السبت، 3 أكتوبر 2020

كتب عبدالمجيد جرادات

 كتب الأستاذ (عبد المجيد جرادات) 

يعطيك العافية دكتور سلطان على هذا السرد الجميل حول المجموعة القصصـية " بتوقيت بصرى "للصديق الروائي والقاص محمد فتحي المقداد، وهو المثقف الذي خبرنا فيه كل صفات الوفاء لعشاق الأدب وأهل الفكر : وفي مفردات هذه المجموعة نقرأ سلسـلة من المحطات التي نفهم من خلالها حقيقة العلاقة الوجدانية بعبقرية المكان وذاكرة الزمان عند الروائي المقداد والدليل هو قوله ( لماذا بصرى ... اليست هي صخب التاريخ وعبق الحضارة وهي التي حملت إسم أمها الشام إكراماً وحُباً ) تحية عطرة للروائي محمد فتحي المقداد والشكر موصول لك أبا قيس لأنك تجيد وضع العبارات التي تليق بالمبدعين الذين يمتلكون ناصية الحرف ويمتلكون القدرة على الربط بين  البحث عن حقيقة المعرفة ومعرفة الحقيقة .

أسئلة روائية/ مقابلة عبدالعزيز بركة ساكن

 


الأسئلة: 


*1* عبدالعزيز بركة ساكن، كيف تقدّم نفسك لجمهورك ومتابعيك ومُحبّيك من الجمهور العربي؟.


*2* بما أنك مقيم في النمسا، من شُرفة موقعك هناك أريد تقييمك لحال الكاتب العربي في بلاده، وبين أن يكون في بلاد الاغتراب واللّجوء؟. 


*3* قرأتُ لك (رواية الخرب)، وهي تحفة فنيّة، وأستطيع تصنيفها تحت مصطلح (أدب اللّجوء) الحديث الظهور بوضوح وعلانيّة. فيها تقنية سرديّة ربّما تكون خافية، توقفتُ كثيرًا بالإعادة والتدقيق، عندما شعرتُ بالارتباك، وهي موضوع خروج الكاتب الروائي وإنابة البطل البديل من الرواية. هل لك في توضيح هذا الأمر؟. 


*4* في روايتك ( مخيلة الخندريس) لا حظتُ توثيقك للكلام العامّي السّوداني، وربّما هذا الأمر لا يفهم للقراء العرب، مع العلم أننا في ثورة الاتصالات الرقميّة والانتشار السريع. ما رأيك أن نجتمع ونلتف حول شعار (الفُصحى هي الحلّ)؟. 


*5* أعمالك الروائيّة انطلقت من خصوصية المكان في أحياء الخرطوم، وزواريبها الضيقة لرصد دقائق حياة القاع المُعدم والمُظلم، ما أهميّة هذه المواضيع في الكتابة والروائية؟. 


*6* أصبحت الرواية العربية تحتلّ واجهة المشهد الثقافيّ، فهل ستكون ديوان العرب؟. 


*7* مع اتّساع حريّة النشر المُتاحة، وكثرة ما يُكتب وينشر تحت مُسمّيات الرواية، هل هذا الكمّ الهائل سيؤثّر على جوهر ومصداقيّة الروائيين الآخرين؟. 


*8* اطلعتُ على أعمال روائيّة افتقرت للفضاء الزماني والمكاني، أو كان خجولًا، لم يظهر إلّا على استحياء، أنت كخبير ذو باعٍ طويل، وخبرة عريقة، ما قولك في هذا الأمر؟. 

*9* معادلة الحريات الشخصيّة والعامّة والإبداع في بلادنا. ماذا تعني لك؟. 


*10* هموم الكاتب العربي بعد كتابة منجزه، ودهاليز جور النشر السّاعية أولًا للرّبح الماديّ أولًا، حتى الكثير ينشرون أعمالًا متدنّية المستوى، ومليئة بالأخطاء الإملائيّة والنحوية. ما رأيك وانت انتقلت بين عالميْن عربيّ وأوروبيّ؟. 


*١١* معظم أعمالك منعت من النشر في الخرطوم، ومن الاشتراك في معارض الكتاب، وأنت العلم الروائي والفائز بعدة جوائز محلية وعربية وعالمية. ما الانعكاسات السلبية والإيجابية على إبداعاتك وجماهير قرائك؟. 


*12* كثير من الأعمال الروائية غارقة بالنسج الأدبي، وبالرمزية بحجة الكتابة الحداثية ، وما بعد الحداثة، ما هي رؤيتك لهذا الموضوع؟. 


*13* كثير من الأعمال الروائية بقيت تدور رحاها بمدار حكايات الجدات، وقيل وقال، اين هي من الأعمال الروائية القائمة على السرد؟. 


*14* إشكالية الإبداع والمحظورات (اليوتوبيا)، فهل مسائل الإبداع تكون راقية إذا تناولت القيم الاجتماعية والدينية والرموز بالتحطيم والتجديف في بحور الجنس الفاضح، ماذا تعني لك هذه المسائل، بعد تغير نمط عيشك في بلد أوروبيّ؟.


*15* ككاتب روائي محترف، ما هي كلمتك الأخيرة التي توجهها لمن يريد دخول عالم الكتابة الروائيّة؟. 







 خواطر غارفة


على قارعة الخاطرة 

الروائي محمد فتحي المقداد 




















 خاطرة على قارعة الأدب


على شُرفة حانةِ ذكرى ثَمْلَى احتضارًا..

