الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

مغامرة التجديد اللغوي في ديوان (فوضى الحروف) للشاعر نضال الرفاعي

بقلم الروائي – محمد فتحي المقداد


الديوان يعتبر ورشة لغويّة، ومنجمًا أحفوريّا للبحث عن مَوات كلمات ندر استخدامها في عصرنا من أهل اللغة.
و الحداثة عند الشاعر (نضال الرّفاعي) ذهبت به بعيدًا في مجاهل اللغة وإحضارها عُنوة إلى ساحة الاستخدام وإعادة تدويرها شعريًّا وأدبيًّا. برأيي المتواضع هذه النقطة بالذات تُحسَب للشّاعر المُجدّد (نضال الرّفاعي) مع أمثاله من النُّدرة النّادرة من الشعراء والأدباء.
وما دلالة هذا الكلام عند تطبيقه على أرضية الواقع الأدبي المُعاش في ظلّ وسائل التواصل وسهولة تناولها، هناك سيلٌ جارفٌ من الغُثاء الضّحل بلا فائدة تُذكر. فليس كلّ كلام مُنمّق جميل هو شعر، فالشعر موهبة مُكلّلة بامتلاك الأدوات واتقان الصّنعة. هذا ما رأيته متوافرًا عند شاعرنا نضال الرفاعي.
وعند التوقّف أمام العنوان (فوضى الحروف).. لم أتمالك مشاعري فقلت: "لله درّها ما أروعها، وهي تخلط الأوراق بفوضى مقصودة.. خبيرة عليمة.. واثقة بخطوتها".
باعتقادي أن الشّاعر أراد إحداث الفوضى الخلّاقة المُبدعة في المستنقع الرّاكد الذي تستعمره الإشنيّات والطّحالب، وهو منهل الكثرة الكاثرة المُفاخرة بما تكتب ظنًّا أنها أتت بما لم تأته الأوائل.
والتجديد هو الحجر الكبير العظيم الذي رماه نضال في هذا هذا الخضمّ الهادئ هادفًا للتغيير والتطوير الحداثي للغة العربية النّابضة جذورها حياةً.
***

النماذج والأمثلة:
____________

- (وربِّكَ يا قبيحَ النّسل إنّا ** سنَنسِلُ من لهم حقُّ البقاء) ص١٧.
# سنَنسِلُ: نسَل الشّيءُ انفصَل عن غيره وسقَط، الآية: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) سورة الأنبياء 99/ نَسَلَ ينسل: كثُرَ ولده

- (فما نضَبَت منابعه وكانت ** لكم مِغداقةَ البَذلٍ احتسابًا
ألستُم من بحِجرِ القلب كنتُم ** وأبدلتُم بنسمتِه عُبابا) ص٢٣
# مِغداقة: صيغة مبالغة من التكثير من العطاء الكثير. غَدِقَ الْمَطَرُ: كَثُرَتْ قَطَرَاتُهُ. غَدِقَتِ الأَرْضُ: كَثُرَ فِيهَا الْمَاءُ وأَخْصَبَتْ. غَدِقَتْ عَيْنُ الغَدِيرِ: غَزُرَتْ وعَذُبَتْ. غَدِقَ العَيْشُ: اِتَّسَعَ. مَاءٌ غَدِقٌ: غَزِيرٌ، كَثِيرٌ.
# عُبابا: العُبَابُ : كثْرَةُ الماءِ والسَّيْلِ. عُباب البحر: الموج

- (فأسلمتم مراكبكم رُواحًا ** وأخرقتُم مراكبَنا إيابا
لعمري لم يعُد في الثّغر نبضٌ ** ليُنطِفَ سوقَ سائلتي الرّضابا) ص٢٤
# رُواحًا: رَوَاح اسم للوقت من الزَّوال أي من زوال الشَّمس إلى اللَّيل
# نَطِفَ*يَنْطَفُ* قطرَ أو سال قليلًا قليلا

- (ضُبّوا الدفاتر لا يُجدي بنا صَدَحٌ ** إنّ الدّفاتر قد ملّت من الكذِب) ص٢٦
# ضُبّوا: ضَبَّ عَلَى الشَّيْءِ : قَبَضَ عَلَيْهِ بِكَفِّهِ. ضَبَّ بِكَذَا أَوْ عَلَيْهِ : اِشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلَيْهِ وَطَلَبُهُ لَهُ، كنت أظنّ هذه الكلمة عاميّة

- (عشقتُ عروسةَ الشُّطآن عِنْدًا ** فأسلمتِ النّفائسَ لاعتمادي) ص٣٣
# عِندًا: خالف الحقَّ وهو عارِف بِه.. من العناد.

- (شجونٌ في الدّجى تعرو فؤادي ** فتُدميه لتعبَثَ في مِدادي) ص٣٤
# تعرو: عرا يعرو : عراه المرض: أصابه

- (هي نبع أمواهِ اللّغات فُراتِها ** إن لم نذُد عن حوضها لا نَرفُدُ) ص٣٧
# أمواه: جمع مياه.

- (يا نسمةً سلكت مدارَ رصانةٍ ** ما  اختلّ مجرِيْها وليست توأدُ) ص٣٨
# مَجريْها: لفظة قرآنيّة.. وهي طريق السير، جاء في سورة هود ﴿وقال﴾ نوح ﴿اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها﴾ بفتح الميمين وضمهما مصدران أي جريها ورسوها أي منتهى سيرها.

- (يا لاعِجًا في الصّدر يستعِرُ ** ناري رمادٌ ما بها شرَرُ) ص٤٦
# لاعجًا: حُبّ لاهب مُحرِق, صَبَابَة , الحزن والشجن

- (ولو ذاقوا رحيقَ العفوِ يومًا ** لما سلكوا بدرب  البُغضِ وَعْرا) ص٥٠
# وَعْرًا: الوعورة والصعوبة. وعَر الطَّريقُ : صلُب وصعُب السَّيرُ فيه.

