ســـكلمة
محمد فتحي المقداد
ســـــكلمة
رواية
بمذاق الذكريات
2023
المُقدِّمة
ما كان..
كان، وما الآن إلَّا ثَوَانٍ معدودة، سنهدرها في البحث عن الذَّات بِصَيْرورتها،
وكَيْنونتها.
أمّا الآتي
فنحن من نبتكره، ونختلقه؛ ليكون ملاذنا ساعة الهُروب.
أمّا
العِبْرة فيما كان وسيكون، هي أنَّ جميع الكائنات عابرة لهذه الأقانيم
الثلاثة.
يحملون ذات
العبارة: (كان وسيكون.. كان وسيكون.. كان وسيكون).
محمد
فتحي المقداد
|
بين دمشق وبيروت
(1)
تاكسي الــ(فولفو)
الفخمة واحدة من أُسطول سيَّارات فندق الشَّام بِلَوْنها اللُّؤلئيِّ؛ تعكس خيوط
أشعَّة الشَّمس المُتسلِّلة من بين كُتَل الغيوم المُوشَّحة بالسَّواد؛ فيتناثر
الوميض بجميع الاِتِّجاهات مثل أميرة تنشر لآلِئَها، وهي في حالة سعادة غامرة. توقَّفت
أمام بيت سكلمة. السَّاعة تُشير إلى السَّابعة والنِّصف صباحًا، حسب
الموْعد المُتَّفق عليه في الحجز المُسبَق.
وصل
قليل من الشَّمس لتتحرَّش بالرَّصيف، وأخَيِلَة المارَّة الطَّويلة بأشكالها
السَّوداء ذات الملامح المُختلفة، على الرَّغم من أنَّها مُنعكِسةٌ عن أجسام
بشريَّة بأحجامها الطبيعيَّة، ترى الأشياء من حَوْلها، وتتكلَّم وتُفكِّر..!! حتّى
إنَّ الأخيلة تتمدَّد على الأرض كما أجسام العمالقة، فارعة الطُّول مثل شجر الحَوْر
والكِيَنا، أو كأعمدة الكهرباء المصنوعة من الحديد المُتجاورة مع الأشجار.
أشكال
العابرين بدَت مثل تماثيل شمعيَّة مُتشكِّلة على نحوٍ سيِّئ؛ بعد أن داهمها
الدِّفء، فأشكال خيالاتهم هي التي رَسَمت صورتهم في ذهن السَّائق، فيما لو أنَّه
كان قد اِنْتبه لذلك، وعلى مرأى اِمْتداد البصر بدا الشَّارع، وكأنَّه يستحمُّ
بضياء الشَّمس.
السَّائق
مُتأنِّق بلباسه الرَّسميِّ ذي اللَّون الكُحليِّ. شعره الأسود اللَّامع ممشوط
بعناية. نظَّارة (الرِّيبان) مُذهَّبة الإطار تُخفي هالةَ الوجه؛ لِتُعطي
اِنْطباعًا مُختلفًا لشكله مُوحٍ بالهَيْبة ورصانة شخصيَّه.
وضاءة
وجهه المصقول المُتلألئ؛ تبعث الرَّاحة في نفس كلِّ مِمَّن يراه من عابِري
الرَّصيف. اِعْتاد الكثيرون من أهل الحيِّ الاِنْتباه، لمُلاحظة أيِّ وجه غريب
يرتاد منطقتهم.
الغُرباء
عادة لا ينتبهون لمثل ذلك، لأنَّه لم يكن لديْهم تصوُّرٌ مُسبَق عن المكان،
همَّهُم الوحيد مُنصَبٌّ على الوصول إلى هدفهم، غير آبهين لمُعظم ما تقع عليه أعينهم.
تمتدُّ
يد السَّائق لاِسْتخراج هاتفه النقَّال المُثبَّت على حِزام خصره الأيسر، أعطى
إشارة رنين لمرَّتيْن ثمَّ أنهى المكالمة، وأبقى الجهاز بيده بانتظار الردِّ، لم
يتأفَّف لتأخُّر الردِّ. اِعْتاد الاِنْتظار أو أَدْمَنه، طبيعة عمله الدَّقيق
أكسبته الاِلْتزام بالمواعيد، وأوامر الزَّبون.
خلال
جُلوسه في مكانه خلف المِقوَد لم يبدُ عليه القلق. النظَّارات تحجُب معظم ملامح
وجهه بأيِّ تأثُّر من أيِّ نوع كان. هكذا تدرَّب على مثل الأشياء وتقبُّلها كما
هي. بعد خمس دقائق عاد هاتفه للاِهْتزاز في يده، ومع إصدار أوَّل رنَّة، ردَّ:
"صباح الخير. أهلًا أُستاذ. دقيقة واحدة وأكونُ عندكَ".
أرجَع
الهاتف إلى مكانه، وتأكَّد من إغلاق باب التَّاكسي، بهمَّة ونشاط. سارَ إلى مدخل
العمارة، وجد المصعد باِنْتظاره؛ فضغط رقم (2). وجد باب الشُّقَّة المقابلة لمدخل
المصعد مفتوحًا، رنَّ الجرس.
يأتيه
صوت سكلمة من الدَّاخل؛ يدعوه للدُّخول بلا اِسْتئذان. ترحيب حارٌّ:
"يسعد صباحك كابْتِن، حقَّكَ عليْنا بتقديم واجب الضِّيافة.. كما ترى الوضع
على غير عادته".
"أشكُركَ
أستاذ سكلمة، كُلَّكْ ذوق".
هزَّ
سكلمة رأسه من دون أن يردَّ. لم يستطع إخفاء قلقه، وهو يتناول جاكيت البَدْلة
ليضعه على ذراعه، بينما حمل حقيبته (السَّامسونايت) السَّوداء ذات الإطار
الذَّهبيِّ.
بادر
السَّائق لحمل حقيبته الملابس المليئة بالأغراض الشَّخصيَّة، وتوجَّه بها إلى
المصعد للنُّزول. واِسْتقرَّ جالسًا وراء مِقْوَد السيَّارة؛ اِسْتعدادًا
للاِنْطلاق إلى بيروت، وحصرًا إلى فندق الــ"سان جورج". عَرَف
هذه المعلومات من المُهمَّة المطبوعة على (الكمبيوتر) من مدير الاِسْتقبال
والحُجُوزات في الفُندق.
..*..
لحظة الوداع شبيهة الموت. يشهقُ أنفاسَه بتوتُّر عجيب مع اِنْثيال
سريع لجميع مُنغِّصات عمره، ولا سبيل للخُروج من الحالة. عاد إلى الصَّالة. وَقَفَ
أمام صورة والده "حلمي باشا" ذات الطَّابع العُثمانيِّ، ومن ثمَّ
الوطنيِّ؛ المهيبة بدقَّة ألوانها بتدرُّجات الأسود وظلاله، وتفاصيلها العميقة؛
التي تبعث رهبةً مُؤثِّرةً في نفس من يتأملَّها.
ولم
ينْسَ النَّظَر بطَرَف عَيْنِه، وبلا مُبالاة لصورته الوحيدة مع الرَّئيس الرَّاحل.
ذات الحجم المُوازي لصورة الوالد.
الآباءُ
لا يموتون... تنتشي أنساغهم باِمْتداداتهم في حَيَوات أبنائهم. تتوارى أجسادهم تحت
الأرض؛ بينما تتشبَّث خيالاتهم بعقول وقلوب أولادهم وزوجاتهم وأصدقائهم، ترفض
المُغادرة إلى القُبور معهم.
سُئلتُ
مرَّةً: (أماتَ أَبوك؟. بلا تردُّدٍ أجبتُ: ضَلالٌ.. أنا لا
يموتُ أبي\\ ففي البَيْت منه... روائحُ رَبٍّ.. وذِكْرى نَبيٍّ\\ هُنَا رُكْنُهُ..
تلكَ أشياؤهُ\\ تَفَتَّقُ عن أَلْفِ غُصْنٍ صَبِيٌّ\\ جريدتُه.. تِبغُه.. مُتَّكَأهُ\\
كأنَّ أبي – بَعْدُ – لم يذْهَب)*.
كَفْكَف
بَلَل رُطوبة الدُّموع عن جَفْنَيْه بالمناديل. أغلق الباب، ونَزَل. النِّهاية
الحاليَّة تفلَّتت عُنْوَةً من إسار الذَّاكرة إلى الواقع، إلَّا أنَّ هذا الواقع المُدمَى
لم يكُن معروفًا إلَّا في دائرته الضيِّقة؛ المحصورة على عدد ضئيل ممَّن كانوا يعملون
في نفس المكان، وممهورًا بخاتَمٍ سريٍّ على صدره، قد أَوْشَكَ على أن يُطبِقَ
فجأةً على اِلْتهام تفاصيل، وحيْثيَّات
حياته اليوميَّة.
وعلى
الأغلب ما تأتي النِّهايات غير سعيدة، على خلاف بداياتي؛ حينما أبهرتني الأضواء
الحارقة للحقائق؛ للأسف..! جاءت نتيجة قسريَّة غير راضٍ عنها.
منذ
آخر مقابلة لي مع الرَّئيس، وكلمته الأخيرة التي كانت بمثابة أمْرٍ مُبرَمٍ، غير
قابل للمُراجعة بأيِّ وجه من الوُجوه. بإيقافي عن العمل الوظيفيِّ في ديوان الرِّئاسة، والجُلوس في البيْت، وما من خَيَار أمامي إلَّا بالاِمْتثال
لأوامره. وآخر كلمة قُلتها له: "حاضِرْ سَيِّدي الرَّئيس".
بعدها
قضيْتُ أوقاتي بالاِنْطواء على نفسي، واِحْتساء خيْبة آمالي، واِنْطفاء طُموحاتي
على مَذْبَح الصَّمت والسُّكوت، منذ ذاك اليوم ما زلتُ أُعاني الموت البطيء، والتواري
خلف ستائر الاِنْزواء والوحدة القاتلة، تمهيدًا لساعة الفَرَج؛ وللهُروب فيما لو
اِستطعتُ إلى ذلك سبيلا، والنَّجاة بما تبقَّى لي من حياة. على الدَّوام أُعزِّي
نفسي بنفسي، بِتِرْدَاد كلمات جافَّة لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
يكفيني..
حَتمًا يكفيني ما تحقَّق لي من أمجاد مُلِئَت بسِلال الأمنيات، والأحلام المُثقَلة
بالطُّموحات القاتلة للكثيرين، الذين لم يُحالفهم الحظُّ، ويُسعفهم بالوُصول إلى
محطَّة يقتنعون بها، أو ببعض مُعطياتها.
لم
أُصدِّق أنَّهم سمحُوا لي بالسَّفر بهذه السُّهولة، وأحمدُ الله على أنَّني نجَحتُ
بالخُروج من قَوْقعة الإقامة الإجباريَّة في بيتي الشَّبيهة بالسِّجن. سجنٌ مُخفَّف
فيه كلَّ وسائل الرَّاحة.. لم أفتَقِد هامش الحريَّة؛ على الرَّغم من أنَّني تحت
أعيُن الرَّقابة على مَدَار السَّاعة، واِلْتزامٍ صارمٍ بالأوامر، وأشْبَه ما تكون
بسلاسل القُيود والأصفاد، تُطْبِق بِحَلقاتها على رقبتي، ويديَّ ورجليَّ،
وأنا أتجرَّع ذكرياتي بمرارة تتحلَّبُ في
فمي.
ضاع
كلُّ جمال ولذَّة بتقييد حُريَّتي. الحريَّة مِنْحةٌ ربانيَّةٌ لا يُمكن معادلتها
أو مُقايضتها بأيِّ شيء في الدُّنيا. أيَّام الوظيفة لا شبيه لها إلَّا السِّجن،
لكنَّه سِجنٌ اِخْتياريٌّ، رهين المكتب والدَّوام الطَّويل وما أظنُّه إلَّا الموت
البطيء، الذي مَوَّتَ شهيَّة الحياة في قلبي، والإحساس الدَّاخليِّ بأيٍّ شُعور بالرِّضا.
كان
واثقًا من حقيقته، ومن أنَّه سينتهي في لحظة ما. لكنَّهُ يجهل توقيتها، في دواخله
المُنهَكة يريدُ أن يصل إلى نهايته؛ لأنَّه يشكُّ في قُدرته على اِحْتمال كلّ قساوة،
ستُحوَّل إلى فيلم رُعْب سينمائيٍّ حتَّى النِّهاية، لم يكُن يتصوَّر بشاعته، وفي نفس الوقت يتمنَّى الاِسْتمرار في الحُلُم
مع اِمْتداد مساحات عُمُره؛ ليرى ما سيؤولُ إليه في النِّهاية.
لقد
كانت النِّهاية بالنسبة له هنا، حيث لم تُتَوقَّع أن تكون، وبالشَّكل الذي لم يُتَوقَّع
حُدوثه، حتَّى اِفْتراضيًّا. بينما حديث نفسه غير المُعلَن المُستقرِّ في أعماق
سراديبها. يقول: "هذه حقًّا هي النِّهاية، وأنْ لا شيء غيرها على طاولة الاِنْتظار،
أو ربَّما سأنتظرُ نهاية أُخْرى، مُختبِئَة لم تكُن واردةً أبدًا في
الحُسبان".
..*..
تسعون كيلو متر مسافة الطَّريق الدُّوَليَّة العابرة من دمشق إلى بَيْروت،
تَنْهَبها (التاكسي) تتعجَّل الوُصول تحت ضغط رِجْل السَّائق على دَعْسة البنزين،
أو أشبه بِكُرَة ثلجٍ تتدَّرج من أعالي مُنحَدَرات "دُمَّر"
و"الهامَة"*
القاسية، لتتحطَّم في القاع حَوْل نهر بَرَدَى، وعلى جانِبَيْ الطَّريق الضيِّقة،
التي تتلوَّى بشكلٍ أُفعوانيٍّ؛ مُتوائمٍ مع الأودية الفاصلة بين مُرتفعات
التِّلال والجبال.
بينما
الذِّكريات تتداعى اِنْثيالًا على تفكير سكلمة بتزاحُم، وتتدافع بلا رَوِيَّةٍ
ولا اِسْتئذانٍ، وبِفَوْضى تندلقُ على الإسفلت؛ لتُعبِّد تلك المسافة المزروعة
بالشُّكوك والتوجُّس وعدم الثِّقة بين البلديْن، بل وعلى الأصحِّ بين الشَّعبيْن،
منذ ذاك اليوم الغابر من عام 1976، حينما حَمَلَ الجُنديُّ السّوريُّ خيمته؛
لينصبها في ساحة "قصر بَعَبْدا"*.
حكمة
الاِسْتعمار فائقة الحبكة بذكاء خارق، بصناعته للأنظمة المُتجاورة التي جاءت
مختلفة بتوجُّهاتها، وليست على سويَّة واحدة بطريقة إدارة بلادها.
ربَّما
كان مدعاة لهُزْء الكثيرين من كلامي، فيما لو نطقتُ به بصوت مسموع. بلا تردُّدٍ
سيقولون: (ما هذه الخُرافات، وهل للاِسْتعمار حكمة أو حسنة واحدة..!؟).
في
دوائرنا الحاكمة ينظرون إلى لُبنان على أنَّه الخاصرة الرَّخوة، التي يأتينا
العدوُّ من خلالها. بَيْروت نُقطة اِرْتكازيَّة صالحة لتلاقي الشَّرق والغرب، مَؤَمَّل
منهما أن يُنتجا مزيجًا رائعًا، بَدَل ذلك ذابت كلُّ خصائهما ليتَّحِدا بتآلُفٍ
فريدٍ؛ لتكون بَيْروت.
وتبقى
دمشق مُتَمترِسَةً خلف مبادئها، تتلفَّع بعباءة العروبة، وتحمل مظلَّة القوميَّة؛
لِتُنتِج حالةً من ضجيج هائل من الخطابات والبيانات، وتلميحات، وتصريحات شديدة اللَّهجة، لمُراوَدة أحلام التمدُّد
والتوسُّع والتأثير، رغم علم يقين قادتها: أنَّ مرحلة ما بعد "سايكس بيكو"
غير صالحة؛ لتحقيق طُموحاتهم في تجميع الشُّعوب العربية بأمَّة واحدة، وليس بمقدور
أيٍّ منهم إزالة الحدود المُشتركة بين بلده والأخرى المجاورة له.
بل
أخذت دمشق على عاتقها الوصاية على العرب جميعًا، ومُحاولة جعلهم أتباعًا مُؤمنين
بها، أو تُعاملهم كالأبناء الذين يحتاجون للتربية والتوجيه الدَّائم.
حين
فتحت ذراعَيْها تستقبل مشارق العرب، ومغاربها على أراضيها بلا قيْد ولا شرط، وراحت
تُوزِّع ألقابها بتصنيفات تتراوح بين التقدميِّين والرَّجعيِّين، والقوميِّين
والثوريِّين، ولمعت لوائح الإمبرياليَّة والصُّهيونيَّة والرجعيَّة، وقَرَنَتْها
بالتخلُّف والجهل والمرض والأُمِيَّة، الذي هو واقعنا غير المرئيِّ على أنَّنا في
أسفل القاع، بل في أسفل السَّافلين.
ومازلنا
نرقص، ونفرِضُ ترقيص العرب على ألحان جَوْقة حزب البعث بالوحدة والحريَّة
والاشتراكيَّة، والمعزوفة الخالدة: "فلسطين قضيَّتنا المركزيَّة".
أحقًّا
أنَّني فلانٌ وابن فُلان... أحقًّا أنا الرَّجُل الغامض بغُموض مُحيِّر...!!،
المُتخفِّي تحت سِتَار وظيفتي في أهمِّ مَوْقع في البلاد على الإطلاق.
أليس
من الغرابة على أمثالي قَوْل ذلك، وهذا بحدِّ ذاته جريمة يُطلَق عليها إضعاف
الحسِّ والشُّعور القوميِّ؛ يُعاقِب القضاء العسكريُّ عليها بالسِّجن مدى الحياة
مع الأعمال الشَّاقَّة.
..*..
وهل
أنا بحاجة لطبيب نفسيٍّ، كما أخبرني ذاك الطَّبيب، وماذا لو عرضتُ نفسي على
مُعالجٍ نفسيٍّ في الشَّام..!! حقيقة لا أثقُ بقُدرتي وشجاعتي الأدبيَّة بالذَّهاب
إلى عيادته.
إحساسي
العميق بأنَّ جميع العُيون مُصوَّبة نحوي. اللُّجوء إلى الطبِّ النفسيِّ في بلادنا
ضَرْبٌ من الجُنون، كجُنون العُروبة والقوميَّة، ولا أعرفُ إن كان لديْنا مُتخصِّصين
في هذا المجال جيِّدين ومَهَرَة في مهنتهم، أو أُمناء لا يُفشون أسرار مرضاهم...
أو باِسْتطاعتهم فَهْم حالتي بدقَّة... قرأتُ كثيرًا وكثيرًا في الكُتُب: حَوْل الهَوَس
الاِكْتئابيِّ، والذُّهان، والفِصَام، والرُّهاب، والجينولوجيا، والبارانويا، والسِّيكوباتيَّة..
إلخ. عندي هاجس أنَّ جميعها اِسْتَوْطَنْتني.
لا
زلتُ أذكُر بعضًا من تلك الأشياء جيِّدًا، وأَعِيها، ولا أعتقدُ بقُدرتي على
الخُروج من القَوْقَعة... ينما تقوقعتُ داخل مُتَحجِّرتي، حتَّى أوشكتُ على الاِنْكماش
والتلاشي والاِخْتناق... وماذا لو كنتُ أستطيع الخُروج من حالتي... فهل سأبقى في
البلد، أم سأُغادر... كما أُغادر الآن بهدوء، وفي ظرفٍ اِسْتثنائي، وهل أتنازل عن
اِمْتيازاتي، ومكاسبي بسهولة كما أفعل الآن...!!.
بيروت
نستخدمها كساحة لترحيل مشاكلنا إليها، بسياسة فَرْض الأمر الواقع بالقُوَّة، حينما
يلزم الأمر. بينما قوَّة لُبنان في ضعفه، هذا رأيي الحقيقيِّ، وعلى أنَّه دَوْحة
ديمقراطيَّة في صحراء دكتاتوريَّة ممتدَّة من بغداد إلى دمشق، مُعمَّدة بالعَتْمة،
ومُشيَّكة بأجهزة ذات قبضة عاتية لا ترحم؛ فلو كان أسلوب حكم جمهوريَّة لُبنان على
شاكلة جِوَاره من الجُمهوريَّات، بلا شكٍّ بأنَّ الدُّنيا لن تُطاق، ولا يمكن للعَيْش
أن يستمرَّ في الشَّرق الأوسط. ليس من الصَّعب الفَهْمَ لمَنْ لو أراد أن يفهم:
أنَّ (لُبنان كالعقار ينامُ، ولا يموت). كما يُقال.
..*..
حركة السيَّارات ناشطة العبور في الاتِّجاهيْن المُتعاكسين. جُموع
العراقيِّين الهاربين من جحيم الحرب، وصلوا إلى دمشق مُندفعين. بعضهم فُرادى،
والأكثريَّة يصطحبون عائلاتهم باتِّجاه بَيْروت.
الحياة
تستحقُّ المُغامرة، والفرَار للنَّجاة بالنَّفس والأولاد. دوافع الخوف فطرة بشريَّة مُتأصِّلة في نُفوس البشر قاطبة.
من قال إنَّ البشر وحدهم من يحملون المخاوف، إنَّما كلُّ مخلوق ذي روح من الحَيْوانات
تتولَّد عنده غريزة الخوف؛ إذا شَعر بأدنى خطر يتهدَّد حياتها. الحياة غالية ليس
سهلًا التفريط بها.
وبعد
إعلان سُقوط بغداد؛ فمن اِسْتطاع واِمْتلك القدرة؛ فلم ينتظر ساعة واحدة. تدفَّقوا
بأعدادٍ كبيرةٍ هَربًا من جحيم الاِجْتياح الأمريكيِّ الغاشم.
ليلة
أُخرى من حياة بغداد في سُقوطها الثَّاني (9.
نيسان (أبريل) 2003)، كانت كمثيلتها في سُقوطِها الأوَّل (1258) على يد
المغول*.
..*..
تتشابه اللَّيالي بإعلان صَمْتِها الدَّائم المُتآخي مع الظَّلام، لتشكيل
غِلالاتٍ كَتِيمة من حُجُبٍ مُتكاثِفةٍ؛ لِتُصبح مَرْتَعًا وَخِيمًا آمِنًا للخِيانة،
والتآمُر في اِسْتراحة العُيون المُتعَبة المُستَسلِمَة لسُلطان النَّوم عليها،
وهَجْعة الأجساد المُرهَقَة. المُنهكة خوفًا وهلَعًا، وما زال صَليل أجراس الخديعة
يقرع طُبولها (ابن العَلْقَمِيِّ) الثَّاني*
بإيقاعاتٍ ناشِزَة بطبيعتها الخائنة المُتآمِرَة.
عَيْنُه
لا تعرف النَّوم خلف الأسوار، ولا وراء الحدود. ومع الفجر شُوهد يركضُ بين جُموع
الدَّبابات، والمُدرَّعات العابِرَة من جُنوب البَصْرة إلى قلب بغداد، ولم يرفَّ له
جَفْن، وهو يعتلي عَرَبة الغُزاة (الهَمَرْ) الأمريكيَّة، ويده على عِمامته
تُثبِّتها؛ خَوْفًا من سُقوطها... لَيْتها سقطت تحت الأقدام، ودِيسَت ببساطير
الجنود، وسَحَقتها جنازير الدَّبابات. فَعَل فِعْلتَه في وَضَح النَّهار أمام عَدَسات
الصحفيِّين، وعلى أعيُن الخلق في الدُّنيا بلا حياء ولا خجَل.
وما
أشبه اليوم بالأمس، ليس صحيحًا أنَّ التَّاريخَ يُعيد نفسه، بل أعتقدُ جازمًا أنَّ
التاريخ ذاكرة واعية، حافظة واسعة لروايات تختلف بين مَراتِع الكَذب والدَّجل الوَخِيمة،
وفضائل الصِّدق والشَّجاعة النَّاصعة.
ما
راح.. راح، ولن يعود أبدًا. بينما تتشابه الظُّروف والمُعطيات؛ لتُنتِج حالات
تُقاس على بعضها؛ فتأتي مُتطابقة في أكثر طرائقها ومُخرجاتها مع تباعُدها في
الزَّمان والمكان.
..*..
اِسْتغراق سكلمة في حالته؛ فلم يفطَن لإخبار السَّائق لِسُلوك
طريق "دُمَّرْ"، إلَّا بعد وُصوله نهاية أوتستراد "المِزَّة"*،
وأصبح على مُفتَرق "المعظميَّة" و "كَفَر سُوسَة"، ولا
سبيل للتراجع، وخاصَّة بعد أن قطعت (التَّاكسي) مكان مَوْقع "السُّومريَّة"*
على أطراف جنوب العاصمة، والذي من المُقرَّر أن يُصبِح مجمعًا للسفريَّات إلى جميع الاِتِّجاهات، لِتَخفيف
الضَّغط عن وسط دمشق، إذا اتَّفقوا على تنفيذه، والذي تأخَّر تنفيذه؛ بسبب الرُّوتين
المُفضي لجدال، يكاد أن يكون بيزنْطِيًّا بيْن مجلس مُحافظة دمشق، وبعض الجهات
الرَّسميَّة والخاصَّة، ودراسات حول جدواه؛ ليكون مركز اِنْطلاق مُوَحَّد .
خرج
من غَيْبوبته. تنحْنَح بِهُدوء؛ فتحرَّكت عَضَلات رقبته المُتيبِّسة بثبات،
وكأنَّها قد أُتخِمَت شَبَعًا من التشنُّجات، إذا تحوَّل إلى حالة (ديسك) رقبة، وعندها
سيحتاج لِقَبَّة إسفنجيَّة تلتفُّ حول الرَّقبة بثبات؛ فتجعل شكله كالمومياء المُحنَّطة.
يلزمني
إخبار السَّائق: "كابتن نضال، سامحني على خَطَئي بعدم إخبارك
بالذَّهاب خلال طريق "دُمَّر". لو تكرَّمتَ... إذا ما فيها إزعاج
لكَ بالعُبور من مُفتَرَق "الصَّبورة"*.
رفع
نضال النظَّارة للأعلى، وثبتَّها مؤقَّتًا على مُقدَّمة جبهته. خفَّف من سُرعته
قليلًا، اِبْتسم وهو ينظر بِطَرف عَيْنِه اليُمنى في المرآة الأماميَّة، اِلْتقَت
بعيْنَيِّ سكلمة. ممَّا بَعَث اِرتياحًا اِرْتسمت ملامحه على وجهه؛ فاِنْبسطت أساريره. أخَذَ نفَسًا عميقًا.
رُطوبة
الهواء الرَّقيقة؛ أنَعشَت صدره المُثقَل بضيق، ثمَّ سَحَب نفَسًا آخر أكثر
عُمقًا، أردفه بتنهيدةٍ طرَحَ معها زفيره ببطء، وقال بعد أن تنحنح بصوتٍ مسموع،
وهيَّأ نفسه للكلام: "كابتن نضال. لستُ مُستعجِّلًا الوُصول إلى بَيْروت...
أودُّ الاِسْتمتاع بالدَّقائق والثَّواني الأخيرة لي في البلد.
هاتفٌ
بداخلي. يهتِفُ: أنْ لا لقاء... ولا عودة. سأعْتبرها نُزهةً، أو قَصْدُورَة*..
ورُبَّما بعد وُصُولنا طريق "الدِّيماس"*؛
سنتوقَّف لاِلْتقاط الأنفاس، وأُشْبِع رِئَتيَّ من الهواء اللَّذيذ.