دهاليز اتّسعت ساحاتها لتَرنّحات كآبتي المقبورة في صدري.

وانزلاق ابتسامة على شفتيّ؛ تستدرجُ أكوام حسد، 

وعيونٌ تتملّاني.. تنهشُ بقايا من بقايا هيكلي الواهن.

تستقوي.. تزدري..!!

تنشط في اعتلاء مراتب قهري..

ترقص طربًا على أنغام جراحاتي..!!

بسمتي صكّ امتلاكي الكون، ومفتاحه.

بكلّ ثقة أعلنها: "أنا متفائلٌ حدّ الفجيعة" .

متسائل: "أعليكَ حرارة؟ ".

وقيل كذلك: "يبدو أنّه تناولَ دواءً ليس له".

آخر مُخاطبًا نفسه: "مسكينٌ.. حِجابه ضاع منه".

_________

 *(الحجاب - التميمة المكتوبة تعلق في الرقبة وتتدلى على الصدر) 

***  



ليلي مُتعَبٌ.. 

وأنتِ وخْزُ الوقتِ المُثخَن هدرًا.. 

أظنُّ أنّ الفرح ضلَّ طريقه إليكِ. .

ربّما يصل إلى قلبكِ المُزدَحِمِ تأخّرًا؛

عندها لن يجد مُتّسعًا للإقامة هناك..

الأحزانُ لا تقبل مُنافسته؛ فتطرده..

أوّاه..!! 

يا لقلبكِ المسكين المُقيم على أحزانه إدمانًا..

لن أجازفَ ثانيةً على ناصية سعادتي علنًا..!!

سأتخفّى..

لترتاح الأعيُن من تُخمَة التلصّص عن متابعتي.

*** 




و(ما بين حانا ومانا ضاعت لحانا).

ما بين الممكن والمستحيل مساحات ضياع الرؤى واختلاف الكلمة وتباين المواقف.. للتعبير عن عن مرحلة قاتمة في تاريخ الثورة الفلسطينية، التي قتلت مع بداية انطلاقتها خارج فلسطين، فكانت متعددة الولاءات، ومتعددة البنادق، فكانوا أقرب لحالة البيادق على لوحات شطرنج الأنظمة العربية والعالميّة.. فكانت البنى  الفكرية متباينة حد الاقتتال، فجاءت النتيجة فصائلية متناحرة متنافرة، من المستحيل الاتفاق فيما بينها على القضية التي توشحوا بملاءتها، فكانت ستارا ارتكبت كل الموبقات تحتها، مع لافتات من الشعارات الرنانة الواهمة الموهمة، والنتيجة مخرجات مخيبة للآمال، قاتلة للطموحات العربية، بربك قل لي: كيف تبرّر لي، فلسطينيا في رام الله، يحرض بقوة على أخيه في غزة؟.. (لاأقصد إلا الثورة السورية) المتشابهة في كثير من جوانبها مع الفلسطينية بكافة معطياتها، إلا أنها اختلفت عن الفلسطينية كانت داخل سورية. (أرجو أن يتسع صدرك لما كتبت) صديقي الألم الفلسطيني يؤلمني قبل السوري. الحقيقة قاسية فلنتقبلها مجردة كنا هي بشجاعة أدبية. محبات

***.


الموبايل ...


أُحدّثُ نفسي وأنا مُرغم على التفكير فيما لو دفعتني الظروف لأن أحمل معي وعلى مدار اليوم وأينما ذهبتُ وتوجهتُ وعلى سبيل المثال، جهاز تلفزيون وآلة تسجيل وراديو وساعة وتلفزيون وآلة تصوير وجهاز حاسوب، وآلة حاسبة ، ودفتر مع قلم لكتابة الملاحظات بكل تأكيد يتوقف عقلي من هول ذلك، وخاصة عندما أسترسل متخيلاً أنني أحمل كل تلك الأشياء على عاتقي على مدار اليوم، الأمر الذي يصيبني بالفزع والتعب والأمراض التي ستسكن جسمي وآلام المفاصل، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله وحده.

بهذه الصورة التي اتضحت رؤيتها، ألا يكون الهاتف النقال نعمة مُسَخّرة بين يدي ؟ .

***.






كلمة كانت

كلمة كانت مليئة بالحبر، اندلقت محتوياتها في جوفي، عندما تلعثمت أثناء نطقها.

عيونهم تُحدّقني باهتمام، لاقتناص فرصتهم. حمدتُ الله على نجاتي.

***



متابعة

في سوق دمشق الكبير.. التقيت بأبي جهل مصادفة، من غير المُتوقّع ذلك أبدًا، ولا في الحلم..!!.

أشرتُ إلى صورته في حافظة نقودي، وإلى واحدة أخرى على حائط كبير.

هزّ رأسه مُبتسمًا، وتابعَ دونما اكتراث لِيَدي الممدودة إليه.

*** 




ما وجدتُ شيئًا..


لا تستثيري كوامني أيّتها الكلمات..

مذ سَكَتَ تنابُح الكلاب فجأة..

أشَبِعتْ بعد نهشها..؟ 

أمِ الْتَهتْ بجيفةٍ جديدة..

ألم تتعب من تناهشٍ خبزة بيد صغيري.. 

كان يلهو بها..!!؟ 

لم تترك لأطفالي شيئًا يأكلوه..

وما زالت تعوي على خراب مقبرتي

بين الحُطام.. 

وتلتهم الأنين.. 

***




استجداء

‏كلّ صباح تستفيق الكلمات، تستجدي طريقها منّى.