- (يا صاحب السّيفِ هذا السيف كم بَتَرا ** كالبرقِ خاضَ الوغى كالجمر إذ صَدَرا) ص ٥١
# صَدَرا: الانصراف والابتعاد. وهي لفظة قرآنية (حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)٢٣ سورة القصص،  يرد الرعاء أغنامهما عن الماء. ويرجع  و ينصرف عنه،  أو يصرف الرعاء مواشيهم عن الماء.

- (كم من رجالٍ قضَوا في الرّوض نحبَهُمُ ** سالتْ  دماءٌ تُغذّي الجدولَ النَّهِرا) ص٥١
# النّهِرا: نهَر نهرًا فهو نهير. نهر الشيء: كثُر وغزُر.

- (لكن برغم خُدوشٍ القلب من وَهَنٍ ** بالفكر نزهو فيبدو وجهُنا نضِرا) ص٥٢
# خدوش: جروح خفيفة نتيجة للاحتكاك المباشر.

- (يا ساكنين أديمَ المسكِ أسألُكم ** فكرَ الوفاء.. يكونُ الدّرسَ والعبِرا) ص٥٣
# أديمَ: أديم الأرض‏: ‏ ظهر الأرض وسطحها. وأَدِيمُ كل شيءٍ : ظاهِرُه. أَدِيمُ السَّمَاءِ : مَا ظَهَرَ مِنْهَا.

- (نزَعَ المعاطفَ وارتمى تحت المطر ** والقلب ضاق بِرانِهِ حتى انشطر
 فالدهرُ في دُوَلٍ يدورُ كما الرْحى ** لم يُبقِ حَبًّا للنّجاة ولا يذَر) ص٥٤
# بِرانِه: الرَّانُ : الغِطاءُ والحِجابُ الكثيفُ، وهو الصدأُ يعلُو الشيءَ الجَلِيّ كالسيف والمرآة ونحوهما، والرَّانُ : ما غَطَّى على القلْب وركِبَه من القسوة للذَّنب بعد الذنب.
# الرّحى: رحَى القمحَ : طَحَنَه. رحَّى الصَّانعُ الطَّاحونةَ : صنعها وسوّاها

- (و بيضُ الثّنايا فُصوصٌ بعقدٍ ** بخِدْر المليحةِ ليلة عُرس
وقطرُ الرّضابِ كطلّ الزّهورِ ** كخمرٍ عتيقٍ يُقبّلُ كأسي) ص٥٥
# فُصوص: فصُّ الأمر : حقيقته وجوهره
فَصُّ الْخَاتَمِ : مَا يُرَكَّبُ فِي وَسَطِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ
# الرّضاب: في معانيها المبسطة ما يلي شهد العسل الريق فتات المسك قطرات الندى المتساقطة على الشجر والماء قطع السكر. وقد جاء في لسان العرب كما يلي: (الرُّضابُ: ما يَرْضُبُه الإِنسانُ من رِيقِه كأَنه يَمْتَصُّه، وإِذا قَبَّل جاريَتَه رَضَبَ رِيقَها).

- (با صانع المهدِ كيف المهدُ يتّسعُ ** كلّ المحاسنِ بالمولود تَدَرّعُ
في يوم مولده المرقوب لا عجبٌ ** تأتي الملائكُ حولَ الطّفل تجتمعُ) ص٥٧
# تدرّع: لبس الدرع
# المرقوب: الأمر المرتقب مجيئه..

- (فالوجهُ بدرٌ وممشوقٌ بِهامَتِه ** و الطّرْفُ يخضعُ للجبّار يتّضِعُ) ص٥٨
# يتّضِع: اتَّضَعَ : خَفَضَ رأْسَه
اتَّضع أمامَ السُّلطة : تذلَّل ، تخشَّع ، خضع

- (إنّا شُغِلنا و رانُ القلبِ يُهلِكُنا ** عفوًا إلهي وألحقنا بمن شُفِعوا) ص٥٩
# ران، الرَّانُ: الغِطاءُ والحِجابُ الكثيفُ.

- (وليْتَ الذي هزّ الفؤادَ فواجعًا ** يكونُ كأضغاثٍ تقُضّ المضاجِعا) ص٦٠
# أَضْغاثٌ: (اسم) جمع ضِغْث ما هِيَ إِلاَّ أَضْغاثُ أَحْلامٍ: أَحْلامٌ مُخْتَلِفَةٌ مُتَداخِلَةٌ وَمُضْطَرِبَةٌ يَصْعُبُ تَأْوِيلُها وَتَفْسيرُها. ورد في سورة يوسف آية 44 (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بتأويل الأَحلامِ بِعالِمينَ).

- (أمِن ذاتِ جُحْرِ السُّمِّ ندْمى ولم نَفِقْ ** شرِبنا نزيفَ الجرحِ خمرًا وناقِعًا) ص٦١
# ناقعًا: فاعل من نَقَعَ. دَوَاءٌ نَاقِعٌ : فَاعِلٌ ، نَاجِعٌ. سُمٌّ نَاقِعٌ : قَاتِلٌ. دَمٌ نَاقِعٌ : طَرِيٌّ. ماءٌ ناقِع : ناجِعٌ يطفئ الغُلَّة. وموتٌ ناقِع : كثير.

- (ويطلُّ شِعري من ثنايا حُسنها ** فيتوهُ في جيدٍ وخصرٍ أهيَفِ) ص٦٣
# أهيف: أهيَف: (اسم) الجمع: هِيف ، المؤنث : هيفاءُ ، والجمع للمؤنث : هَيْفاوات و هِيف صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من هافَ وهيِفَ. قامة هيفاءُ : ممشوقة رشيقة. ورَجُلٌ أهْيَفُ: ضَامِرُ البَطْنِ رَقِيقُ الخَصْر، ِ النِّطَاقاتُ الذَّهَبِيَّةُ الْمُلْتَفَّةُ على خَصْرٍ أَهيَفَ لا يَضيقُ بِها وإنْ عَرُضَتْ.

