الجمعة، 11 مارس 2022

اربع دراسات رائد السراحين

 آربع دراسات عن رواية الطريق الى الزعتري

كتبها الأديب الناقد/ رائد السراحين 


- صور الحياة الاجتماعية فيةذ رواية الطريق الى الزعتري 

- الجنديان السوري والأردني دراسة مفارنة في روايةِ الطريق إلى الزعتري. 

- المثل ودلالاته غي رواية الطريق الى الزعتري. 

- دراسة فنية. في رواية الطريق الى الزعتري. 


صورةُ الحياةِ الاجتماعيّةِ

في روايةِ " الطّريقِ إلى الزّعتري"


    تعتبرُ روايةُ " الطّريق إلى الزعتري" وثيقةً اجتماعيّةً لإرهاصاتِ الثّورةِ السّوريّةِ ، وشاهدًا على تخاذلِ  وتآمرِ  جيشٍ  على  ثورةِ شعبٍ  ووطنٍ ذاق ويلاتِ  القتلِ  والتّشريدِ  والتّفقيرِ منذُ سنينِ خلتْ ، فأصبحوا له أعداءً وليس أهلًا وبُناةً.


   ضمّتِ الرّوايةُ بينَ دفتَيها مشاهدَ سياسيّةَ ومُخابراتيّة وأمنيّةً عديدةً، ولستُ هنا بصددِ مناقشتِها ؛ فالحديثُ يطولُ في هذا البابِ،كما أنّه واضحٌ  للعيانِ لايختلفُ فيه اثنان ،وأنّما أردتُ أنْ أنقلَ  صورًا  اجتماعيّةً  من  حياةٍ ريفيةٍ وادعةٍ،لمْ تبقِ لها يدُ الظّلمِ والقهرِ شيئًا من عفويّتِها وبساطتِها.


    تختلفُ البيئةُ القرويّةُ الريفيّةُ  عن المدنيّةِ في نمطِ الحياةِ والعيشِ ، فمعظمُ سكّانِ هذه البيئةِ هم من  طبقةِ  الفلاحين ، الذين يهتمون بالأرضِ  وفلاحتِها وتربيةِ المواشي والحيواناتِ الأليفةِ ، ويتوزعون في  قرًى وبلداتٍ  صغيرة على مقربةٍ من المدنِ الكبيرةِ.


 ومن أنماطِ الحياةِ الرّيفيّةِ كما أوردَها المقدادُ:

- الاهتمامُ بالارضِ وزراعتِها .

  يولي هؤلاء الفلاحون الأرضَ عنايةً فائقةً ، وهي مصدرٌ لرزقِهم وأمانِهم فضّلوها على وظائفِ الدّولةِ ، وزروعها بالبطيخِ والشّمامِ  والقثّاءِ  والبامياءِ وعبّادِ الشّمسِ والزّيتونِ،وامتلأتْ  سهولُها  بجبالٍ من بيادرِ القمحِ  والشّعيرِ على  وقع  أنغامِ  أغنياتٍ  ردّدوها  بألحانٍ  مختلفةٍ  ملء  حناجرِهم ،  وهم يصافحون  السّنابلَ، وكانوا يحرسونها  ليلًا ونهارًا ، و يضعون  الفزّاعاتِ على  أطرافِها  لإيهامِ الطيورِ  والوحوشِ  بأنّها  محروسةٌ ،استغلوا كلَّ شبرٍ منها،فزرعوا حواكيرَ منازلِهم  فأصبحتْ  حدائقَ  غنّاءَ ،  وشمختْ  أشجارُ  "الكينا" في  قراهم  ، فأصبحتْ  مناراتٍ يُهتدى بها.


                

                                            

- الفقرُ .

    عانى الفلاحون  منِ الفقرِ والتّهميشِ الذي  وصلَ  لذروتِه ؛  فالوظائفُ الحكوميّةً  ورواتبُها لا تلبّي حاجيّاتِ  العيشِ  الأساسيّةِ ،  فهي  تتبخّرُ  منذُ الأسبوعِ الأوّلِ  منِ الشّهرِ ؛ لذلكَ  بحثوا عن أسبابِ  حياةٍ  أخرى ،  فقاموا بتربيةِ الحيواناتِ الأليفةِ التي يستفادُ منها كالحَمَامِ والزّغاليلِ التي تُباعُ وقتَ الحاجة ،وما أكثرُها!وبعضُهم عملَ في المهنِ اليدويّةِ كالجبصينِ ومقاولاتِ البناءِ، وورشاتِ إصلاحِ السّيّاراتِ والدّراجاتِ .


التّكافلُ الاجتماعيُّ.


  هؤلاءِ الفلاحونَ اقتسموا الظّروفَ الحياتيّةَ المريرةَ ؛ فالهمُّ  واحدٌ،والفرحُ واحدٌ، والمصيرُ واحدٌ،ومن صور هذا النّمط  الاجتماعيّ في  تلكَ القرى : التّعزيةُ بالفراقِ ، والتّهنئةُ بالّلقاء، والمواساةُ عندَ الشّعورِ بالضّيقِ ، والتآخي المنقطعُ النّظيرٍ، تناصفوا كأسَ الماءِ  ونورَ الكهرباءِ ، لبّوا نداءاتِ بعضِهم دونَ تذمّرٍ ومماطلةٍ ، بلْ بابتسامةٍ نخويّةٍ .


التّقاليدُ والعاداتُ.