- تقول لي: "أعطني حريّتي.. أطلق يديّ".

ثرثرة داخليّة لم أفهم من ضجيجها شيئًا، وما درَتْ بأنّني أصَمُّ.

***



على شُرفة ذكرى


- سيّدتي.. أرتالُ الحزن تُباغتني، وربّما أوشَكْتُ على البكاء.. يومي مُزدحمٌ  بأسبابه. 

- ردّدتْ صدى نحيبي: على فكرة.. منذُ صحوتي مع الشروق، ورغبةٌ عارمة تستدِرُّ دموعي. 

-سيّدتي أرجوكِ: لا وقت لدي للتفكير.. يشغلني..!! من سيوقد لي الشموع؟. 

- لتخرجَني من استغراقي، أجفلني صراخها:  الجميع بانتظار نكشة لينفجر، وأتفهّمُ خصوصيّة أحاسيسكَ. 

 - ولكن، أين سأوقدها؟. يا سيدتي 

 - أوقدها في قلبك.. ولا تنتظر أحدًا.. فإن لم يُسعِد أحدنا نفسه، فلا ينتظر السعادة على طبق ذهبيّ يُقدّم له مجّانًا.

- بصراحة كالشّمش.. لا مِراء فيها: لا أجدُ وقتًا.. أوْقِديها.. هيّا.. ماذا تنتظرين..!؟. 

- سأفعلُ من أجلكَ.. وتستحق الف شمعة.. 

- ألفٌ فقط..!!. فأنا روائيٌّ أحتاجُ شموعَ الكون أجمع، عَلّها تضيء جُزءًا من مُحيطات عتمتي. 

- أوووه..!!  بكلّ الضوء الذي فيك لا تحتاج سوى أن تُغمض عينيك، لترى. 

- مشاعرُ حروفي الحبيسة تتناهبني. 

- شُعوركَ الذي ينتابك هو تدفق لبعض الإبداع، أعرف أنّ علماء النّقد يقولون: "ان الكاتب المبدع تنتابه أحوال غريبة، وكأنه شخص آخر.

- وكأنّكِ تُطلقين سهام الإيهام على دموعي بجنون. 

- لا أبدًا.. أبدًا، بل من كان الياسمين موطنه؛ فلتكن سماؤه قاربَ الإحساس المُبحر على جناح الكلمة، مؤكّدٌ أنّه سيرسو على ضفاف النّورِ. 

- أهكذا إذن..!!؟. 

-نعم هو النّور داخلكَ، كمجرّة بسبع شموس.. يفردُ أجنحةً حانية في فضاءات الرّوح، لأنّه حتماً.. يشبهك تمامًا.

***












صراع الفاصلة والنقطة


بعد الفاصلة:

قبلها أغمضتُ عينيّ على نهاية؛ فوضعتها بلا مبالاة..!!

المسافة بعدها أذهلتني..؛ لأنّها أرهقت حروفي، أستجمع أنفاسي المُتقطّعة. وضعتُ نقطة.. وغادرت فرارًا.

*** 


بين النقطة والفاصلة:

- هل النقطة تفي بالغرض بدل الفاصلة؟ تساءلتُ مُستفهِمًا. 

-قال الأستاذ:

(احتجاجٌ غاضبٌ من الفاصلة: "سأقاوم كلّ من سيُصادر دَوْري، ويحتلّ قراري".

النقطة تتريّث باتّخاذ قرارها، حتّى تهدأ العاصفة: :سيتنهي كلّ شيء حالما افتتحتُ سطرًا جديدًا، بعدما ختمتُ سابقه باطمئنان".

دوّي الاحتجاجات الصّاخبة، وصل مسمعها خافتًا لا يكاد يبين).

- يتابع الأستاذ: "لا أهميّة لهما في هذا الزّمن المختلف. كلّ من يكتبُ في العالم الأزرق، لا يُعيرهما أيّ اهتمام".

- سيّدي، الآن أدركتُ عدم فهمي للكثير مما أقرأ..!".

***


احتضان نقطة: 

ما زلتُ على يقين أنّ المشكلة لم تُحل. تشكّي الفاصلة المستمرّ يقلقني. الشّعور الدّائم بالمظلوميّة يأخذ مداه، ويخلق حالة توتر دائم.

الفاصلة استعملت ذكاءها في محاولة لتتخلّص من هيمنة النّقطة؛ فتوددّت للنقطة زمانًا لتحقيق مآربها، في حالة شبيهة بغرام الأفاعي، وفي بادرة حُسن نيّة ضمّت إلى صدرها نقطة، وأمام كاميرات الإعلام، وغيّرت من نسبها، لتُعرف بالفاصلة المنقوطة، رغم ذلك بقيت وظيفتها الاستئنافيّة في متابعة الكلام، وما بعدها أيضًا نتيجة ما سبق.

بحجم رأس الدّبّوس وضع قلمٌ نقطة في منتصف سطر؛ انتقالٌ تلقائيٌ لافتتاح سطر جديد.

اغتاضت الفاصلة؛ ولم تُفلح في مسعاها باحتضان نقطة، وحملها معها في مواضع كثيرة، ولم تقتنع أنّها بلا نقطة؛ ستبقى ناقصة الدلالة.

***


حتميّة الفاصلة: 

لستُ مُتأكّدًا من حتميّة وجود الفاصلة في خاصّة كلامي فيما بيني وبين نفسي، شعور غامضٌ تسلّل إلى دواخلي بأنُها تُلاحقني بإصرار في كلّ محطّاتي.