ربَّما
تستغرب كلامي يا أخ نضال؛ بأنَّ الهواء هُنا مُختَلف عن باقي بِقاع الدُّنيا، لقد
جرَّبتُ ذلك خلال سفَرَاتي الدَّائمة لمناطق كثيرة بيْن الشَّرق والغرب. للهواء في
بلادنا طَعْم لا يُضاهى.
بحركة
مدروسة فيها الكثير من (الأتيكيت)؛ هزَّ (الكابتن) برأسه مُعجَبًا ممَّا سمعه، وبدوره
أنزل نظَّارته عن جبهته، بينما يده اِمْتدَّت لمنديل، لمسحها من بعض غُبار مُشوِّش
للرُّؤية. وقال: "بكلِّ سُرور أستاذ سكلمة، حاضر، أنتَ تأمر على
رأسي".
..*..
ما إن قطعت السيَّارة المسافة ما بيْن الأوتوستراد وطريق الدِّيماس
(طريق بَيْروت القديم). عَبْر تجمُّع قرية "الصبُّورة" السَّكنيِّ،
حتَّى تراءت لسكلمة العديد من المَشاهِد والمُشاهدات؛ القادمة من عوالم الغَيْب
المكنونة، اِنْهالت على ساحة شعوره بتركيز شديد؛ لتُشكِّل رُكامًا غيَّب إحساسه
وشعوره بمحيطه، لِتَفِرَّ ذكرياته من ضِيق حيِّز جُلوسه داخل السيَّارة، وترجرجه
جرَّاء الحُفَر والكُسور في الشَّوارع الإسفلتيَّة العتيقة. بُطْءُ السُّرعة زاد
مساحة الزَّمن، وكأنَّها هديَّة السَّماء؛ فكانت بردًا وسلامًا على قلبه.
واِنْشراح صدره ثانية، بعد ضيقٍ رابَطَ فيه منذ الصَّباح الباكر؛ حين صحا من
نوْمه.
اِرْتدَّت
روحه مع تباشير إطلالات معالم مَرْبَع، وملهى صَحَارى. ونادي الفُروسيَّة. لم تكن
تفصله سوى دقائق قليلة بالوُصول إلى نُقطة النِّهاية للطَّريق الفرعيِّ، الذي سَلَكه
عبر مساكن الصبُّورة، واِبْتداء مرحلة أخرى. توقَّف السَّائق لاِسْتطلاع
الطَّريق. رأسه يستدير بحركة حَذِرةٍ سريعةٍ يمينًا ويسارًا، لاِنْتهاز لحظة العُبور
باِتِّجاه اليَسَار، إذا توافرت مسافة الأمان.
القلوب
التي اِعْتادت القلق لا تهدأ، حتَّى وإن سرَحَت بعيدًا في عوالم التَّاريخ
والذِّكريات. نوْبة عُطاسٍ اِجْتاحت سكلمة بشكلٍ مُفاجئ؛ لتتطوَّر إلى
سُعال أدمَع عينيْه.
السَّائق
يتساءل باِستغرابٍ: "ما الذي حدث لكَ أستاذنا؟".
-"لا
شيء إنَّه غُبار المعركة".
لم
يلحظا لَوْحات الإعلانات الكبيرة المُتربِّعة على جانِبيْ الطَّريق، ولا ضجيج
مُحركات السيَّارات الهادرة المُتعَجِّلة بسباقها مع الزَّمن. غُموض الكلام الذي
سمعه أنساه نفسه. الدَّهشة ألجمَت لسانه، وشلَّتْ تفكيره. فلا غُبار ولا ما يحزنون،
إلَّا ما تُثيره عوادم وإطارات السيَّارات، خاصَّة الشَّاحنات العسكريَّة الكثيرة.
ظنَّ أنَّ غلَطًا حَدَثَ، أو سُوء فَهْمٍ لِمَا سمع من كلام سكلمة:
"إنَّه غُبار المعركة".
توقَّف
تفكيره؛ لِيَغوص في لُجَّة تأويلات وتحليلات، إذ اِسْتبعَد فكرة شرود سكلمة
بكلام لا معنى له ولا مُناسبة، بل مَالَ إلى تكذيب أُذنيْه، ولِيُدْخِل خِنْصره
الأيسر في أُذُنه اليُسرى بحركة تلقائيَّة سريعة غير مدروسة، تالِيًا يأتي دَوْر
الأُذُن اليُمنى بمثل ما فَعَل بأُخْتِها.
الاِرْتباكُ
أنساه الزَّمن؛ فلم يلحظ الشَّاخصات الإعلانيَّة، ولا بوابة نادي الفُروسيَّة،
ومدرسة تعليم قيادة السيَّارات العسكريَّة، ولا الضَّاحية السَّكنيَّة الحديثة على
يساره. لم ينتبه إلَّا وقد تعدَّى مسافة طويلة؛ اِبْتعدَ فيها غَرْبًا عن هذه
الأماكن نحو الدِّيماس. هذه المرَّة سمِعَ: "من فضلك توقَّف على
اليمين". نصف دقيقة فصلت بين كلام سكلمة واِستجابته؛ لِتَخرُج كلمة اِسْتفساره
مبحوحة، إذ تشحَّط حلقة بالبَلْغَم:
-"هل
طلبتَ منِّي التوقُّف. أُسْتاذ سكلمة؟".
-"نعم
لو سمحتَ".
-"لم
يتبقَّ سوى كيلومتر واحدة فقط تفصلنا عن الدِّيماس".
-"أعلمُ
ذلكَ..!!". ..*..
الخُروج من القَوْقَعة مخاضٌ عسير، شبيه بإخراج السَّمَك من الماء؛
ليتركَ خلائط القاع من الرَّواسب ثابتة في مكانها لا تتزحزح. وفي حالة أخرى هُناك
يدٌ ضخمة تَرُجُّه بمجدافها؛ فتُثير ما ثقُل وتثَاقَل من الأشياء المُتنافِرَة
وغير المُتجانسة، فيتشكَّل عرضًا سريعًا قصيرًا، لا يرتاح إلَّا العودة لهدوئه
الذي كان في ظُلُمات البحر أو البُحيْرات.
(الكابتن)
بقي ثابتًا في كُرسيِّه خَلْف المِقوَد، ينظر من خلف نظَّارته السَّوْداء في
المرآة الجانبيَّة بشيء من الرِّيبة والشكِّ. غرابة الموقف أضْفَت بِغُموض سِرْياليَّتِها؛
لِتَعقيد الفَهْم والتفسير عليه.
نَهَم
المعرفة؛ لمُتابعة ما يحصل من حركات غير مفهومة. جميعُ خِبْراته الحياتيَّة لم
تُسعفه بتفسير ما يراه. خاصَّة عندما يمَّم سكلمة وجهه جُنوبًا، صوْب جبل الحصحاص*
ذو القمَّة الشَّامخة، والأعلى بيْن الجبال والتِّلال المُجاورة له.
اِنْشقَّ
الأُفق أمام عَيْنيْه، لِيَتكَشَّف عن لوْحَة بديعة مُحاكاة لخيال "حلمي
باشا"؛ مُمتدَّة على كامل صفحة مُنحَدَرات الجبل، وأعلى طُربوشه يُطاول
أعالي القِمَّة بشُموخ مُتوائم وطبيعة الجُغرافيا.
القمر
على غير عادته؛ فَقَدْ تمرَّد على إطار قانونه الأزليِّ، بظُهوره المُفاجئ وفي
النَّهار؛ عزَّز في ذهن سكلمة التساؤلات: "لم أتخيَّل يومًا حُدوث ما
أراه في هذا التوقيت، بظُهور القمر مع حلمي باشا.. يا إلهي..!!؟ لا أدري هل لاحظ (الكابتن)
نضال ذلكَ أم لا..!! أأنا في حلْم أمْ عِلْم".
..*..
حلمي باشا يصيحُ بصَوْتٍ أرْعَدَ قلب سكلمة؛ فجعله يهتزَّ في قفصه
الصَّدريِّ، حتَّى كاد ينشقَّ، ويخرج من مكانه: "سكلمة.. يا سكلمة. اِنْتبه
جيِّدًا، واِحْفظ عنِّي؛ فقد كنتُ شاهِدَ العَيان مُلازِمًا جانِبَ "يوسف
العظمة"، وأركان حربه، ودائرته الخاصَّة من المُستشارين، والخبير بخفايا
وخبايا الأمور.
اِنْتشَت
نفوسُنا فرحًا وسرورًا؛ عندما شاهدنا غُبار الرَّكب القادم من جهة منطقة "يعفور"،
نُزولًا من التِلال الغربيَّة، وجاء من يُخبرنا: "لقد وصلت الفَزْعَة من قرية
"كوكبا"*[12].
مئة وثلاثون فارسًا".
اِشْتدَّت
العزائم، وعمَّ الفرح في القُلوب. ما إن وَصَلوا قريبًا، حتَّى توجَّهت طلائع رَكْبِهم
إلى المساحة الفارغة خلف المقاتلين، وفي قرارة أنفسنا وبالإجماع: "دعوهم
يرتاحوا، حتَّى يكونوا على أتمِّ اِسْتعداد عند بدء القتال".
يا
لتعاستكم.. يا لتعاستكم أيُّها الرَّواسب*..
يا أرْدَأَ أنواع الفُرسان على الإطلاق.. من أيَّة طِينَة جُبِلت طباعُ الغَدر والخِيانة
فيكم.. يا للغرابة..!! عندما يأتي ذِكْر كلمة الفارس على الإطلاق؛ فالشَّجاعة
والإقدام هي الصِّفة الأولى، التي تَبْتَدِر للذِّهن؛ فتقتحمه.
لقد
كان الفرنسيَّون من أمامنا، والرَّواسِبُ من خلفنا يطعنون ظهورنا. العدوُّ من
أمامنا ومن خلفنا. قاتَلْنَا، واِسْتُشهِد عددٌ من رفاقنا مُقبلين غير مُدبرين.
دخلوا على جُثَثِنا، ولم نستسلم. وأَبْرِأْنا ذِمَّتنا أمام الله والوطن
والتَّاريخ*.
يا
للغرابة..!! أفارسٌ، ويبذر بُذورَ الغَدْر في سَهْل الدِّيماس، ليُحطِّم الرُّموز
التي خَرجَت للدِّفاع عن الشَّام، ولِتَنبُت كلمات "يوسف العظمة"
عزَّة وكرامة، ونورًا يُهتدى به: (لن أَدَعَ التَّاريخ يكتُبُ أنَّ
الفرنسيِّين، دخلوا عاصمة الأُمَويِّين، وهي ترفع الرَّاية البيْضاء). عبارة
حفظتها العقول القلوب، وسابَقَت صفحات
التَّاريخ.
كلامٌ
ولَغَطٌ بالسرِّ والعَلَن مُتداوَل بين فريق، كلام المُرجفين يفورُ مع كلِّ موقفٍ عظيم، أو حقير. ممَّا كان
يُقال من المُخَذِّلين والمُتَحذلِقين: (نحن غير مستعدِّين ماديًّا ومعنويًّا
لمواجهة جَيْش فرنسا المُدجَّج بالقنابل والمدافع والطَّائرات والعَدَد والعَتاد).
قبضوا
الثَّمن.. كي لا يُصنَع رمزٌ.. قاصدين بعدم السَّماح، بأن يُصبح "يوسف
العظمة" قائدًا بحجم "صلاح الدِّين"، ويصل إلى مرتبة
بطل. ثابتٌ بالدَّليل القاطع، وبما لا يدعُ مجالًا للشكِّ بأنَّ: أسماء الصَّفوة من
الرِّجال مثل سنابل القمح؛ يحرسُهُم التَّاريخ، ويحميهم الشِّتاء، أو يفنيهم.
تخيَّل
يا سكلمة.
لو
لم يكُن هُناك شيء اِسْمه "معركة ميسلون"، ولا تنسَ... فإنْ وصلتَ
بعد قليل إلى جِوارَ قبر صديقي يوسف؛ فتوقَّفْ، واِقْرأ الفاتحة على قبره، وأبلغهُ
سلامي، وقبل أن تُغادر. اِفْطَن؛ لتقبيل شاهِدَةِ قبره ثلاثًا.
بصوتٍ
مسموع للكابتن: "حاضر يا باشا". ردَّ سكلمة.
..*..
وقبل اِفْتراقنا يا سكلمة سأُخبِرُكَ بحادثة أُخرى، تذكَّرتُها
الآن في معرض الحديث عن هؤلاء، وكانت قبل ذلك بفترة قليلة. هزَّ رأسه، وقال:
"كُلِّي آذان صاغية يا باشا".
ففي
يوم الثامن من آذار١٩٢٠. أُعْلِن في النَّادي العربيِّ في دمشق، عن حفل تتويج
الأمير "فيصل بن الحُسيْن". مَلِكًا على سورية؛ فجاءنا وَفْدٌ من جَبَل لُبنان،
لتهنئته، وقف شاعرهم، وهو لسانهم للتعبير عن تأييدهم:
بواريدنا بِتْرُدَّهـــــــــــــا وبصدرونا
مِنْصدَّها
فيصل أمير بلادنا باريس تِلْزَمْ حَدَّهـــا*
وبعد
خسارته في معركة ميسلون في تموز ١٩٢٠ أي بعد أربعة شهور بالتمام والكمال من الواقعة الأولى، جاء نفس الوفد ثانية إلى
دمشق، لتهنئة الحكومة المُوالية للفرنسيِّين برئاسة (علاء الدِّين الدُّروبي)،
وما كان من أمر شاعرهم؛ إلَّا أن ينقلب
على رأيه الأوَّل؛ فقال :
يا مِيرْ وِشْ لَكْ بَالحُروب باريس مَنَّكْ قَدَّهــــَــــــــا
هَيْدِي دُوَلْ بِدْهَــــــــــــــــا
دُوَلْ راعِي غَنَم مَا يَرُدَّها*
زاغ
بَصَر سكلمة، عندما عاد الجبل إلى طبيعته الأزليَّة، إذ اِخْتفى القمر ووجه
"حلمي باشا" بآن واحد، واِنْكشفتْ صفحة الأُفُق عن فراغ لامثيل
له. بدَت كُتَلُ الغُيوم تُخلخِل زُرقة السَّماء، مع هُبوب نسائم تحمل دِفئًا
معقولًا، إذ اِرْتفَعَت الشَّمس أكثر، واِسْتوى ظلَّه على شاكلته قريبًا من حجمه
الأصليِّ.
..*..
والدي لم نكُن نُناديه، ومنذ صِغَرنا في البَيْت وخارجه إلَّا
"باشا"، بلقبه المُحبَّب إلى قلبه، وإن كان مصحوبًا باِسْمه
"حلمي" فينتشي زُهُوًّا. بهذا أجاب على سؤال (الكابتن) نضال:
"ومن هو الباشا الذي قُلتَ له حاضر يا أستاذ سكلمة..!!؟".
لم
ينتظر ردَّة فِعْل أو تعليق (الكابتن) على جوابه، بل أتبعه بتساؤل: "وهل
سمعتَ كلامه، وأسفه على ما كان يوم ميسلون يا (كابتن)؟".
بثقة
تامَّة أجاب:
-"لا
والله ما سمعتُ شيئًا يا أُستاذ..!!".
-"ولا
أظنُّ أنَّكَ لم تر القمر؛ إذ تزامَن مع ظُهور وجه الباشا، واِخْتفى مع اِخْتفائه،
وكان يتزاحم مع طُربوش الباشا على اِحْتلال قِمَّة الجبل".
باِسْتغراب،
وبلهجة ناضِحَة بالأسى على ما وصلت إليه حال سكلمة. قال: "صِدْقًا ما رأيتُ
وجه الباشا، ولا طُربوشه، ولا القمر يا أستاذ سكلمة..!!".
تردَّدت
في نفس نضال زوابع من الخوف المشُوب
بالرَّهبة والتوجُّس، وفَقَد الرَّغبة في الكلام، إلَّا إذا قَطَع اِسْتغراقه سؤال
طارئ من سكلمة؛ ليستفسر عن شيء ما، بينما تتلاطم غرائب الأفكار، وتميد في مُحيطات
من الهذيان، ولا شواطئ لها.
لم
يَتراخ اِنْتباهه عن كثرة المُنعطفات الخطيرة حتَّى بَيْروت، وتفكيره مشغول باِسْترجاع
حركات سكلمة المُستَغرَبة، وغير المألوفة ولم يتوانَ عن تحليلها، ومع كلِّ هذا
التفكير؛ لم يخرُج بنتيجةٍ شافيةٍ؛ لفَيْض تساؤلاته المُتوالدة في نفسه.
..*..
وداعًا دمشق:
بعد أن عاد للجلوس في كُرسيِّه لم يصدُر أيَّ موقف، اِسْتخرج
دفتره الخاصّ، وكتب بخطِّه الجميل:
(يا أهل الشَّام؛ فمن وجدني منكم... فليطعمني حبَّة
قمح
أنا وردتكم الشَّاميَّة يا أهل الشَّام
فمن وجدني منكم؛ فليضعني في أوَّل مزهريَّة
أنا شاعركم المجنون يا أهل الشَّام
فمن رآني منكم؛ فليلتقط لي صورة
تذكاريَّة
أنا قمرُكُم المُشرَّد يا أهل الشَّام
فمن رآني منكم؛ فليتبرَّع لي بفِراشٍ
وبطانيَّة
لأنِّي لم أنَمْ منذ قُرون)*.
تابع، وهو مُنفَصِل عن مُحيطه. مُستغرِق فيما يكتب:
الحرب
على الحقيقة قائمةٌ بلا هوادة بكلِّ قِواها الظَّاهرة والخفيَّة من جميع
الاتِّجاهات. أَلِأَنَّها تُعرِّي التَّصَنُّم البشريِّ بكافَّة أشكاله..!!
وتُسقِط آخر ورقة تين...؟.
ولماذا
الإصرار العجيب؛ لإبقاء المُمارسات في العتمة بعيدة عن الأضواء، خلف أسوار
الظلام...!!.
"سكلمة"
تقمَّص حالة "ميكافيلِّلي"، عندما أخَذَ عَهْدًا على نفسه،
وأقسَم ألَّا يحنثَ بيمينه: "أن يُبقي أميره بطلًا أُسطوريًّا قاهرًا
للأعداء. رمزًا زاهيًا من خلف الأقنعة، ويده بيضاء ممتدَّة بالعطاء، رغم أنَّها
مُلطَّخة بالطِّين والدِّماء. تمنعُ قطرة ماء عن فَمٍ، أو نسمة هواء تُنعش رِئةً
تتلوَّى من العذاب. لمنْ قال له ذات يوم: "لا".
..*..
غالبته دموع لم يجد غير المناديل مُواسِيَة له، بِمَسح ما اِنْساح
على وَجْنتَيْه؛ فلا قريب، ولا صديق يشدُّ من عزيمته، ولا حبيبة ترشُّه من كأسها الملآى
بماء بارد من مياه عيْن الفيجة*؛
ليُطفئ وَقِيدَ حرارةٍ لَاهِبَةٍ تُحرِّقُ دواخله، وليُخفِّفَ اِعْتصارَ آلام
البُعد والفراق في قلبه.
في
منطقة المصنَع الحُدوديَّة*.
نَزَل السَّائق بعد إطفاء مُحرِّك (التَّاكسي)، وأخذ جَوَازَيْ السَّفر الأزرق والأحمر،
لكنَّهما مُختلفان ما بين جوازه العاديِّ، والآخر الخاصِّ بالدُّبلوماسيِّين،
الأحمر جعل من الشُّرطيِّ السَّعي إلى صاحبه بكُلِّ اِحْترام، ويُتيح لسكلمة
مُعاملة تفضيليَّة.
سكلمة
مُستَغرِق في الكتابة بدفتره، وما زال يجلس في الكُرسيِّ الخلفيِّ، لم تتوقَّف يده
عن الكتابة، ولم يُخرجه من اِسْتغراقه؛ إلَّا تحيَّة أحد أفراد الهجرة والجوازات،
هزَّ رأسه ثمَّ رفعه ليبتسم، وتتحرَّك شفتاه ببطء لردِّ التحيَّة. "سيِّدي
حضرتكَ الأستاذ سكلمة؟". سأله الشُّرطيُّ، وعيْناه تُعايِنان صورة الجواز
لمُطابقتها مع صاحبها، ثُمَّ اِنْصرف لشأنه.
وتابع
الكتابة، كأَّنه يُسابق الزَّمن لحضور الفكرة في رأسه، رغم أنَّه لم يصل لمرحلة
(الزَّهايْمَر). اِمْتدَّت يده لحكِّ صِدْغِه الأيسر، كأنَّما يستحثُّ اِسْتجلاب
فكرة غائبة، أو يفتَقِد شيئًا منها. عادت يده اليُمنى تكتبُ: حياتي أغلى ما أمْلِك،
ها أنذا تركتُ الأملاك والأطيان والأموال غير المنقولة في البيْت.
لعلَّه
الهروب إلى المجهول، ولم أزِدْ على ما فَعَل "تولستوي" أثناء هُروبه،
ولم يكُن يحمل معه إلَّا رواية "الأخوة كارامازوف"*،
ولم آخُذ إلَّا دفتري.
وما
يسعني أيَّ قول مُختلف لأُثبِتَه في دفتري، وأرجِعُ مُقتنعًا بما قاله "تولستوي":
(لقد تخلَّيْتُ عن حياة طبقَتِنا، مُدرِكًا أنَّ هذه ليست حياة، بل مجرَّد مظهر
من مظاهرها، وأنَّ الرَّخاء الذي نعيش فيه، يجعل من المُستحيل علينا فَهْمَ
الحياة. ولكيْ نفهَمَ الحياة، يجب أن نفهم حياة الشَّعب البسيط الكادح، الذي يصنع
الحياة، والمعنى الذي يُعطيه لها).
وها
أنا أتخلَّى عن أشيائي وذكرياتي، اِسْتودعتُها في ذاكرة الشَّام، لتبقى قريبة من
ياسمينها، وأبقى وحيدًا أعاني غُربتي.
انقضى
الوقت سريعًا بعد الخروج من مركز حدود "المصنع"، شروده واِسْتغراقه في
عوالم، لم يفطن إلَّا باستقرار التَّاكسي أمام الفندق "السان جورج".
الحمدُ لله على السَّلامة أستاذ سكلمة. قال (الكابتن).
وقبل
نُزولهما، اِسْتَمهَل سكلمة (الكابتن): "من فضلكَ تمهَّل
قليلًا". واِمتدَّت يده بورقة مئة دولار ناولها له: "تفضَّل يا أخ نضال.
أشكُركَ. سامحني لقد أتعبتُكَ معي".
-"لا
أبدًا.. يا أُستاذ. شُكرًا لكَ، واجبي يُملي عليَّ مُراعاة رغباتك، وتلبية
طلباتكَ".
توادعا
على أمل اللِّقاء...
..*..
بيروت
(2)
-"لا
هيبة لغُبار اِسْتراح على كَفَنٍ عتيقٍ،
ولا فَرْق إن كان على قميصٍ رثٍّ أو جديد، وَيْل قلبي على عُمرٍ ضُيِّعَ على مَدارج
كواليس الظَّلام؛ إِذْ سَرَقته الرِّيح في يوم جُنونِ الهَبوبِ الغاضب، لم يرحم
إخلاصًّا بكلمةٍ ناصحةٍ، منذ تَسَلُّلِ الشَّكِّ مع خُيوط اِخْتلاف وُجُهات
النَّظر"*.
ودواخله
تعوي بأنينٍ مُتحَشْرجٍ:
-"أين
الأشرعةُ التي كانت؟. قيل: إنَّ الزَّمان طَوَاها ببُرود في قاع مُحيط النِّسيان؛
عندما تهاوَتْ بلا عِنادٍ، واِسْتسلمَت للعاصفة..! وأصوات القراصنة المُرعبة
المُنفجِرة بِرَهْبَتِها المُخيفة، جاثمة بجوار حُطام الأشرعة في القاع"*.
بتاريخه: 9. نيسان (أبريل) ليلة سقوط
بغداد 2003: (بيروت):
الحروب لعنة البشريَّة. هي اِنْقلابٌ حقيقيٌّ على جميع الثوابت
والأعراف. من السَّهل إثارة حرب أو إشعال الحرائق في أيَّة بُقعة من العالم، ومن
الصُّعوبة بمكان إيقاف اِمْتداداتها، وليس من السَّهل التنبُّؤ بنتائجها غير
المحسوبة على الإطلاق.
لعنةُ
الحرب لم تُغادر المكان، ذاكرته مازالت تحتفظ بأوشحة قليلة ترتسم بألوان وأشكال
بُؤسها على واجهات وجُدران وزوايا شارع الحمرا في وسط بيروت التِّجاريِّ.
صمتُ
المكان لا ينفي ضجيجه المُنبعث من جديد عابثًا في الأذان والعقول ولا يهدأ. القلوبُ
تهتزُّ وترتجف، والألسنةُ تُردِّد: "الله لا يعيدها أيَّام الحرب".
سبعة
عشر عامًا حفرت مساربها عميقًا في نُفوس أجيالٍ عاصرتْها، أحزانها السَّاكنة في
دواخلهم، يبوحون بها بين الحين والآخر لأبنائهم في أحاديثهم العابرة، عندما تعود
الذَّاكرة التي لم تتآكل؛ فتدمع عُيون، وأخرى تُجهَشُ بُكاءً على أعزَّاء نهشتهم
آلة الحرب المُتوِّحشة.
أحزانٌ
لا تتردَّد بالظُّهور كلَّما سَنَحَتْ لها الفُرصة؛ فالحرب لم تكُن تُنقِص من
أعمار النَّاس، إلَّا مَنْ اِنْقَضَت آجالهم. الآثار المديدة للحروب تُصبحُ
تاريخًا يُروى على أَلْسِنة مُعاصريها، أو من قرؤوا عنها في الكتُب أو المجلَّات،
أو من سمعُوا شيئًا عنها، وليس من سمعَ أوعى ممَّن رأى وعاين، وهو شاهد العَيان. لا
يُمكن مَحْوَ الأحزان خلال يوم وليلة، ولا بسنة أو عشرة. تجفُّ الدُّموع، وتختنق
العبرات بالنِّسيان المُؤقَّت، أو بالدَّائم إذا فُقِدت الذَّاكرة.
..*..
أثير:
وفي
صالة اِنْتظار مقهى "ويمبي"
الشَّهير برمزيَّته لدى الكثير من الكُتَّاب والمُثقَّفين العرب والأجانب على حدٍّ
سواء. ذاكرة المكان تُشكِّل جُزءًا لا يتجزَّأ من ذاكرة سكلمة وأصدقائه
القُدامى.
الاِرْتباط
الرُّوحيِّ والنَّفسيِّ بمكان ما، لا تمحوه عَوادي الأيَّام. المقاهي الحديثة في "شارع
الحمرا" ومحيطه جاذبة لنوعيَّة جديدة للزَّبائن، مختلفة بطبيعتها بمعطيات
وتكوينات زمن غير ذاك. يذهب الإنسان
بعيدًا في دروب الحياة والنِّسيان، ويترك شيئًا من روحه في مكان أحبَّه، يعود إليه
على الأغلب؛ ليستعيد جزءًا من نفسه لتعزيز توازنها، ويُجدِّد ذكرياته، ويتلذَّذ
بها.
كان
سكلمة على موعد مع جورج صديق دِرَاسته الجامعيَّة، بعد ثلاثة أيَّام
من وجوده في بيروت. اللِّقاءات المُتقاربة أو المُتباعدة لم تنقطع بينهما، كلَّما
سَنَحت الفُرصة بتواجدهما معًا في بيروت، على مدار سنوات ناهزت الاثنين والأربعين
عامًا، منذ دُخولهما إلى الجامعة الأمريكيَّة 1961م، جمعتهما زمالة الجامعة. والاِخْتلاف
ما بيْن كُليَّتَيْ دراسات العلوم السياسيَّة والعلاقات الدُّوليَّة، والصَّحافة
والإعلام.