- (وأُشعّلُ الحرفين من شَبَق الجَوى ** حرقًا وبُركانَ الهوى المُستعصِفِ) ص٦٤
# المُستعصِف: يطلب العصف. اشتدَّ هبوبُه. "عَصَفَتْ رِيحٌ"

- (واعمَدْ إلى الدّار واسألْ في مضاربها ** هل طيفُ ليلى بأنفاس الهوى اكتَنَفا
علّى أُعانقُ عين الحبّ مُغمّدَةٌ ** تغفو فأغفو وبعضُ الليل قد دَنِفا
 يا دارُ أنّى يفِرّ الصّبّ من قَدَرٍ ** ما أعسَلَ النّخلُ إلّا بعدما ارتشفا) ص٦٦
# اكتنفا: اِكْتَنَفَهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ : أحَاطَ بِهِ
# مُغمّدة: مَغْمَدُ السَّيْفِ : غِمْدُهُ ، أَيْ غِلاَفُهُ. مَغْمَدُ السَّيْفِ : غِمْدُهُ ، أَيْ غِلاَفُهُ. غمَّدَ يغمِّد ، تغميدًا ، فهو مُغمِّد ، والمفعول مُغمَّد. غَمَّدَ صَاحِبَهُ: غَطَّاهُ، سَتَرَ مَا كَانَ مِنْ عُيُوبِهِ غمَّد اللهُ فلانًا برحمته : تغمَّده ؛ ستر ما كان من عيوبه وغطَّاه. غَمَّدَ فلانٌ فلانًا كذا: غطَّاه به.
# دنِفا: دنفت الشمس : مالت إلى الغروب. ودَنِفَ الأَمرُ : دنا.
# ما أعسَلَ النحل: صيغة ما أعسل على صيغة أفعَلَ.. بمعنى أن النحل ما أنتج العسل الا بعدما ارتشف رحيق الأزهار.

- (مَن ذي التي تُشفي الفؤادَ بوصلها ** وتُسابقُ الدّقّات بالتّرياق) ص٧٠
# الترياق: دواء مركَّب يدفع السُّموم، يُقاوم تأثير سُمّ. خَمْر سُمِّيت بذلك لأنها تدفع الهُموم.
التِّرْياق صابونُ الهُموم.

- (وتألّقَ الثّغرُ الخجولُ ببسمةٍ ** تُغري بيَ الدّفَقانَ في الإنطاق) ص٧١
# الدّفقان: شدة الدفق والتدفّق. على صيغة الفعلان. من صيغ المبالغة
# الإنطاق: في استجرار الكلام من شدة الخجل أو الخوف.

- (ويرَوْنَ فيكَ سِماكَهم وسُهيلَهم ** تُهدي إليهم للوصولِ سبيلا) ص٨٠
# سِماكَهم:  السِّماكُ الرامِحُ  نجم معروف ،  وطلوعُ السِّماكِ الأَعزل مع الفجر يكون في تَشْرِين الأَول. وقالت العرب: (إذا طلع السِّماك ذهبت العكاك). العِكاكُ: شدةُ الحرِّ معَ سكون الريح. يقال: يوم عِكاكٌ ، ومكانٌ عِكاكٌ، والمعنى أنه إذا ظهر نجم السّماك في تشرين يذهب الحر، ويكون الجوّ أقرب للبرودة.
# سهيلهم:  سهيل هو الاسم العربي لنجم ألفا القاعدة.

- (بغمدِ الهوى نامت عيونٌ مناهلُ ** وفي لحظِها نِعمَ السّيوفُ المَصاقِلُ) ص٨٥
# المصاقِلُ: الصّقيلة اللّامعة. استخدمها الشّاعر بصيغة المفاعل.

_ (إني أسافرُ والأقلامَ راحلتي ** والقلبُ بالشّعر لا بالهوْدَجِ ارتحلا) ص٨٧
# الهودج: "الهودج": هو مَحْمَل يوضع على ظهر الحيوانات مثل الجمال والأفيال أشبه بحجرة صغيرة أو ما يصح القول عنها بالمركب فيه مقعد أو سرير مظلل عادة وقد يكون مغلقا بالكامل، استخدم في الماضي عادة لحمل الأثرياء أو استخدم أثناء الصيد أو الحرب، او للنساء أثناء السفر، صُنع من الخشب وظلل بالقماش.

- (لا تعذُليه فمِن حوران شأفَتُهُ ** من تُربها أُرضِعَ الأشعار والزّجَلا) ص٨٨
# شأفَتُه: شَأفَةُ : الأصْلُ والمنبت.

- (لو لم تُقلَّمْ جيّدًا أشجارُنا ** تُعطي ثمارًا فَجّةً فيها هَزَلْ) ص٩٠
# فجّة: الفِجُّ من كلِّ شيء : ما لم ينضَجْ.

- (أبصِر مداكَ و لا تُطاول حدّه ** واعلمْ بأنّ الشّعرَ ليس بمُنتَعَلْ) ص٩١
# مُنتَعل: انتعلَ ينتعل ، انتِعالاً ، فهو مُنتعِل، اِنْتَعَلَ الحافِي : لَبِسَ النَّعْلَ. اِنْتَعَلَ الأرْضَ : سافَرَ فيها راجِلاً بِغَيْرِ دابَّةٍ

- (كانت (فلسطين داري) بوْح مبسَمِنا ** أمّاهُ كنتِ لباسًا زينُهُ الحَشَمُ
 ما زال ينظرُ  للماضي بلا أملٍ ** من حسرة الفَقدِ جفّ المَبسَمُ الوَجِمُ) ص٩٣
# الحَشَم: حَشَمَ الرَّجُلُ : اِنْقَبَضَ ، اِسْتَحْيَا
# الوَجِم: وَجَم الشّخصُ : سكت وعجز عن الكلام من شِدّة الغيظ أو الخَوف أو الهمّ أو التّعجّب وَجَمَ الرَّجُلُ : عَبَسَ وَجْهُهُ لِشِدَّةِ الْحُزْنِ وَسَكَتَ.