   لكلِّ مجتمع ٍ تقاليدُه وعاداتُه ، قرويًّا  كانَ أم مدنيًّا ، ورثوها  من  آبائهم وأجدادِهم ، وسينقلونها إلى أحفادِهم ، ومنها إكرامُ  الضّيوفِ  بتقديمِ القهوةِ (المُرّةُ) ،وهي القهوةُ العربيّةُ الأصيلةُ التي لم تخلُ منها مضافاتُ حورانَ ،والقيامُ  بواجبِ العزاءِ  عندَ  الفقدِ ؛ إذْ  يجتمعُ  المعزّون في  خيمةِ  العزاءِ ويقومون بقراءةِ القرآنِ والتّسابيحِ في أجواءِ مودةٍ  وتراحمٍ ،  ومن  مراسمِ التّعزيةِ أيضًا الدعاءِ ، وتقديمِ الضّيافةِ لهم ،وهي عبارة عن فواكهٍ وهرائسَ لمن يرغبُ منهم تتبعُها القهوةُ ، وهناكَ أيضًا طقوسٌ خاصّةٌ  بأهلِ  الرّيفِ الدّرعاويّ ؛ إذْ يتناولون وجبةً  منِ الفولِ  صباحَ  كلِّ  جمعةٍ ، وهو روتين اعتاد عليه معظمُ فلاحي حورانَ.

   ويملأ الوشمُ وجوهَ العجائزِ ، حيثُ اتّخذنه زينةً لهنَّ أيامَ صباهنّ ،  فذهبَ الصّبا وبقي الوشمَ كما خُلقَ،كما يستخدمْنَ الأسنانَ الصّناعيّةَ (الطّقم)، وهي حاجةٌ صحيّةٌ تُعينهنَّ على أمورِالحياةِ،وتبدو علاقتُهنَّ  مع  (كنّاتهنَّ) مغايرةً للمألوفِ؛إذْ يحظينَ باحترامٍ يصلُ حدَّ التقديسِ ،  حاجاتُهنَّ  مُلبّاةٌ ، أوامرهنَّ مُطاعةٌ ، وهنَّ بدورهنَّ لا يبخلْنَ بعطفِهنَّ وحنانهنَّ وخبراتهنَّ على زوجاتِ فلذّاتِ أكبادهنَّ.


   ومن تلكَ التّقاليدِ والعاداتِ ما يُسمّى (بطاسةِ الرّوعةِ) ؛فيعتقدون أن سكْبَ الماءِ داخلَها ثمَّ  شُربه مع قراءةِ  آيةِ الكرسيّ والمعوّذاتِ ، ينجي من  ومكروهٍ  وبراثنَ قد  تحلُّ ، فهي طاسةٌ  نُحاسيّةٌ  صفراءُ  ذاتَ  شناشيلَ  ناعمةٍ  تُحدثُ خرخشةٍ إذا حُرّكتْ،وكذلكَ الأغاني والمواويلُ التي يردّدونها أثناء حصيدِهم القمحِ  والشّعيرِ، وأيضًا  كانَ منهم  مدخنون كثرٌ ، سجائرُهم  بعددِ  نبضاتِ قلوبِهم ، ينفثونها من أفواهِهم كما ينطقون الكلماتِ،ولعلّ ذلك يعودُ للظّروفِ القاسيةِ التي تحيطُ بهم.


المسكنُ.


   كانَ الفلاحون قديمًا  يسكنون في  بيوتٍ  كبيرةٍ ، منِ  الاسمنتِ  والحديدِ المُبطّنَ تتسعُ  لهم  ولأبنائهم  مع عائلاتِهم ، وكانَ الجدُّ هو الآمرُ الناهي ، وهو من يسيّرُ الحياةَ في هذا البيتِ  وفقَ آرائه وفكرِه ،من غير اعتراضِ، ولكن عندما تطورتِ الحياةُ، واختلفتْ ظروفُها،بدأتِ الأسرُ بالاستقلالِ في بيوتٍ محاطةٍ  بقطعةِ أرضِ  مزروعةٍ بأشجارٍ مُثمرةٍ  وأشجارِ زينةٍ ،كما  أنّهم كانوا لا يتقبّلون  َ فكرةَ  العماراتِ  والبناياتِ  ذاتِ الطّوابقِ ، والشّققِ السّكنيّةِ  ضيّقةِ الحيّزِ، ويشبّهوننها بالسِّجنِ الذي يكبّلُ الحريّةَ ، ولكنّهم مع  مرورِ الأيامِ تقبّلوها على مضضِ ، إذْ أصبحتْ مقصدًا  للشّبابِ ، وخاصّةُ المُقبلين على الزّواجِ وبناءِ أسرٍ جديدة.


وسائلُ النقلِ.


  اعتمد الفلاحون في ريفِ درعا على الدّراجاتِ النّاريّةِ اعتمادًا كبيرًا في قضاءِ أشغالِهم ومصالحِهم ، وربّما  أكثروا من هذه الدّراجاتِ لأنّها  قليلةُ التّكلفةِ وتحتاجُ إلى كمّيةٍ بسيطةٍ من البترولِ،وتفي بأغراضِهم،دون حاجةٍ إلى السّيّاراتِ ، وبعضُهم استخدم السّيّارةَ لأنّها تتناسبُ وأعمالَه .


الثّقافةُ.