يا إلهي..!! إنّها الفاصلة اللّعينة، كنتُ مُتخفّيًا للقاء حبيبتي، وكم نسجت من مقدمات، وأسرفتُ بإفناء ساعات ما قبل اللّقاء لانتقاء أجمل الكلمات، وأرقّها غزلًا وعشقًا وهُيامًا.. وما إن انتبهتُ لكلّ وقفة؛ لالتقاط نفس يُسعفني؛ حتى تأتي الفاصلة لتضع رسمًا لها.

علاقاتي كثيرة مُتشعّبة مع فئات اجتماعيّة عديدة، فرضت الفاصلة وجودها بالقوّة، ولم تتركني وشأني.

كرهتُها.. كرهتُها، وبَيّتُ النيّة بمتابعة كلامي وإيصاله ببعضه؛ اشتبكت كلماته، وترامَتِ المعاني عكس ما رَجَوْتُ، وتتطلمست عُجمةً.

حاولتُ.. وحاولتُ، ولم تُفلح جميع مَسَاعِيّ في الإفلات من قبضتها.

أخيرًا..!! أدركتُ أنّها تنقذني من تقطّع أنفاسي.. وتُريحني من لُهاثٍ.. وتجلو غبار شكّ التفسير والتأويل.

رضيتُ عنها.. وما يضيرُني أن تكون بين الحاء والباء. ولن أستغني حتّى عن منقوطتها.

***


دكتاتوريّة النّقطة:

لستُ مضطّرًا لفضح نوايا الفاصلة، وغيرتها المُزمنة من ضُرّتها النقطة، التي لم تألُ جُهدًا بتذكير الفاصلة وعلى الدوام بأنها مجموعة نقاط، التوت تكوّرًا على نفسها بخجل وانطوائية، لتزاحم على الصدارة في كافّة النّصوص الكتابيّة؛ فهي شديدة الغيرة، لا تحتمل الإهمال ممن يكتب على ورق أو ملف (وورد) إلكترونيّ أبدًا، ومع ذلك عندما اتّخذت نقطة لها لم يُغيّر من الأمر الكثير الذي كانت ترجوه. بل بقيت مُحاصرة في جميع مجالاتها بالنقطة التي فكاك منها. 

شجرة نَسَبِ النّقطة عريق، ضارب بجذوره بَواطِن أبجديّات اللّغات، وفي كلّ تجمّع لإحدى أبناء وأحفاد وأسباط النقطة، ستخلق تشكيلًا حروفيّا رامزًا مُفردًا بذاته، أو مُجتمعًا لتكوين كلمة، ثم جُملة، ومقطعًا وفصلًا وبابًا وكتابًا وموسوعة، ولم تترك الأبجدية في حالها، بل سكنت معظم حروفها، وكأنّها حارس ومراقب من فوق ومن تحت أو في صميم قلب بعضها الآخر. 

ولم تدع النقطة تدخّلها في قول القائل، إلّا وتكون قبل قوله على شكل نقطتين فوق بعض، كأنّهما حاجز، لتنبيه السّامع لأمر ما ليس على نفس الدّرجة من الأهميّة للمُتلقّي.

 وإذا ما جاءت نقطتان خلف بعضهما، مما يعني فتح فضاء كبير للتفكير والإضافة بما يتناسب مع فهم القارئ لما يقرأ. 

وما زال إصرارها التواجد في نهاية كل تعبير، وفي نهاية السّطر أو وسطه أو بعد كلمة واحدة تحتلّ سطرًا كاملًا، وتُجبر الكاتب على افتتاح سطر جديد. دكتاتوريّة النقطة الصّارمة، كأنّني بها أمام الزبّاء حاكمة تدمر، أو شجرة الدُّرّ في قاهرة المُعزّ، وقد أخضعن الرّجال الأشدّاء ذوي الأشناب المُتدلّية والمفتولة، وعضلاتهم النّافرة المُنتفخة. 

فالنقطة بداية ونهاية في ذات الموقف والمكان؛ فهل هذا مُبرّر دكتاتوريتها، وربّما صَلفها وتعاليها في قائمة علامات الترقيم؟، وضوابط الكتابة علامات الترقيم، كما إشارات المرور. 

***


حوار مع د. حسين المحادين

 * كيف تقدم نفسك كإنسان لجمهور المتلقين..؟

- كما يقول  صديق أثير لدي..

"متجول اجمع الآهات من فوق الحناجر..أجمعها واسافر..كل باكِ هو اهلي.."-د. عبد الحميد محادين.

- أنا أنسان ما زلتُ برّياً، عابر للجغرافيا وجدانياً، وللثراء رقمياً، وموغل في الأبجدية الأنثى حوارات وتنوع أذواق.. لذا فأنا منحاز لقيم الجمال معنى ومبنى وبكل صنوفه في سنام هذا الجمال الملوّن المرأة الآسرة كالمواعيد المرتقبة والمؤجلة الحضور، إلهامًا إبداعاً وتدفقًا،   وأعلن دائماً: وبكل وعيي بأنّني متواطىء مع الأمكنة وقيعانها المراهقة منها، أو العبقريّة على حدٍّ سواء، مع انحيازي لقاع المدن الحبلىُ بكلّ مدهشٍ غالباً.

- أنا شخص يؤمن بمسامّات الأشياء والأفكار معاً، فما زلتُ المؤذّن في حواس  المثقف والمبدع البريّ، بأن يكون مسامياً شفيفًا في قراءاته، وأفكاره وابداعه، ومباضع نقده. 

