رواية "مدينة يسكنها الجنون"
أنموذج أدب المدينة الفاسدة الديستوبيا
بقلم الروائي.
محمد فتحي المقداد. سوريا
إن العناوين تتشابه كما وجوه
البشر في حسنها وقُبحها. وفي الأدب الكلمات هي جماهير المجتمعات الروائيَّة، فهي
المرايا التي تعكس طبيعة الواقع عند نقله إلى صفحات الورق، مع تجميل معقول من
خيالات وأوهام الكاتب. وهذا الأمر يتجلَّى في كافَّة الأعمال الروائيَّة
بمقارباتها، وهذا ما سنتلمَّسه في رواية "مدينة يسكنها الجنون" للروائي
"محمد الدعفيس".
وفي رحاب عنوان "مدينة
يسكنها الجنون" دلالة واضحة فلا تحتاج لكثير من التأويل لفهم وإدراك
طبيعته هذه العبارة، التي تُشير بوضوح إلى أدب المدينة الفاسدة (الديستوبيا)،
هذا المصطلح أصبح دليلًا على الواقع المأساوي للمجتمعات البشريَّة على مختلف
اِنتماءاتها، والإشارة للفساد والظلم والفوضى الخلَّاقة للشرور وتصبح مصدر
توالدها، لتنتج كافَّة التشوُّهات، من القتل والدمار والقمع والسُّجون على أيدي
الدكتاتوريَّات؛ وقد أنتجت حالات مجتمعات مُشوَّهة فكريًّا وسلوكيًّا وروحيًّا،
مجتمعات لا رغبة إلَّا بالتستُّر خلف الازدواجيَّة، والانتهازية حتى تستطيع البقاء
بأمان بعيدًا عن يد البطش والقمع والرَّقابة الصارمة التي تُحصي الأنفاس، مُجتمعات
مريضة بما تحمل من العُقَد النفسيَّة المُركبَّة، والتي لا يُرتجى شفاؤها.
وفي هذا السِّياق نتوقف أمام
رواية "مذكرات مجنون في مدن مجنونة" للروائي "محمد
صوالحة" الذي خاض تجربة سياحيَّة في مجموعة من المدن العربية، وقد تشارك
العنوانان بدلالات: (الــمدينة. مُدُن)، و(الجنون. مجنون. مجنونة)،
هذا التشابه لم يكن عبيثًّا، رغم أنَّه التقى العنوانان بمحض الصُّدفة تماثلات ذات
مُعطيات، وإن اختلفت ظروف ومواضيع الروايتيْن، فالرواية الأولى "مدينة
يسكنها الجنون" تحكي قصة الحرب السوريَّة ومُخرجاتها، بينما رواية "مذكرات
مجنون في مدن مجنونة" كانت في ظرف سياحيٍّ، فكانت نافذة على المدن التي
زارها بطل الرواية (محمد)، وما يجمع بين
الرِّوايتيْن المختلفتين زمانيًّا ومكانيًّا، إنَّما هو اشتباكهما مع ثيمة الفساد
بشكل عام، وكلُّ رواية أخذته من منظور مختلف، والفساد يبقى فسادًا بجوهره مهما كان
وأينما كان.
وبطبيعتها فالأعمال
الروائيَّة مرآة عاكسة أو عدسة كاميرا ترصد الفساد المُتعدِّد الوجوه والذي لا يقتصر على الفساد السياسي ، بل يتعدَّاه إلى الفساد
الاجتماعي والتعليمي والأخلاقي.
ويُمثِّل
الفساد التعليمي قمَّة الكارثة، فمن حيث
على سبيل المثال المقارنة بين طالب في الأردن يجهل تاريخ بلاده، وبين طالب لم ينه
المرحلة الابتدائية في المملكة
العربية السعودية يقف كمُعَلِّم يعطيك درسًا في معركة أحد بكافَّة تفاصيلها. ومن ناحية فإن هذه الرواية
ترصُد بتسليط الضوء على حالة رجل الدين يُحدِّث
ويضحك ويستمتع بضحكات النِّساء في المسجد،
ويعترض على إشعال سيجارة ما قبل النوم .