..*..
طلَبَ فنجان قهوته السَّادة قبل وصول صديقه بنصف ساعة، اِسْتخرَج
دفترًا متوسَّط الحجم من حقيبة يده المُرافقة له في كلِّ مكان، عاد الجرسون؛ فلم
ينتبه لوقوفه بجانب الطَّاولة عندما وَضَع أمامه فنجان القهوة؛ إلى أن سمع الجَرْسُون:
-"تفضَّل
يا أُستاذ".
لم
يستطع الردَّ على تحيَّة الجَرْسُون، إلَّا بإيماءة من رأسه بحركات بطيئة تنبئ عن
تعب صاحبها. رفع رأسه، وتوقَّف عن كتابة آخر كلمة في السَّطر بعد أن وضَعَ نُقطة،
وأغلقها بقوسيْن صغيريْن.
نظر
إليه بنظرات زائغة لم يتبيَّن شكله جيِّدًا، بعد أن اِسْتدار الجَرْسُون بخطوات
سريعة لمتابعة طلبات باقي الزَّبائن المُنتظرين وصوله بفارغ الصَّبر، نادى سكلمة
عليه؛ ليعتذر له عن عدم ترحيبه به بحرارة، ظنًّا منه أنَّه يعرفه قبل ذلك.
..*..
المكان مهجوس بأرواح تسكنه حسب اِعْتقاد سكلمة، وردَّد
ذلك مِرَارًا على مسامع أصدقائه القُدامى، والجُدُد في جلسات سابقة جمعته بهم على
فترات مُتُقاربة مرَّة، وأخرى كثيرة مُتباعدة:
-"خُطوات
خالد عُلوان*
لا أستطيعُ كيف أصفها كلَّما تذكَّرتها، وكما أتخيَّلها وأتصوَّرها بذهني. لا
أظنُّ إلَّا أنَّه كان رابط الجأش، وهو يتقدَّم بخُطوات واثقة نحو هدفه، وهو يُشهر
نفسه مُسدَّسه بشكلٍ مفاجئ، عندما أصبح الضَّابط الإسرائيليِّ ومُرافقيْه من
الجنود هدفًا مشروعًا، ولم يتردَّد بالضَّغط على الزِّناد لينتهي كلِّ شيء إلى
الأبد، الغُزاة دنَّسوا ببساطيرهم طَهَارة المكان، ونجَّسته دماؤهم العَفِنة.
ما
الذي جاء بهم من هُناك ليحتلُّوا بَيْروت، أوَّل عاصمة عربيَّة تسقط سُقوطًا غير
مسبوق، اِنْتهاك سيادة، واِغْتصاب إرادة.
ما
معنى أن يجلس هذا الضَّابط عَلَنًا في مكانٍ عامٍّ. هُنا.. هُنا.. على هذه
الطَّاولة بالذَّات، ومن شِدَّة صَلَفِه أصرََّ على دفع فاتورته بالشِّيْكِلُ
العُملة الإسرائيليَّة.
وبهذه
النُّقطة بالضَّبط, لا يُخالجني أدْنى شكٍّ أنَّه يستهزئ بنا، ويتحدَّانا جميعًا
بلا اِسْتثناء، أحيانًا يُخالطني شُعورٌ بثقل الهواء المُلوَّث بأنفاسهم الكريهة،
ودُخَّان سجائرهم على جهازي التنفُّسي بعد كلِّ هذه السِّنين.
أظنُّ
أنَّ قَتَامَة عَدَسَتَيْ نظَّارة الرِّيبان السَّوداء، كانت غِشاوةً أَعْمَت
بصيرته عن رُؤية المكان الكَارِه له، ولا فكَّر إلَّا أنَّ الجميع اِسْتسلموا
لجبروته، يا لها من نظَّارات رائعة أبرزته بتفاخُره للعَيَان؛ صَوَّبت أنْظار
أبناء البلد تجاهه.
فلو
قُدِّر لي العودة للوراء لاِسْتقبلتُ من أمري ما اِسْتَدْبرتُ؛ لاِشْتريْتُ المقهى
حتَّى أقْلِبَه مُتْحَفًا ذا قيمة تاريخيَّة، وأقمتُ نَصْبًا تِذكاريَّا رُخاميًّا،
ويعتليه تمثالٌ برونزيٌّ من أجل خالد، ومهما كانت كِلْفته الماديَّة وعلى
حسابي الخاصِّ؛ ليبقى شاهدًا وحارسًا أمينًا لذاكرة المُستقبَل.
يتربَّعُ
هنا أمام عينيِّ على ناصية زاوية الرَّصيف المُمتدّة أمام الويمبي، وسأجعلُ
وجهه صوْب الغرب باتِّجاه البحر؛ ليرصُد القراصنة ويواجههم بملامحه العابسة بغضب؛
وليقرأ قراصنة الشَّرق بوقفة شموخه الصَّلبة كصخرة بيروت أنَّهم أخطؤوا هدفهم.
ها..
يا إلهي..! كأنَّ وقْع خُطُواته تقرعُ سمعي، وهو يتقدَّم بخطوات ثابتة ليُردي
الضَّابط اليهوديّ وجنوده مُجندَلين يتمرَّغون بدمائهم في النقطة ذاتها التي أجلس
عليها، وكأنَّهم ما زالوا تحت قدميَّ.. زَنَاخَة دمائهم تسلَّلت إلى أنفي.
هل
غادرت روح خالد المكان؟.
هل
سيموت المكان بعد ذلك؟.
سيبقى
التِّمثال حارسًا للمكان. ولم يكُن وضع التّمثال إلَّا أُمنية تُخالط عقل سكلمة
تمنَّى بجديَّة أن تتحقَّق؛ فكلَّما تطاول العهد بحادثة ما، تتآكل الذَّاكرة شيئًا
فشيئًا، ثمَّ تُنسى إذا بقيت حكاية تتناقلها الألسُن، التَّوثيق أهمُّ نقطة
مفصليَّة لأيِّ أمر كان.
ومن
أجل تنفيذ ذلك، لكنتُ قد اتَّخذتُ كلَّ الوسائل المُمكنة وغير المُمكنة، لاِقْناع
أو إجبار بلديَّة بيروت على تسمية
السَّاحة الصَّغيرة باسم خالد عُلوان، أُسْوة بالأمير الوليد بن طلال
حينما أَجْبَر رئيس الحكومة "رفيق الحريري" وشركته "سوليدير"
على إعادة تمثال جدِّه "رياض الصُّلح" إلى مكانه في السَّاحة
التي تحمل اسمه، أثناء فترة إعادة الإعمار لوسط بيروت التِّجاريِّ.
الغُزاة العابرون زائلون لامحالة، وما اِسْتقرَّ
على الأرصفة إلَّا غُبار أحذيتهم، وبعد مُغادرتهم ستتولَّى الرِّيح الأمر، وتذروه
شَذَر مَذَر، وستمحو له أيَّ أثر، لا يبقى إلَّا ذكرى في ذاكرة مُعاصريهم،
وتاريخًا مقروءًا في الكُتُب. خالد علوان وأمثاله علامات مُضيئة تُرفَع لهم
القُبَّعات اِحْترامًا، حتَّى وإن كُنَّا مُختلفيْن معهم في وجهة، لكلِّ حريَّته باِنْتمائه
الحزبيِّ والسِّياسيِّ ، إنَّما نحن مع الوطن وإن اِخْتلفنا، لكنَّنا لن نفترق على
الوطن، بل من أجله".
..*..
فقرتان مليئتان بمشاعر القهر والخيبة
والإحباط واليأس، اِنْتفاخ جفنيْه المُحْمَّريْن كجمرة من نار، على مدار أسبوع لم
يذُق طعم النَّوم كما عهده السَّابق المُنتظم بمواعيد نومه وطعامه. التَّدخين
والقهوة على مدار السَّاعة حرق للأعصاب مستمرّ، صُدُود نفسه عن الطَّعام عُمومًا
إلَّا إذا دَاهَمه شعور قاهر بالجوع، لا يأكل إلَّا أقلَّ القليل.
الاستعداد
للِّقاء أخرجه من كَسَله وجَزَعه، حاول تبديل مَظْهره بحلاقة دقنه التي مضى عليه
أسبوع، أو ربَّما وَصَل الأمر لعشرة أيَّام، حتَّى أنَّ شعر رأسه المُتوسِّط بطوله
لم يُسرِّحه، إلَّا مرَّتين.
كلَّما
شعر بضيق صدره من وحدته؛ ينزل من جناحه الفُندقيِّ إلى صالة (الكوفي شوب)
الرَّئيسة، لتناول طعام الفُطور مرَّة، وأخرى للغداء، وأغلب الوَجَبات تأتيه إلى
مكان إقامته.
اِسْتغراقه
العميق يُنسيه الاِسْتجابة لجَرَس وتنبيهات هاتفه النقَّال. كان يرى أرقامًا دوليَّة
ومَحليَّة من جهات وأصدقاء. تراكمت الأرقام التي طلبته، ولم تتلق ردًّا سوى عدد
قليل جدًّا منها، ومعدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة التي ردَّ عليها.
إلَّا ثلاث مُكالمات واحدة منها مع جورج.
قَلَب
صفحة جديدة من الدَّفتر، وهي الصَّفحة الثانية التي كتبها منذ وصوله إلى بيروت قبل
أسبوع، وكتب:
-"(مديح
الوطن. كهجاء الوطن مهنة مثل باقي
المهن).
الأدوات..
ستبقى الأدوات فاعلة إلى حين اِنْتهاء صلاحيَّتها. الأدوات تَأْتمِر بإرادة
سَيِّدها.. تخدُم، وتسمعُ، وتُطيعُ، وتُنفِّذُ المطلوب بِدقَّة وحَذَر وصَمْت". ــ
توقَّف
كأنَّما راودته فكرة. شَفَط نفَسًا عميقًا؛ مَلأ فَمَه بدُخان سيجاره الكُوبيِّ. اِنْتبه
لوصول جورج يدخُل من بوَّابة المقهى. السَّاعة تُشير إلى الحادية عشرة
صباحًا.
عِناقٌ
طويلٌ بعد سَنتيْن على آخر لقاء بينهما كان في باريس. لقاءات الأحبَّة وإنْ تباعدت
لا تَبرُد ولا تجفّ، تبقى حارَّة نديَّة بلهفة الشَّوق والحنين.
..*..
رائحة السِّيجار تختلط بعطره الخاصّ "الشَّانيل"،
شكَّلا حوله حالة هُلاميَّة صنعت عُزلَتِه عن مُحيطه.
لم
تلفِتْ اِنْتباهه. ضحكاتُ السيِّداتُ الجالساتُ هُناك في الزَّاوية المُطِلَّة على
الرَّصيف، ولا اللَّواتي قُبالته على الطَّاولات المُحاذية له، أو القريبة من
طاولته.
بعد
السَّلام..، والأسئلة المُعتادة عن الحال والأحوال. اِنْتبه جورج للدَّفتر
على الطَّاولة فتناوله، بعد إشارة إيجاب من رأس سكلمة بالسَّماح.
صداقة
بلا حدود.. بلا حواجز، ببساطة وبلا تكلُّف اِعْتادا ذلك منذ أيَّام الجامعة، لم
يتغيَّر شيء على طباعهما عندما يجتمعان في أيِّ مكان من الكرة الأرضيَّة.
اِرْتسمت
على وجه جورج ضحكة حزينة بِالكَادِ كَشَفت عن بَياض أسنانه اللُّؤُلُئِيِّ.
هزّ رأسه بتعجُّب، وهو يرفع حاجبيْه للأعلى إلى ما فوق إطار نظَّارته الذَّهبيِّ.
وقال:
-"اِسْم
الله عليكْ.. نَفسكَ مفتوحة على الكتابة".
-"
مُجرّد خاطرة لتنفيس الاِحْتقان الدَّاخليِّ".
اِنْخرط
بالقراءة بصوْتٍ يسمعه سكلمة. كان يتوقَّف عند نهاية كلِّ فقرة. يصمُتُ لِبِضْع
دقائق قبل البدء بأخرى. سكلمة لا يدري ما يدور في ذِهْن صديقه في لحظة صَمْتِه،
ولم يُتعِب نفسَه بتوقُّع ما سيقول.
بقِيَ
الدَّفتر بيده يتحرَّك كيفما تحرَّكت على وَقْع نَزَقِ الكلمات الغاضبة. الجَرَسُون
بعدما تلقَّى إشارة من عَيْن سكلمة، بلباقة وأدب وقف بصبره العجيب، خجله لم يسمح
له بالتدخُّل لمعرفة طلب جورج المُنفَعِل، كأنَّه مُعتادٌ على هكذا حالات. بل تجمَّد
مكانه، القاعدة الذهبيَّة: (الاِنْتظار سيِّد الموقف)؛ فهو أسيرٌ لرغبة
الزَّبون، وإن خالفَت طبيعة عمله الدَّؤوب بلا توقُّف.
كثيرًا
ما يكونُ الاِسْتغراق في لُجَّة الانفعال؛ ليأخذ صاحبه في غيبوبة تفصله عن مُحيطه؛
فلا يسمع ما يُقال، ولا يرى أيَّة حركة مع توقُّف مُلاحظته ومُتابعته
للأشياء.
جاءت
حالة جورج كَرَدٍّ، ونتيجة طبيعيَّة لما فَهِم ممَّا قرأه في الدَّفتر، وقال:
-"أفهمُ
من كلامكَ: أنَّ الاِنزواء والتراجُع للخلف رغم أنَّهما نَتَاج ظُروف قاهرة.. لا
طاقة لنا بمقاومتها، أو التَّخفيف من شِدَّة وطئتها، وقساوة مُعطياتها. معنى ذلكَ
أن نصمُت..! وهل الصَّمتُ، ودفنُ الرأس في الرِّمال هو الحلُّ..!؟".
-"ليس
بالضَّبط كما تقول، ولكنَّ الحرب بهذه الهمجيَّة أقوى منَّا جميعًا. بصراحة.
وللمرَّة الأولى أقولها لكَ حصريًّا: تعبتُ.. وتعبتُ".
-"برأيكَ،
وهل تحتاج لاِسْتراحة المُحارب..!".
-"لا..
لا أبدًا.. أعتقدُ أنَّه آَنَ للفارس أن يترجَّلَ، ويُعلن...".
قاطعه
قبل إكمال جُملته بلا اِسْتئذان منه، وكأنَّهُ خمَّن تكْمِلَة كلامه. بتوتُّر بَدَا
على ملامح وجهه الغاضبة من شيء مجهول، غطَّى على فرحة اللِّقاء بينهما.
-"أرجوكَ
يا سكلمة.. ثمَّ أرجوكَ. لا تَقُلها، كنتُ أظنُّ أنَّني الوحيد الذي
يُفكّرُ؛ ليعلنَها للعالم بملء إرادته".
-"وما
الذي ننتظرهُ بعد هذا السُّقوط المُريع والمُخْزي، ربَّما فكَّرتُ بالاِنْتحار
مرَّات عديدة، للخلاص من الكآبة والحزن واليأس، باِنْطفاء بغداد آخِرِ شمعة
عربيَّة.. اِنْطفاءُ العراق يعني نهاية العَرَب، ولا أمَل بتاتًا.. ولن تقوم لنا
قيامة بعد هذا.. فظاعة الشُّعور بالسُّقوط تنهشُ قلبي بلا رحمة".
-"وهل
هذا هو سكلمة..!! الرَّجل المعروف بعناده المعهود، ولا يتراجع حتَّى لو كان
مُخطِئًا حدث مثل هذا في مواقف عديدة؛ عُرفت عنه، وعناده لا يُقارن إلَّا بصخرة
صمَّاء، تستعصي على عوامل الطَّبيعة مهما كانت عاتية، وصقيلة ملساء يستحيل على ذرَّات
الغُبار النَّاعم اِسْتيطان سطحها.
وا
أسفاه..!! على زمان كنَّا فيه وكان لنا.. وعلى حاضر تسرَّب من بين أصابعنا، ولا
حيلة نملكها لضبطه".
الأسى
والحزن ظاهر في نبرة صوت جورج بالتأسِّي على ماضيه في الواجهة الإعلاميَّة
في لُبنان الفاعلة المُؤثّرة بطروحات ذات لهجة مُنكسِرَة ناضحة بالحُزن، هناك
موضوع يشغل ذهنه لرفد حركة الحوار مع سكلمة في جلستهما النَّادرة باِسْتثنائيَّتها،
قد تكون لقاءهما الأخير، شعور غريب خالجه بإحساس مجهول المصدر والرُّؤية، هناك شيء
غامض ولا دليل عليه، بالفعل هذه المرّة كان اللِّقاء باردًا، مشوبًا بالحزن، آثار
التَّعب على وجهيهما، لهجتهما قلقلة، لم يستطيعا القبض على مصدر الإزعاج لكلِّ
منهما، أو الإفصاح عن مكنوناتهما المُحبطَة. الحديث المُتشعِّب جريء بملامسته لثوابت
كانت مُقدَّسة حتَّى وقت قريب، بتغيُّر الظُّروف تبدَّلَتِ المعايير لرؤى جديدة
للقضايا، ليتابع:
-"
على وجه التَّحديد لا أستطيعُ معرفة سبَبٍ معقولٍ؛ لتذكُّر مقولة المرحوم "كمال
جنبلاط": (إذا خُيِّر أحدكم بين حِزبه وضميره، فَعلَيْه أن يتركَ حِزبه،
وأن يتَّبعَ ضميره؛ لأنَّ الإنسان يُمكن أن يعيشَ بلا حزبٍ، لكنَّه لا يستطيعُ أن
يحيا بلا ضمير)".
-"وهل
تعتقدُ، أنَّه خَرَج من اِتِّحاده الاِشْتراكيِّ مُنحازًا لضميره؟".
-"
بكلِّ تأكيد يا صديقي كان موقفُه أفصَحَ وُضوحًا من الشَّمس في رَابِعة النَّهار؛
عندما عادى الجميع دِفاعًا عن لُبنان، والقضيَّة الفلسطينيَّة. ضميرُه صنَعَ
أعداءه الذين اِشْتغلوا على تنحيته من طريقهم، لكنَّهم لم يتَّفِقوا على
اِغْتياله.
معلومٌ
أنَّ إسرائيلَ العدوّ الأوَّل المُتضرِّر من وُقوفه إلى جانب قضيَّة فلسطين،
وجماعة الموارنة رأوا فيه تهديدًا لوجودهم، وسوريا التي لم تحتمل نفوذه
الواسع في لبنان؛ فالمنافسة لا تقبل شريكيْن قويَّيْن (كمال جنبلاط وحافظ الأسد)،
كان يُمكن أن يتقاسَما الكعكة عن تَراضٍ بينهما، إنَّما لابدَّ من إزاحة أحدهما؛
فكان أن أزاحوه، وأسْكَتوا صوته إلى الأبد، رغم أنَّه كان على عِداء مُباشر مع
المسيحيِّين الموارنة تأييدًا للفلسطينيِّين، ولم يتردَّد بتوجيه اِتِّهاماته
العلنيَّة للموارنة بوقوفهم مع
"إسرائيل" لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، وخُصوصًا الوعود التي أُعطِيَت
لــ"بيار الجميِّل" ومن بعده لابنه "بشير"،
ولـ"كميل شمعون" مع بدء الحرب الأهليَّة، والاِشْتغال على مسار
إعادة تعريب الموارنة؛ ليستعيدوا مكانتهم التاريخيَّة كطائفة أوُلى في لبنان؛ عندها
يتمّ القضاء على المقاومة الفلسطينيَّة، واِسْتمرَّ "كمال"
ثابتًا على موقفه حتَّى مقتله، ونظريًّا ومنطقيًّا أنَّ الموارِنَة هم أكثر
المُتضرِّرين منه، لكنَّ الطَّلقة الأخيرة جاءت من غيرهم". قال جورج.
-"أستاذ
جورج.. آنَ الأوانُ لأنحاز إلى ضميري مثله، ولو أنَّه جاء مُتأخِّرًا، سأذكرُ
موقفه عام 1967 إلى جانب مصر وسوريا والأردنّ، وتأييده اللَّامحدود للقضيَّة
الفلسطينيَّة.
بعدها
بسنوات أصبحَ أمينًا عامًّا للجبهة العربيَّة من أجل الثَّورة الفلسطينيَّة. وتصدَّى
للمؤامرة الصُّهيونيَّة الاِنْعزاليَّة في لبنان، وقاد نضال الحركة الوطنيَّة اللُّبنانيَّة
مُعلنًا برنامجه الإصلاحيِّ بإنهاء الطّائفيَّة السياسيَّة اللُّبنانيَّة، وتأسيس
المجلس المركزيِّ للأحزاب الوطنيَّة التقدميَّة العربيَّة".
-"بِشَرفي
إنَّه لَشيْءٌ مُحيِّر.. سياسة بلا شَرَف، وسياسيُّون لا مبدأ لهم".
-"هكذا
هي منذ الأزل. المصالح أوَّلًا.. ولا قيمة للنوايا الحسنة، ولا للعواطف الصَّادقة
في مقامات السِّياسة. أستاذ جورج لا تُؤاخذني أو تُسجِّل عليَّ
ملاحظة، ربمَّا تتندَّر بها عليَّ، وأنا
لا أطيق ذلك – ضحك جورج بصوت عالٍ- ولا أدري كيف اِسْتطاع قلبي اِحْتمال هذه
المُتناقضات طوال هذه السِّنين أثناء خدمتي في أروقة صِنَاعة القرار بمطبخنا
السِّياسيِّ، ولم يغفر له حافظ الأسد تحدِّيه عندما قال له: دخولكَ
إلى لبنان يعني أنَّ إسرائيل ستجدُ
مُبرِّراتها للتدخُّل، كما رفض مشروع الكونفدراليَّة التي تجمع سوريا ولبنان
والأردن، التي كانت تهدف لإنهاء الثَّورة الفلسطينيَّة".
قسمٌ
غير كبير فقط من رُواَّد الويمبي اِنْتبه إلى مصدر الضَّحِك، الذي اِخْترق
أسماعهم رغم قرقرة النَّراجيل، وقرقعة أحجار النَّرْد عندما تنثرها بغضب يدُ لاعبٍ
مقهورٍ من خَسَارته، صُراخُ الباعة العابرين أمام المقهى، ومَنْ هم على الرَّصيف
في الجهة المُقابلة للمقهى، الأصوات تُضفي صبغة خاصَّة على المكان، بشعور نابض
بالتجدُّد بلا توقُّف مهما كانت الظُّروف. الاِسْتمرار صيغة الحياة المقبولة بجميع
الظُّروف. وعليْه تُبنى آمال طامحة، وتتبدَّد أحلام مقهورة.
تتعالى
سَحَابة دُخان من فَمِ جورج فور أن رفع وجهه للأعلى، وكأنَّه ضَاقَ بسقف
المقهى المائل بلونه للأصفر، وفي بعض الزَّوايا إلى العسليِّ، والأغمق قليلًا
البُنيِّ، وعقَّب على كلام صديقه سكلمة:
-"تخيَّل
أنَّني ذات مرَّة كتبتُ هذا الكلام ليس بِحَرْفيَّته. بل قريبًا منه في مجلَّة الحوادث
في الذِكرى العشرين لاِغْتيال كمال جنبلاط، شعرتُ وقتها بأنَّ الهواء بلا
أوكسجين في لُبنان، والحلقة بدأت تضيق حول عُنُقي، كوابيسُ اللَّيل السَّوداء سرقَتِ
النَّوم من عينيَّ على مدار شهر كامل، بعدها غادرتُ خمس سنوات إلى باريس. كما
تعلم، ومن هُناك تابعتُ كِتاباتي إلى (الحوادث)، وغيرها من المجلَّات
والجرائد العربيَّة".
رأس
جورج الضَّخم يتربَّع فوق منكبيْن عريضيْن كأبي الهوْل. جَهَامَة وجهه تُكتَنَز
فيها أسرار العالم أجمع. شارباه يتدليَّان على فمه وجوانبه، السَّواد والبياض
يتقاسماه مُناصفةً، كما هي الحقائق تندلق على مساحة وطن المُتناقضات.
بشرته
الحنطيَّة تتآلف مع طبيعة تكوينات جغرافيَّة جسمه الطَّويل، بَدْلَة الجينز تُضفي
عليه مَظْهرًا لافتًا بأناقته، وتُغطِّي رقبته خصلات شعره المُسترسل باِنْسيابيَّة
تستجيب لنسائم الهواء اللَّطيفة بنُعومتها ورِقَّتها، يده لا تهدأ طيلة الوقت برفع
الغُرَّة للأعلى كلَّما نزلت على عينيْه.
نبرات
صوته غير منفصله عن نظراته الحادَّة، وهو يتحدَّث بصوته الجهوريِّ الضَّائع في لُجَّة
اِخْتلاطات المكان الواسع المُريح، كفُّه الواسعة تتحرَّك بإيماءات مُتوافِقة بتآلُفٍ
مع تعابير وتقاطيع وجهه التي تختصر كلَّ ما قيل، أو سَيُقال عن الكاريزما لفلان أو
فلان.
يتابع
جورج حديثه، بينما سكلمة عيناه ساهِمتان بنظرات مُشتَّتةٍ لا
تُركِّز على شيء مُحدَّدٍ، يستمع لصديقه:
-"وأخطَرُ
ما في حياتي أنَّني أقفُ أمام بُوَّابة كبيرة لا أستطيعُ وُلُوجَهَا، وعاجز عن طَرْقِها
فضلًا عن فتحها، ليتَها تُفتَح تِلْقائيًّا من ذاتها. لو سألتني: لماذا؟. لقلتُ
لكَ بكلِّ تأكيدٍ؛ لأنَّها بُوَّابة ذاتي، ولا علاقة لأحد بشأنها؛ فهي تهمُّني وَحْدي،
وخاصَّتي، ولن أسمحَ بعُبورها لأيٍّ كان، ومهما بلغ الأمر فظاعة وقسوة. ولو
كرَّرتَ السُّؤال ثانيةً: لماذا؟. بلا تردُّدٍ: إنَّ مواجهة الذَّات أصعبُ
اللَّحظات في حياتي، أخافُ الصَّدمة المُوجعة. لكنَّ الذي لا بُدَّ منه حاصلٌ لا
محالة.
تتراءى
لي على الدَّوام صورة مُعلِّمي الأوَّل سليم اللَّوزي لروحه السَّلام،
ولترقُد بأمان؛ فقد كنتُ أوَّل الواصلين إلى المستشفى؛ بعدما تلقَّيْتُ نبأ
العُثور على جُثَّته في أحراج منطقة عَرَمُون –جنوب
بيروت- من مركز الدَّرَك. يا إلهي.. منظر غير معقول أبدًا!!. في قسم إسعاف
الطَّوارئ.
خلعوا
عنه ثيابه، لتشريح الجُثَّة، رأيتُ طُيوفَ الألوان الحمراء القاتمة والدّاكنة
السَّوداء من آثار التَّعذيب الوحشيِّ الذي تعرَّض له.
عيناي
جامدتان كقطعة حَجَر صُوَّانيٍّ، تصلَّب جفناهما فلا يقويان على أن يَرِفَّا بأدنى
حركة؛ تستجيب لدواعي الحُزن والبُكاء، صدمةُ المنظر أَلْجمَت الكلام في فمي،
وفقدتُ شجاعتي، وأظنُّ فُقدان رُجولتي وقتها، وتوقَّف عقلي عن التُفكير بأيِّ
شيء. شللٌ تامٌّ حاق بي، غدا شَكْلي ليس
بأكثر من هيكل تمثال على شكل إنسان.