- أنا امتداد الأبجديات، واللهجات، وأسئلة الوعي الواخزة، التي لا تؤمن بالركود، فمن لا يتقدم يتاخر عقلا وممارسات حياتية اشمل .

-  انا مواليد الكرك/الأردن  بطيني النهر ، المؤابيون، الانباط، مؤتة، هية الكرك بالمعنى الجغرافي المُحبب، ومع هذا ما زلت احاور هولاء كي ازداد علما من معانيهم الضافية والولودة بالنيل والارتقاء ؛ الشهداء، المعلمون، الفلاحين والعسكر، وافواج الطلبة والخريجين من مدارسنا وجامعاتنا. لكني مع هذا ايضا انا  ابن امي/وامنا هذه البسيطة"الارض" و نتاجا استشرافيا لتجارب الانسانية في سعيها الدائم منذ الازل، لترويض فجور الطبيعة وبوهيميتها التي تهدد حياتنا، بوساطة العلم واساليبه المتنوعة في الحِفاظ على الإنسان الذي كرمه الله عز وجل في العقل ووجوب تفعيله.

- انا ابن وفيّ للرويد والهجيني المتصاعد ثقة، وتفاؤل كسنابل الاحلام المرتقبة القِطاف في فضاء قرانا التي تغفوا كعاداتها الحميدة مبكرا استعدادا للنهوض مبكرا للصلاة وانبلاج النهار.

- انا الشاهد على فرح  الفلاحين إذ يفتضون الارض البِكر  في م اسم الزرع تِلماً بجانب تلِم وكانهما زوجين مراوغين وواعدين تمهيدا لاخصاب البذار في رحمها بكرم المطر من لدن إله بلاد الشام بعل.


*  كمتخصص بعلم الاجتماع كيف تؤطر شخية الاردنيين ، ؟.

الاردنيون النشامي والنشميات هم اهلنا، لهم من طبائع المغالبة اكثر من قيم الحوار، منحازون للصرامة اكثر من تمثلهم للدعابة،  يمليون للتجاوز على ما هو عام بحكم فروسية تربيتنا تاريخيا والتي ما زالت حاضرة على هيئة "بدوي صغير" كامن بدواخل كل منا مع الاحترام ؛ فقِلة الماء، وسعة الصحراء، ووعورة الجبال، ووجع الهجرات والحروب في هذا الاقليم، وكثرة السفر والاختلاط مع الاقوام  واللغات الاخرى، وكرم العطاء ؛ كلها عوامل ساهمت في تشكل سمات شخصيتنا الحادة والجامعة كاردنيين في آن من مختلف المنابت والاصول بالمعنى الدستوري للمواطنة. اذن ؛استطيع القول نحن جٍماع التنوع الانساني، و نحن من فرائد المجتمعات تسامحا ، تنوع افكار  ،بناء وتضحيات عبر الاجيال، صبر وعطاء.


* تجاذبنا بين العالم الافتراضي والواقعي.

- لنعترف اننا نعيش كأردنيين صدمة حضارية قوية، جذورها عولمية السيادة والتواصل، وظاهرها التكنولوجيا كايدلوجيا غربية المركز والمآلات.فحالة الدهشة والدوار القيمي تتسيدان عناوين نفوسنا وسلوكاتنا المعبرة عن هذا الدِوار، فنحن من البلدان التي تنشر فيها ادوات التواصل الاجتماعي كأحد اذرع التكنولوجيا ، ولكننا مازلنا نتحادث مع بعضنا عبر الهاتف الخلوي وكأننا كما لو كنا في الخلاء ،و نتشارك مع الالاف من الاصدقاء لحظيا وبكل اللغات المترجمة ومع هذا نشهد وجود لخطاب الكراهية بين ظهرانينا للاسف، وكاننا نجوب العالم الافتراضي يوميا مع ذلك لم تتسع مداركنا الجمعية بأن التكنولوجيا التي نتعامل فيها طوال الوقت هي اداة ايدلوجية ايضا والتي تستعملها الدول المتقدمة لاعادة تضبيط تنشئتنا افرادا وشعوبا حسب المقاسات العولمية في بلدانهم التي تاسيد العالم دولارا واقتصادات ، وانماط  متعددة للحريات حياة فردية، واضعاف علاقات الشعوب بالاديان والجغرافيا ببلدانهم، من هنا برز  ما يمكن فهمه علميا وفكريا من مفهوم "المواطن الكوني" اي الذي سيعيش موزعا بتبعيته وضبابية معرفته كمواطن معولم بين "الارض والفضاء" معا وعبر التكنولوجيا وعبر ثقافة الصورة على وجه التخصيص..لذا ما ان يطفيء اي منا جهاز حاسوبه بعيد انتهائه من متابعة فلم او مشاهد اباحية مثلا من التي حُرم منها في مجتمع نام ِ حتى يعود لصدمة واقعه القامع له وحتى لحريته في التخيل او الافصاح عن غرائزه وعواطفه او حتى نقده للكثير من المسلمات التي لم تُختبر، او لم تثبت صحة مضامينها في عالم آخذ بالانقلاب المتنام على اية مسلمات على مسرح هذه الحياة باستثناء حرية الانسان الذي نتمنى ان يبقى انساناً.


*الكورنا كتحديات كونية، اردنيا كيف يمكن قراءتها بروفيسور؟

-اجتهد هنا قائلا، ان جائحة كورونا احدى اغصان او مراحل تطور العولمة، ولكن بعناوين صحية.

