الخميس، 23 أبريل 2020

اليويو

(أدب العزلة في زمن الكورونا)
اليويو
قصة قصيرة

بقلم الروائي – محمد فتحي المقداد
   يا لطفولة لم أعشها..!! خُلقت هكذا لا أدري على وجه الدّقة؛ ما هي أوّل كلمة نطقتُها؛ لكن من خلال إحساسي العميق: "ماما.. بابا"، حالة نسيان رهيب استفقتُ منها في الصفّ الأوّل على المُعلّم وكتاب القراءة، من جديد.. استعدتُ ذاكرتي لأكتب أوّل كلمة في حياتي: "ماما.. بابا". 
   لم يكن عندي كيس أو كرتونة للألعاب مليئة بالألعاب المختلفة؛ لأحتار بأيّ منها ألهو، أو أُحطّم أكثرها في حالة غضب ممزوجة بالملل السّريع منها، درّاجة ذات الثلاثة دواليب بمقعدها الخشبيً القاسي، لونها الأحمر شوّه ذاكرتي، ووَسَمها تشاؤمًا منها، وأضاع عليّ متعة مُراقبة قوس قُزح، ومحاولة قيادتي لها الفاشلة بين الأحجار الناتئة كرؤوس الشّياطين في ساحة بيتنا الترابيّة، وخارج البيت الأزقّة والطّرق لم تكن مُعبّدة بالزّفت الأسود بتوقيت بُصرى آنذاك. 
إلى الآن لم أُدرك ميلي الشديد لعود الثقّاب برأسه الأحمر المُدبّب الصّغير؛ المُغري بإشعال الحرائق للورق ومخلّفات الأشياء. تخويف شديد من النّار بألسنتها التي لا ترحم. وانتهت صلاة عيد الأضحى لأدخل في حالة بُكاء وفقدان حذائي البلاستيكيّ بلونه الأحمر.. يا لتعاستي.. البِشرُ يرسم خطوط على وجوههم، وهم خارجون من بُوابة الجامع، عبارات متبادلة بالتهاني والأمنيات، ودموعي لم تتوقّّف، تُعاند حيرتي الحزينة، وأنا أبحث مع بعض الذين يكبرونني بسنوات، كنتُ جازمًا أن لا طفل آخر في القرية كلّها يمتلكُ هذا اللّون؛ لأنّ أبي أحضره من الشّام على حدّ زعمي. وصلتُ البيت حافيًا خائبًا من يومها فقدتُ إحساس فرحة في العيد.
   نوبة شرودي بعيدة في مجاهل طفولة بعيدة من هنا بمسافة نصف قرن، ضجيج الأولاد ومناكفاتهم المُتأجّجة على مدار السّاعة، حُرموا كما حُرمت الخروج من البيت، التزامًا بالحظر المفروض علينا خوفًا من الوباء كورونا الخطير.
   أنا في وادٍ آخر أخذني طوفانه الرّبيعيّ في مثل هذه الأيّام التي أعيشها الآن داخل البيْت، اجترار القديم المُحبّب إليّ. خجلي يمنعني من الكلام مع أبنائي؛ لاستغرابهم..!! كلّما يسألونني عن صغري، وضحكاتهم الواخزة قلبي على حرمان معظم أبناء جيل ذاك الوقت، وما بعده من رفاهيّة امتلاك الألعاب الغالية.
   الوقتُ يمرّ بطيئًا.. ديمومة الموبايل بين يديّ ملّلتني. كثرة البحلقة في شاشته أتعبت عينيّ، أعود للكتاب، والتلفزيون، ومداعبة الأولاد اللّاهين في مشاريعهم اللامتناهية، وابتعادهم عن عالمنا في البيت.
   أغرتني لعبة جديدة للمرّة الأولى في حياتي تقع بين يديّ، سمعتُ كثيرًا في سنوات سابقة  كلمة (اليويو) تتردّد على ألسنة الأولاد. فُقداني رغبة السّؤال عنها ظنًّا منّي، وما هذا الشيء الذي سأضيفه لموسوعة معارفي؟. غرابة الاسم أشعرتني يومها بتفاهته.