- (بعضُ الوصالِ يُحالُ اليومَ غائبتي ** عزَّ اللّقاءُ فلا يُدنيه تِحناني) ص٩٩
# تحناني: من الحنين وشدة الاشتياق.

- (أليس بنهرِنا سالت دماءٌ ** يُخضِّبُ كفَّ شانئنا الوتينُ) ص١٠٣
# شانئنا: المبغض والكاره.

- (سألتُكِ لا تسومي القلب عشقًا ** ومِثلي في الهوى لا يستكينُ) ص١٠٤
# تسومي: سَامَهُ العَذَاب: عَاقَبَهُ بِأقْسَى أنْواعِ العَذَابِ. سَامَهُ خَسْفاً: أذَلَّهُ

- (ما لهذا القلبُ يعروهُ الحنينُ ** للذي أضناهُ واستهوى شجاهُ) ص١١٢
# يعروه: العَرَّةُ : الشِّدَّةُ. لتعُرَّةُ : ما يَعْتري الإنسان من الجنونِ. إصابة بمكروه . ...

- (هيّا استفيقي من هناك فإنّني ** ما زلتُ قربَ الجفنِ أنطُرُ صحوَهُ) ص١١٣
# أنطُرُ: سَهِر على الشَّيء وحَفظه. والناطور من نَطَر كَرْمًا وعمارة وغير ذلك. وصارت مهنة.

- (إنّي انتبذتُ وفي جنينيَ عصمةٌ ** وطنًا قصيًّا في الدّجى آوانِيَه) ص١١٥
# آوانٍيه: من المأوى والإيواء..

- (كالنّبع يروي الظّامئين ولم يزل ** إردًا لأحفاد البيانِ كزَمزَم
 لكن بِطانُ السّنبلاتِ تواضعت ** وخِماصُها كِبرًا تَتيهُ كأنجُم) ص١١٩
# إردًا: مورد ومنهل مقصود النّهل منه.
# بِطان: مليئة البطن.
# خماصها: الجائع. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكّله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتعود بِطانًا)

- (وانهَلْ من الأقحاح تبدُ مثلهُم ** فالبدرُ دون الشّمسِ وجهُ الأسْحَمِ) ص١٢١
# الأقحاح: القُحُّ : مَن له عِرْقٌ أَصِيلٌ فيما يُوصَفُ به.
# الأسحم: الأسود القاتم. سَحِمَ الوَجْهُ : اسْوَدَّ.
***

بالعودة إلى (فوضى الحروف)، فقد أجاد الشاعر في التناص مع القرآن، وكان أن ضمّن الكلمات القرآنية بمهارة يُشهد له فيها. لوحظ أنه أعاد تدوير بعض الأبيات من الشعر العربي قديمه وحديثه، وهو ما يأخذ القارئ في متاهة  توارديّة الأفكار، ودفع بالقارئ إلى منصّة جديدة للبحث عن معاني كلمات عزف عنها الشعراء والكُتّاب، فصارت في عداد اللّغة المهجورة، وغير المألوفة في زمن ثقافة (التيك أوي) المتسارعة، وعدم التوقف عند قضايا اللغة والنّحو بمخالفة قواعده عمدًا عن سابق إصرار وتصميم.
الشاعر المُثقّف الذي يُثري السّاحة الشعريّة بأحفوريّاته اللّغويّة الجديدة النابضة بالحياة إبداعًا، وهذا دليل جليّ على عمق ثقافته ودرايته المتزاوجة مع موهبته الوضّاءة. فهل يكون هكذا إبداع مغامرة؟. السؤال مشروع للقرّاء، ولكنّه برسم إجابة الشعراء.

عمّان – الأردن
8 / 9 / 2019

الثنائيات الضديّة في النصّ القصصيّ (مُتردَّم) للقاص جمعان الكرت / السعودية

الثنائيات الضديّة في
النصّ القصصيّ (مُتردَّم)

بقلم الروائي - محمد فتحي المقداد

فكرة النصّ التقاطة ذكيّة من القاصّ، ومعالجتها كلاسيكيًّا سلِسًا بانتقالات هادئة مُتوقّعة للقارئ.
واللّافت للنظر التقابلات الثنائيّة المُتضادة في النص؛ لتسلّط الضوء على صراعات اجتماعيّة مُتباينة الخطوط والمنابت والمآلات.
ثيمة الصّراع ما بين الأجيال باختلاف مفاهيمها للحياة واختلاف الزمان. تحدّيات تبسط إحداثيّاتها على طاولة النص، للبحث في علائق الأشياء والخيوط النّاسجة للتعالقات المتشابكة بتعقيداتها، ومحاولة تفكيكها وتبسيط فهمهما.
عنترة الفارس القادم من زمن غابر يظهر في مدينة. هنا تتنازع الحرية والتقييد. الصحراء حرية مطلقة في حركة الحياة، قانونها الفروسيّة والسّيف وانتزاع الحياة بالقوّة والتحدّي والمُغالبة بطموحات بلا حدود، وبين فكرة الدولة الحديثة بحدودها، ومدينتها وقوانينها التي هي عبارة عن قيود موضوعة في سبيل السيطرة والإخضاع، لضمان استمرار حياة هذه القوانين وسيادة صاحبها.
***
فالفارس المُلثّم القادم من الصحراء. ولزوم العبوس لوجهه، راكبٌ  على حصانه في مدينة مُجبَر في السير على شوارع إسفلتيّة ذات أطاريف ملونة.
تعبه من مشاق السفر يستلزم الرّاحة في نُزُل مخصّص للاستحمام، وخواء بطنه بحاجة للأكل من خلال مطاعم حديثة وافدة على مجمتعاتنا اقتحمت خصوصيّاتنا العربيّة والإسلاميّة، تصاحبت مع انتشار وسائل التواصل الحديثة السريعة؛ لتسلخنا عن عاداتنا وتقاليدنا بفجاجة فاضحة.
هذا الصراع الثقافيّ هو صراع العولمة الذي تتغطى تحته (كارتلات) الشركات العابرة للقارات ومصالحها التجاريّة ومن ورائها تقف دُوَلًا استعماريّة عظمى؛ لنهب خيرات الشعوب، وإفقارها ببشاعة مطلقة وبلا رحمة بعيدًا عن منابع الإنسانية الرّحيمة.
وهذا ما عبّر عنه عالم الاجتماع ابن خلدون في مقدّمته الشّهيرة: "بأن الأمم المغلوبة والضعيفة تُقلّد الأمم الغالبة في كل شيء". وهو مصداق الحديث النبويّ الشّريف: "لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتموه".
فالصحراء والحضر (المدينة) تباين واضح في القِيَم المعياريّة. طلب الحاجات الأساسية في المدينة تتوفّر في الأسواق والمطاعم والفنادق ومختلف نشاطات المدينة.
اختلاف القيم باختلاف الزمان، الحصان مقايل السيّارة، والمراعي المُباحة في الصحراء هنا حدائق ولا يوجد بها زرائب وحظائر للحيوانات. الفارس عنترة لم يكن في نظر الطفل إلا رجلًا مُتخلّفا بمظهره الغريب، فالتقط له صورة وعمل بثًّا مباشرًا للعالم وهو سبق قام به.
والسيف عبارة عن تحفة فقط و لايعني شيئًا مقابل المُسدّس. والوجبات السريعة، ورتم الحياة السريع الذي لا يتوقّف عند شخص أو مجموعة، وإن قصدت عزل نفسها عن محيطها.
النص أجاد في تصوير حالة الصراع من خلال السرد المباشر، وأعتقد أن خاتمته كانت خافتة فلم تكن على مستوى فكرة النصّ المُتوهّجة. خالية من المفارقة المدهشة.  كما أن العنوان لم يفتح عتبتة النص فكان مُتراجعًا بدلالته غير موفّقة. السّرد القصصي كان متسلسلًا مُتماسكًا بمنطقيّة معقولة تُحسب لمهارة القاصّ.
تحياتي.