بصراحة:
فإنَّ أكثر ما حَزَّ بنفسي وآلمني، وحرق قلبي، والمشهد خارج كُليًّا عن تصوُّرات
العقل والإدراك: لم يكتفوا بتعذيبه حتَّى الموت، بل تعدُّوا ذلك بوحشيَّة فائقة، عندما
حَرَقُوا يده بمادَّة الأسيد، واِنْسلخ العَظْم عن لحمه الذَّائب في قذارة أوعيتهم
الصَّدئة، إذ تعكس صورة وجوههم المتوحِّشة، المُتطابقة مع وجوه الذِّئاب، وهي
الرِّسالة الواضحة لكلِّ قلمٍ حُرٍّ يعلو صوته صارخًا في وجه الظُّلم، ويقول
للظالم: يا ظالم بصوت تهتزُّ له جَنَبات الكَوْن".
توقَّف
عن الكلام فجأة. غُصَّة تحشرجت في حَلْقِه؛ كادت تخنق أنفاسه، تناول كأس الماء من
على الطَّاولة، اِنْسكَبَ منه شيئًا طال دفتر صديقه سكلمة، بسرعة جفَّفه
بورقة منديل.
اِنْتبه
سكلمة من ذُهوله، ليُكمل بدوره؛ وليحكي حقيقة مشاعره تجاه قضيَّة كمال
جنبلاط وسليم اللَّوزي، وكأنَّه أراد تخليص ضميره من كلام بقي حبيس صدره
لسنوات طويلة:
-"للتاريخ
يا صديقي سأقولها بصدق، وبإمكانك تثبيتها والحديث بها، ونقلها عن لساني: أعلمُ عِلْم
اليقين أنَّ قرار تصفيتهما صَدَر من عندنا؛ لأنَّهما تخطَّيا الخُطوط الحمراء،
ولامسا الممنوع وغير المسموح. تغيير الخُطوط المرسومة كالكُفر بالله".
..*..
بداية عملي بالصَّحافة في مجلة الحوادث. هل تذكُر ذلك؟. البدايات
صعبة بالنسبة لي، في الأشهر الأولى عملتُ كمُتدرِّبٍ في المُتابعة والتّنسيق بقسم
الأخبار. لقائي الأوَّل بالمعلِّم "سليم اللَّوزي"؛ حينما طلبني
بعد الظُّهر في اليوم الثّاني لدوامي.
رأيتُه
بمهابةٍ نادرةٍ لا تُشبه إلَّا مهابة أبي بِصَرامتها، اِبْتسامته السَّاحرة سابقت
نظرات عينيْه المشغولتَيْن بمُطالعة ورقة كانت بيده. لو قُدِّر لي تِعْداد ضَرَبات
قلبي المُتسارعة بجُنون، لا أظنُّ إلَّا أنَّها ناهزت المليون خلال النِّصف ساعة
التي جلستها معه.
قيل
لي من أحد زملائي لا أذكُر اِسْمه على وجه التحديد:
(بالفعل
إنّك محظوظ يا جورج، لحصولِكَ على وقت ثمين لم يُتَحْ لنا قبلكَ). كلامه
غمرني بنشوة داخليَّة أراحت أعماقي القلقة، وقتَلَ كثيرًا من هواجسي غير
المُبرَّرة، وهدأت مخاوفي المُتوتِّرة بين صعود وهُبوط.
منذ
زمان ليس بالقصير، تُقلقني فِكْرة فريدة؛ تستوطن عقلي لا تغادر مكانها أبدًا.
-"قسمًا
بالله إنَّكَ حيَّرتني، وأنت أبو الأفكار يا جورج. ولو قَلِق العالم كلَّه،
لا يُمكن أن تقلق". وأطلقها ضحكة، ليست بقدر ضحكة صديقه قبل قليل.
-"صِدْقًا.
بلا لَفٍّ ولا دَوَرانٍ عليكَ يا سكلمة. شُعوري الدَّائم، بأنَّني أتشابه بِمُشكلتي
مع سيَّارة المرسيدس".
-وما
معنى المرسيدس بالذَّات يا رجُل؟".
-"المرسيدس؛ لأنَّها كانت شاهدة عَيانٍ على
كلِّ الاِغْتيالات التي وقعت في لُبنان على الأخَصِّ والشَّرق الأوسط عُمومًا،
شهدتُ قبل ذلك اِغتيال الرّئيس رشيد كرامي، وسماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن
خالد".
-"من
الرَّائع يا جورج أن نكون شاهديْن على العصر على الأقلِّ، ولن نكُون شُهود
زور، أو مثل (عبد السميع عبد البصير -عادل إمام- في مسرحيّة شاهد ما شافش حاجة)،
عندما نحكي، بل نحكي عن عِلْمٍ ببواطن الأمور، ولا ندَّعي كذبًا ودَجَلًا، ولا نَهْرِفُ
بما لا نَعْرِف".
-"الجريمة
لا تنقضي بالتقادُم، يحدُث أن ننسى، وفي لحظة فارقة تأتي ذاكرة المآسي عندما تأتي
بأثر رجعيٍّ؛ فرغم مُضِيِّ ثلاثة وعشرين عامًا على مقتل المُعلِّم سليم، وبين فترة
وأخرى تتجدَّدُ صورة يده اليُمنى المحروقة بالأسيد أمام عيْنيَّ، بشاعة يقشعرُّ
منها بَدَني، ويقف شعر رأسي كلَّما تذكَّرت المشهد".
-"لن
يتركوا صحفيًّا ولا مُعارضًا، وإن كان شاعرًا أو أديبًا، وما قبل سنتَيْن من الآن أتذكُر
ما حصل للروائيِّ "نبيل سليمان" باِعْتداء مجهولين عليه في بيته
في اللّاذقيَّة؟، عندما اِفْتتح فيه مُنتدًى ثقافيًّا للحِوار حوْل فكرة المُجتمع
المدنيِّ في سوريا. بالطَّبع كانت نهاية المنتدى بوقف جميع فعاليَّاته، بعدما
نقلوه إلى المستشفى".
-"إنَّها
سياسة تكميم الأفواه يا سكلمة..!".
-"ليس
تكميمها فقط. بل المطلوب حقيقة: إسكاتها للأبد..!، كما أسكتَ الإسرائيليُّون صوت
غسَّان كنفاني من قَبْل، ولا تزال كلمة جولدا مائير بتعقيبها على مقتله
بوَقاحتها الكريهة، تصمُّ الآذان لمن سمعها أوَّل مرَّة بتصريحها الشَّهير، وكذلك
من قرأه في الجريدة أو في كتاب ما، لن ينسى روح الشَّماتة التي أظهرتها، وما تردَّدتْ
أو نَدِمَتْ أمام عدسات الكاميرات، ولو من باب التَّمثيل أمام الرَّأي العامِّ
العالميِّ، وما حَسبَتْ حِسابًا للاِنْتقادات اللَّاذعة لقذارة كلامها الفجِّ، ولا
لصفحات التاريخ.
لا
أشكُّ بأنَّ لعنة الأجيال ستلاحقها ولو بعد مئات السِّنين: (اليوم تخلَّصنا من
لِواءٍ فكريٍّ مُسلَّح).بكلِّ أسف بدا بلهجة سكلمة فيما قال.
-"شوف
هالخبريَّة..! الريِّس رشيد حينما رفَضَ تحذير الحارس الخاصّ به. العميد
المُتقاعِد جمال الموَّاس المُرافق ا للرَّئيس الشَّهيد رشيد كرامي،
وقد سمعتُ منه ذلك مُباشرة: ("أبلغتُ "الأفندي" بضرورة عدم اِنْطلاق
الطَّائرة التي تُقلَّه أُسْبوعيًّا من طرابلس إلى بيروت من قاعدة "أَدْمَا"،
بل يمكن اِنْطلاق الطَّائرة من قاعدة عسكريَّة في بيروت، وهذا أضمن.
لكنّ
الرَّئيس الشَّهيد رَفَضَ ما أبلغتُه به قائلاً: "هل تَشُكُّون في الجيْش اللُّبنانيِّ..؟
فأنا لا أقبلُ هذا الكلام"*.
-"
ليس بغريب ما ذكرْتَ يا جورج، وكأنَّ التاريخ يُعيد نفسه. فمثلما حصل للرَّئيس
رياض الصُّلح بالضَّبط، عندما (تمّ تحذيره من أنّ جِهاتٍ تسعى إلى اِغتياله،
ونُصِح بتأجيل زيارته للعاصمة الأُردنيَّة عمّان؛ فكان جوابه: "هل يجرؤون على
فعل ذلك أثناء زيارة رسميَّة لدولة شقيقة..!؟"*.
وجع
الماضي يسترجع ذكريات مأزومة بأوجاع تتربَّص زمن اِسْتعادتها؛ لتجديد مواسم
الأحزان، ولِتبُثَّ دُروس الخوْف في نفوس الشُّجعان، وتنثُر في طريقهم الأشواكَ لِتثنيهم عن مُواصلة المِشْوار.
سكلمة
وجورج وَجْهان لِعُملة واحدة، كِلَاهما بإمكانه
تكملة رواية أيّ موضوع أو حادثة رُويَت منذ البداية. أو أيَّة دلالة عليه.
ويتشابهان حدَّ التطابُق مع الحكيمَيْن "جورج حبش" و "وديع
حدَّاد" كلاهما من جيل واحد يتطابقان مع فارق بسيط لا يتعدَّى الأشهر
بميلادهما، ومن خرِّيجي الجامعة الأمريكية ببيروت، وتتلمذا على يديّ "قُسطنطين
زريق" الذي كان أستاذًا في نفس الجامعة، ورئيسًا لها لسنوات طويلة،
وتعلمَّا كما تعلَّم منه جميعُ دُعاة القوميَّة العربيَّة والعُروبة؛ فالجميع
مدينون له بما وصلوا إليه من أمجاد قوميَّة.
بسهولة
يستعيد أحدهما ما بدأه صاحبه أو جليسه. كأنَّهما كتابٌ مُتسلسل على شكل روايةٍ
مُتقنةٍ، بل الأصحُّ دِقَّةً أنَّ: جورج رواية وحده، وسكلمة رواية
أُخرى شبيهة. ربَّما يكمِّلان بعضهما حدَّ التطابُق التامِّ.
طبيعة
علاقتهما لم تتأثَّر بعوامل السِّياسة المُتناقضة في مَسار كلٍّ منهما؛ فوظيفة سكلمة
كمُستشار في ديوان رئاسة الجمهوريَّة في سوريَّا، وعمل الصَّحافيِّ جورج في
الصُّحُف اللُّبنانيَّة بطبيعته المُعارضة للوجود السُّوريِّ في لبنان.
طروحاته
الجريئة بوضوحها حِيَال سوريَّا كنظامٍ، وليس كشعبٍ، فكما علاقته مع سكلمة،
هي مع جميع المُستويات الثقافيَّة السوريَّة والعربيَّة. فهل التَّنافُر السَّاكن
دقائق الحياة مع كلِّ فردٍ، هو تفصيل شارحٌ لدقائق دروس المُتناقضات المعشعشة في الدَّواخل؟.
ولماذا
يظنُّ البعضُ أنَّ خَيَالهم الواسع المُنطلق في رحابة الواقع دائمًا على حقٍّ؟.
ورُبِّما
يضيق الوقت باِنْتحار الدَّقائق الحَرِجة، على مَذْبح الخَيْبات التي تتخفّى خلف
بوارق الأمل، وما تتداوله ألسنةُ النَّاس من مقالات وحكايا وأمثال شَعبيَّة، لم تكُن
لتأتيَ، وترسخَ على أطراف ألسنتهم، إلَّا ليُطلقونها إذْ يَرَوْن الضَّرورة لذلك،
وما قيل: (شو لَمْ المَتعُوس على خايب الرَّجا)*.
تذكَّر سكلمة هذا المثل، وأراد تطبيقه على حالتهما الرَّاهنة. ثانية اِنْطلقت
ضحكة جورج هذه المرَّة بانسيابيَّة غير معهودة، وبعد أن امتلأت عَيْنيْه
بالدُّموع، سأل:
-"برأيكَ
يا صديقي من منَّا المتعوس، ومن خايب الرّجا؟".
-"لو
أردتُ وتجرَّأتُ على قوْل الحقيقة: إنَّني أحملُ الصِّفَتيْن معًا، وأنتَ يا جورج
كذلك تحملهُما أيضًا".
-"كلامكَ
فيه الكثير من الصِّحَّة، لقد تشابهنا بكلِّ شيء كتوأميْن مُتماثليْن. وُلِدْنا مع
ثوْرة القَسَّام في الستِّ والثلاثين، ودرسنا بنفس الجامعة، وكُنَّا مُؤثِّرين في
مجالنا الوظيفيِّ كلٌّ حسْبَ موقعه الذي كان..". قال جورج.
-"ولا
تنسى أنَّ كِلَيْنا أعزب؛ فنكون قد شكَّلنا ثُنائيًّا مُرادفًا للثُنائيِّ الأشهَر
عربيًّا بعزوبيَّته: الرَّئيس رشيد كرامي، والرَّئيس ياسر عرفات.*. عندما تزوَّجَا القضيَّة، ونحن تزوَّجنا
العزوبيَّة؛ فكان قَدَرُنا مصنوعًا على مقاسنا..!". بلهجة بَدَت بملامحها
المليئة بالأسَى على وجه سكلمة أثناء كلامه.
-"وها
نحن في آخر النَّهار عند غروب شبابنا، تُسدَل السِّتارة، ويحلُّ الظَّلام،
وكأنَّنا لم نكُن بالأمس القريب..!".
-"سبعٌ
وستُّون عامًا ألا تكفينا..!".
-"تخيَّل
يا سكلمة هذا العمر الذي نحكي عنه،
فإنَّ الأضواء والشُّهرة حرقتنا، حرمتنا من نَوْم اللَّيالي لمُلاحقة الأحداث، هذا
حالي وحال أمثالي ممَّن امتهنوا الصَّحافة والإعلام، وصَدَق من سمَّاها مهنة
المتاعب.
والنَّاس
عند الصَّباح يتوجَّهون لأجهزة الرَّاديو والتلفزيون لمعرفة الأخبار، بعد أن
يكونوا قد ناموا جيِّدًا، وشخيرهم كان يُحيل صمت غُرف نومهم الهادئة الغارقة بالأحلام
والظَّلام إلى ضجيج.
بينما
تتَّسِع حَدَقاتُنا ويحمرُّ البياض حولها، ونشفُط المزيد من القهوة، ونُشعِل السِّيجارة
من أُختِها قبل اِنْطفائها. يا لها من أيَّام حرَّقت أعصابنا بنيران مُتابعة أيِّ
حدَثٍ على مُستوى العالم، والأكثر إيذاءً لمشاعرنا ما كان يحدُث في بلادنا".
الاِنْفعال
بلهجة جورج واضح تمامًا؛ فمن يسمعه أو يراه من على بُعد مسافة فاصلة
بينهما لا يحتاج إلى تَخمين ذلك، سيلحظ ملامحه المُتكِّدرة، وعصبيَّة حركات يديْه
مُتزامنة مع كلامه المُستمرِّ.
بينما
ينفثُ دخان سيجاره الكوبيِّ، ويتلمَّظ على طعم القهوة في فَمِه؛ لتزداد مرارتها وتتحلَّل
على مرارة حديث الذِّكريات الحسيرة، غير آبِهٍ بِشُرود سكلمة. وتابع:
-"تخيَّلْ
كأنَّ لُبنان كُتِبَ عليه أن يبقى ساحة صِراعٍ دائمٍ لمحيطه ومُتغيَّراته، واِهْتزازاته
الصَّاعدة والهابطة، وفضاء لتنفيس حرارة الغَلَيان الدَّاخليِّ. حتَّى تكوين
ديمقراطيَّتنا مُفصَّلة تفصيلًا فضفاضًا لا تضيق على أيِّ مَقاسٍ مهما كان، ولا بأيِّ
فعلٍ أو كلام أو رأيٍ أو تَصرُّف".
بلهجة
تَهكُمِيَّة قال سكلمة:
-"كم
وَددتُ لو كانت قطعة صغيرة من ديمقراطيَّتكم عندنا، لا شكَّ بأنَّ ديمقراطيَّة
لُبنان فريدة، وأجيزُ لنفسي وصفها: بديمقراطيَّة الشَّرق..!!".
-"كأنَّكَ
يا سكلمة تعزفُ على وَتَر الأسى في قلبي، بل إنَّها ديمقراطيَّة رَخْوة زَيِّ
المطَّاط، والبلد يَمُطُّوه على مَقَاسات جعلت منه مَشَاعًا مُباحًا بلا أبواب
ضابطة لحركة من يَعبُر ويخرُج، وصارت وِجْهَة لجميع القادمين من الشَّرق أو الغرب".
-"نعم
صحيح.. تمامًا كما ذكرتَ، فقد رَحلُوا من بلادهم إلى هنا، مُحمَّلين بمشاكلهم
المنظورة وغير المنظورة التي أقلقت البلد، وقَلَبَت حياته".
-أُقسِمُ
يا سكلمة بأنَّ بلَدَنا أصبح مثل بيت دعارة مفتوحًا ليل نهار؛ لإطفاء
الشَّهوات المُتواثِبة في عقول أصحابها، ومقبرة مَغْبُونة الحظِّ بأكوام ميَّتة
فائضة من الرَّغبات الجامحة.
مِثْل
كلِّ هارب من دَوْلته يأتينا، وكلَّ متآمر على بلده يُخطِّط لعمل اِنْقلابٍ عسكريٍّ،
ينطلقُ من هنا، بعد حُصوله على الدَّعم من جهات مشبوهة، وكلُّ من أراد تهريب
المُخدِّرات، أو تزوير العُمْلة؛ يبتدئ من هنا. ولكَ أن تتخيَّل مجيء الإمام "موسى
الصَّدر" في الخمسينيَّات، عندما رسَّخ التغيِّير الذي جاء من أجله،
وعمَّقه ليتجذَّر بأرضنا الصغيرة بجُغرافيَّتها الضيِّقة ذات الموارد الضَّئيلة
غير الكافية لأهلها الأصليين.
رَحَل
إلى رِحَاب ربِّه، بعد أن أسَّس جُمهوريَّته النَّاشئة داخل دَوْلتنا، وتركها تنمو، حتَّى كادت أو على وشَك اِبْتلاع
لُبنان بأكمله.
جاؤوا
من خَلْف البِحار، ورحَّلوا معهم مشاكلهم. ذهبُوا وتركوها لنا نتصارع عليها أو من
أجلها، أليسَ من الغَرَابة أنَّ جميع البشر لهم مصالح عندنا..! يعني لو نِحْنَا دَوْلة
عُظمى مُو هَيْك..! شيء مُحيِّر".
-"أيضًا
جمال عبد النَّاصر اِمتدَّت يده، لتدفع بفؤاد شهاب رئيسًا للجُمهورَّية،
وكأنَّ الجنرالات يبحثون عن بعضهم، يفهمون كلمة السرِّ المُشتركة. يعني تخيَّل
أنَّ ذلك حَدَث بعد سنتيْن من مجيء "الصَّدر" إلى لُبنان..!، رغم
أنَّ شهاب يوصف بالقائد الأكثر عُروبة. لصلاته المُميَّزة بعبد النَّاصر وحلفائه
في لبنان، لكنَّه في الوقت نفسه ضغط على الفلسطينييِّن بقوَّة.. سياسة بلا أخلاق،
عُروبي ويقف ضدَّ الأخوة الفلسطينييِّن..! وما تفسيركَ يا جورج باللِّقاء الشَّهير
الذي جرى بين عبد النَّاصر وفؤاد شهاب في خيمة من الصَّفيح على الحُدود
السُّوريَّة اللُّبنانيَّة، كانت نصفها في لبنان، ونصفها الآخر في سوريَّا.. أليس
هذا مدعاة للعجب..!". قال سكلمة.
-"ذَهَب
جمال عبد النَّاصر إلى لقاء ربِّه، وأبقى لنا حِزْبًا ناصِريًّا قويًّا وله
ميلشياته العسكريَّة، وأجملُ ما بقي في لُبنان من آثاره هو "جامعة بيروت
العربيَّة"؛ أرادَهَا نديدًا للجامعة الأمريكيَّة؛ تُخرِّج أنصارًا له في
البلاد العربيَّة، يقودون بلادهم وِفْق رُؤيته النَّاصريَّة؛ لاستبدال خِرّيجي
الأمريكيَّة الذين يقودون بلادهم، ويُسيِّرون دفَّة الحكم، وأنا وأنتَ منهم يا
سكلمة".
-"أرى
أنَّهم جعلوا من لُبنان مُستنقَعًا أفرغُوا فيه فوائض أوساخهم؛ فصارت وباءً
مُدمِّرًا كآلة دَمارٍ شاملٍ مُفخَّخة؛ يُتوقَّع اِنْفجارها في أيَّة لحظة".
..*..
السّاحات المفتوحة ممرٌّ للعابرين بلا قُيود، - سكلمة يقرأُ من
دَفْتره صفحات مكتوبة بخطٍّ جميلٍ بلونٍ أسود، يبدو أنَّها بقلم حبر سائل- قد تُرحِّب
بهم، يرحلون وآثار أقدامهم تبقى عالقةً شاهدةً، تقول: "كانوا هنا".
السَّاحة
الصَّغيرة أمام المقهى مليئة بالزَّبائن الجالسين إلى طاولاتهم، حركة السيَّارات
باتِّجاه واحد لا تتوقَّف. ضجيجُها يُغطَّى على جَلَبة أحاديث الزَّبائن القابِعين
داخل الويمبي، ويلعبون الوَرَق والنَّرد.
الجادَّات
في منطقة "الحمرا" ضيِّقة بمعظمها لا تستوعب مساريْن ذهابًا
وإيَّابًا في آن معًا، الوَسَط التجاريِّ تخطيطه قديم لا يصلح لهذا الزَّمن، مع
تعدُّد وكثرة وسائل النقل الخاصَّة والعامَّة، والاِخْتناقات المُروريَّة أصبحت
لازمة ومُتلازمة وسط بيْروت التِّجاريِّ، كثيرون من أصحاب السيَّارات يتجنَّبون
المجيء، والعبور الطَّارئ من الوَسَط؛ لأنَّه محرقة لأوقاتهم، وتأخير لمواعيدهم.
الأيدي
لا تتوقَّف بحركتها الدَّؤوبة النَّشيطة بالدَقِّ بقوَّة على الطَّاولة بعصبيَّة
ونزَق؛ إذا ما رَمَت ورق اللَّعب الخاسر من يدها، ولا حَجَرَيْ "الشِّيْش
بيْش" يَتَدحرَجان بجميع اِحْتمالاتهما، والعُيونُ تُلاحقُ حركاتهما،
والأنفاسُ تتوقَّف لمعركة الرَّقم الذي سيستقرَّان عليهما؛ لتحديد مصير من سيكون
الرَّابح، ومن هو الخاسر.
بعد
أن رَشَف جورج من فُنجان قهوته، شَفَط نفَسًا عميقًا من سيجاره الكُوبيِّ،
اِحْتفظ بدخَّانه في فمه، إنَّما كانت خُيوط الدخَّان تخرج من فُتْحَتيْ أنفه ببطء،
بمنظر يذكِّر بالقطار القديم المُسيَّر بوقود الفحم الحجريِّ، ينفُث من مُقدِّمته دُخانًا أبيض كالبخار.
ما
إنْ اِلْتقط سكلمة نَفَسه بِسَكْتَةٍ خفيفة، حتَّى بادر جورج
للتأكيد على نفس الفِكْرة التي قرأها سكلمة للتوِّ من دفتره، يبدو أنَّها
إرهاصاتٌ، أو محاولة لكتابة مُذكَّراته، ولن يكتبها أبدًا؛ اِسْتنادًا إلى تصريحاتٍ
سابقة له في هذا المجال.
عندما
سُئل مِرَارًا حول هذه المسألة، لكنَّها أَغْرَت جورج بمُتابعة العزف على وَتَر
سكلمة. بكلام من النَّادر التَّصريح به إلَّا في حالات اِسْتثنائيَّة:
-"الحظُّ
لُعبة الأُمنيات. قد يأتي أو لا يأتي، ليس بالضَّرورة أنْ لا يبتسم لِشَخصٍ إلَّا
مرَّة واحدة في حياته، بالمُقابل هُناك من لا يبتسم له أبدًا ولا لمرَّة واحدة.
لعنةُ
الحظِّ كلعنة السَّاحات المفتوحة على رأيكَ يا سكلمة. كانوا يقولون في
العادة عن شيء، أو إنسان ما أصابه النَّحس: (أصابته لعنة الفراعنة)، يعني أنَّها ليست لعنة الحظِّ
التي أصابت لُبنان، وجعلت منه ساحةً لا بل ميدانًا واسِعًا. وبالأصحِّ هي لعنةُ
الدِّيمقراطيَّة الهشَّة.
الدَّولة
الرَّخوة تتميَّز بقابليَّتها الفظيعة لاِحْتواء جميع المُتناقضات، كالإسفنجة
تمتصُّ كلَّ رَشْحٍ ورُطوبة، لا أعتقدُ أنَّ دولة في العالم تمتلك رصيد لُبنان من
المُتناقضات، ربَّما أنَّ موسوعة "غينس"، لو فَطِنَت لهذه
النُّقطة، أو أنَّ أحدًا أراد تسجيلها، قد تُصنِّفه الأوَّل عالميًّا".
سكلمة صامتٌ. عيناه تدوران في رأسه بحركة
لولبيَّة، لا تستقرَّان على نقطة واحدة في أيٍّ من زوايا المقهى، أو عبر نوافذه،
وبوَّابته المُطلَّة على الشِّارع. اِكْتفى بالاِسْتماع لكلام صديقه، غير معروف
إذا كان يتابعه باهتمام، أو أنَّ ذهنه مشغول بأمرٍ آخرٍ بعيدٍ عن جلستهما.
...*..
أذكُر أنَّ الأخويْن رحباني كتبا بعد النَّكْسة أغنية للقُدس زهرة
المدائن، ولا أظنُّ إلَّا أنَّها كانت نبوءة الرَّحابنة. بالفعل لا أستطيع
السَّيطرة على مشاعري المُختلطة في لحظة اِنْفجار غَضَبي وإحباطي: (الغضب
السَّاطع آَتٍ.. سَأمُرُّ على الأحزان)، اِنْفلتَ كلّ غضب الدُّنيا وقتها
علينا، والتنِّينَاتُ تنفُخ نارها من كلِّ الاتِّجاهات، حرقتنا بلا رحمة، لم يبق
لون للرُّعب إلَّا تجرَّعناه. قال جورج.
تحرَّكَ
سكلمة في مكانه بحركة لا إراديَّة، مُبدِيًا اِنْفعاله. قاطع جورج:
-"حينما
أسمعُ كلمة النَّكْسة أختها النَّكْبة التي كانت قبلها يقشعرُّ جسمي، وتنكتم آفاق
الحياة في عينيَّ، ويرتجف قلبي بخفقان باِهْتزاز يهزُّ كِياني من الأساس.
سامَحَ
الله العرَّاب "قسطنطين زريق" أستاذنا، برأيي أنَّه حينما اِبْتكر
هذا المصطلح كان من باب الأتيكيت المقبول. للتغطية بِمُوارَاةٍ ذكيَّةٍ على حالٍ تنوء بالمرارة
القاسية ؛ اِبْتعدت بنفوس العرب عن فكرة الهزيمة؛ لكي لا يشعروا بعُقدة الذَّنب،
ويجلدوا أنفسهم بسياط النَّدَم، ويفعلوا فِعْلَة الكُسَعيِّ.