   لمْ تقتصرِ الثّقافةُ على المجتمعِ المدنيّ فحسبْ ، بل كانَ الفلاحونَ أيضًا على قدرٍ كبيرٍ منِ الثّقافةِ ،انعكسَ على أقولِهم وحياتِهم،فكانوا على إطلاعٍ ووعي بما  يدورُ  حولّهم، وساروا  في  ركبِ الحضارةِ  ،  فكان  منهم المهندسون والمحامون والمعلمون والأطبّاءُ والشّعراءُ ،وحفظوا أقوالَ القدماءِ من شعِّرٍوحكمٍ وأمثالٍ ، استعملوها في جوانبِ حياتِهم المُختلفةِ .


الوفاء.


   إنَّ الفلاحين أهلُ وفاءٍ وإخلاصٍ ، يوفون بعهودِهم إذا أوعدوا ، وللأمانةِ عندَهم شأنٌ كبيرٌ يحافظون عليها ولو كلّفهم ذلك أرواحَهم ، منِ أمرٍ صغيرِ كخاتمٍ عائليِّ إلى أمرٍ كبيرٍ بحجمِ وطنٍ. 


                                   


الجنديان : السّوريّ والأردنيّ

في روايةِ " الطّريق إلى الزّعترّيّ"

" دراسةٌ مُقارِنة"


  الجنودُ هم حماةُ الدّيارِ ، وهم مَن يذودون عن حياضِه، ويبذلون أرواحَهم فداءً له، سحنتُهم  المغبرّةُ  تحكي قصصَ نضالٍ  وغُربةٍ ، كما أنّهم أصبحوا رفاقَ الشّمسِ من مشرقِها حتّى مغربِها،وقد أنستهم الصّحراءُ بفصولِها الأربعةِ .


  طالعتنا روايةُ "الطّريق إلى الزّعتريّ"  بصورتَين  متناقضتَين  للجنديَين الشّاميَين : السّوريّ والأردنيّ،ورسمتْ لكلِّ منهما صورةً تنمُّ عن حقيقتِهما وفقَ ما رواه الكاتبُ على ألسنةِ أبطال روايِته ،إبّانَ الثّورةِ وبداياتِها في درعا ،ومن ثمّ التّهجيرِ القسريّ إلى الأردنِ وتحديدًا " مُخيّم الرّعتريّ" 


  الصّورةُ الأولى للجندِ السّوريين،وأستثني من ذلكَ الجنودَ الأحرارَ الذين لمْ يشهروا سلاحَهم في وجوه أهلِهم  وجيرانِهم  وأبناءِ  جلدتِهم ، بلْ شدوا على أيدِهم ووقفوا بجانبِهم ، فهؤلاءِ الجندُ مرتشون ، باعوا ضمائرِهم مقابل ثمنٍ بخسِ ، وإنْ  كان  هذا يصبُّ  في  مصلحةِ  المواطنين  العزّلِ، كأبي  رستم المساعدِ في جيشِ النّظامِ  الذي  كانّ  يخبرُ أبا محمدٍ الفهريّ بما ينوي القيامَ به ؛ لياخذَ حذرَه مقابلَ" تنكةِ زيتٍ"،ويستغلُّ الفرصَ لطلبِها،  "عندَما وصلَ دورُه بمصافحةِ أبي فندي أخذه بالأحضانِ،وراح يقبّلُه ،وهمسَ في أذنِه :لقد وصلتني قائمةٌ بالمطلوبينِ ،واسمُك على رأسِها ، دبّر حالك"


   كما كانَ هؤلاء يتلفّظون بألفاظٍ تخدشُ الحياءَ العام ، يقولونها على  مرأىً منَ الملأ، دون  خوفٍ  واحترامٍ ؛ لأنّهم  ربّما اعتادوا على  مثلِ هذا الأمرِ وأصبحَ جرءًا من ثقافتِهم الحياتيّةِ،وطالما استفزّوا الموقوفينَ والمعتقلينَ بها، وهي كلماتٌ تمسُّ العِرضِ والشّرفِ والكرامةِ،لا يقبلُها شريفٌ،يقولُ الكاتب على لسانِ أبي رستم :" هناك ابن شرموطةِ ،اتصل بنا قبل قليل، أخبرنا بأنّ في حارتِكم مظاهرةٌ وهتافاتٌ مناؤئةٌ للدولة".

                                         


   وكانوا أيضًا قتلةٌ وظلمةُ ، لمْ يسلمْ من أذاهم وشرورِهم شيءٌ ، لا مكانَ للشّفقةِ والرّحمةِ  في صدورِهم ، قتلوا الإنسانَ  بدمٍ  باردٍ ، وقتلوا  الكلابَ والحميرَ والحمائمَ، حتّى الجرذُ أصبحَ ضحيّةُ لرصاصِهم ، فهم يرون أنَّ  الكائناتِ الحيّةَ مجرّدَ أرقامٍ لا تقدّمُ ولا تؤخّر،ُيقول:" انخرطَ العساكرُ بنوبةِ ضحكٍ هستيريّةٍ ، آذانُهم غيرُ مصدقةٍ مما سمعوه من السّيدةِ الموظّفةِ،... إلّا أنْ أحدَهم أدخلَ الحربةَ الموصولةَ برأسِ البندقيّةِ ، في فتحةٍ صغيرةٍ تحتَ كرسيّ السّائقِ ، فهربَ الجِرذُ مذعورًا..صوّبَ أحدُهم رصاصةً لتخترقَ الجِرذَ ،وتستقرُّ في دولابِ الباصِ الأماميّ".


