزعج المُقيمين بالجوار في الغرف الأخرى. كانت تتقدَّم
أمام "نورما"، وظلُّها يتضخَّم بِتَعَمْلُقٍ على الجدار، لم
تنتبه، وإلَّا لقالت شيئًا عن شكلها الغريب، لا يُمكن لها تخيُّل شكلها المُخيف.
-على
كلِّ حالٍ يبدو أنَّها ابنة حلال، يبدو أنَّها طيِّبة. "نورما" قالت،
وراحت تتفكَّر بأمر "سيرا" التي عادت للغرفة؛ عندما وصلت
لزاوية أشارت لها بالانعطاف بِممرٍّ بعرض متر يؤدِّي إلى الحمَّام.
..*..
(19)
-زمن
الحرب خارجٌ على ثوابت الحياة المُستقرَّة؛
باِمْتيازٍ يتوهَّج بلهيبٍ لِحَرْق القلوب والأفئدة. الفَقْد بلا حساب مرَّة بعد
مرَّة يتكرَّر، نتائجه مجنونة فوق العادة لا يُمكن توقُّعها أبدًا. "نورما"
تتحدَّثُ إلى "سيرا" بتلقائيَّة، وبلا مُقدِّمات مُبرَّرة للبدء
بهذه العبارة، فور عودتها من قضاء حاجتها. اِنْتبهت لنفسها؛ لتجدَ مُبرِّرًا
لكلامها بلا تفكير أو كلام سابق له.
لم
تُعلِّق "سيرا" على ما سمعت. بينما كانت مشغولة باِسْتخراج كيس
صغير من حقيبة كَتِفها المُلقاة على سريرها منذ دخولها، ولكنَّها العادة التي جرَت
عليها حين عودتها (للبنسيون) أو هُناك في بيت العائلة في القامشلي، فور دخولها
لغُرفتها ترمي بالحقيبة على السَّرير بتلقائيَّة.
تابعت
"نورما":
-أقدارنا
تختارنا إلى رحابها، مهما اِجْتهدَ أحدنا بتدبير أمرٍ، يرجو منفعته أو ليدفع عن
نفسه ضررًا منه، فلا يستطيع فعل شيء حِيالَ ذلك إلَّا بمشيئة الله.
ولا
كلمة صدرت من "سيرا" للتعليق لا سلبًا ولا إيجابًا، كأنَّها لم تسمع
صديقتها بما تقول.
-بلا
إرادة منِّي قادتني قدماي إلى هذا المكان، وها أنا أجدُكِ الحضن الدَّافئ، الذي
طمأنني إلى أنَّ الأمور بخير.
-ها
"نورما".. هيَّا اُتْرُكي كلَّ ما في يدك وتعالي، خُذي سندويشات
الفلافل أحضرتهم معي من السُّوق، معظم الأيَّام أشتري قطعتيْن، كان شُعوري اليوم
مُختلفًا، أحسستُ فجأة بفراغ هائل ينهشُ في بطني، كأنَّما لم يدخله طعامًا من
ثلاثة أيَّام؛ فطلبتُ أربعًا، خوف الجوع مُريع؛ دافعٌ للهلع والأكل بِنَهَمٍ.
-والله
يا "سيرا" أنا على خِلافكِ، رغم أنَّني من يوم أمس لم أذُق طعم
الأكل، لوكنتُ صائمة لما اختلفَ الأمر كثيرًا، سوى جُرُعات من الماء أبقت على
رطوبة جسمي، أحسستُ برائحة لم أعهدها تنطلق من فمي للمرَّة الأولى، قَرَفٌ من
ذاتي، لكن ما باليد حيلة، أصلًا لم أتوقَّع أنَّ لديْكِ شيئًا آكله، أمَّا وقد
سمعتُ حديثَكِ؛ فقد خَطَر لي الاعتذار عن مشاركتكِ طعامكِ.
-لا
والله يا "نورما"، لا تأخُذي كلامي على غير ما أقصِدْ، لا والله
ثانية، صدِّقيني، قصدي أن أقولَ لكِ: (ما في أحد يأكل نصيب غيره).
-آه..
إذا قصدُكِ هيْك..!! فهو على غير ما ظننتُ بالفعل. سامحيني على ما فهمتُ. أعتذر
منكِ بشدَّة.
"سيرا"
تتأمَّل خيالات "نورما" المُرتسمة على الجدار الذي خلفها، لأنَّ
الشمعة المضاءة على طاولة الطربيزة تتوسَّط جلستهما وجهًا لوجه، رأتها شَبَحًا
أسودًا؛ يستحوذ على أكثر مساحة الجدار، بينما وجهها لم تبدُ منه ملامحها المليئة
بالحزن والبُؤس، ولا بالتعب والإرهاق، بل ظهر من خلال حركة قدميْها؛ حينما قامت
للحمَّام تجرُّهما على بلاط الأرض باحتكاك مثير للاِشْمئزاز.
مع
آخر لُقَيْمات تزدردها "نورما"، تَغَشَّتها حالة تثاؤب، تناوبتها
بالتزامن مع ذُبول جَفنيْها، السَّاعة على مشارف التَّاسعة، قامت من فورها ثانية
لغسيل فَمِها بالصَّابون والماء، أزالت بقايا الطعام من بين أسنانها، لم تمتلك
فرشاة أسنان ومعجون لهذه المُهمَّة.
أشارت
"سيرا" بيدها إلى السَّرير المُزدوج، بأنَّها أفسحت لها الجانب
الداخليِّ من السَّرير. وقالت:
-هيَّا
حبيبتي خُذي مكانكِ، ولا حرج نعتبر حالنا كزوجيْن، ولا حرام بِنَوْمنا بفراش واحد يجمعنا على ما أظنُّ..!!.
-أكيد
لا حرج.. أوَ أُحرَجُ منكِ..!!.
لم
تمض دقائق خمس حتَّى ذهبت "نورما" في نومٍ عميق، بلا حركة على
جانب واحد. النَّائم شبيه الميِّت تمامًا، الفرق بينهما بالأنفاس تُحركَّها
الرُّوح. حركات مُفاجئة تجعل "سيرا" تتركُ متابعتها على الهاتف،
تنتبه للحظة، ثمَّ تعود اِسْتجابة لمُتابعة تنبيهات (الواتساب) المُستعجَلة، ولِتَلْتَفتَ
لحركات يديِّ "نورما" اللَّا إراديَّة، وأحيانًا تتحرَّكُ شفتاها
بانفراج عن بعضهما، ليُفسحا خروج كلام غير مفهوم، وأحيانًا تُطبقان بشدَّة على
الأسنان تكِزُّ لتصدر صرير اِحْتِكاح، ربَّما لو حصل أدنى غلط وتحرك لسانُها إلى
الأمام، لَفُرِم وقُطِعَ إلى نصفيْن.
-مسكينة
يا "نورما"، كوابيس الأيَّام الماضية ها هي تظهر في حالة من
اللَّاوعي، تنبّهتُ لأمرٍ أشعرَني بالخوف، وأثارَ بنفسي تساؤلات، هل لو حصل معي ما
حصل معها، فهل ستصدُرُ عنِّي اِنعكاسات الأعضاء اللَّا إراديَّة..!!؟.
"سيرا"
تُحاكي نفسها، فذُهِلتْ لنصف ساعة بصمتها المُحيَّر، تنبيهات (الواتساب، والفيس،
والتوك توك، والسناب شات)، جميعها مُتلاحقة بلا توقُّف، بل اِنْخرطت في حالة
بُكاء صامت مرَّة تسمعه، وأخرى نشيجُ مكبوت في دواخلها لا صوت له، إلَّا اِهْتزاز
شفتيْها دليل البُكاء، على الطَّاولة التي بجانب رأسها؛ تكوّنت كومة من المناديل
التي مسحت بها دموعها، ونظَّفت بها أنفها الذي اِسْتحلبَ إفرازاته على غير عادتها.
..*..
(20)
الساعة
العاشرة صباح يوم الجمعة عطلة رسميَّة للجميع، هدوء ما زال يُسيْطر على صالة (البنسيون). في العادة يجلسون
بها أثناء اِجْتماعهم التي تنعقد جُزئيًّا، إذا كانوا مُعَطِّلين ولا أعمال ولا
دوام عند بعضهم الآخر، وأحيانًا من يتواجدون منهم يجلسون للترويح عن أنفسهم، بالخروج
من نمطيَّة الملَل بالبقاء بـ(البنسيون)، الأبواب المُغلقة تختفي وراءها حكايات
مُبهمة عصيَّة على الفهم والتفسير, أبواب الغُرَف لا تُفتَح إلَّا لضرورة الخُروج
لقضاء حاجة ما أو إلى الحمَّام.
اِرْتفاع
حرارة الشَّمس هذا اليوم عن معدَّل الأيَّام السَّابقة المائلة للبرودة، شعور
خُرافيٌّ لمن يجلس بصالة (البنسيون).
"نبهان"
خرج من غرفته مُتخفِّفٌ من السُّترة أو الكَنْزة الصُّوفيَّة التي لازمته في
الأيَّام السَّابقة، وعلى الأخصِّ خلال فترات المساء الباردة.
اِرْتمى
على كَنَبةٍ في مجلسه العامر بأطقُم الكَنَبِ والكراسي الجلديَّة بمختلف ألوانها
وأشكالها، نظراته تتركَّز في السَّقف على نجَفات ثُريَّا ما زالت مُعلقَّة من زمان
أصحاب البيت الأساسيِّين، لا يدري عنهم أيَّ شيء، حدَّث نفسه:
-"بأنَّهم
أصحاب ذوْق؛ لحسن اِخْتيارهم لألوانها المُتوافقة مع السَّتائر الباهتة؛ فلم تعُد
تُشبه لون زُجاج النَّجَفات المُعتمة، منذ زمان لم تشتغل بكامل طاقتها في أوقات
السَّهَرات، مثلما كانت عامرة سابقًا، تبدَّلت الحال إلى حالنا".
اِنْثيال
الأفكار هبط عليه من عوالم الذِّكريات المنسيَّة، اِسْتعرض مُسلسلًا طويلًا أطول
بحلقاته من المُسلسلات المكسيكيَّة أو التُّركيَّة، اِسْتغراقه في لُجَّة تداعيات
الأفكار؛ دفعه لاستحضار الصُّور والمشاهدات القديمة جدًا، اِسْتغرب كيف مضى كلُّ
هذا الوقت، ولم يُفكِّر بأمِّه وأبيه وإخوته، عندما كان يشتغلُ مع المُنقذين في
حارتهم؛ لاستخراج جُثثهم من تحت رُكام بيتهم.
بعض
اللَّحظات هي الفارقة في حياة أيِّ إنسان؛ لقدرتها على الفعل، وتأثيرها في سُلوكه،
وطريقة تفكيره. الهدوء الواسع بمساحات الفراغ في محيط (البنسيون)، لا يقلُّ
أهميَّة عن هدوء الصَّحراء المُخيف، ولا عن الهدوء المُتجمِّد منذ بدء الخليقة في
القارّتيْن القُطبيَّتيْن.
لا
أصوات لهدير مُحرِّكات السيَّارات وأبواقها، ولا أصوات الباعة في شارع "لوبية"
ومحيطه، ولا نداءات الأمَّهات على أولادهم كي يحضروا، ولا يبتعدوا عن المكان
القريب إليهن، ولا ضجيج طلَّاب المدارس أثناء ذهابهم صباحًا، وعند عودتهم مساءً.
ولا
نداءات الله من بُيوته المهجورة المُخرَّبة، الرِّيح عصفت بها، وزمهرت ذات زمن
مضى. لا أحد على وجه الحقيقة لا يعلمُ لماذا الأصوات مُفتقَدةٌ هنا منذ زمان؟؛ فلا
أصوات للكلاب والقطط، كأنَّ الله لم يخلقها أبدًا في هذا المكان المُقفِر من
الحياة.
تفكَّر
"نبهان" بهذه الأشياء البسيطة، حينما كان يتمنَّى في أيَّام زمان
الحُصول على لحظات هادئة، لينام بعُمقٍ وبلا ضجيج، قال لنفسه:
-"كيف
نسيتُ كلَّ هذا..!!، كأنَّ جائحة زهايمر ضربت دماغي، ومسحت ذاكرتي. الخراب حلَّ
مكان الحياة، والموتُ طاردٌ لتفاعلات يبدو أنَّها ضروريَّة من أجل الاِسْتمرار،
شُعوري بالفراغ هائل، للمرَّة الأولى يُداهمني هذا الإحساس المُفاجئ، مشاغلي
الكَّثيرة أنستني تفقُّد نفسي، ونظافتها المعهودة من قبل".
حركةُ
تقلُّصات في بطنه نبَّهته لتمسيدها بأصابعه؛ لإزالة نَوْبة المَغْص المُفاجئة، لم
تدُم لأكثر من دقيقتيْن، شعر بعدها بالجوع وفطن للفطور، تذكَّر أنَّ اليوم الجمعة،
والكلُّ في عطلة. وتابع:
-"فلماذا
لا نستعيد طقس الجمعة مثل أيَّام زمان، ونعمل فطورًا أو ليكُن غداء جماعيًّا من
الفول والحُمُّص، أيضًا لم أذكُر آخر مرَّة أكلتُ الفُول فيها. سأذهبُ ما داموا
نائمين؛ لأشتري الفول من المنطقة الشماليَّة القريبة من "الزَّاهرة
القديمة" المقابلة لجسر "المُتحلِّق الجُنوبيِّ"، وتحديدًا
حَيّ "القاعة"، أعرفُ هُناك مَطعمًا للفول بجانب فُرن الخُبز
المشْرُوح، ستكون مفاجأة لا أشكُّ بفرحهم بها.
أوه..!!
الأيَّام تمضي بنا كما تشاء.. لا أستطيعُ أيضًا تذكُّر منذ متى كانت آخر مرَّة
ذهبتُ فيها إلى مطعم فول "المارديني" المعروف بــ"صَلِّحْ" في السُّوق العتيق وسط دمشق، وفي معظم مطاعم
الفول نأكل ولا نشبع، أمَّا عند "صلِّحْ" فإذا ما خَلَص الفُول من
الصَّحن، نعيده فيملؤونه من جديد". نبهان يُحدِّثُ نفسه، فقام من فوره بارتداء
ملابسه. تفقَّد محفظته وأوراقه الشخصيَّة. عبور طريق حاجز البطِّيخة إجباريٌّ في
مثل هذا المشوار، لا فائدة من الاِلْتفاف لجهات بعيدة لِتَخطِّي الحاجز.
تعجَّل
بالذّهاب ما دامت السَّاعة تُشير للعاشرة والنِّصف؛ ليتفادى التأخير عند عبور
الحاجز، وإغلاق السُّوق وقت صلاة الجُمعة.
-"وليس
مثلي من يتخطَّى الحاجز بلا وثيقة، بطاقة "قوات الدِّفاع الوطنيِّ"
هي المفتاح لمثل هذه الأماكن، لكن لا أمل لي اليوم بلقاء (أبو حيدر) من
المُستحيل أن يكون هُناك، مُؤكَّد أنَّه في إجازة بين أولاده وفي أحضان
زوجته". حديثُ النَّفس الطَّارئ يطول عند "نبهان".
تضيع
ملامح المكان إذا قلَّ اِرْتياده، وتضيع المعلومات القديمة؛ فتظهر المفاجآت. ما إن
وصل بعد مشي طويل المكان المقصود لشراء الفول، كان المحلُّ والمحلَّات التي بجانبه
مُغلقات، وبعضها مُهشَّم الواجهات وأغلاق أبوابها الحديديَّة منزوعة. تابع مشواره
إلى سوق منطقة "الميدان" العامر على الدَّوام بالحركة، إلى مطعم الفول
"شمُّوط"، قال لنفسه:
-"هُناك
على الأكيد المحلَّات فاتحة أبوابها، وعلى الأخصِّ مطاعم الفول والفلافل
والحُمُّص". بعد تناوله الكيس وأراد الانطلاق، تذكَّر، المطعم الأشهر:
-"أوه..!!
يا لها من ذاكرةٍ مُزَفِّتَة، مثقوبة لا تحتفظ بأيَّة ذكريات، كيف نسيت مطعم
"الدَّرْخباني"..!!. ومع ذلك سأسير إليه، وسأشتري بطريقي خبز
مشروح من فُرْنٍ هناك، ولو أنَّني سـأتأخَّر قليلًا، لأتأكَّد من أنَّه مازال يعمل أم لا، لإطفاء
رغبة تُعاودني لأيَّام عملي في محل بيع الأحذية –سقى
الله تلك الأيَّام- عندما أكون مع رِفْقَاتي".
ساعتان
اِسْتغرق مشوار "نبهان" ذهابًا وإيَّابًا. صوت أذان الظُّهر
يسمعه بوضوح هذا اليوم في طريق عودته (للبنسيون). اِسْتعاد بذهنه أيَّام والده
عندما كان يأخذه معه إلى الصَّلاة في صغره، وأيَّام مثل يوم الجمعة موعد العطلة
الأسبوعيَّة. سَرَتْ قُشعريرةٌ في أوصاله؛ أيقظت حنينه، وأسفه على تضييعه
للصَّلاة، وعلى الأخصِّ صلاة الجمعة وطُقوسها، وذكرياتها.
..*..
(21)
انزلقت
خُطُوات "نبهان" بسهولة كأنِّما يمشي على بلاط رُخاميٍّ صقيل
لامع، أثناء عبوره الحاجز أثناء ذهابه وإيَّابه. لاحظ أنَّ سُلوك العساكر مُختلف
هذا اليوم، حالة استرخاء غير طبيعيَّة، بعضهم تحلَّل من اِلْتزامه بلباسه العسكريِّ،
حتَّى أنَّ بوط الرِّياضة اِستُبدِلَ مكان البُوط العسكريِّ، والحبال المنصوبة على
الحيطان القريبة من خيامهم مليئة بملابسهم الدَّاخليَّة، وقد طغى الاِصْفرار على
بياضها فغيَّر لونها الأساسيِّ إلى لون آخر، وبعض بدلاتهم العسكريَّة ذات الألوان
المُموَّهة بألوان حمراء وخضراء وبُنيَّة، لتشكيل لوحة كئيبة تبعث الرُّعب في
نُفوس من يَعبُرون الحاجز. المُناوبون اليوم تبادلوا بأدوار زملائهم المغادرين
بإجازات قصيرة لا تتعدَّى الأسبوع في أحسن الحالات.
اِبْتساماتهم
تبادلوها مع "نبهان" ردًّا على تحيَّاته لهم، ولم يضطر لإبراز بطاقته
الشَّخصيَّة، علاقته مُميَّزة معهم جميعًا، رغم أنَّه لا يعرف أسماء إلَّا القليل
منهم، وآخرين يعرف سِمَات وجوههم فقط، ولم يتعرَّف على قسم آخر بتاتًا، لأنَّ مجال
وظيفتهم بعيد عن المُناوبة والتفتيش هنا على المعبر ، اَحْترامهم له مشوب بالخوف
من علاقته القريبة من المُعلِّم الكبير (أبو حيدر).
عينا"
نبهان" تمسحان السَّاحة الوَّاسعة بجميع اِتِّجاهاتها الأربع، وخارجها
ومداخلها تُمثِّل عُنُق زجاجة ماسكة بِخِنَاق منطقة جنوب العاصمة بأكملها.
-"لا شيء هنا يبعث على الفرح، كلُّ ما هُنا
مُخيف بطبيعته، لا أستطيعُ تحليل اِبْتسامة هؤلاء العساكر، ألم يجدوا مُتَّسعًا
للتَّفكير بأمَّهاتهم وأصدقائهم..!!؟. أليس من الغريب لامبالاتهم..!!. ألم ينظروا
لأنفسهم.. والله أتعجَّبُ من أمرهم، بمجرِّد اِسْترخاء قليل في المكان، وقلَّة
العابرين يصنع كلُّ هذا الفرح، ويبعث السَّعادة فيهم..!!، لو اِسْتطعتُ النَّفاذ
لدواخلهم لأتأكَّد من اِنْهياراتهم ومُعاناتهم، ليس هُم فقط بل جميعنا معهم، كأنَّ
الخوف والمُعاناة أصبحت قدرنا الذي لا مفرَّ منه، إلَّا بالهروب إلى الخارج".
نبهان بعد خروجه من دائرة الحاجز، تفكَّر بأمر مُجسَّم شبَهَ البطِّيخة
والنَّافورة ولواحقها والحديقة، وتابع:
-"البطِّيخة
كئيبة من منظر وتواجُد العساكر والحاجز حولها، عندما ضيَّقوا عليها بتواجدهم.
العساكِرُ ضَجِرون من توتُّرهم الدَّائم، بين أوامر قادتهم والمسؤولين عنهم، وبين
القيام بواجباتهم العسكريَّة بالحراسة والتَّفتيش
على مدار السَّاعة، الغلطة هنا تُعادِلُ الكُفر، لكن الله يتسامح، ويغفر
لمن يستغفر ويتوب، هنا الغلطة ستكون الأولى والأخيرة، وينتهي كلُّ شيء.
السَّاحة
تضيق على اتِّساعها بتبدُّل ملامحها.. فقد جفَّتْ ماءُ الحياة من نافورتها، وماتت
الوُرود حولها. وافتُقُدِت ضحكات الأطفال ولعبهم، وشقاوتهم المُحبَّبة اللَّذيذة،
وحكايا الأمَّهات عند اِجْتماعهن في مساءات الفرح؛ لتحكي كلَّ واحدة تفاصيل طبختها،
وغسيل الملابس، وجلي الصُّحون والطَّناجر، وعندما فرغن من حكايا دواخل بُيوتهِنَّ،
وإذا انتهت هذه الموجة. لا بدَّ من الانتقال بل من الأهميَّة العُظمى؛ لتفصيل
علاقاتهِنَّ مع أهالي أزواجهِنَّ، والغريب إجماعهُنَّ على كراهتهم، لأسبابهِنَّ المُتشابهة الوَجِيهة وغير الوَجِيهة. العَصِيَّة
على أيِّ حلِّ، ولو تكلَّف الأمر تعيين مَبعوثٍ أُمَميٍّ خاصٍّ لهنَّ بمهارة
وكفاءة "ديمستورا"، لما اِستطاع حلَّ مشكلة واحدة، أو الحصول على
خارطة طريق مع أمِّ زوجها، وأخواته أو أيّ أحد منهم.
يا
ألله..!! كلُّ العمارات المُطلَّة على السَّاحة من جوانبها الأربعة مهجورة، لا أحد
يجلس مساء يشرب قهوته، أو كأس الماء البارد الرَّفيق الدَّائم لفنجان القهوة، أو
يُدخِّنُ الشِّيشة، وصحن الموالح أمامه على الطَّربيزة، والمدام تجلس قُبالته
تتأمَّل شاربيه. يا تُرى أين أصحاب هذه الشُّقَق..!! هل ما زالوا على قيْد
الحياة.. وأين يُقيمون الآن؟. السيّاَرات العابرة للحاجز قليلة أيضًا بعد الغلاء
الفاحش للبنزين والمازوت، خفَّف أصحابها استعمالها لتوفير الأموال، ولا
يُحرِّكونها إلَّا للضرورة القُصوى.
الأمر
الذي لم أفهَمْه، وما عثرتُ على أحدٍ يُفَّهمني، لماذا أَطلقتْ محافظة دمشق على
هذا المكان مُسمَّى، وهل هي حقًّا من أَسْمَتْها؟: ساحة البطِّيخة..!؟.
أتشكَّكُ
بتحليلي الذَّاتي: بأنَّ السَّاحة كانت جنباتُها تمتلئ في أيَّام الصَّيف بباعة
البطِّيخ بأنواعه وأشكاله وأحجامه. وهل يصحُّ ما هو مُتداول على الألسنة: "أنَّ
هذا المُجسَّم الكرويِّ المُحزَّز كشكل البطِّيخة –الله
أعلم بالصَّحيح- يُنسَب له الاسم".
ذهب
ذِهني بعيدًا في مسائل خارج نطاق اِهْتمامي؛ فلتذهب إلى الجحيم؛ أنستني التفكير
بالتَّجهيز للفُطور، لا بل للغداء، الوقت
تأخَّر وصار بعد الظُّهر؛ فَلْنعتبره غداء".
..*..
(22)
في
الظُّروف الحرِجَة والاستثنائيَّة يُكَتَفَى بالأساسيَّات الضَّامنة لبقائهم، ضَرورات
البقاء على قيْد الحياة فقط تُبيح اللُّجوء للاستثنائيِّ، كلُّ ما عَدَا ذلك يُنسى
إلى أجلٍ يحينُ موعده في مُستقبل غير مُحدَّدِ.
لا
أمل لأيِّ مخلوق بالسَّعادة إلَّا مع
البشر الآخرين، ولو بأدنى درجات التواصُل. سكَّان (البنسيون) يسيرون ضمن
هذه القاعدة، صحيح أنَّ المكان يجمعهم، لكنَّ ظروفهم المُتخالفة المُتوافقة بجميع
المُعطيات، تُملي عليهم الرَّكض وراء أعمالهم وأشغالهم ووظائفهم، نمط العيْش في
مُجتَمعهم المُصَغَّر شديد التَّعقيد، لا يُمكن الإفصاح عن تشابكات أوضاعهم، معرفة
القليل من سُلوكيَّات، وظروف كلَّ واحد على حِدَة صعبٌ جدًّا.
"نبهان"
بادَرَ لهذه اللَّمَّة النَّادرة، ما إن وصل إلى (البنسيون)، سابَقَتْهُ رائحة
الخبز الطَّازج إلى أنف "سيرا" و"نورما" الجالستيْن
في الصَّالة تتحدَّثان بصوت خفيض، حفاظًا على عدم الإزعاج للباقين، تزامن مع خروج
"فايا"؛ لتستنشق بعُمق رائحة افتقدتها منذ زمن،: "أشمُّ
رائحة خُبز".
-اِصْبري
قليلًا سنرى، ونُخبركِ. ردَّت عليها "سيرا"، وآثار النَّوم ما
زالت عالقة بوجهها، تتثاءب بينما "لارا" ردَّت عليها من داخل
الحمَّام:
-ما
الذي يحدُث، كأنَّ أمرًا غير طبيعيٍّ أتوقَّع..!!.
ضحكت
"سيرا" بأعلى ضحكة عندما علمت أنَّ الجميع صاحين من نومهم،
وأجابتها:
-ها
هو نبهان دخل يحمل لنا طعامًا لذيذًا. ما هذا يا نبهان..!!؟، لم أكُن أتوقَّع أنكَ
خارج (البنسيون)، كنتُ أظنَّكَ نائمًا أو خارجًا لعمل خاصٍّ بكَ.
-لا
والله وأنتِ الصَّادقة.. صحوْتُ قبل أكثر من ساعتيْن، وبعد خروجي من الحمَّام
جلستُ مكانكِ بالضَّبط، لربع ساعة أو أكثر، اِشْتهيتُ أن نكون جميعًا على طبق
واحد، بالطَّبع عامل وليمة مُحبَّبة وعلى حسابي الخاصِّ، ونُحاول أن نُدرِج هذا
التقليد بيننا في (البنسيون) كلَّ أسبوع لو أمكننا، ووَاتَتْنَا الظُّروف أو حسب
ما تيسَّر لنا.
بصراحة
تشجَّعتُ وجاءتني همَّة، فذهبتُ إلى منطقة "الميدان"، واِشْتريتُ فول
وحُمُّص من عند "شمُّوط" وخُبز من الفُرن القريب من "الدَّرخباني"،
وبعض الحشائش الضروريَّة المُرافقة لوجبة الفول.
تأسَّفتُ
كثيرًا عندما وجدتُ محل "الدَّرخباني" شغَّال كعادته، ظننتُ
أنَّني لن أجده أبدًا، لأنَّني منذ صغري أحبُّ الأكل من فول "الدَّرخباني"،
على كُلٍّ فإنَّ "شمُّوط" لا يقلُّ أهميَّة عن ذاكَ.
تنشَّطت
البنات هذه المرَّة، تولَّد شعور غامر بالفرح غير المُتوقَّع؛ اِنْتفضن فرحًا؛ أذْهَب
الكسل عنهُنَّ، قادت "سيرا" عمليَّة توزيع الأدوار للتحضير.
دخلَّ "نبهان" إلى غُرفته لتبديل ملابسه، وتَصْحِيَة مساعده
الولد "أيمن" من النَّوم.
"سيرا"
سألت بصوت عالٍ:
-أين
"محمود" يا "نبهان"؟.
-على
الأغلب أنَّه في غُرفته.
-لو
سمحتَ نادي عليه، كي يُجهِّز نفسه ليكتمل العدد.
ثمَّ
وجَّهت سؤالًا مُباشرًا للبنات المُنهمكات في المطبخ بالترتيبات:
-"فايا"..
"لارا"، أين أصدقائكُنَّ.
جاءها
الردُّ مُتشابهًا مُتزامنًا بنبرة واحدة منهنَّ:
-مُناوبين
اليوم.
-طيِّب
لا تنسوا إبريق الشَّاي الكبير.
قامت
"نورما" من تلقاء نفسها بهمَّة ونشاط تسير بخطوات سريعة، من دون
أمرٍ مُشابِهٍ من "سيرا" التي حاولت ثَنْيَها عن القيام. وقالت:
-الشَّاي
اُتركوه لي، منذ زمن مُشتاقة لرؤية نار مَوْقد الغاز، ورؤية الماء تجيشُ وتغلي في
الإبريق، وأسْكَرُ على رائحة بُخار الشَّاي المُتصاعد، فيما مضى كنتُ أعملُ حمَّام
بُخار لوجهي، كلَّما سنحت الفُرصة من الشَّاي قبل وضع السُّكَر عليه.
رفعت
"سيرا" حاجبيْها علامة استغراب ممَّا سمعتُ عن حمَّام البُخار،
وبَرَمَتْ بُوزَها الجميل، على ما يبدو أنَّها لا تعرف هذه المعلومة، رغم أنَّها
من رُوّاد صالونات التَّجميل المُداومات باستمرار، وتُلاحق موديلات تصفيف
(شِنْيون)الشَّعر، وألوان الصَّبغة السَّائدة مع المَيْش أو بدونه، والعناية
بأظافر يديْها(المنيكيير)، وأظافر رِجليْها (البديكيير). تدخَّلت قائلة:
-حبيبتي
"نورما" اُقعُدي أنتِ، ما زلتِ ضيفة علينا، والواجب واجب كما
تعرفين..!! اُتْرُكي البنات يَقُمْن بالعمل. دخيلِكْ.. اِجْلسي.
-الموت
مع الجماعة حلو يا "سيرا". لازم أشارك مثلي مثلكم، لا أحبُّ
تفضيل نفسي على أخواتي هنا، كلَّنا نخدم بعضنا بعضًا بمحبَّة بكُلِّ تواضُع.
كلُّ
واحد اِنْفَرد على كَنَبة مُنفرِدًا، ومنهم من اِنْبطح على الأرض الممدودة بسجَّادة
حمراء من أمام الطَّاولة، وأخرى خضراء تُغطِّي إلى مساحة. كلتاهُما تُغطيَّان
ثُلُثي الصَّالون، وما تبقَّى ثلاثة مدارج سجَّاد أحمر من النَّوع الرَّخيص بعرض
المتر لكلِّ قطعة، بهنَّ اِكْتملت كِسْوة الصَّالون بأكمله إلى عتبة مدخل (البنسيون)
الرَّئيس أمام الباب مُباشرة.
عبارات
الشُّكر والثَّناء على "نبهان"، والتَّعبير عن غِبطتهم وسعادتهم،
شعروا كأنَّما اِسْتعادوا أيَّامًا كانت جميلة، مُقارنة بالقَرَف هذا الوقت. ومع
شُرب الشَّاي يُخيَّلُ أنَّها حفلة مُنفصلة، تداولوا من النُّكات السَّائدة دون مُستوى
الزِّنَّار إلى تحت بقليل. بإجماعهم أنَّ الإفطار المُتحوِّل إلى غداء، مثله مثل البلد
بأكملها المُتحوِّلة إلى خراب. من الواضح أنَّ هناكَ اِتِّفاقٌّ غير مُعلَن، عن
خطٍّ أحمر لا يُمكن لأحد تجاوزه، كلُّهم مُلتزمون طوعًا بلا رقابة إلَّا رقابتهم
لأنفسهم فقط.
..*..
(23)
"فايا"
تصدَّرت نهاية الجلسة بعد انتهائهم من الغداء وشرب الشَّاي، وقامت بدعوة البنات
إلى غُرفتها، أحبَّتْ اِسْتضافة "نورما" وللتعرُّف إليها عن
قُرب.
-حبيبة
قلبي ما بِدِّي تَتْغَلَّبي. في الحقيقة لِساني عاجز عن الشُّكر. "نورما"
بادَرَتْ شاكِرةً.
-(ولَوْ
ما في إشي من الواجب، أنتِ صِرتِ واحدة منَّا وفينا). ردَّت "فايا"
بثقة، وراحت تتهيَّأ؛ لتجهيز نفسها بشكلٍ مُنظَّم بجديَّة، لتُظهر مدى حَفَاوتها؛
قامت بترتيب الغرفة من جديد، وأخفت الملابس المُتَّسخة المرميَّة على الأرض، وعلى
طرف الكُرسيِّ والتَّخت، وطَوَت أغطية النَّوْم، وفتحت النَّافذة للسَّماح بخروج روائح
تفاعلات الحياة داخل الغرفة المُغلقة دائمًّا، قلَّما تُفتح النَّافذة إلَّا
أيَّام الحرِّ الشَّديد، ورشَّت مُعطِّر الجوِّ برائحة الياسمين المُنعش، وجهَّزت
عُودَ بَخُّور تركته على جانب الطَّربيزة، تُشعِله عند مجيئهنَّ، وتفقَّدت كيس
المُكسَّرات المُشكَّلة، وعُلبة الحلويَّات الدِّمَشقيَّة الفاخرة المُهداة لها
بمناسبة عيد ميلادها السَّابع والعشرين من صديقها المُسَاكِن لها.
وتقول
أنَّها مُتزوِّجة منه بعقد مُتعَةٍ، بعدما أقنعها بذلك خوْفًا من الوُقوع في
الحرام؛ ولكي تكون خلوتهما شرعيَّة حسب اِعْتقادهما، قبل ذلك كانا ذهبا لزيارة
مقام "السيَّدة زينب".
وهُناك
كانت مُباركة السيِّد الإمام في مكتبه بأحد أروقة المبنى الضَّخم، وأخبرهما بأنَّ
زواجَ المُتعة زواجٌ شرعيٌّ، وهو عقد إيجار مُؤقَّت بين طرفيْن (رجل+ امرأة) بكامل
رِضَاهما، ولا يُشترط فيه موافقة وليَّ الأمر، ولا كذلك الإشهار، وعِمادُ العقد قبولٌ
وإيجابٌ، ومدَّة العقد تُحدَّد اِعْتبارًا من ساعة واحدة، أو أكثر وحسب الرَّغبة
والتوافُق، ويُجدَّد حسب رغبة الطَّرفيْن.
كلام
الإمام أقنعَ "فايا" بُحجَّته الشَّرعيَّة المُستنِدَة لأحكام وتفسيرات
توضيحيَّة؛ استشهد بها من المصادر العُليا والموثوقة.
وذهبت
لضرورة إنجاز العقد بطريقة المُتعة، لأنَّها تُناسب حالتها جدًّا، وجرى العقد في
اليوم الثَّاني لتحرُّش صَحِيبِ أمِّها –حسب وصفها- أثناء
عودتها من الجامعة التي لم تُكمل أعوام التخرُّج، خمس سنوات من الدِّراسة اِسْتغرقت
الوصول للسَّنة الثَّالثة، ولم تستطع الترفُّع إلى الرَّابعة.
خمس
سنين من الدِّراسة، التشوُّش والانخراط بالعلاقات بين الشَّباب والبنات في الجامعة
أخذت وقتها، فقط تذهب لإرضاء رغبة والدها الشَّغوف بابنته، وهي تحمل شهادتها
الجامعيَّة، كرَّر أمنيتهُ مِرارًا على مسمعها بلا مَلَلٍ، كلَّما سنحت الفرصة له.
-"لا
أريدُ أن أعيش كما كانت أمِّي اِزْدواجيَّة حياتها بين أبي وعشيقها". خاطبت
نفسها. أقلقها سؤال ألحَّ عليها:
-"وماذا
لو حملتُ، وجاءني طفل أو طفلة في حالة اِنْتهاء عقد المتعة مع زوْجي المؤقَّت، فهل
سينسَبُ الطِّفل إليه، وماذا لو لم يعترف به..!!؟، وإذا اعترف به؛ فهل سيتحمَّل
مسؤوليَّة النَّفقة عليه..!!؟".
كان
هُناك ترتيبًا خاصًّا بها، مُقلق لها بدوام تفكيرها به، إذا ما تطرَّق الحديث إلى
الأوضاع العائليَّة؛ فهل يجدُر بها أن تحكي قصَّتها، وتفضح نفسها بنفسها، بسلوك
أمِّها غير الأخلاقيِّ بخيانة زوجها مع صديقها، وفي بيت الأسرة، وَعَتْ ذلكَ
"فايا" الوضع منذُ صغرها. تذكَّرت ذاك اليوم الأعظم إثارة في
حياتها، عندما قرَّرت الهروب. تقول:
-"في
يوم كنتُ مُتعبةً عند عودتي المُبكِّرة للبيت، لم يكن عندي إلَّا محاضرة صباحيَّة
واحدة اِنْتهت قبل الظَّهر. ما إن ضغطتُ جرس الباب، فوجئتُ ليُفتَح عن وجه قبيح لا
أُحبَّهُ، ولا أرتاحُ لوجوده في بيتنا، ولا أملكُ أمر طَرْدِه أبدًا، اِمْتدَّت
يده مباشرة إلى أسفل بَطْني، أبعدت يده ووجهه، مع مُحاولة تقبيلي، صرختُ في وجهه:
"يا كلب يا واطي"، وتَفَفْتُ عليه. مسحَ رُذاذاتِ بُصاقي عن وجهه بِطَرَف
كُمِّ قميصه. وقال: (شو هالعطر الحلو.!!). أسرعتُ راكضةً إلى غُرفتي.
أغلقتُ
الباب، ووقفتُ خلفه أُسْنِده بظهري؛ لتعزيز صموده خوفًا من خلعه، وهو يصيح بي
لأفتح له. الأصوات والعِرَاك اللَّفظيِّ، ما حرَّك شيئًا عند أمِّي، بقيت مُختفِيَة
في المطبخ. لا أدري في الحقيقة إن كانت في الحمَّام، ولم تصدُر عنها ولو كلمة
واحدة لمُناصرتي، وحمايتي من وحشها الكاسر.
قاومتُ بشدَّة؛ فقَدَ الأملَ بأن ألينَ لِتَوسُّلاته المعسولة، اِنْصرفَ.
أيقنتُ
برضا والدتي عن فِعلته الشَّنيعة، هذه أقوى حالة تحرُّش واجهني بها، في المرَّات
السَّابقة اِستلطاف، وتلحين غَزَليٍّ؛ لإثارة رغبتي حتَّى أستسلم له عن طيب خاطر
منِّي، ولا يزال كلَّما لَمحَني يمتدحُ مفاتني، ومرَّات بكلام بذيء يظنَّه غَزَلًا،
لكنَّه دون المُستوى اللّاَئق للتخاطُب بين أصحاب الذَّوْق، عند هذه النُّقطة لم
يبق أمامي؛ إلَّا قرار الهروب للنَّجاة بنفسي، أمِّي خرجت من الحمَّام، واِنْفجرتُ
بوجهها بسيل من الشَّتائم القبيحة، بحقِّها والبيت والعائلة وأبي وصَحِيبها
وحياتي.
تطوَّر
الأمر بها، بأن وجَّهت لطمتها القويَّة إلى وجهي، أحسستُ بدُوار أوقعني أرضًا،
وغيَّبتُ عن الوُجود كجُثَّة هامدة، أنفاسي فقط دليل الحياة. سَحَبَتْني من عَتَبة
الغُرفة إلى وسطها، أخواتي في المدرسة، وموعد عودة والدي لم يحِن في مثل هذا
التوقيت. بعد ساعتيْن اِسْتفقتُ وحدي، اِسْتعدتُ ما حصل، وعقلي لم يكُن ليستوعبَ
أبدًا، بكلِّ المقاييس والأعراف، عندها اتَّخذتُ قراري النِّهائي".
"فايا"
راجعت نفسها، وتحدَّثت مع نفسها: "بكلِّ المعايير الفضائح تطالنا كلَّنا، لا
يُفرِّقون بيني وبين أمِّي، ومقولتهم تأكل رأسي، وتحرق قلبي: (طُبْ الجَرَّة
على ثُمِّها، تِجي البنت لأُمْها)، يعني أنَّني سأكون مثل أمِّي نسخة مُكرَّرة
عنها".
قرَّرت
أخذ حمَّام ساخنٍ لتتنشَّط واستعادة حيويَّتها، ولمحاولة إخماد قلقها من قصَّتها،
وتمنَّت: "لعلَّها تذوب مع ماء الحمَّام، وتسيل مع المجاري إلى الأبد، ولا
يدري أحدٌ عنها شيئًا".
المنشفة
البنفسجيَّة تُغطٍّي بداية صدرها إلى أعلى ساقيْها فوق الرُّكبة بقليل، لم يكُن في
الصَّالة سوى الولد "أيمن"، ليس من عادته إلَّا أن يكون إلى جانب
"نبهان" أينما تحرَّكَ، فهو يُرافقه كظلِّه الذي لا يُفارقه
إلَّا في العتمة.
لم
يكُن في حُسبانها نظرات "محمود" الجائعة، حينما صادفته، وقد
أطلَّ رأسه من باب غُرفته، أحسَّت باِنْغراز نظراته الحادَّة تخترق أعضاءها،
توتَّرت –
عندما اِسْتعادت ذكرى صحيب والدتها، وهو يفتح لها باب البيت-، ولم تنتبه لطريقها،
إلَّا أنَّ قدمها عَثَرت بطرف السِّجَّادة الممدودة في الصَّالون؛ فترنَّحت..،
ثمَّ سقطت، وبَانَ كلُّ شيء؛ عندما اِنْحسرت المِنْشَفة كاشفة المُشتَهى المخبوء تحتها.
"محمود"
تسمَّر بباب غُرفته كصنمٍ جامد منذ أيَّام الفراعنة، عيناه جَمَدتا كعيني تمثال لم
ترمُشَا، ولا رفَّة رامشة لكي لا تضيع عليه جماليَّة المشهديَّة النَّادرة أن تحصل
بهذه الطَّريقة الدرامكتيكيَّة بلا تخطيط، ولا فعل فاعل.
قامت
حزينة، كأنَّما حاولت مسح دمعة طَفَرَتْ من عينها اليُمنى، واغْرَوْرقت الأخرى على
الرّغم عنها.
لم
يُطاوعها لسانها بشتيمة علنيَّة لمحمود، قالت: "لا ذنب له.. لم يلكزني.. ولم
يلمسني. بَسْ عينه حارَّة. الله لا يُوفقَّه". لا تظنُّ أنَّه سمعها، لأنَّ
أُذنيْها ما سمعتا أيضًا.
لكنَّها تأكَّدت من صوت "نبهان"
يُنادي بصوتٍ مخنوقٍ بالكَادِ أن يُسمَع من غُرفته المُغلق بابها: "أيمن.. يا
أيمن". الصبيُّ جامد بلا حركة، وعيناه تدوران في رأسه كَلَوْلَبيْن يتقافزان
من نُقطة إلى أخرى، وعلامات الاِنْبهار ترتَسِمُ على وجهه.
تعكَّر
مزاجها، وتَخربَط كيانها. أعصابها ترتجفُ لشعورها الطَّاغي بأنَّها ضعيفة، وكأنَّ شيئًا
قد سُرِقَ منها غصبًا عنها، ولن تستطع اِسْترجاعه، لكنَّ الشَّتائم ما زالت تنهال
على "محمود" كالعاصفة، لا تهدأ رياحها، ولا بَرْدَها ولا بَرَدَها
ولا مَطَرها.
ودَّت
في هذه اللَّحظة لو أنَّها تنتقم منه بقتله أو إخراجه من (البنسيون) حالًا، وترميه
كالكلب في الشَّارع، لم تعُد تُطيقُ مُجرَّد تصوُّر اِسْمه يتردَّد في دِماغها؛ فالكراهة
لا تنشأ من لا شيء على الإطلاق. أسبابٌ تتظافرُ لتكوين حِقْد داخليٍّ مُبرَّرٍ عند
صاحبه على الأقلِّ.
..*..
(24)
بطبيعة
تكوينها عالية الحساسيَّة لدرجة ربَّما
تكره نفسها في بعض الأحيان. إذا ما فكَّرت أو واجهت ذاتها مع ماضي عائلتها؛ تضطربُ
على نحوٍ واضحٍ من غير حاجةٍ للتدليل عليه.
الماضي
مساميرٌ رُؤوسُها ناتئةٌ تنخزُ حاضرها لِتُدميه، ولا يتركها لتمضي وشأنها من دون اِعْتراض..!!
لماذا هذا التسلُّط؟. من غير المفهوم ما سبب القوَّة التي يتمتَّع بها الماضي؟.
إذا
ما سُئلت "فايا" من المُتوقَع أن تُجيب بلا تردُّدٍ:
-"الخوف..
نعم الخوف وحده، نحن في مجتمع شرقيٍّ شديد الخُصوصيَّة بتداخلاته الاجتماعيَّة، ولا
يُمكن نشوء علاقة مُنفرِدَة بذاتها. إلَّا بجرجرة خُيوط الماضي معها.
يعني
كلام النَّاس ومعيارهم لأيَّة قضيَّة؛ أساس تُبنى عليه أحكامٌ مختلفة، الموضوع
انتقائيٌّ بما يطيب لهم، وتُزيِّنه نفوسهم المريضة، بالبحث عن النَّقائص والنَّقائض؛
لتجعل منها معيارًا، وتُهمةً لَصِيقةً لِفعلٍ اِرْتكبه شخص ما في غابر الزَّمان،
وعلى سبيل المثال قبل مئة أو مِئتيْ عام، وسيُحاسَبُ عليه أحد أحفاده، أو إن كانوا
جميعًا مدى الحياة..!!.
هذا
الوضع المأزوم ما يُسبِّب لي القهر، ومن الوضع عُمومًا، ولا اِسْتطاعة لي بتغييره
أو بدفع أذاه عن نفسي، ولا بِقَطع ذُيوله؛ ليبقى على بُعد مسافة عنِّي".
على
وجه الحقيقة.. ولا أدري: لماذا لم يخطُر ببال والدي العودة إلى البيت بعد خُروجه
الصباحيِّ مع بداية دَوَامه قبل فترة تقاعده، ولا عند بُلوغه السِتِّين. منذ وعيتُ
على هذه الدُّنيا، لا أذكُر أنَّه طَرَق الباب بتاتًا في غير موعده بعد انتهاء
دوام، ولا لمرَّة واحد ولو عن طريق الخطأ، أو كان نسي غرَضًا.
تمنَّيْتُ
ذلك منه مرارًا، حتَّى حينما طالبتُه مَرَّاتٍ عديدة بالرُّجوع للبيت في مواعيد
غسر المُعتادة منَّا ، لكنَّ ذلك لم يكُن ليحدُث أبدًا.. أبدًا..!!. بعد التقاعُد
اِستمرَّ على هذه الحال. أنا اِبنته البكر. مُعجبةٌ بأبي.. كما كلُّ فتاة في
الدُّنيا مُعجبة بأبيها.
*وعيتُ
وجه ذلك الرَّجُل الغَريب، يأتي بيتنا بعد خروج والدي، وكأنَّه ينتظر عند زاوية
الزُّقاق المؤدِّي إلى بيتنا، ما إن يَلُوذ والدي عند أوَّل اِنْعطافٍ يغيبُ في
زحمة الشَّارع الرَّئيس؛ بالانتظار لمجيء الباص الذي يُقلَّه إلى دائرته
الحكوميَّة.
سنوات
عديدة، وأنا أراه يزور والدتي في مُعظَم أيَّام الأسبوع، وُجُوده شبه دائم في
بيتنا؛ بمثابة البديل لوُجود أبي. من الصَّعب على أبي الفهم. مرَّات عديدة كلَّمتُه
فيما بيني وبينه بشكلٍ سِريٍّ، عمّا يحدُث في غيابه كلَّ يوم. سلوك والدي اللَّامبالي
كان صادمًا تجاه قضيَّة مهم في حياة أسرتنا.
كنتُ
أسمعُ ضحكات أمِّي في غرفتها خلف الباب المُغلق بإحكام من الدَّاخل.. في أحد
الأيَّام.. تكرار الأمر اليوميٍّ وبدافع الفُضول، اِنْفصلتُ عن ألعابي البسيطة،
وتركتها، كنتُ وقتها في العاشرة من عمري.. ولا أدري ما الذي قادني للنَّظر من فُتحة
قفل الباب.. دافعُ الفُضول الصِّبيانيِّ لِاسْتكشاف أيِّ شيء غامض، حتَّى وإن كان
خارج دائرة الاِهْتمام الخاصِّ بي، الفُتحة جاءت بارتفاعها على مَقَاسي بالضَّبط؛ فلم
أضطرّ لأنحني، أو لأقف على رؤوس أصابع قدميَّ، كأنَّه مُفصَّلٌ لمثل هذا اليوم
المُفاجئ.
يا
إلهي..!!
يا
لهوْل ما رأيتُ..ّ!!، تسمَّرتُ مكاني. اِنْطبعت المشاهد في مُخيَّلتي، صورة أمِّي،
وهي عارية واقفة أمامه. تخلخلت نفسيَّتي، حاولتُ نسيان ما رأيتُ، الصُّور تَتَالى
بمشاهدها لم أَنَمْ طَوَال اللَّيل، بانتظار الصَّباح أن يأتي وذهاب والدي.
أنتظرُ
بفارغ الصَّبر أن يقرع الرَّجل جرس الباب، بلا تفكير، أو وَعْيٍ على خلاف المرَّات
السَّابقة؛ اِنْدفعتُ بلا تلَكُّؤ لفتح الباب على آخره ليدخل بلا استئذان، ولم
ينتبه لوجودي، من فوره دخل المطبخ رائحة القهوة جذبته إلى هناك، طبَعَ قُبْلة على
رقبة والدتي، أحسستُ بضحكتها تصطدم بِقَفا باب الدَّار عندما أغلقتُه.
ما
إن رأت اِهْتمامي بهما هذا الصَّباح، حتَّى صرخت
بوجهي:
-"فايا
هيَّا اِذْهبي إلى غُرفتكم، وأغلقي الباب، واِلْعَبي بهدوء، لا أريدُ سماع أيَّ
صوت يأتيني منكم".
-"حاضر
يا أمِّي".
تحرَّك
لِساني بصوت عالٍ؛ لتسمع ردِّي على كلامها، لكنِّي كنتُ مُتحرِّقة لمتابعة ما
شاهدتُ بالأمس، بعد اِنْتهائهم من شُرْب فنجان قهوتهم، قامت أمِّي لتنظيف أسنانها
بالفرشاة والمعجون.
أظنُّ
أنَّها أرادت إزالة رائحة الدُّخَّان من فمها، واِسْتبداله برائحة معجون (السِّيجنال)
النَّعْناعيَّة الزَّاكية.
شَغَفي
القويِّ بالمُتابعة مرَّات عديدة، كأنِّي أدمنتُ؛ اِكْتشفتُ مناطق الإثارة في جسمي؛
فبدأت بتحسُّسها على مدار السَّاعة. ذات مرَّة لاحظتني أمِّي من الشُبَّاك
المُطلُّ على غُرفتنا أثناء اِسْتغراقي، وعدم اِنْتباهي لما هو حَوْلي، عاقبتني
بشدَّة، ضربتني بالحِزام الجلديِّ على أنحاء مُتفرِّقة من جسدي، آلمتني.. أوجعتني..