عمّان - الأردن
12 / 9 /2019‪

____________

مُتَرَدَّمِ
( القاص: جمعان الكرت/ السعودية)

 أثناء سيري في شارع التحلية التقيت بفارس ملثم يمتطي صهوة حصان أشهب , وحين اقتربت منه عرفت أنه عنترة بن شداد العبسي ! قلت: أما تزيح اللثام يا عنترة ؟ ظهر وجهه عابساًَ مكفهراً , أصبت بالرعب خشية أن تمتد يده إلى سيفه الصقيل , إذ قال صديقه : إذا شاهدت الشرر تقدح من عيني عنترة , فابتعد .
إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث, الحصان يسير بتراخ شديد , يبدو أنه أنهك حين قطع الصحاري الواسعة , كما أن عنترة نفسه أصيب بالتعب الشديد والجوع الذي يجعله فقط يفكر في ملء بطنه , أزاح عنترة جسده الضخم من على صهوة حصانه الذي انقاد معه ليربط خطامه في عمود إشارة المرور , لم يبال بصفير إطارات السيارات التي مرت بجواره .. جال ببصره وشاهد مطعماً في الجانب الأيمن من الشارع , ومضت قدماه نحوه , قعد على منضدة زرقاء اللون منتظراً وجبة الغداء , التفت الجالسون عند سماع نحنحة عنترة , مر بجواره الجرسون الأسيوي, ولم يأبه بعنترة ! وبعد فترة انتظار جاء الطلب : (ساندويتش بالربيان مجلل بالمايونيز والكاتشب ), رمى به بعد أن تذوقه , زاد عبوسه وغضبه , وقبض على سيفه , وهزه عدة هزات مسبباً صلصلة , ضحك الجالسون ! أحدهم كان أمامه صينية بيضاء مليئة بحبات الزيتون الأسود , أخذ واحدة , ورشق بها عنترة , ارتفعت جلبة الضحك خرج عنترة  من باب المطعم وكان لسانه يرشق بعبارات الشتم لصاحب المطعم , إذ لايوجد لديه أكل يناسبه , وبعد أن شاهد العديد من لوحات النيون  سرّه صورة ملونة لصحن كبير مليء بالأرز واللحم, دلف إلى المكان بخطا سريعة , وبدأ يلتهم الطعام بنهم حتى امتلأ بطنه .خرج مسروراً أثناء سيره شاهد محلاًّ تجارياًّ في الجانب المقابل ومد قدميه على صفحة الإسفلت .. وحين قطع الشارع أصيب برغبة عارمة للون الدم  هز سيفه ,التمع مع شعاع الشمس , مر بجواره طفل يرغب تصوير حركة عنترة بكاميرا الجوال , التقط الصورة بكاملها , وانصرف الطفل مسروراً .
  اندهش عنترة حين لمح صورة تملأ مساحة شاشة كبيرة ملونة وراق له أن يعيد تلك الحركة انعطف إلى المحل التجاري المتخصص في بيع الأسلحة , امتدت يد عنترة إلى مسدس صغير وتلمسه بأصابعه وضغط على زناده , أحدث صوتاً رناناً وبدون مجادلة في الشراء , دس سيفه الصقيل في غمده , وأخذ المسدس , وخرج بنشوة , وعند اقترابه من عمود إشارة المرور وجد حبلا مهملاً فقط , واستمر يتمتم أثناء سيره , وتوقف حين لمح حصانه داخل حديقة صغيرة وقد امتد فمه ليلتهم أكمام ورود وأزهار ملونة نضرة . وبعد أن تفقد حصانه وجد إن حذوة معدنية مثبتة في قدمه اليمنى فقدت , وبينما كان يفكر في كيفية العثور عليها , داهمته سيارة تحمل علامة زرقاء في بابيها الجانبين , وترجل منها رجلان أحدهما يحمل  في يده بوكاً , وبسرعة خاطفة انتزع غطاء قلمه وسجل بحروف مقرءوة مخالفة مقدارها  500 ريال يدفعها عنترة لقاء تحطيم أغصان وأزهار الحديقة , أخذ عنترة الورقة ببرود ووضعها في جيبه ولم تمتد أصابعه إلى زناد المسدس , فقط قفز على ظهر حصانه ليواصل سيره , وأثناء ذلك سمع اختلالا في الأصوات الصادرة عن حوافر الحصان باحتكاكها على الرصيف , وفوجئ عنترة بعدة كاميرات لقنوات فضائية إلا أنه لم يلق لها بالاً .. واستمر حصانه يسير وأسنان بيضاء تلمع مع إشعاع الشمس , هي أسنان عنترة , دخل في سرداب ضيق , بقي شيء واحد صدى لصوت جهوري ,يردد :هل غادر الشعراء من متردم ؟