    بالإضافةِ أنّهم مُستعبدون إلى حدِّ القداسةِ ،البسطارُ والبندقيّةٌ مِنبرُهم ومحرابُهم،يحلفونَ بشرفِ قائدِهم تعبيرًاعن صدقِهم،بلْ هومعتقدُهم وآلهتُهم، أعماهم الحقدُ الدّفينُ عنْ إبصارِ  حقيقةٍ واضحةٍ كشمسٍ  في رابعةِ  النّهارِ ، يقول المقدادُ في وصفِ هذا :" قسمًا بشرفِ القائد ، لنلعن أباكم وأبا  أبيكم ، ونحرقكم يا كلاب.. يا حقراء" ، ويرفعون شعارَ " الأسد أو نحرق البلد".

  هم سارقون ومعفّشون ،انتهكوا حُرماتِ المنازلِ ، يكسّرون ويحطّمون كلَّ ما يجدوه في طريقِهم أثناءِ اقتحامِهم البيوتِ ، يأخذون كلَّ شيءٍ ، وعودُهم كاذبةٌ ،ينسون كلَّ معروفٍ أُسدي إليهم "مجموعةٌ منِ العساكرِ دخلوا البيت للتّفتيش ، أمُّ حمدانَ تتوكّأ على عكازتِها ، ... اصطدمت بهم،رفعتْ رأسَها، وركّزتْ نظارتَها حتّى تستطيعَ مشاهدتَهم بشكلٍ جيّدِ : على وين يا يمّة الله ينصركم ، ما في حدا هون غير النّسوان ، برضا قلبي وربّي عليكم لا تخوفوهن.."و" تعالوا شوفوا هالخيرات .. كأنّما أعدّوا هذه الطولات من أجلِنا ، وخصيصًا لنا، كلوا، واشربوا هنيًا".


 أمّا الصّورةُ الثّانيةُ فكانتْ تختلفُ عن الأولى كليًّا،إذْ أبدى الجنودُ الأردنيون كاملَ تعاطفِهم مع المهجّرين،على اختلافِ رُتبِهم،فرّحبوابهم أجملَ ترحيبٍ، وأعطوهم  الأمانَ ، هدّأوا من روعِهم وطمأنوهم، وقاموا بواجبِ ضيافتِهم ،كما أنّهم نذروا أنفسَهم لخدمتِهم ،وأخذوا على عاتقِهم حمايتّهم، ونقلوهم  إلى  المُخيّمِ  بعدَ  التحقّقِ من وثائقِهم وتسجيلِ بياناتِهم"رحّبَ الضّابطَ به، أعطاه الأمانَ وقال:أنتَ الآنَ في حوزتِنا في أمانٍ،لا تخشَ شيئًا،إن شاء الله ستكون في غايةِ الرّاحة والسّرور... حضر عسكري شاب صغير ، وطلب إحضار فنجان قهوة للأستاذ..."                           

  هؤلاءِ  الجنودِ  كانوا مؤدبينَ  في تعاملِهم مع اللآجئين ، فلمْ  يقسوا عليهم بكلماتٍ جارحةٍ عندَ مخالفتِهم للأوامرِ، فهم لا يريدون زيادةَ قلوبِهم جراحًا، ففيها ما يكفي ، اهتمّوا بالمرضى وكبارِ السّنِ ، وجهّزوا سيّاراتِ الإسعافِ لنقلِ الجرحى والمُصابينَ،كما قاموا بإعدادِ (الكرفانات)لاستقبال المهاجرين رجالًا  ونساءً ، وسهّلوا مهامَ عودتِهم لاستعادةِ وثائقِهم،" اجتازوا السّاترَ التّرابيّ ... سيّارتا  إسعافٍ  عسكريّةٍ  أردنيّةٍ   ؛ لاستقبالِ جميع  الجرحى والمصابين ، أو تحسّبًا لأي حالةٍ طارئةٍ،...قاموا بفصلِ الرّجالِ في (كرفان)  وحدَهم ، والنّساءِ في (كرفان) آخر". 


   لقدْ عكسَ هؤلاءِ الجندُ صورةً عن فكرِهم واعتقادِهم،تخلّى فيها سوريو النّظام عن منظمومةِ القادةِ الشّاميين القدامى،الذين كانوا يحمون البشرَ قبلَ الحجرِ،بل أصبح هؤلاء أثافي القتل والنهب، بينَما تمسّكَ الأردنيّون بخلالِ هؤلاءِ الأشاوسِ.  


المثل ودلالاته

في روايةِ " الطّريق إلى الزّعتريّ"


  عادةً ما يحشدُ الأدباءُ في نصوصِهم الإبداعيّة كمًّا هائلًا منِ التّراثِ الثّقافيّ، وهذا يدلُّ على سعةِ إطلاعِهم، وتأثّرُهم بنهجِ سابقِيهم منِ الكتّابِ والشّعراءِ، وتختلفُ هذه المعارفُ المحشودةُ من نصٍّ إلى آخرَ ، فبعضُها موروثٌ دينيٌّ وآخرُ أدبيٌّ بالإضافةِ إلى الموروثِ الشّعبيّ.