   اليوم غيّرتُ رأيي عندما عثرت قدمي بخيط غليظ، مربوط ببكرة كادت إسقاطي أرضًا، والنتيجة معلومة سلفًا على الأقلّ رضّ السّاق، أو الكتف، وملازمة الفراش، والمُداومة على المُسكّنات ؛لإسكات الآلام المُبرحة المانعة من النّوم ليلًا، والرّاحة وحريّة الحركة نهارًا.
   صراخي ملأ البيت، مما أخرَجَ الأولاد من عوالم انسجامهم مع ألعابهم المُحبّبة إليهم، عدا لعبة (ببجي)، التي أجبرت ابني على حذفها قسرًا، ومنعته من تنزيلها ثانية، إلى أن أخبرني بأنّه سيبيعها بمبلغ معقول سيساعدني به؛ لتجاوز عقبة مصروف العائلة المُثقل لي فترة توقّفي عن العمل، دهشتي مما أخبرني به أزالت غضبي من (اليويو).
   بدأت أولى تجاربي عليه، إغراء غير طبيعيّ، ساعات أمضيتُها بعدما أتقنتُ فنّها؛ بتوازن ارتفاع اليد مع اهتزازاتها؛ كموج البحر الخفيف المتوّتر، مما يُسرّع حركة دوران دولاب اليويو الجميل. ضاعت سُخرية زوجتي إهمالًا مع انسجامي التامّ، مثل ذاك اليوم  قبل نهاية الألفيّة الثانية بشرائي لعبة (الأتاري)؛ عند عودتي من (أبو ظبي) بإجازة الصّيف.
   ساعات طويلة أجلسُ اللّعب ببرنامج الطّائرات بمراحله العديدة بمستوياتها، مرّات قليلة وصلت فيه للنهائي. انسجامي لفت انتباهها، جلَستْ للمرّة الأولى تُراقبني، رغبة التّجريب بإلحاح قادتها لمُجالستي ساعات، نسيت تساؤلاتها قبل ذلك:
-"لماذا اشتريتها..!! لسنا بحاجة لها.. عندنا أوليّات غيرها؟".
-"من أجل الصبيّ..!! ابننا الوحيد آنذاك".
-"مازال صغيرًا لا يُدرك معنى اللّعبة، ولا يستطيع التعامل معها، لو أجّلتها حتّى يكبُر قليلًا..!!".
-"ها نحن نلعبُ بها.. وعندما يكبُر نعطيها له".
   مهارة اللّعب بالأصابع، بداية كانت على تمرين الوُسطى؛ لتجاوز ألم خفيف في مفصلها يمنعني من طيّها للآخر. منذ ذاك اليوم عندما أشرتُ بحركتها المفهومة تلك لأمر ما..!!، جلستُ مُستندًا للجدار، تداخلت أصابع الكّفيْن بتشابك، وتدوير الإبهاميْن بحركة لولبيّة للأمام تارة، وتبديلها معاكسة للخلف، جعلتني أتذكّر زميلي الطّالب في الصفّ التّاسع، وهو يقف أمام الطلّاب بانتظار فراغ الأستاذ من الاستماع لإجابات من حفظوا الدّرس.
    انبته الأستاذ لحركة أصابعه المماثلة لي الآن، وسأله:
-"ألا تعرف غير هذه..!!؟".
السّؤال خفّف من توتّره؛ ظنًّا منه بنجاته من العقاب الجسديّ؛ لتقصيره في واجبه، فأجاب بجديّة:
-"نعم أستاذ، أعرفُ أيضًا بهذا الشّكل".
   وبدأ بلفّ إبهاميْه عكس الحركة الأولى. كتمنا ضحكنا، ومازال مكتومًا في صدري إلى الآن؛ فالعصا بيد الأستاذ لا ترحم، لمن يخرج عن مسار الدّرس، أو يُحاول.
  إزهاق الوقت مُهمّة عملٌ شاقّ؛ صعّبت عليّ تعبئة وقتي بأشياء جديدة، جرّبتُ وجرّبتُ، راودتني لعبة (البَبْجي)، وما سمعتُ عنها، موقفي الجازم من ابني حازم، ومنعه منها؛ أخذني للتفكير بتجريب اللّعب فيها بعد نومهم، لكنّني أستسلم للنّوم بلا مُقاومة، وهم مازالوا يقظين. وفي النّهار لا يذهبون إلى المدارس، وصاروا مثل بلاد الأجانب يتعلّمون عن بُعد.