أيقظَتْ حِقْدي عليها.
كلَّمتُ
والدي بعدما رآني مُنهارة في ذلك اليوم، بعد جُهد جهيد، كنتُ رافضة الكلام بتاتًا،
لكنَّه لا يستطيع الصَّبر على أن يراني غير راضية.
تهديدُ
أمِّي مُنتصِبٌ أمام عينيَّ، ما زال صدى صوتها الأجشِّ يترَّدد بالوعيد بالعُقوبة
الأقسى إن عُدتُ لهذا الأمر.
ما
الذي سأقوله لأبي...!!
هل
أحكي له الحقيقة وأعترفُ.. باِقْترافي للخُطوط الحمراء في مثل سِنِّي؟.
لا..
لا يمكن ذلك.
لجأتُ
للكذب.. على مسمع من أمِّي أثناء إعدادها لِطَعام الغداء. الماما عاقبتني؛ لأنَّني
عاندتُها ولم أُنفِّذ بعض الأعمال التي طلبتها منِّي، ووقعت من يدي صينيَّة فناجين
القهوة، واِنْدَلَقت على طرف سجَّادة غرفة الضُّيوف.
-بسيطة
يا فايا، سأكلِّم الماما، وسأرجوها بعدم مُعاقبتكِ، فيما لو حدث ذلك ثانية؛ فلتحترق تلك السِّجَّادة العتيقة،
سأشتري واحدة جديدة غيرها، من سنوات وأنا أخطِّط، هذا الشَّهر صرفوا لي راتبي مع
ما يُعادله من المِنحة السَنويَّة الموعودين بها منذ بداية العام.
أبي
مسكين.. يُصدِّق كلَّ ما تقولُه أمِّي بلا نِقَاش أو تردُّد، وها هو يُصدِّقني بكلِّ
كلمة قلتُها له.
كَبُرْتُ
وكبُرَت المشاهد معي. اِسْتعادتها ليس بالشيء الهيِّن.. الوجه القبيح للرَّجل،
ورائحة فمه المحشوَّة بدخان السَّجائر، وأسنانه المُصفرَّة، لم أكُن أعلم لهذه
السَّاعة؛ لماذا كانت والدتي تغسل يديْها وفمها بالماء والصَّابون، وكأنَّها لا
تطمئنُّ إلَّا باستخدام فرشاة الأسنان، بعد أن تضيف على سطحها معجون (السِّيجنال)
بخطوطه الحمراء المُغرية لي بتقليدها، اِكْتسبتُ منها عادة تنظيف الأسنان بشكلٍ
دائمٍ بعد كلِّ طعام، أو إذا تناولتُ أيَّ شيء، وما زلتُ محافظة عليها للآن.
..*..
(25)
فكَّرت
"فايا" بِجَديَّة، تمنَّت لو تستطيع إلغاء الدَّعوة، مع أنَّها
قامت بكافَّة اِستعدَادَاتها بعدما اِرْتدت ملابسها، تسطَّحت على التَّخت. عيناها
مُركَّزتان على نُقطة واحد في السَّقف، حول النُّقطة التي تتدلَّى منها لمبة
الإضاءة، أطلَّت عليها أمَّها بوجهها كعادتها، لم تختلف بشيء يُذكَر، ما زالت كما
تعرفها قبل سنة، عندما تركت بيت الأسرة، مع زوجها الذي عقدت معه زواج المُتعة.
-"لستُ
بحالة نفسيَّة مُستقرَّة تسمح لي بإظهار البشاشة والسُّرور الحقيقيِّ، وفرحتي بهِنَّ.
مُشكلتي أنَّ علامات الضِّيق تظهر على ملامح وجهي، ولا أستطيعُ التَّمثيل للغير
خلاف ما أُبطِن، فلا أملكُ الإقفال على مشاعري الحقيقيَّة، وفتح الباب للفرح
والانبساط من الجهة الأخرى وفي آن واحد.
فماذا
سيكون موقفي لو تراجعتُ..!!، أخاف اِهْتزاز صورتي في أعْيُنِهِنَّ، وماذا لو طلبتُ
مِنهنَّ تأجيل الموعد ليوم آخر يُحدَّد لاحقًا..!!.
في
العادة هناك مواقف نُجبَر عليها، وبالتَّعامُل معها، ولا مَناصَ من الخوض فيها.
كيف حدث لي بأن يتعكَّر مِزاجي في هذه اللَّحظة، تذكَّرتُ مقولة كانت تتردَّد على
لسان أمِّي: (عندما أرادت المسكينة أن تفرح، ما لَقَتْ بالمدينة مَطرَح)،
معقول أنَّني منحوسة أو محسودة..!!. تساؤلي من الذي سيحسدني..!!؟.(كلَّنا في
الهَوَا سَوَا)، ما في أحد أحسن من أحد. جميعنا تُعساء في (البنسيون)
الأتْعَس، نحن مُخلَّفات المحرقة، لا رابط بيننا. كلّ شخص من منطقة. كلُّ واحد
منَّا له ألف قصَّة وقصَّة، وألف شيطان يلعب برأسه. تتشابه قصصنا لأنَّ الجغرافيا
الواحدة تجمعنا، والحرب لم تُفرِّق بين الصَّالح و الطَّالح.
خسرنا
الكثير، لم يبق شيء لنخسره، لم نملك إلَّا أنفسنا وقدرتنا على الحركة، نعيشُ
التحدِّي الأكبر مع أنفسنا على مُواصلة الحياة، وعدم الاِسْتسلام، نطمحُ ليوم
تنتهي الحرب؛ لتعود الأمور كما كانت من قبل، سمعتُ مرَّة كلامًا من صديقة لي:
"عقارب السَّاعة لا تدور عكس الاتِّجاه أبدًا، من غير المُمكن العودة
للسَّابق، القطار لن يتوقَّف، وليس باستطاعته الرُّجوع على السِّكَّة الحديديَّة
نفسها للخلف إلَّا إذا توقَّف، وجاءت قوَّة دافعة تُغيِّر اتِجاهه بفعل فاعل".
الهروب
هو الحلُّ الأخير لا مفرَّ منه، ليس أمامي من الوقت الكثير, بسرعة غير مُتوقَّعة،
اِرْتديتُ ملابسي العسكريَّة المُخصَّصة لقوَّات الدِّفاع الوطنيِّ، التي نستخدمها
للمُهمَّات التي نُكلَّف بها. جاءتني فكرة خُرافيَّة عند انتهائي من تجهيز نفسي،
إخبار البنات بضرورة مُغادرتي:
-"جاءني
اِتِّصال طارئ من الحاجز للحُضور الفوريِّ، هناك مهمَّة فوريَّة". لا مفرَّ
من الكذب، كثيرًا ما يكون لنا مخرجًا من الحَرَج والنَّجاة، مع يقيني: بــأنَّه (إذا
كان الكذبُ يُنجِي؛ فإنَّ الصِّدْقَ أنْجَى وأنْجَى)، لكنِّي لا أستطيعُه في
ظلِّ ظروف قاهرة مفروضة عليناـ الكُلُّ يكذبُ على الكُلِّ، اِعْتدنا الكذب، ولا مُشكلة
لديْنا..!!.
..*..
(26)
"لارا"
وُلدت لأسرة الأب موظَّف في وظيفة مُحترمة، وأمٍّ من أسرة عريقة ذات جذور أُرستقراطيَّة،
أبو جدَّها كان آغا ملَّاكًا للأراضي، يتمتَّع بسُلطة معنويَّة وَرِثها أبناؤه،
ومن بعدهم أحفاده كَتَرِكَة معنويَّة، واِمْتياز مَوْسومٍ لهم، لا يحقُّ لأحد
تناوشه، ولا تقليده، نظام الطَّبقات يفرض سطوته بقوَّة، العامَّة في القرية
شُعورهم بالعجز أمام سَطوة الآغا وأبنائه.
"كنعان"
شابٌّ من القرية كان مُتفوِّقًا في دراسته، وبقي ضمن المراكز الثَّلاثة الأولى
يُنافس زميليْه، يَتَداوَرُون بِمُراوَحَتِهم حوْل المركز الأوَّل.
المسافة
ليست بعيدة بينهم، وبين من كانوا بالمركز الرَّابع والخامس دائمًا، يتقاربون مرَّة
من الثَّلاثة، وأخرى يتباعدون في النتيجة الأخيرة مع نهاية كلِّ عامٍّ دِراسيٍّ.
"كنعان"
أملُ والده الفلَّاح، عندما باع قِسمًا من مُمتلكاته في الأراضي الزراعيَّة،
ليُكمل ابنه تعليمه الجامعيِّ، لم يبخل عليه بأيِّ طلب؛ فقد كان يُوفِّر اللُّقمة
عن فَمِه من أجل "كنعان" أمله المُرتَجى، إلى أن تخرَّج في جامعة
دمشق من كليَّة الاقتصاد والتِّجارة، خلال أربعة أعوام بلا تأخُّرٍ أو بِرُسوب، وبتخصُّص
المُحاسبة.
بينما
هُما جالستنا بمتعة واضحة، طُرقات خفيفة على باب الغُرفة المُغلَق، كأَّنها تستأذن
بالسَّماح بالدُّخول، انتهبت "سيرا" ونفخت من فَمِها دخَّان
سيجارتها إلى أعلى، حَرَجًا من أن تنفَثَه في وجه "نورما"
الجالسة قُبالتها على طرف السَّرير، رغم أنَّها الأخرى كانت تسحب على سيجارتها،
ومع القَرْع على الباب، اِنْطلقت سَعْلَتها من دُخول دُخان زائد إلى حَلْقِها،
لأنَّها لم تعتَد سابقًا على التَّدخين، ولم تكُن لتفعل من تِلْقاء نفسها، إلَّا
مُسايرة لصديقتها "سيرا"، بعد أن ألحَّت عليها لمرَّات، ومع الإحراج المُتزايِد أخذت
أوَّل واحدة اِسْتطابت طعم دُخَّان (الكِنْتْ\KENT)، والذي طالما يُوصف على ألسنة النَّاس تدليعًا له: (الكِنتْ
مشروب البِنتْ). العِبارة أكلت دماغ "نورما"، تذَّكرتها عندما شاهدت (باكيت
دُخَّان الكِنتْ) بيد "سيرا"، سمعت العبارة لأوَّل من صديقتها
أيَّام المدرسة وهنُّ بالمرحلة الثانويَّة، إذ أخبرتها أنَّ خطيبها الشَّاب
العسكريِّ، أهداها إيَّاه لمَّا عَلِم برغبتها بالتَّدخين، سابقًا قد اِعْترفت له
بأنَّه كلَّما سَنَحت لها الفُرصة بسرقة سيجارة أو اِثْنتيْن من (باكيت) والدها. خطيبها
جلبه خِصِّيصًا لها من لُبنان حيث يُؤدِّي خدمته فيها، أثناء عودته إلى القرية في
إجازته الدَّوريَّة كلَّ ثلاثة أشهر.
ضحكة
غيرُ مُبرَّرة أطلقتها "سيرا" لاقت بها "لارا"
ما إن ظهر وجهها أثناء فتحها الباب، وقالت:
-(إذا
جِبِتْ طاري الذِّيب، هيِّئ له القَضِيب).
اِبْتسمت
"لارا" على مَضَض للصَّدمة التي واجهتها مُباشرة قبل دُخولها وجُلَوسها،
وقالت:
-
بصراحة يا "سيرا" لم أفْهَم
عليكِ، ما الذي قُلتيه، لو سمحتِ فسِّري لنا، هذه أوَّل مرَّة أسمعُ فيها هذه
العبارة، أخافُ أن يكون معناها سيِّئ.
-لا..
لا.. لا تخافي. يعني أنَّكِ جئتِ، أثناء حديثي عنكِ؛ فقد حدَّثتُ "نورما"
عن قصَّتكِ؛ لأنَّها سألتني عنكِ و عن "فايا"، ولم أُكْمِل. ما
زلتُ في المُقدِّمة عن أُمَّكِ وأبيكِ، ووصلت إلى فترة التعريف فيما بين جدَّك
الآغا ابن الآغا، ووالدكِ. والباقي عليكِ، بإكماله للنهاية؛ لتسمعَكِ مُباشرة، وتبقى
رواية المصدر هي الأساس الحقيقيِّ بلا زيادة ولا نُقصان.
أطرَقَتْ
برأسها، بعدما جلست على الكُرسيِّ بجانب الطَّاولة وجهًا لوجه أمام "سيرا"،
لدقائق لم تنطق بكلمة واحدة. لسانها تخشَّب خلف أسنانها. شفتاها الرَّقيقتان مُطبَقَتان
باِلْتصاق يصعُب فكّهُ بغير إرادتها.
وجهها
المُدوَّر مُتورِّد الخدَّيْن المُشرَّبيْن بحُمرة كحُمرة الرُّمَّان المُستوي على
أمِّه نُضوجًا، ذقنُها تُلامس صدرها النَّافر باستفزاز غير طبيعيِّ، ثوبها
المُزركش بألوانه الزَّاهية تبعث الأمل بالحياة؛ (الدَّانْتيل) الشفَّاف على
الصَّدر أظهر اللَّون الأساسيَّ لجسمها، ويُوسِّع الأُفُق لتسريح النَّظر بأبعاده
الطَّبيعيَّة.
أومأت
لــ "سيرا" بيدها بطلب سيجارة، لم تتلكَّأ "سيرا"
بتلبية طلبها، بل أشعلتها بنفسها، وسحبت عليها أوَّل نَفَسٍ تعبَّأ فَمُها بكميَّة
من الدُّخان، و لإثارة "لارا" قامت بِنَفثِه بوجهها.
إغَماضَة
عينيْها اللَّوزيَّتيْن الواسعتين، واِنْسِدالُ الرُّموش الطَّويلة عليهما،
كحُرَّاسٍ يحملون أدواتهم أمام باب الحاكم، وعلى اِسْتعداد كاملٍ للدِّفاع عنه إذا ما اِسْتدعى الأمر ذلك منهم.
أربعة
عُيون تتفرَّسها بتمعُّن غير معهود، تستغرب صمتها من لحظة مجيئها، تودُّ الأعيُن
لو تنفذ إلى تلافيف دماغها، لِتَعرف ما الذي تُفكِّر به, لا فائدة إلَّا بالانتظار، حتَّى تتكلَّم وتُفصِح عن مكنوناتها
المكتومة الحبيسة في داخلها. أخيرًا
حقَّقت رغبتهنَّ، وأراحت اِنْتظارهنَّ بكلامها غير المُنتَظر:
-صدِّقيني
يا "سيرا" أن سيرة أمِّي وأبي لا أُطيق سَماعها، ولا تستطيب نفسي الكلام
عنهما بتاتًا، بالطَّبع لو سألتيني: "لماذا؟", تأكَّدي من عدم اِمْتلاكي
للجواب الشَّافي الكافي. مشاعري مُستاءة منهما ليس لسبب واضح، ولا أقدِر تحديد سبب
مُباشر، أستطيع القوْل بأنَّها تراكمات تتابعت سنينًا طويلة، هي ما أوصلني لدرجة
القَرَف منهما، والهُروب من جحيم العائلة الذي لم أكُن أحتملُ نَزَق والدتي
الدَّائم، لا ساعات اِنْفراج في حياة أسرتنا. ما حاجتي لأمٍّ لا تُشبهُ إلَّا
الشُّرطيِّ المُتسلِّط بسطوته، وأبٍ ضعيف لا يستطيع إلَّا ولا يمتلكُ إلَّا كلمة:
"حاضر".
-
ألهذه الدَّرجة.. لا أظنُّ إلَّا تبالغين يا "لارا". اِسْتغراب "سيرا"
لهذه النغمة من كلام "لارا" دفعها للاِحْتجاج.
- بتعرفي أكثر ما كان يُؤلمني سُلوك جدِّي الآغا،
منذ صغري، وبداية تفتُّح وَعْيي، حينما يسأله أحد من أصدقائه عنِّي، لا يقول إلَّا
هذه "لارا" بنت "فكريَّة"، طريقة تعريفه اِنْسحبت على إخوتي
أيضًا.
-
أوووه.!!. مطَّت "سيرا" لسانها بالكلمة تستهجن كلام "لارا"،
وعاودت لِنَفخ دُخَّان سيجارتها بوجهها ثانية. اِستفزازًا لا غير.
-
الأمر لم يتوقَّف عند جدِّي، بل تعدَّاه إلى الحارة والمدرسة، زميلاتي في الحارة
إذا ما حدث واِشْتَكيْنَني للمُعلِّمة/ أو لمديرة المدرسة، جميعهن مُصِرَّات على
أنِّني: "بنت فكريَّة". بنت "فكريَّة" ضربتني، بنتُ "فكريَّة"
كسرت قلمي، بنت "فكريَّة" دَفَشَتْني فوقعتُ.. هكذا سارت الأمور بشكلٍ
غير طبيعيِّ، حتَّى اِخْتفى اِسْم أبي من قاموس اِسْتعمالنا العائليِّ، وفي مرَّات
أضْطَرُّ للتعريف بحالي: "ابنة فكريَّة"، لماذا اِنْمحى اِسْم أبي
"كنعان" شيئًا فشيئًا من قاموس اِسْتعمالي اليوميِّ.
-
أي.. أي..!! أكملي, الموضوع راقَنِي، ولا أشكُّ أنَّه يروق صديقتنا
"نورما" كونها مُعلِّمة، وبالتأكيد فلا بُدَّ من حالة مُشابهة لحالتكِ
يا "لارا".
هزَّت
"نورما" رأسها علامة الإيجاب، والتأييد لكلام "سيرا"
عندما أشْرَكَت اِسْمها، وزجَّها في حديث لا تَودُّ أن تكون فيه الحَكَم، بل
تُحِبُّ الاِسْتماع والاِنْصات أكثر من الكلام، وإبداء الرَّأي. لم يسمع أحدٌ كلمةً
واحدة صدرت عنها.
-وفي
أثناء لَعِبي في الحارة مع البنات والأولاد. صار الاِسْم الرَّسمي الذي يُنادونني
به: "ابنة فكريَّة"، حتَّى اِخْتفى اِسْمي من الاستعمال، وهَيْمن اِسْم
أمِّي على اِسْمي وأسماء إخوتي، وعلى دارنا "دار فكريَّة"، لم يكفِها
أنَّها هَيْمنت قبلنا على أبي واِسْمه وأصبح "زوج فكريَّة".
حتَّى
الشَّارع أمام بيتنا "شارع فكريَّة"، مرَّةً سمعتُ أحدًا يصِفُ بيت
جيراننا، تمشي إلى نهاية شارع فكريَّة، وهناك تسأل عن دار فكريَّة، يكون هدفكَ
الباب المُحاذي لباب دار فكريَّة. تخيَّلي أنَّه لولا العَيْب؛ لأطلقوا اِسْم
فكريَّة على القرية بأكملها.
-وبعد
ذلك كيف سارت الأمور؟. تساءلت "سيرا" على مسمع "نورما"،
و"لارا" بقصد مُتابعة رواية باقي قصَّتها مع أسرتها.
"لارا"
صارت تحكي/ كما لو أنَّها آلة تسجيل أعادت،
وردَّدت حكايتها، عند كبس زرِّ التشغيل، ومع دوران بَكَرات شريط (الكاسيت)تبدأ
ببثِّ ما هو مُسجَّل بداخله، ويعيد نفس الرِّواية مع كلِّ رغبة مع ضغط على زرِّ
التَّشغيل.
-
أُمِّي مُتسلِّطةَ بشخصيَّتها القويَّة على أبي، الذي رضَخ لكلِّ طلباتها حتَّى أحكمت
السَّيطرة عليه بلا مُنازع وبزمنٍ قياسيٍّ. ومنذ البداية لإرضائها، بعدها أصبحت
الآمِرِة النَّاهية، وحانت ساعة فرضت فيها شروطها، ونزواتها على الأُسرة التي سارت
وفق رُؤيتها.
تخيَّلي
أنَّها كانت تُجبِر أبي على القيام بأعمال البيْت، من كَنْسٍ وشَطْفٍ وتنظيفٍ،
وجلي الصُّحون.
-أفٍّ..
أُفٍّ.. ألهذه الدَّرجة كان ضعيفًا أمامها..!!؟. باِسْتغراب. تساءلت "سيرا".
عندما قاطعت اِسْترسال "لارا" التي تابعت:
-وكانت
ضربتُها القاضية؛ بعد أن جردَّته من ملكيَّته للبيْت الذي نسكنه، الموروث عن جدِّي
لأبي الذي مات قبل سنوات طويلة، لا أَعِي منه إلَّا بعضًا من ملامحه التي ما زالت
عالقة في ذاكرتي.
-طيَّب
وبَعدَيْن يا بنت فكريَّة. أطلقت "سيرا" ضحكتها المُعتادة بلا
قيْد، وفي نيَّتها مُداعبة "لارا" المُتنكِّدَة من قِصَّة حياة
لم يكن لها الحظّ في اِخْتيارها أو رفضها.
افترَّ
مبسمها عن اِبْتسامة هاربة من سِيَاقات مريرة، بمحاولة كسر حاجز مُتابعة سرد
قصَّتها مع والديْها، ومُحاولة تبريرها لهجرهم من سنتيْن، وما حاولت الاتِّصال
بهما، لتأكُّدِها من أنَّ شيئًا لم يتغيَّر خلال هذه الفترة، وما زالت الأمور على
حالها.
-نعم..
أنا ابنة فكريَّة بكلِّ فخر، وأبي كنعان. ما كان يَحزُّ بنفسي صراحة هو حال أبي،
وشخصيَّته المسحوقة أمام أمِّي، وعلى الأخصِّ حينما تُجبره على شطف البيْت، وجلي
الطَّناجر والصُّحون، وهي جالسة تتابع المسلسل، أو تستمتع بتدخين الأرجيلة مساء
بعد عودته من الدَّوام، ويبقى طيلة الوقت يُجهِّز جميع مُستلزمات الطَّقس اليوميِّ،
يعرفُ واجبه بدقَّة، لا يحتاج لمزيد من الأوامر.
"نورما"
غارقة بصمتها، مُنطوية على نفسها لم تُشارك بالحديث الطَّويل، من غير المعروف
أنَّها كانت تتألَّم، أم مُستمتِعة بقصَّة "لارا"، وبتفاعل
"سيرا" بمحاولة اِسْتنزاف البنت؛ لتجعلها تُفرغ دواخلها لِتَرتاح، من
أعباء ورواسب قديمة تسكن قلبها.
..*..
(27)
بأسًى
ظاهرٍ يكسو ملامحها التي انقلبت إلى حزينة، وكأنَّها لا تعيش حياتها على طريقتها
بالكيفيَّة التي تروقُ لها مع صديقها، ولم تتوَّقف عمَّا يجيشُ بداخلها، ويحرقُ
أعصابها، وتذوي أفكارها حدَّ الموت مع سلسلة ذكرياتها المُؤْسِية لها.
"لارا"
حزينة على ماضيها، وتنظرُ بقلق لحاضرٍ لا تراه إلى على كفِّ عِفريتٍ، إلَّا
بالتلويح المُستمرِّ بالدَّمار لمستقبلها. تُتابع:
-أوَّل
ضِحكة ضجَّت بها جَنَباتُ بيتنا بِجُنون؛ كسرت حواجز الرَّتابة القائمة الصَّامدة
بصمتها منذ سنوات.. هي ضحكتي. لا شكَّ أنَّ فرحتهم كانت لا توصَف. مقولة أبي
الخالدة التي نَضَحت على لسانه حُبًّا على وقع نُضوجي، حتَّى غدوْتُ صبيَّة في
ربيعها ما بعد العاشر.
فقدَتِ
المقولة بريقها على لِسان أبي المُلجَم بلجام الخوْف من أمِّي المُتسلِّطة عليه. بِدَوْري
فقدتُ صورة أبي، ذاكَ الرَّجُل الممتلىء حُبًّا لابنته وبيْته، بَهُتَ بريق صورته
في عينيَّ، وأنا أَعِي ضعف شخصيَّته شيئًا فشيئًا.. أيُّها المسكين "كنعان"
يا أبي.
ما
الذي دهاكَ، ومَنعكَ من أن تقولَ كلمة: "لا" في وجه أمِّي، ولو لمرَّة
واحدة..!! بينما ردَّكَ المُنكسِر الدَّائم: "حاضر".
حاضرٌ
بلا تردُّدٍ.. أنتَ حاضِرٌ بشحمكَ ولحمكَ في البيت أمامنا. غائبٌ تمامًا أو
مُغيَّبٌ بإرادتكَ، أو بضعفكَ الذي أقنع أمِّي بوجه غير قابلٍ للنِّقاش؛ بإلقاء
الأوامر عليكَ.
البيْتُ
كنتُ لا أراه إلَّا على أنَّه شبيه بالمخفر، وهي تُمارس دور رئيس المخفر؛ يُصدِر
أوامره لتُطاع وتُنفَّذ بحذافيرها.
مسكينٌ
أنتَ يا أبي..!!
كنتُ
أظنُّكَ سعيدًا، بل في غاية سعادتكَ القُصوى صاحبني هذا الاتِّجاه في التَّفكير إلى فترة ما قبل سنوات قليلة من الآن. أرى
ابتسامتكَ.. ولم يخالطني شكٌّ: بأنَّها ما كانت إلَّا غِلافًا لأحزانكَ المكتومة..
المكبوتة بقهر دواخلكَ.
حاولتَ
وحاولتَ أن تكونَ سعيدًا..!!
وحاولتَ
أن تُسعِد مَنْ هُم حوْلكَ، وفي دائرة محيطكَ.
للأسف
يا أبي؛
أيقنتُ
أنَّهم يستغِلُّون طيبَتَكَ.. يا طيِّبَ القلب.
بعد
سماعها للكلام، تأثَّرت "سيرا" ونزَّت الدُّموع غَصْبًا عنها؛
فقامت من جانبها لتحتضن "لارا" بقُوَّة، اِعْتقدت أنَّها ستُعوِّضها عن
حنان اِفْتقدته، دموعُها بلَّلت (سُوتْيَان) "سيرا"، لذَّة خَفيَّة
تسرَّبت إلى دواخلها من أثر الدُّموع السَّاخنة؛ نبَّهتها لتزيد من ضغط رأس "لارا"
على صدرها لزيادة شعورها بمُتعةٍ؛ جاءتها على طبقٍ من ذَهَب. مآسي الآخرين سبب
مُتعةٍ وفرحٍ للبعض رغم تظاهرهم بالحزن.
ولتستمرَّ
مَسرحيَّة تضامُن دموعها المُتساقطة لُتُبلِّل شعر "لارا" الأشقر
الكستنائيِّ السَّابل باِنْسيابيّة، تخيَّلت شكل رأس "فكريَّة"؛
ليكون رأس اِبْنتها نُسخة طبق الأصْل عن رأس أمِّها، بكامل تكويناته الأخَّاذَة
بجمال مظهرها الذي يتمنَّاه كلُّ رجُل على الإطلاق.
..*..
(28)
من
فورها قامت مُسرعة لتلحقَ بالردِّ على مُكالمة في غُرفتها قبل اِنْقطاع الرَّنين
المُتواصل، برنَّة واحدة قبل فصل الرَّنين كانت "لارا" قد ضغطت بإصبعها
على زرِّ فتح المُكالمة.
رقم
معروف لديها، لم تقُل : "ألو.. مين معي؟". طال وقت المُكالمة، ونسيت
العودة للاعتذار من "سيرا" و"نورما" بانقطاعها عن الجلسة،
ظنَّت أنَّهما لا تنتظران عودتها.
المكالمة
طويلة ناهزت ساعة من الزَّمن، مهارتها في الكلام والنِّقاش على الموبايل عجيبة،
كلامها ما بين الهمهمة والهمس، من الغريب كيف يفهم عليها الطَّرف الآخر.
ويموت
قهرًا إذا تقصَّدها أحد بالتنصُّت عليها، لن يستفيد إلَّا إضاعة الوقع والتعب،
للحصول على كلمة بعد كلمة، ليبني عليهما جُملة مفيدة، ليستطيع تحديد محور حديثها.
فهل هي مُدرَّبة على ذلك من جهة ما..!!، أمْ مهارة خاصَّة بها؟.
أمرٌ
مجهول أخرج "نورما" عن صمتها؛ لتسأل "سيرا" بعدما بقيتا
وحدهما، وتأخَّرت "لارا" ولم ترجع، لتستأنف رواية ما تبقَّى في جُعبتها
المليئة:
-طيلة
الجلسة، وأنا أبكيها بصمتٍ، المظاهر خدَّاعة؛ فمن يراها تضحك، وتمرح على سجيَّتها،
يظنُّ أنَّها لا تحمل أيَّ همٍّ في حياتها، ولا يعرف هشاشة داخلها، الذي على وشك
الاِنْهيار كان؛ فكان الهروب الحلَّ الأقسى.
-ظننتُ
أنَّكِ غير مُبالية، ولا تُعنيكِ بقليل أو كثير مثل هذه الحالات. قالت "سيرا".
-على
العكس يا "سيرا"، لا تنسي أنَّني مُعلِّمة ومُربيَّة أجيال،
وحريصة على سلامة سُلوكهم، وكذلك على صحَّتهم النفسيَّة، وخاصَّة في ظلِّ ظروف
الحرب الطويلة، التي خَلْخْلت البُنية الاجتماعيَّة، بتفتيت الترابط الأُسري،
الحرب لعنة. سنحتاج كتربية ومدارس وعلماء نفس لعشرات السِّنين؛ لترميم ما حصل
لأطفالنا وشبابنا. المأساة كبيرة باِنْهدام ما بَنَيْناه على مدار عُقود من
التربية والتعليم، اِنْهَار كأحجار (الدُّومينو).
-شيء
طبيعيٌَّ يا خيْتي. وهل ما حصل في بلدنا من حرب ودمار وتدخُّلات العالم بأجمعه واِحْتلالنا
ببشاعة، ونهب ثروات بلادنا، الهدف تدميرنا على جميع المُستويات؛ عندما دفعوا
بالعصابات الإرهابيَّة التي لا ترحم، تقتل بهمجيَّة تَتَريَّة غير مسبوقة.
-سامحيني.
والمعذرةُ منكِ، هذا (البنسيون) هو النَّموذج الأوضح في نظري كتربويَّة، لحالنا
الاجتماعيَّة، ما زال بذهني سؤال يُراودني؛ لتبرير ما سمعتُ من "لارا"،
هناك حلقة مفقودة في السلسلة، وهي: كيف وصل والدها لهذه الحال حسب حديثها..!!؟.
-سمعتُ
منها كثيرًا، وحفظتُ منها، ليصل الشكُّ بنفسي أنَّني كنتُ أحد أفراد عائلتها. يا
سيَّدتي. والدها خريج جامعة دمشق في كليَّة التَّجارة والاقتصاد، وهو من أسرة
فلَّاحية، تحمَّل والده ما تحمَّل لتعليم ابنه، وبعد تخرُّجِه، وتعيينه بالمصرف
الزِّراعيِّ كمسؤول، ومدير قسم القُروض.
جدُّها
الآغا، وعلاقاته مع المصرف بمراجعاته المُتكرِّرة، تطوَّرت العلاقة بينهما،
وتقاربا بتبادل الزِّيارات من حين لآخر، وهو ما شجَّع "كنعان" على طلب
يد "فكريَّة" من الآغا كزوجة له.
وتغرير زوجته "فكريَّة" به، بطلب
المزيد من المصاريف؛ فلم يترك أيَّ نوع من أنواع القُروض إلَّا اِسْتهلكه، ولجأ ذات
مرَّة لتزييف قرض له تحت اسم وهميٍّ. ولمَّا انكشف أمره، تدخَّل الآغا بعلاقاته،
لتخليصه من المُشكلة.
-أفهم
من كلامكِ يا "سيرا" أنَّه كان زواجًا غير مُتكافئ. ابن فلّاَح
وابنة آغا، بالفعل وعلى أرض الواقع ما زال نظام الطَّبقات مُترسِّخ في النُّفوس.
الصَّمت
من جديد خيَّم على "نورما"، وتوقَّفت عن مُتابعة النِّقاش، واِْنطوت
على نفسها، وراحت "سيرا" تُتابع على هاتفها مراسلات الواتساب، تنبيهاتُها
تُخلخل حالة الرُّكود المفروض عليهما بالقُوّة.
..*..
(29)
الهروب
طريق للنَّجاة رغم أنَّه غير مأمون
النتائج في أحيانٍ كثيرة، لكنَّه الأقرب الوسائل المُتاحة في لحظة ضيق فاصلة بين
الحياة والموت، ولا نجاة لمن يبقى أمام عينيِّ عَدُوِّه، فلا يستطيع مُقاومته، ولا
ردَّ الظُّلم عن نفسه بالوقوف بوجهه.
لائحة
الاستعداد اللَّازمة للهُروب قصيرة، على قاعدة ما خفَّ حِملَهُ وغلا ثمنه،
فالهويَّة والأوراق الضَّروريَّة، وجواز السَّفر قطعًا هي الأوْلى. مقولتها
الأخيرة عندما حَسْمتِ "نورما"
الأمر، واتّخذتِ قرارها النِّهائيِّ:
-"خَسِرتُ
كلَّ ما أملك في الحياة؛ فلأربح نفسي: هي رأسمالي الأوَّل والأخير".
كانت
آخر الواصلين إلى (البنسيون)، وأوَّلُ الهاربين، من يهرُبُ أوَّلًا على الأغلب سينجو، وسيفتح الطَّريق أو
التَّفكير به. آثار أحمر الشِّفاه مُنطبع عند قبَّة البيجامة التي أعدَّتها لها
صديقتها الجديدة "سيرا" عند وصولها (لـلبنسيون)، واِسْتضافتها في
غُرفتها، وعلى سرير واحد نامت معها.
تذكَّرت
أنِّها، وقبل نومها كانت تلبس ملابسها، كيف خُلِعَت ملابسها؟. اِسْتفاقت من نومها
مُتأخِّرةً، لم يكُن غيرها في الغُرفة، ولا أثر لأيِّ مخلوق دخل عليها وهي نائمة.
تلمَّست
جسمها وأعضاءها بدقَّةٍ مُتناهيةٍ، تأكَّدت من عدم تعرُّضها لاِغتصاب ذُكوريٍّ.
هدأت نوبة غضبها، اِطْمأنَّت قليلًا، وسكَنَ توتُّرها.
حاولت
تحليل ما حصل لها وِفْق المُعطيات؛ لكي تبني تصوُّرًا مبدئيًّا عن الحادثة غير
المسبوقة أبدًا، إلَّا ما كانت قد قرأته عن حالات التَّساحُق فيما بين النِّساء
والفتيات. ذهب تفكيرها إلى هذه النُّقطة بالذَّات، ربَّما اِقْتنعت مُباشرة قبل ذهابها
إلى النُّقطة الأكثر إحْراجًا.
-يا
إلهي..!! كيف سأُفاتِحُ "سيرا" بالموضوع؟. وهل يليقُ بي، ومنذ
السَّاعات الأولى لعلاقتنا، أن أُكلِّمها بموضوع خارج عن سِيَاق الفَهْم
الطَّبيعيِّ؟. خوفي كبير أن تُسيء فَهْمي، وقضيَّة الاِفْتراء بأيِّ موضوع سهل
جدًّا، وماذا لو كانت "سيرا" من النُّوع الفاجر باِفْتراءاته؟.
ساعتها ستكون فضيحةً مُجلجلةً.
بتحليلي
الدَّقيق، ومعرفتي غير المُكتملة بمثل هذه المُمارسات النِّسائيَّة الشَّاذَّة،
على الأغلب تدْخُل فيها قضيَّة تعاطي المُخدِّرات.
الحَيْرة
تقتلُني بقوَّة.
أثر
الحُمرة من شِفاه اِمْرأة، وهذا ثابتٌ بلا أدنى شَكٍّ عندي، أمَّا النُّقطة المُحيِّرة فِعلًا، من الذي
تجرَّأ على خَلْع ثيابي، هل فعلًا كُنتُ ميِّتةً إلى حدِّ الاستغراق العميق في
نومي..!!؟.
أوووه..
أوووه..!! شيءٌ مُهمٌّ رغم حِرصي الشَّديد على عدم قُبول أيَّة حبَّة دواء، أو على
شكل دواء من أحد غير موثوق.
السِّرُّ
كلُّ السرِّ في الحبَّة التي طلبتها بالأمس منها. كيف لم أنتبه، وأطلب منها السَّحْبة
البلاستيكيَّة الحافظة للحبَّاتِ الأُخَر، لكنتُ على الأقلِّ قرأتُ ما هو مكتوب
عليها.
تذكَّرتُ
قولها:
-"الدَّواء
الوطني لا فعاليَّة له، وهذه الحبَّات صناعة أجنبيَّة أوصيْت عليها من لُبنان".
مهما
كانت النَّتائج، وإن توقَّعتُ أسوأها على الإطلاق، لا يُمكن سُكُوتي على الموضوع
فيما بيني وبينها داخل الغُرفة. السُّكوت عن الخطأ الأوَّل مهما كان صغيرًا
وتافهًا؛ حتمًا سيقود لخطأ أكبر بكثير من سابقه.
الوقت
كأنَّه قطار مُتوقِّفُ في محطَّة وَقْفته الأبديَّة، لإخراجه عن الخدمة، هواجسها
أشغلتها عن التَّفكير بنفسها، أو بالخُروج إلى الحمَّام بعد ساعات النَّوم
الطَّويلة، لِغَسل وجهها وفَمِها، وإزالة آثار النَّوم عنها، ولا بطعام الإفطار، مازال بطنُها خاويًا، لم يدخله أيَّ طعام
منذ ساندويشات الفلافل مساء أمس.
ولم
تُفكِّر بِمَشْط شَعْرِها المُشعَّتْ وتصفيفه؛ لتبدوَ بمظهرٍ لائقٍ. نظرت بطَرَف
عينها للمرآة الصَّغيرة على الطَّاولة في جانب الغُرفة المُقابل للسَّرير
المُزدوج.
لا
رغبة لديْها بمواجهة المرآة في هكذا وضعٍ مُزْرٍ، حسب رؤيتها، وأدبيَّاتها كمُعلِّمة
مُثَقَّفة؛ لتتفادى مُواجهة نفسها، لأنَّها في حالة تأنيب داخليٍّ شبيهٍ بتبكيت
الضَّمير.
إصرارها
على بقاء دواخلها مائجة بالحياة النَّظيفة، بعيدًا عن السُّقوط في مُستنقعات
العواطف الضَّاجَّة بالرَّغبات، ما اِسْتطاعت إلى ذلك سبيلا، ما دامت قادرة على
الصُّمود. هذا ما صرَّحت به لنفسها على الأقلِّ، وللقريبين من صديقاتها. جميعهم
يعرف ذلك.
أحسَّتْ
بِتَعبِ فَقَرات عمودها الفقريِّ من الجُلوس على حافَّته، مُكرَهةً تولَّدت رغبة بالتمدُّد على السَّرير
بشكل مائل، بقيت رِجْلاها مُتدلِّيتان بجانب السَّرير تُلامسان الأرض؛ لتُعاند
جُموح خيالاتها الذَّاهبة في دروب، واِحْتمالات لم تُفكِّر بها قبل ذلك، دَوَاعٍ
قاتمة اِقْتحمت صفاءها فعكَّرته بعد خَضْخَضَتِه.
الأمور
الطَّارئة تأتي بلا حسابات مُسبَقَة، تُهدِّم الأسوار. تستبيحُ السَّاحة إذا لم
يكُن بالمقدرة تدبُّر الأمور، "نورما" لم تتخيَّل حصول ذلك لها،
ومنذ أوَّل يوم لها. "قرأتُ مثل هذا في بعض المجلَّات النسائيَّة، وكتابات نوال
السِّعداوي".
..*..
(30)
تتواثب
الأفكار في ذهن نورما، كَتَواثُب فوضى التَّلاميذ أثناء دُخولهم للحُصَّة
الدَّرْسيَّة، كلَّ تلميذ يصرخ وحده كما يحلو، للتعبير عن شيء مجهول تقذفه دواخله
المَرِنة صُراخًا بحركات غير مُنتَظَمة، لا يهدؤون إلَّا مع سماعهم طقطقة كعب
حذائه الأسود المُلمَّع جيِّدًا. يكفي أن تأتي لتنتظم الحُصَّة، وإن كانت بلا عصا
تحملها بيدها.
يومٌ بِطُولِه وليلةٍ بأكملها مع نصف اليوم
الثَّاني، يا لها من فترة طويلة جدًّا وعلى الأخصِّ مع الاِنْتظار القاتل، لا شكَّ
أنَّها مُرهِقَةٌ ومُمِلَّةٌ، زَهَقَتْ فيها "نورما" حياتها، بلغ
منها التَّعب كلَّ مَبْلَغ، شَعَرتْ بالجوع نَهَش بطنها، وترفُضُ رفضًا إدخال شيء
من طعام إلى مِعْدَتِها، خوف القَيْء، والمَغْص، لاِعْتقادها: بأنَّها لو أكلت في
مثل هذا التَّوقيت؛ ستُصاب بتشنُّجات مُميتة وقاتلة، وإذا أصيبتْ بذلك؛ فلن تجد من
يُسعِفَها على الأقلِّ، مع صُعوبة الوُصول إلى طبيب أو مُستشفى، وتمنَّتْ أُمنية
العذراء "مريم البَتُول أمُّ عيسى" عليها وعليه السَّلام.
مرارًا
حاولت النَّوم بلا فائدة، إلَّا من غَفَواتٍ على فترات مُتقطِّعة، قلَقٌ غير مسبوق
داهمها، أفكارٌ سوداويَّةٌ لا تَتَواني بتداعياتها المُتواتِرة في صَحْوِها
الذَّابل، كنباتات الزِّينة المُتَعَطِّشة للماء، وكوابيس أحلام مُزعجة تتناوبُها؛
فتُجفِلها؛ يرتعشُ جسدها بحركات لا إراديَّة خارجة عن السَّيْطرة.
ما
زالت أفكارها تتصارعُ الدَّقائق، بتحضير الأسئلة سُؤالًا تِلْوَ سُؤال، لتكتمل
قِصَّة اللَّيْلة الفائتة، بفُصول مخفيَّة لا تعرفها إلَّا بطلتها "سيرا"،
والبطلة الأخرى تجهلُ حيثيَّات ما حصَل تمامًا.
يتوقَّف
القرار النِّهائيِّ على أجوبة "سيرا" بحقيقة غائبة حتَّى هذه
اللَّحظة عن "نورما"، لكنَّها ستتَّخِذ قرارها بمصيرها، وحدها
تُقرِّرُ بيدها وحسب ما تعتقد مُناسبته لها.
السّاعة تُشير للرابعة من بعد عصر اليوم الثَّاني.
صوت خُطواتٍ تصعد دَرَج (البنسيون)، ما زالت طَقْطقات كَعْبِها العالي المميِّزة
من حذائها ذي النَّوع النَّادر في السُّوق، كما ذَكَر "نبهان"
أنَّ: "مثل هذه الأنواع الغالية مُستورَدة خِصِّيصًا للأثرياء لِغَلاء
أثمانها". توافَقَ جوابه مع كلامها:
-"هذه
الكُندرة مصنوعة من جلد الأفاعي، جاءتني هديَّة من أختي عندما قَدِمت من القاهرة
مع زوجها المُبتَعَث لدورة تدريبيَّة لصالح وزارة الزِّراعة".
من
جديد اِرْتدَّت أنفاسها إلى طبيعتها، وهدأت في صدرها، وراحت تستنشق الهواء بتأنٍّ
وعلى مَهْلٍ، كأنَّها تُحضِّر نفسها لمُفاجأة "سيرا"، عندما
تُلقي في وجهها قُنبلتها الصَّاعقة، سريعًا توالت الشُّكوك على ذهنها:
-"وماذا
لو أنكرَتِ الموضوع جُملةً وتفصيلًا..!!؟ وكذَّبتني، ورُبَّما أحْرجتني، إذا اِرْتَفع
صوتها أكثر من اللَّازم، وتدَخَّل "نبهان" و"محمود" ومُساعده
الصَّغير الولد "أيمن"، و"لارا" و "فايا"
وصديقيْهما، لا شكَّ أنَّني سأكونُ محشورةً في زاوية ضيِّقة، وفضيحة مُدوِّية
كقنبلة شديدة الانفجار، تتناقلها الألسن بالزِّيادة والنُّقصان كما يحلو لهم.
سأكتُم الموضوع بتجاهُلِه مؤقَّتًا، ولن أسمح لنفسي
بتاتًا بأيَّة كلمة لـ"سيرا" قبل التأكُّد من أمور كثيرة،
يتوجَّب عليَّ معرفتها، وكشف خفايا ما نحن فيه، وسيتأكَّد عندها أنَّ المكان لا
يصلُح للعيْش فيه، ولا يُناسبني أنا على الأقلِّ، أمَّا هُم؛ فيعيشون حياتهم
طبيعيَّة بانسجام وَوِئَام لا تشوبه شائبة، حسبما ظَهَرَ لي خلال هذين
اليوميْن".
هدَّأت
من روْعها، قامت من فَوْرها راكضةً إلى الحمَّام قبل وُصول "سيرا" للغُرفة،
وتراها على هذه الهَيْئة غير اللَّائقة كما تعتقد، قرَّرت غسل وجهها وتمشيط
شعرها، تظاهرت بأنَّها قامت للتوِّ من النَّوم، وأعطَتْ أمرَهَا لعضلات جسمها بالاِسْترخاء؛
لتصطنع اِنْطباعًا بأن لا شيء يُشغِلُ بالها، أو يُسبِّبُ لها القلق، ولِتَفْسح
للطُّمأنينة أن تتسرَّب إلى قلب "سيرا" ظاهرًا.
هدوء
التصرُّف الواعي؛ سيأتي بنتائج تتمنَّاها على أَحَرِّ من الجمْر، بالصَّبر
المُتأنِّ؛ تُنال الأجوبة الضَّروريَّة، التي كانت ستدفعُ فيها كرامتها على وقع
الفضيحة العلنيَّة، سيكون الثَّمن غاليًا.
غيَّرت
خُطَّتها عَكْس انفعالاتها على مدار أربع وعشرين ساعة، قَضَتْها تتحرَّق على جَمْر
اِنتظارها لا ترأفُ بِعذابات جَسدها.
..*..
(31)
قبل
وصولها إلى الغرفة كانت تفكُّ أزرار القميص الأبيض، تنفخ أنفاسها الحرَّى تأفُّفًا
من التعرُّق القسريِّ؛ بسبب الحركة والمشي لمسافات طويلة، صدرها الممتلئ يصعد
ويهبط، آخر الأزرار فكَّته عند باب غُرفتها؛ لتظهر الحمَّالة السَّوداء
المُوَشَّاة بالدَّانْتيل الأسود المُخرَّم بأشكال هندسيَّة مُغرية بتناسقها.
كانت
نشيطةً مُفعمةً بالضَّحِك والمرَح، وأخبرت "نورما" أنَّها لم تَنَم
طيلة اللَّيلة الماضية لغاية السَّاعة هذه، تابعت خلع ملابسها، وتجرَّدت إلَّا من (الكِيلُوت)
الأسود الدَّاخليِّ بتشكيله الجديد غير المألوف. فردّت "نورما":
-كذلك
أنا جفاني النَّوم، وتباعد بمسافات عنِّي كما بين المشرق والمغرب، والله يا "سيرا"،
لا أدري ما الذي جرى لي..!!.
وضعتِ
المِنشفة على أكتافها. غطَّت بها وسط صَدْرها إلى أسفل بطنها بقليل. أطلقت ضحكة
فاجرة تجاوزت الغُرفة إلى صالة (البنسيون) الرَّئيسة، ولو كانت أبواب الغُرف
الأخرى مفتوحة؛ لاقتحمت أسماع من فيها، وقالت:
-أكيد على فِراقي يا حبيبي -بِغَنَج
مُبتَذَلٍ-، لوَتْ لِسانَها: كنتُ سعيدة جدًّا جدًّا. صدِّقيني من أجمل اللَّيالي
في حياتي على الإطلاق، صبايا وشباب اِنبسطنا على الآخِر. أُقسمُ لكِ يا "نورما"
لولا أنَّكِ في غير الظَّرف الذي كُنتِ فيه، ورأيتُكِ مُرهقة؛ فتركتُكِ لتأخذي
راحتك إلى أقصى حدٍّ، إن شاء الله الخير في الأيَّام القادمة؛ فلن أترككِ وحدكِ
أبدًا، يدي بيدكِ، ورِجْلي على رِجْلِكِ.
-قَلَقي
عليكِ عندما تأخَّرتِ. جاء المساء ولم تأتِ. وما زلتُ بانتظاركِ على أحرِّ من
الجمر. قالت هذا "نورما" بغير ما تُضمِر لجرجرة لسان "سيرا"
بالانطلاق على سجيَّته؛ لتفهم ما الذي حصل لها في
أوَّل البارحة..!!.
بلا
تردُّدٍ، اِنْطلقت ضحكة أخرى مُغرقة بفُجور أكثر من سابقتِها، وقالت:
-يي
يا عُمري.. يا حبيبتي، صدِّقيني لو كنتُ
أدري مَدَى اِشْتياقكِ لي إلى هذه الدَّرجة، لما تردَّدتُ بالاعتذار والمجيْء
إليكِ. قالت "سيرا" ما قالت على سجيَّتِها، وفي نيَّتها أنَّ
صديقتها "نورما" مُندفعة نحوها بمشاعر الحُبِّ، وأنَّها تُلمِّحُ
لها باِسْتعادة نشوة ولذَّة اللَّيلة قبل الماضية، بمُمارسة التَّواصل الجسديِّ
فيما بينهما. بفرح تتواثب طَفَراتُه على
وجهها، وقالت:
-دعيني
أذهبُ الآن. لنستثمرَ الوقتَ، ولا نُضيَّعه. وسارعت إلى أخذ حمَّام ساخن، توقَّعت
أن تجد ماء دافئًا ولو بنسبة قليلة.
"نورما" عازفة عن النَّظر إلى جسم "سيرا"،
ومُتابعة وِهَاده ونُجُوده النَّافرة الثَّائرة الحادَّة الصُّعود والانحدار. لم
تلفِت التَّضاريس اِنْتباهها. ما زالت غارقة مُنشغلة بقضيَّتها باحثة عن الطَّريقة
المُناسبة، لمُفاتحة صديقتها بالأمر المهمِّ، الذي اِسْتولى على اِهْتمامها على
مدار أكثر من أربع وعشرين ساعة من صحوها في يومها الأوَّل في (البنسيون)، بعد
نومها العميق في ليلتها الأولى.
..*..
(32)
عشرة
دقائق في الحمَّام كافية لـ "سيرا" كي تُنظِّف نفسها جيِّدًا،
رائحة الشَّامبو الزَّاكية سبقتها؛ لتنتشر في الصَّالة وإلى غرفتها بلا واسطة.
الباب مفتوح سمح بوصول الرَّائحة إلى أنف "نورما" الجالسة على
حافَّة السَّرير، ومُستغرِقة بتفكير عميق أذهلها عن مُحيطها، صوت إغلاق باب
الحمَّام بقوَّة أثناء خُروج "سيرا"؛ أحدث اِرتجاجًا في المُحيط
الصَّامت على غير العادة في مثل هذا الوقت، لا بدَّ أنَّهم جميعًا في الخارج،
وسيعودون بعد هذا الوقت، ربَّما يتأخَّر البعض منهم إلى ما قُبيْل الغُروب بقليل،
و قد لا يأتي البعض الآخر. كثيرًا ما ينامون ليلة أو اِثنتيْن خارج (البنسيون)، ومنهم
من غاب في مُهمَّة مع كتائب الدِّفاع الوطنيِّ لمُدَّة أسبوع بأكمله.
المهامُّ
تتوزَّع عليهم كلَّ يوم بيوم، ومن يكُن في اِسْتراحة، ولا دوام عنده يبقى نائمًا
إلى ساعات مُتأخِّرةٍ من اليوم، وأحيانًا لا يصحُون إلَّا في المساء في مثل هذا
الوقت، أو بعد ذلك.