   وروايةُ  " الطّريق إلى  الزّعتريّ"  لمْ تخرجْ  عن  هذا  النّمطِ  ،  فالمُقلّبُ لصفحاتِها يجدُ هذا الإرثَ جليًّا من أولى ورقاتِها حتّى  آخرِها ، وتنوّع  هذا الإرثُ بينَ الإرثِ الشّعبيّ كالحِكَمِ والأمثالِ والمقولاتِ المشهورةِ واللهجاتِ وبين الأرثَ الأدبيّ كالشّعرِ ومقتطفاتٍ من نصوصِ نثريّةٍ،كما أنَّ الموروثَ الدينيَّ كانَ حاضرًا بينَ طياتِها، ونحنُ هنا بصددِ منافشةِ التّراثِ الشعبيّ.


     أكثرُ المقدادُ من الأمثالِ الشّعبيّةِ في روايتِه التي بُدئتْ بمقولةِ لشاعرِالهندِ الكبيرِ ، وأنهيتْ بمقولةِ لشاعرِ فلسطينَ الأكبرِ، وقد استخدمَ  ما  ينوفُ على أربعينَ  مثلُا ، وهذه  الأمثالُ  شائعةٌ  في بلادِ الشّامِ ، بلْ في الوطنِ العربيّ قاطبةُ، وبعضُها خاصٌّ بالرّيفِ الدّرعاويّ ،توارثوه جيلَا بعدَ جيلٍ .


    ولكلَّ مَثَلٍ دلالةٌ رمى إليها الكاتبُ ،بقصدِ التّوضيحِ ووصفِ الحالِ ، ومن هذه الدّلالاتِ ،الإصرارُ على الشّيءِ حتّى  تحقيقِه  ولو بعدَ  حينٍ، فذكرَ في سبيلِ ذلكَ قولَهم: " وراك وراك ، والزّمن  طويل" و "لايضيع  حق  وراه مُطالب " و" الاكلة اللي تتواعد بيها ، أحسن من اللي بتوكلها"منها أيضًا ، قولُ الحقِّ بدونِ تلميحٍ فيقولون:" قل للأعورِ أعور بعينه" و" انطح وصلّ على النّبي" ، وفي جانبِ عدمِ المُخاطرةِ  والمُغامرةِ  يُقالُ:" ابعد عن الشّر وغنِّ له " و" لا تنم بينَ القبور ولا  تشوف  منامات وحشة"،وممّا يدلُّ على الغفلةِ  والجهلِ " عليهم عليهم ، معاهم  معاهم"و"العصفور يتفلّى والصّياد يتقلّى"و"مطبلين بالدنيا،مزمرين بالآخرة".

-39-

   وفي وصفِ الحالةِ السّيئةِ بأدقِّ تفاصيلِها ، والتي تشي بضيقِ العيشِ  ذكرُ لنا الكاتبُ ثلاثةَ أمثالٍ:"طلع من تحت الدّلِف إلى تحت المزراب" و"الحمّام المقطوعة مياهه" و" المستجير من النّار بالرّمضاءِ " ، وفي بابِ   الصّدفةِ يُقالُ" ربّ صدفةٍ خيرُ من ألفِ ميعادِ " و" ربَّ ضارةٍ نافعةِ" و" ربَّ رميةٍ من غيرِ رامٍ" ،أمّا من ناحيةَ الإكرامِ لأجلِ منفعةٍ أو غضِّ البصرِ  يقولون : "اطعم  الفم  تستحي  العين" و" اللّقم  تردّ  النّقم" ، ويقالُ  عن عدمِ  الفائدةِ والجدوى : " دجاجة حفرتْ على رأسها عفرت" .


  وثمّة مَثَلانِ في تغيُّرِ الحالِ كعدمِ مناسبةِ سنِّ الشّخصِ لفعلِه ،أو عدمِ قدرتِه هما : " بعد  هالكَبرة  جُبة حمرا" و" زمان أوّل حوّل" ، ويُقال  في  صددِ التّعارفِ والمُعاشرةِ:" من عاشر القومَ أربعين يومًا صار منهم" و" في كلِّ عرس له قرص" ، وفي عدمِ احتقارِ الشّيء قالوا " بحصة بتسند جرّة " ،وفي الاطمئنانِ قالوا: " حط إيدك  ورجلك في  ميه باردة " ، كما  وصفوا الكلامَ في غيرِ موضعِه بقولِهم:" جتْ لتكحّلها فعمتها" 


   وفي موضعِ الفخرِ  والاعتمادِ على النّفسِ قالتِ العربُ:" أعلى ما  بخيلِهم يركبوه "و" تدرسُ وتردّدُ وحدها" ، وقالتْ أيضًا في بذلِ الجهدِ والاجتهادِ :" ما في اشي بلاش، غير العمى والطّراش" و" من جدَّ وجد ومن سار على الدّربِ وصل" ، وفي وصفِ سرعةِ الاختفاءِ قالتْ : " فص  ملح  وذاب" ، وفي حالِ التوافقِ قالتْ : " القلوب عند بعضها" ، أمّا في حالة عدم  الخشيةِ من شيء ٍ قالتْ :   " المبلول ما يخشى من رشق الماء " و" إذا وصلت الميه فلتتدحرج" .


   وقيلَ في معرضِ الحديثِ عنِ الشّجاعةِ :" اللي تعرف ديته اقتله " ، وقيلَ أيضًا في التّصرفِ بعدَ صبرٍ طويلٍ وكانَ مُخالفًا  للمُتوقَّعِ : " صمتَ  دهرًا ونطقَ كفرًا" ، كما  قالوا في الإرغامِ على شيءٍ : "مكره  أخاك  لا بطل " و"شو اللي  جابرك  على المرِّ، قال : اللي  أمرّ منو " ولحسنِ  حظِ طرفٍ وتعاسةِ طرفٍ آخرَ  قالوا:" إي بحظي ، وحظ مرت خيّي" و"موت الكلاب فرج للحراميّة".