عمّان – الأردنّ
23 \4 \ 2020

هلوسات الحظر

(أدب العزلة زمن الكورونا)

هلوسات الحظر
قصة قصيرة
بقلم الروائي – محمد فتحي المقداد

   بيادر الحرمان تمتلئ ساحاتها بأكداس الهموم..، ولا تنقضي..!!. تتقلّص الحياة شيئًا فشيئًا، وتنحسر الفضاءات الرّحبة إلى الغرفة والبيت فقط، تضيق الرُّؤية خلف الجدران، وحمايات النوافذ الحديديّة والبلّلور.
  تتماهي صور الورود المتمايلة مع نسائم المساء العليل، وروائحها في ذهني مع رائحة رشّة العطر من القارورة. حرمان لم أكن لأحلم به في حياتي أبدًا.
   النّور الوهّاج ليلًا يبدو مُعتمًا، لا أمل أين يكون القمر  مَغزًى لنظراتي وتأمّلاتي، كانت تتجسّد الحبيبة سُكناها في القمر، يتطابق وجهها مع قرصه المُستدير  يبثّ سحره الأخّاذ في روحي، فيستديم تعلّق نظراتي. السّكون البهيّ الذي أنتظره على الدّوام؛ انقلب ليلًا طويلًا؛ كأنّما توقّفت فيه عقارب السّاعة عنادًا، بطيئة تسير الهُويْنى غير آبهة بحالي أبدًا، تروقني فكرة تحطيم السّاعة والاستراحة من عناء مُراقبتها، وهي لا تستجيب لمطلبي الوحيد منها زيادة سُرعتها..!!.
عدلتُ عن الفكرة لضبط مواعيدي مُستقبلًا. تُداهمني جيوش التساؤلات:
"منذ وعيتُ أخبروني عن المُستقبل، في المدرسة قرأت عنه، خدمتُ واجبي للوطن سنتين ونصف، ضاعوا من المستقبل، وإن كنتُ أظنّ أنّني قدّمتُ قُربانًا، بعد خمسة عقود أسعى بحثًا جاهدًا عن معالم المستقبل.. يا لهفتي.. كم كنتُ مغفّلًا.. حين بلعتُ الطُّعْم مقتنعًا.. اقرأ واجتهد؛ لتكون شيئًا في المستقبل. سافرتُ اغترابًا لسنوات ما بين شرق وغرب.. وما زال حلم الغفلة يستحوذني.. تزوّجت وأنجبت وربّيْتُ وصاروا رجالًا.. تركوني وراحوا منطلقين من النقطة التي ابتدأت منها في رحلة تُشابه رحلة بحثي.. نفسي لم تُطاوعني إخبارهم بالنّتيجة السّراب الذي ركضتُ إليه، ولم أصِلهُ..!!".
لا أدري على وجه الدّقّة..!! هل سيصلون هم..!! هل المُشكلة تكمن عندي..!! أين العُطل..!!؟.
   إذا استطعتُ مُجدّدا حلّ هذه الألغاز أتوقّع أنّني استطعت وضع إجابة واحدة منها أمام جيوش الأسئلة المنهمرة مدرارة كالمطر، لأقهر ظنوني، ولو لمرّة  واحدة في الحياة؛ فتموت آخر الشّكوك في قلبي.
فكّروني.. وأمّ كلثوم تُحاول  إخراجي بعيدًا إلى آفاق خارج الغرفة. أستفيقُ على حالي، وما زلتُ مُرابطًا أمام جهاز حاسوبي أستجدي الكلمات؛ استجابة لتدوين صفحة واحدة، فقط كجزء من سجلٍّ طويل مليء بالخيبات التي حطّمت كلّ تفاؤل، واستمطرت سوداويّة متآلفة مع كآبة الحظر والوحدة، أظنّ أنّني بعد انتهاء الحظر بحاجة لمراجعة طبيب نفسي من داء التوحّد.
كلمة سمعتها من جارتنا أثناء حديثها عن ابنها الصّغير مع زوجتي في جلسة تزاور ،خرقتا فيه الحظر، خروجًا من السّأم والملل.. لا.. لا أظنّ أنّهما خرقتا الحظر.. تذكّرتُ أنّه كان خلال فترة السّماح من العاشرة صباحًا إلى السادسة مساء، أنّه يُعاني من التوحّد، لم يمرّ الموضوع بذهني مرور السّلام، فكان (العمّ جوجل) ينتظرني بلا ملل ولا كلل بالإجابة عن جميع ما دار بذهني، تشابه عُزلتي مع حالة ابن جارتنا، أخافتني أن أكون مُصابًا بمتلازمة (داون) وأنا لا أدري.