لن
أسيء الظنِّ به أبدًا، إنَّما على الأغلب أراد إقالة العَثْرة، وبثّ الأمل من جديد
في نُفوس من سبقونا، لنأتي ونسير على نهجهم.
وقد
وقعنا ذات مرَّة في مَعْمَعة المُصطلحات، وقتها اِنْطلق الإعلام بتسليط الأضواء
والدقِّ والقرع على طبول جوفاء تبثُّ الرُّعب والخوف من كلمة الإرهاب؛ فصارت موضة
العقد الأخير من القرن العشرين.
وقتها
كلَّفنا الرَّئيس بكتابة أبحاث ودراسات عن الإرهاب وتاريخه وجُذوره وأصوله،
اِخْتار ثلاثة من بين فريق المُستشارين، ولم يلجأ للأكاديميِّين من أساتذة
الجامعات، وكانت تستهويه هذه المعلومات حتَّى العَظُم.
أخيرًا
بعد عمل شاقٍّ دؤوب؛ خرجنا بنتيجة تليقُ بجُهدنا، وكان لي الفضل شخصيًّا بِنَحْتِ
مُصطَلَح "سلامُ الشُّجعان". الأقوياء المُنتصرون وحدهم من
يصنعون السَّلام على طريقتهم. الضُّعفاء المهزومون لا خيار لهم إلَّا القبول بما
يُملى عليهم طَوْعًا أو كُرهًا.
قمَّة
سعادتنا تكلَّلت بخطابٍ شهيرٍ له بإحدى المُناسبات، واِنْهالت عليه طَلَبات المُقابلات
التلفزيونيَّة والصَّحفية والإعلاميَّة من وسائل عربيَّة وعالميَّة. لم يترك كلمةً
ممَّا كتبناه، وشرح بما فيه الكفاية ممَّا أرضى غُروري وشعوري بنشوة فرحٍ عارمةٍ.
مُشكلة
المُصطلحات بحَرْفيَّتها ودلالاتها الدَّقيقة. خُذ مثلًا قرار الأمم المُتَّحدة
الشَّهير "242" بعد حرب الأيَّام الستَّة 1967، حينما صاغوا الفقرة أ: (اِنْسحاب
القوَّات الإسرائيليَّة من الأراضي التي اُحْتِلَّت في النِّزاع الأخير)، وقضيَّة
حذف (أل) التعريف من كلمة (الأراضي)، ونكَّروها تمهيدًا لنكران أبشع
وأفظع، وليُصبِح تفسيرها مطَّاطًا بلا معنى، وضاعت الضِّفَّة الغربيَّة بأكملها
ضحيَّة لمحو أل التَّعريف، ولحقت بما ضاع ببركة القرار (181) على خلفيَّة الوعد
المشؤوم.
..*..
(الغضب
السَّاطع آتٍ.. سأمُرُّ على الأحزان). بحُرقة كرَّر جورج العبارة:
"الأحزان أهلكت قلبي، سحقت عظامي، وأتلفت أعصابي".
بصوت
مسموع لمعظم زبائن الطَّاولات القريبة منه. كلامه لفت نظر أحد إلَّا رجُلًا عجوزًا
قابعًا في زاوية الويمبي الداخليَّة المُعتمة قليلًا، وجهه بدا شاحبًا، عيناه
غائرتان للدَّاخل، تدوران بحركات مُتباطئة خلف النظَّارة السَّميكة، يسحب دخانه من
غُليونٍ خشبيٍّ قديم مازالَ زاهيًا، ويعتمر على رأسه قُبَّعة حديثة، رفع حاجبيْه
فوق مستوى النَّظارة. تُحدِّثه نفسه المُشاركة بحديث يعني له شيئًا لا يعرفه إلَّا
هو بالذَّات، شنَّف أُذنيْه لمُتابعة حديثهما.
قام
من مكانه مُتثاقلًا نحو طاولة فارغة، قريبة من طاولتهما؛ لتمكينه من سماع حديثهما،
وإذا لزم الأمر ربَّما يتدخَّل لمُشاركتهما. لم يفعل؛ مُؤثِرًا الاِنْطواء على
نفسه. يسترقُ النَّظرات الخاطفة إليهما، ويرفع عدَسَتَيْ النظَّارة ليتأكَّد من
رؤيته، أُذُناه تشتغلان بطاقتهما القُصوى لاِلْتقاط حروف الهمس إذا ما خَفَّضا
وتيرة صوتهما، بالضَّبط كأفعال المُخبريِن المُحترفين المُكلَّفين بمُراقبة أحدٍ
ما.
منذ
1968مع أوَّل عمليّة قام الفلسطينيُّون بها في الجنوب؛ فتحت أبواب الصراع المُسلَّح مع
إسرائيل، وكان اِنْتقامها الهمجيِّ القاسي بعمليَّة اللَّيطاني، وتفجير الفَرْدَان،
ومذبحة تلِّ الزَّعتر والكَرَنْتينا، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وحرب المُخيَّمات، والاِغْتيالات
العديدة لشخصيَّات فلسطينيَّة مختلفة الاِنْتماءات والتوجُّهات.
واِنْفجرت الحرب الأهليَّة اللُّبنانيَّة الشَّاملة
على مدار سبعة عشر منذ 1975، حتَّى خُروج الُمنظَّمة إلى تونس بعد الاِجْتياح
الإسرائيليِّ 1982.
الحرب
طوفان جارف يجتاح كلَّ مَنْ يقف بطريقه. لا أحد يستطيع الصُّمود أمامه. موضوع حيَّرني طويلًا –جورج
يحكي- لماذا تركوا بلدانهم، وجاؤوا لبنان ليتصارعوا على أرضه؟. ولماذا يخوض لبنان
حروب غيره؟. ولماذا أصحاب القضيَّة ورفاق السِّلاح من إخواننا الفلسطينييِّن خاضوا
"حرب الأخوة"؟.
مُبرَّرٌ
لهم محاربة العدوّ بوسائلهم المُتاحة. أصابنا المثل: (قاعد بحُضْنِه.. ويَنْتِفُ
بدقنه). غلطتهم كرَّروها ثانية هُنا بمنافسة الدَّولة والأحزاب والطَّوائف،
مثلما فعلُوا سابقًا في عمَّان. يطولُ الكلامُ ولا ينتهي عند حدِّ. هذا وغيره ما
مُؤْسٍ، ومهما قيل سيبقى هناك الكثير الذي لم يُقَل.
..*..
اسْتحوذَت مشاهد شاشة التلفزيون كبيرة الحجم
على اِهْتمامه، تشدُّ اِنْتباهه إليها عُنوةً؛ فقال من غير اِنْتظار أن يسمعه جورج،
وكأنَّه يُحاكي نفسه:
-"إشارة
محطَّة الجزيرة أصبحت الأشهر على الإطلاق على مُستوى العالم، نافستِ القَنوات
الأجنبيَّة في نقلها الحيِّ والمُباشر لحظة وقوع الحدث. يصلني صَوْت المُذيع
واضحًا من السَّهل تميِّيز كلامه عن خليط الكلام المُتداخِل.
لكنَّ
الإعلام العسكريِّ الأمريكيِّ لعب دوره الفعَّال في معركة سقوط بغداد، لم يسمحوا
بنقل أيَّة مشاهد إلَّا المنقولة عن طاقمهم العسكريِّ، كلُّ شيء مدروس بعناية.
توقُّف
جميع فترات العرض عند مشهد الرَّافعة، والحبل يتدلَّى منها لخلع تمثال الرَّئيس،
وكأنَّها إيماءة ذكيَّة لتقول للناس: ها نحن خلعناه وأعدمناه، وعندما سقطَ أرضًا
كانت المطارق الحديديَّة والأزاميل الحادَّة تنتظر الانتقام بتحطيمه، والأقدام
تتسابق لِوَطْءِ ما تناثر من فتافيت القِطَع الصَّغيرة، كلُّ ذلك ترافق مع
الهُتافات المُبتهجة بهذا الحدث، وأقذع الشَّتائم التي تعجز عنها قواميس اللُّغة
عن الإتيان بجزء منها.
يا
إلهي..!! يا لعجبي من هذه المفارقة الصَّادمة، للأيدي الحاملة للمطارق أدوات
التحطيم، بالأمس كانت تُصفِّق للقائد واِنْتصاراته، والحناجر والألسنة لا تتردَّد
بالهُتاف له، ولإنجازاته.
عيناي
لا تُصدِّقان ما يجري، بين عشيَّة وضُحاها يقع هذا الاِنْقلاب والتحوُّل عكس
الاتِّجاه بمئة وثمانين درجة. تدخَّل جورج مُقاطعًا:
-"بل
تصحيحًا لكلامكَ يا سكلمة: بل ثلاث مئة وسِتِّين درجة، أعتقدُ أنَّ الأمر
أعقَد بكثير ممَّا هو مُتوقَّع بمئات المرَّات، وبعد كلِّ هذه السَّنوات. ما زلتُ
أتساءلُ نفس تساؤل الرَّئيس "جمال عبد النَّاصر"، وأظنُّه كان
مُحِقًّا في ذلك: (لماذا لم يتمكَّن البعثيُّون في سوريّا والعراق من الوحدة،
عندما حكموا بغداد ودمشق..!؟). ها هو الشَّيء بالشَّيء يُذكَر، وأجزمُ
بأحقيَّة العبارة: (إنَّ تخريبَ الذَّاكرة ضَرْبٌ من طُموح السِّياسيِّ، وفَخٌّ
ناجحٌ للشَّعب الغافِل)*.
تستفزّني
ذاكرتي، واِسْتفزاز الذَّاكرة ليس سهلًا؛ الملك "حُسيْن".
-رحمه
الله- بَذَل قُصارى جُده على مدار فترة زمنيَّة، لإقناع الرَّئيسيْن، وفي نهاية
المطاف اِستطاع عقد اِجْتماع سِريٍّ للغاية بين "الأسد" و"صدَّام"؛
اِسْتمرَّ إحدى عشرة ساعة في صالة خاصَّة، وأخلى لهما الجوَّ؛ ليتصارَحَا؛ ليَحُلَّا
خلافاتهما إن اِسْتطاعا التنازُل عن عنجهيَّتهما المُقزِّزة.
العُقَد
النفسيَّة شديدة التَّعقيد، قسَمًا بالله لو جيء بأعظم أطبَّاء النَّفس في العالم
أجمَع؛ لوقفوا حائرين، ولما تردَّدُوا بإعلان عجزهم، ولم يبق بأيديهم عِلاجًا لهما،
إلَّا آخِر الطِبِّ: الكَيّ فقط.
الملكُ
يجلس في غرفة مُجاورة لغرفتهما؛ يتقلَّب على جمر الاِنتظار بفارغ الصَّبر، ومن شدَّة
حرصه على السريَّة كان يوصل بنفسه المشروبات والطَّعام لهما من خلف الباب.
ضجيجهما
الغاضب يخترق حاجز الصَّمت؛ ليصله وما من شكٍّ بأنَّه كان يتمنَّى تحقيق ما جاءا
من أجله. وما فَقَد الأمل في إصلاح تصدُّعات عميقة من الصَّعب رأبهاأأأ، كان مديدًا بصبره كصبر أيُّوب".
اِسْتلمَ
سكلمة دفَّة الحديث مُجدَّدًا، وتابع:
-"بالله
عليكَ يا جورج لو قُدِّرَ لكَ إجراء مُقابلة صحفيَّة مع الرَّئيس "جمال
عبدالنَّاصر". فهل كان سيخطُر ببالكَ سؤاله: لماذا لم يُحاول تجسير
الهوَّة بين دمشق وبغداد؛ لوضعهما على طريق التَّقارُب مبدئيًّا، ومن ثمَّ يجيء
دور الوحدة بينهما، اِسْتكمالًا لمشروعه في تأجيج فكرة الوحدة العربيَّة، وهو القُطب
القوميُّ الأبرز عربيًّا. هل كنتَ ستتردَّدُ في هكذا طرح؟. الحقيقة تَسوخُ
ذوَبانًا بين عبد النَّاصر والبعثيِّين.
أيُّهما
المؤمن بالوحدة العربيَّة؟.
أخوَف
ما أخافُ منه: أنَّهما لا يُؤمنان بها أصْلًا..!!، وتلك مصيبة إذا صدقت ظُنوني.
يعني ذلك أنَّ الأمَّة العربيَّة من المُحيط إلى الخليج كانت في وَهْمٍ، وغياب
تامِّ عن الوعي بحقيقة ما يجري على المسرح.
لاحِظْ
معي أنَّ الملك "حُسيْن" حاول، ولم يدَّخر جُهدًا بتقريب وُجُهات
النَّظر بين الزَّعميْن "حافظ الأسد وصدَّام حسين" لمواجهة
الطَّاعون القادم من الشَّرق.
الحياة
مواقف ستُذكَر عاجلًا أم آجِلًا. لنَعُد لقضيَّة إغراق المُتابع بهذه النُّقطة
وتفاعلات النَّاس، ولا تتوانى قناة "الجزيرة" بنقل الحَدَث
العاجل خلال دقائق من موقعه. بشكلٍ طبيعيٍّ فالأخبار تُسبِّب القلق والتوتُّر
الدَّائم عن المواظبة عليها، وفي كثير من الأحيان يتحوَّل الشَّخص للإدمان عليها،
يقضي جُلَّ يومه أو ليله، مُتَسمِّرًّا أمام التلفزيون.
لتُوتِّر
الأجواء، وتزيد من حدَّة القلق، أعتقدُ جازمًا أنَّ القَنَوات الإخباريَّة ووكالات
الأنباء، لا تتناقل إلَّا أخبار المآسي والموت والدَّمار؛ وهي سبب رئيس للإصابة
بالجلطة العصبيَّة والدماغيَّة.
أستغربُ
لماذا لا تستنفر هيئات الرِّعاية الصحيَّة؛ لتحذير المواطنين من التقليل من خطر مُتابعة
الأخبار، مثلما فَعَلتْ مع منتجات الدخَّان بمختلف أنواعه".
..*..
اِسْتمرار حركات يديْه. مرَّة بالمسح على شعره، أو على شاربه، الذي ما فَتِئ
يمتصَّه لداخل فَمِه؛ لتنظيفه ممَّا عَلِق به بعد اِرْتشافه من فنجان قهوته، والمَسْح
حول فَمِه بمنديل وَرَقيِّ.
لابدَّ
أنَّ حديث جورج قبل قليل اِسْتثاره لصراحته الفَجَّة. مُؤكَّدٌ أنَّها ستفتح عليه
أعشاش الدَّبابير. بعد تجرُّئه بالتَّصريح عن جمهوريَّة الصَّدر. ولمَّا أيقنَ من
سلامة مَوْقفه؛ فيما لو تكلَّم بما يتوافَق مع ما سَمِعه من صديقه بخُصوص لبُنان،
بكلام غير مسبوق منه قطّ. اِبْتسمَ اِبْتسامةً بالكاد اِرْتسمت على فمه؛ فقال:
-"أمرٌ
لا يختلف عليه اِثْنان يمتلكان أقلَّ درجات العقل، أنَّ طبيعة البلد الرَّخوة صارت
ساحة لجمهوريَّات الموْز، وما من لعنة هُناك أفظع من هذا..! يعني ماذا ننتظر من نظامٍ
سياسيٍّ أنشأت اِسْتقلاله إرادة البريطانيِّين.
لم
يتوانَ "الجنرال سبيرز" البريطاني باستخدام حِنكَتِه القويَّة،
وبمهارة أجْبَر الفرنسيِّين -المُوالين للألمان- المُنتدِبين على لُبنان
بعد سقوط "خطِّ ماجينو"، وعلى الأخصِّ بعد عمليَّة "إنزال
النُّورماندي" الذي نجح بتحرير فرنسا من الاحتلال الألماني النَّازي،
ومجيء الجنرال ديغول المُوالي للإنكليز والأمريكان؛ أيضًا تغيَّرت سياسة فرنسا الدِّيغُوليَّة
بالنسبة لمُستعمراتها، واِنْقلب أعلى فرنسا إلى أسفلها والعكس صحيح؛ لِيتخلُّوا عن
أنصارهم القُدامى في لُبنان، لمصلحة أنصار بريطانيا "بشارة الخوري" و"رياض الصلح"، والعكس صحيح بالنِّسبة لديغول
الذي جاءت به بريطانيا وأمريكا.. فهل التأويل جائز؛ بأنَّ الجنرال هو صنيعة من
جاؤوا به..!!؟.
-"كلامك
لا يختلف عليه اِثْنان يا سكلمة، وهذه النُّقطة لفتَت اِنْتباهي لشيء مُهمِّ،
وكأنَّ جمهوريَّة "الصَّدِر"، مهَّدت لنشوء بل كانت مُقدِّمة
صالحة لتجربة أولى ناجحة، مهَّدت لجمهوريَّة "الفاكهاني" برئاسة
الختيار "أبو عمَّار" كما يُلقِّبونه، وبعدها جمهوريَّة عنجر
بقيادة "غازي كنعان".
-"اِخْتلفتِ
الأهداف والأجندات والرُّؤى، وهذا ما اِسْتدعى التَّنافُس في جُغرافيا ضيَّقة. عند
التَّنازُع على الجُغرافيا فالنُّقطة تختلف بأهميَّتها عن تلك البعيدة عنها مترًا
واحدًا.
الجميع
يتقاتلون لإرواء ظَمَئِهم واِحْتواء الجُغرافيا. من يُسيْطر عليها سيكتُبُ تاريخه
عليها، وينزِع تاريخها القديم؛ فيستبدله بآخر جديد من صُنْعه، أو يقوم بمحاولة
تعديله وتحريفه لمصلحته.
الجُغرافيا
تُحقِّق أحلام القادة والزُّعماء، ولا جُغرافيا بلا أهميَّة أبدًا، تكتسب القَدَاسة
إذا تحوَّلت إلى وطنٍ غارق بأدبيَّات ذات أبعاد تاريخيَّة، وإن كانت مُنطوية على
مُتناقضات أساسيَّة.
برأيي
أنَّه من المُستحيل اِحْتمال ضخامة المشاريع التي تفوق حجم وإمكانيَّات لُبنان
بعشرات المرَّات".
بلهجة
طافحة بالأسى والحُرقة خرجت كلمات جورج من أعماقه المحروقة، فمن رأى ليس
كمن سمع. هو رأى وعَايَن؛ فكان شاهِدَ عَيانٍ، موقِنٌ باستحقاق كلِّ كلمةٍ
ينطقُها، وبِصَواب أيِّ حُكمٍ سيُطلقه على أيِّ أمر، لا ينتظر سماع رأيٍ آخَر أو
مشورة أحد لمعرفة ما حصل، ومن غير المُحتَمَل إطلاقًا زحزحة قناعاته لتغيير رأيه،
ولو قَيْد أُنمُلَةٍ بعيدًا عن ذلك.
-"آلام
الوطن لا تتركنا نرتاح، فإذا تألَّم مرضنا جميعًا. مثلًا جاء الفِلسطينيُّون
بمختلف تنظيماتهم؛ ليبنوا جمهوريَّتهم هنا في الفاكهاني بقيادة الخِتْيار "ياسر
عرفات"، حينما فَشِلوا بإقامتها في الأردنُّ، وبطبيعة الحال من غير
المُمكن أن تسمح لهم سوريا بذلك، على الرَّغم من أنَّها تساعدهم، وتدعمهم
لوجستيًّا.
خلافات
التَّنظيمات داخل منظَّمة التَّحرير، جَعَل من سلاحهم يعكس اِتَّجاهه لصدور إخوتهم،
والمُشكلة أنَّ جميعهم يريدون تحرير فلسطين.
..*..
من غريب الصُّدَف أن تتوافق الظُّروف وتتآلَف؛ لتخلق حالة جديدة، ومن
العجيب كيف اِستْطاعت الصُّدفة السَّماح بمرور سيَّارة بشارع الحمرا من أمام
الويمبي، والأعجب المُدهِش ذلك السَّائق الشَّارد بأفكاره..!.
الضَّجَر
يرسمُ لوحة من القلق على ملامح وجهه. عيناه زائغتان بنظراتهما السَّاهمة بلا مُبالاة
بالتَّركيز على نُقطة مُعيَّنة. اِكْتظاظ السيَّارات سبَّب اِخْتناقًا مُروريًّا.
اِحْتجاجات
السَّائقين الآخرين جعلت شتائمهم تتمازج متآلفة بالهدف، ومع اِنْطلاق زمامير
سيَّاراتهم ذات الأصوات المتنافرة، تعالت نسبة الضَّجيج بلغت حدَّها الأقصى.
بينما
حجم ذلك السِّائق لا يقلَّ ضخامة عن فرس النَّهر، ومازال صامتًا، غير مُبالٍ بمُحيطه
الهائج الغاضب. من غير المعلوم إن كان يَعِي معانيَ الأُغنية المُنطلِقة من راديو
مركبته. بصوت "جوليا بطرس" بنبرته الحادَّة التي اِخْترقت كُتلة
الضَّجيج في الشَّارع، حتَّى وصلت إلى داخل صالة مقهى "الويمبي"
واضحة مفهومة:
غابت شمس الحــــــــق وصار الفجر غروب
وصدر الشَّرف اِنْشق وتســـــــــــــــكَّـــــــــــرتْ
دروب
اِنْتبه
جورج من اِسْتغراقه بأبعاد الحديث المُتداول بينهما، عندما اِلْتقطت أُذُناه صوت جوليا؛
توقَّف عن حديثه. بينما تزامَنَتْ ضحكة مُزدوَجة منه ومن سكلمة، ولم يكُن هناك ما هو مُضحِكٌ.
سكلمة:
"شُعوري الدَّاخليِّ. أنَّ ما أضحكني. أضحككَ..!".
جورج:
"على الأغلب..!"، وأطلَقَ سُحُب دُخان سيجاره الكُوبيِّ، نفس اللَّحظة
شهدت اِنْطلاق دخَّان السِّيجار من فم "سكلمة".
"أُقسِمُ
يا سكلمة أنَّ ما أضحكني.. عبارة: (صدر الشَّرق اِنْشق)، للوهلة الأولى ذهب
تفكيري إلى شرق بيروت، بأنّه قذف بجميع
بَشَره وناسه وسيَّاراتهم إلى هُنا، والسيَّارات جاءت تتدحرج مُسرعة لتلبية نداء "جوليا"،
واُنْظر الدُّروب التي تسَكَّرَت جميعها، وصارت الأزمة المُروريَّة الخانقة جُزء
أصيلٌ منها.
تذكَّرتُ
الشَّاعر كاتب هذه الكلمات، إذا أسعفتني ذاكرتي أنَّ اِسْمه "نبيل أبو
عبدو"، جمعتني الصُّدَف ذات مرَّة به
بأحد الاِحْتفالات مع هاروت.
سكلمة:
"من هاروت..!؟".
جورج: "هاروت فازليان"
مايسترو الفرقة الموسيقيَّة التي تعزف لجوليا، وهو عازف عالمي، ومشهور جدًّا في
الخارج، ونال تقدير وإعجاب العالم السِّيمفوني الأوبِّرالي".
هزَّ
سكلمة رأسه اِسْتحسانًا للمعلومة الجديدة، الوافدة إلى عالمه المُترَع تُخمَة
بمعارف، ومعلومات مُوصَد عليها بأقفاله السريَّة، وغير مُتاحة للتداول بأي
شكلٍ كان، وهو لا يقلُّ أهميَّة عن البنك
الدَّولي المُستحوذ على مُعظم أموال العالم.
تابع
جورج:
-"الشَّيء
بالشَّيء يُذكَر. شُوفْ جوليا كيف رجَّعتنا للجنوب غصبًا عنَّا..! هاي البِنْت جُنوبيَّة
من مدينة "صور"، وكأنَّها "أليسار" عندما تركت "صور"
مُهاجرة إلى "قرطاج"، بينما جوليا هاجرت لبيروت ومن صغرها كانت
تُغنِّي مع جوقة مدرسة الرَّاهبات الورديَّة, بس الظُّروف قادتها إلى طريق
الشُّهرة. أخوها زياد موسيقي ومُلحِّن. لقاؤه مع "نبيل أبو عبدو"
صنعا مجدًا للجُغرافيا.
فأصبح
الجنوب أيقونة عربيَّة، اِنْتشلته من غياهب النِّسيان والإهمال ليتصدَّر المشهد
العالميِّ، ومن متاهات الأخبار بإحصاء أعداد القتلى، وحجم الدَّمار بعد كلِّ غارة
إسرائيليَّة، وصلحت الأغنية لكل جنوب في العالم، من جنوب لبنان وحصرًا من الشَّقيف
و أرنون، إلى جنوب العراق وملحمة أم قصر
والنَّاصريَّة.
كأنَّ
هاي البنت مخلوقة أصلًا من رحم المُقاومة. سألتُها ذات مرَّة؛ فأجابتني بطريقة طريفة:
(إنَّ أمِّي فلسطينيَّة الهويَّة من أصول أرمنيَّة).
على
سبيل المِزاح أجبتُها من فوري: "أتوقَّعُ يا جوليا أنَّ جدَّكِ لأمَّكِ كان من الطِّنشاق أو الهِنْشَاق". اِسْتحسَنَتْ
مُلاحظتي: "يعني أنَّكِ جنوبيَّة، وأمّكِ أرضعتكِ حليبها الفلسطينيِّ
والأرمنيِّ، ولا شيء يأتي عبثًا. أنتِ يا جوليا لم تُخلَقي هكذا مثل الآخرين. بل
من خليط مُتمازِجٍ فيك، وكلّ الخُيوط اِمْتدَّت من أقاصي الدُّنيا وقريبها؛
لتُكوِّن عُقدتها فيكِ".
كان
حديثي مصدر سعادة لها، رأيتُ ذلك يتراقصُ في عينيْها الجميلتيْن، وعلامات الفرح
تملأ وجهها بمعاني الإصرار والتحدِّي.
سكلمة:
"أوَّل مرَّة أعرف هذه المعلومة عنها. كنتُ التقيتها مرَّة في دمشق في أحد
الاحتفالات بشكل عابر على هامش معرض دمشق الدُّوليِ، قبل دُخولها للمسرح بنصف
ساعة، سلام وكلام مجاملات وإطراء، لم أذكُر أكثر من ذلك، ولا حتَّى في أيِّ عام
كان".
..*..
الحرب والموت صديقان متآلفان بتناغُمٍ، فإذا حضر أحدهما يحضر الآخر
حتمًا من أجل وليمة الدَّمار، ولا حياة مع الحرب لأنَّهما متناقضان، كِلاهُما
عدُوَّان لا يلتقيان".
-"أستاذ
جورج. لو تأمَّلتَ حال الحكيم "جورج حبش" وقد تَرَك الحِكْمة
وتطبيب الأجساد المريضة، وتوغَّل في السِّياسة. حقيقة من جِهَتي فأنا من أشدِّ
المُعجبين ببراعته وذكائه، لا شكَّ أنَّه من الأفذاذ بمواهبه القياديَّة.
حينما
أنشأ حركة القوميِّين العرب، وبسرعة اِنْتشر التَّنظيم إلى معظم الدُّول
العربيَّة، وامتدَّ نفوذ الحكيم إلى اليمن الجنوبيِّ، وبعد يأسه من تجربة العمل في
دمشق خاصَّة بعد الاِنْفصال؛ ولأنَّه محسوبٌ على عبدالنَّاصر، تمَّت مُلاحقته، ومن
ثمَّ قُبِض عليه وحُبِس؛ اِلْتَفَّ على الرَّئيس جمال عبد النَّاصر، ومنذ
أوَّل لقاء بينهما، طالبه بدعم الكفاح المُسلَّح في جُنوب اليمن وفلسطين، وبحنكته
أقنع الرَّئيس ووافق على تدريب عسكريٍّ لمقاتلين فلسطينييِّن، مع حُزمة مِنَحٍ دِراسيَّة
في الجامعات المصريَّة.