بخطواتٍ
بطيئةٍ تتهادى بِمشيَتِها، كغزالة أرهقها الطِّرادُ مع قطيع الغُزلان، كأنَّما
التَّعب حَلْحَلَ عليها؛ فتراخت أعصابها؛ لتتمايل تمدُّ يدها تستجدي حاجة تتَّكِئ
عليها أو تُمسك بها. صوت أنفاسها مسموع إلى أُذُني "نورما"،
الهدوء وحده الكفيل بإيصال أدْنى درجة لأيَّة حركةٍ كانت.
اِسْتدارت "نورما"
لتستقبل بوجهها معاينة جسم صديقتها خلال باب الغرفة المفتوح قبل وصولها قادمة إلى
الغرفة، حاولت أن تتمَلَّى بنظراتها، قبل دقائق من دخولها لم تلتفت لها، لم تكُن
لتُعنى بهذه النُّقطة لولا تحرُّك الغيْرة، لا مَحيدَ عنها عند النِّساء على وجه
العُموم، لا أحد مُنزَّه أو مُبرَّأ منها.
-أوه..!!
بياضٌ ثلجيُّ من الدَّاخل، كنتُ أظنُّ أنَّ وجهها المُدوَّر كالقمر، واتِّساع
عينيْها الكَحْلاوينُ بأجفانهما الطَّويلة، فكأنَّهما صدَفَة مَحَارَةٍ مٌتكوِّرةٍ،
مُنغَلِقةٍ على قزحيَّةٍ عسليَّةٍ فاقعة اللَّون، كَمهَاةٍ تتأمَّل أشعَّة الشَّمس
تتسرَّبُ من بين أغصان، شعرها المصبوغ بألوان المَيْش ما بين الأشقر والأشيَب
الموضة الدَّارجة. مُنسدلٌ باِسْترسال إلى منتصف ظهرها، يغطِّي جزءًا من رقبتها
المرمريَّة بتكوُّرها كقاعدة قادرة على حمل الرأس الأقرب للضخامة بتناسب مع طول
الجسم المُتوسِّط، والصَّدر المُتباعد ما بين المِنكبيْن، ليتَّسع بِميْدانه
الواسع لِتلَّتيْن ناهضتين فوق الأرض، مُتجاورتيَن تُضفيان مهابة المقدَّمة".
صورة
سريعة التقطتها "نورما"؛ لتتأكَّد من سرِّ جاذبيَّة مظهر "سيرا"
الخارجيِّ بملابسها، تطابقت بذهنها الصُّورة الدَّاخليَّة بجمال حقيقيٍّ بلا
رُتوشات ولا أصباغ أو تجميل.
تلاقت
عيونهما لحظة، اِبْتسامتان ساحرتان تقابلتا، وانطلقتا بآن واحد. تذكَّرت "نورما"
في اللَّحظة المُناسبة، رغم أنَّها كانت سارحةً بعيدًا في عوالم ذِهْنِها، وقالت:
-نعيمًا
يا حبيبتي، ما شاء الله لم أكُن أتخيَّلكِ هكذا، كانت عندي شكوكٌ بمنظركِ
الخارجيِّ أنَّ فيه تَصُنُّع، حينما اِلْتقينا قبل يومين للمرَّة الأولى".
شعور
عارمٌ داهم "سيرا" لكلمات الإطراء من صديقتها، اِسْتعادت بذهنها
ذكرى اللَّيلة الأولى لوصول "نورما"، غلبَ عليها التأكُّد من
أنَّ "نورما" استحسنت العلاقة الغراميَّة مع أنَّها كانت غارقة
في نومها، ولم تتفاعل بأحاسيسها، أو حصول نشوة للتواصل السِّلبي الذي فعلته "سيرا"
وحدها، وتركتها في الصَّباح، وغادرت لعملها.
-سعادتي
عظيمة بلقائك يا "نورما"، لقد أحببتُكِ مع أوَّل نظرة لك عند باب
(البنسيون)، شعوري لحظتها أنَّني، ربَّما وجدتُ بكِ نصفي الضَّائع، قرَّرتُ أن لا
أتركَكِ؛ لتذهبي للعيش في غُرفة مُستقلَّة خاصَّة بكِ، وسنتقاسمُ العيْش سويًّا
نُكمِل بعضنا بكلِّ شيء، بتفاهم ومحبَّة.
بدأت
تتَّضِح معالم القضيَّة، التي كانت تشغلها على مدار يومينْ تقريبًا، والخيوط
المُتشابكة تتفكَّكُ عُقدها عقدة بعد عُقدة، بسهولة ويُسرٍ. وقالت:
-شُعوري
ليس ببعيد عمَّا تشعرين به حبيبتي "سيرا". أنتِ أختٌ لي في هذه المِحْنة.
جَفَلت
عندما سمعت كلمة أُخُت، وقعها ثقيل على سمعها، اِرْتسمت على وجهها علامة عدم اِسْتحسان؛
أذهبَتْ مُباشرة الابتسامة والفرح الذي كان يملأ وجهها على اتِّساعه. حَارَتْ بهذه
الكلمة، وتبرَّمت ضيقًا بها، وانطلقت للتعبير بمحاولة لمحوِ الكلمة من اِسْتخدامها
ثانية على لسان نورما:
-نحن
أكثر من أُخْتَيْن يا "نورما"، باعتباري: أنَّنا حبيبتان عاشقتان
مُتماثلتان، ولا أقصد مِثْلِيَّتيْن كي لا تفهميني خَطَأً، إنَّما نتشارك
بأحاسيسنا ومشاعرنا تجاه بعضنا، وهذا السَّرير سيضُمُّنا كعروسيْن، كزوجيْن،
كحبيبيْن، بإمكانكِ اِعْتماد أيَّ مُصطلح يُعجبكِ، ويرتاح قلبُكِ له".
بعد
أن نشَّفت جسمها، تمدَّدت على السَّرير، وتقلَّبت بحركات رياضيَّة لافتة، سحبتْ
نفَسًا عميقًا عبَّأ رِئَتَيْها، ثمَّ أطلقَت زفيرًا بِبُطء؛ نَفَثت معه حرارةَ دواخلها
المُتأجِّجةِ في وجه "نورما"، النَّاظرة إليها باستغراب، لم
تستوعِبْ ما سَمِعَتْ وما رَأَتْ..!!، بينما امتدَّت يدُ "سيرا"
لتجذبها إليها بقوَّة، لِتَتلاصقان وتتَّحدان كَكُتلة واحدة، وعلى مدار نصف غرقتا
في لُجَّة السَّرير، حرارة الجوِّ في الغُرفة اِنْخفضت رغم أن النَّافذة مُغلقة،
لكنَّها تسمح بدخول الضُّوء دون عائق.
التيَّار
الكُهربائي شغَّال في هذه الفترة، وما زالت إضاءة الغُرفة مُطفأة، الحاجة لشحن "الموبايلات"
هي الأهمُّ؛ للإبقاء على التواصل، وعدم الانقطاع عن العالم الخارجيِّ مع نَفَاد طاقة
الشَّحن من بطَّاريَّاتها؛ فتفقد أهميَّتها كوسيلة مُهمَّة، وتُصبح عديمة الجدوى،
وغير ذات قيمة، مع أنَّها باتت من ضرورات الحياة.
أنينٌ
حزين صادرٌ عن السَّرير من الأثقال المُتدحرجة فوقه، عُنف الحركات غير العابئة
بمحيطها؛ تَفتَضُّ بكارة الصَّمت الواهن بضجيج هَمْهَماتٍ مُغَمْغَمةٍ لا قاموس
لها، إلَّا الرَّغبات الجسديَّة المُنفلتة من أيِّ عِقَالٍ ضابِطٍ لها.
السِّتارة
السَّميكة بلونها البَّاهت مُنسدلة على يمين فتحة الشُّبَّاك، طبقة الغُبار تبدو
كلونٍ ثانٍ ظاهرة للعيان، شاهدته "نورما"، ولم تُعلِّق على
مُستوى نظافة الغُرفة.
بُرودة
الجوِّ لَسَعَتْ بطنَ "سيرا"؛ فشعرت بِمَغْصٍ خفيف ضرب أحشاءها،
أخرجتهما عُنوةً من استغراقهما. "نورما" لم تتأثر ببرودة المساء
المُعتادة، نهضت وعدَّلت من وضعيَّة لباسها الدَّاخليِّ الخفيف، واتجَّهت "سيرا"
إلى الخزانة؛ لانتقاء ملابس داخليَّة وبيجامة قُطنيَّة؛ لتتفادى نَوْبات تشنُّج
العضلات المؤلم، رغم اِحْتياطاتها على أدوية كثيرة للحالات الطَّارئة، لا تُريد اِسْتنفاذها،
ما دامت قادرة على تفادي أيَّة حالة بالسُّرعة الممكنة.
الرَّغبة
إذا نَطَحت الباب، يرتجُّ مِفْتاحُ القُفل باليد، ويُكسَر حِصْن القُفل بلا مطرقة أو
أيَّة أداة. ضَعُفَت مقاومة نورما أمام فَدَاحة العرض العاطفيِّ، المُفتَقَد
عندها منذ فَقْدِ زوجها، ومقتله على الحاجز، وقبل ذلك التنقُّلات العديدة بحثًا عن
المناطق الآمنة، العواطف تتأجَّج في مناخات الأمان والاطمئنان، القلق والخوف
مِمْحاتان ماحِقتان؛ تُزيلان أيَّة حركة للعواطف والرَّغبات الجسديَّة، التي لا
غِنَى عنها للبشر على اِخْتلاف منابتهم، بينما هي حاجة للبقاء كالهواء والطَّعام
واللِّباس.
فَطِنَت
لرزانتها، وهي تُعدِّل من وضعها، وهيكلها المرسوم في ذهنها، حريصة على ثبات صورتها،
وعدم اِهْتزازها كما تُحِبُّ رؤية نفسها، تساؤل مُقلِق دومًا: ما هي رؤية النَّاس،
وما قيل ويُقال وسيُقال عنها، هو الدَّافع الأهمُّ؟.
..*..
(33)
القرارات
بحاجة لقناعات راسخة، وتجرُّدٍ من العواطف والظُّنون. عندما فكَّرت "نورما"
بدقَّة فيما حدَث، اِعْتقدت أنَّها تُقيم في النَّفق المُظلم، لا خيار لها إلَّا
مؤقَّتًا بالقبول حتَّى تتدَّبر أمرها، من غير المُرجَّح قُبولها بالوضع فضلًا عن
الاِسْتمرار فيه.
كانت
هادئة بتفكيرها، اِعْتقادها الدَّائم: (من تأنَّى؛ نالَ ما تمنَّى). مع مجيء وقت الطَّعام الذي أحضرته معها "سيرا"،
كما هي عادتها كلَّ يوم بجلب ما تحتاجه مع عودتها (للبنسيون). تجد في نفسها رغبة
شديدة للأكل، بمُجرَّد أن فاحت رائحة الطَّعام، عندما فتحت الأكياس المُغلِّفة،
على الفوْر اِقْتحمت أنفها؛ فحرَّكت شعورها، وذكَّرتها بخُواء بطنها، تلمَّسته،
وضغطت عليه للدَّاخل، تمنَّت لو أنَّ يدها تُسابق يد "سيرا"، وهي
تفتح غلاف القصدير؛ لاختطاف شيء على السَّريع؛ لتُعاجل به عصافير بطنها، وتُسكِتَ
زقزقتها. تذكَّرت أنَّ الجوع كافر.
حاسَّة
الشمِّ تختزن الرَّوائح، تستطيع الاِسْتدلال على أيَّة رائحة تصلها من منفذ الأنف،
تنفتح ورقة القصدير، وتوقَّعت أنَّ ما بداخله، وبلا شكٍّ ولو بنسبة ضئيلة لا
تتجاوز الواحد بالمئة أنَّه: فرُّوج مشويٌّ في الماكينة الخاصَّة به، يستحوذ هذا
النوع من الفرُّوج على شعبيَّة واسعة.
الطَّاولة
اِمْتلأت بصحون بلاستيكيَّة وبعضها كرتونيّ. رفيق جميع الوجَبات صحن (السَّرفيس)
مليء بقطع المُخَلَّل الأحمر والأخضر، والبصل، والفليفلة المكبوسة، وعروق
البقدونس، وصحن مُتَبَّل الباذنجان بالطِّحينة، وصحن الحمُّص المُدمَّس، والفرُّوج
مع البطاطا المقليَّة الوجبة الرَّئيسة بصحنها الكبير، مع عُبوتيْن شفَّافتيْن
(مايونيز) صغيرتيْن.
اِشتياق شيء مُعيَّن مُرتبِطٌ بالمنع والحرمان،
إطفاء الاِشْتهاء سيِّد اللَّحظة لم تتوانَ يدُ "نورما" أن
تمتدَّ؛ لتناول قطعة مُخلَّل أحمر هفَّت عليها نفسها، الحامض مع المالح مُتوافقان
في تعديل المِزاج، صوت صَدَر من فمها لم يلفت نظر "سيرا" المُنهمكة بفتح
كيس الخُبز المُقسَّم إلى قطع بحجم الكفِّ مُتوسِّطة الحجم، ذكاء أصحاب المطاعم
للحفاظ على أيَّة قطعة أو ترك مُخلَّفات للخبز، الأهمِّ على الإطلاق لجميع أنواع
الأكل.
عُلبتيْن
من مشروب مَحَليٍّ، الاِسْم شبيه (الكوكا كولا)؛ اِسْتكمل مشهديَّة لذيذة، جاءت كــ(رمية
من غير رامٍ)، كانت تشتهيها منذ زمن، لكنَّها كانت ناسية أنَّها تشتهي
الفرُّوج المشوي، فقالت:
-الله
ما أروعَكِ يا "سيرا"، وكأنَّكِ تقرئين ما بنفسي من حُبِّي للفرُّوج
المشويِّ منذ زمن أشتهيه، من قلبي أُحييكِ حبيبتي، ولا أعرفُ كيف سأردُّ لكِ الجميل،
كما تَرَيْنَ لا أستطيعُ مُغادرة المكان، ولو سمحتِ، وبعد إذنكِ، أودُّ مشاركتكِ بدفع
نصف تكاليف هذه الوجبة الدَّسمة، فقد اعتبرتُ وجبة السَّندويشات ضيافة منكِ، أمَّا
هذه فلا.
-أنت
بِعُيوني يا "نورما"، هذا الموضوع إن سمعتُهُ ثانية، سأكون غير
سعيدة بتاتًا.
-لكن
الواجب واجب يا "سيرا"، وكثَّر الله خيركِ، لا أريدُ الإثقال
عليكِ بأيِّ أمر، ممكن أن يتسبَّب لك بإحراج.
تسمَّرت
عينا "سيرا"، عندما لاحظت توقُّف أوَّل لقمة تناولتها "نورما"
من الفَرُّوج، وجحوظ عينيها الدَّامعتيْن؛ فناولتها قنينة الماء، وضربت بقبضتها
على ظهرها بقوَّة سمعن صوتها، خرج صوت الحشرجة من فمها، وتنفَّست بعمُقِ، واِمْتدَّت
يد "سيرا" تحمل مناديل ورقيَّة ناعمة؛ لمسح الدُّموع المُنْسَاحَة على
الخدَّيْن، وقادتها من يدها، وأضجعتها على طرف التَّخت.
لم
تلبث إلَّا دقائق حتَّى نهضت مُجدَّدًا، و"سيرا" جالسة إلى
جانبها، أحد يديها تُمسكُ بيد "نورما"، والأخرى تمسح لها
التعرُّق عن جبينها.
لحظة
فارقة قريبة جدًّا جدَّا من الموت، بعدها اِسْتعادت وَعْيَها؛ لتتلقَّى سؤالًا
استنكاريًّا من "سيرا":
-ما
الذي حدَثَ لكِ. يا بنت الحلال..!! أَحْسَسْتُ بالدَّم تجمَّد في شراييني، وتوقَّف
نَبْضُ قلبي، من شدَّة خَوْفي عليكِ.
-الحمد
لله.
-الحمد
لله على سلامتكِ، أخبريني ما الذي حدَث؟.
-تراءى
لي وجه زَوْجي المُدْمى المُعَفَّر بالتُّراب، أثناء سقوطه يتلوَّى من أثر إصابته،
ولا أحد يمسح له جبينه. واهًا.. يا قلبي المحزون واهًا..!!. ولم يَبْكِه أحدٌ، ولا
باكية أخرى تُهيِّجُ البَوَاكِيا.
..*..
(34)
الفُرصة
جاءت مُواتِية لـ"سيرا"، للسَّيْر قُدُمًا في رَمْي الطُّعم للسَّمَكة؛
لتجعلها تستميتُ للحُصول على ما هو برأس السِّنَّارة. نوبة الحُزن أَلْهتْهُما عن
تناول الطَّعام بكامل سُخونته وطزاجته، عندما عادَتَا للأكل كان باردًا، وفقَدَ
جُلَّ مَذَاقه المُشتهَى من كليْهِما.
فكَّرتْ
بمحو الحزن الطّارئ، والمُستكنِّ في قلب "نورما". وقالت لنفسها:
-ها
هي الفُرصة تجيء على طبق ذهبٍّي من تلقاء نفسها، بلا تعب ولا تخطيط، كأنَّما
تقتحمني، وتدفع بي للمزيد من الانفتاح على المخلوقة.
"نورما"
أضمرت قرارها الأخير، وصمَّمت على ما تُفكِّر به أيضًا:
-من
المُستحيل البوْح بدواخلي ولو بكلمة واحدة، وأعترفُ وأحتفظُ بمعروف "سيرا"،
وما قدَّمته لي، ولن أنساهُ ما حَيِيتُ، ولو اِسْتطعتُ يومًا بِرَدِّ جميلها بأجمل
منه. لن ولن أُقَصِّر.
نَوْم
المساء مذمومٌ غير محمود، لكنَّ اِعتادت "سيرا" الخُلود للنُّوم
بعد رجوعها من الشُّغل، وتناولها الطَّعام على وجه الخُصوص، ترتخي عضلاتها، هذا
الطَّقس أصبحَ برنامجًا شبه يوميِّ، لا يستقيم أمر جسمها إلَّا به. استأذنت من
"نورما":
-حبيبتي
سامحيني. لقد توقَّفت عدَّادات دِمَاغي، تخيَّلي أنَّني أَرَاكِ ثِنْتَيْن، لا
طاقة لي بالجُلوس معاك، إن شاء الله عندما أقوم، سنسهر وننبسط على آخر طراز.
غطَّت
في نوم عميق، الإرهاق اِنْعكَس على نومها؛ فسمعت "نورما" بعضًا
من شَخِيرها، حاولت تعديل المخدَّة تحت رأسها، مع ذلك أحسَّت بأنَّ أحدًا حرَّكَ شيئًا
لم تتأكَّد منه. أهو رأسها انتقل أم المخدَّة من مكان إلى مكان؟.
..*..
(35)
رغبتها
بالنَّوم جارفة لم تستطع مُقاومتَها على الإطلاق، اِسْتسلمت بهدوء على سريرها في (البنسيون)
مقرَّها الدَّائم، وتعرف تفاصيل المكان؛ فلن يُساورها أيُّ قَلَق أبدًا في هذا
المساء.
أسْبَلت
جفنيْها. سلَّمتهُما مُطلقًا، ولم تُفكِّر بِرَمْشَة أو تفتحهما لرؤية وجه "نورما"
كَلَقْطَة أخيرة لزيادة اِطْمِئنانها، ربَّما تُريد الوصول لليقين.. لو فعلت..!!.
أغمضت
عينيْها على يقين من نجاح خُطَّتِها، بعد أن اِتَّخذت قرارها. الطُّموحات قاتلة لا
تتَّسِعُ لها مساحات الحياة بأكملها، والأفظع صدمة التحوُّل للأحلام، ومُحاولات
تحقيقها لتكون جُزءًا من واقع.
"نورما"
جالسة في مكانها على الكُرسيِّ بجانب الطَّاولة، وتستطيع التَّحديق بوجه صديقتها
النَّائمة. كلاهما غارقتان بِصِمتهما الظَّاهر لمن يراهما أو يُراقبهما.
المظاهِر
غشَّاشة على الأغلب، لأنَّها تُخفي خلف لائحتها دواخل "نورما"
المليئة بالضَّجيج القاتل. مع كلِّ يوم تأجَّج نارها تحرق فيها شيئًا كان جميلًا،
ربَّما الدُّموع لم تكن لِتَفي بالغرض، رحلة الضَّياع لم تترك لها مساحة لتجلس
فيها مع نفسها.
خوفٌ
باعثٌ على القلق الدَّائم، في ظِلِّ القلق لا راحة أبدًا، وبواعث القلق تتوالد
باستمرار. قالت مرَّة لنفسها، أثناء جلسة سابقة مع صديقة لها من المُعلَّمات في
المدرسة التي كانت تُداوم بها:
-"رُعب
مُواجهة الحقيقة، أعظم من الخطر المُتوقَّع".
تذكِّرت جلستها تلك مع نوم "سيرا"
المُتوقَّع في مثل هذا الظَّرف، جميع العاملين وعلى الأخصِّ المُوظَّفين
الحُكوميِّين اعتادوا على النَّوم بعد انتهاء عملهم، وبعدها يتفرَّغون لحياتهم.
-"لكنَّ
سيرا غير مُوظَّفة حُكوميَّة كما أخبرتني، عندما تعرَّفتُ إليها بأوَّل
لقاء بيننا". نورما تحكي لنفسها، وتابعت مُبرِّرة لها نومها:
-"آه..
إنَّ عملها شبيه بعمل الموظَّفين، وتبدأ يومها مع بداية دوامهم الصَّباحيِّ، من
الضَّروري أن ترتاح مثلهم مساءً بعد الدَّوام".
هدوء
(البنسيون) هذه السَّاعة باعثٌّ على الحزن، وتأجيجه في قلب "نورما"،
عندما اِنْخرطت في أنينٍ خافِتٍ حدَّ الصَّمت، ممزوج ببُكاءٍ خارج من الأعماق
بدموع بلا توقُّف، كأنَّما تدرَّبت على البُكاء بهذه الطَّريقة، لا تُريد إزعاج "سيرا"
النّائمة وتُقلِق منامها، من حقِّها الاستمتاع بفترة نوْمها، وفي غُرفتها الخاصَّة
بها وحدها.
ما
أنا إلَّا مُجرَّد ضيفة طارئة، وجَرَت عادة الضِّيافة لثلاثة أيَّام، لا ينبغي لي
أن يصدُر عنِّي أيَّ تصرُّف يُسيء لي ولها. أو يجعلها نادمةً على استضافتي، أو
يضطرَّها الأمر للأسوأ؛ بقيامها بِطَردي غير المُتوقَّع على الأقلِّ في هذه
الفترة، بظرف أنا أَحْوج فيه للحظة مُستقرَّة هادئة؛ لأستعيد، ولو جزءًا ممَّا ضاع
وتلَف من نفسي وعواطفي؛ لأستطيع اِسْتيعاب ما حصل معي، لم أكُن أتخيَّل ذلك أبدًا،
لقد سمعتُ وقرأتُ قِصصًا شبيهة، لم أعُد أستغربُ شيئًا في ظلِّ ظروف الحرب
وتبعاتها، ومع ذلك لم أعرف إلَّا أقلَّ القليل من الفظائع والانتهاكات على جميع
الأصعدة.
صوتُ
صدر من "سيرا"، قطع سلسلة أفكار "نورما" الجالسة مع
نفسها، فَكَسَر رتابة صمتِ الغُرفة بشجاعة:
-"نورما
أنا معكِ لن أتركُكِ، من بُكْرة –وسكتت لبُرهة، ثمَّ تابعت- أبو
حيدر".
خرجت
"نورما" من ذُهولها واِنْطوائها على نفسها، شدَّت عضلاتها
المُسترخية، قامت على حيْلها؛ لتتأكَّد من نوْم صديقتها، وقفت فوق رأسها لم تُحاول
هزَّها، ثمَّ وضعت كفَّها أمام عينيْها، وحرَّكتها عدّة حركات باتِّجاهات مُتعاكسة،
لكنَّ "سيرا" لم تتأثَّر ولا بأدنى حركة رَأْرَأَة من عينيها،
ولم يتحرَّك جَفنيْها ورُموشها، وهي حركات اِنْعكاسيَّة لا إراديَّة؛ بفعل العقل
الباطن إذا استشعر أدنى خطر، لأيِّ من أعضاء الجسم ، أدركَتْ أنَّها غارقة في
حُلمٍ، ربَّما أنَّ الكوابيس أزعجتها.
تذكَّرت
أنَّها قرأتْ مرَّة مقالًا في أحد أعداد مجلَّة طبيبك السُّوريَّة الشهريَّة، كانت
حريصة على شرائها عند نُزول العدد الجديد مع بداية كلِّ شهر، مواضيعها مُهمَّة
جدًّا خاصَّة، وأنَّها من أطبَّاء، وكُتَّاب مُتخصِّصين فيما يكتبون، يهدفون؛ لتثقيف
النَّاس بقضايا الصِّحَّة والنَّفس والعقل.
"نورما"
تتذكَّر الموضوع الذي قرأته:
-"يتركَّز
على بعض الأفراد الذين يمشون أثناء نومهم، الأمر يتعلَّق بِخَلَل ما في وظائف مَوْجات
الدِّماغ، ونِسبة الأوكسجين في الدمِّ، ومُعدَّل نَبَضات القلب والتَنفُّس،
بالإضافة إلى حركات العَيْن والرِّجْل في أثناء النوم.
وآخرين
يتكلَّمون أثناء نومهم أيضًا، لكنَّ حالتهم غير مَرَضيَّة، قد يُعاني منها بعض
الأشخاص، وتُصنَّف ضمن اِضْطرابات النَّوم، وما تزال أسبابه غامضة بكثير من
جوانبها عند الأطبَّاء، كأسباب حدوثه، أو ما يحدث في الدِّماغ عندما يتحدَّث الشَّخص
أثناء النَّوْم، وعدم إدراكه أنَّه يتحدَّث مع نفسه ظاهرًا أثناء نومه، ولا يعرف
ذلك إلَّا من المحطين به، هذه الاِضْطرابات لا تُعتبَر خطيرة على صحَّة الفرد. وقد
يكون الكلام عِبارة عن هَمْهَمةٍ أو التحدُّث بلغةٍ مُختلفةٍ، وفي أحيانٍ يكون جُمُلًا كاملة".
تأكَّدت
أنَّ "سيرا" مُستغرقةٌ بأعماق أحلامها، وتذكَّرت أنَّ ما يحدُث
من اِسْتحواذ الحَدَث اليوميِّ، واستيلائه على المشاعر والأحاسيس، ولا ينفكُّ عن
صاحبه حتَّى يأخذه، ويذهب معه إلى الحُلُم.
الواقع
بجبروته يتسلَّط على المنام بمحاولة تحويله إلى واقع إن اِستطاع. لم تستغرب، أو
تقلق ممَّا سمعَتْ من صديقتها النَّائمة. وتابعتْ:
-"بِمُراجعةٍ
دقيقةٍ؛ فإنَّ حدسي يقول شيئًا مُختلفًا غير مألوف تسعى إليه سيرا. من
المعلوم: أن لا شيء لِوَجه الله، ولا لِسَوَاد عيْنيَّ، ها هي تهذي باِسْمي حتَّى
في منامها. على ما أظُنُّ أنَّ نشوة تلاصقنا جسديًّا قبل نومها، أغرقتها بأحلام
عقلها الباطن المُسيْطر عليها، وبالرَّبط بين هذا وما حَدَث لي قبل يوميْن، عندما
صحوْت ووجدت نفسي مُجرَّدة من الثِّياب..!! أليس هذا مَدْعاة لِقَرع الجرس، الحذر
واليقظة وَاجِبان، ربَّما اِنْزَلقتُ قليلًا بِمُسَايَرتِها وتجاوُبي، عندما جَذَبَتني
إلى صَدْرها".
حزنٌ
غير ظاهرٍ مُخْتَفٍ تحت لوحة صِراعاتِ الذَّات بين الثَّبات والاِنْجراف، وبين صِراعاتِ
العقل والعواطف المُنحرفة، التي تختبئ خلفها صراعات المصالح؛ لتحقيق المكاسب.
الحروب فُرصة ذهبيَّة لمن أراد الثَّراء.
يطول
ويطول حديث النَّفس عند "نورما"، لحظة وقوف نادرة مع الذَّات لإعادة
تقييم:
-"على
كُلٍّ أيًّا كانت الظُّروف هنا في (البنسيون)؛ فقراري الأكيد هو الرَّحيل، مع إدراكي
بأنَّه إلى المجهول، لكن هنا لا يُمكنني البقاء، ولا أستطيعُ التأقلُم معهم، ولو
أردتُ، ولا أحد يُجبرني على ذلك، ما زال أمامي مُتَّسع من الوقت للمغادرة،
والتَّفكير بالطَّريقة والوِجهة القادمة، الخُطوة الأولى الأَصعب على الإطلاق،
سأخطوها مُخاطِرةً، ليس لديَّ شيء لأخسره".
..*..
(36)
السَّاعة
تُشير إلى التاسعة ليلًا. تتقلَّب "سيرا" المُضطَجِعة يمينًا
ويسارًا على مساحة التَّخْت المُزدوج، تتمطَّى بكامل جسمها المليء شيِّق المنظر بِتَرجْرُجِه
بحركات مُثيرة، تتثاءب. تفتح فَمَهَا على اِتِّساعه، يُخيَّل أنَّه باب لمغارة
مظلمة يختبئ فيها "علي بابا" والأربعين حرامي.
التيَّار
الكُهربائيِّ على غير عادته لم ينقطع؛ فقد طاف الموعد المُعتاد للقطع، ولم يقطعوه،
كأنَّما أصابهم النِّسيان لسبب ما. لمرَّات تأكَّدت من السَّاعة أنَّها صحيحة.
"نورما"
ترى سَقْف حَلْقها، وتسمعُ صوتًا تَرَافَق
خُروجه مع التثاؤُب، لم تستغرب ذلك.. ولم تتأفَّف. تذكَّرت أنَّها كانت تُمارس نفس
الحركات أيَّام عُطلتها الأسبوعيَّة، وأيَّام العُطَل الرَّسميَّة والاحتفالات
بالأعياد الوطنيَّة، والمُناسبات القوميَّة الكثيرة في الفصل الدِّراسيِّ الثَّاني، وتكتمل فرحتها بالعُطلة إذا توافقت
مع يوم الخميس؛ فتكون العُطلة مِحْرِزَة مع الجُمعة والسَّبت، وسيطول مجيء يوم
الأحد الثَّقيل بالاِسْتعداد والتخطيط له، وحِرْمان نَوْمَةِ الصَّباح اللَّذيذة.
بل
إنَّ عينيْها طيلة نومِ صديقتِها ما اِنْزاحَتا عن الوجه الأبيض المُدوَّر إلى
أيِّ شيء في الغُرفة، تتأمَّلان شيئًا مُبهَمًا لم تستطع اِسْتجلاء ماهِيَّته، لم
تُصبها الغيْرة؛ لإدراكها أنَّ "سيرا" تفوقها جمالًا بالشَّكل،
لا تدري شيئًا عن جوهرها الدَّاخليِّ، أم هل يتطابق المظهَر مع المَخْبَر..!!؟.
-مساء
الخير حبيبتي. أحسُّ بِنَشَفَان رِيقِي، أشعرُ بعطشٍ. قالت "سيرا".
بادرت
"نورما" لمناولتها قنينة الماء، اِسْتندت، وشربت مباشرة منها
بدون كأس، كَرْكَرةُ الماء تندلق في حلقها، سمعت "نورما" ذلك
الصوت المألوف لمن يشرب بمثل الطريقة هذه. وردَّت:
-صح
النَّوم. قالت "نورما".
-صح
بَدَنَكِ. أراكِ ما زلتِ جالسة على جلستكِ قبل أن أنام، لم تتحرَّكي..!!.
-لا
نفس لي بأيِّ شيءٍ ولا حركة، تأمَّلتُكِ أكثر وقت نَوْمكِ. "نورما"
ردَّتْ.
تنطلق
ضحكة نصفها فُجور من "سيرا"، تطوَّرت إلى نوبة قهقهة غير
طبيعيَّة بلا سابق مُبرِّر. وسط ذُهول "نورما". عيناها تدوران
وسط رأسها بحركة لولبيَّة؛ لاِسْتدراك حالة صديقتها التي صحَت قبل دقائق. بواعث
الحُزن هُنا لا تُعَّدُ ولا تُحصى، تذكَّرت أنَّها سمعت ذات مرَّة من زوجها
المرحوم، أنَّ صديقًا له حدَّثه عن شابٍّ عشرينيِّ، تركَ المدرسة وعمل في مخبز
قديم، وبمخالطته لبعض الذين كانوا يعمل معهم، وعلى الأخصَّ الخبَّاز المشهور
بتدخينه للحشيش، عندما تُوَاتِيه الفُرصة بغياب رَقَابة المُعلَّم، يأخذ حُريَّته،
ويومًا بعد يوم تمتَّنَت علاقة الشَّابِّ بِطَاقَم الفُرن، ومن السِّيجارة الأولى
من يد الخبَّاز كضيافة أولى له، عاد إليه في اليوم الثَّاني أعطاه الأخرى؛ لشُعوره
بالسَّعادة المُؤقتَّة، والغياب عن الوجود في عوالم بعيدة عن عوالم الواقع، وتطوَّر
الأمر لشرائه قطعة حشيش بوزن قِرْشٍ، اِسْتهلكت أجرة يومه بالكامل.
في
بعض الأحيان كان ينخرطُ في نوبة ضحكٍ هِستيريَّة، وفي إحدى المرَّات أعقبها بنوبة
بُكاء مريرٍ، أقلقَ والدته من شروده الدَّائم، وبتصرَّفاته غير الطَّبيعيَّة، واِنْطوائه
على نفسه، وفقدانه الرَّغبة بالخروج من البيت مع أصدقائه، واِنْقطع عن العمل
تمامًا.
حينها
ظنَّت بداية أنَّ مسًّا من الجنِّ أصابه، وأرسلت إلى جارتهم العجوز المشهورة؛
بِرُقْيَتِها المُجرَّبة للعين والحسد، وللأوجاع الغامضة غير المعروفة أسبابها. لم
تُفلح الرُّقْية هذه المرَّة، أشارت عليهم بأخذه إلى شيْخ يكتُب له حجاب، أو يفتح
له لعلَّه تعرَّض للسِّحر.
فشلت
جميع المعالجات والحِيَل، بوصولهم إلى طبيب مُختَصٍّ، بعد إجراء التَّحاليل؛ أثبت
إدمان الشَّاب على تَّدخين الحشيش، ثمَّ انتقل لتعاطي الحُبوب، التي أوصلته إلى
نوبات من الهلوسة الغريبة، واِنْقلبت شخصيَّته عكس ما كانت سابقًا، واختفى مرحه، وأظلم
وجهه بقتامة؛ أذهبت لوْنه الفاتح الأقرب للأشقر.
بعدما
اِفْتكرت "نورما" القصَّة، غصَّتها نوبة بُكاء، اِبْتلعتها،
وكتمتها بمهارة، كأنَّها تدرَّبت كيف تُخفي مشاعرها المُتدفِّقة في اللَّحظة
المُناسبة, وقالت لنفسها، وهي تتأمَّل تقاسيم وجه "سيرا"
بِذُهول:
-من
ساعة عودتها ونحن مع بعض، ولم ألحظ عليها أن تناولت أيَّ شيء، ولا أشعلَتْ سيجارة.
أكلنا ونامت، وها أنا قائمة في مكاني كعسكريٍّ حارسٍ لمقرٍّ هامٍّ، لم تغفل له
عيْن ولو لدقيقة واحدة.
سمعت
صوتَ "سيرا" تُكلِّم أحدًا، أطلَّت لترى مع الحديث، فوجدت "لارا"
و "فايا" للتوِّ دخلتا (البنسيون)،
يبدو أنَّهما متأخِّرتَيْن اليوم، ترحيب ومُجاملات معهودة، لكن إذا كانت هناك
حركات أعيُن، أو أيْدٍ أو أصابع؛ فمن غير المُمكن بل من المُؤكَّد أنَّها لن تعرف
بها، ستبقى معرفتها ناقصة، ربَّما حبُّ الاِسْتطلاع جعلها تمشي بخُطوات نحوهم،
وكانت "سيرا" قد أغلقت باب الحمَّام خلفها.
سمعت
صوت "نبهان" قبل وصولها للجمع بأكمله. وجدتُّها فُرصة للسَّلام على
البنات الغائبات منذ يوميْن عن (البنسيون). هنا لا أحد يسأل عن خصوصيَّة أحدٍ، ولا
التدخُّل بخصوصيَّته. (للتأكد من شخصية الذي يريد السلام على البنات)
الحريَّة
المُطلقة مطلب الكثيرين بلا رقابة من أهل أو أقارب، نموذج العيش هذا أعجب فئة كبيرة
خلال فترة الحرب السُّوريَّة الطويلة المُعادِلَة بمساحاتها الزمنيَّة الحَربَيْن
العالميَّتيْن الأولى والثانية. قالت لنفسها:
-لن
أُقامر بأيِّ سُؤال لهما عن سبب غيابهما، وأين كانتا..!!، كلامي معهنَّ لن يتعدَّى
المُجاملات، و(يا خبر اليوم تشتريه بمصاري، بُكرة تِلْقَاه بِبَلاش)، زملاء
المكان يتشاركونه باِحْترام شديد لخُصوصيَّة كلِّ واحد، لتستمرَّ الحياة بهدوء
ووُدٍّ، خِبْرتي في التعليم علَّمتني.
..*..
(37)
ردَّاتُ
الفِعل المفاجِئة مُربِكة إذا جاءت على حين غفلة. كانت "نورما"
غافلة عن محيطها، هائمة في بِحار مُتلاطمة الأمواج من القلق والخوف، والمصير
المجهول، والتخبُّط بين أخْذٍ ورَدٍّ، فيما تنوي فِعله بينها وبين نفسها، ومتى
تستطيع تنفيذ ما عقدتِ العزم عليه؟. ومتى ستكون الخُطوة الأولى..!!؟.
فاجأتها
"سيرا" باِحْتضانها، واِلْتصاقها بها من الخلف، بينما كانت غارقة
بإرسال نظراتها عبر العتمة في الخارج من خلف زُجاج النَّافذة، بعد إزاحة السِّتارة
السَّميكة بألوانها الباهتة؛ لتكشف جُزءًا بسيطًا من محيط المدينة الواسعة، لاحظت
أنَّ هُناك بُقَعًا مضيئة تُشبه بقعة الضُّوء الشَّهيرة، ذلك البرنامج الذي حمل
الاسم، وغرسه كمفهوم بأذهان النَّاس، وإفساح مساحة رؤية نقديَّة لأوضاع شاذَّة،
بمُحاولة التغيير الخجولة، وعلى اِسْتحياء خائف، ومن خلال لوحة الجدار الأسود
بأكمله، إلَّا من نُقطة بيضاء صغيرة نسبيًّا لمساحة وحجم الجِدار، كانت تُريد
التغيير، وتتمنَّى لو اِهْتدت لرؤية بصيص أمل؛ ليكون دافعًا إيجابيًّا لها.
ثمَّ
انقضَّت عليها بالقُبُلات الحارَّة، بعد أن طَوَّقت عُنقها بِعُمقٍ شَقِيٍّ واضح،
حاولت التملَّص بمُحاولةٍ كَسُولةٍ كسُلحفاة هَرِمَةٍ خائفة بإدخال رأسها إلى داخل
قوقعتها، على الفور تبادر إلى ذهنها منظر الآثار النَّاتجة على الرَّقبة والصَّدْر
تُشبه الكدمات من آثار العُنف.
بقُوَّة
لم تكُن تتوقَّعها؛ طرحتها أيضًا بينما كان جسمها مُرتخيًا غير مُهيَّئٍ للمقاومة
ليبقى صامدًا.. نامت فوقها؛ فَمُها يشتغلٌ بِنهَمٍ وبكامل طاقته، ويداها تُعَسْعِسَان
جسَدًا مُنهكًا خائر القوى غير مُستعِدٍّ للتجاوب، لاِنْخفاض مُؤشِّرات راحة
النَّفس المشغولة بهموم أعظم تُلهيها، جسم ذاوٍ من الدَّاخل، كأنَّ الرَّغبة فيه
مات للأبد.
-حبيبتي
"نورما".. سنبقى معًا للأبد هكذا، وسأبذُل قُصارى جهدي اعتبارًا
من صباح الغدِّ مع بداية الدَّوام، سأعيدُ مُتابعة موضوعكِ، لتأمين بطاقة اِنْتِسابكِ
لقوَّات الدِّفاع الوطنيِّ، وستكون بِجَيْبتكِ خلال أسبوع من الآن.
بعد
انتهاء مُناوبتي في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم، وعودتي مساء. أمَّا خلال
الأربع والعشرين ساعة القادمة خبَّرونا أنّ هناك اِسْتنفارٌ، سأكونُ معهم في
مُهمَّة دَوْريَّة اِعْتياديَّة مثل الأيَّام العاديَّة، لكنِّي سأعود مساء بعد انتهاء الدَّوام.
في
هذه اللَّحظة اِنْبثق في قلب "نورما" قرارها الأكيد، الذي كانت
تُفكِّر به، وتطبخه على نار هادئة بلا استعجال لإنضاجه.. في هذه اللَّحظة اختلف
الوضع، عندما ثبتت الشُّكوك، واِتَّضحت الرُّؤية، واِنْكشف المخفي، و إرهاصات ما
كان ينخز قلبها.
-حبيبتي..
منذ مُناوبتي الماضية أعطيتُ اِسْمكِ، وصورة كنتُ اِلْتقطتُها لكِ قبل ذلك
بموبايلي، للمُقدَّم (أبو حيدر) رئيس الحاجز، ووعدني بتجهيز بطاقتكِ في
أسرع وقتٍ مُمكن؛ لتسطيعين التحرُّكَ بحريَّة أينما تشائين، دونما أدنى اِعْتراض من
أيَّة جهة أمنيَّة بل يُسهِّلون الأمر، و لا أحد يوقفكِ لا على حاجز أثناء مروركِ،
بمجرَّد إبراز البطاقة. والله أنا أعرف البعض لم يحصلوا عليها، مع العلم أنَّهم
دفعوا مبالغ ماليَّة مُحتَرمة، ومع الواسطة أيضًا.
الصَّدمة
المُفاجئة لم تُولِّد عند "نورما" الحافز لأدنى ردَّة فِعل، ولم
تُدافع عن جَسَدها الذي يتعرَّض للعبث. الانتهاكُ.. انتهاكٌ أيًّا كان مصدره سواء
من رجُل أو امرأة بالقُوَّة والإكراه. أمَّا وقد استسلمتْ؛ فهي في عُرْف القانون:
راضية وبكامل إرادتها ووعيها المُدرِك لما يحصل معها؛ فلا عُقوبة على هذه الفِعلة
في مثل هذه الحالة، ولا يُعاقَب فاعلُها، إذا كان رجُلًا بجريمة التحرُّش، أو الاِغْتصاب
بالقوَّة والإكراه.
الأمر
هنا مُختلف تمامًا؛ فهو فِعلٌ بين اِمْرأتيْن مُنافٍ للطَّبيعة والذَّوق السَّليم،
كذلك لا يوجد في البلاد قانونٌ يُبيح زواج المثليِّين اِمْرأة باِمْرأة، أو رجُل
برجُل، ونظريًّا لا يُعتَرف به إلَّا على أنَّه جريمة اِجْتماعيَّة تستحقُّ
العُقوبة، إلَّا أنَّه في الواقع: قائمٌ فِعليًّا على نطاقات واسعة في ظروف الحرب،
لكنَّها عمليًّا خارج إطار القانون، وفي خانة الجريمة المُنظَّمة.
جولة
مُثيرة حقًّا، بتفاعلات سلبيّة كانت من طرف واحد. ما إن ذبُلَت سَوْرة الشَّبق
المُتهيِّجة بدواخل "سيرا"، حتَّى هَمَدَت جميع قواها، وتراختْ
عضلاتها، وكأنَّها وصلت لِزَهرة اللَّذة، وانطفأ ما بداخلها.
نصفُ
ساعة بعد حفلة اِغْتصاب، كانت قد استغرقت نصف ساعة قبلها "نورما".
من غير المعلوم حقيقة إذعانها على وجه الدقَّة، ممَّا كان مثارًا لتساؤلات لها
أوَّل، وليس لها نهاية، وتأويلات فيها الكثير بل جُلَّها ظنون مُحرَّمة، وستبقى
الحقيقة غائبة، والتساؤلات والتأويلات مجالها ما وَضُح من الحقيقة بشكلٍ عامٍّ.
أكانت
تتشارك اللذَّة بحركات صديقتها..!!؟.
وهل
اِنْتشت بفعل حُرِمَت منه لفترة..!!؟.
أم
إنَّ أعصابها مُتصلبَّة عديمة الإحساس، وعواطفها مُتكلِّسة..!!؟.
أو أن بَلَادَة الطَّبع مُتأصِّلة فيها، ولم
تكُن تظهر خلال حياتها، ولا يُعرَف ذلك إلَّا من تعامل معها على الأخصِّ زوجها
المرحوم..!!؟. مات ومات السِرُّ معه.
..*..
(38)
الأفكار
المجنونة تقتحم المجال بلا اِسْتئذان، تأتي قويَّةً مُباغِتَةً مُربِكةً للموقف،
وتتربَّع في المُقدِّمة، ولا تتزحزح، أو تتنازل لإفساح المجال.
رأس
"سيرا" مُكتَظٌّ بالمشاريع الخفيَّة بمعظمها، ولا يرشَحُ منها
لِلْعَلَن إلَّا أقلِّ القليل المُهذَّب.
الجوُّ
مُغرٍ للمزيد من اِسْتجلاب الفرح والمرح، لَمعتْ بذهنها فكرة إقامة سهرة في (البنسيون)،
للمرَّة الأولى يتمُّ مثل هذا الطَّرح المُمتدِّ بخيوطه إلى جميع غُرَف المُقيمين.
-الفكرة
مُغرية ستلقى قُبولًا إن طرحتُها.. ما رأيكِ يا "نورما"..!!؟.
"نورما"
ساهمة النَّظرات، كأنَّها في عالم آخر غير عالم (البنسيون)، لم تُبْد أدنى تجاوُب،
ولو بحركة من حاجبيها، أو إيماءة بطرف إحدى عينيْها، المُشكلة إذا كان كلٌّ واحد
يُغنِّي على ليلاه. "سيرا" لم تنتظر سماع الجواب، ولم تطرح
المزيد من الأسئلة، كأنَّها اِتَّخذت قرارها، وتابعت:
-
إن اِسْتطعتُ طلب إجازة عن مُناوبتي يوم غدٍ؛ من أجل التَّنسيق للسَّهرة –كأنَّها
تُكلِّم نفسها في غياب تامٍّ لتفاعل "نورما"- أليْسَ غريبًا أن
لا أحد فكَّر بمثل هذا الأمر قبل ذلك لا البنات ولا حتَّى الشَّباب..!!، أتمنَّى
أن تبقى الكهرباء شغَّالة طوال السَّهرة مثل هذا اليوم، بكلِّ الظُّروف سنحسب
للطوارئ حساب.
"نبهان"
يملك مجموعة خلايا شمسيَّة؛ لتوليد الكهرباء غير أجهزة البطاريات العاملة في (البنسيون)
عادة، سأطلبُ منه تجهيزها ولا أظنُّ أنَّه سيرفض، فقد جلبها قبل مُدَّة وركَّبها
جُزئيًا، وعمل لها تجربة كانت ناجحة، وإذا جاءت الأمور كما هو مُخطَّطٌ لها في
رأسي؛ سَتُنار جميع إضاءات (البنسيون)، بالطَّبع ستكون أجهزة الصَّوت المُخصَّصة
للحفلات والمُناسبات الكبيرة حاضرة أيضًا.
وفي
نيَّتي دعوة المعلَّم الكبير (أبو حيدر)، على أغلب ظنِّي سيحضر معنا، ونسعدُ
به بيننا، وفُرصة لا تُعوَّض لكِ لِتَتعرَّفي إليه. من الضَّروري ذلك. بيده مقاليد
الأمور كلَّها هنا؛ فهو يُمسك بالمنطقة الجنوبيَّة بأكملها من العاصمة، وسنسهر
للصَّباح على أنغام الموسيقى والرَّقص، قبل وبعد تناولنا العشاء الجماعيّ
المُحترم.. مشاوي وغير ذلك من المشروبات الرُّوحيَّة لمن أراد الشُّرُب، والبعض
صار يميل للحُبوب، خاصَّة (الكبتاجون)؛ لأنَّها تُعطي مزاجًا رائقًا عاليًا، وتدوم
فعاليَّتها، إذا كانت من النوعيَّة الجيِّدة ذات العيار الثَّقيل لِيوميْن، ومن
يلجأ للحُبوب؛ لتفادي رائحة المشروب التي تَفُوح من الفَم مع الأنفاس، كما أنَّني
سأُخبركِ بشيءٍ مُهمٍّ: بأنَّ جميع العساكر على الحواجز يتعاطونها بكثرة، للبقاء بِصَحْوهم
من أجل الحِراسات خاصَّة اللَّيليَّة، مثلهم مثل حواجز العصابات الإرهابيَّة، من
الغريب تعاون الحواجز المُتجاورة ببيع هذه الأشياء –الحبوب-،
وتداولها بالبيع والشِّراء من خلال صفقات تجري بينهم، وكلّ شيء بحسابه.
هناك
تفاهُمات غريبة غير مُعلنة، وإشارات مُلغَّزة بين الحواجز جميعها. لا يُمكن لعقل
تصوُّرها، حرب وتراشق بالنَّار خلال ساعات النَّهار وبحذر شديد، وفي الظَّلام تسيل
حركة التهريب في الاتِّجاهيْن.
مش
معقول..!! يا بنت الحلال صار لنا فترة طويلة محرومين من الفرح والمَرَح، وسنجعل
أصوات البافلات، وأجهزة الصَّوت تأخذُ مداها الأعلى؛ لتملأ (البنسيون) ويضجَّ بها،
ولتطوف بتغطية مساحة المُخيَّم بأكمله؛ لتمحو جميع مظاهر البُؤس والخوف. نريد
الحياة.. ليذهب البؤس والخوف إلى الجحيم. نريدُ أن نعيش.. وَلْيَفنى العالم من
بعدنا.
..*..
(39)
التَّفاصيل
صورةٌ واضحةٌ لأيِّ أمرٍ كان. وأهميَّتُها نابعة من تتبُّعها لدروب الشيَّطان في
كثير من حالاتها. لكنَّ هناك من يعتبرونها من الماضي، ولا فائدة منها، طالما أنَّ
الزَّمان تباعَدَ عن الحاضر بمسافات طويلة. وللإصرار على ذلك منفَذ للبحث في
الدَّفاتر العتيقة الممزَّقة، فلا ضرر منها ولا نفع بعد فوات أوَانها، و(الأمور
إذا فاتت ماتت). هكذا يُقال على الألسنة.
لأكثر
من عشرين يومًا لم تكُن "نورما" سجينة أو مُختطفة مع زميلاتها،
ولم تكُن تنتظر دورها في الإعدام أو الاِغْتصاب، إنَّما كانت على اِنْتظار في
مزرعة على أطراف الغُوطة الشَّرقيَّة، لم تعرف على وجه الدِّقَّة في أيَّة نُقطة
هي ، إلَّا اِسْم المُهرِّب (أبو دعَّاس)، المجموعة قائمة على أملٍ بانتظار
لحظة فرح، بخبر من المُهرِّب؛ ليجهِّزوا أنفسهم سريعًا؛ للانطلاق إلى المناطق التي
يريدون التوجُّه إليها. طال الانتظار مضى الأسبوع الأوَّل والثَّاني والثالث،
والطريق لم يستطع (أبو دعَّاس) تأمينها، إلى أن جاء الواحد والعشرين بالفَرَج،
وانطلقوا بعد الغُروب بقليل في سيَّارتين "بيك آب. دَبِلْ كَمِين".