تشير بعض الدراسات ةن هذا الفايروس قد خُلق مخبريا بنسبة مئوية متوسطة بتشارك ما بين الصين وامريكا، مع اختلاف مبررات واهدف كل منهما وان كانت التجارة وزيادة مراكمة الراسمال النقدي هي الجذر لامريكا كقاىدة للعولمة، والاستفادة الصينيوة من زيادات الطلب على السلع والخدمات الطبية والدوية بالنسبة للصين، رغم ان جوهر النظام السياسي داخل الصين مازال اقرب الى الاشتراكية، لكن المصالح الممارسة راهنا تتقدم على الافكار النظرية هنا او هناك.

اذن أردنينيا وكجزء متأثر من العالم اكثر مما هو مؤثر فيه، لابد من التذكير ان الاشهر الاولى للجائحة قد شهدت تماسكا واضحا بين المواطن والحكومة جراء كِبر التحدي للجائحة، والغموض المعرفي العالمي لجوهر واساليب الوقاية من هذه العدوى المرضية الظاهر وتلاقتصادية الباطن وهي العابرة للاشخاص واللغات والاديان وللجغرافيا كالعولمة تماما لانها تهدد حياة الانسان اي كان معتقده او تواجده.

اذن ، لقد ترتب على هذا التحدي الذي استطاعت دولتنا الاردنية الحد من انتشاره وتحويله احيانا لفرصة نوعية لتصدير الخبرات وهذا يجب تثمينه مدنيا وعسكريا بكل فخر. 


كتب سليمان نحيلي عن (الطريق إلى الزعتري)

 كتب الأستاذ سليمان نحيلي:

الصديق الأديب محمد فتحي المقداد قدّم عرضاً مجملاً لروايته بشكل يستدعي تحفيز المشاهد لقراءتها الأمر الذي استدعاني لأن أطلب منه فور سماعي البرنامج نسخة عنها. وكان حديثه قد نثر إضاءات كثيرة حول تساؤلات قد تخطر في بال القارئ غير السوري تحديداً أولنقل غير المطلع على الحدث السوري الذي عالجته الرواية ،وهذه الناحية تعتبر لفتة إيجابية تضاف للرواية ، وكأني بالكاتب يحاول مخاطبة كل أنواع القراء على امتداد الجغرافية العالمية ، ولعل ذلك يحقق الهدف المأمول بتوافر ترجمة للرواية إلى لغات عدة .

فتحي المقداد الروائي  مهتم بالمتلقي ويفكر به كثيرا عند الكتابة ، وأراه يحمل هاجسين عند العملية الابداعية : هاجس الحدث وتطوراته ، وهاجس القارئ، ولذلك نرى توازنا منتجاً بين هذين الهاجسين على امتداد مساحة الرواية . وهي هندسة بنائية في معمار الرواية لايراعيها الكثير من الكتاب .

ليس الهدف من كلامي الثناء والمديح بقدر ما هو تبيان لحقائق- أو لأَقل - لميزات فنية ينبغي الاشارة إليها ، 

وفي الأحوال كافة ،لا شيء يمنعني من الثناء على رواية الطريق إلى الزعتري أو الطريق إلى النجاة.

الصديق فتحي أهنئك وأبارك لك وأفتخر بك.


قراءتي في رواية ذرعان لمحمد الحفري

 الافتراضي المأمول، والواقع المحروق

قراءة نقدية في رواية (ذرعان) للروائي (محمد الحفري) 


بقلم الروائي محمد فتحي المقداد


جنون الأسئلة: 

   عود على بدء، في رحم الذاكرة الحُبلى بالكثير من الأسئلة والتساؤلات، الطّافحة بالقلق والتوتّر تحت مسمّى أن نكون أو لا نكون، وماذا كان.. وما هو مُتوقّع أن سيكون؟ وعلى وجه الخصوص حينما يجري الحديث عن الوطن، وفي الإهداء بداية الرواية، اتّضح هذا المعنى: (إلى المُشتهى أو الحلم "ذرعان" أرضًا وشعبًا ينبض بالحياة). 

   رؤية الكاتب العميقة بجعله من ذاكرة الأمّ المتوفّاة منطقة مُمسرحةً بحواريّات عميقة الدلالة برمزيّها العالية في أشارت ربّما لم تُسلّم مفاتيحها للقارئ بسهولة، ومن ذلك سنذهب في اقتناص السّهل منها، لإخماد شهوة وحُمّى البحث عن أجوبة بعد إيراد مقتطف بسيط: (للنار وللرّصاص والماء نصيب ممّا أنجبَ بطنك يا حُرمة). (في تلك البُقعة كنتم على مُفترق لا مفرّ منه، ولا سبيل لتعطيله، أو سدّه على العابرين). (كل البطولات تذوب أمام عريف في الدرك اسمه "كيكي"، ومعه ثلاثة رجال). (كيكي خدم بإمرة ثلاث سلطات، فرنسا، والاقطاع، ومن ثمّ السلطة المحلية فيما بعد). 

   على خلاف القاعدة ابتدأت بعنوان الفصل الأوّل (خاتمة النص)؛ لتُحدث صدمة غير متوقّعة لدى المُتلقّي؛ استفزّت مشاعره وأحاسيسه، وفتحت أبوابًا كثيرة من الأسئلة الدفينة المؤجّلة لحين الانتهاء من قراءة الرواية.