نقاط مرجعية - قراءة -
في رواية (بنش مارك - للروائي توفيق جاد)

بقلم / الروائي محمد فتحي المقداد

عنوان الرواية (بنش مارك) غريب نوعًا ما، والمقصود به نقطة ارتكاز في علم المساحة تكون كمرجعية ذات رقم معروف لدى المسّاح. وهو ما يعرف في سوريّة ب (حجر المساحة) وهو الحدود الحقيقية للعقارات والأراضي.
النقطة المرجعية تكون معلومة الإحداثيّات ومُثبْتة بشكل يصعب التلاعب بها؛ ليرجع لها المساح في كلّ أعماله مُنطلِقًا منها.
جاء العنوان من صميم عمل الروائي (توفيق جاد) كمسّاح للأراضي والعمل مع الشركات الإنشائيّة، ومن ثمّ في الدوائر البلديّة في محافظة إربد.
***

فكرة الرواية طريفة في طرحها لفكرة المساحة التي لم يُلق عليها الضوء الكافي، وفي أوّل محاضرة في المعهد المساحي في عمّان أكّد الدكتور على: (المساحة أمانة)، لأنها تحق الحق بتمامه وكماله، وتحفظ الأملاك، والمسّاح بهذه الفكرة يكون كالقاضي العادل.
***

من خلال متابعتي الرواية من ولادة فكرتها، وظهور الفصل الأول، أقول بأنّها في كثير من أجزائها تُعتبر سيرة ذاتيّة للروائي، حكي فيها عن طموحاته الدراسيّة في جامعة (أكسفورد) التي تحطّمت على صخرة الفقر وصعوبات الحياة.
وتحوّل إلى دراسة المساحة إثر لقائه بصديق زرع الفكرة في رأسه، وكان أن انتصرت على الفشل في الوصول إلى (أكسفورد)، وتحقيق النتائج الأفضل دراسيّا بالمراكز الأولى في المعهد.
***
بداية الرواية كانت انطلقت من البيت في الرصيفة إلى مدينة عمان.  وفي مطعم شعبي وبطريق الصّدفة البحتة بين (يزن) الذي تعرّف إلى صديق طفولته(قيس) بملامحه المختزنة في ذاكرة رغم التغيّرات الظاهرة عليهما.
في مقهى السنترال في عمان تحادثا وتواعدا بلقاء آخر الأسبوع القادم، وكان أن أهدى (قيس) روايته (بنش مارك) إلى صديقه يزن، وقد وثّق فيها سيرته ودقائق حياته.
يعني أن أحداث الرواية قرأها (يزن) و أخبرنا بما جرى وصار، ليعود في آخر الرواية ويلتقي بصديقه (قيس).

***
في رواية (بنش مارك) كان فيها العديد من نقاط الارتكاز:
** بيت يزن في مدينة الرصيفة، كان نقطة الارتكاز الأولى التي انطلق منها الحدث الأول، وخروج يزن لشراء مروحة بعد التي كسرت.

** مدينة عمّان نقطعة ارتكاز مركزيّة، انطلق منها إلى نقاط ارتكاز ثانوية فيها. تتجلّى فيها جاذبيّة المكان المُترَع بذاكرته  التاريخيّة والحضاريّة، العابقة بإرث كبير مُحفّز على التفاعل الإيجابيّ على محمل ذاكرة الروائي (توفيق جاد) بتوصيفه الدقيق لشوارع وأحياء وأبنية وساحات المدينة، وأخذ معه القارئ الذي لا يعرف مدينة عمّان في جولة تعريفية تضيء ذهن القارئ، ليتحرّق شوقًا لزيارتها.

** شجرتيْ التين والزيتون الفاصلتين بين قطعتيْ الأرض للأخوين؛ بناء على رغبة الجدّ عندما قسم القطعة الواحدة بين ابنيْه.
والشجرتان كانتا نقطعة مرجع وخاصة شجرة التين، ونسجت تحتها وحولها أجمل قصة عشق وأصدقها في الرواية.

** وكثيرة نقاط الارتكاز المرجعيّة في الرواية، وأهمّها على الإطلاق مرجعية الحبّ الأقوى والأسمى بمركزيّتها التي تتّسع للكون أجمع، وهو القيمة الإنسانيّة العظمى بفيضها المعطاء.
فبالحب نحيا.. ونعيش بسلام، وهو نقيض كلّ شيء خلافه أبدًا، ولا وجه له إلّا المودّة والعطاء والسلام والخير والأمان والسعادة و السرور لبني البشر قاطبة.
***
تعتبر رواية (بنش مارك) من المدرسة الواقعيّة في الأدب، وانحازت للقيم الإنسانيّة المشتركة، وهموم وأحلام البسطاء ناقلة دقائق حياتهم بأمانة.
وسلّطت الضوء على المشاعر والأحاسيس لأبطالها، وتشابكات العلاقات الناظمة لحياتهم، والصراع بين الخير والشرّ، والطمع والجشع، وقضية زواج القاصرات طمعًا بالمال وبريقه الذي أغرى الأخ الأكبر باغتصاب جزء هام من أرض أخيه دون رادع من دين أو خُلُق.
وهو ما جاءت على تفصيلاته الرواية بأسلوب شيّق بعيد عن الإطالة المُمللّة
وتدور الحياة دورتها بلا استئذان من أحد، ولا تتوقف عند حدث أو شخص معيّن.