خلال
الفترة الماضية حَزِنَت كما تشاء، عندما اِسْتعادت تفتيش دفاتر أيَّامها القاسية والمُنعَّمَة,
وأطلقتِ العَنَان لذاكرتها بالتوقُّد لأقصى مُستوى معروف على مقياس نشاط الذَّاكرة
البشريَّة.
فترة
الإقامة في (البنسيون) كانت قصيرة لم تتعدَّ نصف الشَّهر
في أحسن حسابات تِعْداد الأيَّام، إلَّا أنَّها كانت حافلة بالأحداث والمعارف
الجديدة عليها، وحُبلى بمُفاجآت من عوالم الغرائب والطَّرائف، خارجة بجميع
سِياقاتها عن المألوف الاِجْتماعيِّ.
(البنسيون)
حاضر في جميع جلسات اِسْتحضار الذكريات صغيرها وكبيرها. صديقتها "سيرا"
لها نصيب الأسد. لم تُطاوعها نفسها بالحديث عنها بأيِّ سوء.
بالعَوْدة
إلى التفاصيل. هل هي تبرير للحدث وتبعاتِه، أمْ هي للإيضاح والاستفسار؟, يبدو أنَّ
الإغراق فيها سُقوطٌ مُحقَّق في لُجَّة لحرق الوقت واِسْتنزافه.
كلامٌ
غزير سمعته "نورما" على مدار أسبوعيْن في (البنسيون)، لم تُعارض،
ولم تمدح أو تقدح، ولم تقُل آمين..!!. ما زالت عيْناها تُبحلِقان بثبات تُعاينان خيال
وجه "سيرا"، لا شكَّ أنَّها حفظت زواياه وانحناءاته وتضاريسه
بدقَّة.. لن ولن تنسى شيئًا من تفاصيله.
عقلها
مُتوقِّفٌ عند حبوب (الكبتاجون) ، وقالت
وقتها لنفسها:
-"الآن
تفسَّر الحُلُمُ بلا مُفسِّر، يعني أنَّ الحبَّة التي أعطتني إيَّاها في ليلتي
الأولى في (البنسيون)، عندما كنتُ أشعرُ بالصُّداع الشَّديد، يعني أنَّها حبَّة
كَبَتْ (كبتاجون)؟".
لا
أدري كيف جاءتني الجُرأة لأسألها من جديد بعدما صَرَفتُ النَّظر، أذكُر أنَّني
سمعتها:
-"لا
يا حبيبتي..!! كبِّري عَقْلَكِ يا "نورما"
–أعطتها
ضحكة مُجلجلة تردَّد صداها في (البنسيون) بأكمله- إنَّ حُبوبَ (الكَبَتْ) مُنشِّطٌ
قويٌّ يوقف النُّعاس، وتُعطي نشاطًا قويًّا؛ للاندفاع والحركة والفَرَح المُنبثق
بشكل مفاجئ".
فهمتُ
وقتها أنَّها غير مُنوِّمة. خرجتُ عن صَمْتي؛ ثمَّ عُدتُ لأسأل "سيرا"
من جديد مع شُعوري الفاضح بالحَرَج منها:
-"يعني
الحبَّة التي أعطيتني إيَّاها ليست (كبتاجون)؟".
-"لا
.. لا أبدًا، هي حبَّة (فَالْيُومْ) لكنَّ عيارها كان ثقيل، وهو الأفضل والمطلوب،
كما تعلمي فإنَّ العِيار الخفيف بلا مفعول خاصَّة مع المُدخِّنين ومن يتعاطون الشُّرُب،
تأكَّدي عزيزتي أنَّني لا يمكن أن أتعامل بالغشِّ مع أيِّ إنسان، أنا واضحةٌ مثل
الشَّمس، وعلى افتراض أنَّني غشَّاشة، تأكَّدي أنَّني لن أغشَّكِ أنتِ بالذَّات.
حريصةٌ عليكِ أن تبقي لي وحدي، سأحتفظُ بكِ، جِئْتِني مِنحةً من السَّماء".
اهتزاز رأس "نورما"، وبلا كلمات للردِّ على ما قالته "سيرا"،
لم يُعلَم منه اِقْتناع أو تكذيب.
صرختُ
بأعلى صوتي:
-"يا
سيرا.. يا مَنْ تُحبِّين الحياة بشغفها، وتَعُبِّين منها بِنَهَمٍ قدْرَ ما
تستطيعين..!! يا أيتَّها الخُيوط الذهبيَّة، وأنتِ تغزِلينها كشبكة عنكبوتيَّة حول
الضَّحايا.. خاصَّة، وأنَّ خُيوط الذَّهب، جذَّابة برَّاقة تلفِتُ الأنظار إليها
بقوَّة".
كما
أذكُر بعدما صحوْتُ من نوْمي، لا أتذكَّرُ أنَّني ناديتُ على "سيرا" أو
جاء ذكرها على لساني، ولو على اِفْتراض أنَّني ناديتُ، مُؤكَّدٌ أنّ أُذُنيَّ لم
تسمعا ذلك، فضْلًا عن أن تكون صديقتي قد سَمِعَت.
..*..
(40)
اللَّيلة
العشرون قبل الأخيرة لهنَّ في المزرعة، عادت الأحلام؛ لتأخذَ دورها بحكايا لا يُمكن
أن تحكيها "نورما"، يبدو أنَّها قرَّرت أن تُبقيها سِرًّا من
أسرار المرحلة؛ لِتتركها خلفها نهبًا للنسيان في متاهات دروب المُهرِّبين
المُهدَّدة بالمُداهمة مع كلِّ دقيقة؛ لتنمحي آثارها من الوُجود، ولا يبقى لها
أيَّ أثرٍ.
بينما
هي تحت ضغط التعرُّق وكوابيس النَّوم العميق، رأتْ نفسها، كَمَنْ يسبح في بحرٍ
هائجٍ بيْن الأمواج، وتُنادي وتصرخ بما تستطيع، لإسماع صوت اِسْتغاثتها لسائق قارب
سريع يمرُّ قريبًا منها على بُعد أكثر من مئتيْ متر، أدركتْ أنَّ صوتها لم تسمعه
بنفسها، فجأة أطلَّ عليها (أبو حيدر) بوسامته الجميلة بينما كانت جالسة في
صالة (البنسيون)، يُركِّز نظراته الحادَّة عليها دون الحضور، بينما الموسيقى تُناغِم
الأجواء في محيط (البنسيون)، وربَّما تفاعل معها أقلّ القليل. ممَّن رفضوا الخروج
من المُخيَّم، طَرَق سمعها اِسْم غريب، ولا تعرف من هو الذي لفظ كلمة "علوان".
مهابة(أبو
حيدر) بلباسه العسكريٍّ الُمموَّه بتداخُل ألوانه. النَّجمة والتَّاج يتلألآن
على كَتِفَيْه، طوله الآسِر، ووسامة وجهه ذي البشرة البيضاء المُدوَّر المُشرَّب
بحُمرةٍ صافية، ولون عيْنيْه الأزرق الفاتح، شعره الأشقر المُتدِّل على جبينه
وأُذنيْه، فلا أقلَّ من وصفه بشخصيَّة
عسكريَّة ألمانيَّة الشَّكل من أتباع "هتلر". تعشقه أُخته. كما يُقال عن
مثل هذه المواصفات الجماليَّة المُميَّزة.
عندما
دخل اِرتجَّت الصَّالة اِحْترامًا وتوقيرًا، الجميع يعرفه ويعرفهم، إلَّا الغريبة
كنتُ بينهم، صافحوه باليد وبالأحضان والقُبُلات البنات والشَّباب على حدِّ سواء.
ما
أثار اِنْتباهي صديقتي "سيرا" كان سلامها المُختلف عنهم جميعًا،
فهمتُ أنَّ لها حُظوة خاصَّة تتميَّز بها عن الباقيات "لارا" و "فايا"،
وشيء آخر لم أفهمه حينما أراد الاِنْصراف، بعد حفلة العشاء والشُّرْب والرَّقص على
أنغام الموسيقى.
أشار
إلى "فايا" لأخذها معه، وقال على مسمعنا جميعًا، بأنَّ صديقها
الذي يسكن معها هنا في (البنسيون)؛ ينتظرها هناك على حاجز البطِّيخة، وأنَّ
مُناوبته هذه اللَّيلة لا تسمح له بالمجيء لحضور الحفلة.
"فايا"
مُذهلة بحقٍّ وحقيقةٍ؛ فهي كتُفَّاحة (جولدن) حمراء ناصعة اللَّمعان، يشتهيها من
رآها ولو لمرَّة واحدة ولا ينساها، وأذكُر يوم حدَّثتني في سهرتنا التي تعارفنا
فيها على بعضنا، عن علاقة أمَّها بشخص يأتي لبيتهم أثناء غياب والدها، غير
المُكترث بما يحدثُ في بيته، مرَّات ومرَّات أخبرت والدها ولا من مُجيب.
بعد
اِنْصرافهما والوداع، اِسْتمرار الرَّقص والموسيقا إلى ساعات متأخَّرةٍ، ومن حُسن
الحظِّ أن الكُهرباء لم تنقطع ليلتها، كأنَّهم نَسُوها ولم يتذكَّروا، مُؤكَّد لو
أنَّ أحدًا ذكَّرهم لما تركوها، أخَذَ السُّكْرُ يتلاعب برؤوسهم، والسَّاعة قطعت
الثالثة فجرًا، تعبوا، وخارَت قواهم؛ قاد "نبهان" "سيرا"
من يدها إلى غُرفته، وقاد "محمود" "لارا" معه، ولم يبقَ إلَّا
أنا و"أيمن" الشَّاب الصغير مُساعد "نبهان"؛ يتطلَّع كلُّ
واحد منَّا بوجه الآخر.
فَتَحتْ
عينيْها مع أولى شَقْشَقات الفجر، شَرِبتْ من قنِّينة ماء قريبة منها، وقامت إلى
الحمَّام على ضوء الموبايل، بعد أن شحنته لمؤشِّر الثمانين درجة قبل النَّوم قبل
انقطاع الكهرباء، وعادت لمتابعة نومها بِعمق أكثر، ولم تتذكَّر شيئًا من حُلُمها
المُزعج بكوابيسه المُفزِعَة.
..*..
(41)
(البنسيون)
هادئ بطبيعته، خاصَّة إذا كانت الكُهرباء مُنْقطعة، أبواب الغُرَف تنغلق على ما
فيها من حميميَّة، "لارا" بنت فكريَّة، وصديقها المُقيم معها بدون أيِّ
عقد، لكنَّهما مُتَّفقان على التعارُف بينهما؛ ليتأكَّدا من توافق طباعهما ومِزَاجهما؛
ليتكلَّل ذلك بالزَّواج الدَّائم.
في
(البنسيون) لا أحد يعرف أحد أنَّها ابنة "فِكريَّة"، اللَّقب المعروفة
به وإِخْوتها في بَلْدتهم، لا تُطيق سماع ذكر اسم أمّها، كراهة الاِسْم تولَّدت
عندها من كراهتها لوالدتها، وأفعالها المُنافية، لكونها أُمًّا ومُربِّيةً ومسؤولةً
عن عائلة، وتخون زوجها في غيابه، وَوَعت ذلك منذ بداية تفتُّح وَعْيِها على طبيعية
العلاقات بين الجِنْسَيْن.
ومثلها "فايا" مع صديقها الذي
تعيش معه بعقد مُتعة غير معروف كم هي مدَّته فيما بينهما؟.
"أيمن"
مساعد "نبهان" الذي يُعتَبر ساعده الأيمن المُؤتَمنُ على أسراره.
المُطيع لأوامره بلا تردُّدٍ ولا تذمُّرٍ، لا يكادان يفترقان طيلة الوقت، ينامان
في الغُرفة وعلى سرير واحد، ومع مجيء صديقه "محمود" لم يفترقا،
بل فتح غُرفة صغيرة كانت مُقفلةً فيها سرير مفرد لشخص واحد، وخصَّصها لصديقه "محمود".
-"توافُق
غير مُعلَن بين طائفة (البنسيون). مختلفون بطبائعهم بمنابتهم وأصولهم وانتماءاتهم
الدينيَّة والعرقيَّة والطائفيَّة، فكأنَّ (البنسيون) بوتقة صهر هذا التنافر؛
ليُكوِّن منهم مُنتجًا جديدًا.
مجتمعات
الرَّغبات لا قضيَّة تجمعهم إلَّا اِنْحرافاتهم، توافقٌ لا بل تواطؤ على
الانحراف". هذه آخر نتيجة خلصت لها "نورما" مع نفسها بعد
سهرة اللَّيْلة الماضية غير العاديَّة بكلِّ المعايير، قبل رحيلها النهائيِّ
والأخير عن (البنسيون)، بلا تردُّد اِنْطلقت بِخُطوتِها الأولى؛ فمن لا مصالح
ومنافع يَرْتَجيها؛ سيُجازِف بلا نَدَم.
تسلَّلت
"نورما" خُفية تحت جُنح الظَّلام، بعد أن أَنِستْ إلى أنَّ جميع
المقيمين في (البنسيون) مُلتزمين في غُرَفهم، ولن يخرجوا إلَّا لأمر طارئ، وفي
العادة لم يحدث أيَّ طارئ يستحقُّ الذِّكْر طيلة أيَّام الأسبوعيْن الذي قضتهما "نورما" معهم.
دروب
العتمة تسلكها بحذر شديد مع كلِّ خُطوة تخطوها، لم تستغرب الأزقَّة ما تزال تحفظها
منذ وصولها إلى هذا المكان الذي وصلته بلا تخطيط منها، إنَّما قادتها قدماها، وهي
تمشي على غير هُدًى.
خلال
دقائق لم تتعدَّ العشرة وصلت إلى ساحة (أبو حشيش)، كانت تَعِي تمامًا
أنَّها تتوجَّه جُنوباً وُصولًا إلى مفرق منطقة "يلدا".
تذكَّرت
مواقف باصات النَّقل العامِّ، عندما كانت تأتي مع زميلاتها من المعلِّمات،
وأحيانًا مع زَوْجها للتسوُّق من محلَّات الألبسة في شارع "لوبية" بالذَّات،
كان سابقًا عامرًا على غير هذه الوضعيَّة المُخيفة، يلفُّه الظَّلام لا يظهر من
معالمه الخَرَاب إلَّا تشكيلات أشباح مختلفة الأشكال. العُيون في الظلام لا ترى
الأشياء على حقيقتها.
إنَّه
نفس الدَّرب عند نهاية شارع مخيَّم فلسطين، تابعت السَّيْر بِنِيَّة الوُصول إلى
نهاية منطقة "ببيلا".
تمتلك
"نورما" فكرة واضحة عن المنطقة من زياراتها للمنطقة مع بداية
العام 2011, حينما لبَّت دعوة زميلة لها تزوَّجت هنا في "ببيلا"
مع تكرُّر تبادُل زيارتها لمرَّتيْن.
عند
بداية الاِنْعطافة الأخيرة المُمتدَّة شَرقًا؛ لتصل إلى منطقة "عقربا"
الآمنة حسب ما كانت تسمع من الأخبار، وتقرأ على صَفَحات (الفيس بوك)، والمواقع
المُهتمَّة بما يحدُث في الغوطة الشَّرقيَّة.
العارف
يضع رجله بقوَّة في المكان المُناسب بلا أدنى تردُّد وريبة. خُطواتها واثقة؛
لأنَّها عارفة أين تضع قدميْها، ومُتيقِّظة؛ لضبط الجهة الصَّحيحة التي تُريد الوُصول
إليها.
ساعات
قليلة لا تتعدَّى الأربع أو الخمس على أكثر تعديل، وصلت "نورما"
تقريبًا الواحدة ليلًا، وإن تأخَّرت إنَّما لِبْطء مشيتها، واِضْطَّرت للجلوس،
والاستراحة لمرَّتيْن أو ثلاثًا لمدَّة عشر دقائق ربَّما أقل بقليل حسب توقُّعها.
..*..
(42)
المصالح
لا تعترف بالعواطف والمودَّة بين الأصدقاء، كثيرًا ما تُفرِّق بينهم وبعد رِفقة
عُمُرٍ بينهم، كانوا مُتلازميْن على الدَّوام وفي معظم الأوقات، النَّوم وحده
مسموح له ليُفرِّق بينهما، ليذهب كلُّ واحد إلى فِرَاشه.
أهل
المصالح، وعلى الأغلب الاِنتهازيِّين منهم، لا يتردَّدون بِغرس خناجرهم في ظُهور
أصدقائهم، أو خواصرهم في لحظة اِنْقضاضٍ، واِنْقلاب على العلاقات والمعروف
والإحسان بينهم.
للأسف
عندما تنتهي العلاقات إلى طريق مسدود، ونُقطة اِفْتراق لا لقاء بعدها، وينمحي كلُّ
ماضٍ كان يسود فيه الحبُّ والودُّ، ويُكشِّرون عن أنيابهم، لِيَنهشون بلا رحمة.
قلب
"نبهان" هذه الأيَّام مليءٌ بالأسَى، لم يترك شتيمةً ولا مَسبَّةً
إلَّا أطلقها على صديقه "محمود"، الذي اِنْتشله من عالم الضَياع،
وضمَّه إليه وأكرمه أيَّما إكرام، يليق بأصدقاء طفولة ومدرسة وأبناء حارة واحدة
ضمَّت جيرتهم.
-"يا
"محمود" لَيْتَ الذي كان منكَ ما كان.. لَيْتني مِتُّ قبل أن أرى
سِكِّينكَ مغروسة في قلبي.. ما الذي غيَّركَ بهذه السُّرعة، وجعلكَ تنقلبُ عَليَّ،
وتبصقَ في الصَّحن الذي أكلتَ منه – دموع تَنْهَلُّ على خدَّيْه، يحاول
تجفيفها- ألهذه الدَّرجة تهونُ عليكَ العِشْرَة بيننا..!!، والله لا أظنُّها تهونُ
إلَّا عند أولاد الحرام.
المشكلة
أنَّني أعرف أمَّكَ طاهرة مثلما أعرفُ أمِّي، أعوذُ بالله من وَصْفِكَ بابن
الحرام، اِحْترامًا للمرحومة والدتكَ أيَّام كانت صديقة لوالدتي، صِدْقًا. لم أكُن
أفهم طبيعة علاقتهما المتينة من دون الجارات جميعًا في الحارة، المودَّة التي كانت
بينهما مُميَّزة كأنَّهما أخوات، وكنتُ أناديها: خالتي أم محمود، لم تستطع
الهزَّات اِختراق حصونهما".
جلس
"نبهان" طويلًا يندبُ حظّه العاثر مع صديق الذي نُكبَ به، وكانت
نهايته على يديْه، عاد لرُشدِه؛ ليُخفِّف إيلامَه عن نفسِه، وهو يتذكَّر مقولة كان
يسمعها من مُعلَّمه في محل الأحذية: (كلَّ ما تزرعه في هذه الحياة تَقْلَعُه،
إلَّا بني آدم تَزْرَعُه.. يَقْلَعَكْ).
-"يا
إلهي تعبي ضاع سُدًى، صَدْمتي بــ"محمود" عظيمة، جعلتني أندمُ
على ما فعلتُ، إنَّ الذَّنب ليس ذنبي، فأنا تعاملتُ معه بطيبة قلبي، وأخلصتُ له
بحقٍّ وحقيقة..!!".
إيلامٌ
وتقريعٌ للنَّفس أشدُّ من ضربة السَّيف، وندامة "نبهان" في هذه
اللَّحظات أشدُّ فتكًا بنفسه من ندامة "الكُسعيِّ"، ذلك الأعرابيّ
الصيَّاد الماهر، لم يستفق على نفسه إلَّا، وقد قَضَم أصابع يده نَدَمًا على
السِّهام التي أطلقها على تجمُّعات الغُّزلان ليلًا، وغَلَب عليه الظنُّ بعدم
إصابته لأيٍّ منها، ولمَّا اِنْجَلى الظَّلام، وشَقْشَقَ الفجر بِنُوره أكداس
العتمة، فوجئ بالأمر مُختلفٍ تمامًا، وقد قَتَل العديد من الغُزلان.
..*..
(44)
بمجيء
صديقه "محمود" أصبح مُساعدًا موثوقًا للمعلَّم "نبهان"،
فيما بينهما علاقة قديمة تمتدُ لسنوات منذ أيَّام الطفولة، والنَّشأة المُشتَركَة
في الحارة واللَّعب والصَّخب.
والآن
جمعتهما الصُّدفة، لتشابُه حالتَيْهما بفقد عائلاتهم، حال "نبهان"
أفضل حالًا من صديقه، من الطَّبيعي أن يحتويه، هذا ما اِسْتقرَّ في نفسه حينما
اِلْتقاه، إذا اِشْتركت الجهود ستُثمِر حَتمًا.
تفكير
"نبهان" عمليِّ للغاية. تعلَّم إضافة لخبرته في محل بيع الأحذية
سابقًا: أنَّ كلُّ شيء سينفع مُستقبَلًا، لا بُدَّ من الاِحْتفاظ به، ويُعتَبر "محمود"
نافعًا من فور لقائه الأوَّل، وفكَّر بحديث مع نفسه:
-"ومن
صباح الغدِّ، بعد أن يكون قد أخذ قِسطًا من الرَّاحة؛ سنبدأ بالعمل، و(باركَ
الله؛ فيمن اِسْتفاد وأَفَاد غيره)".. هذه المقولة الدَّارجة على لسانه
في أيِّ موضوع نقاش، أو عند أيِّ سؤال عن غرض ما.
الأيَّام
أعظم أُستاذ في الحياة، دُروسها عمليَّة يتلقَّنها الأشخاص جميعًا، قلَّة قليلة من
يَعِيها؛ فيستفيد من الرِّياح إذا هبَّت، "نبهان" من النَّوع الجادِّ
الواعي بطريقة مُذهلة، لا يُفوِّت فُرصةً تجلب له فائدة مهما كانت صغيرة.
مع
هذا فلا يفهم أنَّ المنافع جالبة للتنافس، ومُثيرة لِشهيَّة الآخرين، وعندها تنتقل
الصَّداقات إلى عداوات، والإحسان إلى جُحود ونُكران، وسينقلب مسار الهدوء في حياة (البنسيون)
إلى توتُّر دائم.
..*..
(45)
ذاكرة
"نبهان" مُتخمةٌ بأحلام الثَّراء والمال والأعمال، لم تنحسر مشاعره
مرَّة واحدة تتشكَّى مثلًا وحدته، أو أنَّه حزينٌ على موت أمِّه، ومن غير المؤكَّد
ترحُّمُه عليها؛ فلم يسمعه أحد ينطق بذلك،
ولم يتأفَّف؛ لأنَّه يصنع طعامه بنفسه، ويغسل جواربه ولباسه الدَّاخليِّ، ولا يدًا
حنونة تتلمَّس وجهه، وتمسح عنه آثار النُّعاس؛ لِتُوقِظه بحنان كلَّ يومٍ عند
السَّاعة السَّابعة إلَّا ربع، أو في السَّادسة والنِّصف، للاِسْتعداد من أجل
دوامه اليوميَّ في العمل.
في
مُعظَم الأحيان ينام على أفكار ينوي الاِشْتغال عليها، وفي الصَّباح تفشل خطَّته.
ينظر من نافذة غُرفته لا يرى أحدًا يمشي في الشَّوارع، إلَّا بعض القِطَط الهزيلة،
والكلابِ ذات العظام النَّاتئة من ظهرها وقفصها الصَّدريِّ، جميعها لا نَفْس لها
بالمُواء أو النُّباح، من الغريب أنَّ الكلاب تنامُ ليلًا، فلماذا تركت مُهمَّتها
في الحراسة اللَّيْليَّة.
أمَّا
القِطَط فأمرها أعجب من العجب؛ فلم تكتف بنوم اللَّيْل، بل أتبعت به معظم ساعات
النَّهارات المديدة بغضبها، القصيرة بما فيها من قلَّة الحركة.
ليس
من قبيل الصُّدفة مُرور قُطعان الفئران والجرذان أمام أعيُن القِطَط المُسترخِيَة،
ولا تُحرِّكُ فيها غريزة الاِفتراس، كأنَّها فقدت الرَّغبة في الحياة بفقدانها مخالبها الجارحة، وتساقطت أسنانها،
وهل ينطبق عليها قانون الإنسان بنقص الكِلس أو بسبب مرض السُّكر أو تراجع
اللثَّة..!!؟.
"نبهان"
إذ يرى الطريق المُحاذية لعمارة (البنسيون) لا أحد يمشي فيها، ولم يأته خبر من أحد
بتحديد مواعيد الحظر.
أوه..!!
شيء يُصدِّع الدِّماغ.. صار الحظر يُطبَّق أوتوماتيكيًّا كقاعدة عامَّة، يتداولها
النَّاس للتَّعبير عن حالات مَسكوتٍ عنها، هُم أيضًا لا يريدون التعبير عنها،
أصابهم المَلَل والقَرَف من كثرة المحظورات التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى.
حظر
التَّدخين في الأماكن العامة.
حظر
الخُروج، والتِّجوال نظرًا للظُّروف الأمنيَّة.
حظر
التعامل مع الإرهابيِّين.
حظر
التجمُّع في الأماكن التي تتعرَّض للقصف، خوْفًا من سُقوط قذائف أخرى.
حظر
نسيان الهويَّة وعدم حملها، لدرجة أنَّ أحدهم، لا بل أكثرهم يتفقَّدونها عندما
ينوون الذَهاب إلى المرحاض.
عندما
يتذكَّر "نبهان" هذه المحظورات وغيرها، ممَّا يعرفها بحكم طبيعة
وجوده في المنطقة، يُقرِّر العودة إلى فِراشه، المُترطِّب من أثر تعرُّقه أثناء
النَّوم، ما زالت مخدَّته مُبلَّلة.
المِروحة
السَّقفيَّة ثابتة بأجنحتها الثلاثة كإشارة المرسيدس لا تتحرَّك، وطاقم المراوح
الأرضيَّة المُتعدِّد الأنواع والماركات والأشكال عديمة الفائدة مع غياب
الكُهرباء. التي بمثابة روح الأدوات الكُهربائيَّة تجعلها نابضةً بالحياة.
يُحاول
النَّوم، مع تقلُّبه في اِتِّجاهات يصرخُ
التخت بأنين وصرير مُتهالكٍ أثناء حركته، اِعْتاد هذا الصَّوت، كأنَّما الحياة
تتفاعل بالأصوات مع محيطها.
اعتاد
ذلك.. لم يُفكِّر مرَّة واحدة بالصَّرصرة، ولا بخربشة الفئران، وتحرُّكاتها
بحريَّة تامَّة دون قيْدٍ أو شرط, ولا بِطَقْطَقة كَعْب كُندرة "سيرا"
العالي، ولا بِلَعب مُساعده "أيمن" بالأغراض وكسر بعضها، يسمع
صوت تحطَّمهما ولا يُعاقبه، و بالأصوات الغانجة الفائرة من غُرفة "فايا"
و "لارا"، ولا بمكالمات "سيرا" الدَّائمة مع
أشخاص لا يعرفهم.
كلُّ
هذه الأصوات مصادر إزعاج حقيقيَّة؛ فتقطع عليه الاِسْتغراق العميق في نومه؛ ليذهب
في عوالم الأحلام المُحبَّبة له، ويهجِسُ بها طوال الوقت؛ ليشتغل بالفعل من أجلها.
فهو
لا يعرف أنَّ الأحلام لم تُخلق لتتحقَّق جميعها، لكنَّها تبقى تُلِحُّ عليه.
تُقلقه من جديد.. يَعزِمُ النيَّة على الجدِّ والنَّشاط بِلا كلَلٍ أو ملَلٍ، من
أجل أن تُصبح واقعًا محسوسًا بين يديْه.
لو
علم وأيقن أنَّها مُستحيلة..!! هل سيخلُد إلى النَّوم براحة؟، وبلا تعب مُحاولًا
على الدَّوام تنويم نفسه.
إصراره
عجيب, حدَثَ في بعض الأحيان أن تجاوزت مُحاولاته المئة ولساعات طويلة.. لكنَّه
بالفعل لا يمَلُّ من تجديد المحاولة تِلْوَ الأخرى.
ومن
غير المفهوم صوتُ قَرْقَرَة الأراجيل (الشِّيشة) في الصَّالة، وضحكات، وغَنجات
البنات، وهُنَّ يتسامرن بمرح وسرور، فلا يعدَّها مصادر إزعاج ولا يتحجُّ
عليها، حتَّى شخير صديقه "محمود"
مُؤخَّرًا حينما باتَ معه في غُرفته ليلة أو ليلتيْن حينما جاء به إلى (البنسيون)،
يضعه في خانة الجوازات غير المكروهة عنده.
..*..
(46)
تتسارع
الأحداث بتسارع ثورة الاتِّصالات وسُهولتها، تتساوَق الحالات جميعها؛ لتصنع حالة مُتكامِلةً
تُلبِّي حاجات الأفراد. تعدُّد مجموعات (الواتساب) التي اِشْترك فيها "نبهان"،
منها العائليَّة وللأصدقاء والمُقرَّبين، في أحيان كثيرة، وبمرور أيَّام لا يفتحها
ولا ينتبه لها. دائمًا ما يقول لنفسه:
-"ناس
مُتفرِّغة فقط لصباح الخيْر ومساء الخيْر، ومُنورَّين. حفظتُ هذه الكليشات المُكرَّرة
يوميًّا، أصابني الملَل منهم جميعًا، ولو لا مَخافتي منهم، ولا أريدُ قطع الخيْط الأخير
معهم، لكنتُ عملتُ لهم حظر؛ لأُريحَ دماغي من مُجاملات لا تُطعِمُ خُبزًا.
الأهمُّ
عندي مجموعات عروض بيع وشراء الأغراض الجديدة والمُستعمَلة، سوق العُرُوض الأقوى هذه
الأيَّام المُتخصِّص بالمُستعمَل؛ تلقى رَواجًا مُنقطع النَّظير، ومِدْرارة أرباح
كثيرة.
لا
أستطيعُ النَّوم كلَّ يوم، إلا بالاطِّلاع الكامل على الرَّسائل المنشورة، مُقتضيات
مصلحتي تتطلَّب المُتابعة المُستمرَّة والحثيثة، وصار أغلبُ شُغلي في البيْع
الشِّراء على التلفون، كثير ممَّن أتواصل معهم عبر الهاتف لا أعرفهم سابقًا، ولا
أيَّ تعامل معهم.
مجموعات
(الأنتيكات) أمُرُّ على رسائلها سريعًا، لا أتوقَّفُ عندها كثيرًا
بالمُحصِّلة لا تُعنيني، ليس لديَّ أشياء وأدوات قديمة جدًّا كالعُمُلات، أو
الألبسة التُراثيَّة، أو الأدوات التي مضى عليها عشرات أو مئات السِّنين.
إلَّا
أنَّه، وفي إحدى المرَّات حصلتُ على "جُرْن قهوة" مع مِهْباشه،
كان قديمًا جدًّا. مصنوع بِمَهارةٍ فائقةٍ بِنُقوشه المُميَّزة بأشكالها المُختلفة
النَّادرة.
الأمر
أثار فضولي؛ ففي أحد المزادات تحت "جسر الثورة" في وسط دمشق، عَرَضُوا
نموذجيْن قديميْن من "أجران القهوة مع مهابيشهما" واحد من خشب
الأَبَّنُوس، والآخر من خشب الجَوْز، وقتها وصل المزادُ لخمسة ملايين ليرة للقطعتيْن
فقط.
على
ما أذكر أنَّهم أعطوني بِجُرْني به سِعرًا مُمتازًا، كان هذا قبل أشهر، لأنَّهم قدَّروا
عُمرَه الاِفْتراضيِّ بمئة سنة. تعلَّمت من حُضور مثل هذه المزادات: أن "الرَّغبان
يدفع". جملةٌ تتردَّد دوْمًا على ألسنة الباعة والسَّماسرة. فلا بُدَّ من
المُفاصَلة والمُكاسَرة فيما يطلبه التُّجَّار أثمانًا لمعروضاتهم المُختلفة.
في
هذه الأسواق غير النِّظاميَّة تكثُر الأغراض القابلة، وغير القابلة للبيع والشِّراء،
ولمن يدفع السِّعر الأعلى، ولا غضاضة، ولا حَرَج من العَرْض، والإعلان مُطلقًا عن
أيِّ شيء، حتَّى وإن كان تافِهًا لا قيمة له.
خِبْرتي
صارت عريقة في تقيِّيم وعرض أيِّ غرض، التجربة خير مُعلِّم، ودُروسها تنحفِرُ
عميقًا في عقلي.
إعلان
اليوم على مجموعة (الأنتيكات) مُختلِف، لم يسبق أن قرأتُ طَلبًا من أحدهم:
-"أيُّ
معلومة مدعومة بوثيقة أصليَّة حوْل جُثمان الجاسوس الإسرائيليِّ "إيلِّي كُوهين"
أو مُتعلقَّاته الشَّخصيَّة، يتواصل معي على الخاصِّ".
قرأتُ
الرِّسالة مرَّات؛ لأفهمها.. بلا جَدوى لم ألتقط فَحْواها، اِسْتثارت فُضولي، ولتبديد
جهلي بعدم معرفتي بالجاسوس الإسرائيليِّ، وما علاقة هذه الرِّسالة غير المُتوقَّعة
أصْلًا؛ فلا حلَّ ولا جَواب إلَّا عند (العم جوجل)،
اِسْتغراقي
بتحليلات لم أَصِل منها لأيَّة نتيجة، أَنْسَتْني رقم صاحب الرِّسالة، بالرُّجوع
إلى سجلِّ الدَّردشة؛ قرأتُ الرَّقم من اليسار، ابتدأ بصفر صفر واحد. لم أكن أعرف
أنَّه نداء أميركا أو كَنَدا، إلَّا بعد ساعات عند عودة الكهرباء بعد اِنْقطاع دام
لأربع وعشرين ساعة، عندها لم يبقَ إلَّا شَحْطَتيْن من شَحْن موبايلي، لا أستطيعُ
التَّفريط بهما إلَّا للضَّرورة القُصوى لأيِّ اِتِّصال طارئ وضروريٍّ جدًّا، ولا يُمكِن
تأجيله.
ننتظر
الكُهرباء على أحرِّ من الجَمْر، مثلما ننتظرُ موعد مجيء الماء ما بين الأسبوع إلى
عشرة أيَّام في العادة، إلَّا إذا حصل عُطْلٌ طارئ سننتظر أكثر، الأمر عندنا على
أطراف العاصمة في الضَّواحي البعيدة مُختَلِف عن المدينة بتنظيم الدَّوْر.
الحياة
كُلُّها مُرتَبطة بالكهرباء، بِمُجرَّد وُصولها في أغلب الأحيان تصلنا برامج
التقنين دَوْريًّا، المُشكلة أنَّها غير ثابتة على طول الوقت. شواحن الموبايلات
جاهزة على الفور نستغلُّ الوضع، المُشكلة الأفظع ضياع انتظارنا هباءً منثورًا، أن
تُقطع مرَّةً ثانية بعد دقائق قليلة من مجيئها.
أخيرًا
عرفتُ أنَّ النداء الدولي (001) هو مفتاح أميركا وكَنَدا.
المعلومة
الخاصَّة بـ"إيلِّي كُوهين" كنتُ للمرَّة الأولى التي تعرَّفتُ
فيها على أشياء لم أُفكِّر بها أصلًا، ومن المُمكِن أن أعيش وأموت ولا أعرفها. مع
صُعوبة مُعاناتي مع القراءة، لكنَّني فهمتُ وعرفتُ.
أبي
-رحمه الله وسامحه- أخرجني من المدرسة عند إتمامي الصفِّ السَّادس، الذي تكلَّل في
نهاية العام الدِّراسيِّ بنجاحي إلى السَّابع، كان حُلُمي الانتقال من مدرسة
حارتنا القريبة من بيتنا إلى المدرسة الثانويَّة في المنطقة المجاورة لِحَيِّنَا،
كنتُ أطمحُ مُرافقة أولاد الحارة الذين يكبُرونَني ويدرسون هُناك، وما شوَّقني
أكثر: قِصصهم عن التَّدخين والبنات، كان ذلك عالَمًا خياليًّا؛ مليئًا بالأحلام
الجامحة بتجاوزاتها الطَّائشة غير الخاضعة للمُحاكمة العقليَّة، إنَّما ضجيج العواطف،
التي لا تفتأ عن البحث عن مُتنفَّس، ولو كان بطريق خاطئة ومُتهوِّرة بعيدًا عن
رقابة الأهل الصَّارمة، ولا نستطيع التعبير عن أنفسنا بدون خجل، لا ينتهي الأمر
إلَّا باِسْتخدام العادة السريَّة لتفريغ الطَّاقات.
ثقافة
العَيْب تحتُم علينا التكتُّم على ما نُفكِّر به، من المُخجِل أن تجري ألسنتنا بكلام خادش للحياء، نعلم مدى العُقوبة
القاسية، إذا ما عرفت الأمُّ أو الأب، لا تساهُل في مثل مُقَارفَة هذه المواضيع
بتاتًا، والوصف الدَّارج مباشرة لذلك: "قِلَّةُ أدب"
أمَّا
(جوجل) فقد شكَّل لي تحديًّا غير معقول، هَالَني سِعَة معلوماته المُتنوِّعة في
جميع الاتِّجاهات.
شيء غير معقول لم أتصوَّره من قبل. بعد مُعاناتي
بقراءة المواضيع المكتوبة بخصوص "كوهين"، عزفتُ عن قراءة وما كُتِب
عن قصَّته، واِتَّجهتُ (لليوتيوب)؛ فهو الحلُّ الأمثل للجَهَلة من أمثالي.
المقاطع
التي تابعتها على مدار أيَّام في أوقات الفراغ، تشكَّلت عندي فكرة واضحة عن هزيمة
حُزيران 1967، وخسارتنا للجولان، وإحاطة كاملة بالمرحلة القَلِقة من حياتنا كسوريِّين
بشكلٍ خاصٍّ، واِنْعكاسِها الأهمِّ على قضيَّة فلسطين.
..*..
(47)
بعد
هذه الجولة مع المواقع والأخبار المُتداولة على الجوجل، تحصَّلتُ على معلومات مُحترمَة.
الأهمُّ في الموضوع أنَّني عرفتُ ولم أبقَ جاهلًا، من المُهمِّ أنَّ هذه الأخبار
ليست بالضَّرورة أنَّها صحيحة مئة بالمئة، هكذا أخبرني صديق لي أيَّام زمان، وقتها
كنتُ أعتقدُ أنَّ كلَّ ما أقرأه على مواقع الأخبار صحيح، وأحسِب نفسي أنَّني عرفتُ
خبرًا مُهمًّا، وأناقشُ به أصدقائي، إلى أن تراجعتُ بعد إخفاقات كثيرة فيما أطرحه
أمامهم، وبهذا الخُصوص مررتُ يهذه الطَّائفة من الأخبار كرؤوس أقلام، للدلالة عاى
ما فهمتُ واستخلصتُ :
(**أكّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتانياهو الثلاثاء، قبل أيام من الانتخابات التشريعية المبكرة، أنّ حكومته تبذل
جهوداً حثيثة للعثور على رفات جاسوسها الأسطوري (إيلي كوهين) الذي أُعدم في دمشق
قبل 55 عاماً، وإعادته إلى الدَّولة العِبريَّة.
**و(كوهين)
الذي جسّدت (نتفليكس) سيرته في مُسلسَل قصير لاقى نجاحاً واسعاً؛ ويُعتَبر بطلاً
قوميًّا في إسرائيل، منذ أن أعدمته السُّلطات السُّوريَّة شَنْقاً في "ساحة
المرجة" في دمشق عام 1965، بعدما نجح باِخْتراق أعلى مستويات النِّظام في هذا البلد.
**وفي
صيف 2018، أعلنت الدولة العِبْريَّة أنَّها: اِسْتعادت ساعة اليد التي كان يضعها (كوهين)،
والتي كانت جزءاً من "هُويَّته العربيَّة الزَّائفة" وذلك بفضل
"عملية خاصّة نفّذها الموساد في دولة عدوّة".
**وفي
الأسابيع الأخيرة، سَرَت معلومات بشأن مفاوضات تُجريها إسرائيل مع روسيا، حليفة
النِّظام السُّوري، من أجل اِسْتعادة الدَّولة العِبْريَّة أغراضاً شخصيَّة أخرى لـ(كوهين)،
وُصولاً حتَّى إلى رُفاتِه.
**وردًّا
على سؤال لقناة "آي 24 نيوز" الدَّوليَّة، ومقرّها في تلِّ أبيب، بشأن
ما إذا كانت هناك جهود تُبذَل حالياً للعثور على الرُّفاة، واِسْتعادته، أجاب
نتانياهو: "هذا صحيح".
**وأضاف
"أنا مُصمِّم على أن أعيد إلى الوطن جميع جنودنا الذين سقطوا في الميدان
(...) لقد أعدنا رُفاة "زخاري باوميل" من خلال اِتِّصالاتي المميّزة مع
الرَّئيس الرُّوسيِّ فلاديمير بوتين". وتابع نتانياهو: "نحن نُواصِل
العمل المُتعلّق بإيلي كوهين".
**وكانت
الحكومة الإسرائيليَّة أعلنت في نيسان/أبريل 2019، قبل أقلَّ من أسبوع من الاِنتخابات
التشريعيَّة المُبكِّرة التي سمحت لنتانياهو بالبقاء في السُّلطة، استعادة رُفاة
الجندي "باوميل" الذي كان مفقوداً منذ 1982.
**وقال
بوتين يومها: "إنّ الجيشيْن الرُّوسيِّ والسُّوريِّ عثرا على الرُّفاة".
**وقال
"نتانياهو" الذي يقوم بحملة اِنْتخابية اِسْتعداداً للاِنْتخابات
التشريعيَّة المُقرَّرة في 23 الجاري، والمصيريَّة لحياته السياسيَّة: "أعتقد
أنَّ علاقتي الشَّخصيَّة بـ"فلاديمير بوتين" هي رصيد اِسْتراتيجيٌّ مُهِمٌّ
لإسرائيل". لكنّه عاد، وقال في تصريح للإذاعة العسكريَّة: "لن نكفَّ عن
البحث عن إيلي كوهين (...)، ولا أقول إنَّنا نفعل ذلك بواسطة روسيا".
**إسرائيل
تُؤكِّد سعيها لاستعادة رفاة الجاسوس "إيلي كوهين" طابع بريديّ عليه
صورة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أُعدِم شنقاً في سوريَّا في 1965 afp_tickers هذا المُحتوى تمَّ نشره يوم 09 مارس 2021 –
17:02 يوليو,09 مارس 2021 –
17:02 *(وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب).
**وبحسب
المرصد السُّوريِّ لحقوق الإنسان؛ فإنّ "القُوَّات الرُّوسيَّة عملت خلال شهر
شباط/فبراير على نبش قبور في مُخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيِّين، جنوب دمشق،
بحثاً عن رُفاتيْن لجنديَّيْن إسرائيليَّيْن والجاسوس الشهير "إيلي
كوهين".
**وأوضح
مدير المرصد "رامي عبد الرحمن" لوكالة فرانس برس إنّ القُوَّات الرُّوسيَّة:
"أخذت عيِّنات من مجموعة الرُّفاة التي تمّ اِسْتخراجها لإجراء فُحوصات الحمض
النوويِّ، والتحقُّق من هُويَّات أصحابها".
بدوره
قال صحافي وناشط فلسطيني في دمشق لفرانس برس طالباً عدم نشر اسمه إنَّ: "سُكَّاناً
تمكَّنُوا من مُراقبة جُنود روس" وهم يدخلون مقبرة المُخيَّم.
**لكنَّ
مسؤولاً كبيراً في فصيل فلسطيني مقرّه في دمشق أكّد لفرانس برس -طالباً بدوره عدم
نشر اسمه أنّه-: "من المُؤكّد أنَّ رُفاة "إيلي كوهين" ليست في
المخيّم (...)، وأنّها نُقلَت إلى مكان آمن".
**وفي
2004 وجَّه الرَّئيس الإسرائيليِّ في ذلك الوقت "موشيه كاتساف" نداء
بهذا الخُصوص إلى نظيره السُّوريِّ "بشار الأسد" عبر موفدين فرنسيِّين
وألمان وأُمميّين، واِعْتُبِرت المعلومات التي حصل عليها كوهين بالغة الأهميَّة؛
لاحتلال إسرائيل مُرتفعات الجولان السورية في حرب 1967).*منقول عن مصادر
الأنترنت كما وردت، بلا تدخُّل من الروائي لأمانة النَّقل.
-"ما
هذا الحرص الشَّديد من إسرائيل على فرد من أفرادها، باعتبارهم أنَّ عملهم
مُقدَّسًا، ونصرًا مُبينًا، بالمقابل عندنا الأعداد الهائلة التي ماتت وتموت كلَّ
يوم، والأمر عادي وأقلُّ من عاديٍّ". ختم "نبهان" فيما بينه
وبين نفسه.
..*..
(48)
تداعيات
الأفكار، وكلُّ فكرة تجرُّ الأخرى، أو تسحبني عُنوةً إلى رحابها. عادت بي الذاكرة
فور الإعلان على مجموعة الواتساب (أنتيكات)، جاءتني صورة ذلك الرَّجل
الوقور بوجهه الصَّبوح المَهِيب بجلال العِلْم، واِحْتفاء مُعَلِّمي صاحب المحلّ
به، وكيف كان يجلس أمامه بتواضع شديد.
على
ما أذكر أن اِسْمه كان "الشَّيْخ عبدالرحمن"، لم تكُن لحيته
طويلة تُغطِّي نصف صدره الأعلى ولا حتَّى رقبته، هو أقرب للأجْرَد بشكلٍ دائمٍ.
زيارته
قبل الأخيرة، ما زلتُ أذكرُ حديثه لمُعلِّمي عن مُعاناته في البحث عن كتاب مخطوط،
وسافر إلى عِدَّة بلدان حتَّى استطاع الحصول على نُسخَة مُصوَّرة منه.
يعني
ذلك أنَّ الكُتُب المخطوطة لها قيمة ماديَّة ومعنويَّة، مثلها مثل جُرن القهوة،
وكلَّما كانت قديمة أكثر حَتمًا ستُباع بأسعار خياليَّة، لم أحلُم بها مُطلقًا، و
ربَّما تكون صفقة العمر فيها.
يا
لحماقتي..!! كم صادفتُ من البُيوت فيها مكتبات، ولم تمتدَّ لها يدٌ. غدًا، وقبل أيِّ
عمل أو أيّ اِرْتباط، سأذهب للبيت الأرضيِّ في العمارة المقابلة لعمارتنا من الجهة
الخلفيَّة، قبل يوميْن مررتُ به، والكُتُب ما زالت على حالها لم تُمَس.
في
الحرب تُباع الكرامات والذِّمَم، ويُداسُ الشَّرَف، وتُكسَر سيوف العزَّة، وتضيع
الأنساب، ويصعَد التُّحوت، وتُشَوَّه الحقائق، وتُسَوَّق الأكاذيب والأضاليل على
أنَّها حقائق، ويكثُر العرَّابون. اِنْقلاب الموازين سِمَةُ المرحلة بلا مُنازع،
وتُصبِح الشَّياطين ملائكة.
لحظة الجُنون تأتي مُباغِتَةً بلا سابق إنذار؛
وليدة فكرة مجنونة لا تُهادن الواقع، عنيدة قاسية بوقعها؛ إذا سيْطرت على عقل
صاحبها، كالشَّيْطان لا ينفكُّ عنه حتَّى يُغويَه.
..*..
(49)
في
لحظة صفاء وتفكير عميق قبل النَّوم، سيطر
هدوء عجيب على المكان، نام صديقي "محمود" نوْمًا عميقًا، نَوْبات
شخير مُتقطِّعة تصدُر عنه بين وقت وآخر؛ فتقطع اِسْترسالي باِسْتذكار آخر جلسة بين
الشّيخ ومُعلَّمي، وتفاصيل الحديث، لا بل أنا في حاجة لتفاصيل التَّفاصيل، وكُلَّه
يعتمد على ذاكرتي إذا اِسْتطاعت اِسْترجاعها، أتمثُّل الشيَّخ بهيئته، وسَمْتِه
الوَقُور بحديثه الذي اِنْفرد به إلى نهاية قصَّته، والمُعلِّم مُنصتٌ بجميع
حواسِّه، لا أظنُّ أنَّه كلمة واحدة من كلام "الشَّيخ عبدالرَّحمن":
-الفترة
الماضية قضيْتُها في سفر دائم ما بين القاهرة وباريس واِسْطنبول، بحثًا راء مخطوط
مُهمَّة وضروريَّة، كان مطلوب منِّي تحقيقها. وجدتُ قِسمًا منه في المكتبة
الظَّاهريَّة، لكنَّها لا تُشكّلُ إلَّا جُزءًا، لا يعدو أن يكون مادَّة مُقدِّمة
الكتاب.
بعد
السُّؤال لأهل التخصُّص، والبحث الشَّاق في الفهارس التي بيْن أيدينا في مكتبة مَجْمَع
اللُّغة العربيَّة، والمكتبة الظَّاهريَّة، تأكَّد أنّ الكتاب موجود بالفعل، وله نُسَخًا
في أماكن مجهولة لم يُذكر أيًّا منها في الفهرسيْن.
شددتُ
الرِّحال إلى مكتبة الإسكندريَّة في مصر، فلم أجد سوى صفحات قليلة من الجزء
الثاني، اِضْطررت بعدها للسَّفر إلى باريس، هناك عثرت على القسم الأكبر من الجزء
الثَّاني، وبذلك صار بين يديَّ المقدمة كجزء أول وهذا الآخر. يعني ما أنَّ ما زال
أمامي مسيرة بحث طويلة، وربَّما لن يتكلَّل مَسْعاي وبعد هذا التعب بالنَّجاح.
..*..
(50)
المحطَّة
الأخيرة كانت "اسطنبول"، هناك اِرْتاح قلبي، وهدأت هواجسي المثيرة للقلق
والتوتُّر، حينما عثرتُ على أحد أصدقاء والدي القُدامى من المُستعربين الأتراك، من
الذين ما زالوا على قيْد الحياة، ويتكلَّمون اللُّغة العربيَّة بفصاحة قلَّ نظيرها،
حتَّى في بلادنا فيما بين المُثَّقفين والمُفكِّرين.
بعد
أيَّام من وصولي إلى "اسطنبول"، غرقتُ في دوَّامة بحث لا تقلُّ تَعبًا
عن قضيَّة البحث عن المخطوط.
العنوان
المُفصَّل الذي معي تناوبتُ مرَّات عديدة بالذَّهاب إليه لأيَّام، تأكَّدتُ ثلاث
مرَّات أثناء كتابته على دفتري الصغير نقلًا عن دفتر والدي، المُدوَّن بخطِّ
الرُّقعة المُميَّز بوضوحه وجماله، المُشْكِلة أنَّ سُكَّان المبنى، والأبنية
الأخرى المجاورة له؛ جميعهم جُدُد.
لم
يبق أحدٌ من القدماء أو أولادهم وعائلاتهم، من جديد أَوْشكتُ على اليأس، وقرَّرتُ
العَوْدة إلى دمشق، لولا أنَّني وفي اليوم الخامس على التوالي من تردُّدي على
المكان، لأكثر من مرَّة في أيَّام مُتفرِّقة، إلى أن اِلْتقيتُ بِعَجوزٍ ضعيفِ السَّمع
والبصَر، وهو من الرَّعيل القديم.