   حِرفيّة الكاتب العالية التقنيّة السرديّة، وبمهارة استطاع النّفاذ لأعماق القارئ، والاستحواذ على اهتمامه، وشدّه بخيوط رغبة متابعة القراءة بنهم وصولًا لنهاية كلّ صفحة، ثم الانتقال للتي تليها. وكلمة الخاتمة انزياحيّة استثنائية، وهي تحتل موقع المُقدّمة الدّائم، وهي تتنازل عنها طواعية لأمر الكاتب دون عناد.

   سيزول العجب منذ بداية، بتعانق عنوان (خاتمة النص) مع نهاية الحياة وخاتمتها بالموت. وذلك فيما ورد على لسان البطل العليم الموازي للكاتب الروائيّ، بقوله: (عليا مازال قبرُك طريًّا كما أنت ِ بعد أن أرهقتك السنون، وبدلت ملامحك)، (ليس باليد حيلة  صدقيني. من منا قادر على ردّ الموت يا امرأة؟ لو كنت أملك ذلك كنت رددته عنك). (ها أنا عائد كي أزرع لك شاهدة، وقد أمضيت قبل ذلك عمرا ً وأنا أزرع الشواهد، فهل أجد يوما ً من يزرع لي شاهدة؟). وربّما بعد الموت تزداد شهيّة الأسئلة بجراءة مُنطلقة من عقالها، وتنفتح الشهيّة على فضاءات تأويليّة، تفتح آفاقًا استثنائيّة، تجلي غبش الرؤية والسواد القاتم. 

*** 


   الفصل الثاني من الرواية (ذرعان) انضوى تحت عنوان (استهلال) مختبئًا خلف (خاتمة النص) عنوان الفصل الأوّلي، اختراقًا لنظام التراتبيّة المعتادة بنمطيّها، وخروجًا على المعروف السرديّ، المعلوم من التراكيب بالضرورة. ومن المفترض انتهاء النص بالخاتمة التي خرقت تراتُبات السُّلّم المنطقيّ. بينما حاء الاستهلال ليحكي البداية بشكل طبيعيّ، أعاد للقارىء سمة التدرّج في سرد الحدث. 

   ظروف الحرب أقوى من كلّ شيء، تحرق دروب الحبّ، وتتكلّس المشاعر الإنسانيّة، وتفرز حالات استثنائيّة جديدة من أنماط السّلوك السيئة، التي تزيد السّوء المعتاد سوءًا بل تفوقه بمرّات عديدة. 

   فالفساد الإداريّ المُتفشّي على العموم، بمهارة تقنية سرد عالية، وجّهنا الروائيّ (محمد الحفري) إلى القاع الأدنى في السُّلّم الوظيفيّ، إلى حُرّاس بوابات المشافي الحكوميّة العامّة، وتصوير حالهم وتعاملهم الخشن مع المراجعين، وأخذهم الرّشاوى، وهل صعوبة العيش والدّخل المُتدنّي يجعل من الإنسان وحشًا، يأكل الأخضر واليابس؟. 

   الحرب تقلب موازين الحياة والاستقرار، وتنتفي قوانين الحياد الإيجابيّ والسلبيّ على حدّ سواء، وتتبدّل المواقف والاصطفافات، وهذا غير خاف في الرواية، وأشارت إليه بوضوح:

- (لمّحوا إلى أنني موظف لدى الحكومة، وربما أكون متواطئا مع من قَتَل، أو ساهم في القتل). 

- (في المشفى عرفتُ أيضاً بأنني رجل مطلوب بتهمة التخريب، والتآمر على الوطن). 

- (كان المهم عندي أن أهرب؛ فالروح غالية، والنار من خلفي مشتعلة، لا تترك خلفها إلّا الرّماد). 

- (السياسة في مجتمعنا لعبة كريهة، تُفرّق ولا تجمع). 

- (الحبّ والتسامح وحدهما من يجمع كل القلوب المتنافرة). 

- (فأيّ لاعب محترف، ذلك الذي أغوى خطواتنا، كي تسقط في شباك العنكبوت). 

 وتلعب الشعارات دورها في تهييج العواطف، مقايل وقفات عقلانية لا مكان لها في خضمّ مُتحرّك مُتسارع؛ فالقاتل لا يعرف لماذا يقتل، والمقتول لا قضيّة له يموت من أجلها، ولحساب من، ينشر هذا الموت المجانيّ، بلا تفريق بين كبير وصغير، وامرأة وطفل، وشاب وعجوز. وشواهد هذا من الرواية واضح تمامًا: 

- (تعالى صراخ سوسن في البيت، لم يُسكته إلّا صوت الرّصاصة التي عبرت النافذة؛ لتخترق كتفها، وتُسقطها أرضًا). 

- (شقيق سوسن الأصغر قد أصابه عيار ناريّ في الصّدر؛ فأودى بحياته). 

- (هناك بكيتُ مع من بكوا على شقيقها وغيره، ممن ضاعوا في زحمة الشّعارات والمطالب).

- (لقد وقعوا بين نارين، نار الجنود من الأمام، ونار الذين استغلّوا شعاراتهم؛ ليطلقوا عليهم وعلى الجنود النّار معًا). 


*** 

   على محمل الذاكرة المُتخمة بالتفاصيل وجزئيّاتها، ولمّا وجدت المناخ الملائم الواثق الموثّق على صفحاتها، فتحت خزائنها على صفحات رواية (ذرعان) تلك القرية الغافية على ضفاف نهر اليرموك، ويبدو أنّ هذا الاسم ذرعان لم يكن إلّا رمزًا للمكان، هروبًا من الجدال والاختلاف حول الكثير، والاختلاف أيضًا حول الكثير، المعروف والمعلوم، والسكوت عنه. وفي الحقيقة ليس كلّ ما يُعرف يُقال، وليس كلّ ما يُسمَع يُصدّق. 