عمّان – الأردنّ
21 \ 4 \ 2020

ضيف على الهوا

(أدب العزلة في زمن الكورونا)

ضيف على الهوا
قصّة قصيرة
بقلم -الروائي محمد فتحي المقداد
   جمح الخيال بي بعيدًا خارج الحدود المعقولة، تواردت أسراب من الأفكار المُتوهّمة، شعورٌ طاغٍ  سيطر عليّ ساعات بعد الاتّصال المُفاجئ من مُنسّقة البرامج في محّطة فضائيّة غير مشهورة عندي، لم أسمع بها من قبل؛ على الفور بحثت عن (الرّيموت كنترول)، خلال دقائق وجدتها.. وأثبّتُها على قائمة المفضّلات.
-"حضرتُك الأديب المعروف؟".
-"أنا بذاته. لكن كيف وصلت إلى رقم هاتفي".
-"في الحقيقة الفضل يعود (للفيسبوك)، بطريقة الصّدفة كنتُ أبحث عن مادّة من أجل التّحضير لبرنامجي، عن العُزلة في زمن الوباء، وهموم وقضايا النّاس اليوميّة خلال فترة الحظر، وبمساعدة (العم جوجل), ظهر لي اسمك، واطّلعتُ على كتاباتك في هذا المجال، فتواصلت مع صديق مُشترك بيننا، فكان حلّ مُعضلتي عنده".
-"مرحبًا بك سيّدتي.. على الرّحب والسّعة.. بكلّ سرور أعطيكِ مُوافقتي..!!".
   نبراتُ صوتها النديّ ما فارقتني أبدًا، مُخيّلتي راسمةً صورة افتراضيّة فائقة الجمال لوجهها، لتتطابق بذهني لوحةً مُشعّة نورًا، حذاقة أصحاب الإعلام باختيار نوعيّة الوجوه التي تُطلّ علينا على مدار السّاعة، تشاركنا حياتنا الدّاخليّة في البيوت، نشأت بيننا ألفة ننظر  برنامج المذيعة الصّبوحة الوجه.
أستعجلُ عقارب السّاعة أن تمضي بوتيرة سرعة مُضاعفة؛ الانتظار حرّقني لأكون أمام الملاك على الهواء مُباشرة عبر السّكايب. تزاحمتني الأفكار.. اختياري للبدلة التي سأظهر بها، طريقة تسريحة شعري (بالجلّ) أو على طبيعتها. أمام المرآة تسمّرتُ لأستبق  ملامح وجهي اطمئنانًا، اصطنعتُ أكثر من طريقة لابتسامتي تتناسب مع ظهوري الأوّل على وسيلة إعلاميّة، كنتُ أتمنّاه.. حتّى لو أظهر في (ريبورتاج) في سوق الخُضرة، أو مُمثّل (كومبارس).
-"يا إلهي.. أأنا في حلم أو علم..!! فُرصة جاءتني على طبق من ذَهَب، لن تضيع هذه المرّة كما ضاعت سابقتها قبل سنتيْن حينما انتهى شحن (الموبايل)، ما زلتُ أقضم أصابعي ندمًا كما (الكُسَعِيِّ).
   نصف ساعة تفصلنا عن بداية شارة البرنامج، تفقّدتُ لباسي وتلميع وجهي بالكريم الخاصّ استعرته من زوجتي؛ بعدما حلقتُ ذقني هذه المرّة أكثر من مرّة؛ للتأكّد من نعومتها غير العادية. ابني ساعدني في تجهيز (اللّابتوب) على الطّاولة، جاهزيّة كاملة، أعصابي مُتّوتّرة، كيف سيكون ظهوري الأوّل عبر فضائيّة..!!؟.
   ظهرت شارة البرنامج مصحوبة بموسيقا هادئة، ظهرت المذيعة الهرمة بوجهها غير المألوف عندي، ابتسامتها تخرجُ بصعوبة مُتزاحمة مع أكوام الأصباغ. قدّمتني على أنّني خبير استراتيجيّ بقضايا وباء الكورونا، لافتة إلى كتاباتي التي ناقشت العديد من قضايا الحظر، والحاثّة على الالتزام بالقرارات الصّادرة من الجهات المُختّصة، من أجل السّلامة والصّحة العامّة.
ختمت كلامها:
-"هذه الشخصيّة المُشرقة نموذج الالتزام، والتعريف بالمخاطر المُحتملة من خرق الحظر،  أشكرك ضيفنا الكريم، وسأنتقل للأستاذ المُشارك معنا في الأستوديو".
   هطول مطر بلّلني بعد اختفاء صورتي عن الشّاشة، وانصراف المُذيعة إلى ضيفها، استفقتُ على صوت صفّارة سيّارة الدّفاع المدنيّ قبل الشّروق بقليل. أسرعتُ لتبديل ملابسي قبل كلّ شيء.
-"تفاصيل فرحتي لم تكتمل حتّى في الحلم..!!".

عمّان –الأردنّ
17 \ 4 \ 2020