وفي المدينة الورديَّة
"البتراء " تُشير الرِّواية إلى مظهر من مظاهر الفساد
الأخلاقيِّ. حيث أن البطل الذي يظهر بمظهر
الطيِّب الخلوق، بتعامله مع الآخرين من خلال مصلحته، ولكن ما الذي يدور
في نفسه من نظرات خبيثة خارقة لزوجة أخيه،
وكيف تُعرِّيها عيناه وتُرسلها صورة عارية إلى ذهنه . وكذلك نظرات
البطل لنساء العائلة التي استضافته في القاهرة.
نماذج روائية عربية وعالمية
تناولت أدب المدينة الفاسدة (ديستوبيا):
ومادام الكلام في أدب
المدينة الفاسدة، ولزيادة توثيق الرُّؤية كان لا بُدَّ من الإشارة لبعض الأعمال
الروائيَّة من الآداب العالميَّة التي تحمل الرِّيادة في هذا المضمار. وهي على
سبيل المثال:
عالميًّا: الروائي "جورج
أورويل" روايتا (مزرعة الحيوان. 1984) و للروائي "فرانس
كافكا" روايتا (التحول. المحاكمة)، وللروائي "راي برادبوي" رواية
(فهرنهايت 451). وللروائي روايتا"ألبير كامو" (الطاعون.
الغريب)، وللروائية "مارغريت آتوود" رواية (السفَّاح
الأعمى)، وللروائي "جابريل غارسيا ماركيز" ثلاث روايات (مائة
عام من العزلة. الحب في زمن الكوليرا. خريف البطريرك). وللروائي "جوزيه
ساماراغو" رواية" (العمى)
وعلى السَّاحة العربيَّة إضافة
للرِّوايتَيْن التي تناولهما الموضوع، هناك
بعض الأعمال وضرورة الإشارة لها، فقد صدر للروائيِّ السُّوريِّ "محمد
فتحي المقداد" روايتا (الطريق إلى الزعتري. بنسيون الشارع الخلفي)،
وكذلك للروائيِّ الأُردنيِّ "أيمن العتوم" رواية (مسغبة)،
وللروائية السعوديَّة "بثينة العيسى" رواية (حارس سطح العالم).
وللروائي العراقي "برهان الشاوي" رواية (مشرحة بغداد)، وللروائيَّة
العراقيَّة "إنعام كجه جي" رواية (الحفيدة ألأمريكية). وللروائي
الجزائري "واسيني الأعرج" (حكاية العربي الأخير). وللروائي
اللُّبناني "توفيق يوسف عواد" رواية (طواحين بيروت).
وللروائي المغربي "محمد شكري" رواية (الخبر الحافي).
الخاتمة: أمام هذا الوضع المأساوي البشري الذي رصدته الأعمال
الروائية أو اِسْتشرفته، إنَّما هو تشاركيَّة تتقاسمها المجتمعات الإنسانيَّة، وفي
هذا المنحى تُعتَبر الأعمال الروائيَّة على مختلف اِنْتماءاتها قد اتَّجهت بكافَّة
مناحيها، لرصد الحالات الاجتماعيَّة فسجَّلت، ووثَّقت، وتنبَّأت بمستقبل قاتم أسود
على ضوء معطيات ومُعاينات الكُتَّاب في ايَّة بُقعة من المعمورة؛ فكانت كتاباتهم
مرايا عاكسة للواقع السيِّئ اليوميِّ المُعاش بأبعاد الفقر والجهل والمرض، والخوف
والقلق، والاِنحْرافات السلوكيَّة والأخلاقيَّة، للحُكَّام والمحكومين على حدٍّ
سواء.
وتبقى جميع الآراء المطروحة
حتَّى في الآداب على وجه العُموم مُنحازة حسب توجُّهات الكاتب نفسه، وللتعبير عن
قضيَّته الفكريَّة والاجتماعية والسياسيَّة، ولكنَّ الاِنْتصار الأعظم والاِنْحياز
الأسمى على الإطلاق، هو المُتجِّه للإنسانيَّة جمعاء دون تفريق لتحقيق السِّلم
الأهليِّ والاِجتماعيِّ.
ـــــــا 19\ 7\ 2025
أرسل المقال إلى مجلة الرافد. الشارقة الإمارات العربية المتحدة