ولم
تنتظر طويلًا أَذرُع الاِسْتخبارات المصريَّة للتدخُّل المُباشر؛ فامتدَّت لمُناصرة
الجبهة الوطنيَّة بقيادة "قحطان الشَّعبي"، إلى أن اِسْتقرَّ لها
الأمر بالاِنْفراد بساحتها في عَدَن؛ حيث لم يستطيعوا دمجها بجبهة التحرير
اليمنيَّة بزعامة "عبدالله الأصنج".
-"أصحبتُ
على قناعة تامَّة يا سكلمة، بأنَّ الحكيم ببراعته اِكْتَشف الطُّموحات
القياديَّة العظيمة لدى الرَّئيس، ففتح له بوَّابة السَّاحة اليمنيَّة وتركه
يدخلها وحده، لإرواء ظمأ العظمة المُتأجِّجَة في عقل الرَّئيس، بصناعة صفحة من
الأمجاد؛ لتكون مُستنقعًا يغرق فيه الجيش المصريُّ فيما بعد".
-"طيِّب
برأيك أنَّ الحكيم حبش وَرَّط الرَّئيس عبدالنَّاصر..!؟. شوف الحكيم وديع حداد
أيضًا، تشابه مع زميله الطَّبيب في
الجامعة الأمريكيَّة الحكيم جورج حبش، تَرَك الطبَّ والحكمة، ونَبِغ في
التَّخطيط للعمليَّات العسكريَّة ضدَّ الأهداف والمصالح الإسرائيليَّة داخل فلسطين
وفي أيَّة بُقعة من العالم.
بينما
كان وديع الصَّافي يُغنِّى أشهر
أغنياته: (خضرة يا بلادي خضرة..)، على وقْع عمليَّات الحكيم وديع بخطف الطَّائرات والاِغْتيالات
والتَّفجيرات، وبعد كلِّ عمليَّة يقوم بها، تنتقم إسرائيل من لُبنان عِقابًا جماعيًّا؛ لتحرق الأخضر
واليابس.
ويعجبني
إصرار وديع الصَّافي بمطالبته المُستمرَّة بإعادة الإعمار: (عمِّر يا
معلِّم العمار..). شوف الفرق بين الحكيم عندما يجيب الخراب، واِسْتجابة الخليج
لنداء الفنَّان وديع؛ ليدفع بِسَخاء وطيب خاطر أُجرة المِعْمار".
-"بالفعل
شيء غير معقول أستاذ سكلمة.. الحِكْمة توقَّفت جميع طرقها، ونصائحها أمام طُموحات
المنافسة والسَّيْطرة؛ فلم يكتَفِ الحكيمان برؤيتها الثوريَّة لتحرير فِلسطين،
التفتوا للمُناحَرة مع رفيق الطَّريق والسِّلاح ياسر عرفات وغيره، أو على
الأصحِّ هو لم يُطِق منافستهم على الزَّعامة، واِسْتدارت بُندقيَّتهم عكس
الاتِّجاه، ضاعَتْ بوصلتهم.
والنَّار
اِشْتعلت لحرق ساحتنا، واِحْترقنا. كنَّا معهم في تحرير فلسطين، ولمّا ضَلَّت بُندقيَّتهم
هَدَفَها الحقيقيّ خالفناهم. بُوصلتنا ما زالت تؤشِّرُ صَوْب فِلسطين".
بِحَماسٍ
عاد سكلمة للكلام:
-"الحربُ
مَوْتٌ وخَرابٌ... والفنُّ ذوْقٌ وحياة. المُحاربون مشغولون كلَّ وقتهم بالتَّخطيط، ينامُون على أحلام النَّصر
المفقود، أو على متاهة النَّصر، والهموم تُثقل كواهلهم. الفَنَّانون ينامونَ من تَعَبٍ
يرسُم دروب الحياة. ينهضون مُجدَّدًا لبثِّ روح الفرح والتفاؤل والأمل.
الحكيم
وديع هجر الحكمة ووداعته، ليشتغل بالحرب والخطف، وتباعَد وجه التَّماثُل مع
المُطرب وديع، وهو يُطرب النَّاس بوداعة وجهه البشوش.
من
السَّهل قراءة البِشرَ في وجهه الطَّافح بمساحة الحبِّ، التي غطَّت ساحتنا وما
حولها من السَّاحات العربيَّة، ولَأْلَاء صلعته يُثير نشوة الحياة في رؤوسٍ اِنْسجمت؛
فتمايَلَت طربًا مع عَزْفه. بينما اِفْتَقَدت صلعةُ الحكيم التعاطُف، رغم وداعة
ملامح وجهه البريئة بظاهرها، وتحتها تُخفي ما تُخفي".
..*..
سكلمة انفتحت قريحته على الكلام بطلاقةٍ غير معهودةٍ بطبعِهِ في الاِنْطلاق
في الأحاديث مثلما هو الآن، نشطت ذاكرته بعدما كان قد أعلن لصديقه جورج عن
تَعَبه. فقال:
-"برأيي
لأنَّ جمال لُبنان بمُتَناقِضاته التي تبدو بظاهرها مُتنافرة، وتعلم يا جورج كم كنتُ مُعارضًا لتيَّار سعيد عقل المجنون غير المقبول
بمواقفه المُعلنة والعُدوانيَّة من الفلسطينيِّين والقضيَّة، ولم يكُن يتحرَّج من
التصريح بذلك بمقابلاته التلفزيونيَّة ولقاءاته.
هذا
الكلام لا ينفي باِحْترامه كشاعر كبير؛ اِحْترامًا لشآميَّاته التي لم يكتُب
الشُّعراء السُّوريُّون مثلها على الإطلاق. بطبعي أميل إلى الحُكم على كلِّ موقف
على حِدَة، ولا آخُذ بالحكم على المواقف بالجُملة".
اِنْتبهَ
جورج من شروده، واِسْتغلَّ سُكُوت سكلمة، ليقول:
-"وماذا
سأفعل مع مُعلِّمِنا قُسطنطين زريق؛ عندما بثَّ فينا روحه وعقيدته الرَّاسخة
بالقوميَّة العربيَّة، اِتَّبعناه؛ وصِرْنا كما أتباع الأنبياء، تشرَّبنا أراءه،
وحفظنا أقواله؛ لنكون أئمَّةً ودُعاةً على مختلف المنابر في أيِّ مكان هبطنا إليه،
ولم نتنازل عن آرائنا، ولم نُزاوِد بها على الآخرين.
ووفاء
له، لم أكُن أنقطعُ عن جلساته الأُسبوعيَّة، التي اِسْتمرَّت إلى آخر حياته
تقريبًا، إلَّا لأمرٍ خارجٍ عن إرادتي، إمَّا بسفر أو عمل لا يحتمل التأجيل إذا
تعارض مع يوم جلستنا معه، وكانت فرصة للقاء الأصدقاء القُدامَى، والتعرُّف إلى
المُتَتلمِذين الجُدُد على يديْه على قِلَّتِهم، ونَدْرَتِهم.
التطوُّرات
المُتلاحقة على السَّاحة العربيَّة والعالميَّة؛ لم تترك فُرصةً لاِلْتقاط
الأنفاس، للبحث عن المبادئ والأفكار، أرى أنَّ الأكثريَّة تنزع نحو الاِنْتهازيَّة
السِّياسيَّة، المُنطوية تحت سِتار الدِّيماغوجيَّة؛ لتصيُّد المنافع والفُرَص؛ إطلاقًا
أنا لستُ ضدَّ الفلسطينيِّين بذاتهم، ولستُ أُوافق موقف سعيد عقل
المُتطرِّف ضِدَّهم بأيِّ شكلٍ كان، بينما كان مَوْقفي واضحًا ضدَّ الوُجود
السَّوري في لُبنان، وتحوُّل مساره، وسبب مجيئه تحت مِلاءَة شرعيَّة الجامعة
العربيَّة، وبإجماع الأمَّة العربيَّة، ليكون قُوَّة رَدْعٍ لإسرائيل التي تعتدي
علينا وقتما تشاء، وصَدِّ عُدوانها عن لُبنان والمحافظة على سِيادته.
لكنَّ
جمهوريَّة عنجر تضَّخمت، وتضخَّم دور قائدها الجنرال غازي كنعان،
وساعده الأيمن الجنرال رُستم غزالة، إلى أن أفرَغُوا جموع نِطَاف فُحولتهم
العسكريَّة، وجرَّبوا كافَّة أساليبهم القبيحة فينا، لهذا أستطيعُ التَّفريق بين
حُكَّام جُمهوريَّات الموز، الأقوى والأعتى بينهم على الإطلاق جمهوريَّة
عنجر، إلى أن اِلْتَهَمَتْنا جميعًا بلا اِسْتثناء، وتناغمها مع جُمهوريَّة
الصَّدْر الأقرب محبَّة بزواج غير مُعلن".
تناول
جورج كأس الماء من على الطَّاولة، سمع صوت اِزْدراده لجُرعةٍ رطَّبت حلقه
النَّاشف، وقال:
-"العَمَى
بِعُيونهم.. العَمَى.. شيء يُنشِّف الرِّيق غَصْبًا عنَّا".
بدأ
سكلمة يتململ في كُرسيِّه، قام واقفًا مَاطًّا ذِرَاعيْه للأعلى، مُترافِقًا
مع بثِّه لتنهيدة أنعشت أعماقه، عاد للجُلوس، ليُجاري حديث صديقه:
-"على
كُلٍّ تبقى المُراهنة على تيَّار الوعي الرَّشيد؛ ليُنتِجَ مواقف صادَّة لتيارات
التفلُّت من الاِلْتزامات، والاِسْتحقاقات الوطنيَّة في جميع بلادنا". سكت
فجأة، كأنّما نضُب الكلام في دَوَاخله. وقال:
-"يكفينا
يا جورج.. تعبنا.. (تعب المشوار من خطواتي وخطواتك تعب المشوار) على رأي فؤاد غازي".
يرفع
يده لاِسْتطلاع الوقت من ساعته (الرُّولكس) المُذهَّبة المُختفية تحت كُمِّ
جاكيت المُخمَل الأسود، اللِّباس المُفضَّل لسكلمة، كما تروق له بَدْلات
الكتَّان الرَّسميَّة ذات الماركات العالميَّة، مثل (بيير كاردان وفيرسا تشي،
ويس سانت لورانت). وقال:
-"ثلاث
ساعات منذ مجيئك في الحادية عشرة، وأنا وصلتُ قبل موعدنا بنصف ساعة، اِشْتياقًا للويمبي
على الأخصِّ، لأجلس مع روحي فقط. الآنَ أشعرُ بجوع، ما رأيكَ بالغداء كفُرصة
لنستمتع معًا، فقد مَلَلتُ من أكْل الفُندق، جَايْ على بَالي أكل لُبنانيّ.
تبُّولة وحمُّص وفول من زمان ما أكلتُ هيْك شَغْلات.
والآن
باجتماعنا اِكْتملت الرَّغبة عندي، واِنْفتحت شهيَّتي لمذاقِ الأكل البَيْروتي
اللَّذيذ، الذي لا يعلوه على الإطلاق إلَّا المذاق الدِّمشقيِّ الشَّهير".
..*..
كما قلتُ لكَ قبل قليل يا جورج:
-"لقد
مَلَلْتُ من أكل الفُندق رغم تنوُّع الأطعمة الفاخرة. يقولون: إنَّ الشِّيف وطاقمه
في الــ(سان جورج) من أرقى الطبَّاخين على مُستوى العالم، وأخبروني بأنَّ
المطعم في الفندق على ما أذكُر، أو قرأتُ على مدخل المطعم أنَّه حائز على
نَجمَتَيْ (ميشلان)".
-"هل
بِبَالكَ الذَّهاب إلى مكان مُعيَّن لتغيير الجو؛ لعلَّه يُغيُّر شيئًا
فينا". قال جورج.
سكلمة يميل للبساطة في الحياة هذه الفترة،
سنين طويلة كان مُحاطًا بالرِّعاية والاهتمام، وضعه الوظيفيِّ كان يُملي عليه
بروتوكولًا مرسومًا، لا يُمكن مخالفته حسب الأعراف الدُبلوماسِيَّة التي أغرقته
طيلة فترة وظيفته منذ بدايته في وزارة الخارجيَّة لسنوات، وتلاها بعد ذلك بانتقاله
إلى ديوان رئاسة الجُمهوريَّة، بناء على طلب رئيس الجُمهوريَّة له بالاِسْم.
بعد
إنهاء خدماته المُفاجئ بدأ إحساسه بالفراغ، واِنْعزاله طوعيًّا مُنطويًا على نفسه
بفقدان أهميَّته، ولمَّا شاع خبر: أنَّ الرَّئيس غضب عليه لأمر مجهول، ولا يعرفه
إلَّا أخصَّ الخواصِّ، اِنْقطعت خُيوط العلاقات الكثيرة مع المسؤولين في الدَّولة
على مُختلف المُستويات، فهجروه، ونسوه مُطلقًا، واِنْمحى من ذاكرتهم، ولم تجرؤ
ألسنتهم على النُّطْقِ باِسْمه إلَّا سرًّا وبِتَكتُّمٍ، وكأنَّه لم يكُن يومًا ذا
أهميَّة لهم، وبما كانوا يظهرونه من الاِحْترام الشَّديد له، كلُّ ذلك ذَهَب أدراج
الرِّياح.
اِشتياق
البساطة لمغادرة قُيود الحياة المُعقَّدة بِكَثرة حِساباتها الدَّقيقة للأشخاص
والمواقف، لا مجال للخطأ، ولو بنسبة بسيطة جدًّا أثناء التنفيذ. الخطأ قاتل، ولن
تُتاح الفُرصة ثانية لتعديل المسار، إلَّا في نِطَاق ضيِّق، أو حالات نادرة لأسباب
اِسْتثنائيَّة موجبة.
التفلُّتُ
إلى رحاب الحريَّة شَوْق وتَوْق نُفوس جانِحَةٍ للاستمتاع بطريقة مُختلفة عمَّا هو
مُعتاد. ردَّ سكلمة على سؤال جورج:
-"شوارع
بيروت العتيقة وفيَّة لتاريخها، بعضها حافَظَ على وضعه لمئة عام منذ بداية القرن
الماضي، مُثقلة بذكريات عابريها، وكِلَانا عبرناها مثل غيرنا، وتركنا أجمل ذكريات
الشَّباب منذ أيَّام الدِّراسة الجامعيَّة، بمرورنا هذا فإنَّنا نتعاهدُها؛
فتجدَّدُ الدِّماء في عُروقنا".
-"أفهمُ
من كَلامِكَ يا سكلمة، أنَّكَ لا ترغبُ بمغادرة وسط بيروت إلى أطرافها التي
تعجُّ بالمطاعم والمتنزَّهات والمقاهي، وإطلالاتها الفريدة".
هزَّ
رأسه سكلمة برأسه علامة الموافقة، وأغضى بعينيْه لدقيقة نحو الأرض، ظنَّ جورج
كأنَّما يبحثُ عن غرضٍ وقَع منه، ثمَّ رفع رأسه بنظراتٍ كَسِيرةٍ؛ مُركِّزًا
عينيْه بعينيْ جورج.
داهمه
شعور غريب بأن هذا اللِّقاء ربَّما سيكون الأخير، وأن لا لقاء بعده ثانية، بينما
تترقرقُ دمعةُ على جفنيْه. بنبرة خفيضة بالكاد سمعها جورج:
-"لا
أريدُ المُغادرة إلَّا مُكرَهًا، كما غادرتُ الشَّام مُجبَرًا، وتعرف يا جورج
جميع الظُّروف الماضية، ولا فائدة من إعادة الكلام فيها الآن، ولكنِّي أريد أن
أملأ بطني من خَيْرات بيروت وأكلها، الذي أشتهيه، كان خياري الطبيعيِّ الإقامة في
بيروت، ولكنّه مسار المرض والعلاج غيَّر حياتي وفرض عليَّ المُغادرة، للتَّعافي من
الآثار النفسيَّة والجسديَّة التي دَاهَمتني، ولن أستسلمَ لها على الإطلاق. أحبُّ
الحياة، وسأحاول السَّعيَ لها ومن أجلها ومن جديد أيضًا".
صدمة
الكلام ألجمت لَسَان جورج عن الكلام، بل صَمتَ على الإطلاق، بينما تأجَّجت
رغبة مُتابعة الكلام عند سكلمة:
-"سأخبركَ
يا جورج بأمْرٍ أثَّر بنفسي، وأقلقني على مدار أشهر قضيتُها بتفكير عميق،
حتَّى استطعتُ اتِّخاذ قراري الأخير.
دُعيتُ
لحضور اِفْتتاح معرضٍ فنيٍّ أواخر العام الماضي لأحد الأصدقاء، ولِحُسن الصُّدفة؛
فقد اِلْتقيتُ هُناك بطبيب نفسيٍّ، شعرتُ وقتها بوخز ضميري عندما تمنَّعت ذاكرتي عن
فتح أيِّ من أبوابها أو نوافذها، غاب اسمه تمامًا.
طيلة
لقائنا على مدار ساعات في المعرض والكافيه؛ تجنَّبتُ محاولة ذكره باسمه وكانت كلمة
الدُّكتور قد أنقذتني، ولمَّا كان الكلام عن أخيه أيضًا لجأتُ لكلمة القاضي. كلُّ
الخيانات في العلاقات مشروعة، إلَّا خيانات الذَّاكرة لأنَّها زهايمر مُبكِّر،
أدركتُ وقتها بتآكلها بشكلٍ فظيع.
كنتُ
قد تعرَّفتُ إليه عن طريق صديق مُشترَكٍ بيننا، حينما كلَّمني الصَّديق من أجل التَوسُّط
لأخٍ للطَّبيب النفسيِّ، الذي تقدَّم لمُسابقة أعلنَتْ عنها وزارة العدل؛ لانتقاء
قُضاةٍ جُدُدٍ؛ لرفد وترميم جهازها القضائيِّ, ووقع الاِخْتيار على أخيه.
بعد
أن أخذُوا مَوْعدًا لزيارتي؛ جاء ثلاثتهم صديقي والطَّبيب وأخوه القاضي الجديد.
وكان لقاءً مليئًا بالمُجاملات والشُّكْر من شِدَّة فرحتهم. ولردِّ الجميل
بالجميل.
..*..
بعد التِّجوال في المعرض واِسْتماع لشرحٍ مُستَفيضٍ من الفنَّان الصَّديق،
الذي أُكِنُّ الكثير من المحبَّة والاِحْترام، ويُبادلني نفس الشُّعور. شجَّعتني
دعوتُه بشكلٍ شَخصيٍّ؛ عندما اتَّصل بي مُشدَّدًا على حُضوري. كان ذلك في بداية
الشَّهر التاسع من العام الماضي، تزامن مع موسم اِفتتاح المدارس.
لباقته
الآسِرَهْ؛ لم تترك لي عُذرًا إلَّا الحُضور، لأُشَارِكه فرحته بمعرضه الأوَّل،
الذي حصل على المُوافقة على إقامته في مكتبة الأسد بعد جُهدٍ جَهِيدٍ، في صرح ثقافيٍّ كهذا من
العِيار الثَّقيل.
أُمنية
يندُر تحقيقها بالطُّرق العاديَّة. الأمر يحتاج لوساطات ذات نفوذ، ودعم من جهات
مسؤولة؛ تُيسِّر له الأمر مع وزارة الثَّقافة، والجهات الأمنيَّة كذلك.
الطَّبيب
إلى جانبي لم يتركني لحظة واحدة، يستمع كما أستمع للشُّروحات، والنُّكات والقَفَشات
من التشكيليَّات العريقات؛ كنَّا آخذين وَجْهًا على بعضنا بلا تحرُّج، أعرفُ بعضَهُنَّ
من أيَّام العزِّ.. أيَّام الوظيفة.
..*..
ثلاثةُ أرباع السَّاعة بعد الخامسة مساءً على قصِّ الشَّريط من قِبَل
مندوب وزيرة الثَّقافة، ومن السِّباحة في عوالم فلسفة الألوان والظِّلال القاتمة
والفاتحة، والإضاءة الكاشفة والمُموَّهة، والأشكال التي تستعصي بتفسيرها على أمهر
السَّحرة والعرَّافين، ولم أجد لها أثرًا إلَّا في عقل الرسَّام، وفي مُحاولة
نادرة لفَهْمٍ للوحة غامضة، غموض ليلة شتائيَّة باردة اِنْقطعت فيها الكُّهرباء.
سألتُه ببراءة ظاهرة رغم إضْماري الخُبث:
-"ما
الفائدة للجُمهور من أمثالي برؤيته، ومشاهدته للوحة لا يُفهَم منها شيء، ولا مفتاح
فيها للتأويل بأيِّ اِتِّجاه، فما قيمة اللَّوحة إذا لم تترك أثرًا في النَّفس، بل
وتجذبني لها لأحكي عنها للآخرين، وأحاول تفسيرها على غير علم".
ضحِكَ
بشكلٍ هِستيريٍّ. رآه الحاضرون، اِنْدهشُوا له. وقال بعد أن مسح الدُّموع من عَيْنيْه
بمنديل ورقيٍّ؛ اِسْتخرجه من أحد جُيوب السُّترة عديمة الأكمام، ذات اللَّون
الأسود الباهِت قليلًا:
-"أستاذ
سكلمة. ها أنت تتكلَّم عن اللَّوحة بملء إرادتكَ، وأسمعتَ ممَّن هم حَوْلكَ.
هذا يكفيني..!".
فاِرْتفع
ضغطي، وتفصَّد جبيني مُتعرِّقًا. لتتكوَّن حُبَيْبات من العَرَق؛ اِضطرَّني الأمر
لاستخراج كَوْمَة مناديل ورقيَّة من جيْب الجاكيت. مُؤكَّد أنَّ اِحمرار وجهي
لاحظه كلَّ من رآني من الحُضور، كما رأيته أثناء خروجي في مرآة كانت بجانب الباب
الرَّئيس للصَّالة".
شعور
بالضِّيق جَثَم على صدري فجأة، يبدو أنَّ كلامه صَدَمني، وأصابتني حالة من
الإرباكِ، أُحرِجتُ جدًّا جدًّا. قبل ذلكَ لم يكُن ليمرَّ مثل هذا الموقف التَّافه
بهذه السُّهولة.
عندما
ظننتُ خُروجه عن سِيَاق لَبَاقته المعهودة، واِنْفلتَتِ اللَّحظة المُتفجِّرة من
بين يديْه؛ لم أَسْتطع مُجاراتِه بالحِوار ولا بالردِّ عليه، غادَرْتني الرَّغبة
بالمُتابعة؛ قرَّرتُ الاِسْتئذان منه.
بل
اِنْتهزتُ فُرصة اِنْشغاله مع فنَّانة مشهورة جدًّا ذات شخصيَّة جذَّابة، غاب
عنِّي اسْمُها تمامًا، خانتني ذاكرتي، ولم تُسعفني بتذكُّره أبدًا، بعد أن أجهدت
نفسي لدقائق بلا جدوى. جمال شعرها الأشقر المُنسدل لمُحاذاة وِرْكَيْها
المُكتنزيْن المُتكوِّريْن ببنطلون الجينز الأسود. أغناني عن اِسْمها، فقلتُ:
"وما سيزيدني لو عرفتُه..!؟".
غادرتُ
المكان بهدوء برفقة الطَّبيب عند اِقْتراب السَّادسة مساء، بعد خُروجنا لموقف
السيَّارات الخاصِّ بزوَّار وموظَّفي المكتبة الشَّبيهة بالقلعة، تنَّفستُ بِعُمقِ
تراخت أعضائي المشدودة، لاحظنا أنَّ الجوَّ يميل للبرودة قليلًا.
النَّسيم
اللَّطيف يملأ ساحة الأمويِّين ومحيطها، قادمًا من تلقاء الرَّبوة الدَّائمة
الاعتدال بحرارتها الأقلّ عن وسط دمشق ومحيطها.
لا
أدري ربَّما أكون قد جَنَيْت على الدُّكتور، بمُناصرة مَوْقِفي، ولم يتركني أنصرفُ
وَحْدي.
اِقْتَرحَ
عليَّ الذَّهاب إلى مكان هادئ:
-"ما
رأيكَ بقهوة (أبو شفيق) قريبة من هُنا على اِعْتبار أنَّنا قريبون جدًّا من
الرَّبوة". اِقْتراحُه غير جذَّاب، لم يَلقَ رغبة منِّي بالتَّجاوب معه.
الأماكن
المفتوحة صارت تُسبِّب لي الضِّيق، وصرتُ أميلُ للأماكن المُغلقة والمحدودة،
والرَّسميَّة أكثر، لم يكُن في ذهني إلَّا ذاك المكان المُحبَّب إلى نفسي ولا
أملُّه أبدًا.
فقلت:
"سنذهب إلى كافيه فُندق الشَّام".
لم
تبدُر منه أيَّة معارضة، تهلَّلَ وجهُه لمَّا سَمِع رغبتي بوجهة مُعيَّنة، ومكان
مُريح بالنِّسبة لي. وجه الطَّبيب رسالة موحية بمعان يصعب تفسيرها بشكل مُباشر.
بشاشة ترسم البسمة الدَّائمة على وجهه الطافح المعجون بسُمْرَتِه، عيناه العسليَّان
تتَّقِدان ذكاءً، تتَّفقان مع صَمْته بإيحاء عميقٍ يصعُب تفسيره، وقبل صُدور أيِّ
كلامٍ منه، وشاربه المحفوف بإتْقانٍ. رسالة مُطمئنة مبدئيًّا لمنْ يلتقيه لأوَّل
مرَّة قبل أن يتعامل معه.
طبعُه
هادئ أساسًا من غير تصنُّع؛ يتوافق بتناسُب معقول مع مِهنته في الطبِّ النَّفسيِّ.
شكله مُريح لمرضاه، طوله المُتوسِّط مُتواطئ مع رَخَامة صوته الهادئ بنعومته
الخفيضة بِخَفَرٍ؛ أقربُ بنبرته لفتاة خجولةٍ حَيِيَّةٍ في العشرينيَّات من عمرها.
على
مدار ساعتين ونصف من جلستنا في الكافيه، وبعد نقاش المُكاشفة مع الطَّبيب، كنتُ في
غاية الاِرْتياح أخرجتُ معظَم ما اِسْتطعتُ إخراجه بلا حرَج من مكنونات نفسي التي
أتعبتني في حياتي، وأحالت أيَّامي قلقًا دائمًا. عندما فهم حالتي بالضَّبط، بسبب
صراحتي بالإجابات بلا تحرُّج أو خوف من أيِّ شيء. في النِّهاية صمتَ لخمس دقائق
بالضَّبط، يبدو أنَّه كان يستجمع أفكاره؛ توقَّعتُ: ليُعطيني رأيه، وفي قرارة نفسي
أنَّه سيُجاملني، ولا يقول إلَّا ما يُرضيني، إلى أن فوجئت بشجاعته فيما سمعتُ منه
في النِّهاية، رغم أنَّ شكله غيرُ موح بأدنى درجات الإقدام والمغامرة والشَّجاعة.
آخرُ عبارة قالها قبل مغادرتنا المكان بدقيقتيْن، انتبهتُ للسَّاعة وهي تقترب من
الثّامنة والنِّصف مساءً: "صديقي أنتَ بحاجة لعلاج، يُؤسفني إخباركَ بأنَّ
حالتكَ غير مُطَمْئِنة بَتاتًا، وخوفًا من تدهور صِحَّتكَ مُستقبَلًا، نصيحتي بالاِهْتمام
بأمر العلاج، وعدم إغفاله أو التغافُل عنه، خَوْفًا من تفاقُم المرض، ويُصبح
عصيًّا؛ فتنخفض اِحْتمالات الشِّفاء التام".