بعد
جُهْد جَهِيد، وبالاستعانة ببعض الأصدقاء ممَّن يُجيدون العربيَّة إلى جانب لُغتِهم
التُركيَّة، اِسْتطاع تفهيمه بطلبنا، وتجلَّتْ حِكمة الله؛ أن تأتي لحظة إلهامٍ
إلهيَّة فتحت الآفاق من جديد؛ حينما أسعفته ذاكرته المُهتَرِئة بتذكُّر اِسْم
المنطقة التي يسكن بها "عزَّت باشا"، ذاتُ الشَّخص المقصود
بموضوع البحث، وهو من جِئتُ من أجله، لم يبق أمامي إلَّا أيَّ مُبرِّر للبحث،
العُثور عليه كان الأمل الوحيد في استكمال مشروعي البحثيِّ.
تركناه
من فَوْرنا بعد أن وَدَّعناه، واِتَّجهنا إلى المكان الذي وصفه لنا.
كان
الوقت ما يقربُ من الخامسة مساء، بعد أدائنا لصلاة العصر في مسجد صغير قبل اِنْطلاقنا
من الحيِّ الذي كنَّا فيه إلى بيت "عزّت باشا"، لم أستجب لدواعي،
وصُراخ عضلات جسمي, جميعها مُتعَبَة ومُرهَقَة إلى درجة الإنهاك؛ فقد نسيتُ جميع
ما بي وإلى الأبد، وكأنَّني لم أكابدُ تعبًّا قطُّ.
اِسْتراح
قلبي، وهدأت أعصابي، وخفَّ توتُّري الداخليِّ، عندما ذهبتُ مع الدليل للبحث عن
"عزَّت باشا"، لم أُصدِّق عيناي المُحدِّقتان بتركيز غير معقول
بلوحة مُستطيلة مُذهَّبة الأطراف، تأمَّلتُ لونها البنيِّ الفاتح الأقرب ِللَّون
العسليِّ. الاسم مكتوبٌ بخطٍّ تركيٍّ أنيقٍ، عادة وضع اللَّوحات على أبواب البيوت
من قديم الزَّمان، دلالة لأهميّة صاحبها، سواء كان وجيهًا اجتماعيًّا أو شاعرًا أو
عالمًا أو سياسيًّا، أو غير ذلك ممَّا لهم مكانة ما، وتطوَّرت فُنون هذه
اللَّوحات؛ فصاروا يكتبون الاِسْم على لوح معدنيٍّ نُحاسِيٍّ دائم اللَّمعان.
ما
زالت اليدُ النُحاسيَّة الصَّغيرة المُثبَّتة أعلى ووسط الباب الخشبيِّ المتين،
تُستخدَم منذ فترة ما قبل الأجراس الكُهربائيَّة وحتَّى الآن، صارت موضة قديمة
يُنظَر لها على أنَّها تُراث، أقلَعَ النَّاس عنها للأرقى، تغيَّرت نظرتهم لاِسْتخدامات
الأشياء، الميْل للجديد وإن كان قليل الجودة، ورديء الصِّناعة وسريع العَطَب، على
الرَّغم من القناعة العامَّة لدى الجميع بأنَّ (كلَّ شيء قديم أفضل من الجديد).
اِنْشقَّ
الباب ببطء؛ لِيُطلَّ منه رأس بنت صغيرة ملامحها الشَّقراء، وعينيها الزرقاوين، لا
يُنبئ شكلها إلّا أنَّها ابنة عشرة سنين لا أكثر، شعرها مُتهدّلٌ على جبينها رفعته
بيدها عندما رفعت رأسها، لتطالعنا. لم تتفاجأ بمنظرنا، وشكلنا المُوحِي لها أنَّنا
قادمون من أجل جدِّ أمِّها "عزَّت باشا".
الدَّليل
المُترجِم تكلَّم معها باللُّغة التركيَّة التي لا أجيدها كما يجب، إلَّا أنَّني
أستطيعُ فَهْم أكثر الكلمات شُيوعًا في الاِسْتخدام، المحفوظة في ذاكرتي منذ
أيَّام والدي –رحمه
الله- الذي كان يُجيدها قراءة وكتابة كما العربيَّة. فهمتُ من حوارهما القصير فَحْوى
المعنى العام، وليس بحذافيره.
من
فوْرها أغلقَتِ الباب. سمعتُ طرْقَهُ بقوَّة أجْفَلَت سَمْعي، مع ذلك داهَمَني
فرحٌ غامرٌ؛ اِكْتَنَفني من رأسي حتَّى أسفل قدميَّ. تضاحَكَتِ الحياةُ من حوْلي
بالكامل.
قبل
ساعات أيقنتُ أن لا مفرَّ لي من فشلٍ مُجلجِلٍ. دقائقُ خمس لا أظنُّ أنَّ عينيَّ رَمَشتا،
طال تحديقهما لاِنْفتاح الباب ثانية، كأنَّما ستنفتح لي بوابة في السَّماء في ليلة
الله العُظمى ذات ليلة قدْرٍ. أذُناي تُرهفان السَّمع، للاِسْتماع لصوت الحِذاء
الطَّقْطاق برِجْل البنت عندما تعود، حاملة الإذن لنا بالدُّخول، أو تأمرنا
بالانصراف.
قلبي
يخفق بشدَّة خوفًّا، أن لا تأتينا إلَّا بخبرٍ سِلبيٍّ مُعاكسٍ؛ سيقلبُ حالة الفرح
والانتشاء في لحظتها الأخيرة إلى فشلٍ مُتوقَّع.
-"هوش
كيلدينيز.. لُوتْفًا.. إتشير كال". كلمات البنت نطقتها بنعومة الياسمين
الفوَّاح الذي اِخْترق الأجواء مع اِنْفتاح الباب من جديد، فهمتُ أنَّها أذِنَت
لنا بالدُّخول، سِرنا خلفها بدهليز يمتدُّ لعدَّة أمتار، على نمط بيٍتنا الدمشقيِّ
تمامًا لا فرق، لم أستغرب التماثُل الحادَّ بين المكانيْن، تباعُد المسافتين من
دمشق إلى (اسطنبول) لم ألحظ فجوة فيها أبدًا، البحرة والنَّافورة، ورذاذات تتطايرُ
في المحيط، كَحبَّات اللُّؤلؤ متلاصِفَةً تحت ما تسرَّب من خُيوط أشعَّة الشَّمس.
وشجرة
الكبَّاد والنارنج والياسمين مُعرِّشٌ عليهما، ساحة الدَّار الواسعة مليئة
بالنباتات الشوكيَّة بأشكالها الطريفة غير المعروفة عندي سابقًا، وذوات الوُرود
بألوانها وروائحها المختلفة، لا فَرْق الآن بين ما سمعتُ عن جنَّة رضوان. المكان
وثيق الصِّلة شبَهًا بها.
..*..
(51)
مهابة
التاريخ تُضفي بجَلَالها على المكان للوهلة الأولى، لكنَّ وهج الوجه المُدوَّر،
حُمرة الخدَّيْن شرَّبت البياض "عِزَّت باشا"؛ فاستوى كَقُرص الشَّمس
عند المغيب، جسمه مُتوِّسط الحجم حسب تقديري الأوَّلي للموقف، مُتربِّعٌ بجلسته
المُحبَّبة له على كُرسيِّه الأثريِّ الوَثِير في صَدْر اللِّيوان.
يا
إلهي..!!أيُعقَلُ ما أراه أمام عينيَّ، النَّظرة الأولى لوجه "عزَّت باشا"؛
ألقت الرَّوْع في قلبي أنَّه السُّلطان "عبد الحميد"، هو من يجلس
على الكُرسيِّ، كأنَّهما توأمان مُتماثلان لدرجة التَّطابُق، ويصعب التفريق بينهما
وملاحظة الاختلافات الدَّقيقة. ولولا أنَّني أعلم عِلْم اليقين بموت السُّلطان،
لتهيَّبتُ الوقوف أمامه في موقفي هذا.
تململَ
في مكانه مُحاولًا النُّهوض من جلسته للقيام مُستويًا للسَّلام علينا، بينما
تقدَّمنا نحن. من فوري مَددتُ يدي اليُمنى لمصافحة، واِنْحنيتُ لتقبيل رأسه، كم
كنتُ مُشتاقًا لتقبيل رأس والدي لحظتها، ولم يَفْرُق عن رأس والدي. قرَّبت فمي من
أُذنه، ورفعت وتيرة صوتي قليلًا لتعريفه بنفسي.
-
السَّلام عليكم مَوْلانا "عزَّت باشا"، كيف حالكم، لكم تمنَّيتُ
من الله أن يكتب لي الحياة حتَّى أستطيعُ رؤيتكم، وأنهلُ من بركتكم سيِّدي.
-
من أنتَ يا ولدي؟.
-
أنا "عبد الرحمن بن صبري أفندي" من دمشق.
-
أوووه..!! - ورفع حاجبيْه للأعلى علامة تعجُّبه- أعرفُه، هو أخي الذي لم تلده
أمِّي، وكان من أحبِّ النَّاس إلى قلبي، منذ أيَّام دراستنا الإعداديَّة جلسنا
معًا على مقعد واحد، وأكلنا وشربنا سويَّة في غرفة واحدة، نظام المدرسة كان
داخليًّا، كان ممنوعٌ علينا الخُروج للأسواق والأماكن العامَّة إلَّا أيَّام العُطلة
الرَسميَّة ولوقت قصير ومحدود، لا نستطيع التخلُّف دقيقة واحدة عن الموعد؛ لتفادي
العقوبات الصارمة من الأساتذة والمُشرفين علينا، كنَّا مُنقطِعين فقط لطلب العلم.
-
رحم الله تلك الأيَّام.. أيَّام الخير والبركة.
-
والدُكَ "صبري" لم أره مرَّة ثانية بعد اِنْتهاء دراسته هنا،
وعودته إلى شام شريف. لكن بقيت بيننا الرَّسائل، ولو اِسْتطعتُ لأخرجتُ لكَ من
الأرشيف رسائله لي، وعلى ما أظنُّ أنَّها قاربت على المئة، أو ربَّما تزيد قليلًا.
الدَّليل
مُرتبكٌ مع نفسه، تمنَّى لو أنَّه غادرني، ورجع ولم يدخل معي، ليعود إلى مئة عام
سابقة، ما تخيَّل صورة "عزَّت باشا" بهذا المشهد الهائل بثقله
على النَّفس المُتعَبَة من أثقال وأعباء الحياة المُعاصرة، هذا العجوز الذي يعيش
زمنًا مُختلفًا عن زمانه، لو خرج من باب منزله؛ لأنكر وطنه وتاريخه، ولأنكره شباب
اليوم، و لطالبوا بإعادته للقبر الذي خرج منه.
تبدَّل
الموقف بنفسه حسبما حدَّثني.
بعدما
خرجنا من زيارتنا الخاطفة التي ما تجاوزت الرُّبع ساعة على أكثر تقدير. وزاد حماسه
لمتابعة الموقف، واِسْتطلاع ما خفي من أُناس لا نعرف عنهم الكثير اليوم في زحمة
الحياة المُتسارعة بشكلٍ لا يُطاق.
ما
إن اِنتهيتُ من الكلام مع مولانا، أفسحتُ المكان ليتقدَّم للسَّلام عليه،
ويُعرِّفه بنفسه.
اِسْتغرب
الدَّليل كيف أنَّ "عِزَّت باشا" ما علَّق ولو بكلمة واحدة على اِسْمه،
رغم أنَّه ابن (اسطنبول)، ومن عائلاتها العريقة المُقيمة فيها، لكنَّه لم يعرف
أنَّ "عزَّت باشا" أساسًا من سُكَّان مدينة "قونية"،
وهو الوحيد الذي اِنْفرد بالإقامة والسَّكن في العاصمة من عائلته الكبيرة هُناك،
ولسنوات قريبة كان بيته مَضِيفًا لأهله وأقاربه، ومعارفه من سُكَّان مدينته.
تبدَّلت
الظُّروف والأحوال، واِنْقطع معظم جيله عن المجيء إلى بيته، إمَّا لعجزهم أو ممَّن
توفَّاه الله، واِنْتقاله قبل سنوات إلى هذه المنطقة. القليلون من أهل "قونية"
من يعرفون منزله هذا.
-مولانا
وصلتُ إليك بعد رحلة بحثٍ مُضنية عن مخطوط كتاب "المنثور والمنظوم. لابن
طيفور"، قادتني الظُّروف من دمشق إلى القاهرة وباريس، ثم ها أنذا ماثلًا
أمامكم سيِّدي.
-اِجْلسا
على الرَّحْب والسَّعَة. اِشْرَبا القهوة، وغدًا بعون الله وتوفيقه لنا لقاء آخر،
في المساء الساعة السادسة، سأكون مُتفرِّغًا لك؛ فأهلًا وسهلًا بعزيزٍ ابن عزيزٍ.
اليوم
سأطلبُ فهرس مكتبتي لمراجعة قوائم كُتُب المخطوطات، على الأغلب إذا لم تخُنِّي
ذاكرتي أنَّني أمتلك صورة عن المخطوط الأصليِّ.
الوقتُ
لم يُمهلنا لاحتساء قهوتنا على مهلٍ، شعورٌ داخلي شكَّل هاجسًا، بأنَّ مجيئنا بلا
موعد مُسبَق، لا شكَّ بأنَّه مُحرجٌ لنا، وكما يُقال: (صاحب الحاجة أرَعَن)،
الرُّعونة من التعجُّل غير المدروس للحصول على نتائج سريعة.
مقولته
نبَّهتني إلى الخطأ الحاصل منِّي:
-(اِجلسا
على الرَّحْب والسَّعَة. اِشْرَبا القهوة، وغدًا بعون الله وتوفيقه لنا لقاء آخر،
في المساء الساعة السادسة، سأكونُ مُتفرِّغًا لكَ؛ فأهلًا وسهلًا بعزيزٍ ابن
عَزيزٍ).
طبعي
بعيدٌ كلَّ البُعْد عن البَلَادَة ومُقاربتها. كلماته واضحة لا لَبْس فيها، ولا
بحاجة لتحليل وتأويل عبارته:
-(اِشْربا
القهوة، وغدًا لنا لقاء، سأكونُ مُتفرّغًا لكَ).
الحمد
لله أنَّني وصلتُ أخيرًا، وحصلتُ على موعدٍ نظاميٍّ، ومن قال: "غدًا. جاء
غدًا". البنتُ الصَّغيرة الشَّقراء ابنة الحفيدة، تمشي خلفنا. قُبقابُها
الطَقْطَاق؛ شكَّل إيقاعًا موسيقيَّا مُوحٍ بالاهتمام بزيارتنا المُفاجئَة، وها هي
تُغلق الباب خلفنا كما فتحته. يااااه..!! كيف نسيتُ الالتفات للوراء، لتنطبع
صورتها في خيالي، لأنَّ وجهها بِشارة خير.
..*..
(52)
تتقافز
الأحلام طيلة الوقت من ساعة مُغادرة بيت "عزَّت باشا"، سيطرت على
مُخيَّلتي؛ فأُغلِقَتْ كلَّ أبواب التَّفكير، سوى من تصوُّراتي وحِسَاباتي
المُتكوِّنة عن المخطوط على ضوء الصَّفحات، التي حصَّلتُها من دمشق والقاهرة
وباريس، وهل ستتوافق هذه الصُّوَر مع نسخة "عزَّت باشا"؛ فإذا ما
توافقت مع ما بين يديَّ، ستسهُل مُهمَّة تحقيق الكتاب خلال فترة قياسيَّة، وأكونُ
قد خلصتُ من إضاعة الوقت بمقارنة ومُطابقة النَّسخ مع بعضها؛ لأحصل على خطٍّ
بيانيٍّ توفيقيِّ جامعٍ، صالحٍ بتوليفة مُتَّحدة للموضوع تُبعدني عن التناقُضات،
هذه التناقُضات مَتاهة نفق مُظلم؛ يتوهُ فيه كثير من المُحقِّقين خاصَّة الجُدُد، على
خِلاف من يمتلكون الخبرة.
الفرحة
المُدهشة أذهبت تعب ما مضى من أيَّام، وأطفِأتِ القلق الذي حرمني النَّوم المُعتاد
لساعات قبل دُخولي هذه المَعْمَعَة.
تمدَّدتُ
على السَّرير في غُرفتي في الفندق الصَّغير؛ غادرني أيُّ شعور بالنُّعاس، سَقْف
الغرفة صفحة بيضاء؛ قرأتُ فيها سيرة حياتي ووالدي من قبل ذلك، وكأنَّها أصبحت كِتابًا
اِسْتعرضتُ من خلاله نجاحاتي وإخفاقاتي، أفراحي وأحزاني.
بعد
تناول وجبة عشاء خفيفة من السَّلطات مع صحن حُمِّص، بطبعي لا أميلُ لتنويعات
الطَّعام وتشكيلاته الكثيرة، تفادِيًا لتلبُّك المعدة في الهضم، وأحيانًا تثور
مشكلة القُولُون المزعجة؛ فتضيع معها كلُّ متعة بأيِّ طعام مهما كان زاكيًا، ولو
كنتُ أشتهيه؛ أتركه. وتنصرف نفسي عنه، و تنعدم شهيَّتي لتناول أيّ طعام حتَّى
اليوم الثَّاني؛ كي تهدأ الحالة، ويعود الجهاز الهضميِّ للقيام بمهمَّته بشكلٍ
طبيعيٍّ. الحذَر من التَّخبيص بالطَّعام والإكثار منه مريحٌ على الدَّوام.
..*..
(53)
أعياني
الجُهدُ، وعلى غير إرادة منِّي، أُسدِلتْ جُفوني، وغططتُ بنوم عميق رأيتُ أنَّني
في مُقابلة الشَّيْخ الجليل "عزّت باشا" في مجلسه الذي كنتُه
بالأمس، المحفوف بمهابة العلم، وهَيْبة أهل العلم، وجلال وَقَارِ العمر المديد.
تجاوزت
بوابة البيت العتيدة، ولم تفتح لي بنت حفيدته، ولم أنتظر لتدخُل وتعود لي بعد
دقائق، واِخْتفت رائحة الياسمين من المكان بتاتًا، اِسْتغربتُ جُلوسي أمامه وَجْهًا
لوجه كأنّه في الحقيقة. تساؤلي المُدهش: "أين هي مهابة الأمس التي غشِيَتني
في اللَّحظة الأولى لرؤية وجهه..!!، وكيف تجَرَّأتُ على اِطْلاق لساني بطريقة مُوحية
بتجاوز كلَّ الحواجز، بعيدًا عن اللَّباقة المعهودة لي في مثل هذه المواقف، سواء
مع من هُم بمثابة والدي، أوْ مِنْ طُلَّابي ومُريدِيَّ..!!".
أشبعتُ
نفسي تأنيبًا بعدما صَحَوْتُ، عندما تذكَّرت تفاصيل الحُلُم الجميل، الشَّبيه بواقع
ما حصل في اليوم، عندما جهَّزتُ نفسي بكامل أناقتي، واِسْتعدادي باستحضار جميع مُقابلاتي
مع العُلماء الأجلَّاء، لكن هذه كانت مختلفة عن سابقاتها، لا أدري ما السَّبب،
وأجهلُ تقديم أيَّ تفسير، أو إجابة حوْل هذه النُّقطة بالذَّات.
رجاء
لا أحد يسألني أيَّ سؤال يخصُّ هذا الموضوع، تأكَّدوا من عدم إجابتي مهما كانت
الأسباب الموجبة.
أأيأأ"عزّت
باشا" أنصتَ طويلًا، كأنَّما يُحاول تذكُّر شيء ما غير معروف، أو إيغاله
الطَّاعن في المُتباعدة مسافات ضوئيَّة عن زماننا، جعلته يُقَطِّب جبينه، تناول
نظَّارته السَّميكة المُذهَّبة الثَّمينة، ووقف أمام أحد أرْفُف مكتبته الشَخصيَّة؛
يبحثُ عن شيء مجهولٍ لا أعرفهُ، وأغلبُ ظنِّي أنَّه يعرف ما يريد.
صبرتُ
وصبرتُ، ولم أتشجَع ثانية لسؤاله، أو توجيه أيّة كلمة له، خِفْتُ أن أشغل ذهنه
عمَّا يُفكِّر به، وينسى. الزَّهايمر في هذا السنِّ لا سيَّما وأنَّه قطع
التِّسعين من عُمُره، ويقف على مشارف المئة.. على الأغلب يُصاب به معظم من يكُن
أقلَّ بكثير من عمر الباشا.
خلال
جُلوسي مع الشَّيْخ الجليل، وعالم التَّاريخ لم ألمس عنده، إلَّا ذاكرة مُتوقِّدة،
يتكلَّم بثقةٍ مُفرِطةٍ، وبطريقةٍ مُتسلسلة لمعلوماتٍ مُتدفِّقةٍ من غير خلْطٍ،
ولم يُلْحَظ عليه أدنى اِرتباكٍ أو حَرجٍ النِّسيان.
الذَّاكرةُ
نعمةٌ يفتقدها كثيرون في سِنِي أعمارهم المُبكِّرة، كأنَّ خُمولها عن المُذاكرة
والحفظ مُسرِّعٌ لمغادرتها لرأس صاحبها، ولا تعودُ له إلَّا لَمامًا على فترات
مُتقطِّعة.
فكم
يتألَّم نفسيًّا مُصابو الزهايمر..!! حينما يقفون موقفًا جديًّا أمام حشد من
أحفادهم، الذين يتضاحكون ببراءة طفولتهم، أو طَيْش شبابهم غير المُقدِّر للحالة.
تموت
الحياة بموت الذِّكريات، وموتها نسيانهم المُؤقَّت الشَّبيه بالنَّوم، أو فُقدانها
الأبديِّ. إذا اِنْمَحَست الذَّاكرة بوصول صاحبها إلى الجُنون المُطبِق، بأن لا
يعقل شيئًا، ولا يُفرِّق بين الخير والشَرِّ.
أخيرًا
وبعد ربع ساعة من الصَّمت الثَّقيل المُطبِق على المكان؛ تبرَّدت أعصابي بارتخاءٍ
مُثير، بَدَت تتراءى أمام عينيَّ خُيوط الفشل تنسج قطيفتها على جبيبي المُتعرِّق
البارد كَمَن هو في يومٍ كَانُونيٍّ، أكادُ أمسِكُ الخُيوط بيدي يقينًا. تألمَّتْ
دواخلي، شُعورٌ مُباغِتُ بِمَغْصٍ مَعَويٍّ لكنَّه خفيف، أشدُّ ما أخاف منه أن
يتطوَّر إلى (كريزة) مَغْصٍ كَلَوِيٍّ.
كأنَّما
الحالة النفسيَّة والإحباط المُسيْطران أذهبا فرحتي المبدئيَّة في البارحة، وأعادتْ
لي مشاعر التَّعب السَّابقة دُفعة واحدة، ومرحلة البحث غير المُجدية التي سلكتها
منذ البداية. مُيولٌ غريبٌ بنفسي إلى تَرْك المشروع بأكمله، وليشتغله غيري؛ فيما
لو حالفته ضربة حظٍّ وافرة من جمع مادَّة الكتاب كاملة، وسأتنازل له طوْعًا عن
الشَّرف والثَّناء الذي يحصل عليه، ولن أحسده على تحويل قيمة العقد المُجزي مع
مُؤسَّسة البابطين الثقافيَّة في الكُويت إلى اسمه.
نهضتُ
قليلًا من مكاني قليلًا؛ احترامًا له قبل جُلوسه ثانية، عندما شعرتُ بأنَّه انتهى
ممَّا كان يشغل ذهنه. خلع نظَّارة القراءة، ووضعها بِتَأنٍّ مُبالَغ فيه على طاولة
المكتب، ثمَّ عَدَل عن وَضْعها، كأنَّما تذكَّر عدستها المكسوَّة بالغبار
النَّاعم، تناول مِنديلًا مُخصَّصًا لغاية المسح والتنظيف لعدسات النَّظَّارات
عادة. أعادها ثانية لمكانها المعهود في وسط مُقدِّمة الطَّاولة، ليتناول واحدة
أخرى مخصَّصة للنَّظر العاديِّ.
زمانٌ
بحاجة لنظَّارتيْن حتمًا لا غِنَى له عن إحداهما، وإلَّا تعطَّلت مَهَامّ حياته
المحدودة داخل المنزل. جلس وأرسلَ نظراته؛ لتوزيعها على كامل الجدار العامر بالكُتُب
المُختلفة بأحجامها وألوانها، لم أستطع التَّخمين فيما يريد، أو أين تتركَّزُ
نظراته باحثة عن شيء لا أعرفه.
أخيرًا
جاءت أوَّل كلمة؛ كسرت حواجز جليد الصَّمت، لِتُخرجني من دوَّامة تفكيري المشلول
بعيدًا.. بعيدًا، بقوله:
-شوف
آغا.. الكتاب المخطوط الذي تبحثُ عنه، مُتأكِّدٌ يقينًا أنَّني أمتلكُ صورة نُسخة (فُوتُوكُوبِيَّة)
طِبْق الأصل عنه، وكما أخبرتني حضرتُكَ بأنَّها غير مُحقَّقة، ومكتوبة بخط أيدي
الورَّاقين القُدماء قبل مئات السِّنين، أخاف أنَّ أحدهم اِسْتعارها، وبقيَتْ عنده، سأراجع دفتر
الإعارات الخاصّ بي.
من
جديد فتح أحد أدراج الطَّاولة؛ ليستخرج دفترًا عاديًّا بالحجم المُتوسِّط
السَّمَاكة. بدأ بتقليب أوراقه، ويتأمَّلُ كلَّ صفحة بتمهُّلٍ، في نهاية الأمر؛
وضع اُصبُعه السُّبَّابة قبل نهاية صفحة مُعيَّنة بِسطريْن، وقال:
-آغا
"عبدالرحمن".. هناك صديق -رحمه الله تعالى- اِسْتعار النُّسخة الوحيدة
من زمان، وهذا التَّاريخ يُبيِّن أنّه قبل خمس سنوات بالضَّبط، وقبل سنتيْن علمتُ
بِوَفاته، وليس من طريقة للتواصل مع ورثته.
لكن
سأرسلكَ إلى صديق يعمل في دائرة مكتبة "سراي" العامَّة، وهذه
توصية له لمساعدتك في الحصول على ما تُريد، وتسهيل مُهمَّتكَ".
..*..
(54)
لا
بدايات ولا نهايات سعيدة للحُروب؛ لأنَّ
النِّهايات نتائج طبيعيَّة لها، وُلدَتْ من رحم المُعاناة والأحزان والدُّموع، من
الطَّبيعيِّ أنَّ هذه حالتها البائسة تلك؛ مؤكَّد كلُّ النِّهايات على هذه
الشَاكلة بائسة حزينة باِمْتياز.
حياة
"نبهان" مُزدحمة بتفكير لا ينقطع في جميع النُّقاط التي سيكسبها،
إذا فعل كذا، ولم يفعل كذا. هذا مُختلف عن ذاك، من السَّخافة ألَّا ينظر حوله
لمُعاينة مُحيطه، والظُّروف المُستجدَّة على مدار السَّاعة، والإشكالات.
المُعوِّقات يصعبُ تِعدادها جميعًا، والحلول الجاهزة غير ذات جدوى، والحُلول
الآنيَّة لا تكترثُ بدوام الحال، ولا تدوم إنَّما تصلُح لمرَّة واحدة. هكذا تُدار
الأمور في (البنسيون).
(نبهان)
لا خبرة لديه أصلًا؛ فكيف به سيدير مشروع (البنسيون)
بدون أخطاء فادحة تتكرَّر يوميًّا؟. في ظروف الحرب تنكشف المدينة حدَّ التعرِّي،
وسيغدو ماضيها جميلًا بجميع مساوئه، والحديث عنه ضربٌ من التَّنجيم، أو قراءة الكَفِّ
مكتوبًا في زوايا الشَّوارع، وفي مقابض أبواب البيوت، ودرابزينات الأدراج
والسَّلالم الصَّدئة، وصُحون (السَّاتلايت) المُعطَّلة؛ التي ما زالت مُنتصبة على
الأسطُح والجدران كالخفافيش؛ تلتصق بأسقُف الأماكن من المغارات المُعتِمة، وسَوَاري
الأعلام صامدة على بعض المباني الحكوميَّة بلا أعْلام تُرفرف، وبمشاعر مُنقسِمَة
بنهجها بين ألوانها الرَّامزة لمناطق النِّظام والمعارضة.
أمَّا
الرَّايات الغريبة يا إلهي ما أكثرها..!!، جميعها وعلى اختلاف اِنْتماءاتها
الأيديولوجيِّة والدينيَّة والطَّائفية؛ تحتلُّ سماء الوطن، وتنتهِكُ حُرماته
بنَهَمٍ شديد، مثل أيَّام التَّتار حينما دخلوا دمشق، لم يتركُوا فيها شيئًا إلَّا
اِسْتباحوه.
قيل:
(أنَّ عساكر التَّتار خلعوا أبواب وشبابيك قرية الصَّالحيَّة القريبة من دمشق
آنذاك، وحملوها معهم على ظُهور البِّغال إلى بلادهم).
المكاسب
الماديَّة مَدعاةُ التنافُس القاتل. وما علاقة التنافُس بالأخلاقيَّات في مثل هذه
الظُّروف التي طالت لعشرة سنين، التنافُسُ الشَّريف مؤكَّدٌ أنَّ السُّفهاء بعيدون
عنه كما بين المشرق والمغرب.
السُّفهاء
والسَّفلة ينهشون كلَّ شيء، ولا يعلمون شيئًا اِسْمه التنافُس، أو الفُرَص المُتكافئة
النَّظيفة، والقُدُرات التي تُتاح للبعض دون البعض الآخر. إنَّما يتحوَّلون إلى وُحُوش
كاسرة، ونار تحرق بلا رحمة.. الرَّحمة مفقودة تمامًا. ولماذا يُحكى عن رحمة مُفترَضَةٍ
بمن توحَّش؟، واعتاد على القتل والنَّهب وشرب الدِّماء.
فما
قيمة الإنسان بلا رحمة، وماذا يُساوي؟.
التوحُّش
أصبحت له إدارات تغوَّلت بِخُطط مرسومة على إنسانيَّة الإنسان، وتحويله لمخلوق
عديم التَّفكير، مُجرَّد من العواطف والرَّحمة والأحاسيس، ولم تُبق منه إلَّا
الشَّكل المحبوس في هيكل إنسان خَرِب، شبيه بهياكل دبَّابات وآليَّات الحرب
العالميَّة الثانية في صحراء العَلَميْن المصريَّة. أشكال النَّاس للمُراقب:
كأنَّهم خرجوا من المقابر للتوِّ، أو نابِشِي القُبور. جميع الأحياء أصبحُوا
أمواتًا بلا قبور.
..*..
(55)
"نبهان"
لم ينم ليلته تلك باستغراقه بالتَّفكير بقصَّة "الشَّيْخ عبدالرَّحمن"
وقصَّة البحث عن المخطوطة التي حَكَاها، لصاحب محلِّ بيْع الأحذية الذي يعمل فيه "نبهان"
على مدار سنوات، منذ أن أخرجه والده من أجل العمل ، وتعلُّم التجارة على أصولها
عند صديقه المُقرَّب.
رسالة
(الواتساب) الغامضة قلبت كيان "نبهان"، كبُرَت منافسات أحلامه
المُتواثبة أمام عينيْة في حالة اِسْتعراضيَّة؛ للاسْتئثار باهتمامه، جعلته يُعيد
حساباته المُستقبليَّة من جديد؛ على ضوء عَرْض الفُرصة النَّادرة التي ربَّما لن
تأتي ثانية. هكذا اِعْتقد يقينًا، بلا تردُّدٍ.
نام،
وهو مُبيِّتٌ لنيَّة العمل باتِّجاه آخر سَهْل المَنَال، مُتاحٌ بين يديْه، بلا
مُنافسة، ولا يحتاج لجهد كبير؛ قرَّر أن يقوم بتنفيذ خُطَّته بنفسه، لم ينوِ إخبار
أحد، ولا صديقه الحميم "محمود"، ولن يطلبَ من الولد "أيمن"
بمرافقته بمشواره الأوَّل؛ لِيَسْتكشف طبيعة، وتقييم الموقف بدقَّة. معرفة الشَّيء
تُسهِّل التَّعامُل معه بأخطاء أقلَّ.
يتقلَّب
في فراشه على غير عادته، ظنًّا منه أنَّ الشَّمس طلعت، يُعاود النَّظر لاستطلاع
الوقت بدقَّة من على شاشة (الموبايل)، يسحبه من تحت مخدَّته، رغم أنَّه ربط الجرس
على الثَّامنة، كان قَلِقًا من خطأ يقع به، ولا يُنبِّهه على الموعد الذي يُريده؛
ليقوم بتجهيز نفسه، والخروج إلى وجهته التي رَسَم مُخطَّطها في رأسه.
على
مدار أيَّام كان مشغول الذِّهن بالتفكير، معظم وقته يقضيه وحيدًا في غُرفته، لا
يخرج إلَّا للحمَّام، ويعود لِصَوْمعه
كراهبٍ اِعْتزلَ كلَّ جميع مباهج الحياة، لم تلفت اِنْتباهه أحاديث البنات، ولا
أجسادهنَّ المكشوفة على طبيعتهنِّ بلا تكلُّف. تكَهُّناتهنَّ ذهبت بهنَّ مذاهب
بعيدة التَّفكير كلَّ البُعد، بتحليل وضع "نبهان" المشغول بشيء
عظيم.
حصر
بذهنه خمسة بُيوت مرَّ بها على فترات مُتباعدة، على كُلِّ حالٍ ليست ببعيدة عن (البنسيون)،
جميعها لا تتعدَّى منطقة المُخيَّم بمسافات مُتباينة، ما لفتَ اِنْتباهه: المكتبات
فيها، لم تمتد لها يد التعفيش، ولا في مرحلة أخرى من الباحثين عن الأشياء في
البُيوت الخالية، هناك أشياء كثيرة ونافعة من المُمكن أن تُباع وتُشترى؛ ففي وقت
الحرب من الذي سيشتري كتابًا؟. مثلًا، لو تُباع الكتب مع أصحابها..!! لما تردَّدوا
ببيعها من أجل ربطة خُبزٍ؛ لإسكات جوع البُطون الخاوية، أو ليتر مازوت لمقاومة
البرد، أو شمعة لِتُضيء المكان.
تكرَّرت
صباحات البحث الطَّويل في خمس مكتبات ضخمة، تركها أصحابها نهبًا للأيدي العابثة،
أو بانتظار المحرقة والفناء الكامل. عملٌ بطيءٌ على مدار خمسة أيَّام يستغرق من
"نبهان".
التأنِّي
بمطالعة عناوين الكتب، عادة ما يقع العقل
البشريِّ عاجزًا أمام الظواهر الطبيعيَّة الخارقة للعادة، خارج نطاق المألوف منها، ولا يتوقَّف عجزه
أيضًا أمام تقنيَّات العصر، بل سيُضاف للعجز إعلان الجهل، وهما طريق اللّاَ جدوى
من الوجود بأكمله.
خَلْوَتُه
في غُرفته لم تكُن إلَّا عَمَلًا صامتًا؛ للاطِّلاع على مقاطع (اليوتيوب)، فيما
يخصُّ موضوع المخطوطات القديمة ذات القيمة العلميَّة والتَّاريخيَّة، والكُتب
القديمة المطبوعة مع بداية دُخول المطبعة إلى مصر والبلاد العربيَّة.
سمَّاعة
الموبايل مُعلَّقة من طرفيها في أذنيْه، والآخر مشبوك بفتحة الموبايل، تكاملت الدَّائرة؛
لتُتيح له الانفصال التامّ على محيطه، تجنُّبًا للتشويش وإضاعة ولو معلومة صغيرة
لها فائدة كبيرة في مجاله الجديد.
حدَّث
نفسه، وراح يُردَّد في سِرِّه:
-"الآن
فهمتُ بعد شرح من أحد المُختَّصين بتاريخ الوَرَّاقين والكُتب المصريِّين، فقد
سهَّل عليَّ ممَّا عرفته، وتعلمَّته منه، ومن غيره في هذا المجال، تمنيَّتُ عندها،
لو أنَّني أستطيعُ إجادة القراءة بسُهولة، كِدْتُ أقدُمُ على حماقة شَتْم والدي،
لكنَّني اِكْتفَيْتُ بتوجيه اللَّوم له: آآآه..!! لو تركني في المدرسة؛ لإكمال الصفِّ
التَّاسع على الأقلِّ، سامحكَ الله.. لماذا كُنتَ مُتعجِّلًا عليَّ لِدَفني في
العمل..!!.
المُهمَّ
أن لا وقت لِلملامة الآن، ولا لتحصيل الحقوق، ببركة (الموبايل واليوتيوب) أستطيعُ
البحث عمَّا أريد؛ فهو نافذة فتحها الله لي للمعرفة الضروريَّة، لم يخطر ببالي
هكذا أشياء قبل هذا الوقت، وعرفتُ أنَّ الكُتب القديمةُ، ذات الورق الأصفر، وعلى أطرافها الحواشي، المطبوعة في هاتيْن
الأقدم في عالمنا العربيَّ، وما يهمَّني هو تاريخ طبع الكتاب، والأروع إذا كان الكِتاب
بطبعته الأولى؛ فهو المطلوب.
فلن
أتردَّد في حمل أيِّ كتاب من طباعة مطبعة (بولاق)، أو (المطبعة
الأميريَّة)، وهي أوَّل مطبعة رسميَّة حُكوميَّة في مصر،
التي أنشأها "محمد علي باشا" والي مصر عام 1820، وتُعتبَر أوَّل
مطبعة صَنَعتْ نقلة نوعيَّة، ومعرفيَّة للعلم في الوطن العربيِّ بأسره.
و(مطبعة
مصطفى البابي الحلبي) في مصر، ويعود تاريخها إلى
منتصف القرن التاسع عشر ميلاديٍّ. مقرَّها الأساسيِّ قرب الجامع الأزهر،
تعود أوليَّة المطبعة إلى "أحمد الحَلبيِّ" الذي هاجر من حلب في سوريَّا
إلى مصر، وأسَّس فيها سنة 1859م (المطبعة الميْمنيَّة)، والتي أصبحت
معروفة فيما بعد مطبعة (البابي الحلبيِّ).
ومن
خلال عمليَّة بحث واسعة؛ لمعرفة أسماء أوائل الكتب المطبوعة في كلا المطبعَتَيْن،
عرف "نبهان"، وحفظ عن ظهر قلب؛ ما سمعه في إحدى المقاطع عن أوَّل
الكُتُب المطبوعة، وهذا الموضوع:
-(ففي
مطبعة بولاق التَّاريخيَّة كُتُب قيِّمة، وهي (ديوان محيي الدين ابن عربي،
والذي طبع عام 1271هـ - 1854م، ويُعدُّ أحد أنْدَر الكُتب التي صُممت من حروف الخطِّ
الفارسيِّ للخطَّاط (سنكلاخ الخراساني) بشكل البحور الشعريَّة، بالإضافة إلى كتاب (القاموس
المحيط) للفيروز آبادي، والذي طبع في عام 1301هـ - 1883م، ومجموعة فريدة من فنون
خطِّ النَّسخ، وضمَّت أولى صفحاته عبارة (ما شاء الله) بالخطِّ الكوفيِّ المُربَّع،
بالإضافة إلى الجزء السَّابع من (صحيح البخاري) طبع عام 1315هـ - 1897م.
ولفتَ
نظري كتابان مميَّزان لتدريس اللُّغة المصريَّة القديمة (الهيروغليفية) للعرب،
وهما الطبعة الأولى من كتاب (العقد الثَّمين في محاسن أخبار وبدائع آثار الأقدمين
من المصريِّين)، والذي طبع عام 1300هـ - 1882م، وكُتب عليه: (من تأليف النَّجيب
الفَطِن اللَّبيب "أحمد فندي كمال" مُعلِّم التَّاريخ واللُّغة
الفرنساويَّة، ومُترجِم "الأنتيقة خانة" المصريَّة، وناظر مدرستها البهيَّة،
طبع بالمطبعة الأميريَّة ببولاق مصر المحميَّة)، أمَّا الكتاب الثاني الذي لفت
الأنظار فهو (الفرائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية)والذي طُبع عام 1303هـ -
1885م.
وفي مطبعة " مصطفى البابي
الحلبي" هناك طبعات خاصة من المصحف
الشَّريف، وكتب التفسير، وكتب صِحاح الحديث الشَّريف، والفقه، وهي
أوَّل من طبع تفسير القرآن الكريم للطَّبريِّ، و(إحياء علوم الدِّين للغَزَّالي)،
وكتاب (المِلَلْ والنِّحَل –
للشَّهرستاني)).*منقول عن مصادر الأنترنت.
الدَّهشة
أذهبت عقله، ورغبته بالمعرفة ليس من أجل العلم، بل كانت وسيلة لجلب المال. على
كُلٍّ أظهَرَ قابليَّته للتعلُّم لو وَجَد فُرصَة حقيقيَّة، أو اِضْطرَّ قَسْرًا.
لكنَّ
هذه المعرفة لن تُبدَّلهُ؛ ليصير إنسانًا يحمل إنسانيَّته وشفافيَّته، ستبقى أحلامُ
الثَّراء تُداعب خياله، و عنده(الغاية تُبرِّر الوسيلة)، لا شيء أمامه في
طريقه يستنير به إلَّا تفكيره فقط. ويُتابع حديثه لنفسه:
-"علمٌ
بعد جهل أدخلني في عوالم، لم أكُن لأحلم بها مُجرَّد حلم بعيد المنال، ولا كان من
الممكن الدُّخول في باب غريب من خلال الكتُب القديمة والمخطوطات، والآن الموضوع سَهْل
المنال قريب من يديَّ، من الغد الباكر، ستكون الانطلاقة الأولى والأخيرة في حياتي،
وبعدها ستكون المرحلة الثانية؛ لبناء ذاتي مُتكامل الأدوات، وتحقيق أغلى حُلُم في
أن أُصبِح رجل أعمالٍ، على درجة من الأهميَّة تفوقُ مكانة مُعَلِّمي صاحب محل
الأحذية، ويُضاف اِسْمي إلى كبار تُجَّار "سوق الحريقة" بعد اِنْتهاء
الحرب، وتعودُ الأمور إلى سابق عهدها، وأخرجُ من قبضة (أبو حيدر)اللَّعينة،
ومن تحت رحمته.
لا
أحبُّه ولا أطيقُ ذكر اِسْمه القبيح، ولا رُؤية وجهه الشَّيْطانيِّ، لا خيارات
بديلة بين يديَّ على الأقلِّ في الوقت الحاضر، ولا حيلة لي إلَّا بالاِنْحناء أمام
العاصفة حتَّى تمرَّ، لكي لا تقتلعني من طريقها، وأصير كَرِيشة في مهبِّ الرَّيح،
تتقاذفها تيَّارات الهواء؛ لِترميني إلى المجهول، ولا أعرف أين سأكون ساعتها. لا
يجمعني به سوى المصلحة المُشتَركة بيننا والمنفعة من علاقتي به، وتسهيل أُموري".
..*..
(56)
المعرفة
قيمة عظيمة للإنسان لاستشعار وجوده، المعرفة والجهل عَدُوَّان على طرَفيْ نقيض لا يلتقيان،
إذا حضر أحدهما اِنْحسَر الآخر واِنْكمَش، بقدَر تقدُّم المعرفة يتراجع الجهل.
الموضوع
مثير بكافَّة تفاصيله الجديدة كُليًّا لــ "نبهان". الانبهار بموضوع الكتب؛ فعظُمَت قيمتها
المعنويَّة بنفسه، غير مُؤمن بفائدتها إلَّا إذا بيعت بمزادات، ودخلت أثمانها إلى
جيبته.
على
مدار أيَّام من البحث فيما بين الأوراق، والكُتُب تحصَّل على حوالي عشر كُتُب
قديمة مؤرَّخة بتواريخ قديمة أقلّها قبل خمسين سنة، نَفَض غُبار النِّسيان عنها،
ونظَّفها بعناية خاصَّة، وقام بتدوين أسمائها، وتواريخ طباعتها على ورقة خارجيَّة
بِخَطِّه السيِّئ جدًّا، ولم ينس أيضًا من أيَّة طبعةٍ، لكنَّ معظمها كانت بطبعتها
الأولى، ما عدا ثلاثة منها من الطَّبعة الثَّانية.
جولتا
اليوم الأوَّل والثَّاني في مكتبتيْن خاصَّتيْن، ما زالتا على حالهما، من الغرابة
أنَّ يدًا لم تمتدَّ إليهما. طموحه الحُصول على أيِّ كتاب، أو ورقة بخط يد، لأنَّه
سيكون الثروة الحقيقيَّة.
وكلُّ
كتابة بخطِّ اليد، أو مطبوعة بالمطبعة، أو بآلة كاتبة على أيَّة ورقة، ومضى عليها
ثلاثون عامًا فما فوق، تُعامَل على أنَّها وثيقة.
تذكَّر "نبهان" أنَّ جميع من
دخلوا هذه البيوت قَبْله، تناولوا الأدوات الكهربائيَّة على مختلف أنواعها،
والأثاث من غُرَف النَّوم، والسجَّاد بكافَّة أنواعه، وأطقُم الكَنَبِ.
الطلب
في الأسواق على شرائها، منهم من يُتاجر بها يشحنها من مناطق الحرب إلى المناطق
الهادئة، ومنهم من يستغلُّ الفُرصة لتأثيث بيْته بأثاث فاخر بأسعار زهيدة، مقارنة
فيما سبق بأسعارها في المعارض والأسواق.
ما
بعد الظُّهر، وقُبيْل العصر عاد "نبهان" والغُبار يعلوه، والتَّعب
ظاهر على ملامح وجهه، وبتثاقُل ينقل خطواته، عند عبوره صالون (البنسيون)، مُخترِقًا
جلسة البنات العامرة، توقَّفت أحاديثهنَّ الثُّنائيَّة. كلُّ اثنتيْن تتحادثان مع
بعضهما.
سمع
قبل دخوله ضحكتهنُّ الجماعيَّة بسبب نُكتَة، لم يعرف من التي قالتها منهنَّ،
لكنَّه توقَّع أنَّ صاحبة النُكتة "سيرا" المُتفوِّقة بِنُكاتها
السِّكْسِيَّة، ولا تتحرَّج إذا كان الشَّباب بينهنَّ. روايتها للنُّكات مُشوِّقة،
وكثيرًا ما يطلبون إعادتها ثانية للانغماس بنوبة ضحك أخرى.
قلَّما
أن تخيب توقُّعات "نبهان"؛ عندما صَمَتْن؛ طالب بإعادة النُّكتة؛
فاِنْبرت "سيرا" تقولها بعد أن سحبت نَفسًا عميقًا من بربيش
الأرجيلة (الشِّيشة)؛ فنفخت سُحُب دخان مُعسَّل التُّفَّاح بوجهه؛ لأنَّها تعرفُ
جيَّدًا حُبَّه للمعسَّل بالتُّفَّاح؛ اِسْتنشق بطريقة التَّحْشيش بعُمقٍ لافتٍ
للنَّظر؛ بدا كمُتعاطٍ محرومٍ منذ زمنٍ لسبب ما، كاد أن يستحوذ على جميع السُّحُب،
ولم يفلت منه إلَّا أقلَّ القليل، ثمَّ أخرج زفيره المكتوم بغُبار الكُتُب. نسي أن
يضحكَ عندما انتهت النُّكتة.
ولإخراجه
من حالته، أو قاصدة إحراجه، تحرَّكت دواخلها بغضب مُفاجئ اِستطاعت كتمانه بمهارة،
وأطلقت اِبْتسامة صفراء؛ لترطيب الجوِّ للإيحاء بأنَّ الأمور طبيعيَّة. الانتقام
طبيعة البشر ذوي المُيول المُنحرفة، تحرَّكت بسؤال بمثابة صَفْعةٍ حَنونةٍ، مع
أنَّها كانت قويَّة جدًّا:
-ما
الذي تحمله معكَ في الكيس. (على النُّصِّ بَيْنِي وبَيْنكْ)؟.
بحُسن
نيَّة وبلا تروِّي أو تفكير، رغم علامات الحيْرة والإحراج لم يتردَّد بالإجابة:
-مجموعة
كُتُب.
-أعرفُ
أنَّكَ لا تقرأ، على ما أذكُر أخبرتني: أنَّك لم تصِلْ إلَّا للصفَّ السَّادس،
بالكاد تعرفُ كتابة اِسْمكَ، ولا تحفظ أكثر من جدول الضَّرب، إلَّا إذا حفظتَ
الفاتحة في صِغركَ عن طريق الخطأ، أو قد أجبركَ والدكَ عليها غَصْبًا عنكَ.
تصفيق
وصفير وضحك.. وكأنَّ "سيرا" نكَّتَت نُكتة أخرى. أحسَّ بالإحراج
لضعف موقفه أمامهم، ولم يستطع اِسْتحضار ردٍّ مُناسب، فقال:
-
لا والله، اِشْتريْتهم من شخصٍ أغراني بسعرهنَّ الرّخيص، تقريبًا بسعر التُّراب
وأخو البَلَاش، أخبرني أنَّ لهنَّ قيمة ماديَّة، ولكنَّ ضرورة حاجته الماسَّة
للمصاري؛ ليشتري بثمنهنَّ دواء لابنته المريضة في البيت منذ يوميْن، تتلوَّى بين اِرْتفاع
درجات حرارتها، وتناوبات الحُمَّى. الله يكون في عونه.
بخُبثٍ
قالت "فايا":
-ممكن
يريد أن يعمل دورة محو أميَّة؛ فأنا على اِسْتعداد لعمل دورة مُكثَّفة له، وخلال
ثلاثة أشهر؛ سيصبح قادرًا على القراءة في هذه الكُتب، ولو أراد الاِسْتزادة؛
فسأعلِّمه مبادئ الفلسفة، وهذا تخصُّصي الجامعيِّ، درسته على مدار خمس سنوات ضمن
سنوات الرُّسوب، لسوء حظِّي لم أُكمِل السَّنة الرَّابعة، أنهيتُ الثَّالثة فقط،
ولو أُتيحت لي الفُرصة مُستقبَلًا؛ سأكُمل بكلِّ تأكيد.
أشارت
"لارا" بيدها مُلوِّحة؛ لتبديد تجمُّع الدُّخان من أمام وجهها،
لترى بوضوح وجه "نبهان"، وأحبتَّ الدُخول في موجة مُداعبته،
بكلام رقيق:
-يعني
يا سيِّد "نبهان" لو أُتيحت لكّ فُرصة التَتَلْمُذ على يديِّ
"فايا"؛ مُؤكَّدٌ أنَّكَ ستُصبحُ فيلسوفًا؛ لتبني المدينة
الفاضلة مثل أستاذها "أفلاطون".
ضحكت
"سيرا" هازئةً مازحةً:
-شو
تترجَّى من فاشلٍ، وكيف لفاشل تعليم جاهلٍ..!!.
لم
يتمالكا نفسهما بتجاهُل سخريتها الواضحة، قليل من النَّاس من يمتلكون سُرعة
البديهة بالرُّدود السَّريعة المُسكِتَة. ميَّزة الأذكياء يتفاعلون مع محيطهم
بمهارة حذِرَة، بكلمة واحدة خرجت من فم "نبهان"، وفم "فايا"،
كأنَّهما ثُنائيّ (دُوِّيتُّو). قالا:
-الله
يسامحكِ يا "سيرا"، لماذا تضربينَنا بِحَجَارتكِ، وهل نستحِقُّ
ذلك فِعْلًا..!!.
ردَّت
بكلمة مُترافقة مع إطلاق ضحكتها من العِيار الثَّقيل:
-وهل
أقول غير الحقيقة..!!؟.
"نورما"
لم تكُن تنوي المُشاركة بالحديث العابر؛ طبيعتها قليلة الكلام في المجالس
المُشتركة، على خِلاف طبيعتها النِّسائيَّة. المُستمِع الجيِّد مُتحدِّثٌ جيِّد يُنصتُ
بمهارة. قادر على تحليل المواقف، من خلال رُؤيته للمشهد بطريقة مُختلفة بأسلوب
عقلانيِّ، غالبًا ما يتميَّز بالحكمة والوسطيَّة؛ فقالت:
-الحقيقة
قاسية، وهي أصعب من حدِّ السَّيْف.