   أمّا معرفتُهم بحتميّةِ الموتِ وأسبابِه ، والحذرِ منها قالوا :" الحذرلا ينجي منِ القدرِ" وفي مجالِ زيادةِ الأمرِ سوءًا ، وحدوثِ ما لم يكنْ بالحسبانِ أو ما يُكره حصوله ،قالوا:"زادَ بالطّنبورِ نغمًا"ووصفًا لحالةِ الإهمالِ :"شرق الذّراياتِ " ، ولحالةِ المُماطلةِ :" مواعيد عرقوب" .


   إنَّ تخصيبَ النّصِ الأدبيّ  بالموروثِ،سواءَ كان  دينيًّا أو أدبيًّا أو شعبيَّا ، يجعلُه أكثرَ متانة ورصانة ، ويثبّتُ المَشاهدَ والصّورَ في ذهنِ القارئ بأبهى حُللِها ،ويجعله مُتشوقًا لنهايتِه دونَ مللٍ وضجرِ،ويلتهمُ فِقراتِه سطرًا سطرًا،كما يعكسُ سعةَ إطلاع كاتبِه وعمقَ ثقافتِه ، وامتلاكَه  لهذا الكمِ  الهائل  منِ المعارفِ  الإنسانيّةِ  التي  يحشدُها  ويضمّنُها  بينَ  ثنايا  نصّهِ  بكلِّ  رتابةٍ وسلاسةٍ، وبالتّالي يفتحُ أمامَ قارئه آفاقَ التأملِ والفَهمِ دون عسرةٍ.


  الحقيقةٌ ،أنَّ هذه الرّوايةَ فيها منِ أقوالِ الشّعراءِ،وحكمِ العظماءِ،ومأثوراتِ القدماءِ ، ما يروي النّفسَ المُتعطّشةَ للثقافةِ والثراثِ ، فضلًا عن كونِها قاعدةَ بياناتٍ لكبرى مآسي الشّرقِ ، بلْ العالمِ أجمعَ. 


رواية " الطريق إلى الزعتريّ"

دراسة فنيّة


    تصنّف رواية "الطريق إلى الزعتريّ" للروائيّ السوريّ محمد فتحي المقداد ضمن خانة أدب اللجوء ، وهي ذات بُعد إنسانيّ في المقام الأوّل ، فهي تسلّط الضوء على هموم وقضايا لم تلتفت إليها الفضائيّات التي انشغلت بإحصاء عدد الموتى والجرحى، فجاءت الرواية لتكون شاهدًا على مأساة إحدى قرى درعا عاصمة سهل حوران التليد.


  وجاءت هذه الدراسة لتلقي الضوء على الجانب الفنيّ لهذا الرواية في عدّة محاور، نوردها كالآتي:


العنوان:


  جاء العنوان مركّبًا من ثلاث مفردات"الطريق إلى الزعتري" وهي ألفاظ ذات مدلول مكانيّ ، فالطريق هو الحيز الجغرافيّ الذي نسير عليه للانتقال من مكان إلى  آخر، ثمّ يأتي حرف الجر (إلى) والذي يدل على انتهاء الغاية المكانيّة ،ثمّ تأتي لفظة "الزعتري" وهي منطقة في شمال الأردن على مقربة من حدود سوريا ، أقيم عليها أكبر مخيّمات الشرق الأوسط ، فهؤلاء اللاجئون هربوا من قريتهم"موج" إلى مخيّم الزعتريّ الذي مع دخوله تنتهي أحداث الرواية، وتنتهي معها إحدى مراحل اللجوء القسريّ لتبدأ مرحلة أخرى داخل أسوار المخيّم.  


    كما أنّ ألفاظ العنوان بعدد مراحل العذاب الذي ذاقه المهاجرون  ، فالمرحلة الأولى الخوف من القصف والموت  في القرية،والمرحلة الثانية اتخاذ القرار بالهجرة وما فيه من صراع نفسيّ كبير ، والمرحلة الثالثة ،  آليّة الهجرة وقسوتها حتى الوصول إلى المخيّم.


صورة الغلاف:


  تشكّلت صورة الغلاف من صورة للاجئة مع طفلها، وهي تحمل متاعها، بالإضافة إلى سلك شائك وهلال في الأفق في فضاءٍ أزرق ،فاجتماع هذه الصور مع بعضها يوحي للوهلة الأولى إلى مسير بخوف وحذر، وهذا حال من هاجروا ،إذ كان يخشون من القتل والاعتقال ، كما أنّ السير في الليل والذي أوحى به القمر في الأفق ما كان ليحدث إلّا ليتوارى هؤلاء عن عيون القتلة،وقد كتب العنوان على الغلاف بلون أسود؛ ليدلّ على أنّ سوادًا سيلفّ حياتهم في قادم الأيام.