تماسكتُ
ولم أُبدِ أيَّ تأثُّر، أظنُّ أنَّ ملامح وجهي أوحتْ له بلا مُبالاة، ولم يظهر
أدنى تغيُّر عليه، بل اِبْتسمتُ بكلِّ ثقةٍ، كنتُ أشبه بإسْفنجة اِمْتصَّتْ كميَّة
الماء المُندلقة على سجَّادة غُرفة الضُّيوف.
شكرتُه
من أعماق قلبي؛ فقد أَسْدى لي أعظمَ خِدمة في حياتي بِنَصيحته الذَّهبيَّة؛ فقد
جاءت في وقتها المُناسب؛ لإخراجي من قُمْقُمٍ حُبِستُ فيه بين جدران نفسي، في عزلة
اِخْتياريَّة لم يكُن بدٌّ منها، واِسْتطاب لي الحبس فيه بين مخاوفي وهواجسي؛
حتَّى أصبحت مُتلازِمَة منسجمة مع جمع من المُتلازمات التي تستحقُّ العلاج من
عقابيلها.
تبدو
المُشكلة فينا بالضَّبط. وهل برأيكَ يا جورج أنَّه من السُّهولة بمكان؛ تكوين قناعة بأمر ما
بمجرَّد طروئه على بالكَ، أو بسماع كلام عابر.
هزَّ
جورج رأسه ذات اليمين واليسار وتلاها بحركة للأعلى مُترافقة مع حركة حاجبيه
للأعلى. فَهِمَ سكلمة أنَّه يُوافقه في رأيه, وتابع: من أصعب الأمور التي
مررتُ بها، الاستسلام بسهولة لفكرة المرض النفسيِِّ، الذي يُعَدُّ في مجتمعاتنا
بمختلف مستوياتها عَيْبًا، ومُثيرًا لسُخرية وتندُّر الآخرين؛ أثناء نَوْبات الخَوْض
في مُستنقعات النَّميمة القَذِرة التي لا غِنَى عنها، على خلاف الغربيِّين؛ فهُم
يعتبرون هذا الأمر عاديًّا وسليمًا ولا شيء فيه؛ وذلك من أجل صحَّتهم النفسيَّة
التي يعتنون بها كما صحتَّهم البدنيَّة، لتسيير شؤون حياتهم وفق رُؤيتهم الدَّقيقة.
الحديثُ
المُستفيضُ بالنِّقاشات مع الطَّبيب كان وسيلةً لإقناعي، بشعوري الخاطئ. كنتُ
أظنُّ بأنَّني مُعافىً، ولستُ بحاجةٍ حتَّى لمُجرَّد اِسْتشارة ولو على سبيل
الاِسْتئناس بالرَّأي، ولم أكُن أتخيَّل مُجرَّد التفكير بهذه المسألة أبدًا..
أبدًا.
أخيرًا
حزمتُ أمري.. واتَّخذتُ قراري بعد تفكير، وتداول مع نفسي لأيَّام، أخيرًا تلاشى
الخوف، واِنْحسر التردُّد، وحلَّت الطُّمأنينة بدَلَ الوسوسة. ثبتَتِ الرُّؤية يا
صديقي: أنا بالفعل مريض.. أصبحتُ على يقينٍ من ذلك، وبملء إرادتي وأنا بكامل قِواي
العقليَّة أقولها وليسمع العالم كلَّه: أنَّني بحاجة للعلاج.
أقسمُ
يا سكلمة: "بأنَّ جميع ما سمعتُ منكَ؛ رأيتُه ينطبقُ على حالي، التي
لا تفرُق كثيرًا عن حالتكَ بجميع مُعطياتها وجُزئيَّاتها، حتَّى في المرض تطابقنا –ضحكَ باستهتار- لا أدري هل سنموتُ في ذات المكان والزَّمان..!،
ولا أستبعدُ دفننا في قبر واحد، وعلى شاهِدَتِه سيضعون رمز الهلال والصَّليب؛ لنبدأ
هناك جولة جديدة من حِوارٍ طويل بين الأديان برعاية ملائكيَّة..!.
أخيرًا
لابدَّ لي أن أَشْكُركَ على ما خبَّرتني به؛ فقد شجَّعتني للَّحاق بك بعد فترة كي
أُنهي بعض الأمور العالقة منذ زمان بعيد؛ فلن أتركها هذه المرَّة كما لم تكُن
واردة في حُسباني، خاصَّة أمور التَّرِكَات والميراث مع إخوتي، لا بدَّ من حسمها
والبدء بإنجازها".
..*..
لم يطُل بي التفكير مسافات
زمنيَّة –ما زال سكلمة مُسترسلًا بحديث-؛ لاتِّخاذ قراري
المصيريِّ كي أنقِذَ نفسي، بعد وصولي إلى البيْت عند التَّاسعة، تناولتُ سندويشة
جُبنة مع كأس من الشَّاي، وأسلمتُ نفسي للفراش عند العاشرة، ليلتها نمتُ بعُمقٍ لم
أنعَمْ به منذ زمَنٍ طويل.
أبو
سكلمة وقف أمام سريري، يده تُلمِّسُ على جبيني، أحسستُ بنعومة يده
الطريَّة القديمة في صغري -بنبرة جادَّة- قال: (اِسْتمِعْ لنصيحة الدُّكتور،
ولا تُهمل نفسكَ).
هول
المُفاجأة أَلْجَم لِسَاني، واِخْتفى طيفُه قبل أن أرُدَّ عليه. وَدِدتُّ لو اِسْتطعتُ
تقبيل يده. غادرني؛ وأخَذَ النَّوم من عينيَّ معه. اِنْتبهتُ لساعة الحائط على الجِدار
المُقابل لسريري؛ عقاربُها تشيرُ إلى الخامسة صَباحًا.
مع
أوَّل رشفة من فنجان قهوتي لهذا الصَّباح المُشرِق، ترافَقَ مع صَوْت فيروز
المُختلف هذا اليوم عن غيره من الصَّباحات. اتِّفاق غير مُعلَن بين الإذاعات ببدء
موسمها الصباحيِّ لكلِّ يوم بأغانيها على مدار ساعتيْن تقريبًا. رُطوبة الجوِّ
النديَّة؛ أغرقتني في عوالم الذِّكريات، ولم يَطُل الوقت باتِّخاذ قرار السَّفر،
القناعة سبقته بالتشكُّل فسهَّلت الأمر.
كان
يتوجَّب عليَّ إجراء اتِّصالٍ هاتفيٍّ مع جِهَة ما. عند التَّاسعة صباحًا بعد
اِبْتداء دوام الدَّوائر الحُكوميَّة في الثَّامنة؛ لإخبارِهِمْ بِنِيَّتي للسَّفر
للعلاج، بناء على نصيحة الطَّبيب النَّفسيِّ.
رجعتُ
للاِسْترخاء في سريري؛ نعُمتُ بارتياحٍ عجيبٍ هذه المرَّة على خلاف الأيَّام
السَّابقة، ومن غير تعجُّل بانتظار موعد الاِتِّصال. النَّوم داعَب جفنيَّ بغفوة
سرقتني من واقعي؛ ليعود أبي بكامل هَيْبته، وجلال مَهابَته، وقال: (وفَّقكَ
الله يا سكلمة, تابع قَراركَ الصَّائِبْ، واِعْتَنِ بِنفسكَ جيِّدًا..!).
تململتُ
بِحَركاتٍ أستطيعُ بها الاِنْقلاب إلى جَنْبي الأيسر، بعد شعوري بِخَدر يَسْري بِكَفِّي اليُسْرى، فَرَكْتُها
برفْقٍ بحركات قليلة، وعُدتُ لِغَفوتي؛ آمِلًا بعودة أبي للمرَّة الثالثة.
..*..
كانت المسافة التي مشياها من الويمبي إلى المطعم قد اِسْتوعبَت
حديثهما على مدار ثُلُث ساعة، خطواتهما المُتباطئة غير المُتعجِّلة جعلت الوقت أخذ
عشر دقائق إضافيَّة، فيما لو كانت الخُطوات عَجْلَى قليلًا.
اِنْسجامهما
حدَّ الاِسْتغراق بتكملة حديثهما؛ أذهلهما، وجعلهما مُنفصليْن حِسيًّا عن أصوات
البَّاعة وزمامير السَّيارات، وأصوات مكابحها إذا ما اِعْترضها طارئ لتلافي حادث،
ولم يلفت اِنْتباههما أيٌّ من الجميلات بألبستهن الرَّبيعيَّة الزَّاهية،
ومُقدِّماتهنَّ العامرة بنجودها وهضابها الجُغرافيَّة، ولا بأنواع العطر الفوَّاح
عندما يقتحم الخصوصيَّة، ولا يعترف بها. وما توقَّفا عند ضحكة من إحداهِنَّ عندما
حكى لها خطيبها أو صديقها نُكتة، لم يسمعها غيرها لأنَّ أحدًا لم يُشاركها ضحكتها.
حرارة
الجوِّ الرَّبيعي المُعتدلة في بيروت في شهر نيسان من كلِّ عامٍ لم تتجاوز بمعدَّلاتها
الخمس والعشرين درجة، وفي أغلب الأحيان أخفَضُ من ذلك، ودائمًا ما تتراوح حوالي
العشرين أو أقلَّ بقليل.
نيسان
يغلب الانفتاح على الحياة والاِنْطلاق في رحابها. الدِّفء اللَّطيف بطبيعته مُريح
للنُّفوس، ومُشجِّع لممارسة المشي باِطْمئنان، ما عدا بعض التقلُّبات عند المساء؛
فيميلُ الجوُّ للبرودة. نَيْسان مِزاجه مُتقلِّب كما مزاج السِّياسة غير
المُستقرَّة عادة.
سكلمة مُسترسِلٌ بحديثه السيَّال كتدفُّق
نهر فاض في نيسان، بقوله:
-"حكمتي
المُفضَّلة في الحياة: (من تأنَّى نال ما تمنَّى)، لم أكُن مُتعجِّلًا
شيئًا في حياتي كلِّها، تمهَّلتُ جدًّا.. اِمْتلكتُ نَفَسًا بطيئًا، درَّبتُ نفسي
خلال عملي مع الرَّئيس، الفترة الطَّويلة التي قضيْتُها قريبًا منه أفادتني
بالتريُّث لأيِّ أمر مهما كان صغيرًا أم كان كبيرًا. الأمر سيَّان، المُراهنة على
صبر الانتظار وتسرُّب الزَّمن، لأنَّ الزَّمن كفيل بحلِّ أعظم المُشكلات تعقيدًا
وتشابُكًا، هذه النُّقطة أفادتني كثيرًا، فكلُّ الأمور جاءتني فيما بعد طائعة
راضخة أمام قدميَّ، ما دُمتُ ممسكًا بالخيوط أحركُّها كما يروق لي".
كأنَّ
كلام سكلمة تحرُّش مُستفزٌّ لجورج، عندما تحفَّز للكلام، كأنَّ
الفُرصة مُواتية لقذف المكنونات المُكدَّسة في دواخله بأكوام تفوق حجم الشَّرق
الأوسط بأكمله:
-"أُجيد
الاِنْتظار بلا ملَلٍ، كثيرًا ما سمعت مَنْ هم حوْلي يتهامسون وغضبهم باد من حركات
شفاههم، وأيديهم، وتعابير وجوههم: (على أنَّني بطيء في التَّفكير حدَّ الشَّلَل).
ربَّما أظنُّ أنَّ منشأ ذلك هو ترتيب الأفكار الذي يحتاج للهدوء، لإتاحة مساحة
واسعة لرُؤية ناضجة.
أوَّل
دروس السِّياسة التي تعلَّمناها ووَعَيْناهَا بدقَّة: أنَّ قطف الثِّمار ربَّما
يتأخَّر عن موعده المحسوب؛ بسبب الظروف المناخيَّة مثلًا، وفي السِّياسة قطف
النَّتائج بعد مُقدِّمات طويلة عريضة؛ من المُمكن جدًّا أن تحتاج لسنوات قادمة،
بحاجة الاِنْتظار بأعصاب باردة، أبرَد من أعصاب الإنكليز".
لم
يفطنا لمسافة الطَّريق. شعورهما غامر بالمِشْوار النَّادر، ولن يتكرَّر بمثل هذه
العفويَّة، بلا تخطيطٍ مُسبَقٍ. بعيد عن التكلُّف، والمُبالغة في التَّحضير،
والإعداد لبروتوكول الاِسْتقبال والضِّيافة.
البساطة
في التعامل تُضفي حميميَّة على اللَّحظات، وتمحي مُنغصِّاتها السَّوداء، وتفتح
آفاق النَّفس للترويح والاِنْبساط. اِقْتناص الفَرَح مهارة لا يُجيدها إلَّا
الأذكياء؛ إذا اِسْتطاعوا التخلُّص من كاريزماتهم بسهولة.
..*..
انقضت ساعات اللِّقاء بنقاشات طالَت الحرب،
والتحالُف الدوليِّ غير المسبوق في التَّاريخ على العراق، وتجييش العالم ضدَّه.
عفويَّة العلاقة بين الأشخاص تُضفي عليها الصِّدق. اِمْتزاج الفرح والسُّرور
بالحزن واليأس بآن واحد.
هما
لا يعرفان أنَّهما يتشاركان الحالة نفسها إلَّا لحظة الوداع الأخير. يستحيل تحديد
موعد آخر اِسْتنتجا ذلكَ، واِسْتقَرَّ في نفسيهما. تبدُّل الظُّروف والمُعطيات؛
بعد تراخي يديْهما عن الإمساك بحبال طالما كانت مشدودة عليها. جاء آخرون وسحبوها
ببساطة. إنَّما أقوى الرِّوايات قامت بسحب البِّساط من تحتهما.
جورج
ما زال مُستمتعًا بلقاء صديقه سكلمة بعد رُجوعه مساءً للبيت، عندما
اِسْتلقى على الكنبة في الصَّالة، وراح يُفكِّر ببعض نُقاط الحديث الذي اِسْتحوَذ
على نفسه، والذي بدوره يبدو سعيدًا إلى حدٍّ ما؛ باِجْتماعها في الويمبي لساعات
قبل انتهاء جلستهما وذهابهما لتناول الغداء.
..*..
تأفُّف سكلمة من الفراغ الذي يُعانيه تجميد وظيفته، كمُستشار في ديوان
رئاسة الجُمهوريَّة قبل سنوات، حصل بعد اِجْتماع المطبخ السياسيِّ؛ لدراسة الموقف
تجاه قضيَّة دُخول الجَيْش العِراقيِّ للكُويْت
واِحْتلالها.
سكلمة بكلِّ ثِقَةٍ من صَوَاب مَوْقفه،
أعلنَ رأيه صراحةً: "بأنَّه يجب الوُقوف مع العراق، أو على الحِيَاد في أسوأ
الحالات. لكنَّ هذه المرَّة كانت الأولى والأخيرة، عندما هبَّتِ الرِّياح بما لا
تشتهي السُّفُن".
وفي
تقريره الكتابيِّ الذي قدَّمه: "ليس من الحكمة إرسال الجنود
السُّوريِّين إلى حفر الباطن وعرعر،
والوقوف مع الأمريكان، ومن أجل ماذا سيموت شبابنا؟. أمهاتهم وزوجاتهم
بحاجتهم. القضيَّة ليست قضيّتنا.. لا ناقة لنا فيها ولا جَمَل".
رئيس
الدِّيوان المكلَّف باستلام نتيجة تقارير اللِّجنة الاِسْتشاريَّة، ويشتغل على
تلخيص جميع الأوراق بخصوص مناقشة الموقف،
وبحث جميع الاِحْتمالات بصراحة تامَّة، وبلا تحفُّظ.
لفَتَتْ
اِنْتباهه عبارة: (ليس من الحكمة). القلم ذو اللَّوْن الأزرق بيده وضع
تحتها خطًّا، وأعاد بيده جيئة وذهابًا مرَّات؛ لتعميق اللَّون كَيْ يتَّضح بجلاء، لتقع
عليْه عَيْن السيِّد الرَّئيس بسهوله، ويلفت اِنْتباهه من أوَّل نظرة على الورقة،
وضلَّلها بِلَون فُوسفوريِّ، وكَتَب على الحاشية عبارة لتأييد وجهة نظره: (إذا
كان رأينا ليس من الحكمة. أيعني أنَّنا متهوّرون وخاطئون؟). وأتبعها
بتوقيعه.
في
اليوم التَّالي صدر أمر: "بتجميد وظيفة سكلمة، ويُترَك مكانه شاغِرًا لحين
اِنْتهاء القضيَّة، وتُصرَف له كافَّة رواتبه ومُستحقَّاته، كما لو أنَّه على رأس
عمله".
-"تخيَّل
يا صديقي أنَّني اِسْتَمَتُّ للحُصول على مقابلة الرَّئيس لخمس دقائق فقط، لمعرفة
السَّبب لاِتِّخاذه قراره. لم يُسمَح لي بالوصول حتَّى لمُدير مكتبه. جاءتني
التَّعليمات دُفعة واحدة، ومُقتضبة باختصار شديد، فهمتُ الأمر باِنْتهاء
صلاحيَّتي. لم أعُد للمحاولة ثانية.
قسمًا
بالله لو كنتُ أعلمُ شيئًا على وديعة (رابين)*،
وبما حَمَلته جَيْبُ (كلينتون)*
لما كتبتُ رأيي بصراحة تامَّة. قَدَر الإمكان تَوَخَّيْتُ الصِّدق في النُّصْح..
ولكنَّه اِرْتدَّ عليَّ عكس ما أردت، ولم يُحاسبوني على طيب نِيَّتي. الخطر كَمُن
في التأويل المُعاكس تمامًا لِقَصْدي".
تسلَّمتُ
نُسخةً من الأمر الإداريِّ بتوقيع الرَّئيس باللَّون الأحمر، وهو المسؤول الوحيد
هو المُخوَّل بالتوقيع بالأحمر فقط في سوريَّا. تمَّ إيصالها إلى بيتي عن طريق
مُراسلٍ يعملُ هناك، بعد ثلاثة أيَّام من صدوره.
لم
أكُن سعيدًا بما آلَتْ إليْه حال الرَّئيس حينما اِبْتلع الطُّعم؛ فكما أنَّ
الغُصَّة وخيْبة الأمل أصابته؛ كنتُ أشعرُ صراحةً بشعوره العميق: بأنَّه طُعِنَ
غدرًا؛ حينما تنصَّل حُلفاء الأمس من وُعودهم الشَّفويَّة والمكتوبة، التي قطعوها
على أنفسهم.
سمعتُ
كلامًا من صديقي المُقرَّب، ناقلًا كلام أحد جُلساء خاصَّة الرَّئيس. بلهجة مليئة
بالأسى: (اِسْتغلُّوا وضعنا في سوريَّا، لِنَكونَ رأس حَرْبةٍ، وجسر عُبور لتحرير
الكُويْت، وجنودنا هم أوَّل من دَخلُوها.
صديقنا
"باتريك سيل"*،
أخبرني باِلْتزامات من الجانب الإسرائيليِّ تجاه سوريا: الأول قطعه "إسحاق
رابين" في أغسطس 1993 باِنْسحابٍ كامل من الجولان المُحتلّ إلى حدود 4 يونيو
1967، وبعد اِغْتيال "رابين" تمَّ تصديق هذا الاِلْتزام من قبل
خليفته "شيمون بيريز" في ديسمبر 1995.
وقد
نقل لنا شفاهيًّا "كريستوفر" عن لسان "رابين" طالبًا
منه بإخبارنا أنَّ: "إسرائيل مُستعدَّة لانسحاب كامل من الجولان، إذا تمَّ
الاِتِّفاق على طلباتها بالأمن والتطبيع". سمعتُ منه بأناة وتَرَوٍّ، ووعدته
خيرًا بدراسة الموضوع، ولن أرفض العرض رغم الطَّلبات المُبالغ فيها، مقابل اِلْتزام
"رابين" باِنْسحابٍ كُلٍّي إلى حدود 1967. إذا ما تمَّت المُوافقة على
طلباته ضِمْن صَفْقة سلام. وقد سلَّمني "سيل": صفحة واحدة عنوانها:
"أهداف ومبادئ الترتيبات الأمنيَّة". تأمَّلتُها بعُجالة، وإحساسي
بنظراته تخترق رأسي، لعلَّه يستجلي ما أُفكِّر به. وآخر كلمة قلتها له عند الوداع بأنَّ: "الصِّراع
ما زال مُستمِرًّا على الشَّرق الأوسط". قلبي يتراقص فرحًا، وشماتة؛
اِنْتقامًا لما حصل معي، ولم يسمح لي بتبرير مَوْقِفي ولو بكلمةٍ واحدةٍ، أو
الاِسْتماع لأبعاد رأيي الذي كتبته صريحًا.
جورج صامتٌ تلفُّه غمامة الدُّخان، فتُطوِّقه
بحاجز شفَّاف يفصله عن محيطه وضجيجه، وما إن اِنْتهى سكلمة من عبارته
الأخيرة، حتَّى اِعْتدل في جلسته، وعَيْناه اِنْفتحتا على اِتِّساعها كنظرة الألف
ياردة، واِنْتبَهتا لتنفُضا عنها الذُّهول والكسل، وبعد تنحنح بصوتٍ عالٍ هذه
المرَّة. قال:
-"لا
أُوافِقكَ يا أُستاذ على هذه اللُّغة الغريبة عنكَ، أكادُ أجزم أنَّكَ لستَ أنتَ.
غريب..!! هذا ليس أنتَ الذي كنتُ أعرفه معرفة حقيقيَّة.. وما زلتُ..!! أعلمُ يقينًا
أنَّكَ مُتسامِحٌ. كاد قلبي أن يتوقَّف؛
ممَّا سمعتُ، وضيَّق على صدري، وكتم على أنفاسي، حتَّى وصلتُ حدَّ الاِختناق، ومع
كلِّ ما قُلتَ عن مأساتِكَ..!! أستطيعُ تبريره لكَ. أمَّا الشَّماتة فلا مُبرِّر
لها، وأرفضُها رفضًا قاطعًا، ومن غير المُتوقَّع أبدًا؛ أن تُفكِّر، أو أن يطرأ
مثل هذا على تفكيركَ". لم يُبد سكلمة ردَّة فِعْل، ولو بأدنى درجة بتغيُّر
ملامح وجهه. لَاذَ بصمته. بينما حركات رأسه يمنةً ويسرةً، كأنَّها تحكي حكاية
نادمة على ما فات.
..*..
وداعًا بيروت:
"بيروت
تتَّسِع للجميع ولثرثراتهم ونَزَقهم ونَزَواتهم. اِعْتادت خلافاتهم بصبر وأناة،
ولا تضيقُ ذَرْعًا، ولا تنبذُ أحدًا. في بيروتَ لا حِسَاب على الثرثرة.
في
دمشقَ فاتورةُ الثَّرثرة باهظة الثَّمن.
وعلى رأي "نزار قباني": (يا ستَّ الدُّنيا يا بيروت).
بالضَّبْط هي مثلُ الأُمِّ ستٌّ لِلكُلِّ. قلبُها كبيرٌ يستوعبُ مُشاغَبة أبنائها
ورفاقهم، وعلى رأي أحدهم: (لبنان كالعقار ينام، ولا يموت)
ولا
أعرفُ سرَّ حُبِّ نزار العميق لبيروت: (ليس للحُبِّ ببيروتَ خرائط.. اِبْحثي
عن فُندقٍ لا يسأل العُشَّاق عن أسمائهم، فإن الحُبَّ في بيروت مثل الله في كلِّ مكان). من شَرِبَ ماءها، واِسْتنشقَ هواءَها عشقها. سيعود لها
اشتياقًا حرَّاقًا ولو بعد حين".
ما
إنْ اِنْتهى سكلمة من كتابة الكلمة الأخيرة من خاطرته في دفتره رفيقه
الدَّائم المُرتحِل معه أينما حلَّ. تحت عنوان: وداعًا بيروت. راح يتأمَّل بطاقة
السَّفر للتأكُّد من صحَّة المعلومات، ورقم، وتوقيت رحلته. بعد اِقْتراح صديقه جورج
بتبديل وِجْهَة سفره من باريس إلى لُوزان في سويسرا، وبعد إقامته لشهر
سيغادر إلى باريس.
أعادها
إلى المُغلَّف، وشكر الشَّاب الأنيق الذي ما زال ينتظر. اِسْتخرج ورقة المئة دولار
ناوله، اِنْعقد لسان الشَّاب ظنَّ أنَّه سيطلب منه جلب أو شراء بعض الحاجات، فوجئ
حينما مدَّ سكلمة يده، بقوله: "هاي إكراميَّة لكَ".
غادَرَ
الشَّابُّ، ونشط لسانه بترديد كلمات الشُّكر والثَّناء على جَزالة البقشيش غير
المُنتظَر. قبل أن ينام في آخر اللَّيْل، أَوْدَع بطاقة سفره، والجواز مع دفتره
الأثير على نفسه، في حقيبة (السَّامسونايت)، وحرَّك دواليب الأرقام السريَّة،
وركنها على طاولة بوسط الغرفة قُبالة سريره.
..*..
مدينة
لوزان. سويسرا
(3)
لوزان: فندق بوريفاج.
وقالت البُحيْرة على لسان سكلمة:
-"ما
لعنة الأوطان إلَّا الموْت المُحتَّم؛ إِذْ تتبرعم الأرواح وتحيا في ديار بعيدة،
النُّفوس المُتعبة لا راحة لها في ظلِّ الأشواق والحنين.
تبتعد
الخيالات غوْصًا في لُجَّة المعقول واللَّامعقول، والحلال والحرام، وفي الكُفر
والإيمان، والشَّكِّ واليقين. اِنْفلاتٌ بلا حُدودٍ غير مُلتَزِمٍ، وغير مُحايِد.
والأسوأ هو الفهم الرَّديء لأيَّة قضيَّة سيُعقِّدُ الأمور، ويُغلق نوافذ الُحلول
السَّهلة والمنطقيَّة والمُتاحة"[34].
الأسبوع
الأوَّل كان فُرصة نادرة لاِخْتلاء سكلمة بنفسه، للاِسْتراحة والاِسْترخاء.
قبل مجيء موعده المُؤكَّد مع الطَّبيب النَّفسيِّ "شنوان" الذي
تربطه بجورج علاقة جِوَار في سكنه مُقابل بيت جورج في أحد ضواحي بيروت؛ فأنشأ
صداقة متينة؛ منذ أيَّام دِراسته في الجامعة الأمريكيَّة.
..*..
الإقامة قُبالة بُحيْرة جُنيف (ليمان) هُروب من رواسب سميكة،
فُرصة لاِسْتعادة ممَّا تبقَّى صالحًا من مشاعره وأحاسيسه. كنتُ لوقت طويل حبيسَ
أروقة المكاتب خلف السَّتائر المُزدوَجَة البطائِن. اِهْتراء أعصاب فظيع سوَّد
أيّاَمي. حجب المُتعة والرَّفاه عن ساحات حياتي الطَّويلة.
العملُ
المكتبيُّ سِجنٌ اِختياريٌّ. البروتوكول الخاصِّ بوظيفتي كان حارسًا يقظًا لا ينام
عن مُراقبتي؛ فصرتُ رقيبًا أمارس التدقيق والتفتيش على أيَّة حركة، أو كلمة من
المُمكن أن تصدُر عنِّي، وضعت على فَمِي ليس قفلًا واحدًا، بل أقفالًا تنوءُ
بحملها العُصبة من الرِّجال الأشدَّاء. مؤلمٌ أن يُراقب المرء نفسه، ويخاف من حاله،
إذ يُتوقَّع الوشاية بنفسه ذات يوم ما.
الأماكن
الحسَّاسة قبور مُنتقاة بعناية للحياة. الآخرون يتمنَّون وظيفة لهم فيها، لو يدرون..!
