الأربعاء، 16 فبراير 2022

قراءة رواية جدائل الصبر

 قراءة على رواية (جدائل الصبر) الأديبة الروائية إيمان كريمين (1)


 بقلم - محمد فتحي المقداد


جاءت الرواية بعناوين فرعية لكل مقطع، العنوان الرئيس الجديلة الأولى إلى أن وصلت إلى ثمان وعشرين جديلة. وتوقفتُ عند هذا الرقم، لأتذكر أن الجدائل جاءت بعدد أيام شهر شباط الذين نعيشه الآن، فهو مقدمة لحياة جديدة من الربيع، وانتهاء المنخفضات الجوية الباردة، وحياة الشتاء، لننطلق من جديد.

أبتدئ بعبارة الكاتبة (لم يكن قراري خاطئاً أبداً)، أقتطعها من سياقها لتوظيفها في سياق آخر، بأنها أحسنت إذا كتبت، وإذ اختارت أفكارها بعناية وتنسيق، بلغة واضحة مفهومة، متسلسلة لا تستعصي على القارئ، فتدقّ أبواب فكره لتدخل بلا استئذان، وهي تجبرني على الدخول إلى عالم الجدائل، والصبر معاً. 

فالجدائل هي نمط حياة كان، لأمهاتنا وجدّاتنا، وهنّ يعصمن شعور رؤوسهن لظروف الحياة القاهرة التي عشناها، مصبوغة بصفة نبي الله أيوب عليه السلام. قساوة العيش، وانتزاع لقمتهم بالقوة من فم الطبيعة بإصرار وتصميم على الاستمرار في الحياة، والتكيف مع المحيط الجغرافي، وتكييفه كي يتناسب معهم، ويستفيدوا من أدنى إمكانية لتحسينه مهما كانت.

*** 

الجدائل الخمس الأولى، لكل منها عنوان ذي دلالة، جاءت على التوالي، (رائحة الغياب ومذاق الألم)، (تقاسيم الأقدار بخطى الأسفار)، (سكون يتبعه أنين الرحيل)، (غياهب الهذيان)، (سطور ثائرة)، لتتخذ الكاتبة من هذه العناوين، مدخلاً مناسباً للدخول إلى عالم الرواية، فكانت كلها مقدمة، فتحت الأفق أمام أبطالها لسرد الحكاية من أولها، باستمرار وبلا انقطاع. 

صحفيّةٌ اسمها (دنيا)، كانت مسافرة من عمّان العاصمة إلى مدينة إربد عروس الشمال، لإجراء تحقيق صحفي عن قضية ما، وجهت إليها (مجدولين) سؤالا عن موعد وصول الحافلة، والوقت الذي تستغرقه الرحلة، وجلست في كرسي منفرد، منعزلة عن العالم، منكبّة على أوراقها وهي تكتب، عندما تأخذ استراحة تتأمل الطبيعة على جانب الطريق، وتعود إلى سكب أفكارها الساخنة على الورقة. تشاء الظروف أن تموت مجدولين خلال الرحلة، وعلى اعتبار أن دنيا تجاورها في الكرسي المزدوج المقابل، وكانت قد بنتْ معها علاقة سريعة، مثلما كانت النهاية سريعة ومفاجئة. فوجدت من حقها بعد أن قامت لإسعافها، أن تحتفظ بأوراق مجدولين، لتعود وتروي قصّتها لنا على متن جدائل الصبر، وتأثرها العميق بما حصل معها بمحض الصدفة الخالصة، وما نتج عن ذلك من صدمة شعورية لها، وانعزالها إلى حين حتى استطاعت الخروج للحياة من جديد.