عمّان - الأردن
15 / 9 / 2019‪

صراع الثابت و المتحول في نصوص القاص( أحمد علي بادي - اليمن)

صراع الثابت والمتحول
عند القاص (أحمد علي بادي - اليمن)

بقلم/ الروائي محمد فتحي المقداد

القلم والكتابة والورق ثالوث المعرفة في الكون، إذا غاب أحدها انهدم جزء مهمٌّ ستحدث فجوة عظيمة في هذه المنظومة الأولى في الحياة قاطبة
ففي النّصيْن الأول (أرجو ألّا تقرأ هذه) والثاني (البقرة العمياء)، كان هذا الثالوث هو الثيمة المشتركة لكليْهما.
انطلق الحدث في النّصين عبر النّافذة مع اختلاف الطريقة، ففي الأول بفعل الرّيح طارت الورقة التي نصح الكاتب (أحمد بادي) بعدم قراءتها بتحذيره الشّديد على لسان الرّاوي النائب عنه في النصّ العليم بما سيحدث.
بينما في الثاني قذف بطل النصّ لقمة  خبز من النافذة ليفتح لنا أبواب الصّراع خارج المنزل على لقمة الخبز، ثم أراد قذف ورقة مما كتب هذه المرّة الكلاب فلم تهتمّ للأمر.
***
قلم الكاتب ماضٍ في طريقهِ بجرأة أدبيّة مُحترفة بمستوى مُتقدّمٍ سرديًّا بإتقان ورشاقة ميّزت فكرة الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأخذنا برحلة تعدّت عوالمه إلى آفاق الإبداع المُرمّزة مُنفحة على عوالم  من التأويلات.
في النص الأوّل رغم أن من كتبها أوصى بعدم قراءتها، فقُرئت من جميع ممن وصلت إليهم. وحصل لهم ماحصل من مصائب قرؤوها فلم تحتملها، مذكرات سياسيّ أو حاكم أو دكتاتور.. أو شيء من هذا القبيل. وهي أخر ورقة في كتاب مذكّراته كتبها، حينما شعر بدُنوّ أجله.
وقد سحبتها الرّياح من على المنضدة، ووصلت إلى يد رجل بفعل الرياح فقرأها ومات على الفور، وامرأة حامل أجهضت بعد قراءتها، وشاب أصيب بالجنون، والتصقت الورقة على زجاج الحافلة الأمامي مات جميع من فيها بسبب حادث مفجع، حينما قرأها السّائق.
***
المفارقة جاءت في خاتمة النص، حينما رجعت الورقة إلى صاحبها الأصلي بفعل الرياح، فندم على كتابتها، وإفشاء أسراره حتى إلى مساعده وأمين سرّه المؤتمن، فقام بوضعها في فمه ومضغها بين أسنانه، فلفظ آخر أنفاسه.
حاء وقت ونشرت المذكّرات بدونها، وتحت عنوان (أرجو أن تقرؤوه.. هذه مذكّرات رجل المدينة العظيم)
بينما في النص الثاني الورقة لم تقرأ ولم يهتمّ بها أحد، ولم تكن سوى جزء من علف للبقرة العمياء التي هي مصدر حياة العائلة بحليبها اليوميّ على مدار السنة تقريبًا.
وعلى قطعة خبز صغيرة (يدور الصراع الشّرس الدّامي من أجل الحصول على لقمة تسدّ الرّمق، ولكنّي لم أهتمّ له).
مراقبة صراع البقاء من النّافذة (فما كان منّي إلّا انتزاع تلك الأوراق التي كتبتُ عليها، ورميها من النّافذة دون أيّ تمزيق، ورحتُ أراقبها وهي تتأرجح في الهواء، إلى أن حطّت في بين الكلاب التي ما زالت مُتجمّعة قرب داري، وكان غريبًا أنّ الكلاب هذه المرّة لم تندفع نحوها).
في النّصين كانت الثوابت صامدة، القلم والورقة والكاتب والنّافذة والبيت والمكتب والقيمة المعياريّة للكتابة، وما نتج عن ذلك من صراعات متأجّجة مُفضية للموت نتيجة الصراعات التي تحوّلت اضطرابا واقتتالًا بالعيش الهادئ.
فالحياة ثابتة بثبات مسلتزمات البقاء، من العلم والثقافة، والخبز والماء والهواء.
وكما قيل: (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان). فغذاء العقل الأهمّ على الإطلاق في طرق التّفكير السّليمة التي ترسم آفاق المستقبل للبشريّة بالمحبّة والسّلام.
(فجأة أحسستُ بتلك الكلاب تنهش أمعائي، وإن ذلك الصراع أصبح يجور في بطني، فانتبهت للخبز الذي لم أتناول منه غير لقمة لم تسُدّ الرّمق). هذا ما ختم به القاص أحمد بادي نصّه (البقرة العمياء).
المجموعة (صوت يخرج من الدّاخل) متميّزة بجميع نصوصها بين جودة عالية وجيّدة. فقد وقع اختياري على نصّيْن منها فقط. صعوبة كتابة القصة القصيرة كصعوبة الانتقاء منها، أو التقاط الرّابط المشترك فيها من خلال كتاب.