   وفي فصل جديد من فصول الرواية، كُتِب تحت عنوان (رأس النصّ)، والفصل التالي جاء تحت عنوان (حاشية)، وما بين رأس النص أي مقدّمته وحاشيته، ظهر للعلن ما فاضت به الصدور، وما بقي بحاجة لتفسير يُكتب على الحاشية، ومتن الحاشية يكون مسرحًا للتفسير والتأويل، وشرح ما خفي أو استعصى على الفهم. فيما يلي بعض ما جاءت به الرواية:

- (لا أدري لماذا تجرفني دائمًا ذكريات الطفولة). 

- (ذكريات قديمة تتناثر حولي، وتنثرني معها، لأجد نفسي مقسومًا على نفسي). 

- (ليتني لم أعُد.. ولم أر ما رأيتُ، ليت الأرض انشّقت وابتعلتني قبل ذلك). 

   ذكريات طفولة غير واعية هي المحببة للنفس، ويبدو أن الوعي والإدراك يُفسدان هذه المتعة في الكثير الأحيان، لأن متعة الحياة تشتّت في دهاليز مرارة الإحباط واليأس، فيما كان بين المأمول في دوّامة الأحلام المسروقة والمنهوبة والموؤودة، وتتباعد الهُوّة على أرض الواقع لتحصل القطيعة على الأقلّ في قلوب ونفوس من يتوقّف مُتأمّلًا، كوقفة كاتب وروائي واع مثل محمد الحفري. ليأتي الفصل الأخير الخاتمة من الرواية حاملًا عنوان (ذيل النصّ) بكلّ وضوح ليعلن نهاية الرواية وختمها، بالانكسار والانحناء أمام العاصفة الهوجاء، ولا سبيل.. ولا رؤية.. ولا أمل.. وتبقى النهاية مفتوحة على فضاءات الضياع والشتات. 

عمّان – الأردنّ

27/ 9/ 2020 




 


كتب سلطان الخضور /بتوقيت بُصرى


بتوقيت بصرى


د. سلطان الخضور


     محمد فتحي المقداد روائي واقعي وجاد،  غزير الانتاج ، وعملي ووفي، يستخدم حاستين في نفس الوقت  فيعمل وهو يتحدث أو يسمع ويستغل مهاراته بشكل مكثف، لديه قدرة على التشخيص كطبيب مختص في الآداب، واس الثقافة حسن الاطلاع دقيق في التعبير، حتى حاسة السمع لا يوظفها في أغلب الأحيان إلا للثقافة، فنجده يستمع لمن يحاوره بشكل جيد، فيعطيه مما تراكم في ذاكرته من معلومات. حتى في لحظات الصمت، لا يدير مفتاح تلفازه إلا لما له علاقة بالثقافة والمثقفين من الفضائيات، فتجده يتلذذ بما طاب من الشعر ومن أحاديث المثقفين، فيروي ظمأه وظمأ الحاضرين.

   أما علاقته بالمحيط، فهي علاقة ود واحترام متبادل، يتبادل مع غيره الود والمحبة، يعطيهما للجميع بسخاء مفرط. 


   أما مجموعته القصصية الأخيرة فقد بدا المقداد ماهر الحياكة، فقدم المجموعة بشكل متصل ومنفصل ومفصل بنفس الوقت، فالقارئ المتابع لا يلبث إلا ويجد نفسه أمام حدث جديد دون أن يشعر بانتهاء ما قبله.

المقداد يدخلك من بوابة  مجموعته الواسعة ويتجول بك بتدرج ملفت ودون أن تشعر، لتجد نفسك في مكان آخر وأمام حدث جديد.

مجموعة المقداد الأخيرة التي عنونها بتوقيت بصرى توهم القارئ أنه أمام لوحات منفصل كل منها عن الآخر، فلا يلبث القارئ حينما يدخل محاريبها من بوابتها الواسعة، إلا ويجد نفسه أمام بيت متماسك مبني من الحجر الصلب، ذو حجرات تنفتح كل حجرة على الأخرى بواسطة باب واسع، وتبدو هذه المجموعة كمزرعة قمح صوُّرت على مراحل. فعند البذار تعطيك صورة الحب غير المتصل، فتبدو وكأن مساحة ما تفصل ما بين البذرة والبذرة،  وحينما ينبت القمح ويخضر، يبدو للرائي قطعة واحدة لا فاصل بين عروقها الخضراء ، أما حينما يستوى نبتها على سوقه، يعجب الزراع من المتذوقين، فينال ثناءهم وينهلون من ثماره.

  

   عقارب الساعة على الغلاف تشير إلى عاطفة التعلق بالمكان، فيظهر حسب وجهة نظر الكاتب وكأن الزمان بدأ هناك وسينتهي هناك، فكل قصة بدأت بتوقيت بصرى وانتهت بتوقيتها، وهو أيحاء مشروع لمسقط الرأس وتصويره وكأنه مركز كل الأشياء وكل الأحداث.

    بتوقيت بصرى عصارة لمعاناة المكان والزمان عبر عنها الراوي بلغة سهلة مفهومة، تعكس الضيق المكتنز في النفس الراوية، ونجاح المقداد فيها هو نجاح من سلسلة النجاحات التي حققها في هذا المجال.

٣/١٠/٢٠٢٠