الشخصيّات :  


   تعددت شخصيّات هذه القصة ، بعضها رئيسيَ وبعضها هامشيّ ذكر لعارض ما، فلم يكن في هذا الرواية بطل أوحد تدور حوله القصّة ، بل كانت البطوله هنا جماعيّة؛ ليسقطها الكاتب على واقع الثورة، فهي لم تجتمع تحت قائد واحد ، وكأنّه يقول إنّ الثورة هي ثورة شعب ،هو عمادها وهو قائدها ،اشترك فيها بجميع أطيافه ، رجالٌ ونساءٌ ،شيوخٌ وأطفالٌ، مثقّفون وفلّاحون،وغيرهم من شرائح المجتمع.

  وقد جاءت هذه الرواية هنا على خلاف الروايات الأخرى من حيث البطولة ، فمعظم الروايات العربيّة والعالميّة تركّز في الحدث على بطل واحد، يعبّر الكاتب من خلاله عن مبتغاه.


الرمز :


  غلب الطابع الرمزيّ على الرواية ، فأسماء الشخصيّات هي أسماء مستوحاة وليست أسماء حقيقيَة ،لكنها تشي بالمقصود بطريقة غير مباشرة ، وهذا أسلوب اتّبعه المعاصرون شعراءَ وكتابًا ؛ وذلك خوفًا من الملاحقة والعقوبات.


   كما أنّ الفضاء المكانيّ كان رمزيًّا ، فالقرية "موج" ليس هذا اسمها الحقيقيّ ، وإنّما هو اسم رمزي أضفاه المقداد على مسرح الأحداث ، فلفظة"موج" لها من الدلالات الكثير ، فهي مرتبطة بالبحر ، والموج يعني الاضطراب وعدم الاستقرار للمياه ، وكذلك كانت أحوال البلاد إبّان كتابة الرواية غير مستقرّة ، والسبب كما أسلفنا الخشية من السلطة السياسيّة .


التكرار:


     تكرّر  في هذه الرواية عدد من المعاني والألفاظ والصور ، ومثال ذلك : "مطّ شفتيه" و" ينفث دخانه" و " شكّل الدخان سحبًا فوق رأسه" وكما نعلم أنّ التكرار يفيد التوكيد ، أي تثبيت الصورة في ذهن القارىء، و"مط الشفاه" يدلّ على الامتعاض من شيء ما ، فالظروف التي عايشوها في القرية جعلتهم يمطون شفاههم مرارًا مرغمين.


   وفي " نفث الدخان" دلالة على كثرة التدخين ، فالدخان طاردٌ للهمّ وجالبٌ للراحة في اعتقاد المدخنين، وما تعرّضوا له من مواقف هو من جعلهم يدخنون بشراهة للتخفيف من وطأة الظرف القاسي.


   أمّا السحب المتكوّنة فوق رأس المدخّن ،فتدل على كثرة ما أصابهم من أحزان وهموم، فهي كالسحابة التي ستمرّ باعتقاد الكاتب مع الأيام.


الصراع:


  الصراع هنا صراع عنيف ، فهو صراع النفس مع ذاتها ،وتجلّى هذا الصراع بين عدم الرغبة في ترك القرية واللجوء وبين الموت الأعمى القادم ،فإذا هاجرسيذوق الويلات في المهجر وأقساها عدم العودة ،وإذا بقي سينضمّ إلى قوافل الموتى هو وأطفاله الذين يشغلون خلده، بالإضافة إلى الصراع العسكريّ. 


الراوي:

  الرّاوي في هذه القصّة هو الرّاوي "المُشارِك"،فهومَن سرد أحداث القصّة نيابة عن الكاتب، حيث  كان المحامي هو المؤلّف الضّمني للنّص ، والنائب عن الكاتب في تحريك الحدث من البداية إلى النّهاية،فالرواية كانت عبارة عن مذكرات لذلك المحامي ، كما ناب الأبطال الآخرون في سرد الأحداث عن الكاتب.


اللغة:


   كانت لغة الرواية لغة بسيطة سلسة واضحة لا رطانة فيها ؛لأنها تحكي مشاعر أناسٍ بسطاء ، وهي واضحة لا لبس فيها ،كوضوح حقّهم المسلوب ، ووضوح الظلم الواقع عليهم، وزاد من وضوحها أنَها جاءت في قوالب نصيّة من الثرات العربيّ  ليكون الوصف في منتهى الدقّة.


ثقافة النص:


  في هذا النص من المعارف المحشودة ما يروي عطش التائق للثقافة المتنوّعة، ففيه من الأشعار والحكم والمأثورات والمقولات والأمثال الكثير ، ممّا يلبس النص ثوبًا من الحسن والبهاء ، ويقدّم المعنى بأسهل الطرق ، كما أنّه يعكس ثقافة صاحبه، فهي ثقافة غزيرة متنوّعة ، نستشفّ منها أنّ المقداد موسوعة أدبيّة تمشي على الأرض.


البداية والنهاية :


  البداية كانت مع مقولة لشاعر الهند الكبير" طاغور" والذي قال بأنّ الزمن هو الناقد الحقيقيّ المنصف ، وفي ذلك إشارة إلى أنّ المقداد أراد أن يكون حياديًّا قدر الإمكان، عندما انقسم السوريون بين معارض ومؤيّد، كما أنّه أراد أن يترك الأمر للزمان في كشف حقيقة الجدال.

 أمّا النهاية فكانت بمقولة لشاعر فلسطين الأكبر" محمود درويش" والذي حكم بأنّ لا شيء أجمل من الوطن إلّا الطريق الذي يؤدي إليه، وهذا يوحي بشوق وحنين المقداد الكبيرين  إلى مسقط رأسه سوريا ببصرى شامها.