تابع
"نبهان" خطواته إلى غُرفته، لا يدري أحدٌ منهنَّ؛ أنَّه اِبْتلع
الإهانة عن طيب خاطر وتسامُح، أمْ سَيرُدُّ على طريقته في المكان والزَّمان
المُناسبيْن؟.
تركَ
خلفه مَعْمَعَة البنات الغارقات في هُمومهنَّ، ومرحهنَّ، ولَهْوِهِنَّ. جلسة
نادرة، غالبًا ما يمرُّ الأسبوع والاِثنان وأحيانًا الثلاثة، ولا يلتقين للترويح
عن أنفسهن، وتفريغ شُحُناتِهنَّ الغاضبة من الوضع عمومًا.
الثرثرة
كلمة ثقيلة على السَّمع، لأنّها غالبًا بلا فائدة، وفي مرَّات ضارَّة، من الأفضل
لو كانت فضفضة من أجل خاطر البنات، تكوين الكلمة موحٍ بتفريغ أيَّة شُحنة ضيق
مُلمَّة بالنَّفْس، وتشترك الكلمتان بقاسم مُشترَك هو التسلية.
من
غير المعلوم مَنْ مِنَ البنات التي أرسلت إلى المعلَّم (أبو حيدر)، فقد
وصله مقطع صوتي على الواتساب، عندما سألته "سيرا" عن الكُتُب،
ورسالة أخرى كتابة:
-"نبهان
رجع المساء، ومعه كتب قديمة، أوَّل مرة بشوف هيك شغلة". من المُتوقَّع أنّ (أبو حيدر) قال كلمته الشَّهيرة،
التي لا تغيبُ عن أيِّ موقف أو قصَّة، فور قراءته وسماعه للرِّسالتين.
-"العَمَى
بِعيونَك.. العَمِى.. شو إنَّكْ كِرْ).*"كِرْ: هو الجحش صغير الحمار".
"أيمن"
في غياب مُعلِّمه، يبقى عادة في (البنسيون)
لاهيًا ببعض الأعمال المُكلَّف بها، هذا اليوم أنجز ما هو مطلوب، وجاء للجلوس مع
البنات، يُحبُّ البَصْبَصة على أجسامهنَّ بخجلٍ.
"سيرا"
أحسَّت بنظراته المُسْتَرَقة بخفاء، وعلى اِسْتحياء هيَّجت عاطفتها بقوَّة، لولا
خوفها من نظرة اِسْتحقار البنات لها، حدَّثت نفسها: "آه يا "أيمن"..!!
وددتُ إدخالكَ الآن للغرفة، لإغراقك في حضني".
فجأة
صاحت به:
-حبيبي
"أيمن" خُذْ حُريَّتكَ بلا خَجَلٍ. هيَّا اِذْهب للمطبخ، وأحضر قِطَع
الفحم، اِحْذر إيذاء نفسكَ.
قام
مُمتثلًا لأمرها. بلا نقاش، بطبيعته مُطيع وهادئ، لكنَّها لاحظت في وجهه علامات اِنْكسار
ذليلة، قالت لنفسها:
-"يا
إلهي..!! تذكَّرتُ سيمات هذه الوجوه كثيرًا في المقاهي، وفي الشَّوارع، لعلَّهم
يُستخدَمون، كما يستخدم "نبهان" هذا الولد لجميع أعماله في
الخارج، وفي الفِراش".
ماهي
إلَّا دقائق من دخول "نبهان" للغُرفة، صرخ بصوته:
-يا
"أيمن".. تعال بُسرعة.
قام
مُلبِّيًا، وما إن اِنْشقَّ الباب أثناء دُخوله، حتَّى انكشف ظهر "نبهان"
أمام عينيَّ "سيرا" الجالسة كأنّها قاصدة أن تترصَّده داخل غرفته،
حتَّى إذا ما اِنْفتحَ الباب. كان عاريًا تمامًا.
عندما
رأته هزَّت رأسها، والغَيْرة تنهشُ قلبها على المشهد القصير، الذي لم يره غيرها
هذه اللَّحظة، ولا أحد عَرَف ما الذي يحدُث في الدَّاخل للصبيِّ..!!، إلَّا من
صوته المُتأوِّه قَسرًا المكتوم بخوف وخجل، الشَّبيه بتأوُّهِهِنَّ. سمعنَ جميعًا
ذلك.
بعد
عشرة دقائق. خرج "نبهان" رابطًا المِنْشفة السَّوداء بإحكام،
يلفُّها على وَسَطِه إلى الحمَّام. الصبيُّ لم يخرج ثانية من الغُرفة، لِيُتابع
بشغف الجلسة العامرة النَّادرة في مثل هذه الأوقات. ..*..
(57)
لليوم
الثالث على التوالي ما زال البحثُ مُستَمِرًّا، ولتحقيق الأحلام تحتاج لدفع
الثَّمن. وعلى رأي الشَّاعر:
(لا
تحسَبِ المجْدَ تَمرًا أنْتَ آكِلُه\\ لن تبلغَ المجْدَ حتَّى تَلْعَق الصَّبْرا).
أمام
"نبهان" هذا اليوم أو غدًا على أكثر تعديل؛ لإنهاء مُهمَّة بحثه
الشَّاق بنفسه، لا يستطيع المُخاطرة بإدخال أحدٍ معه في هذا المجال، مشروع ثراء
مُنتَظر قريب من يده، وأمام عينيْه.
عند
المهمَّات الصَّعبة لا وقت للتَّفكير على مَهْل، لا بدَّ من اِنْتهاز الفُرصة
بالأخذ بزمام المُبادرة، ولو أمكن خَطْفها خطفًا، بكلِّ الأحوال يُفضَّل ذلك.
مع
أوَّل اللَّيل من اللَّيلة السَّابقة،
غطَّ بنومٍ عميقٍ أحسَّ بِخَدَر كَتِفِه وجانبه الأيمن بأكمله، كأنَّما جسمه خشبة
تيبَّست بفعل عوامل الطَّبيعة، أحسَّ بأرتال النَّمل تمشي على ذراعه، اِمْتدَّت
يده اليُسرى لِلهَرْش والحكِّ بقوَّة، لم يكُن هناك لا نَمْل ولا صراصير، تأكَّد
من الوَخْز داخل ساعده الخَدِر، اِعْتدل جالسًا بالفِراش، تمطَّط بأعضائه كَقِطٍّ
نام طويلًا، شدَّ أعصابه خفَّت حدَّة التَّنميل، شعر بجفاف ريقه، وبرغبة إفراغ
لمثانته في الحمَّام، سَحَب (الموبايل) من تحت وِسادته، أضاءت الشَّاشة، والسَّاعة
تُشير للثالثة فجرًا.
ما
زالت الهمهمات تتواتر أصداؤها من غُرفة "سيرا" الأقرب إلى
غُرفته، هدوء (البنسيون) مُطلَّق في هذه السّاعة المُتأخِّرة، الهمسات والهمهمات.
سيصل صداها مدى يتجاوز آذان أصحابها، تحدَّث لنفسه:
-يا
إلهي..!! هذه المنحوسة ما الذي تفعله في مثل هذا الوقت، لا أعرف إلَّا هي و"نورما"
تنامان معًا، هل من المعقول أن تكون قد أدخلت أحدًا إلى (البنسيون) بدون عِلمي؟، واِسْتغلَّت
نومي مُبكِّرًا..!!".
أثاره
التَّفكير بالموضوع، قام يمشي حافيًّا على رؤوس أصابعه بحذر شديد، جلس على حافَّة
الكَنَبة المُلاصقة لباب غُرفتها، ألصقَ أُذُنه في أقرب نقطة يتوقَّع منها سماع
أيِّ شيء.
صمتٌ
مُريب على مدى خمس دقائق لم يسمع شيئًا، من جديد اِنْطلقَ صوت اصطفاق جِلْد بِجِلْد،
تنبَّه وتيقَّظ جيِّدًا، لا يستطيع اِقْتحام
الباب مهما كان الظَّرف، ولا يجرؤ على سُؤالها عمَّا كانت تفعل طوَال اللَّيل،
حركة مُفاجئة أوقعت غرَضًا على الأرض، صدر صوت مَصْمَصَة الشِّفاه.
فقال
لنفسه:
-"فهل
اِرَتشفْنَ الرُّضاب الذي يقولون عنها..!! وهل إذا تماثلت امرأة مع امرأة بممارسة
الحُبِّ يُعَدُّ رُضابًا، أمْ يجب أن يكونا مُختلفيْن. رجل مع امرأة مثَلًا؟".
بوتيرة أعلى وَصَل لأذنيْه الغَنجُ الثُّنائيُّ
المُثير؛ مَدَاه منهنَّ بآنٍ واحد معًا خارج الغُرفة:
-"حبيبتي
"نورما" ناوليني الموبايل سقط على الأرض. –لحظات
فاصلة، صوت تقبيل عنيف أعقب سُقوط الموبايل- "نورما" أحبُّكِ..
أنتِ هديَّة الرَّبِّ لي، تعبتُ كثيرًا قبل مجيئكِ، دعينا نرتوي من بعضنا، دعينا
نَثْمَل ولا نصحُو أبدًا، اِرْتواء الأجساد العَطْشى للحُبِّ فُرصة نادرة لا
تُعوَّض".
تركَ
مكانه بعد تأكُّده، وعاد إلى غُرفته بحذر أيضًا:
-لا
أحد هُناك.. لا غُرباء أبدًا، ليس إلَّا هذه السُّحاقيَّة الشَّاذة، وصديقتها التي
ما زالت معرفتي سطحيَّة بها، لكن ما الذي يحصل، هل يُعقَل أنَّ "سيرا"
جرفتها بتيَّارها القويِّ؟، ما أعرفه أيضًا أنَّ "نورما" اِمْرأة
ترمَّلت حديثًا عندما فقدَتْ زوجها باِشْتباك الحاجز، وهي مُعلِّمة في المدارس،
ومُربِّية أجيال، عقلي لم يستوعب ما يحصل على الإطلاق، لكن لا غرابة في ظروفنا غير
الطَّبيعيَّة الحاليَّة".
اِنْهالت
عليه الأفكار تتوالى من كُلِّ حدَبٍ وصَوْبٍ، شرَّقت وغرَّبـت به، فروغ جَفنيْه من
النُّعاس، عَبثًا حاول العودة للنَّوم على مدار ساعتيْن أو ثلاث، مع بُزوغ أوَّل
خيوط النَّهار؛ داهمه شعور بالإرهاق، ورغبة بمقاومة النُّعاس بلا فائدة إلَّا
بالاستسلام لِسُلطان النَّوم. ذُبول عامٌّ يصرخ بـ"نبهان"
للاستجابة لاسترخاء العضلات المُنهَكَة، والخُلود للنَّوْم لساعات، لم يكُن بُدٌّ
من ربط جَرَس التَّنبيه في الموبايل على الثَّامنة.
ما
إن فتح باب غُرفته قاصدًا الحمَّام؛ ليلمح وجه "سيرا" المعكَّر
وهي عائدة من الحمَّام؛ كأنَّها خارجة من عِراكٍ عنيف، لاحظَ بُقعة حمراء على
عُنُقها، عندما اِسْتدارت إلى اليمين باتِّجاه باب غُرفتها، رشقته بابتسامة
مُعقَّدة، لم يستطع فَهْمَها على أنَّها اِبْتسامة الصَّباح، بل أثارت قَرَفًا في
داخله، وهو يراها حركة تمثيليَّة جامدة بلا معنى؛ فردَّ عليها تحيَّة الصَّباح
المُعتادة؛ إذا ما تصادفوا في مثل هذا التوقيت:
-يسعد
صباحك يا جميل. (من ويَنْ الله جابَكْ).
عندما
أغلقت بابها بضربة قويَّة من يدها، سمعه، وهو يُغلق باب الحمَّام، ثمَّ جاءه صوتها
من داخل غُرفتها؛ تُناديه:
-يا
"نبهان" سأعملُ قهوة، هل
أحسِبُ حسابكَ؟.
وصلها
صوتُه ضعيفًا مخنوقًا من الحمَّام:
-نعم.
-طيِّب،
سيكون جاهزًا بعد خروجكَ من الحمَّام، وتجهيز نفسكَ، تعال نشرب هُنا في غُرفتي.
-حاضر.
كأنَّ صوته مكتوم قادمٌ من بئر عميقة، سمعته، وهي تهزُّ رأسها.
..*..
(58)
إيشارب
شفَّاف مُقصَّب الأطراف، رِباطٌ شبيه بربطة العُنُق (الكرافيته)، لكنَّه ملفوف على
عُنقُها بطريقة فنيَّة؛ ليُخفي تشويهًا مطلوب إخفاءه عن الأعيُن، يتدلَّى رأساه
على صدرها حتَّى أعلى فتحة قميصها الأبيض، اللَّوْن الدَّائم المُفضَّل لديْها.
منظرها
باهرٌ، وجه صَبوحٌ مُدوَّر مُشرَّب بحُمرة الخدَّيْن، والشَّفتين المُكتنزتيْن،
والشَّعر الملفوف بعناية لأعلى خلف رأسها، البُكلة المُذهَّبة (الفيونكة) تُمسكه بعناية،
خُصلة من الغُرَّة تتأرجح على جانب وجهها من جهة البُقعة الحمراء.
ببركة
المكياج وألوانه اِكْتمَل بهاؤها المُعتاد؛ اِخْتلفَت بمئة وثمانين درجة عمَّا قبل
نصف ساعة، عندما مجيء "نبهان"؛ لتلبية دعوتها باِحْتساء قهوة
الصَّباح، كان الباب مفتوحًا جُزئيًا بمقدار عشرين سنتمتر، حاول إرسال نظرات
مُتلصِّصة عبر فُتحة الباب، للمرَّة العشرين فَشِل في اِقْتناص لحظة يضبطها فيه
عارية، يتمنَّى لو أنَّها تنسى الباب مفتوحًا سَهوًا أو قَصْدًا.
عيناها
مُصوَّبتان نحو الباب. جالسة على كُرسيِّها خلف الطَّاولة وسط الغُرفة، وسيجارتها
الـ ((KENT تنتصبُ بين شَفتيْها
بانتظار إشعالها, رنين
نبرتها الغانجة بِلَوْيِ لسانها بالكلام؛ أشعلَ قلبه:
-تفضل
سيِّد "نبهان"، فنجانكُ ينتظركَ، غطَّيْتُه لكَ بالصَّحن؛ ليبقى
ساخنًا، صباحي مُميَّز اليوم على خلاف أيَّامي السَّابقة، سعيدة بكَ، وبتلبية
دعوتي.
اِسْتقبَلَته
"سيرا" بكلام رقيق؛ لتتأكَّد من تطييب خاطره من كلامها بالأمس،
لم تعتذر منه عَلَنًا، ولا الآن. يبدو ترحيبها بهذه الطريقة بمثابة اِعْتذار
ضمنيٍّ غير مُعلَن.
-من
قلبي أُحيِّيك سيِّدة "سيرا".
-لا
أُحبُّ الرَّسميَّات فيما بيننا، كلمة سيِّدة لا أطيقها. "سيرا"
أجمل اسم في الدُّنيا، وكم أطرب، ويتراقص قلبي فرحًا، وأنا أسمعه على ألسنة
النَّاس يُنادونني به..!!.
-وأنا
مثلكِ لا أطيقُ الرَّسميَّات، ولكنكِ أنتِ بدأتِ بكلمة سيِّد.
ضحكتها
دَوَّت في أرجاء (البنسيون) وصلت للقسم الثَّاني، وربَّما أزعجت "محمود"
وأَجْفَلته من نَوْمه، وقالت:
-والله
بالغلط يا حُبِّي.. لا تُؤاخذني بالله عليكَ.
وضعتْ
فُنجانها على الطَّاولة، ووقفت تتهيَّأ؛ فأسرع باِرْتِشاف الكميَّة المُتبقِّية
بفُنجانه دُفعة واحدة اِضْطرارًا، وسألها:
-متى
ستذهبين لعملكِ؟.
-الآن.
-جميلٌ
جدًّا، سنخرجُ معًا.
لم
تطل جلستهما لأكثر من رُبْع ساعة، و"نورما" متدثِّرة بكامل جسمها
تحت اللِّحاف، لم تكُن نائمة، ولا باستطاعتها إخراج أيِّ عضو من جسمها، لا تُطيق
كشف جسمها أمام الرِّجال أبدًا، لأسبابها الخاصَّة بها. أغلقت "سيرا"
الباب خلفها.
ما
إن اِبْتعدا بخطوات قليلة نحو باب (البنسيون) الرَّئيس، حتَّى نهضت "نورما"
مُسرعةً لِقَفْل باب الغُرفة من الدَّاخل؛ لتعود لنومها باِطْمئنان. توادعا عند
مدخل العمارة، وذهب كلَّ واحد باتجاهٍ مُغايرٍ للآخر.
..*..
(59)
اِهْتدى
"نبهان" بعد الانتهاء من فرز الكتب، وأخذ الأهم منها بداية، إلى
فكرة البحث عن مُشتَرين مُحتمَلين، ليبيعهم جميع الكُتب في المكتبات التي وجدها،
لا أحد يُنافسه عليها، سيعمل بتأنٍّ، وبلا تَعُجُّلٍ، قرَّر تركها في أماكنها
الآمنة؛ كي لا يتكبَّد المصاريف الباهظة، وتعبًا إضافيًّا بنقلها، وإعادة نقلها
ثانية عند بَيْعها؛ لتسليمها للمُشتري.
فوجئ
بحجم المكتبة الضَّخم، وبكميَّة كُتب تُعادل المكتبيْن اللَّتيْن زارهما البارحة،
وانتهى من تفتيشهما، خالجته شُكوك مُقلقة بعدم تفتيشه بدقَّة قرّر العودة ثانية
لهما، اِعْتقدَ أنَّه نَسِيَ أشياء مفيدة، فقال لنفسه:
-"على
كُلٍّ في الإعادة إفادة، ولن أخسر شيئًا، الوقت معي، ولستُ مُستعجِلًا على إنجاز
شيء مطلوب، ولا مُرتبط بموعد مُحدَّد".
لليوم
الثَّالث على التوالي، البحثُ ما زال جاريًا على قدم وساق، همَّة ونشاط "نبهان"
دافعاه لمتابعة مشروعه بدأبٍ وصبرٍ وأناةٍ، بلا تعجُّل، وعلى رأيه:
-"من
الأفضل نُضوج الطَّعام على نار هادئة، لا مُبرِّر للتعجُّل، الوقت لصالحي".
وتتالى عليه اِنْهيالُ الأفكار:
"البيت
الذي دخلتُه اليوم غير الاثنيْن، اللَّذيْن كانا في اليوم السَّابق، ضخامة المكتبة
بأعداد الكتب فيها، وجدتُها من ذوات المُجلَّدات العديدة بألوانها المختلفة، يجمع
بين كُعوبِها اللَّون الذَّهبيّ، الذي كُتبَت به عناوين الكتب، وأسماء مؤلِّفيها.
موسوعات جديرة بالبحث جيِّدًا فيها ولو اِسْتغرقَت وقتًا أطول.
لم
أصدِّق نفسي أنَّني سأقع على كنز مثل هذا، وما أدهشني أكثر: كيف لم ينتبه أحد
ممَّن دخل قبلي هذا البيْت.
رَحِمكَ
الله يا شَيْخ عبد الرَّحمن، أنا على يقينٍ أنَّ أصحاب هذه الكُتُب هم من نفس
العِيار الثَّقيل الذي أنت منه؛ فرحمة الله عليهم، لنصيبي من تركتهم، واجبي
الترحُّم عليكم جميعًا، لولا اِسْتماعي للحديث بينكَ وبين مُعلِّمي في المحلِّ؛
كنتُ سأبقى على جهلي بهذه القضيَّة، ومن غير المُمكن أن تمرَّ علي مرَّة أخرى،
ومثلما لم تلفت هذه الكتب اِنتباههم، لا شكَّ بأنَّها لن تلفتَ اِنْتباهي
مثلهم".
عاد
مساء من جولته مُحمَّلًا بكرتونة مُتوسِّطة الحجم على كتفه، تُعادل ضِعْفَيْ
الكميَّة الأولى من الكُتُب والأوراق. حسب تقدير "لارا" التي
لمحت "نبهان" من الخلف، على بُعْد خُطوة من باب غُرفته قبل
دُخوله إليها؛ فكتبت رسالة فوريَّة على (الواتساب) للمعلِّم (أبو حيدر)، لم
تتجمَّع كافَّة الخُيوط بيده كاملة؛ ليُصدر أوامره لأحد بالتحرُّكِ للانقضاض على
"نبهان"، الذي أخفى هذا الموضوع عن المعلِّم، لأمر في نفسه، حسب
تفكيره:
-"ستكون
هذه صفقة العمر، وبعدها سأصعدُ للقمَّة، وفي القريب سأبني مُستقبلي، وسأغادر هذا
المكان إلى أيِّ مكان آمن أكثر".
تكرَّر
البحثُ، والتَّصنيف في المرحلة الأولى على مدار أسبوع، حتَّى تكاملت عند "نبهان"
مجموعة من الكتب المطبوعة، والمخطوطة باليد مع بعض الأوراق المكتوبة بالرِّيشة
والقَصَبة.
..*..
(60)
لم
يكترث بخبر اِخْتفاء "نورما" المفاجئ، ومن غير سبب واضح أجمعْنَ
على عدم توقعهنَّ لأيِّ شيء، أبْدَيْن قلقهنَّ على مصيرها المجهول، ذهبت ولا أحد
يعرف شيئًا، ولم تترك أثرًا خلفها، أو دليلًا على مكانها إن اِخْتفت بإرادتها،
اختفت واختفى أيّ اتِّصال بها مع إغلاق هاتفها، هذا إنْ لم يكُن اِخْتفاء قسريًّا
لسبب غامض، ربَّما اكتشفوا شيئًا من خلفيَّتها.
من
أين جاءت، ولمصلحة مَنْ تعمل؟ أو أنَّها تُخفي معلومات خاصَّة بالإرهابيِّين، أو
أنَّها تقوم بجمع معلومات لهم، يعني من المُمكن أن تكون جاسوسة لهم مثلًا؟".
بتساؤلاتها الكثيرة لـ"نبهان".
القلق واضحٌ عليها، أعصابها مُتوتِّرة، لم
تتخيَّل أنَّها ستفقدها بهذه السُّرعة التي قدمت بها قبل أسبوعيْن. عند عودتها مساء
اليوم الثَّاني مُناوبتها في اللَّيلة الماضية، بنفس اللَّيلة لاختفاء صديقتها
وحبيبتها. تابعت:
-يا
"نبهان"، مشان الله تشوف لي حلًّا لهذه المشكلة.
بلا
اِكتِراث لكلامها الكثير، بَدَا مشغولًا بأمور أكثر أهميَّة من قضيَّة "نورما"
واختفائها؛ فقال لها:
-إن
شاء الله يصير خير يا "سيرا"، من الغَدِ سأبحثُ عنها بنفسي، قبل
أن تَصْحِي من نَوْمكِ وقت الظُّهر. وكِّلي الله يا بنت الحلال.
ثلاثُ
رسائل من (البنسيون) أُرسِلَت على (الواتساب) بخصوص اِخْتفاء "نورما"
إلى (أبو حيدر)، ثمَّ تَبِعَتهم الرِّسالة الرَّابعة من "نبهان"
بعدما عبَّرت "سيرا" له عن قلقها ومخاوفها.
بينما
هناك ثلاث رسائل يوميَّة مُتابِعة للموضوع الشَّاغِل لــ "نبهان".
تُرسَل من (البنسيون) لِنفس الجهة، بعدما تناقلوا جميعًا ما يحصل. وقال لنفسه:
-"فلتذهبوا
جميعًا إلى الجحيم، شِقْفَةُ حِذاءٍ عتيقٍ أحسن منكم..!!".
على
مدى أسبوع لم يخرج لأيِّ مِشْوارٍ خارج (البنسيون)، جميعهم يخرجون، وهو عاكف في غُرفته
لا يخرجُ منها إلَّا للحمَّام ويرجع بسرعة. الموضوع الذي يشغله مُهمٌّ للغاية،
وعليه يتوقَّف عليه مستقبله.
ليس
من السَّهولة بمكان الاِشْتغال بموضوع للمرَّة الأولى يخوض غماره. الاطِّلاع على
كلِّ كتاب وورقة باهتمام بالغ الدِقَّة.
لم
يعُد يهتمُّ بإعداد وجبات طعامه، بل يُوكل إلى "محمود" أو "أيمن"
بتجهيز سندويشات الجُبنة أو اللَّبْنة مع كأس من الشَّاي، يقضمهم أثناء قيامه
بالعمل، لا يُضيِّع دقيقة واحدة، ولا يتوقَّف عن ساعات العمل الطَّويلة، إلَّا في
حالة الإنهاك الشَّديد لأعضائه؛ ليخلُد للاضطجاع على سريره، والنَّوم.
حتَّى
أنِّ صديقه الحميم "محمود" يجلس عنده بالسَّاعة والسَّاعتيْن،
ولا يجري بينهما أيّ حديث، ولم يُوجِّه له أيَّة كلمة على الإطلاق، فيُصاب بالملل؛
فيتركه ويخرج ذاهبًا إلى غرفة "سيرا"؛ ليُعَزِّيها ويُواسِيها
بِفُقدانها حبيبتها.
جاءته
الفُرصة على طبق من ذَهَبٍ؛ لتحقيق طُموحه بالحُلول مكان "نورما"،
ويحتلَّ مكانها في قلب "سيرا". غامَرَ أوَّل يوم بِقَرع باب
غُرفتها للاِسْتئذان؛ حينما سمعَ كلامها لصديقه.
ما
زالت ذكرى مُداعبتها له بطريقة مُثيرة، عندما رأته لأوَّل مرَّة في (البنسيون)
يجلس بجانب "نبهان" خلف الطّاولة، والاِهْتمام الزَّائد لم يُوازِه
اِهْتمام من أحد به في حياته كلَّها،
إلَّا من والدته الذي لا يُضارعه أيُّ اِهْتمام سِوَاه.
صورةُ
صَدْرِها العامر، تناوبت عليه طوال أسبوعيْن لم تُفارق مُخيَّلته، حينما اِنْحنتْ على
الطَّاولة تُكلِّم "نبهان" المشغول بدفتر حساباته، بينما أرسلت
نظراتها إلى وجه "محمود".
تقرأ
بتمعُّنٍ قَسَماته المُحبَّبة لها حسبما أبْدَت، كأنَّما هيجانُها أجَّج رغبتها
باِفْتراسه. وسحر الخطِّ العميق بين الاِنْثناءات اللَّطيفة أغرقهُ، ظنَّه طريقًا
بين الوِهَاد سيوصله إذا اِنْزلق بداخله إلى وجهة ونهاية فريدة. هكذا هيَّأت له
خيالاته.
بعد
عمله الدَّؤوب في الأيَّام التالية للبحث في البيوت الأخرى؛ فتكاملت بين يديِّ
"نبهان" مجموعة من الكُتب والوثائق، وعلى قَدَر اِسْتيعاب ذاكرته
أسماء وعناوين بعضها.
بهدوء
تامٍّ، قال:
-سـأتَّكِلُ
على الله، والذي لابدَّ منه عاجلًا أم آجلًا لا بُدَّ منه..!!، الخُطوة الأولى
سأخطوها بثقة تامَّة، رسالتي الأولى على مجموعة (أنتيكات)، ستكون فاتحة خير.
*
نص الرِّسالة على الواتساب:
(للمُهتمِّين
فقط)
لدينا
مجموعة من الكتُب المطبوعة النَّادرة
تاريخية،
وأدبيَّة، ودينيّة. قديمة بطبعاتها الأولى، بعضها من مئة عام أو أكثر. كما
يوجد كتاب مخطوط عمره ثلاثمئة سنة، ومجموعة وثائق قديمة بخط اليد أيضًا،
وبحالة جيِّدة.
(للرَّاغبين التواصل
على الخاص)
|
عبء
اليوم الأخير قبل الإعلان على (الواتساب) كان ثقيلًا على نفسه، أخبر مساعده "أيمن"
بالاِسْتعداد للذَّهاب معه. التعجُّل دائمًا فيه ندامة، خرج مُسرعًا بلا تفكُّر
ولا تدبُّر قبل "أيمن".
أحسَّت
"سيرا" بحركة "نبهان" المُعتادة في مثل هذا
الوقت من كلِّ يوم، بينما هي تُجهِّزُ نفسها أطلَّت من فُتحة باب غُرفتِها
المُوارِب، الذي تتركُه عن قَصْدٍ؛ لِتُعطي انطباعًا: بأنَّها لم تنتبه لإغلاقه
بعد عودتها من الحمَّام.
أيقنت
من خُروج "نبهان" قبل خمس دقائق، وتبعه "أيمن"
مُستعجلًا وبِلَا وَعْيٍ ليلحق به.
سمعت
صوت خُطواته السَّريعة في الصّالة وعلى الدَّرج. أطلَّت؛ لتتأكَّدَ من حالة الهدوء
التَّام في الصَّالة، وما من أحَدٍ خرج من
الغُرَف المجاورة.
باب
غرفة "نبهان" الأقرب لها. ضحكت في سِرِّها على الفُرصة الذَهبيَّة
النَّادرة، وقُدِّمت لها أيضًا على طبقٍ من ذهب، واِعْتبرتها(رمْية من غير رامٍ)،
لم تُتعِب نفسها بالبحث عن الكُتُب والأوراق التي شغلته على مدار أسبوع كامل.
بهدوء،
وبلا ضجيج أغلقت الباب عليها، وقامت بِفَرد جميع الكُتب المقصودة على الطَّاولة،
واِلْتقطت لكلِّ واحد صورة واضحة على حِدَة، وكذلك فعلت مع الأوراق، ثمَّ أعادتها
إلى موضعها كما كانت بالتَّمام والكمال، وخرجت، بعد أن تأكَّدت ثانية أنْ لا أحد
في الصَّالة.
الحذر
واجب دومًا قانونها المُلتزمَة به، ولا تتعدَّاه حتَّى في أقصى درجات ضيق وقتها،
ومن ينوي شيئًا يتَّخذ التَّدابير الكفيلة لتحقيق مُراده.
جلست
في غرفتها على سريرها لدقائق ثلاث لا غير، رجعت لأستوديو (الموبايل)، وحدَّدت
مجموعة الصُّوَر، وعملت إرسالًا جماعيًّا للصُّور على (الواتساب) إلى (أبو حيدر)،
وإلى جهة أُخرى أعلى درجة ترتبط بها خارج نطاق دائرة (أبو حيدر).
دمعت
عيناها بعد اِنْتهاء من اِسْتخدامها لهاتفها، حينما رأت السَّرير فارغًا، الكُحلة
لوَّنت الدُّموع بالسَّواد، تناولت على الفور حزمة مناديل ناعمة، ومسحت بحذر كي لا
تُلوِّث مُحيط عَيْنيْها، ولسانها لم يهدأ بتمتمة غير مسموعة:
-أين
أنت الآن يا "نورما". آهٍ منكِ..!!. تركتيني حزينةً وحيدةً أُصارعُ
ليلي في البارحة وقبلها، أكاد أُجنُّ أكثر من مئة مُحاولة اِتِّصال على هاتفها
المغلق، لا أدري كيف وصلنا لحال كل العلاقات مُرتبطة بالتلفون، بِمُجرَّد إغلاقه
ضاع كلُّ شيء، وكأنَّ شيئًا لم يكُن قبل ذلك، لكن سيبقى القلب الحزين على ذكرى
الأيَّام التي كُنَّاهَّا معًا، الذكريات لا تنمحي إلَّا بالموت. لكن لا يهمّ مع وجود البديل، ولو مُؤقَّتًا حتَّى أعثُر على
أخرى مثل"نورما" . "محمود" رهن إشارة صغيرة واحدة
فقط، لكنَّه لا يُلبِّي إلَّا حاجة واحدة".
نقلة
نوعيَّة حصلت لــ "نبهان" من العمل كأجير في محلِّ بيع الأحذية، إلى
عالم المال والأعمال لم يكُن مُتوقَّعًا، هي الحرب. قلبت موازين المُجتمع، وأخرجت
أناسًا من أدنى القاع إلى قمَّة الثَّراء. أثرياء الحرب الموضة الجديد؛ نهضوا على
أنقاض، وأشلاء المتعوسين والمنكوبين.
كان
يجهل تمامًا أيَّ شيء يخصُّ (الهاكرز)، وتقنيَّاتهم وطرائقهم باختراق
المواقع والحسابات وأجهزة (الموبايل) والحواسيب. وعن المُراقبة والأمن السِّيبرانيِّ.
(أبو
حيدر) ابن الدَّوْلة، له صلاحيَّات بحكم رُتبته العسكريَّة المُقدَّم الرُّكُن؛
يستلم منصِبًا ميْدانيًّا كرئيس حاجر البطِّيخة الرُّباعيِّ. حالة الطَّوارئ وسَّعَت
من صلاحيَّاته بلا قيْد ولا شرط؛ لِتَطال الهواء العابر قريبًا منه، وفي نِطاقه.
الجهة
الأمنيَّة المُختصَّة سلَّمته تطبيقًا إلكترونيًّا من أجل المُراقبة والمُتابعة
باستمرار؛ يُتيح له مراقبة جميع الرَّسائل المُتبادلة على (الواتساب)، لجميع
الأرقام المُخزَّنة والتي يحتفظ بها على هاتفه النقَّال.
اِلْتقطَ
(أبو حيدر) الإعلان بسهولة، و"نبهان" لا عِلْم له بأنَّ (أبو
حيدر) عضو في المجموعة باسم مُستعار، كما أنَّ رقم واِسْم "نبهان"
يظهران في تطبيق (الواتساب) على هاتف (أبو حيدر) الخاصِّ.
أمَّا
أحد المُخبرين عضو مُتخَفٍّ في المجموعة نفسها أيْضًا؛ فقد اِلْتقط صورة شاشة
لإعلان "نبهان"، وقام بإرسالها إلى (أبو حيدر).
"نبهان"
يتحرَّك بحريَّة حسب اِعْتقاده، وأنَّه عمل ما عمل بمنأى عن الأعيُن، ولا أحد يعلم
عنه شيئًا، وفي هذه النُّقطة لم يُوفَّق بالنَّباهة بأخذ نصيبه من اسمه،
التقنيَّات في خدمة الرَّقابة سهَّلت عمل المُخبرين، بالنَّقل الفَوْريِّ
للمعلومات، وسرعة المُتابعة والتَّنفيذ.
لكنَّه
في نظرهم لا يعدو أكثر من فأرٍ يروغ في
الزَّوايا المُعتمة؛ فأينما ذهب نهايته المصيدة، وأين سيذهب؟. ابتلع الطُّعم كسمكة
تسعى إلى حَتْفِها بدافع غريزة البقاء، تنهشُ الطُّعم لِتَعْلَق في سنَّارة الصَيَّاد،
القائم على أمل ومُكابدة مَلَل الانتظار لساعات طويلة.
اِنْهالت
الرَّسائل على "نبهان" من جميع أنحاء العالم، أغلبها من العرب
المُهتَّمين من هُواة جامعي التُّحف، والتُجَّار. أسئلة كثيرة على مدار أربع عشرين
ساعة، تيبَّست أصابعه من كثرة كتابة ردوده المليئة بالأخطاء الإملائيَّة، وكان
تسجيل المقاطع الأسهل عليه، للإجابة على تساؤلات واِسْتفسارات هامَّة.
كلمة
(أبو حيدر) الأخيرة المُعبِّرة، والكلام بِخَواتيمه:
-"اِشْتَغل
كيفما يروقُ لك يا كِرْ.. ها أنتَ تُقدِّم خدمة العُمر لي من غير أن تعرف. ها أنا
أنتظر.. لستُ مُستعجلًا أبدًا على شيء..!!، بالعكس الانتظار في مصلحتي ".
..*..
(61)
هيجان
صراع المكاسب على أشدُّه وَسَط بِرَكِ
الدَّمِ، لا شيء يوقف الاندفاع أو يُبطِّئه إلَّا الموت، في مُدُن الحرب لا أبلغ
من الصمت، وحكاية البؤس فيها. الأعيُن المُنكسرة ذُلًّا تنطق به نظراتها. الوجوه
الباهتة لوحات جوع بلا أَلْسِنَة تجمَّدت خلف الشِّفاه خوفًا.
التشبُّث
بالحياة أعظم ما في حياة الإنسان على الإطلاق. رغيف الخبر المُعادِل الحقيقيُّ للحياة،
ما أصعبه من منالٍ؛ حين اِنْتزعته يدُ جائِعٍ مُشبَعٍ بالحرمان.
الأكثريَّة
المحرومة تسعى للبقاء بأيِّ ثمن، ويحتملون أحيانًا الإهانة مُبتَعدِين عن الاِصْطدام
بالجدار الصَّلب؛ ليقينهم بأنَّهم سيتحطَّمون. المطامع والمكاسب ولَّدت مُحدَثي
النِّعمة من تجَّار وأثرياء الحرب.
شعورٌ
غامض تولَّد عند "نبهان" بأنَّه مُراقب، اِنْغمسَ مع نفسه
بتساؤلات وتحليلات:
-"لكنَّني
غير مُتأكِّد من العُيون الرّاصدة لي، هناك شيء غير مفهوم يحصل من وراء ظهري، لم أفهم ما الذي غيَّر ترتيب الكُتُب، عندما
فردتُّها للتفقُّد لم تكُن كما وضعتها بيدي، أقسمُ لنفسي أنَّ هذا حقيقة أكيدة,
مُجرَّد التَّفكير بهذا مُخيف، بالنسبة لـ"أيمن" من المُستحيل أن
يفعل هذا، الأمر المقلق تقارُب "سيرا" مع "محمود"،
هل من المعقول أنَّ "محمود" قد فعلها، لا أظنُّ أن تصل به
النَّذالة هذا الموصل، آهٍٍ منك يا "محمود" عندما كُنتُ تُخبِّر
المُعلَّم عن الُمشاغبين، حين دخوله علينا في الصفِّ الخامس والسَّادس، إذ جمعتنا
شُعبة دراسيَّة واحدة، نتيجة إجراءات الإدارة لبعض التنقُّلات بين الطُلَّاب.
ما
هدف "سيرا" في هذه الفترة من اِسْتقطابها لــ "محمود".
هناك مُؤشِّر غامض عمَّا خَبَّرني به "أيمن": عن دخول "محمود"
إلى غرفة "سيرا"، ولم يخرج إلَّا بعد ساعات طويلة، لقد ضَبطَهُ
مرَّتيْن؛ السُّؤال المهمُّ، لو كان "أيمن" يكذب، من غير الممكن
أنَّه يُجيد صُنع المكائد ما زال بريئًا؛ وما هي مصلحته؟. لا أعتقد أنَّ له مصلحة
بذلك".
أثناء
عودته مساء، وعند باب عمارة (البنسيون)، صادف "نبهان" شابَّيْن
بلباسهما العسكريِّ، رَكِبا سيَّارتهما (التويوتا الدَّبْل كَمِين)، لم يكونا
حامليْن لَبارُودَتَيْهما سَلَاحهما الفرديِّ، إلَّا المُسدَّسات على خصرهما تحت
الحزام الأخضر العريض، واِنْطلقا بسرعة عالية، خلَّفت سحابة غُبار من المُتراكم
على بقايا الشَّارع منذ زمان طويل.
بعد
دقائق اِنْقشعَ الغُبار الكثيف؛ صار مدى الرُّؤية أوضح، وغابت السيَّارة قبل أن
يستطيع مُتابعة طريقها الذي سلكته. انتبه لتنفيض نفسه، وخطواته لم تتوقَّف بصعودها
إلى (البنسيون). تناهى إلى سمعه قهقهة.
-"في
أغلب ظنِّي أنَّها ضحكة "سيرا". يُحدِّث نفسه.
للمرَّة
الأولى تظهر نباهته على خلاف سوابق الأيَّام، بدا خاملًا لا يلوي على شيء حوله، لا
يبدو أكثر من مُحشِّشٍ مَسْطولٍ شارِدَ الذِّهْن طوال الوقت، يسمع ويرى بحَواسِّة
الجامدة؛ فلا تستجيب، ولا تتفاعل مع محيطه.
باب
غُرفة "سيرا" مفتوح نصف فتحة، بِنَقَرات خفيفة، جاءه صوتها:
-تفضَّل
يا "نبهان".. هيَّا تعال حَماتَكَ بِتْحِبَّكْ.
وفتحت
كيس الموالح الذي تحمله بين يَديْها، وضعته على الطَّربيزة، واِقْتربت لِتَقبيله،
لم يتردَّد أو يتراجع؛ لتولُّد شهوة مفاجئة حرَّكت رغبته بها، بل فُرصة نادرة،
لعلَّها لا تتكرَّر إلَّا بعد فترة طويلة. وتابعت:
-منذ
فترة وأنا أشتهي جلسة رومانسيَّة مع شخص أُحِبَّهُ. لا تسألني من هو؟، تأكَّد
أنَّه أنتَ يا "نبهان"، حَدْسِي أخبرني بأنَّكَ قادم.. نعم قادم
كنتُ على يقين من ذلك؛ فقلت لنفسي: أُحضِّر الجوَّ الرَّائق، خطَّطتُ لهذه
اللَّحظة منذ يوميْن أثناء مُناوبتي، واِشْتريْت الموالح والحلويَّات، من أجل
الحلو "نبهان".
-حبيبتي..
كيف ستكون حياتي من دونكِ، أنتِ هِبَة الربِّ خُصوصًا لي، تُنقذينني في اللَّحظات
القاتلة، وكأنَّك جالسة في قلبي تسمعين حديثه عنكِ.
-قلوب
الحبايب عند بعضها يا "نبهان". دعنا نرتكبُ حماقاتنا باِقْتناص
اللَّحظة، ربَّما لن تتكرَّر قريبًا. قالت لتشتيت تركيزه، وخشيتها من سؤاله عن
الشَّباب.
نصف
ساعة لا أكثر اِسْتغرق التواصل لإطفاء العواطف المُشتعلة، بعدها ساد صمتٌ قاتل
جوَّ الغُرفة، إلَّا من أنفاس حرَّى تَخمُد رويدًا رويدا. طموحها ضرب عصفوريْن
بحجر واحد. ربَّما يكون التَّذاكي على الآخرين صِفَة الأغبياء؛ للفرار من مواجهة
الحقيقة وجهًا لوجه.
فناجين
القهوة على الطَّاولة، ما زالت مع صحن الموالح، ومِنْفَضَة السَّجائر ملآى بما
دخَّنه ثلاثتهم. بينما "نبهان" رأى ذلك.
-كلمات
"سيرا" قبل نصف ساعة؛ عندما دخلتُ غير صحيحة أَّنها مُتشوِّقة
لي، وحدسها أخبرها بمجيئي، المشهد على الطَّاولة يحكي قصَّةً مُختلفةً، يتحتَّم
عليِّ مُسايرة الموقف لامحالة. "نبهان" بتحليله الخاصِّ للموقف
مع نفسه، وتابعت:
-الشباب
جاؤوا من طَرَف المُعلِّم (أبو حيدر)، لقد أرسل لي بضاعة جديدة معهم،
وأخذوا له ثمن القديمة.
-أوَّل
مرَّة أشوفهم. لا أعرفهم.
-صحيح
يا "نبهان"، ليسُوا من عناصره الذين عنده على الحاجز، هؤلاء من رجاله
بمكان آخر، بصراحة في كلِّ مرَّة يُرسِل بضاعة مع أشخاص غير السَّابقين، هَيْك شُغُلهم
يتطلَّب أقصى درجات الحيطة والحذر.
فيما
بينه وبين نفسه لولم يعرف حقيقتها، لكان كلامها مُقنِعًا لا غُبار عليه، وقريب
للعقل. مُعقِّبًا على كلامها الأخير:
-من
يوم ما عرفتُ المُعلِّم، واِشْتغلتُ معه، نفس مندوبه لم يتغيَّر ولا لمرَّة واحدة،
غريب بكيفيَّة التعامُل معكِ. شيءٌ مُحيَّر حقيقة يا "سيرا".
ذهبَ
بعيدًا في تحليل الموقِف، تذكَّر: أنَّ الحَيْرةَ قاتِلةٌ، إذا تعدَّدت مفارق الطُّرُق،
وإذا تعدَّدت الرِّواية عن حادثة واحدة. لنفسه يقول:
-من
الصَّعب تصديق كلامها. المخلوقة حِرباء تتلوَّن حسب مصلحتها، قلبي غير مُرتاح لهما،
روايتها فيها ثغرة، اِرْتباكها أعمى بصيرتها، وأنساها بأنَّني أعرفُ بلقائها شبه
اليَوْميِّ مع (أبو حيدر)، فلا حاجة لإرسال المصاري مع الشَّابين، وعند "أيمن"
الخبر اليقين، سيُخبرني بتفاصيل ما سمع ورأى.
غادرها
إلى غُرفته تحُفُّهُ الوساوس، هذه المرَّة لم يُغلق الباب خلفه، اِحْتياطًا كي لا
تتنَصَّت عليهما، تركه مفتوحًا. وقف قريبًا منه، وهو يستمع لــ "أيمن"
فقط، تركه يتكلَّم على سجيَّته البسيطة بلا رُتُوشَاتٍ ولَفٍّ ودوَرَانٍ. أخبره:
-"سيرا"
أدخلت العساكر للغرفة، تطلَّعوا بعيونهم، ودقَّقوا على مكان الكُتُب, ولم يسألوني
أيِّ سؤال. اِسْترسل الولد بالكلام.
-وهل
دخلوا الغرف الأخرى؟.
-لا..
بل صعدوا إلى سطح العمارة.
-وأين
كانت "سيرا"؟.
-معهم،
وشرحت لهم عن (البنسيون).
صُقِعَ
"نبْهان"، ولم يتفوَّه ولو بكلمة واحدة، من فوره اتَّخذ قراره
بالمغادرة، إنَّما جاؤوا لاستطلاع المكان، هذا أوَّل ما اِسْتقرَّ بذهنه.
-ساعتان
أو أقلّ تبقَّى أمامي للنَّجاة بنفسي.
اِنْشغل
بترتيب أموره على السَّريع، كلُّ دقيقة تنقضي ليست في مصلحته، أخرج كيسًا وازنًا
من زاوية صُندوق التَّخت بعد رفع الفرشة. كان قد أرسل "أيمن" في
إحضار بعض أغراض طلبها منه، وأعطاه مفتاح المُستودع في الطَّابق الأرضيِّ المُقابل
للمدخل، رجع "أيمن" بعد نصف ساعة حاملًا حقيبة تُحمل بالكتف.
رتَّب
فيها ما يُريد أخذه معه من تحويشة العُمُر، ما خَفَّ حمْله وغلا ثمنه، أوراقه
تفقدَّها بعناية، وأرجعها للمحفظة الصَّغيرة الخاصَّة بالأوراق الهامَّة، وعلى
الأخصِّ جواز سفره الذي اِسْتخرجَه قبل ثلاثة أشهر، وهويَّته. واِنْطلق بعد الغروب.
الولد
تمدَّد على التَّخت كالعادة وراح في نوم عميق من التَّعب، لم يلزم تنبيههُ ثانية بأن
يلتزم الغُرفة ولا يتركها، وسيعود إليه بعد اِنْتهائه من البحث عن أغراض في
المستودع الأرضي الذي كان فيه قبل ساعة.
..*..
(62)
ليس
في السَّاحة المترامية الأطراف باتِّجاهاتها الأربعة أيّ بائع للبَّطيخ، ولم تكُن
يومًا مزرعة مشهورة بإنتاج البطِّيخ. مدخل دمشق الجُنوبيِّ. لم يكُن اِسْمها
سابقًا ساحة البطِّيخة، إنَّما نُسبَت للمُجسَّم الكرويِّ الضَّخم المُحزَّز على
شكل أفاريز غائرة وأخرى نافرة؛ جعلت المُجسَّم بشكله المُميَّز، والمياه تنتثر
حوله من نافورة، تتدفَّق من وسط البطيَّخة إلى حوض كبير يتوسَّط حديقة مليئة
بأشجار ونباتات الزِّينة.
اِسْتطاع
"علوان" الحديث بطلاقة في نوبة صحو خارجة عن سياق فُقدانه
للذَّاكرة في أغلب الأوقات، إلَّا في ساعات أو ربَّما لحظات بسيطة. من غير المفهوم
لدى معارفه من أصدقائه وجيرانه في حارة الفدائيَّة المحاذية لحاجز البطِّيخة من
الجهة الجنوبيَّة.
شعره
المُشعَّث دائمًا، ملابسه المُتَّسخة،
رائحتها غير المُستساغة يصعب فرز رائحة واحدة أو اثنتين، خليط روائح مُتراكمة،
النَّاس صاروا ينفرون من الاقتراب منه، إلَّا من بعض المُحسنين من أهل الخير، وبعض
أصحاب المطاعم يُنادونه لإعطائه طعامًا مُغلَّفًا، ليأكله في المكان الذي يروق له
بعيدًا عن المطعم، هكذا أفهموه، وهو يحترم رغبتهم، فلا يُعاندهم أو يكسر
كلامهم.
وفي
نهاية كلِّ أسبوع، تأتي أختُ له ممَّن تبقَّى له في هذه الدُّنيا بعد الله
من منطقة أخرى بعيدة عن المُخيَّم، وإذا لم تجده في بيته الصَّغير تبدأ برحلة بحثُ
عنه؛ فإذا ما يئست من العُثور عليه، أو يُرشدها أحد لمكان مُحدَّدٍ، تعودُ أدراجها
حزينة كسيرة الخاطر، وهي تضرب كفًّا بكفٍّ، ودموعها تملأ وجهها تمسحها، وتعود
ثانية كأنَّها لم تُمسَح، كلمتها حُفظتُ من جيران أخيها ومن أصحاب الدَّكاكين
والمحَّلات في الحارة:
-"أين
أنتَ يا "عُلوان"؟، يا ناس.. يا عالم من يعرفُ شيئًا عنه؛
فليُخبرني وأجره على الله..!!". يسمعونها، ولا من مُجيب في فترات غيابه عن
المكان.
زعمَ
"علوان" ذات مرَّة في صحوه أنَّهُ سمع "مفلح"، وأنَّ
صدى صوته ما زال طنينه يُسبِّبُ له ضجيجًا مُقلقًا في رأسه، كُلَّما تذكَّر صديقه "مفلح"،
وهو لا يدري أين هو الآن؟.
اِنْقطعت
أخبارهما عن بعضهما منذ سنوات، بُعيْد اِنْتهاء دراستهما الجامعيَّة، أكَّد أكثَر
من مرَّة أنَّ خبرًا غير مُؤكَّدٍ أنَّ صديقه "مفلح" وصل تهريبًا
إلى أوروبَّا عبر لبنان.
لم
يبق في ذاكرة "علوان" من علاقته بـ"مفلح" إلَّا
جُملتيْن فقط، أو أنَّه لا يُريد تذكُّر أيِّ شيء سِواهما من سنواتهما الجميلة في أيَّام
الشَّباب المليئة بالنِّضال مع التَّنظيمات الفدائيِّة.
ذات
مرَّة كان جالسًا على بوَّابة مقهى (أبو حشيش) وسط شارع "لوبية".
وصارت ساحة (أبو حشيش). الجديدة نسبيًّا على المنطقة، فلم تكُن قبل عام ١٩٧٥ إلَّا
عبارة عن أرض بُورٍ، تمتدُّ إلى شارع المرج الأخضر، وإلى جهة غرب أول شارع اليرموك،
بعد حارة الفِدائيَّة، والذي أصبح فيما بعد شارع الثلاثين، وإلى الغرب من هناك كانت
الأشجار والأنهار تمتدُّ حتَّى محطَّة القَدَم للقطارات.