*** 

اختارت الكاتبة (دنيا – مجدولين)، لينوبا عنها في سرد أيام الطفولة و أحلامها البريئة، بآمالها وطموحاتها المتوردة في ذهنيْهما عن عالم المستقبل، ورسم السعادة من البقايا، واسترسال في سحب حبال الذاكرة عن الطفولة و المدينة، حينما عبّرت الكاتبة عن ذلك، (الأماكن بداخلنا تجسد حالات إنسانية تسمح لنا بالسير في زوايا ذاكرتها)، فللأماكن ذاكرتها الجاذبة بقوة لمن تشبّع بها، وأحسّ بها في أعماق نفسه، (فالأماكن حينما يهجرها ساكنيها، تصبح كمدينة أشباح، تتراقص أطياف الراحلين على أبوابها)، لتعرّج على جبل اللويبدة حيث نشأـ هناك، ووعيت كل تفاصيل نموّه خارج وسط البلد عمّان، واستشهدت بقصدية الشاعر حيدر محمود (أرختْ عمّان جدائلها فوق الكتفيْن)، و مقطع من قصيدة للشاعر عمر أبو الهيجا، يخدم سياق السرد.  

*** 

و في الجديلتيْن التاسعة و العاشرة، يتجذر مفهوم التجذر المكاني، عند إيمان كريمين على لسان (دنيا)؛ ليلقي الضوء على مفهوم الأصالة و المعاصرة، و التوفيق ما بين رؤية الوالد المعلم التي تأثرت بها حدّ التشبّع، وبين الحبيب الزوج، الذي أطلقت عليه سيّد الغياب, فصارت على شفا جرف غياب الإنسانية و الفضائل، بما جاء على لسان الوالد بعبارات عميقة الدلالة، أعتقد أنها ستكون عامود السرد الروائي لجدائل الصبر: (أخشى على الوطن من الديمقراطية، عندما يمارسها الجهلاء أو المرتزقة)، تساؤل مفصلي في حياتنا العربية، كشعوب هل نحن جديرون بالحرية و الديمقراطية، أم لا زلنا في طور التكوين الجنيني لثقافة الديمقراطية، ونحتاج إلى أشواط من المِران عليها، وكذلك تابع الوالد (فالإنسانية أصبحت كلمات يتلاعب بها الكثيرون، ولكن عند العقل تتكشف الأنياب، وتنغرس في جسد الفضائل). 

*** 

وفي الجديلة العاشرة، حكايتي مع الزمن، تتوقف (دنيا) أمام (سيد الغياب)، فهي متشبثة متجذرة بالوطن، وهو يريد الهجرة إلى إيطاليا، ليجد فرصة أفضل من أجل الفن، فهو ناقم على وضعه، والوضع المحيط به بشكل عام، (أريد أن أصل إلى العالمية، ولن أصلها طالما بقيت مكبلاً بقيود كثيرة تفرضها على طبيعة التفكير العربي وجموده)، ويتابع (الفنان الحقيقي يسلك مسالك الانفتاح و الحرية الفكرية التعبيرية، لم أر هنا سوى النقد الهدّام، والتقليل من الذات، و الخوض في فلسفة الحلال والحرام، وما يجوز ومالا يجوز). بينما تجيبه (دنيا) بصراحة تامة لا مواربة فيها، يا سيّد الغياب، (بإمكانك الوصول للعالمية، من خلال التمسك بهويتك المستقلة غير التقليدية، فعندما تنسلخ عن جذورك، ستصبح بلا هوية متجذرة تُسندُ فنّك، أخشى عليك من الانصهار في عالم غريب عنك وعن أصولك)، فضلت هي البقاء متجذرة بينما هو هاجر، وتقول: (اكتشفتُ أنني على صواب، عندما عرفتُ أنه قام بالارتباط بامرأة تمتلك أكبر صالات العرض في فينيسيا). ومن أراد بلوغ غايته ومهما كانت الوسيلة، فهو بعيد عن كلام دنيا، يريد الوصول فقط، مهما كان الثمن.

نعم هو لا يفكر إلا في نفسه، وتختم: لم يكن قراري خاطئاً أبداً. 


... يتبع بعون الله ... 

عمّان \ الأردن 

16 \ 2 \ 2016