عمّان - الأردن
17 / 9 /2019‪
______________
* النّصان المدروسان من المجموعة القصصيّة (صوت يخرج من الدّاخل) للقاص أحمد علي بادي / اليمن

ذكراها نبض.. (كتاب- بتوقيت بُصرى /للروائي محمد فتحي المقداد)

ذكراها نبض

أنا ابن امرأة حورانية.. اسمها خديجة وزوجاها كلاهما (قاسم).
حملت بي أيّام العطش.. وكانت أيّامها تسمّى سنة الصهاريج.
جاءها المخاض بي.. فأدرّت السّماء بحليبها ليالي وأيّاما.
لا أعرف على وجه الحقيقة تاريخ ميلاد أمّي، سوى أنّها أخبرتني نقلًا عن جدّتي منيفة؛ أنّها ولدتها سنة (الطّوفة).. أمّي أميّة لا تقرأ ولا تكتب مثل أمّها، التي تذكر أنها وُلدت سنة دخول الفرنساوي سوريّة.
أجزمُ أن وفاة أمّي كانت في مثل هذا اليوم من السنة الماضية ٢.١٩/٩/٢٥، عند ذلك كنت بلغت ٥٤ سنة، بتوقيت بصرى.
يعني أنّها حملتني في قلبها أكثر من نصف قرن، يا لها من امرأة شرقيّة عظيمة.
بفقدها.. فرغت الدّنيا من آخر قلب أحبّني.. تألم لألمي طوال حياتي.
مات قلب من ملايين القلوب. هو الوحيد لأنّه قلب أمّي فقط. فقدتُ السّند الأخير عندما غابَ عن دنياي.
أوّاه..!! يا حزنها.. وجع السنين.. يا لململة الأحلام الصغيرة تُسعدَها. نسجت منها ابتسامات ضاجّة بالحياة.
آه..!! يا فرحتها ممزوجة بالدموع..
في ذكراها بتوقيت بصرى.

الروائي - محمد فتحي المقداد

شعاع منعكس (قصة قصيرة) بقلم/محمد فتحي المقداد

شُعاع مُنعكس

(قصة قصيرة) 
بقلم / محمد فتحي المقداد 

عيناها حاصرتني. أحكمت طوقها على آخر حُصوني، شيئًا فشيئًا تتقدّم بسهام عينيها المُصوّبة إلى قلبي.
حيرةٌ مشوبةٌ خوفًا من أبي عيون جريئة.
- "يا إلهي..!! أنا في موقف لا أُحسَدُ عليه.. ما العمل؟".
إنّها سيّدة أربعينيّة، أحلفُ جازمًا ولا حتّى مُصادفة أو في حُلُم أنّني التقيتُها. قرص القمر بدرًا يتمثّل بوجهها. ثرثرة علامات ثرائها تُعبّدُ مسافة الأمتار القليلة الفاصلة بين طاولتيْنا.
محاكاة في داخلها:
-"يا لها من مصادفة عجيبة، أيمكن أن تتطابق صورتيْهما؛ لدرجة يصعب التفريق بينهما؟، كأن أكفانه نَسجَت من روحه صورة تقمّصها وجه هذا الشابّ بوسامته التي عهدت بها أخي..!!".
ارتباكٌ داخليٌّ انعكس توتّرًا اكتست به ملامح وجهه: "عيناها لا تتحوّلان عنّي إلى صديقتها الثرثارة، وهي تتصنّع حركات وابتسامات، ولا تلتفتُ إليها. نظراتُها مَخارِز تنخز أعصابي؛ فترتجف رغمًا عنّي".
لاحظتْ استراق  نظرات سالم لها. تخفّت خلف نظّارتها. حركتُها أضافت له دفعة إبهام أجّجت مخاوف وهواجس جديدة في عقل سالم. 
توارد الأفكار أخذه باتّجاه مُغاير تمامًا لما أحس به بداية، سبح في دوّامة العاطفة، وراح يستمع إلى قلبه: 
-"أمِنَ المُمكن وسامتي جَذبَتها، كانت أمنيتي المفقودة من أيّة فتاة كانت أن تُبدي إعجابها بي. كذلك لا أظنّ أنّ قميصي أو بنطالي أو حذائي هنّ السبب؛ لأنهن من الأوربيّ المُستعمل سابقًا، ولا أعرف من ارتداها قبلي، أهو شيطان أم ملاك.. أرَجُلٌ مكتملُ الرّجولة أم مِثْليُّ الجنس. أقارئ أم جاهل.. أمسؤول كبير أم مُتسوّل..!!؟.. لا.. لا.. بكلّ تأكيد تسريحة شعري المصبوغ بالأسود".
في حركة مفاجئة منه، التقط صورة بواسطة هاتفه النقّال، توجّهت أعين زبائن المقهى إليه. 
بهدوء راح يتأمّل قسمات وجهه، للمرّة الأولى في حياته أحسّ بوجهه. اكتشف أن عقوده الأربعه عَدَتْ عليه تاركة لمساتها المحفورة على جبينه وتحت عينيْه. 
بخطوات واثقة توجّهتْ إليه. بينما هو غارق في ذهوله سقط الهاتف من يده، عيناه جحظتا مع كل لحظة تقترب منه، جفّ فمه كأنّ الحُليْمات مُتواطئة بتوقّفها عن إفرازاتها، تخشّب لسانه عن الحركة. 
توقّفت لحظات تتفرّسُ ملامحه. سيْلٌ من الدُموع مُتلوّن بألوان (الماكياج). شكّل قوس قزح على خدّيها المليئيْن تورّدًا. على غير المُتوقّع صرخت بجنون ارتّجت لها جنبات الصّالة: 
- "إنّه هو.. مُتأكّدة منه لا مجال". 
عجزت قدماه عن الاستجابة في الوقت المناسب عندما فكًر بالهروب، ظنّا منه أنها اشتبهت به كمجرم قاتل، أو لصّ حراميّ. إحساس مُبهم بِبلَلٍ تسرّب إلى الكرسيّ تحته، أو سيلانًا على البلاط.. شعورٌ مُخزٍ بالمَهانة. 
طوّقته بذراعيْها. اختفى رأسه بالكامل في غابة شعرها المُتهدّل، انهالت عليه بقبُلاتٍ مجنونةٍ، وهمهمةٍ غير مفهومة. اغتسل وجهه بدموعها المُلوّنة. 
 انجلى الموقف بعد هدوئها على وقع اعتذارها الشديد بخروجها عن اتّزانها ورزانتها ووقارها. أعلنت للجميع: 
- "ظننتُه أخي الذي قضى قبل سنة بحادث". 
رفعت هاتفها النقّال عارضة صورة يحيى مُحاولةً إقناعهم، وكسب التعاطف معها. الصورة انتقلت من جديد عبر (البلوتوث) إلى هاتف سالم. 

عمّان - الأردنّ
٢٨ / ٩ / ٢٠١٩