إدارة حصر التبغ والتنباك والمعروفة بالرِّيجة
وسط شارع اليرموك، تسمية راسخة على الألسنة منذ أيَّام الاستعمار الفرنسيِّ. اِسْتأجرت
مجموعة من المحلَّات، كنافذة لبيع منتجات الدُّخَّان الوطنيِّ في الرِّيجة،
الذي طَغَى على المكان، وصار اِسْمًا تاريخيًّا للسَّاحة تُعرَف به.
بعد
عشر سنوات انتقلت الرِّيجة إلى سوق الخضار، ولكن التَّسمية ظلَّت عالقة
بالأذهان، وبالرَّغم من صغر السَّاحة، إلا أنَّها صارت ساحة الفرح في الأعياد ومدينة
للملاهي والأراجيح في الأعياد.
معظم
مُرتادي مقهى (أبو حشيش) حفظوا كلمات "علوان" عن صديقه "مفلح"
التي كان يُردَّدها في مناسبة أو غير مُناسبة:
-"فجيعة
المُدُن أبوابها، وفضيحتها، والأبواب عيونُ الأمكنة. نبضُها، وبهجة أفراحها".
يصمتُ
بعد ذلك، كمن فَقَد القُدرة على الكلام، يجلسُ مُطرقًا. عيناه مُصوَّبتان إلى الأرض،
ألم تكُن رقبته تُؤلمه من اِنْحنائها الطَّويل؟، رُوَّاد المقهى مشغولون عنه، لا
أحد ينتبه له، جماعة لَعِب الوَرَق مُكوَّنها الطبيعيِّ أربعةُ من اللّاعبين، ولا
يقلُّ عن عددهم من الجالسين إلى جوارهم مُلاصقين لهم، يُتابعون كلَّ دَوْر من
لُعبة (الكونكان)، اللُعبة التي تحتمل المنافسة، ومهارة البعض ممَّن يستطيعون
إحصاء أغلب الورق الذي ينزل، ويتوقَّعون بمسار اللُّعبة من منافسيهم.
لعب
الطَّاولة لا يستقطب أعدادًا مثل لعب الورق، وقليلون من يُمارسون لعبة (الدُّمينو)
أو الشَّطرنج.
في
نوبة صحوٍ أخرى لـ"علوان"، يبدأ يُحاكي نفسه بمقولة أخرى شهيرة لصديقه،
يظنُّ أنّهم يسمعوه، حقيقة هم مشغولون عنه:
-"مدينةٌ
تُسلِّمُ نفسها لغير أبنائها؛ مدينةٌ عاهرةٌ".
صدى
ذكريات ليست بالقديمة جدًّا؛ تتردَّد بذاكرة "علوان" كطنين أجنحة
ذُباب أزرق، وأخضر يحومُ على عَفَنِ
جُثَّةٍ مُجندلةٍ، منذ أيَّام على بُعد مئَتيْ أو ثلاثمئة متر وراء الحاجز.
قريبًا
من ساحة الفَرَح، أو باِسمها الأشهر ساحة (أبو حشيش). يوم كانت الحياة
تضجُّ فيها بعُنفوانٍ لا يُضاهى بألوان ابتسامات الأطفال في الأعياد، والمُناسبات
الوطنيَّة الفلسطينيَّة والسُّوريَّة، وأثناء ذهابهم إلى مدارس الوكالة "كوكب"،
و"الجاعونة" التي بنتهما (الأونروا) في جنوب الدُّوَّار،
وإلى ثانويَّة بنين "اليرموك" وإعداديَّة "البعث" اللَّتان
أنشأتهُما وزارة التربية السُّوريَّة.
الحصار فجيعة مُخيَّم اليرموك، وكأنَّ الحصار
هو المفتاح الذي تردَّد على لسان "علوان" نقلًا عن لسان صديقه،
الذي لم يبق من ذكراه على لسانه، إلَّا بضع كلمات.
"علوان"
لا يدري ولا أحد في الكون يستطيع الدُّخول إلى خلايا دماغه؛ لاستكشاف: لماذا هاتان
العبارتان باقيتان راسختان، لا تتزحزحان رغم الاِنقطاع والتباعُد بينهما.
لكن
من الغريب أن ينمحي الحيُّ بأكمله، ويُصبحُ أثرًا بعد عين، إلَّا من أكوام لا شبيه
لها، إلَّا دمار (برلين أو باريس أو ستالينغراد) في الحرب العالميّة
الثانية. الصُّورة من خلف بوَّابة المُخيَّم تتماثل بالنتيجة مع سابقتها مع
المُدُن المَدمَّرة، بعد إقفالها بحاجز البطِّيخة.
..*..
(63)
يتخيَّل
"علوان" أثناء اِخْتبائه بأحد أقبية الأبنية البعيدة جُنوبًا.
قريبًا من جامع "عبد القادر الحسيني" المُشرف على ساحة الفرح (أبو
حشيش)، لولا شُموخ بقايا مئذنته، دليل على أنَّه كان مكان عبادة، لما عُرِف
المكان أبدًا، ولم يبق شيئًا من المُخيَّم، ولم يبق أحدٌ غيره صامد هنا، بعد
"مجزرة الميغ"، المصطلح المُتداول على ألسنة سُكَّان المُخيَّم،
بعد أن قصفها الطيران الحربيِّ صباح يوم 16-12-2012.
"عُلوان"
لم يخرج، ولم يَنوِ مُغادرة المكان، وكأنَّه نَذَر نفسة للموت؛ ليُروِّي بدمه تراب
المكان الوطن الثَّاني، الذي قَدِم إليه صغيرًا بعد عام 1967 واِحْتلال الضِّفَّة
الغربيَّة، هذه الموجة الثانية بعد هجرة اللُّجوء الفلسطينيِّ الأولى 1948.
تتكرَّر موجات اللُّجوء بتمدُّد إسرائيل، كما ترى سُلطان دولتها؛ بعيونٍ تُناظِر
إلى الفُرات والنِّيل.
فكَّر
"عُلوان" في صباح يومٍ لم يجد ما يأكله. بطنه خاوٍ من الجوع لعله
يجد شيئًا من الخبز اليابس أو بعض أوراق الأشجار ذات الطَّعم المُستساغ، بالخُروج
إلى مقبرة الشُّهداء القريبة من مكانه المُقيم فيه، أثناء خروجه تراءت له صورة علم
إسرائيل بلونيْه الأبيض والأزرق، حاول استقراء فلسفة العَلَم، لم يخطُر بباله
التفكير من قبل بذلك. خمَّن حسب فهمه المُتواضع:
-"أنَّ
اللَّوْن الأبيض الأقرب للنَّقاء الذي تزعُمه إسرائيل، والأزرقان خطَّان عريضان.
واحد من الأعلى، والآخر من الأسفل: الأعلى هو نهر الفرات، والأسفل النِّيل، مطامع جُنونيَّة
في مُحيط عربيٍّ، لا يُشكِّلون إلَّا نقطة بوسطه، وهل يستطيعون السَّيطرة على هذه
المساحات الهائلة من الجغرافيا".
يُحاكي
نفسه:
-"كنتُ
أستبعدُ، وأعُدَّه ضربًا من جنون الخيال الجامح، لكن في ظلِّ حصار المُخيَّمات
الشَّبيه بحصار، ومجازر مخيَّمات صبرا وشاتِّيلا، أيَّام الاجتياح
الإسرائيليِّ للبنان 1978، وضرب مخيَّم تلّ الزَّعتر، وجميع المُخيَّمات الفلسطينيَّة,
ومحاولة تنظيفها من سُكَّانها, وتهجيرها، وعلى الأخصِّ مُخيَّم البَدَّاوي جنوب
لبنان، وبُرج البَرَاجْنة، وعين الحلوة، والرَّشيديَّة،
والمِيَّة ومِيَّة، والبارد.
يا
لكثرة المُخيَّمات..!! وما أبأس فِلسطينيِّيها. كنتُ أظنُّ في فترة سابقة أنَّ
فلسطين اِنْتقلت بأكملها إلى هنا على أطراف دمشق قديمًا؛ ليصبح مُخيَّم اليرموك
وفلسطين المتواصل بنائهما ببعضهما، ولا يفصل بيتهما إلَّا شارع، إنَّهما يُكوِّنا
وطنًا مُصغَّرًا لنا.
كلُّ
شيء هنا فلسطينيّ بامتياز، حيُّ الفدائيُّة، شارع الرَّامة، شارع النَّاصرة، دُوَّار
فلسطين، ومركز الشَّبيبة الفلسطينيَّة، مؤسَّسة اللَّاجئين، مدرسة المالكيَّة
وترشيحا، ومركز اللُّوثري الصحيِّ (يُنسَب للإرساليَّات التبشيرية اللُّوثريَّة)،
الذي تحوَّل إلى مدرسة عبدالقادر الحسيني الحكوميَّة، ومسجد عبد القادر الحُسيْنيِّ،
ومسجد القسَّام، وشارع لوبية، وسينما الكرمل.
فلسطين
أخرى تُمحى من الوطن الثَّاني، كما نُهِبت فلسطين الوطن الأساس مُسقَط رأسي.
"يا مفلح.
يا مفلح.." نداء تضجُّ به جنباتُ مقبرة الشُّهداء في آخر
اليرموك، يُنادي "علوان" بأعلى صوته، بينما كان جاثيًا على
رُكبتيه وسط المقبرة، عند ضريح ضخم مُتميِّز برخامه الأبيض اللَّامع، عمَّا حوله
من قبور قليلة العدد بائسة المظهر، وقبور اِنْمَحَت من قاموس المقبرة، البراميل لم
تُبقِ لا حجارة، ولا عظام قديمة أو جديدة، سيُقال: "كانت هناك مقبرة".
على ما أذكر
أنَّ "محمود درويش" حينما قال للعابرين بَيْن كلماته، قامت الدُّنيا
ولم تقعُد، واتَّهموه بالعنصريَّة، ومُعاداة السَّاميَّة:
(أيَّها المارُّون
بين الكلمات العابرة آن أن تنصرفوا، وتُقيموا أينما شئتم، ولكن لا تُقيموا بيننا، آنَ
أن تنصرفوا، ولتموتوا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا) *منقول.
أنا سأبقى..
سأموتُ قريبًا من قبر أبي وأخي، الذين لم يبق أيَّ أثر لقبرهما، سأحرسُ مكانًا كان
يومًا يضمُّ رُفاتهما، ومُخيَّمًا عاشَا فيه، لن أبرحه، وسأبقى مثلي، وجميع
المُحاصرين الرَّافضين المغادرة.
طالت فترة
الحصار اِضْطررتُ لأكل الحشائش وأوراق الأشجار، مشكلة الأطفال الصِّغار يموتون
يوميًّا، أجسادهم الغضَّة النَّحيلة لا تحتمل العيش في ظلِّ الحصار، وانقطاع الماء
والكهرباء وحليب الأطفال.
سمعتُ من أحدهم
كان يجلسُ مع صديقه أيّام زمان قبل الحرب. الشَّخصان أعرفهما بملامح وجههما
المألوفة لي من قبل. وجلستهما المعهودة. أيَّام مقهى (أبو حشيش)، كانا
مُتلازميْن بالجلوس وحدهما في زاوية، كأنَّها مُخصَّصة لهما دائمًا.
بينما هما
يُدَّخنان مررتُ بهما، ولم أُلق عليهما السَّلام، أحببتُ أن لا أقطع حديثهما الذي
كنتُ أسمعهُ بصعوبة، أجزم أنَّ أحدهما يُحدِّث الآخر:
-"رأيتُ
بأمِّ عينيَّ هاتيْن اللَّتينْ سيأكلهما الدُّود، فريق (كوماندوس إسرائيلي) دخلوا
مقبرة الشُّهداء بلحظة خاطفة بسيَّارات مُصفَّحة برفقة الشُّرطة الرُّوسيَة، وفي
سرعة نبشوا قبريْن في طرف المقبرة القِبليِ، كنتُ سمعتُ من أخي المرحوم، أنَّ في
المقبرة جُثَّتين لجنديين إسرائيليين من فترة زمنيَّة سابقة، حقيقة لم يُحدِّد لي زمن
دفنهما، ندمتُ فيما بعد أنَّني لم أسأله عن توقيت هذه الحادثة".
الآخر
يردُّ:
"الأمور
مُترابطة بتوقيت دقيق، جاء قصف المقبرة بالبراميل بعد حادثة (الكوماندوس) بيوميْن
حسب ما أذكُر على وجه التَّحديد".
"علوان"
يصيح من جديد:
-"يا
مفلح.. يا مفلح".
ظنًّا
منه أنَّ "مفلح" يسمعه، ومن غير المعلوم إذا كان يبغي من ندائه
المُتكرِّر، نهض واِسْتوى واقفًا، خَطَر له الصُّعود على القبر الرُّخاميِّ
العالي، ليجلس على قمَّته.
وجهه
يتَّجه للشِّمال، وخلفه دوَّار فلسطين المُتَّصل بشارع اليرموك عن طريق شارع القدس.
هذه النُّقطة بالذَّات هي حدود المخيَّم القديمة.
كأنَّما
يريد اِسْترجاع أماكن القُبور المُدمَّرة، أو لعلَّه يستطيع تحديد النُّقطة التي
كان فيها قبر أبيه وأخيه، لكنَّه لم يُفلِح، بل تأكَّد أنَّ الدَّمار أكبر أفظع
ممَّا كان يتوقَّع. من بعيدٍ تُطلُّ مئذنة جامع البشير المُشرف من الجهة الشرقيَّة
على ساحة البَطِّيخة.
يصيح
من جديد:
-يا
"مفلح" اُنظُر للقنَّاص أعلى المئذنة..!!
صَيْحات
التَّحذير تأخذ صداها في فراغ، لكنَّه لم ينتظر رجع الصَّدى، بقايا القُبور حوله
لا تُجيب.
-"وأيُّ
مئذنة يا "علوان"؟".
ينتبه
حوله لعلَّه يلمح "مفلح"، حكَّ رأسه حيْرةً، يتمَّلس صدره باِنْحدار
يده من تلقاء نفسها، ينتبه. يحاكي نفسه:
-لا
أحد غيري بين القُبور، ومن أين حضرني "مفلح" الآن؟ لكنَّني لم
أتيقَّن حقًّا أنَّه كان في مرمى القنَّاص، وأريده أن يحيا، ونلتقي، ونُجدِّد
ذكرياتنا على وقع الحنين للماضي أيَّام الشَّباب والدِّراسة.
أوووه..!!.
تذكَّرت أنَّه سافر فور تخرُّجه إلى الأردن، من ذاك الوقت البعيد لم نلتق.
..*..
(64)
نداءات
"علوان" المُتكرِّرة، اِسْترعَت اِنْبتاه "نبهان"
أثناء وصوله على مشارف المقبرة قُبيْل الظُّهر، الهدوء الخطِر يجعل الأصوات واضحة
في هذا المكان، الذي كان قبل ذلك مليئًا بالضَّجيج؛ ضجيج المُنتفعين من مركز
الإعاشة (مركز الأونروا) هناك بجوار المقبرة كفيل أن يُقلق منام الشُّهداء
الأبديِّ، الفقراء والأرامل ومن لا مُعيل لهم، وأصحاب العوائل كثيرة العدد، ما
زالوا بحاجة لهذه المُساعدات العينيَّة من الموادِّ الغذائيَّة، يستعينوا بها
للتغلُّب على مصاعب المعيشة.
نهاية
المُخيَّم (اليرموك وفلسطين) الجُنوبيَّة عند نهاية مثلث "يلدا"،
الشُّهداء كانوا يرقدون بسلام تحُفُّ مراقدهم مهابة فلسطين، القضيَّة التي وهبوا
لها أرواحهم، وحلموا.. وحلموا بالعودة إلى ترابها، ولو حصلوا فيها على قدر القبر
الذي يضمُ رُفاتهم، ماتوا وماتت أحلامهم، ودفنت معهم لعلَّ يتحقَّقُ شيءٌ منها.
تتبَّع
"نبهان" مصدر الصوت التحذيريِّ:
-"يا
مفلح.. يا مفلح".
تطلَّع
باِلْتفاتات سريعة لمسح المكان باتِّجاهاته الأربع، لم يرَ إلَّا شخصًا واحدًا
جالسًا على القبر الرُّخاميِّ الأبيض.
-أوووه..!!
يا إلهي.
لمن
يُوجِّه كلامه، وتحذيره من القنَّاص على رأس مئذنة الجامع، تأكَّدتُ أن لا أحد في
المكان غيره، هل هو مريضٌ نفسيٌّ مُصاب بفصام الشَّخصيَّة؟.
سمعتُ
مرَّة أنَّ المرضى بهذا الدَّاء، يتخيَّلون، ويتوهَّمون أشياء لا وجود لها،
ويخافون من سُلطان أشياء خفيَّة. لا أحد على رأس المئذنة أبدًا، ولا في مُحيط
المسجد، ومركز الإعاشة.
لا
بُدَّ أنَّ هُناك سِرًّا وراء هذا الرَّجل، وقبل الذَّهاب إليه، سأعيد التأكُّد
بنفسي لأصل إلى يقينٍ يطمئنُّ له قلبي، وفُرصة مهمَّة لاستكشاف المكان، لعلَّ فيه
ما يمُكن الاستفادة منه.
عشرة
دقائق لا غير اِسْتغرقت منِّي مُعاينتي لمحيط المقبرة، ووقفتُ على طرفها عن نقطة اِلْتقاء
شارعيْ فلسطين واليرموك. هنا نهاية المُخيَّم عند مثلث مفترق الطريق المُسمَّى
"مثلَّث يلدا".
تطلَّعت
إلى جميع الاتِّجاهات. بدأت تتَّضح معالمُ القضيَّة، قرَّرتُ العودة للقاء
الرَّجل، من المُمكن الاِسْتفادة منه، ولو مُستقبلًا، يجب عدم إضاعة أيَّة فُرصة
للتعرُّف عليه، وعلى غيره.
..*..
(65)
"نبهان"
بطبيعة تواجده حديثًا في المنطقة، يُعتبَر
عابرًا كما المارُّون عبر كلمات "محمود درويش"، لم يُدرك هذه الجُزئيَّة
المُهمَّة. العابرون لا يلبثون إلَّا قليلًا بشكل مُؤقَّت، لم يمتلك الفكرة عن
طبيعة شارع لوبية، بتشابكات العلاقات النَّاظمة للتكدُّس السُّكَّاني المُنفَجِر
بكثرة الولادات اليوميَّة على مدار السَّاعة، رغم ضيق المساحة الممنوحة لهم أصلًا.
إنَّهم
لا يتوقَّفون عن الإنجاب بشراهة، ولا زوجاتهم يتأفَّفن من الحمل، والولادة
المُتلاحِقة، بكلِّ سُرور يستطيعون عدَّ أسماء أولادهم، والفرحة تتقافز أمام
أعينهم، تُداعب أحلامهم بإعداد العُدَّة لتحرير فلسطين، مُتناسين ضيق فُسحَة العيْن
وسُبُلها، ومنهم من لا يتردَّد أبدًا:
-"هؤلاء
هم جُنود المُستقبل، وأملنا بتمهيد طريق العودة لأرضنا، والتحرير بحاجة لرجال، وها
نحن نُعدَّهم بهدوء حتَّى إذا حانت ساعة الصُّفر، نجدهم جاهزين".
المحلّاَت
التي شكلَّت سوق لوبية على الجانبين بواجهاتها الزجاجيَّة اللَمَّاعة، ولوحات (النِّيون
والفليكس) المُضاءة بألوانها، وخُطوطها الفنيَّة بكلمات عربيَّة لأسماء أجنبيَّة،
أو للتعبير عن دلالة محددة، من باب التطوُّر أو التقدُّم هنا بعض اللَّوحات تحمل
أسماء أجنبيَّة، تميُّزٌ مُثير للإعجاب خاصَّة في اللَّيل، تتصدَّر واجهات جميع
المحلَّات، وللمُتأمِّل هذه الأيَّام يستطيع تشكيل فكرة.
"نبهان"
مشغول فكره دومًا؛ فهو لا يتأمَّل أيَّ شيء إلَّا إذا أراد مُعاينة مكان؛ ليرى ما
يستطيع أخذه، وتشليح ما يُمكنه تشليحه، وأخذه إلى مستودعاته في (البنسيون) القريب
من هنا في الشَّارع الخلفي، الأقلِّ اِتِّساعًا بعرضه، ومحلَّات تجاريَّة أقلُّ
بكثير عن السُّوق الرَّئيس.
في
كلِّ مرَّة يعبُر شارع لوبية يتوقَّفُ من تلقاء نفسه، وكأنَّ التوقُّفَ أو المرور
عبر ساحة (أبو حشيش)، لزوم إجباريٌّ من أمام مقهى وملحمة (أبو حشيش) الأشهر في
المنطقة.
قوَّة
الاِسْم طَغَتْ على أذهان سُكَّان المنطقة؛ ليحلَّ مكان الاِسْم القديم ساحة العيد
أو ساحة الفرح، بقايا المقهى، والملحمة؛ دليلٌ
على أنَّه كان أيَّام زمان هنا مقهى ومطعم، اللَّوحة الحديديَّة القديمة مدهونة
بالأسود، والكتابة عليها باللَّون الأبيض بخط الرُّقعة (مقهى أبو حشيش)؛
فإنَّها تُعلِن للعابرين شيئًا قلَّما أن يفهمه الغُرباء الجُدُد الوافدين على
المنطقة لأسباب مختلفة:
-(ومرَّ
هولاكو من هُنا، فابتسم وقرأ الفاتحة)*مقولة التشكيلي: ( فاتح المُدرس).
زوابع
من التَّساؤلات تثور في رأس "نبهان". كلمة "حشيش" تأخذ
التَفكير الفوريِّ إلى المُخدِّرات، والمُتعاطين والمُروِّجين.
-"ولماذا
أبو حشيش؟".
سؤال
يلحُّ عليه؛ فيَحارُ تفسيرًا وتأويلًا. يتوقَّع ما يتبادر لذهنه للوهلة الأولى:
أنَّ (أبو حشيش) كان يُهرِّب الحشيش من لبنان عبر الحدود إلى سوريا،
وينقلها إلى أماكن أخرى في الخارج.
أو
أنَّه مُروِّجٌ مُحترِف، تشتغل معه عصابة قويَّة تحميه، وتبيع ما يُعطيه لهم للشَّباب،
والمُتعاطين المُدمِنين، أميلُ أن يكون الرَّجُل صاحب اللَّقب مُتعاطٍ فقط.
شطَّ
ذِهْني بعيدًا، وماذا لو كان عميلًا لـ (أبو حيدر) رئيس الحاجز؟، أستبعدُ
هذا، وعلى أغلب الظنِّ أنَّه غادر إلى مكان ما، من المُمكن إلى القبر، حينما دَخَل
الدَّواعش إلى المُخيَّم، وأكملوا على البقيَّة الباقية النَّاجية من جرائم
ميليشيات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامَّة التَّابعة لـ"أحمد
جبريل" الفلسطينيَّة.
منذ
البداية حينما تحالفت مع قوَّات الأمن ضدَّ الثَّورة، وكذلك لواء القدس، ولواء
الجليل، وقُوَّات الجليل، جيشُ التحرير الفلسطينيِّ، وقوَّات الصَّاعقة.
هذا
الكمُّ الهائل من تنظيمات الفدائيِّين المُقاتلين؛ اِنْحرفت مُهمَّته من القتال من
أجل فلسطين وتحريرها، وإقامة دولة فلسطينيّة من النَّهر إلى البحر، حسب مَنْطوق
شعاراتهم المرفوعة منذ تأسيس منظمَّة التَّحرير الفلسطينيَّة. وكانت بداية عملهم
هنا في اليرموك وفلسطين، ثمَّ اِنْطلقوا للعمل العسكريِّ في باقي المدن السوريَّة
من حلب إلى درعا.
يا
إلهي..!! اِسْم (أبو حشيش) بحدِّ ذاته تُهمة جاهزة؛ لإيصال صاحبها إلى
السِّجن. فليكُن ظنِّي حسنًا بالرَّجُل الذي لم أرَ وجهه في حياتي، ولا اِلْتقيتُه
في حياتي، من الظُّلم أن أُلبِسَه تُهمةً غِيابيًّا، من الجائز أن يكون الرَّجل لا
علاقة له بهذا اللَّقب، كانوا قد أطلقوه عليه أو على أبيه أو جدِّه من قبل، كلُّ
شيء جائز في هذه الأيَّام.
أخيرًا
اقتنع "نبهان"، أنَّ أسماء العائلات لا تأتي بيوم أو ليلة، إنَّما جاءت عبر مئات السِّنين، حتَّى رسَّخت، وصاروا
يُعرفون بها.
كيف
لأفراد هذه العائلة تلك لا يخجلون من الاِسْم بتاتًا؟.
وكيف
لا تتعرَّض لهم دوائر الأمن؟.
بتوجيه
التُّهَم لهم على أساس اللَّقب المُعترَف به رسميًّا؛ وفق سِجِلَّات إحصائيَّات النُّفوس
المُثبَّتة في دوائر الأحوال المدنيَّة جميعها، والقانون يكفل لهم عدم مُلاحقَتِهم
بِتُهمةٍ هم بريئون منها أصْلًا، كبراءة الذِّئب من دم يوسف.
..*..
(66)
المُهرِّبون
خُبراء يُعتدُّ بخبراتهم العريقة، بمعرفة الطُّرُق المُلتوية غير المطروقة أصلًا،
وإن طالت ودارت بعيدًا عن الخطِّ المُستقيم لبلوغ الهدف؛ لصعوبتها وبُعدها عن
المُتابعة الأمنيَّة.
المُهرِّبون
يستغرقون زمنًا الاِشْتغال من خلالها، حتَّى إذا كُشفتْ هذه الطُّرُق؛ تُصبح تحت
العيْن الأمنيَّة، بمعنى أنَّها كانت خارجةً عن القانون، بل عن القبضة الأمنيَّة،
وبعد اِكْتشافها تُسَدُّ هذه الثَّغرات بنُقاط المُراقبة الدَّائمة.
لم
ينس "نبهان" إغلاق هاتفه، بل اِسْتبدل الشّريحة المعروف رقمها
لدى الجميع، وقام بكسرها، وتفتيتها بين أسنانه؛ خاف من فكرة التتبَّع للأرقام،
ومعرفة أماكن تواجد أصحابها من خلال الاتِّصال، سمع ذلك من بنات (البنسيون) أثناء
جلسة لهم.
قام
باِسْتبدالها بأخرى تحمل رقمًا جديدًا غير معروف سابقًا لأحد، كان قد اِشْتراها في
اليوم الذي استخرج فيه جواز السَّفر؛ حين استغلَّ عَرْضًا عند أحد محلَّات
(الموبايلات). ولم ينس هذه المرَّة بحذف تطبيق (الواتساب) القديم، وتنزيل تطبيق آخر
على الرَّقم الجديد.
لم
يجد صعوبات كبيرة في وصوله؛ فقد تجنَّب نُقاط المُراقبة المُتمركِزة والحواجز،
وسلَكَ الطُّرُق الالتفافيَّة، خِبْرته في المنطقة من خلال تواجده فيها على مدار
سنتيْن ونصف؛ سهَّلت له رحلة الهروب بأقلِّ وقت ممكن، لم يتعب من حقيبة الكتف غير
الثَّقيلة، وفي أحسن الأحوال لا يتعدَّى وزنها الخمسة عشر كيلو غرامًا.
هدأت
أعصابه بعد وصوله إلى إحدى قرى الغوطة الشرقيَّة، بعيدًا عن سُلْطة، وقبضة شريكه
السَّابق (أبو حيدر- رئيس حاجز البطِّيخة)، جلس مؤقَّتًا، حتَّى تمكَّن من تأمين
مخرج له من المنطقة كلِّها، خوفه على حياته من أن تطاله يد المُقدَّم (أبو حيدر)،
لأنَّه على يقين أنَّه لن يتركه يفلت من قبضته ويهرُب، سيرسل الجواسيس والمُخبرين
للبحث عنه، ولو كلَّفه ذلك المال والوقت.
غريزة
الانتقام بعيدة المنال عن ذي خُلُق، لاعتقاده أنَّ: "العفو عند المقدرة".
أبو حيدر عقيدته الانتقام الشَّرس عند المقدرة بلا رحمة؛ فمعظم من سمعتُ
عنهم، أو عرفتُهم بطريقة ما: دخلوا يمشون
على أرجلهم، وخرجوا من عنده محمولين إلى قُبورهم غير النِّظاميَّة على الأغلب، في
أكثر الأحيان تكون حُفرة اِمْتصاصيَّة، تُرمى بها الجُثَّة المُشوَّهة، ويبقى
صاحبها مجهولًا لا يُمكن التعرُّف عليه. أو حفرة في مَقْلَب نِفَايات تُهال أكوام
الزِّبالة، والقليل من التُّراب إذا توافر في ذاك المكان.
"نبهان"
بمثابة الطَّريد المهدور الدمِّ الآن، والاِخْتباء عن الأعيُن ضرورة حتميَّة
ليبلُغ مأمنه، وفي مكانه المؤقَّت في المزرعة عند أحد السَّماسرة، حتَّى يستطيع
تأمين طريق آمنة لــ"نبهان".
شَرَطَ
عليه ألَّا يُغادر المبنى القديم في وسط المزرعة، وكان قد أمَّن له الضروريِّ من
الطَّعام، مع وجود بابور غاز سفري لصنع إبريق شاي، أو فنجان قهوة. من المُستحيل
الحُصول عليه في ظروف كهذه.
من
حُسن حظِّ "نبهان" أنَّه غير مُدخِّن أصلًا، ممَّا يُهوِّن عليه
مسألة الاِشْتياق القاتل لفنجان القهوة، وكذلك للدُخَّان المُعادل للخُبْز عند
الكثرين، بل يُقدَّمونه على الطَّعام في بُطونهم.
لا
مكان للتَسامُح أو التَّساهُل، كلُّ خدمة مدفوعة الثَّمن من المُمكن التفاوض على
المبالغ المطلوبة، وتخفيضها ولو لأجزاء بسيطة منها.
المليون
ليرة سوريَّة التي طلبها المُهرِّب من "نبهان" لإيصاله إلى
الأراضي اللُّبنانيَّة، دفع مُعادلها بالعُملة الصَّعبة. ثلاثمئة دولار لا غير حسب
سعر الصَّرف وقتها، وأخبره أن يبقى على أُهبة الاستعداد.
-شوف
يا "نبهان"، مساء هذا اليوم أنتظرُ وصول إشارة، وجائز جدًّا أن
تبقى هنا يوميْن أو ثلاثة، في فترة سابقة الطَّريق كانت غير آمنة، توقَّفنا على
العمل لمدة أُسبوع، وقبلها لمدَّة كانت عشر أيَّام. على العُموم في هذه الفترة
الأمور سهلة، يعني أخبرتُك كي لا تُصاب بالضَّجَر، وندخل في مرحلة عدم الثِّقة
بيننا، ربَّما يتسرَّب إلى ذهنك موضوع الكذب والنَّصُب والاحتيال، أنا لستُ من هذا
الصِّنف أبدًا. شُغلي بنور الله، وإذا لم أستطع تنفيذ المُهمَّة؛ تأكَّد أنَّني سأُرجِعُ
لكَ فُلُوسكَ. المُهرِّب أخبر "نبهان" بهذه المعلومات.
-على
كلٍّ اِعْمل جُهدكَ أن تُخرجني بأسرع وقت، حياتي في خطر، أظنُّ أنَّ (أبو حيدر)
أرسل رجاله للبحث عنِّي.
-ومن
هذا (أبو حيدر).
-النَّقيب
رئيس حاجز البطِّيخة.
-يعني
أنتَ عسكري مُنشق؟.
-لا..
لا أبدًا أنا مدني، كنتُ مُقيمًا في المخيَّم، ويعرفني.
يبرُم
المُهرِّب بَراطِمَه، وهو يرفع حاجبيْه علامة اِسْتهجان. اِسْتعاد آخر جملة
سمعها من "نبهان"، لم يطمئن لكلامه. "هذا جزء من الحكاية
المنقوصة حتمًا". المُهرِّب في حديث مع نفسه:
-"لستُ
معنيًّا بتتبُّع كلامه، الدُّنيا أسرار، لا مصلحة لي بكشف خباياه وأسراره. إن كان
يكذب؛ فكذبه على نفسه ليس عليَّ".
-تابَعَ:
هربتُ لخلاف طارئ بيننا، أولاد الحلال حسدوني، وأوصلوا له كلامًا عنِّي لم أقُلْه،
قسمًا بالله أنّني لم أنطق بكلمة واحدة ممَّا نقلوه له عن لساني".
المُهرِّب
لم يترك فرصة لـ"نبهان" بالإحساس أنَّه غير مُصدِّق لكلامه، فقال:
-أولاد
الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال مكان، اِطمئِن أخي "نبهان"، إنَّ
سِرَّك في بئر لن يخرج لأيِّ إنسان. هُنا حفرنا، وهُنا طَمَرْنا، عملي كُلَّه
أسرار، ولا مجال للبَوْح بكلمة واحدة، الكلمة غير المسؤولة فيها النهاية، عملنا
دقيق، لامجال للخطأ بأبسط أوجُهِه، الخطأ مرَّة واحدة، لكنَّه ربَّما يكون
قاتلًا".
مساء
اليوم فوجئ بشخص يركب خلف المُهرِّب على الدرَّاجة الناريَّة الهوندا.
..*..
(67)
جميع
التصوُّرات عن أيِّ مكان، تبقى معرفة
نظريَّة منقوصة التفاصيل. العين إذا لم ترهُ وتُعاينه بدقَّة؛ لِترسيخ صورته في
العقل والوجدان. ما يُرى بالعيْن تنطبع صورته في المُخيَّلة لا تنمحي إلَّا
باِنْمحاء الذَّاكرة.
تُراني
هنا خاضعٌ لأوامر المُهرِّب، فَرَاري بهذه الطَّريقة من قبضة (أبو حيدر)
يعني: أنَّني فارٌّ من وجه عدالته، وخارج عن قانونه، ومع العصابات الإرهابيَّة
ضدَّ الدَّولة والنِّظام، فيما لو كَتَب تقرير مَوْتي، لو كنتُ الآن بين يديْه. لا
أستطيعُ الخروج من هذا البناء، لأرى الأشجار وتوالي أثمارها الباقية في مثل هذه
الأيَّام مع بداية الخريف.
مع
كلِّ ساعة تمرُّ، وأنا قائمٌ على انتظار، تستنزف روحي المُنهكة، الخوف يتمدَّد
بهواجس، وحسابات طويلة في هذه المُغامرة غير المأمونة على الإطلاق.
شعوري
بالموت يقترب منِّي يُلامسني؛ فأرتجف بقشعريرة تسري في أعماق أعماقي، تُزعزع
دواخلي المُنهكة أصلًا، ولا تحتاجُ لمزيد من التفكير.
وقت
الانتظار بطيء بطبيعته، عَدُّ دقائقه، وساعاته أصعب من توقُّع الوصول للموعد
بيننا. من بعيد اِنتشى صدري بالهواء النقيِّ، والهدوء يُخيِّمُ على المكان،
المنطقة مليئة بالمزارع والأشجار؛ منذ فترة لم أتلذَّذ بسماع الأذان من أحد
المساجد البعيدة، أسمع بوضوح أذان العصر، الفراغ من أيِّ عملٍ لديَّ، كوَّن عندي
رغبة جامحة لأداء صلاة العصر، منذ زمان اِنْقطعتُ عنها، وتباعدت المسافة بيني وبين
ربِّي؛ وسأطلب من الله أن يُنجيني، ويوفِّقني للخلاص من هذه الورطة التي أنا فيها.
قبل
اِنْتهاء المؤذِّن من التَّكبيرة الأخيرة، ويختم، تراءى أمامي طيف "علوان"،
يُخيَّل لي أنَّه ما زال جالسًا على القبر الرُّخاميِّ، وصوته يتلجلج بنداءاته
المُتكرِّرة لشخص مجهول: "يا مفلح.. يا مفلح". أذكُر أنَّ سُؤالي له: "مَنْ
هذا مفلح الذي تُناديه، ولا يُجيب؟".
فأجابني:
"أثناء اِعْتقالي لمدَّة أسبوع في حاجز البطِّيخة، التَّعذيب والتَّحقيق لم يتوقَّفان،
وفي نوبات إغماء مؤقَّتة لجسمي الهزيل والمُنهَك، وفي حالة من اللَّاوعي والإدراك؛
كان ينطلق لساني بترديد اسم: "مفلح". المُحقِّق أمر الجلَّاد برفع
التَّعذيب عنِّي؛ لأصحو. اِعْتقدَ ساعتها: "أنَّ هذا الشّخص إرهابيٌّ مثلي
حسب تصنيفه".
من
دون ضغط كبير من المُحقِّق، أجبته بكلِّ وُضوح لا لَبْسَ به:
-"مفلح
العدوان". صديقي من أيَّام الدِّراسة الجامعيَّة، وسافر إلى الأردنِّ بعد
تخرُّجه مُباشرة، وأنا رجعتُ إلى هنا. قبل خمس سنين أرسلَ لي مجموعته القصصيَّة
التي صدرت وقتها، كانت هديَّة، فرحتُ بها جدًّا".
المُحقِّق:
-"سأجعلُكَ
تفرحُ كثيرًا، إذا اعترفتَ بالحقيقة، وتُوفِّر عليَّ وعليكَ الوقت، أنَّ صديقكَ
هذا هو الذي يُموِّل إرهابكم".
-"يا
سيدي كتاب، ولو أنَّ بيتي مازال قائمًا في حيِّ الفدائيَّة القريب من هنا، كان
بإمكانكَ التأكُّد من حقيقة صِدْقي".
المُحقِّق:
-"لو
كنتَ صادقًا فيما قُلتَ، وللتأكُّد من صحَّة ما سمعتُ منكَ، وعدٌ منِّي
بمُساعدتكَ، إذا اِسْتطعتَ تذكُّر اسم الكتاب".
صمتَ
"علوان" قليلًا. رفع رأسه إلى سقف الغرفة، حكَّ رأسه بيده التي لم
تكُن مُقيَّدة في مثل حالته عادة، هزَّ رأسه بحركات خفيفة بإيماءتها:
-"نعم
سيدي تذكَّرت، عنوان الكتاب "موت عزرائيل".
-"وهل
قرأته يا "علوان"؟".
-"نعم
سيدي. لقد قرأته مرَّتيْن".
طوى
المُحقِّق أوراقه، وقام من خلف الطَّاولة، وأمر الجلَّاد بإرجاع علوان إلى زنزانته،
التي عبارة عن أحد الحمّامات في قبو مسجد البشير، المُشرِف على ساحة البطِّيخة من
الجهة الشَّرقيَّة، قريبًا من باب المُخيَّم.
..*..
(68)
قبلتُ
دعوته للجلوس بجانبه على قمَّة القبر الرُّخاميِّ، تزاحمت الكلمات على لساني.
فُضولٌ لا يقلُّ عن فُضول أشْعَبَ الشَّهير أيَّام العباسيِّين. كان أوَّل ما
بادرني به، كأنَّما قرأ أفكاري، وعرفَ ما أريدُ سؤاله؛ فقد وفَّر عليَّ جُهدًا،
تفرَّغت للاستماع له.
أُقسِمُ
الآن، وأنا في خَلْوَتي وفي حاجتي لله، أيقنتُ أنَّ كلام "عُلوان"
صحيح، حينما اِنْطلق أذان الظُّهر من جامع بعيد عن مقبرة المُخيَّم، يوم أن
شاركتُه جلسته. أذكُر أنَّه قال:
-"يا
ربِّ.. يا الله؛ فلتشهد على كلامي أنتَ يا "نبهان" أمام الله، أُقسِمُ
بالله أنَّه: ليس كُفرًا، ولا مُعاداة لكَ، لم أعُد أحبُّ المئذنة، ولا أحبُّ سماع
الأذان منها، وعلى الأخصِّ مئذنة جامع البشير القريبة جدًّا من حيِّ الفِدائيَّة،
فلم يعُد اِسْم البشير؛ يُشكِّل إلَّا بُشرى الموت المؤكَّد لمن تحقَّق تواجده وسط
منظار القنَّاصة للحظة واحدة، كفيلة أن تُرديه رصاصة القنَّاص اللَّئيم.
الذي
كان يرى النَّملة إذا تحرَّكت في الشَّوارع، والأزقَّة الضيِّقة الظَّاهرة له. مات
كثيرون من المُحاصَرين؛ عندما رفضوا الخُروج، فضَّلوا الموت على ترك وطنهم
الصَّغير، خاصَّة العجائز الذين ذاقوا وَيْلات التَّهجير سابقًا من فلسطين موطنهم
الأساسيِّ، وجاؤوا إلى هُنا".
اِبْتلعَ
ريقهُ بصعوبة، وعيناهُ ساهمتان في السَّماء، كأنَّما يبحث عن شيء لا يعرف ما هو،
هكذا اِعْتقدتُ وقتها، وتابع:
-"يا
"نبهان". أدركتُ حقيقة الله ذات ليلة باردة، البشر نائمون، عندما
اِنْطلقت كلمة: الله أكبر من جميع المآذن بأنٍ واحدٍ، تخالطت أصوات المُؤذِّنين
بمزيج عجيب في جَنَبات مدينة دمشق على اتِّساعها مع ضواحيها البعيدة والقريبة،
حتَّى خشع الكون كلَّه لله، وإيذانٌ باِسْتفاقة
المُؤمنين على كلمة الله، ليؤدُّوا حقَّه مع بداية فجر كلِّ يوم.
وأنا
ما زلتُ سَكْرانًا من شرابي الزَّائد على الحدِّ المعقول، اِرْتجف جسَدي بعنفٍ،
زُلزلتْ أعماقي بعُنفٍ غير مسبوق على الإطلاق؛ فطارت السَّكْرة وآثارها من رأسي
على الفَوْر. خوفٌ لم أتعرَّض له حتَّى ولا أثناء اِعْتقالي، عند ذلك يا "نبهان":
تجلَّت حقيقة الله في نفسي يقينًا، واِسْتثارني سُؤالٌ مُحيِّرٌ: ما الذي جعل
هؤلاء المُؤذِّنين يتركون فُرشهم، ويقومون لإعلان نداء الله الخالد بهذا
التوقيت..!!؟".
تجمَّد
الدَّمُ في عُروقي على وقع كلمات "علوان"، للمرَّة الأولى في
حياتي أواجه مثل هذا الموقف، بل ولم أسمع مثل هذا الكلام، ولا أجِدُ تفسيرًا له
ولا تأويلًا، إلَّا أن أُصدِّقه، لكنِّي لم أستطع التأكُّد للآن، أنَّ حقيقة الله
ستترسَّخ يقينًا بقلبي، كما ترسَّخت عند "علوان". أوووه..!!
إشكاليَّة كلامه تكمُن بصعوبة التأكُّد من رُسوخه أو عدم رُسوخه، على أيِّ حالٍ هي
ذكريات تتابعت بلا اِسْتئذان، أخَّرتني عن الصَّلاة؛ تزامنت مع صوت خشخشةٍ باعثٍ
على الرِّيبة، والحذر خارج الغُرفة مع اقتراب أذان العصر على نهايته، قطع سلسلة
تداعيات أفكاري.
أصغيْتُ،
اِنْحبَسَت أنفاسي في صدري، وتوقَّفت صُعودًا وهُبوطًا، بحذر تطلَّعتُ من طرف النَّافذة
الصَّغيرة نِسبيًّا بعد رفع جانب السِّتارة العتيقة السَّميكة، بَرَدَت أعصابي،
عندما أخذتُ نفَسًا عميقًا، كلبٌ أسود يُطارد قطًّا أسود أيضًا.
عاد
طيفُ "علوان" ليمثُل أمامي، وما زال على جلسته تلك على حافَّة
القبر الرُّخاميِّ، مُنهمِكٌ في حديثه لم يتوقَّف، ولو لِبُرهة قصيرة لالتقاط
أنفاسه المُتعبة، أحسستُ أنَّه يُريد أن يسمعه أحدٌ من البشر أيًّا كان، وتابع:
-"أقسمُ
بالله. أنَّني شاهدتُ كما شاهد العديد الخراب الفظيع الذي حصل لمقبرة الشهداء، لقد
أيقنتُ أنَّ الشُّرطة الرُّوسيَّة حضرت، ومعها فريق (كوماندوس) إسرائيليٍّ مع
خُبرائهم؛ لاستحالة معرفة الرُّوس بما يريده الإسرائيليُّون، الذين لا يُمكن أن
يطمئِنُّوا لأيِّ مخلوق في الدُّنيا مهما كانت صفته.
الرُّوس
نصبوا شوادر كبيرة لِتَغْطية عملهم في المقبرة من جهة شارع الثَّلاثين، ونبشوا
عشرات قبور الموتى، وأخذوا مجموعة من رُفاة الشُّهداء الفلسطينيِّين. وقيل: إنَّ
رُفاة "أبو جهاد خليل الوزير"، حتَّى أنّني سمعتُ أنَّ الطَّيران
الحربيِّ قام بقصفها بالبراميل بعد هذه الحادثة؛ لتضييع معالم الجريمة".
قرأ
"نبهان" خبرًا من أخبار (جوجل) المُتداولة، وهو ما يؤكِّد صحة
حكاية علوان:
-(مع
بداية شهر نيسان .أبريل. من عام 2019، وقبل أقلَّ من أسبوع على بدء الانتخابات
التشريعيَّة الإسرائيليَّة المُبكِّرة، عن استعادة رُفاة الجندي الإسرائيليِّ
(بومل) المفقود منذ عام 1984 في جنوب لبنان)*منقول عن مصادر الأنترنت كما ورد.
الموضوع
خارج نطاق اهتمامات "نبهان" أصلًا، ولم يُفكِّر قبل ذلك، ولا
يعتني بكلِّ شيء يخصُّ السِّياسة.
الصُّدفة
وحدها قادته للالتقاء بــ "علوان"، وجلسته الوحيدة في المقبرة،
فتحت عينيْه على محيطه الذي يجهله تمامًا، ووجد في نفسه من التَّفاهة ما جعله لا
يشعر بالحياة مثل الآخرين، ومُنعزِلًا عنهم، وعن آلامهم العظيمة؛ تولَّدت عنده
رغبة قويَّة حرَّضته للتعرُّف أكثر على طبيعة، وحقيقة الموضوع الذي سمعه، وللمرَّة
الأولى من "علوان"، وتابَعَ:
-(كانت
مصادر إعلاميَّة أمريكية، قد كشفت في وقت سابق، أنَّ القُوَّات الروسية نقلت رُفاة
أكثر من عشرة أشخاص من مقبرة مُخيَّم اليرموك إلى مخبر طبٍّ شرعيٍّ في
"إسرائيل" للتأكُّد من هُويَّتها، ونقلت عن مُتحدِّث باسم جيش الاحتلال
"الإسرائيليِّ" قوله: "أنَّ الجُثَث التي لم يتم التعرُّف عليها من
المُحتَمل أنَّها تعود لفلسطينيِّين، وسيتمُّ دفنها في مقبرة "الإرهابيِّين".
ضمن قبورٍ مجهولةٍ، وفي موقع لن يتمَّ الكشف عنه)*منقول عن مصادر
الأنترنت كما وردت.
آخر
عبارات وَعَيْتُها من "علوان"، لم أَنْسَها:
-"وما
قيمة الأخلاق إذا لم تُطبَّق، وبَقِيَت كلامًا بكلام، أو حِبرًا على ورق في بُطون
الُكُتُب، وإذا تجرَّد الإنسان من الأخلاق والقِيَم، لا شكَّ أنَّه سيُصبح وحشًا
كاسِرًا، تُحرِّكه غريزة القتل والتدمير.
يا
للغرابة..!! اِنتهاكُ حُرمة القُبور والأموات. أتساءلُ حقيقة: أعلمُ خُبث ولؤم
اليهود, وماذا الذي فعلوه ببقايا الجُثَث التي أخذوها معهم، هل بالفعل دَفنُوها؛ اِحْترامًا
للموت فقط، أم رَمُوها في المزبلة، أو أحرقوها..!!؟".
كنتُ
أرى دموع "عُلوان" أثناء
حديثه القصير لي تنحدر على خدَّيْه نُزولًا إلى أسفل ذقنه؛ لترتطم وتتناثر على
بلاط القبر الرُّخاميِّ. أكَّدتُ مكانها مرَّتيْن، لحظة وصولها لِسَطح الرُّخام
المُعتِم، وقد ضاعت لمعته المعهودة.
..*..
(69)
ما
زلتُ مُتأثِّرا بجلستي القصيرة مع عُلوان التي لم تتعدَّ في أحسن حالاتها
ولا أذكر أنَّها تعدَّت السَّاعتيْن إطلاقًا، وقبل مُغادرتي عند توديعه، رأيتُ
الإصرار في عينيه العصيَّتيْن على الدُّموع. عينايَ هُما اللَّتان اِسْتهلَّتا، وختمتا
وداعنا الأخير بالدُّموع عنهما، وعن عَيْنيْ "عُلوان" الجامدتيْن.
لفت
اِنْتباهي بتفتيشه في جيوبه عن حاجة، لم أتصوَّرها قبل أن أراها ورقة مطويَّة،
أخرجها من بين كومة أوراق عتيقة وقديمة، أظنُّ أنَّ لأهميَّتها عنده؛ يحتفظ بها
بحرص شديد يأخذها معه أينما ذهب.
-يا
"نبهان".. يا صديقي، بعدما عرفتُ أنَّكَ لستَ من سُكَّان المُخيَّم
سابقًا، وظُروف الحرب قادتكَ إلى هُنا، هنا ساحات الموت بالجملة، ضاقت شوارع وأزقَّة
المُخيَّم بها، ولا أظُنُّكَ إلَّا أنَّكَ عابرٌ، وستُغادر، أنا هُنا لن أغادر،
إلَّا إذا غادرتْ أرضُ المُخيَّم بأكملها الكُرة الأرضيَّة. هاتان الورقتان التي
سأُعطيكَهما، هما أمانة برقبتكَ إلى يوم الدِّين.
رسالتي
أنا بالذَّات إلى العالم كتبتُها قبل سنوات إلى العالم في الخارج المُتفرِّج علينا
بمشاعره المُتحجِّرة، وأخرى اِئْتَمَنَني عليها أحد جيراني في الحارة، وهو "اﻷستاذ
فوزي حميد"، الذي اِنْقطعت أخباره عنِّي، وسمعتُ خبر اِسْتشهاده, وعلى
الأغلب وذلك مؤكَّد أنَّه كان من بين مجموعات قُّتلت جماعيًّا بطريقة بشِعة، أثناء
الحصار الخانق للمُخيَّم، لكن لم تتسنَّ لي الفُرصة؛ لإرسالهما بأيَّة طريقة كانت.
أُؤَمِّلُ بكَ أن تكونَ حُرًّا جريئًا شريفًا، وأن تقوم بنشرها.
-يبدو
أنَّ ثقتكَ يا "علوان"، ربَّما أنَّكَ وضعتها في الموضع الخاطئ،
أنت لا تعرف أنَّني لا أجيد القراءة، بأكثر من معرفتي بقراءة اِسْمي، أو كتابته
فقط". نبهان يُخاطب نفسه، وتابع: "آه من هذه اللَّحظة..!! أتمنَّى لو
أنَّني أكملتُ دِراستي -إنَّها عَقْلِيَّتكَ التِّجاريَّة يا أبي رَحمَات ربِّي
عليكَ- لكنتُ الآنَ قادرًا على التفاعل مع الموقف، ليتَ الزَّمان يعودُ، لِتحضُر "نورما"
أمامي، وتُنقذني مِمَّا أنا فيه ، كلُّ ذلك يهون بما أنَّ "عُلوان" لا
يعلم شيئًا عن أُمِيَّتي وجَهْلي، سأُمثِّلُ الدَّوْر للنهاية" :
*(الرسالة
الأولى):
"اِسْتغاثات
أهل اليرموك ..لم تجد أذُنًا صاغية، عندما اِقْتحمت عصابات مُسلَّحة المخيم المنكوب.. تُطالب
الناس بالتوبة؟، وكأنَّنا ندين بديانة أبي لهب؟، وتقطع الرُّؤوس أمام أعيُن
النِّساء والأطفال، وتدوس بالأقدام علم فلسطين.