المثلث المقلوب في دوامة الأوغاد

 انقلاب المخروط في روايات      (محمد فتحي المقداد) 


 بقلم/ الروائي توفيق جاد


لكل إنسان أينما حلّ وارتحل، نظرة أولى تشدّه لما رأى.. وغالباً ما تكون هذه النظرة متعلّقة بطبيعة عمل الانسان.. وأنا حين استلمت رواية صديقي الأديب محمد المقداد الأولى ( دوّامة الأوغاد )، أخذتني دوامته بعيداً لأفكّر في الدوّامة وشكلها الذي يرسم المخروط مقلوباً في الماء.. لم أفكّر بداية بالشخوص المتغيرين وحركتهم كما الأمكنة والأزمنة في الرواية.. لتسوقهم الأحداث إلى غياهب الظلم والاستبداد.

عملي المساحي الهندسي قادني إلى التفكير في المخروط.. الأصل أن يكون هذا الشكل بقاعدة ورأس وزوايا ثلاثة.. فتتساوى أضلاعه وزواياه.. وهنا أيضاً تتغير الأضلاع والزوايا.. عندما يرتفع رأس المخروط، فإن القاعدة تضيق وتقصر.. وعندما يهبط الرأس للأسفل فإن القاعدة تطول وتتوسع.. وفي الحالتين تتغير الزوايا ويكون هناك اختلاف ظاهر.

لست هنا بصدد إعطاء معلومات مساحيّة بقدر ما سأتحدّث عن عمل أدبيّ يستحق التقدير.

قلت بأن رأس المخروط عندما يرتفع للأعلى، فإنّه يسحب معه الأضلاع الجانبية والتي يتم تعويضها من القاعدة.. تصغُرُ القاعدة ويرتفع بعضاً منها للأعلى فيسمو ويرتقي.. وعندما يهبط الرأس فإن المرتفع بالجانبين، يبدأ بالهبوط للأسفل وينضمّ للقاعدة فتتسع وتكبر.. وهذا ما حصل.. فالمخروط الذي انقلب في لُجّة البحر، أصبح دوّامة أخذت معها كلّ من دخلها إلى قعر البحر وأغرقتهم في ظلمته.

ما كان في رواية المقداد، هو هبوط لرأس النظام واسقاط لبعض من كانوا في الأعلى.. استمر الهبوط واتّساع القاعدة.. وصل رأس المخروط إلى مستوى جميع من هم في الأسفل.. لم يُحاول الصعود ثانية.. استمر في الهبوط ونزل دون مستوى الخط المستقيم.. أصبح في الحضيض.. أسقط معه الكثير.. تقلّصت القاعدة وقصُرت.. أصبح الفساد سمة وسياسة تسود الدولة.

إلى هنا.. اعتقدت بأنّ الدوامة انتهت بهؤلاء الأوغاد.. لم ينتظر محمد المقداد طويلاً.. أتحفنا برواية أسماها ( الطريق إلى الزعتري).. هذه الرواية التي كانت امتداداً لدوّامة أولئك الأوغاد.. جرّوا البلد إلى الويلات والهلاك.. قتلوا وذبحوا بلا رحمة ولا شفقة كلّ من حاول أن يطلب كرامة العيش.. شرّدوا وشتّتوا.. اغتصوا وقتلوا.. هدموا ودمروا.. لم يسلم منهم حتى الشجر والحجر

رحلة أبو فندي وهجرته إلى الأردن جسّدت بعضاً من معاناة من فرّوا من براميل وصواريخ القتلة.

رواية ( الطريق إلى الزعتري ) هي نتاج الفساد في الدوّامة وامتداد للتّسلّط والقتل الذي لن ينتهي إلاّ بزوال الظلم وأصحابه.

الشاعر ابراهيم مساعدة. كتب عن الطريق إلى الزعتري

 الشاعر ابراهيم مساعدة

#الطريق_إلى_الزعتري


( الطريق إلى الزعتري ) اسم رواية أهداها كاتبُها إليَّ خلال زيارتهِ ، الكاتبُ والروائي الجميلِ الأستاذ محمد فتحي المقداد

في منطقة الرّبّـة بمحافظة الكرك

الشاعر . ابراهيم مساعدة


الـوردُ يُعـرفُ بالرّياضِ بزهْــزهِ

وجميلُــهُ يُأتـى إليــهِ لعِطْــــرِهِ


بحَفاوةِ التّرحابِ فيضُ غَمامَةٍ

في ظلّــه في رَيِّـهِ في سِحْـرِهِ


" مقدادُ " نَبــعٌ للمحبّـةِ حيثُمـا 

والنبـعُ يُعـرَفُ بالفَــلاةِ بِوفْـرِهِ


نُزُرُ من الزَمَـنِ الجميـلِ تَحُفُّنـا

حيثُ اللّقاءُ ومن العلومِ وَنَثْرِهِ


و" طريقُـهُ للزعتري " هُمومُـهُ

يا ليتَها  سَارتْ  عَليـهِ بأمْــرِهِ


ما كُلُّ ما يُؤتى إليكَ مصيبــةٌ

فَلَرُبَّ  نازلـ،ـةٍ  عليكَ  لِشُكْـرِهِ


فالصّبرُ يا أهلَ المَهاجرَ نفحَـةٌ

تَحضَـوا بها في جنّـةٍ مِنْ بِرّهِ


#حبيب_الروح

٢٠١٩/١/١٥ م