لم
يعلموا بأنَّ إيماننا كالشَّمس لا يحجبه الموت، ولا المُرجفون..!! جباهنا لا تنحني
إلَّا للسَّماء، وإن اِنْكسرت ففي الأرض للسُّجود.. نموت بالرَّصاص من القصف ، هذا
كان يومـنا، وكلَّ يوم راح، حتَّى ولو كنا
في بروج مُشيَّدة؛ فلن يزيد في أعمارنا دقيقة واحدة.
يا
أطفال اليرموك: كيف اِنْتُزِع الخوف والأرق من أعينكم. رغم مسافة الموت تُلامِسونه
ويلامسكم. أُهديكم روحي، وياسمينة ليست بيدي الآن بل أتخيَّلها بعطر الحُبِ
الدِمشقيِّ الأصيل. ما فارقتكم حتَّى تَغْفُون، وطوال اللَّيل أحرسكم، وإن فَزِعْتم
أُغنِّي لكم أنشودة عن الوطن لا تنكسروا ؟!
مهما
كان كيْد الطغاة.. مهما اِسْتحكَـم القيْد، وطُوِّقتم بالنَّار.. مهما اِشْتدَّ قتلكم .. ومهما خُذِلْتُم !! وإن تساقط على
تراب مخيَّمنا الطَّاهر الشُّهداء فتلك قمَّة العطاء.. قمـَّة الحياة.. دماؤكم النقيَّة
سَرَت فيكم من المُثنَّى، وصلاح الدِّين، وبُطون أمهَّاتنا لا تتهاون بإنجاب الثَّائرين،
كونوا على ثِقةٍ بأنَّ الفجر سيبزغ من جديد كلَّ يوم. والغُصن اليابس؛ سيورق أطفالًا
لفلسطين".*(أرسلت هديَّة
للرواية من كاتبة فلسطينيَّة مُقيمة في سوريا).
...
*(الرِّسالةالثَّانية):
(مُخيَّم
اليرموك.. وداعًا. قُبلةٌ، ودمعةٌ، وباقةُ وَرْدٍ؛ حين تكتظُّ الذَّاكرة بالرَّاحلين
ننسى لنعيش، إنَّه لأمرٌ مُرهقٌ أن تُصبَح الذَّاكرة مقبرة ، فيها من الأموات أكثر
ممَّا فيها من الأحياء... إنها تقتل فينا روح الإنسان... غمرني حزن عميق.
كانت
عودتي إلى اليرموك لساعات أشبَه بأن تُقابِل مُصادفةً صديقًا قديمًا وعزيزًا؛
فتعرف أنَّ الحياة لم تكُن منصفةً معه، إنَّه باتَ شريدًا ومُعدَمًا وقتيلًا.
اليرموك
منبع العمل الوطني الفلسطيني، له طُهرٌ عجيبٌ، نقيٌّ كماء وُضُوءٍ. قريب من القلب.
وطنٌ ثانٍ... إنَّه المُخيَّم... بعد أن استفاق من نومه، نَهَض حالًا قبل أن يزول
اِحْمرار النَّوم من عيْنيْه قلَّب المحطَّات الفضائيَّة، واِسْتقرَّ على محطَّة
بعيْنها... جاءه الخبر:
"لقد
تمَّ تحريرُ مُخيَّم اليرموك والحجر الأسود، والقضاء على الإرهابيِّين" صرخ
بفرحٍ:
"الموت
لطيور الظلام، قفز إلى الأعلى، ولِفَرْط فرحه وحُزنه... بكى. لقد انتهت سبعُ سنواتٍ عِجاف... في اليوم التَّالي،
جاهد للوصول إلى المُخيَّم، كان قلبه يعدو أمامه وهو يقترب من ذلك البيت الذي سَرَق
أجمل أيَّام عُمُره، ليجمع مَالًا لشرائه.. هذه ساحة الريجة، وهذا فرن (أبو فؤاد)، وشارع لوبيه، وجامع الوسيم،
ومكتبة الرَّشيد.
هنا
في هذه الزاوية، كُنَّا نختلف ونتَّفِق في المواضيع السياسيَّة مع (أبو شادي)
الصديق الحميم... يا لهول ما أرى. !! دمار في كلِّ مكان، عمارات مُهدَّمة تحوَّلت
إلى تلالٍ من الرَّمل. اِنْفجارات، وهدير الرَّاجمات، القنابل هزَّت الأرض عميقًا،
الدَّكاكين مخلوعة أغلاقها، وقد تقعَّر
حديدها إلى الدَّاخل بسبب (التفريغ ) في
ضغط الهواء، الذي ولَّدته الانفجارات المتتالية، أبنية عديدة مُكوَّنة من خمسة أو
ستَّة طوابق قد اِنْهارَت بأكملها، وبقيت من بعضها لوحات مُعلَّقة على بقايا أساس
أبنيتها بين أصابع الحديد والإسمنت المُجرَّحة العارية. شوارع مُقفَرة، وبيوت
مهجورة لا أثر للحياة فيها، وأغمضتُ عينيَّ هَوْلا.
أغمضتُ
عينيَّ، لأرى أعماقي التي كانت تغلي ثمَّ تهدأ، لِتتبلور فيها أشياء وأشياء، كنتُ
أحسُّ كأنِّي أتنفَّسُ من خُرْم إبرة ، وكأنَّ جبال الأرض كلَّها جاثمة على صدري،
لم يكن دِماغي قادرًا على المواجهة والفهم. كان كلُّ ما في المُخيَّم ينطق، يهذي،
يُؤنِّب... وأطرقتُ رأسي خجلًا... كانت آثار القنابل قد تركت في جدران كلِّ بيتٍ
بصمات إطلاقها، وهدمت بعضها الآخر بأكمله... من وقتٍ لآخر تمرُّ سيَّارات ضخمة، أو
درَّاجات ناريَّة ، تحمل أثاث البيوت إلى خارج المُخيَّم. شيء ما ضدَّ العقل لا يُمكن
تصديقه. أبناء المُخيَّم وجوههم شاحبة النَّّظرات ترافقها أو تواكب اِنْحسارها...
صمت حزين مُتوتِّر ينفجر من أحجار البيوت والأرصفة.
صمت يروي ببلاغة مأساة مُخيَّم يعيش لحظاته الأخيرة،
مُخيَّم حمل لواء النِّضال ضدَّ العُدوان الصُّهيوني، مُخيَّم شكَّل ذات يوم بِذْرة
الصِّدق في العمل الفِدائيِّ، التي نبتت من جُذور الأصالة في تُربة الهزيمة والعار
العربيَّة.
ثقيلا
كان ذلك المساء عند مُفتَرق الطُّرق ، على رأس شارع المدارس وتقاطع شارع اليرموك،
مكتب الأستاذ المحامي "سمير الزبن" ، كان يبدو، وكأنَّ زلزالًا شديدًا
قد ضربه.
انتابني
ضياع حلزوني ترى، أيّ من هذه الطُّرق أسلُك؟
لقد
ضاعت ملامح المكان تمامًا، أنا الذي أعرفُ المُخيَّم، كما أعرفُ باطن يدي... انصلبت
على مُفترق الطُّرق ، تُلَوْلِبَني دوَّامة الضَّياع،
ألقيْتُ
بنفسي على الرُّكام، وتقدَّمتُ باتِّجاه ما كنتُ أُسمِّيه بَيْتي، تقودني ذاكرة
المكان... لقد كان حُلمُ حياتي اِمْتلاك بَيْت، وها هو الآن مُدمَّرًا تمامًا،
كَوْمَة من الرُّكام... شعرتُ برغبة في التقيُّؤ، تراجعت وجلستُ على كَوْمة من حُطام،
كَمَن سُلِبَ منه عقله، والقلب، والرُّوح دفعة واحدة.
كان
اليرموك دمعة مُحارِب مُعلَّقة على ناصيةٍ
تشتاق لِعِناق الأحبَّة، كان نجمًا مُتألِّقًا في كلِّ شيء، بأطبَّائه، ومُهندسيه،
وفعاليَّاته الاقتصاديَّة، ومُثقَّفيه، ورجالاته، شهرته حملتها الطُّيور في
حناجرها الدَّافئة، وباحت بها إلى بُلدان بعيدة.
اِنْتابني
شعور غريب بالرَّغبة الجامحة في مُغادرة المكان، بينما كانت سماء اليرموك مجروحة
حتَّى العظم بدُخان التَّنْحيس، سلختُ عاطفتي ورميتها في برميل القُمامة.
كانت
ذات يوم، نكبة، ونكسة، أمَّا هذه الكارثة فكانت أمُّ النَّكبات التي أصابتنا في
الصَّميم... يا أحبَّتي، اُدْفُنوا يَرْمُوكَكُم الحبيب واِنْهضوا، نهضنا سابقًا،
وسننهض من جديد إلى الجحيم. يا شرقًا مسكونًا بالتَّعاسة والمُؤامرة والاستبداد...
ها هي هجرة أخرى إلى بلاد الله الواسعة... في ذلك المساء الحزين، نامت الشَّمس
بألوانها الذَّبيحة فوق أبنية المُخيَّم المُهدَّمة، وأصبح جزيرة سوداء، بينما
كانت يد صديقي الدكتور أمجد السَّعيد تُهدهِد على كتفي: "لا تحزن يا صاحبي...
غدًا تُشرِق الشَّمس، الدَّرب طويلة، والرَّوح غَيْمة سوداء. محبَّتي).*(نقلت من مصادر
الأنترنت خدمة لفكرة وهدف الرواية، وهي من مقال للأستاذ فوزي حميد).
-سأخبركَ
حكاية أخيرة قبل مُغادرتكَ، من الضَّروري أن تسمعها إن كان وقتكَ يسمع، ومستعدٌّ
لذلك.
-تفضل
على الرَّحب والسَّعة يا "علوان".
هزَّ
"علوان" رأسه علامة رضا مُثقلة بالحزن العميق، وتمتم بكلمات غير
مفهومة، ثمَّ رفع رأسه إلى السَّماء، كأنَّما سمع نداءً. لدقائق كان لسانه جامدًا
خلف أسنانه المُصْفرَّة من قلَّة تنظيفها، ومن أثار التدخين أيضًا.
بصوت
ردَّدَتْ صَدَاه بقايا القُبور، قال:
-هل
أنتَ جاهز يا "نبهان"؟.
-بكلِّ
تأكيد.
-كان
هُناك شابٌّ أعرفه من أبناء الحيِّ القريب بيته من بيتنا قبل الحرب، على ما أذكُر
أنَّ اِسْمه إذا لم تخُنِّي الذَّاكرة "أيهم أحمد"، وكان
مُعلِّمًا للموسيقا في مدارس المُخيَّم، وفي قمَّة الحصار الخانق 2015، قطعوا
المياه و الكُهرباء، وتوقَّفت إمدادات الطَّعام، والموادِّ الضَّروريَّة عن
المُخيَّم كحليب الأطفال والأدوية، اِضْطُرَّ البعض للدَّفع لوسطاء عبر حاجز
البطِّيخة، لدفع عشرين ألف ليرة سوريَّة مُقابل قطرميز (عبوة زجاجيّة) مُرَبَّى من
أجل طفله المريض بداء مرض اليرقان.
من
قمَّة الجوع.. إلى قمَّة الموت التي كانت أُمنية للبعض، لكنَّ الإصرار على الحياة
كان أقوى من كلِّ هذا.
وفي
يوم مُشمسٍ دافئٍ أثناء فترة السَّماح بالخروج خلال تلك الفترة من العاشرة حتَّى
الثَّالثة، لمن أراد شراء الخبز الذي عزَّ الحصول عليه في فترات كثيرة.
"أيهم
أحمد" فاجأ العالم أجمَع، بخروجه إلى وسط شارع لوبية في ساحة
الفرح، لم يكترث بما حَوْله من الدَّمار والخراب، ومعه آلة البيانو، وجمع حوله
أعدادًا لا بأس بها من الكبار والصِّغار المُحاصرين، وعزف لهم على مدار ساعتيْن
كاملتيْن، وغنَّى للحياة والأمل ولفلسطين.
أراد
إحياء الفَرح في النُّفوس المُنهكة المُتعبة، من ضجيج الموت على مدار السَّاعة، مع
كلِّ دقيقة تأتي من المُتوقَّع أن يأتي بلا استئذان.
تأبى
صورة "علوان" الأخيرة مُغادرتي إلى هذه اللَّحظة، هو ما زال هناك
بكلِّ تأكيد, وها هي كلمته صدقت:
-"ولا
أظُنُّكَ إلَّا أنَّكَ عابرٌ، وستغادر، أنا هُنا لن أغادر، إلَّا إذا غادرت أرضُ
المُخيَّم بأكمله الكُرة الأرضيَّة".
كان
الحدسُ مُتوهِّجًا عنده، على الرَّغم من المُستنقع الغاطس فيه إلى أُذُنيْه، ولا
أظنُّ إلَّا أنَّ الله يُجري الكلام على لسانه، كأهل الكَشْف من الصُّوفيِّين.
..*..
(70)
عندما
تأتي الرِّياح بما لا تشتهي السُّفُن، تختلف الخُطَّة المرسومة أو النظريَّة،
وتنعكس طريقة التَّفكير؛ للتعاطي عمليًّا مع مُعطيات جديدة، على عَجَلٍ تُبنى رُؤى
وليدة ساعتها.
بعد
غياب الشَّمس بقليل، و"نبهان" يتقلَّب على جمر الاِنْتظار، مع
كلِّ دقيقة يتوقَّع وصول الموت له، أو وقوفه وجهًا لوجه أمام الموت، ولا خيار، ولا
قُدرة له في دفعه عن نفسه. الهروب من المكان الخَطِر للمكان الآمن هو الحلُّ
الوحيد.
المزرعة
وسط مجموعة مزارع الغوطة الشرقيَّة، بعيدة عن العُيون، وعن سيطرة النِّظام، على
كُلِّ حالٍ لم يستطع "نبهان" كِتْمان قلقه، وتَبرُّمه من الوضع
الحالي، بادر فَوْر أن رأى وجه المُهرِّب يدخلُ المسكن المُقيم فيه:
-ها..
بشِّر يا (أبو دعَّاس)، والله طقَّتْ مَرارَتي، وطلعت روحي، تَرَاني عائش
على أعصابي.
المُهرَّبون
شديدو الحَذَر. الاِسْم الذي أعطاه لـ"نبهان" لكي يتواصل معاه من
خلاله، إنَّما هو اِسْمٌ حركيٌّ، ويتغيَّر الاِسْم مع كلِّ عمليَّة جديدة. اِسْمه
الحقيقيِّ لا يُمكن البوْح به لأُناسٍ عابرين، الاِحْتياط واجب، اليوم اِسْمه (أبو
دعَّاس) وغدًا غير معروف.
-صلِّ
على النبي يا سيِّد "نبهان"، طوِّل بالك واِهْدأ، لا داعي للقلق،
ولا للتعجُّل أنت في أمان هنا مع هذا الشَّاب العسكريِّ المُنشقِّ عن حاجز
البطِّيخة، هو من درعا، ها نحن نتسلَّى ثلاثتنا هذه اللَّيلة معًا.
موعود
بوصول خبر مُؤكَّد بأنَّ الطَريق معنا ستكون سَالِكة حتَّى المصنع، وها أنا سهران
معكم لغاية الثانية بعد مُنتصَف اللَّيْل آخر موعد من المُمكن أن نتحرَّك إلى
وِجهتنا، المكان هنا مُؤمَّنٌ من جماعتي، لا تقلقا أبدًا.
-أنا
واثق بكلامكَ، ولكنَّ الإنسان يبقى إنسانًا قلقًا على الدَّوام.
العسكريُّ
جالس بصمتٍ مُطبِقٍ. عيناه تتنقَّلان ما بين وجه "نبهان" ووجه (أبو
دعَّاس)، يتأمَّل تقاسيمهما وجنبات الغُرفة. ضُوء الشَّمعة الوحيدة خافت، لم
تظهر الملامح بوضوح تامٍّ كما هي العادة. من غير المؤكَّدِ لهما أنَّ هدوءه ناتج
عن اِرْتياح للموقف، ولم تبدُ على وجهه المُتعب علامات القلق، كأنَّ طبقة غُبار
كثيف غطَّت على حقيقته النَّضِرة، على خدَّيْه بقايا حياة نابضة أخفاها التَّعب،
من غير المُؤكَّد أنَّه يَتصنَّع الهدوء.
تابع
"نبهان":
-هُروبي
لا فائدة منه، مع عدم المُؤاخذة منكَ، واِسْمح لي؛ فالعسكري من رجال (أبو حيدر)،
وما يُدريني أنَّه جاء من أجلي؟.
العسكريُّ
غيْر مُبالٍ بما سَمِع من "نبهان"، لم يظهر عليه أدْنى انفعال،
إمَّا أنَّه أطرَشٌ لم يسمع شيئًا، أو أنَّه شاردٌ في عوالم بعيدة عنه، اِسْتقطبتُ
جميع حواسِّه إلى دائرة غير هذه النُّقطة البائسة، هل من فكَّر بالردِّ، أو أنَّه
اتَّخذ قراره بعدم الردِّ، لعدم جدواه في الظَّرف الرَّاهن.
-يا
زلمة شو هالحكي إلِّلي سمعته منكَ، عيبٌ عليكَ، يجب أن تحترمني أوَّلًا، وبالنِّسبة
لهذا العسكريِّ أنا واثق منه، وهو ابن عالم وناس، وإنسان شريف عندما فكَّر بالاِنْشقاق،
وخاطر بحياته حتَّى وصل إلى هُنا.
-عفوًا
سامحوني، لم أكُن أقصد الحطَّ من شأنكم، أو اِتَّهامه. معاذ الله كلُّ النَّاس خير
وبركة. ردَّ "نبهان"
بنبرة اعتذار على تقريع وتأنيب (أبو دعَّاس) له.
العسكريُّ طاوٍ على نفسه لا ينوي الكلام، أو
بالردِّ سلبًا أو إيجابًا، من غير المعروف من أين جاءته برودة الدمِّ الإنكليزيَّة
هذه في الموقف العصيب المُغيظ..!! كأنَّ الضُّوء الخافت يُبدِّد حماسة الردِّ
الغاضب، ومن المُحتمَل أن يتحوَّل إلى العِراك بالأيدي والضَّرب.
-عُمومًا
يا شباب آمَلُ أن نكون إخوة يدًا واحدة، لأنَّ مصيرنا مُشترك، ونحن في قفص واحد،
أنا حريصٌ جدًّا على إيصالكم لوجهتكم بأمان، يجب أن نتحمَّل بعضنا بعضًا، ولا داعي
للتعصيب غير المُبرَّر أبدًا حسب وِجهة نظري، ولتصفية الموقف من كلامكَ يا "نبهان"،
يجب الاِعْتذار لصديقنا العسكريِّ.
-لا
مشكلة عندي بالاِعْتذار بأيَّة صيغة تكون مقبولة وتُرْضيكُما..!!
اِهْتزاز
خيال رأس العسكريِّ أكثر وُضوحًا على الجدار خلف رأسه، خُيِّل إليهما أنَّ الجدار
اِهتزَّ مع حركة خيال الرَّأس، كأنَّه يريد أن يقول:
-"لا
داعي للاِعْتذار، أو اِِِعْتذاركَ مقبول".
لكنَّهما
لم يَرَيا أنَّ شفتيْه تباعَدتا أو تحرَّكَ لسانه، وعلى الأغلب أنَّهما لم يسمعا
قبوله للاِعْتذار، من المُؤكَّد أنَّه سمعهما بوضوح أيضًا.
تذكَّر
"نبهان" أمر الرِّسالتين اللَّتيْن حمَّلَهُما له "عُلوان"،
وأراد التخلُّص منهما، وما من أحدٍ يُفكِّر برَمْيِ حِمْل الرِّسالتيْن على
كَاهِلِه إلَّا (أبو دعَّاس)، اِسْتخرجهما من بين وثائقه الشَّخصيَّة –الهويَّة
وجواز السَّفر ومجموعة من الصور لعائلته؛ وقال:
-يا
(أبو دعَّاس) مِشان الله لا تؤاخذني، أريدُ تحميلكَ أمانة، وكما تعلم
فالأمانة غالية.
-ولا
يهمَّك يا رجُل، والله لعيونك..!!.
-هُما
رسالتان من شخص اِسْمه "عُلوان"، وهو من النَّاس القلائل الذين
ما زالوا في المُخيَّم هُناك، وبطريق الصُّدفة اِلْتقيته في مقبرة المُخيَّم ذات
يوم، وخجلتُ أن أعترفَ أمامه بجهلي، وعدم اِسْتطاعتي القراءة والكتابة، ووضعُنَا
الآن في مَهبِّ الرِّيح؛ لذلك أريدُ نقل حِمَلِ الأمانة من رقَبَتِي إلى رَقَبَتكَ،
إذا لم يكُن عندكَ مانع..!!.
-بكلَّ
تأكيد أنا بخدمتك يا "نبهان".
تناول
(أبو دعَّاس) الورقتيْن، ورَفَع طرف الفَرْشة الإسفنجيَّة العتيقة التي يجلسُ
عليها، ودسَّهما تحتها بلا مُبالاة بدون النظر
إليهما، ولم تُثيرا اِهْتمامه لمعرفة ما فيها من معلومات، ثمَّ أعاد الفرشة عليهما
باِطْمئنان أنَّهما في الحِفظ والصَّوْن بِدَفْنِهما، وسَحب نفَسًا على سيجارته لِيَفتح
موضوعًا، وبعد خمس دقائق خيَّم فيها الصَّمتُ على المكان، إلَّا من نُباح الكَلب عند
طرف المزرعة على بُعد مئتيْ متر تقريبًا، وصل أسماعهم ضعيفًا، نُباحه ليس مُقلقًا
على الإطلاق، قام (أبو دعَاس) إلى خارج الغُرفة، اِبْتَعد عن بابها عدَّة
أمتار، تنبيهٌ من نغمة الواتساب جعله يرجعُ إلى مكانه. وقال:
-الاطمئنان
ضَروريٌّ، الحمد لله الأمور بخير. الكِلابُ تنام نهارًا وتستفيق ليلًا ولا تنام،
اللَّيْل مَيْدانها الفسيح تظهر فيه غريزتها بالحراسة والمُراقبة، حساسيَّتها
فائقة عند اِسْتشعار أيِّ خطر ممكن الحدوث، ولو بنسبةٍ ضئيلةٍ لِتنبيه صاحبها.
الكلابُ
تُدافع عن المكان بشراسة، لا تعضُّ اليدَّ التي تُطعمها وتُحسن لها، قسمًا بالله
فيها وفاء أكثر بكثير من البشر. يكفي الكلب أنَّه ينبُح حولكَ ولا يُغادر مكانه
أبدًا، ولا تُغريه كلبةٌ تمرُّ من جانبه تجعلهُ يتبعها ويركض خلفها، وينسى
مُهمَّته.
تشجَّع
نبهان للمُشاركة برأيه:
-ألا
ترى أنّه من الظُّلم وصف إنسان بالكلب..!!؟
-والله
إنَّ كثيرًا من البشر جعلهم الله دون مرتبة الحيوانات؛ لمَّا الإنسان يخونُ أخيه وصديق
عمره، ويطعنُ بلا تردُّدٍ أو رحمةٍ الظَّهر الذي حَماهُ ودافع عنه يومًا ما.
دبَّت
الحماسة في قلب "نبهان"، عندما تذكَّر صديقه "محمود" الذي
كان تائهًا هائمًا على وجهه، وضمَّه إليه، فقال وهو يُطلق تنهيدته العميقة:
-أنا
ما الذي أوصلني إلى هنا..!!؟ إلَّا خيانة صديق الطُّفولة "محمود"
الذي كنتُ أعدُّه كأخي الذي لم تلده أمِّي، وشقيقي بعد موت أشقَّائي وأُسْرتي
جميعهم.
-الخيانة
سببُ كلِّ بَلَاوينا. بعضُ النَّاس بلا ضمير ولا كرامة ولا شرف. ما الذي أوصلنا
لهذه الحال إلَّا المُخبرين والجواسيس أولاد الحرام الذين لا ينامون، ولا يتركون
أحدًا ينام، فيهم من خِصَال الكِلاب الضَّالة، ولا تتردَّد في مهاجمة أيِّ شخص
حتَّى وإن أطعمها. قال (أبو دعَّاس) ذلك ردًّا على كلام "نبهان"
الشَّبيه بنبرة الاحتجاج واللَّوْم لنفسه.
من
جديد نُباح الكلب عند باب المزرعة اِشْتدَّ بضراوة، تزامن مع رنين (الموبايل)،
تأكَّد من السَّاعة قبل الضَّغط على زرِّ فتح المُكالمة، كانت تُشير للعاشرة وخمس
دقائق بالضَّبط، جاءه صوت سَمِعَه "نبهان":
-معلَّم.
اِفْتح الباب الخارجيِّ لو سمحتَ.
عندما
حطَّت قدمه في أوَّل خُطوة خارج الغُرفة، صرخَ صوْتًا أَسْكَتَ الكلب، وأصمته،
وكأنَّ شيئًا لم يكُن قبل قليل. رجع صديقه القادم بعدما هَمَسَ له من حيث أتى.
تصافَحا عند باب المزرعة مرَّة واحدة، كانت للقدوم، والوداع بآنٍ واحدٍ:
-الطريق
هذه اللَّيلة ليست معنا.
لم
يُعلِّق، ولو بكلمة واحدة، كان يُفكِّر بطريقة مُبسَّطة لإقناع "نبهان"
والعسكريِّ بهدوء، دون حدوث مُهاتراتٍ لا فائدة منها، سوى أنَّها تُعكِّرُ
صفوَ ليلته. مضى زمان على سفر "نبهان"
..*..
(71)
رُبع
ساعة من عودة الصَّمت إلى جلستهم؛ كفيلة باستدعاء جميع مخاوف "نبهان"
الظّاهرة والباطنة. من غير المُؤكَّد أنَّ شجاعة العسكريِّ جعلته لا يُبدي أيَّ اِعْتراض
أو تأفُّف.
ستُّ
عيون في الغُرفة ذات الإضاءة الخافتة، لم تستطع أن تُثبِتَ رؤية أيّ شيء على
حقيقته، ضياع الوعي، وتشتَّته في دروب مُختلفة في مثل هذه اللَّحظة.
كلُّ
واحد من هؤلاء الثلاثة، مشغول بهمومه المُتباعدة، أو المُتقاربة مع حيِّز الغُرفة
وزَمِيلَيْه، التَّفكير باتِّجاهاتهم الخاصَّة ألْهَاهُم عن بعضهم، لدرجة أنَّ
ألسنتهم تيبَّست عن الكلام ولو بكلمة واحدة.
(أبو
دعَّاس) بفطنته، وخبرته العريقة بالتَّعامل مع
نوعيَّات شتَّى من البشر ذوي الظُّروف الخاصَّة في أوقات حرجة، كان على يقينٍ بِتَوتُّر
الجوِّ في الغُرفة، خاف الاِنْفجار مُجدَّدًا على لسان "نبهان"،
تنحنح بصوت عالٍ على غير عادته، رفع ذِراعيْة للأعلى لِيَتمطَّى، لِبَثِّ النشاط
في عضلات جسمه المُتعبة، ومانع لخروج التَّثاؤب، واِسْتطاع قهرهُ بعطْسةٍ؛ جدَّدتِ
الحيويَّة في جهازه التنفسيِّ، مسَح بقايا الرَّذاذات المُتناثرة حول أنفه وفمه،
ببقايا منديل ورقيِّ أخرجه من أحد جيوبه.
اِعْتدل
بجلسته بعد أن كان مُتَّكئًا، وتناول بابور الغاز الشَّبيه بالكُرة الأرضيّة، أو
بالبطِّيخة ذات الدوَّار، ربَّما ذكَّر العسكريِّ بمُجسَّم البطِّيخة المُتربِّعة
وسط السَّاحة الواسعة. بجانبه عبوة ماء ملأ منها إبريق الشَّاي، وقال:
-فلنشربِ
الشَّاي، أُقسمُ بالله أنَّني لم أشرب الشَّاي طيلة هذا اليوم.
سَحَب
سيجارة من عُلبة (مارلبورو)، أخرجها من جيب سُترته العُلويَّة على جانب صدره
الأيمن، ودفعها إليهما مع الولَّاعة البلاستيكيَّة الحمراء، أشعلوا ثلاثتهم
سجائرهم.
اِجْتماع
دُخَّانهم شكَّل سَحَابات سديميَّة؛ زادت الغُموض في الغُرفة. خيالاتهم المُنعكسة
على الجدران باهتة، تتحرَّك مثل مسرح خيال الظلِّ (كركوز وعيواظ)، لكنَّها
لم تستطع إحداث اِرْتجاج في أيِّ جِدار يلتصق بأحد خيالاتهم.
أنفاسُهُم
أحدثت أثرًا لم يره ثلاثتهم على شُعلة الشَّمعة الذَّائبة ببطء، كما أعمار البشر المُنزلقة
على ساحات المكان والزَّمان.
خمس
دقائق أخرى أدخلت بُخار إبريق الشَّاي
المُتصاعد، كمُنافس لأنفاسهم ودُخَّان سجائرهم. صوتُ هَيَجان الماء الخافِت
المُترافق مع الغليان، لم يستطع تشتيت صمتهم المُهيْمن على الجلسة، بل كان مُجرَّد
حركة متزامنة مع حركات أنفاسهم الحرَّى بالقهر الموجِع، وصوت حرق الغاز بالنَّار
المُشتعلة تحت الإبريق.
قام
نهض من مكانه، وأحضر كاسات الشَّاي، بعد
أن غسلهم مُباشرة على بُعد متر خارج بُوَّابة المدخل الرَّئيس، بَدَلًا من أن
يغسلهم في المطبخ داخل الشُّقَّة الصَّغيرة، التي تحتوي أيضًا على حمَّام.
تشاركيَّة
العمل بتوازُعِه فيما بين الحُضور، يُخفِّف من أعبائه المُثقلة لشخص واحد؛ يقوم
بتنفيذه بنفسه دون مُساعدة من الآخرين. أُطفِئَت نار بابور الغاز، اِخْتفت أصوات
على الفور كانت تتشارك المكان معاهم، ليُتابع (أبو دعّاس) كلامه:
-يا
شباب أُقسِمُ بالله، أنَّ مجموعة من البنات والنِّساء قبل حوالي أربعة أشهر
تقريبًا، جَلسْنَ في هذا المكان الذي نحن
فيه لمدَّة ثلاثة أسابيع؛ باِنْتظار خبر يأتينا؛ لِضَمان الطَّريق أن يكون معنا
بالكامل، كانت وِجْهَتهم الشَّمال السُّوريِّ، وفي اليوم الواحد والعشرين كان
الانطلاق بأمان الله.
أكثر
ما يُذكِّرني بهم هو صبرهنَّ المُذهِل. في كلِّ يوم كنتُ أجيئهنَّ بلوازم الطَّعام
والحاجات الضروريَّة لهنَّ، لكنِّي لم أجلس معهن جلسات طويلة، أو سَهَرات مثل
سهرتنا هذه.
على ما أتذكَّر أنَّ جميعهنَّ من منطقتكم التي كُنتم
فيها، والمناطق القريبة منها، ولم يبق لهنَّ أحدٌ، ولا خيار لهنَّ إلَّا بالهجرة
إلى بلاد آمنة، وأشدَّ ما أحزنني كلَّما أتذكَّر قِصَّة المرأة المُعلِّمة القادمة
من "الكسوة" أو جِوارها مع زوجها إلى طبيب النِسائيَّة للعلاج من
أجل الإنجاب، ومن سوء الحظِّ أنَّ زَوْجها اِعْتقله الأمن على الحاجز عند المدخل
الجُنوبيِّ، تزامنت لحظة إنزاله من الباص مع هُجوم مُباغتٍ على الحاجز، بعد نصف
ساعة من الاِشْتباكات العنيفة، والباص ينتظر على جانب مُحايد مُتوارٍ قليلًا عن
السَّاحة.
غريزة
السَّائق، وبشجاعته تحرَّك ببطء شديد؛ ليبتعد عن نُقاط التركيز، ومع ذلك لم يسلم
الباص من رشقة طَلَقاتٍ طائشةٍ؛ أصابت جناحه الخلفيِّ قريبة من المُحرِّك بحدود
عشرين سنتمتر.
"نبهان"
كأنَّما اِسْتفاق من ذُهوله وهو مُنطَوٍ على نفسه، أخذَ نَفسًا عميقًا؛ سمعوا صوت
شهقته واضحًا، اِعْتدل في جلسته بعدما كان مُتَّكِئًا على كُوعِه الأيمن، ورأسه
مُرتاح على راحة كفِّه، وقال:
-أظنُّ
أنَّ الشَّاي اِعْتدلَ لونه، وحلَّ طَعْمُه جيِّدًا الآن.
تصاعد
البُخار بخطِّ مُستقيم، ثمَّ بدأ بالاِنْتشار حاملًا إلى أنوفهم رائحة زاكية،
حرَّضت شهيَّتهم للتدخين من جديد، أخرج كلَّ واحدٍ عُلبته من الدُّخَّان الخاصِّ
المُحبَّب له، إلَّا سيجارة (المارلبورو) لا يُمكن لأيِّ مُدخِّنٍ كان أن
يرفضها، لأسباب كثيرة ينفرد بها هذا النَّوع بماركته العالميَّة.
وتابع:
-هل
تذكر اِسْم هذه المرأة؟.
-آه..
نعم على أغلب الظنِّ أن اِسْمها "نورما" على ما أذكُر. وما الذي
يهمُّكَ مِن معرفة اِسْمها، هل تعرفها أو هي قريبة لكَ فُقدَت، وتبحُثُ عنها؟.
-لا
.. لا أبدًا؛ إنَّما حُبُّ الفُضول، لأنَّ حالتها تُشبه حالة اِمْرأة أقامت معنا
في (البنسيون)، لفترة بسيطة ثمَّ اِخْتفت بعد ذلك، ولا أعرف سبب اِخْتفائها، وبنفس
التَّوْقيت الذي ذَكَرْتَه تقريبًا.
-ما
أسعَدَني والله..!! أنَّ هذه المرأة وصلت سالمة إلى منطقة آمنة في الشَّمال
السُّوريِّ، وعملت مُباشرة في مجال التَّعليم، كمتطوِّعة مع أحد المُنظَّمات
الإغاثيَّة التَّابعة للأمم المُتَّحدة، حيث اِسْتقرَّت في تجمُّع مخيَّمات "قاح"
على طريق (الدَّانة – أطمة)
شمال مُحافظة إدلب.
-يا
رجُل كأنَّك تَتَبَّعها..!!؟.
ضحكَ
(أبو دعَّاس) من قلبه، وملأ بصوته جوَّ الغُرفة، لكنَّه بقي محصورًا لأنَّ
الباب والشُّبَّاك كانا مُغلقيْن، وقال:
-والله
من فترة، وأثناء جُلوسي أقلِّب رسائل (الواتساب)، مرَّ معي رقمها المُرَمَّز باسم
غير اِسْمها، رجعتُ للدردشة القديمة. من فوري تذكَّرتُها؛ فأرسلتُ لها سلامًا للاِطْمئنان
عنها. وهذا كلِّ ما في الأمر.
في
اليوم الثالث جاءني الردُّ منها، بهذه المعلومات، وزادت على ذلك أن أرسلتْ رابطًا
على (اليوتيوب)، للقاء معها على قناة "سوريا" في تركيَّا، وعلمتُ
من مقابلتها مع المحطَّة الفضائيَّة:
-"أنَّ
جهة دوليَّة مُهتمَّة بقضيَّة التعليم كافأتها لجهودها، ونتاجها الذي ظهر خلال
الأشهر القليلة التي عملتها معهم، يبدو أنَّها مُتفوِّقة في عملها".
-بالله
يا (أبو دعَّاس) تُراجع الدردشة معها، وإذا كان الرَّابط مازال موجودًا ولم
يُحذف، أن تُرسله لي على رقمي.
فتح
شاشة هاتفه؛ ليبحث عن طلب "نبهان" للرَّابط، لكنَّ رؤيته للتَوْقيت،
وأن السَّاعة بلغت الحادية عشرة والنِّصف، أغلق جهازه، وقال:
-سأبحثُ
لكَ عنه غدًا. وسأرسلهُ لكَ، وإن نسيتُ ذكِّرني أنتَ. مشاغِلي كثيرة.
العسكريُّ
شاركهم شُرب الشَّاي والتدخين، وعلى مدار ساعات لم يُشاركهم، حتَّى ظنِّ "نبهان"
أنَّه أبْكَمٌ فاقدٌ للنُّطق، وغير قادر على الكلام، أو أنَّه أطْرَشٌ، ولم يسمع
شيئًا من حديثه مع (أبو دعَّاس).
..*..
(72)
من
ساحة البطِّيخة إلى ساحة الفرح أو العيد أو (أبو
حشيش)، بأسمائها العديدةِ المُعبِّرةِ عن مساحاتٍ كانتْ سعيدةً، ماتَتِ الحياة
بينهما، وتباعدتا بمسافات سنوات ضوئيَّة من عُمُر الخراب والدَّمار.
مواسم
الأفراح أقلّ بكثير، وتنحسر مساحاتها أمام هجمة أفواج الأحزان المُستمرَّة؛ فَتَلْتَهِم
القلوب، وتُفسِد العقول عن التَّفكير؛ فتستحيل الحياة أنينًا يرتدي السَّواد
قاتمًا، عندها تنسدُّ نوافذ الآفاق جميعها، ويصير الموت أمنية.
غادر
(أبو دعاس) المزرعة، بعد أن أحضر معه العسكريّ المُنشقّ عن حاجز البطِّيخة،
ومع إبريق الشَّاي والتدخين والحديث في شؤون شتَّى، اِنْفكَّ الغضب عن "نبهان"،
وهدأت أعصابه.
..*..
(73)
قام
العسكريُّ إلى الحمَّام لقضاء حاجته. لساعات لم يجد الرَّغبة لِدُخول الحمَّام.
عشرة دقائق فترة غيابه كانت كفيلة باِنْكفاء "نبهان" على نفسه
بتساؤلات حول زميله العسكريِّ هذه اللَّيلة، وقال:
-يا
تُرى هل بالفعل لا يحكي..!! أمْ أنَّه لا يُريد الكلام، وحريص على إخفاء الأسرار
العسكريَّة.
معلوم
أنَّ الحديث عن مثل هذه الأمور ممنوع، ويعاقب عليها القانون، خوفًا من العدوِّ اِلْتقاط
هذه الأخبار، للضَّرر النَّاجم عن إفشائها، وتناقلها على نِطَاقات خارج الخدمة،
وإلَّا يُعتبَر من يقوم بذلك خائنًا للوطن.
وقف
عند خروجه من الحمَّام عند مدخل الغرفة، مُتأمِّلًا "نبهان"
المُتكِّئ على كوعه، لا يظهر أنَّ "نبهان" أبدى أيَّ اِهْتمام أو
اِنْفعال، غير مُبالٍ بوقفة العسكريِّ، كأنَّه غيَّر رأيه، وقرَّر أن يُطلق
العَنَان للسانه للكلام باِسْتفاضة، تنحنح؛ لتنظيف حنجرته بإزالة آثار البلغم
المُتراكم فيها، النَّحْنَحة لم تلفت اِنْتباه "نبهان" المشغول بشيء، من
غير السَّهل التكهُّن بما يُفكِّر به، اِنْطلق لسانه:
-يا
"نبهان"..
اِنْقطعت
سلسلة تفكيره. اِعْتدل بجلسته. فتح عَيْنيْة للمفاجأة غير المُتوقَّعة؛ حين ظنَّ
أنَّ العسكريَّ غير قادر على النُّطق:
-ها
أنتَ تتكلَّم.. غشَّني صمتُكَ الطَّويل، ولم تُشاركنا الحديث، ولو بكلمة واحدة طيلة
ساعات سهرتنا. قال "نبهان".
كان
ينوي الاِنْطواء على نفسه؛ ليغرق في دوَّامة أفكاره، حتَّى يغلب عليه النُّعاس
ويخلد للنَّوم إن اِسْتطاع، عندما سمع اِسْمه على لِسان العسكريِّ المجهول الاِسْم
لهذه اللَّحظة.
وتابع
العسكريٌّ غير آبِهٍ بكلام "نبهان" الغاضب؛ اِحْتجاجًا على الحَرَج
الذي وقع فيه "نبهان" فيما بينه وبين نفسه:
-أنا
اِسْمي "محجوب" وأخبركَ (أبو دعَّاس) أنَّني من درعا،
وأعرفكَ جيِّدًا.
-مُشْ
معقول.. وتعرفني أيضًا..!! لكن لا أذكُر أنَّني رأيتُ وجهكَ قبل الآن.
-يا
رجل كلُّ من دَخَل الحاجز أعرفه، ولو لمرَّة واحدة، ووقعت عليه عيني، وعلى الأخصِّ
المُتعاملين مع (أبو حيدر)، وأنتَ كنتَ تتردَّدُ كثيرًا، ومرَّات كنتَ تُبرِز
لي بطاقة جيش الدِّفاع الوطني الممنوحة لكَ، ولمجموعة (البنسيون) البنات
والشَّباب، وتعليمات (أبو حيدر) بشأنكم كانت مُشدَّدة؛ بتسهيل أموركم
كلَّها، وممنوع على أحد العساكر إيقاف أيَّ واحد منكم، أو تأخيره أثناء عبور
الحاجز بأيِّ اِتِّجاه.
-
أُفْ.. أُف، ها أنتَ عارف عنَّا كلَّ شيء. يعني لا شيء مُخبَّأ أو سِرِّيٍ على
الإطلاق.
-يا
"نبهان" بالنسبة لي أمتلكُ معلومات عنكم، ولم يكُن يخطُر على
بالكَ معرفة أحد بها، يعني أنتَ أحد الشَّباب العاملين مع (أبو حيدر)،
وتشتغلون لحسابه، ولكم حُصَّتكم المتروكة لكم منه، أو ممَّا تتصرَّفون به بزيادة
سعره خارج الاتِّفاق معه.
-أفهمُ
من حديثكَ أنَّني مكشوفٌ لديْكَ، الآن فهمتُ سبب اِمْتناعكَ عن الكلام مُطلقًا
أمام (أبو دعَّاس)، ولا يعرفُ عنِّي إلَّا ما اِخْترعتُه من بنات أفكاري،
وعلى غير وجه الحقيقة والواقع، وأشكُّ أنَّهُ صدَّقني فيما أخبرته به، حينما
اِلْتقيتُه، واتَّفقتُ معه أن يوصلني لِلُبنان. كما تعلم يا "محجوب"
أنَّ المُهرِّبين خطرون لدرجة غير معقولة، لا يتورَّعون عن التَّعامل حتَّى مع
الشَّيْطان. لذلكَ أبديْتُ شُكوكي بها عَلَنًا أمامه، بالله عليكَ مُسامحتي.
-ولو
أردتَ تفصيل عمل، ومُهِمَّة كلَّ واحد من مجموعتك يا "نبهان"،
فعلى اِسْتعداد، لذلك بلا أدنى شكٍّ، حتَّى صديقكَ "محمود".
..*..
(74)
مخطَّطو
المُدُن من المُهندسين المختصِّين؛ يَسْعُون لإبراز مهاراتهم، وخبراتهم العريقة في
ساحات، ودُوَّارات أيِّة مدينة، وعندما اِتَّخذت المُحافظة قرارها؛ بإعادة ترتيب
مدخل دمشق الجنوبي.
(كان
مكان دوَّار البطِّيخة قبل ثلاثين عاماً سوقاً، لمحلَّات الأنقاض من أبواب وشبابيك
مُستعملة، تتوزَّع على جانِبيْ شارع لا يتعدَّى عرضه عشرة أمتار، يكتظُّ بالسيَّارات
قبل دخولها للمُخيَّم، أو خُروجها إلى البُوابة أو الزَّاهرة، وبعد تخطيطه من جديد،
وترحيل هذه المحلَاّت، وبناء عدَّة أبنية لصالح المُؤسَّسة العامَّة للإسكان؛ فغدا
من أجمل السَّاحات وأوسعها في دمشق، لا شكَّ أنَّ دُوَّار البطِّيخة، وهو نسبة للشَّكل
الكَرَويِّ، الذي يُشْبه حُزُوز البطِّيخة بشكله الكبير يتدفَّق منه الماء؛ لِيصُبَّ
في بِرْكة كبيرةٍ، يتَّخذها بعض الأولاد الصِّغار مُسبحًا في فصل الصَّيف.
وهذا
الدُوَّار تتقاطع به عدة شوارع هامَّة: منها شارع الثلاثين مُتَّجِهاً إلى الزَّاهرة
القديمة، وشارع فوزي القاوقجي المُتَّجه إلى بُوَّابة الميدان والقَدَم، ومن معالم
دُوَّار البطِّيخة جامِعَا الماجد والبشير، وقَطَّاعة السَّلام للحديد، ومُستشفى
الرَّحمة، ومخفر اليرموك، وسوق السِّيراميك، وشارع راما (النَّاصرة)، الذي ينتهي
بمحكمة اليرموك، وقبل الاِنْعطاف إلى شارع اليرموك، تقع حارة الفِدائيَّة، التي
كانت شاهدة على العمليَّات الفِدائيَّة قبل العمل الفدائيِّ المُنظَّم، وعلى الدَّمار
الشَّامل خلال الأزمة الحاليَّة في سوريَّا). *منقول من مقال (ذكريات من مخيم اليرموك للكاتب الفلسطيني: خليل محمود
الصمادي).
الأماكن مساحات ذاكرة مُرتحلة في عقول من مَرُّوا
بها، ومع كلِّ سانحةٍ للذِّكرى؛ فإنَّها تستدعي فَرَحًا أو حُزنًا، ملامحُ المكان
تُثبِّتُ الحالةَ تلكَ بهيئتها، يوم كانت ذات زمنٍ بعيدٍ أو قريبٍ.
ما
حاجة البشر إلى متحفٍ..!! أَلِأنَّه يُكرُّس الأحزان والأفراح، ويُعيد إنتاجها
بحالتها المُتخيَّلة، التي ربَّما كانت على حقيقتها يومذاك.
..*..
(75)
الحروب
تعمل على إعادة تشكيل المُجتمعات؛ وِفْق مُعطياتٍ مُشبَعةٍ بِرُؤى جديدةٍ
مُشوِّهةٍ ومُشوَّهَةٍ لحالة ما. تفكير الحروب مُنصَبٌّ على البقاء والثَّراء.
عندما تجري الحروب تكون في العَلَنْ، والمُفاوضات بدايتها سِرًّا على الأغلب،
وكذلك نهايتها؛ تُعلَن على شكل هُدنة قصيرة أمْ طويلة على حدٍّ سواء.
الحرب
والسَّلام عمليَّتان مُتناقضتان، إذا حلَّت إحداهُما اِنْتَفى وجود الأخرى، واِنْمحت
آثارها. وتكلفة الحروب باهظة مُقابل فاتورة المفاوضات والهُدنة و السَّلام. والحياة
تستمرُّ بالحرب ومع السَّلام على حدٍّ سواء، وبِنَسب كُلِّ طريق المُغايرة للأخرى.
..*..
(76)
شهيَّة
الفرار من جحيم الوطن لا تَحسِبُ حِسابًا للمخاطر، يُفضِّلون التَّشرُّد على أرصفة
المنفى بمُدُنٍ غريبة، لا تعرف من الغُرباء القادمين إلَّا أنَّهم لاجِئون؛
يحاولون غسل وجوههم بالضَّباب المُتشكِّل عليها، بينما الوطن تركوه ووجهه مُدمًى
لا يدَ تمسحه، بل ما تزال اليدُ على زِنادٍ تُدميه من جديد كلَ يوم.
بلاد
اِعْتاد كلُّ من يُحاول أن يولدَ فيها؛ يموتُ قبل وِلادته، وإذا عاش لا يعدو إلَّا
أن يكون ميِّتًا بلا قبر. الشَّمس فيه حزينة، والقمر يبكي لَيْلَهُ على أعيُنٍ اِفْتقدَ
نظرها إليه وهو يُنوِّر دروبهم، فما وَجَد من ينتظر أمَلَ غدٍ عندما يراه.
لا
عجب أن تُزهر الحرب في زمن مليء بالهزائم والخيْبات والتَّنازُلات، في زمن الأسئلة
الحائرة، المُرتَدَّة دون إجابات في زمن القلق والترقُّب واللَّامُبالاة.
قالت
نورما كلمتها الأخيرة بنهاية اللِّقاء معها على قناة "سوريا":
-"ستستمرُّ
الحياة، والبقاء للأصلَح. الأجيال تنتظرُ الحقيبة المدرسيَّة والمُعلِّم؛ فَهُم
على موعد مع المُستقبل يُؤكِّدون بإصرار عجيب: "أنَّه ينتظرهم". لقد
أدارُوا ظهورهم للحرب، وعُيونهم تنظر بعيدًا إلى الأفُق، ويكتبون بطباشيرهم: "وطنٌ
أَنْبَتَ الحُبَّ، لا يُبنى إلَّا بالحُبِّ".
(أبو
دعّاس) يُراقب الأخبار القادمة عن المُهاجرين،
آخر رسالة صوتيَّة عبر (الواتساب)، كانت من "نبهان" بعد أسبوعيْن من خُروجهم
إلى لُبنان:
-"نبشِّرك
أنَّنا تحرَّكنا باتِّجاه أوروبَّا عن طريق قُبرص".
أخبار
اليوم الثَّاني على الفضائيَّات العربيَّة والعالميَّة، ووسائل التواصل على شبكة
الأنترنت:
-"غرق
قارب يحمل مُهاجرين غالبيَّتهم من النِّساء والأطفال السُّوريَّين، على مشارف
المياه الإقليميَّة الإيطاليَّة، وما زالت فِرَق الإنقاذ تبحث عن ناجين بلا فائدة،
والظُّروف الجويَّة السَّائدة هذا اليوم لم تُساعدهم".
لم
يتذكَّر (أبو دعَّاس) أمر الرِّسالتيْن موضوع الأمانة، إلَّا بعد مجيء
الخبر بغرق القارب، الذي كان يركبُ فيه "نبهان" والعسكريّ "محجوب". فور وصوله
للمزرعة لم يتلكَّأ بالبحث عنهما تحت الفَرشة الجاثمة مكانها لم تتزحزح؛ ليُفاجَأ
بعد أن فَتَح طيّاتِهما، بأنَّهما تعرَّضتا للماء الذي اِنْدلَقَ على أرضيَّة
الغُرفة في اليوم الثَّاني لمغادرة الشَّباب، واِنْمحَى حِبْر الكلمات وزَالَتْ
جميعُ معالمهما، ولم يبق إلَّا أثر الحبر الأزرق يُلوِّن بياض الأوراق، وكأنَّ
البحر اِبْتلع الكلمات، كما اِبْتلعت القوارب بمن فيها.
وما
الذي باستطاعة المُهرِّب أن يُقدِّمه؛ ليجعل الرِّحلة مأمونة لهم. هو غارق بصمته
المؤقَّت، تحت تأثير صدمة سيزول تأثيرها عنه بعد
خُروجه من المزرعة، لا يمتلكُ كثيرًا من الشَّجاعة ليتمنَّى توقُّف الحرب.
لكن
لكلِّ شيء موسم؛ فالموت والدَّمار له موسمه المعروف، وهُناك مواسمُ التعمير
والبناء. هناك أوقات لاِلْتزام الصَّمت، ووقت للكلام.
...................
تمّت رواية
(بنسيون الشَّارع الخلفي)
.