لما سَمَحُوا لأنفسهم بالسَّعي إليها، ولا بمُجرَّد التَّفكير.
أظُّن
جازمًا أنَّهم وصلوا لدرجة الاِنْبهار، مثلما اِنْبهر النَّاس بقارون
وأمواله وزينته حينما رأوه، (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ. قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ
لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). ومن أُعطي شيئًا عليه الدَّفع
بأشياء.
..*..
عيناي على مدار السَّاعة تبتعدان عن شُرْفة جناح (السُّويتْ) الفاخر،
في فندق (بوريفاج) لتأمُّل سطح
البُحيْرة. زُرقتها المُثيرة كما زُرقة السَّماء، ساحات فسيحة مُريحة لتسرح القلوب
والأرواح، تصل بينهما النَّظرات المُستوحية من معانيهما راحة وطُمأنينة، وإذا ما
ضاق سطح البُحيرة على نفس؛ اِنْطلقت إلى رحاب السَّماء رافعة يديْها وعينيْها.
مُخطِئٌ
من ظنَّ أنَّ الأماكن لا تتعاشق وتتآلف. بناء الفندق والبُحيْرة صديقان أزليَّان
في حالة عِشق دائم. بعلاقة تبادُليَّة بلا اِنْقطاع. حبٌّ صامتٌ مُتلازم بتفاعل
هادئ بين عناصر المكان.
صباحًا
الشَّمسُ تدفع بظلِّ بوريفاج ليرتَسِم على وجه البُحيْرة السَّاكن، وبعد
منتصف النَّهار إلى قُبيْل المَغِيب بقليل؛ لا تبخل الشَّمس بإرسال نورها إلى
واجهة الفُندق الغاصَّة بالزَّخارف الدَّقيقة، ولا تتركُ وجه البُّحيرة طيلة
اليوم. فُرصة البُحيْرة لتُرسل بريقها الفِضيِّ لمعانقة وجه بوريفاج؛ فهي
لا تحتمل فِرَاقه لساعات اللَّيل حين تختفي ملامح البشر؛ يعود لِيُرسل إليْها
أضواءه المُلوَّنة.
الحبُّ
الصَّامت.. لا يعني الفراغ واللَّاشيء. حالاتُ الصَّمت تتواثب على فِرَاش العَتْمة
دوْمًا.
طوابقه الستَّة المبنيَّة على طراز مِعْمار
القُرون الوُسطى، أشبه بمنظر القُصور الملكيَّة. (خير الأمور أوسطها) قالها
سكلمة لجورج عندما سأله: "في أيِّ طابق تريدُ أن تسكن؟". تأكَّد
جورج، ومن فوره ثبَّت الحجز: "يعني الطَّابق الثالث؟". اِهْتزاز رأس
سكلمة للأسفل بِحركَتيْن؛ علامة المُوافقة مع السُّكوت.
بعد
وُصُولي مطار لوزان، والانتقال إلى الفندق لم يُعكِّر مِزَاجي أيَّ شيءٍ أبدًا،
المواعيد الدَّقيقة، والتَّنظيم السَّليم لعمليَّة التَّفتيش السَّريعة، وخَتْم
جواز سفري لم يستغرق أكثر من رُبع ساعة حتَّى كُنتُ خارج صالة القادمين.
رائحة
النَّظافة تشدُّ الرُّوح بقوَّة، لطافة مُوظَّفي الجمارك والأمن لافتةٌ للاِنْتباه،
واِبْتساماتهم الثَّابتة، وبشاشة وجوههم مَبعَثُ راحة وطُمـأنينة، هم حريصون على
ذلك، اِعْتادوا رؤية وجوهٍ بأشكالٍ مختلفةٍ من كلِّ أنحاء العالم.
القادمون
جيوبهم مُتخَمة بالأموال، جاؤوا من أجل الرَّفاه، المال مُقابل الرَّفاه. مصدرٌ
نابضٌ مُتجدِّد رافدٌ للدَّخل القوميِّ للدُّوَل الفاهمة بتسويق كلِّ شيء. جميعهم
ينتظرون الصَّيف مَوْسم المواسم عندهم.
فخامة
المكان أكَّدت السَّبَب الحقيقيِّ وراء اِخْتيار جورج للبوريفاج. لولا
أنَّه جرَّب سابقًا النُزول فيه لما شجَّعني على ذلك. تاريخ عريق منذ إنشائه (1861)
، أكثر من مئة وأربعين عامًا مضَت على تدشينه، كم سبقني من نُزلاء فيه من الملوك
والرُّؤساء والفنَّانين ومشاهير العالم، وها أنا آخرهم.
التاريخ
يُكتَب هنا بأيدٍ تلبِسُ القُفَّازات البيضاء ذات الملمس النَّاعم؛ لشُعوب تقطنُ
أقاصي المعمورة البعيدة في القارَّات الأخرى. ستائر السِّياحة تحجُب وُجوه
المُجتمعين الحريصين على سريَّة جلساتهم بإخفائها عن أعيُن الصَّحفيِّين
الفُضوليِّين والفضائحيِّين.
(حاز فندق بوريفاج على سُمعة طيِّبة، لكونه أحد الفنادق المُفضَّلة في أوروبَّا،
من ناحية الخدمة، والجودة العالية التي يُقدِّمها. يمتدُّ على مساحة عشرة هكتارات
من الحدائق، فوق ضفاف بُحيْرة جُنيْف في مدينة لوزان، وتتميِّز أبنيته بأناقتها من طِرَاز حقبة الاِشْتراكيَّة.
وهي
تحبسُ الأنفاس بإطلالة عبر البُحيْرة على جبال الألب الفرنسيَّة المهيبة. يُقدِّم التَّصميمُ المعماريُّ الفاخر،
والقطع الأثريَّة تجربة فريدة من نوعها من الماضي المجيد؛ سيعيشها الضُّيوف في كلَّ
الأماكن العامَّة والخاصَّة.
من ناحية أخرى يشعر الضُّيوف بأنَّهم في المنزل
على الفَوْر، وذلك بفضل طاقم المُوظَّفين الوَدودُ واللَّطيف، والذي يضمُّ خدمة بوَّاب
تُديرها الإناث، وهي وحيدة من نوعها في سويسرا).
صالة
الاِسْتقبال لوحة فنيَّة باهرة بكلِّ
المعايير؛ تحكي سيرة الفخامة الفائقة لعراقة المكان بلا اِسْتئذان. كان جورج
على حقٍّ. ليتنا كُنَّا سويَّة، سأتَّصل به لأُشجِّعه على الاِلْتحاق بي. شُعورٌ
عميقٌ يُراودني بأنَّ روح أبي ساكنة بالمكان، ومن غير المُستَبعَد أنَّ مُعلِّمنا الرَّئيس
الأسد نَزَل ذات يوم بوريفاج أو قريبًا منه.
لا
أدري ما الذي أخذني إلى الظنِّ الأقرَب بأحد أوْجُهِهِ لليقين. أثر الخُطوات راسخٌ
في لوزان وجُنيْف، ومدينة "إيفيان" شريكتهما الفرنسيَّة المطلَّة
على بُحيرة جنيف (ليمان)، مدُنٌ حافظة أسرار مُديري العالم ومُشغِّليه.
..*..
على شُرفة بوريفاج:
الشُّرفاتُ نوافذُ رَاسِلةٌ ومُرسِلةٌ. بيوتٌ بلا شُرُفاتٍ
قُبورٌ حُبْلى بالأسرار والعتمة والغبار، وتُطفِئ أنوار الأرواح المُتواثبة.
والشُّرُفاتُ وسيلةُ تواصُلٍ مُنفتِحةٍ على الشَّارع بتفاعلاته إيجابًا وسلبًا.
وما بين الاِنْفتاح والاِنْكفاء مسافاتٌ مُتناقضاتٌ بمُعطياتٍ
مُتقاربةٍ مُتباعدةٍ بآنٍ واحد. الشُّرفةُ مُتآخِيةٌ مع الطَّريق والمُحيط بكامل
جُغرافِيَّته.
سَرحَت عيْنَا سكلمة في متاهات الجبال المُطلَّة على بُحيْرة
جُنيْف (ليمان) الواسعة المُمتدَّة.
أسرابُ النَّوارس البَيْضاء تهبط لتغوص تحت الماء بحركات
بهلوانيَّة مُتشابهة، وتعلو ثانية، كأنَّها تستمتع بتضييع وقتها في اللَّعِب،
وتتزاحم الغِرْبان السُّود؛ فهل كان الصِّراع
عُنصُريًّا كما بيْن البيض والسُّود.
غريزة البقاء دافع رئيس للبحث الدَّؤوب عن الطَّعام. ومن أجل
الطَّعام تحدُث صراعات ومعارك؛ لا رحمة ولا تفاهُم في معركة البقاء؛ فتشتَبِك
المناقير الحادَّة لاِسْتخلاص ما سُلِب منها بالقوَّة. قانونٌ أزليٌّ: (ما أخِذ
بالقُوّة. لا يُسترَدُّ إلَّا بالقوَّة). وعلى السَّطح تتهادى مع حفيف
النَّسيم فيُثير تماوُجَاتٍ هادئة؛ تنطلق قوارب التجديف الصَّغيرة، واليُخُوت
الفارهة تذهب بجولات مأجورة للسُيَّاح.
من الشُّرفة اليُمنى المُحاذية لشُرفته، اِنْفلتَت رائحة عطر
من عِقَال حَيِّزها المكانيِّ؛ لتقتحم أنف سكلمة، ومن يجلسون في أماكن أخرى
قريبة. العطر لا يستأذن. الاِسْتئذان ليس من عادته، ولا ينتظر الموافقة بل يقتحم؛
يحتلُّ الأُنُوف شاء صاحبُها أمْ أبَى.
رغبةٌ عارمةٌ تأجَّجت بنشوة اِشْتهاء بنفس سكلمة، تراءى
له خيال اِمرأة خارجة من الحمَّام من فورها، وبُخار جسمها يُشكِّل غلالة من ضباب
شفَّافة؛ تُشوِّش على المُتلصِّص صورتها. بينما تلتفُّ المنشفة على أسفَل وسطها. حُبيباتُ
الماء تتناثر على صَدْرها كحبَّات لؤلؤ على سطح طاولة، تخضع لفحص دقيق بِعَيْن شاريها.
تخيَّلَ سكلمة أنَّها "ماري شيلي" عندما جاءت من بريطانيا، وأعجبتها الإقامة في
لوزان؛ لتكتُب روايتها "فرانكشاين" الأشْهَر على الإطلاق، وأنَّها
نامَتْ مع عشيقها "بيرسي شيلي" الذي تزوَّجته بعد ذلك، وتمرَّغت
بأحضانه على ذات السَّرير الذي ينام عليه، وجلس على نفس الكُرسيِّ الذي يجلس عليه
الآن.
لولا أنَّها بمجيئها البعيد حيث سبقته بإقامتها هُنا، تاريخ
تأسيس بوريفاج قبل قرابة السِّتَّة عقود. لكانت قد صدقت أوهام سكلمة
وخيالاته المهزوزة، المُتزامنة من اِهْتزاز رُعاشٍ مُفاجِئِ، اِنْتفضت أعضاء جسده
بحركة عنيفة، كأنَّما أصابه مسٌّ من الجنَّ.
يدٌ حانية بكفِّها السَّميكة والضَّخمة تحطُّ بثقلها على
كَتِفه. تخشَّب ثانية، واِنْعقد لِسْانه بلا أدنى حركة، مع أنَّه مُتأكِّدٌ من
إحكام إغلاق باب الجناح.
رأى بطَرَف عيْنه خاتم أبيه الفِضيِّ ذي الخَرَزة العَسَليَّة
الكبيرة المُوشَّاة ببياضٍ على شكل خيْطٍ رفيعٍ مُتعرِّجٍ مُشِعٍّ من داخلها. ممتَدٌّ
من أسفلها إلى رأسها المُدَّبب؛ على شكل القِباب المملوكيَّة الشَّامخة في دمشق
والقاهرة.
..*..
عبقريَّة المكان تدفع بمخزونات
خيالات مُبهِرة، وتفتح شهيَّة التَّفكير، وتُتيح فُرصة للتأمُّلات العميقة، وإعادة
تقييم الذَّات وعلاقتها مع صاحبها، وفي تشابُكاتها وتعالُقاتها مع محيطها الكَوْنيِّ
بأطيافه العديدة.
من موقعه الثَّابت على شُّرفة بوريفاج. يبدو أنَّه
غارِقٌ مُستَغرِقٌ في لُجَّة الموسيقا العربيَّة، يُطلقها جهاز حاسوبه(اللَّابتوب)
رفيقه الدَّائم أينما حلَّ واِرْتحَل. تتوالد الأفكار والأسئلة مُنهمِرة مثل المطر
هنا، بعد سنواتٍ عِجَافٍ قضاها في دمشق.
مع تردُّدات الأنغام الهادئة من سمَّاعات الفندق المُثبَّتة
في أسقُف الدِّيكور المُستعارة. توليفة من الاِنْسجام تبعثُ راحةً في النَّفس واِنْشراحًا
للصَّدر؛ ساعدت سكلمة بإطلاق خيالاته المُنْثالَة سَيَلانًا بتدفُّق وفير
صَرَف اِهْتمامه بعيدًا من مكانه؛ فتخيَّل الموسيقيِّ الألمانيِّ "ديفيد بوي"
عندما جاء إلى مدينة جنيف المُقابلة لمدينة لوزان، من الشُّرفة غير الممكن رؤية
الشَّاليه هناك في الشَّمال على ضفاف بُحيرة جُنيْف؛ الذي نزل فيه ديفيد؛ عبقريَّة
المكان ألْهمَته إبداع ثُلاثيَّته العالميَّة (ثُلاثيَّة برلين).
طبيعته الرُّومانسيَّة لوحظت على سُلوكه الجادِّ حدَّ
الصَّرامة في وظيفته، وأمام زائريه ومعارفه الذين يقصدونه لخدمة مُعيَّنةٍ، أو
بطلب لتسهيل أمرٍ ما.. لحاجتهم، وما أكثر هذه الطَّلبات.
عاش خلف أقنعة مُتعدِّدة الألوان. أناقته الفائقة بمظهرها،
كان يعرف متى يبتسم.. ومتى يهزُّ رأسه؛ كي لا يُطلِق لسانه في جِدَال، أو ترديد
كلام غير مرغوب فيه. دماثة خُلُقه حجبِتْ الأقنعة عن الأعيُن والآذان المُتطفِّلة.
في بيته بعد عودته لا يتردَّد لحظة واحدة في أن يُحكم إغلاق بابه، بل ويتأكَّد من ذلك. يُغلق
هواتفه النقَّالة، إلَّا خطًّا واحدًا لا يُمكن إغلاقه أبدًا مهما كانت الظُّروف
والأحوال – الخطُّ السَّاخن -،
هنا يخلع جميع الأقنعة والملابس، وبمُجرَّد ضغطة كبسة آلة تشغيل الأقراص المُدمجة،
تنطلق موسيقا "مونانور" الهادئة في أغلب الأحيان، يتمدَّد على
الكَنَبة بعد خلع ملابسه، يغفو وقتًا غير مُحدَّد؛ ليُريح أعصابه إذا لم يكُن مُرتبطًا
بموعد. كان هذا المنوال الرُّوتينيِّ قبل إيقافه عن العمل.
بعد ذلك اِنْقلبت حياته رأسًا على عَقَب، معظم أيَّامه تتشابه
في رتابتها وهدوئها؛ فتحوَّلت إلى روتين مرَضيٍّ، الموسيقى الهادئة طيلة ساعات
النَّهار لا تهدأ أثناء صَحْوِه خلال النَّهار، وفي ساعات اللَّيل المتأخِّرة ينتقل
إلى رومانسيَّات أمِّ كلثوم، وفريد، ومحمد عبد الوهَّاب.
لم يترك الكآبة تستولي عليه طيلة فترة اِحْتجابه عن الجمهور،
جاءته هديَّة من السَّماء؛ لإرواء نَهَمه من القراءات المُؤجَّلة من قَبْل. مكتبته
الضَّخمة عامرة بالألبومات الموسيقيَّة، وبالموسوعات والكتب والمجلَّات العلميَّة
والتاريخيَّة والسِّياسيَّة والأدبيَّة، ومحبَّته الفائقة للأعمال الرَّوائيَّة
العربيَّة والمُترجمة أو بلغات مثل الفرنسيَّة والإنكليزيَّة؛ فقد اِحْتلَّت أرْفُفًا
بأكملها.
خلال سَفَراته وتنقُّلاته الكثيرة إلَّا السِريَّة والخاطفة
ووقتها القليل المحدود؛ فلا يستطيع كَتْم رغبته بتسوُّق الكُتب. إنَّها جزء أصيل من
برنامج زيارته في البلد الذي يذهب إليه.
نشطت تداعيات ذاكرته، اِسْتعاد أجزاء كانت مفقودة منه. ما
السِرُّ في لوزان..! ولماذا قصدها الإنكليز على وجه الخُصوص: "ماري شيلي"،
وعشيقها "بيرسي شيلي"، و"اللُّورد بايرون"؛
ليعملوا رِهانًا مُختلِفًا عن رِهَانات السِّباقات والمُباريات. رهانٌ لمن يستطيع
كتابة أفضل وأقوى رواية رُعْبٍ أُسطوريَّة..! غير مسبوقة.
هذه البنت –ماري شيلي- ذات الثمانية عشر ربيعًا فازت بروايتها "فرانكشتاين"
الأشهر عالميًّا. مازالت القصَّة ماثلة في ذهن سكلمة، مع اِنْطلاق دُخان سيجاره
الكوبيِّ في أجواء الشُّرفة؛ ليُشكِّل خُطوطًا هارمونيَّة تتصاعد مُتماوِجَة ببطء
وهدوء مع الموسيقا.
عيْناه ساهمتان بعيدًا عن البُحيرة، تُرسلان نظراتهما في
الجبال المُقابِلة من جهة جنيف، كأنّه يبحث عن الوحش الأسطوريَّ فرانكشتاين، أو (إله
النار الجديد)، وكانت "ماري شيلي" تقصد من روايتها بِتَأليه
بطلها.
"فيكتور فرانكشتاين" الشَّابُّ العالِم، وفي
مُختَبره يتمكَّن من خلال تجربة علميَّة من صُنع مخلوق عاقل غريب، يُشار إليه
بالوحش الذي يتحدَّث ذات يوم إلى العالِم "فيكتور فرانكنشتاين". قائلًا:
-(كنتُ يجب أن أكونَ آدَمَ الخاصّ بك، لكنِّي بَدَلًا من ذلك
كنتُ المَلَاكَ السيِّىء). هرب الوحش بعد أن جعل حياة "فيكتور
فرانكنشتاين" جحيمًا ومأساة دائمة، وأُصيب بالمرض، ثمَّ عاد إلى منزله
بعد علاجه وتعافيه.
عندما عَلِم بقتل أخيه ويليام. ومع وصوله إلى جنيف رأى
المخلوق الوحش بالقُرب من مسرح الجريمة يتسلَّق أحد الجبال، ممَّا دفعه للاِعْتقاد بأنَّ المخلوق الذي صَنَعه هو
المسؤول عن جريمة مقتل أخيه.
غادر فيكتور مُتَع الحياة مُنعزِلًا كراهبٍ زاهدٍ اتّخذ من بيْن
الجبال صومعة له، كان حزينًا لشُعوره بعُقدَة الذَّنب، وبأنَّه المسؤول عن أحزان
وعذابات الآخرين المُتضرِّرين من المخلوق الغريب، عندما رأى اِنْعكاس شكله في بركة
ماء؛ أدركَ أنَّ مظهره الجسديِّ كان مُختلفًا وبشعًا. أرعبه شكله مثلما تذكَّر بأنَّه
مَصدَر الرُّعب للبشر العاديِّين.
عاد المخلوق لرُشده، وطلب من فيكتور أن يخلُق له رفيقة أنثى
مثله. وقال له: "أنا كائنٌ حيٌّ ولَديّ الحقَّ في السَّعادة". وعده
المخلوق بأنَّه سيختفي هو وأنثاه في البريَّة في أمريكا الجُنوبيَّة، ولن يعود للظُّهور
مرَّة أخرى إذا وافق فيكتور على طلبه. وقام بتهديد فيكتور إذا ما رَفَض طلبه، وسيقتل
أصدقاءه المُتبقِّين وأحبَّاءه، ولن يتوقَّف عن الإجرام والفَتْكِ والعبث بحياته
الخاصَّة حتَّى يُدمِّره تمامًا.
..*..
جورج أين أنت الآن يا
جورج.. لَيْتنا معًا هنا، لتكتمل مُتعة الرِّحلة. أتذكَّر كلامك عن لوزان وأنَّها أمُّ
المُتعة والمتاحف، والنُّقطة الأهمّ عندما ركَّزتَ على قُدرتها العجيبة الجاذبة المُستَقطِبة
للطَّاقات.
قبل كلامك كنتُ أجهل معرفة الأسباب التي من أجلها غادر "تشارلي
شابلن" بريطانيا بلده الأصليِّ إلى أمريكا؛ لِيُصبح مُواطنًا أمريكيًّا
مشهورًا، ومُطارَدًا خلال المرحلة المكارثِيَّة بتُهمة اِنْتمائه
للشُّيوعيَّة، ولم يُسمَح له بالعودة إلى الولايات المُتَّحدة؛ فقرَّر الإقامة في
سويسرا حتَّى وفاته في مدينة "فيفي" بجوار بحيرة ليمان
(جنيف).
العطاء لا ينتظر مُقابلًا.
لَفَظَتْه بلاده طريدًا؛ فاحتضنته هذه البلاد، واِكْتسبت
المنطقة شُهرة أوسع، حينما خلَّدوا ذِكْره بتمثالٍ برونزيٍّ تذكاريٍّ على كورنيش "فيفي"
مُقابِل البُحيْرة، ولم يكتفوا بهذا، بل قاموا بتحويل منزله إلى مُتحَفٍ
بالاتِّفاق مع أبنائه الورثة، واِحْتوى على جميع مُتعلَّقات حياته، وأدوات مِهنَتِه
بالتَّمثيل، من العصا والقُبَّعة وحذائه. عبارته الشَّهيرة موثَّقة على لوحة (ستنالس
ستيل) مؤطَّرة يحميها بلُّلور شفَّاف: (إنَّ فنِّي هو فنٌّ من أجل الشَّعب).
التاريخ يُحنَّط هُنا، ولا يُعاد بأيِّ شكل وعلى أيِّ شكلٍ
كان. ثبُتَ الأمر جليًّا، وبما لا يدُع مجالًا للشكِّ أنَّ: التَّاريخ لا يُمكن أن
يُعيد نفسه مهما حصل. قناعة الكثيرين.. على أيٍّ أساس بَنَوْهَا..!.
سكلمة تبتعد عيْناه صوْب الجهة الفرنسيَّة لبحيرة جنيف (ليمان)،
وقريبًا من مدينة جُنيف، ويتخيَّل "فلاديمير لينين" قائد الحزب
البَلْشفِيِّ الرُّوسيِّ، وصانع الثَّورة البلشفيَّة، جاء واِسْتأجر شاليهًا مُؤقَّتًا
قبل إقامته النهائيَّة في مدينة زيوريخ السويسريَّة، وعند وصوله صرَّح
للسُّلَطات: (لستُ هاربًا من الجُنديَّة، ولا مُنشقًّا، ولكنَّني مُهاجرٌ
سياسيٌّ).
ثمَّ تمكَّن من الحصول على اللُّجوء دون مواجهة صُعوبات؛
ليتمكَّن من إعداد بعض الكُتُب، واِسْتخدام المراجع اللَّازمة من مكتبتها المركزيَّة،
وقد أنجز كتابه الشَّهير "الإمبرياليَّة"، وعدَّها المرتبة
الأعلى من الرأسماليَّة.
لتتأجَّج في نفسه ثوريتَّه على أُسُس مذهبه اللِّينينيِّ السِّياسيِّ؛
ويرفع شعاره: (الأرض والخبز والسَّلام)، ولم يستطع إقناع رفاقه السويسريِّين
بضرورة القيام بتمرُّدٍ بروليتاريِّ، وعندما يئس منهم وصفهم بــ"الاِجْتماعيِّين
السِّلميِّين السويسريِّين"، وبــ"النَّذْلِ السَّفيه".
عاد إلى روسيا مع
تغيُّر الظُّروف السياسيَّة فيها، وبعد سنتيْن من عودته؛ تكلَّلت جُهوده مع رفاقه
البلاشفة من تأسيس دولة "الاتِّحاد السُّوفييتيِّ"؛ المُتلاشية
عن خارطة العالم بعد سبعين سنة مع مجيء (غلانستوت غورباتشوف؛ القائمة على الاِنْفتاح
والشفافيَّة في أنشطة جميع المُؤسَّسات الحكومية، وحُريَّة الحصول على المعلومات،
حينها اِعْتقد بأنَّها ستُساعد على التخفيف من الفساد المُستشري في الطَّبقات العُليا
بالحزب الشُّيوعيِّ والحكومة السُّوفياتيَّة، وتخفيف التعسُّف في اِسْتخدام السُّلطة
الإداريَّة في اللِّجنة المركزيَّة السُّوفيتيَّة).
وكان اِنْهيار جدار برلين هو الِمسْمارَ الأخيرَ الصَّدِئَ
القويَّ، والإسْفِين الذي دُقَّ في نَعْش دولة "الاتِّحاد السُّوفييتي"
القُطب الثَّاني الذي كان بعد أمريكا.
..*..
المتحف الأولمبي.
لوزان:
سأستغلُّ
الفراغ هذه الأيَّام قبل حُلول موعدي مع الطَّبيب شنوان. بالفعل أن: (الوقت
كالسَّيف إن لم تقطعه قطعك). يا لنشاط ذاكرتي باِسْتحضار أشياء حفظتُها منذ
صِغَري أيَّام المدرسة..!
الفُرص
غير مُتاحة في أيِّ وقتٍ. لو كنتُ أدْري أنَّ الوضع بهذه الصِّيغة هنا، لكنتُ
ألححتُ على جورج بمُرافقَتي، بكلِّ تأكيد سيكتمل المشهد بصُحبته.
من
المرَّات النَّادرة أن أجِدَ نفسي داخل المكان الغريب، منذ الوهلة الأولى عندما
رأيتُ كلَّ هذه الأشياء الجديدة، صُدمتُ بمعرفتها غير المسبوقة، خالطتني مشاعر
غريبة، لم يتَّضح أيَّ مَلْمَح أستطيعُ به تحديد ما أصابني.
الصَّدمة
المُفاجِئة قاتلة على الأغلب. ربَّما قتَلتِ الدَّهشةَ في نفسي، وفتكَتْ بلساني؛
فاِرْتَخت أعصاب فَكَّيَّ بذُهول لدقائق، بعدها اِسْتعدتُ وَعْيِي، والتَّدقيق
بإنْعامِ النَّظَر بطريقة مُختلفة.
يدٌ
خفيَّةٌ هزَّتني بِرفْق؛ اِنْتبهتُ للخاتم ذي الخَرَزة العسليَّة كبيرة الحجم
المُوشَّحة بالبياض، قلَّ نظيرها لا تتشابه مع أيِّ فَصٍّ مُركَّب على خاتمٍ
فِضِيٍّ أبدًا، لم تقع عيني على شكلها الهرميِّ الأشبه بقُبَّة تكيَّة مملوكيَّة
مُفلطحة.
اِقْشعرَّ
جسدي. اِهتزَّت أعضاء جسمي بعُنفٍ لم أعهده من قبل، خِلتُ أنَّ المرأتَيْن اللَّتان
تمشيان خلفي قد لاحَظَتا ذلك، لكنَّني لم ألحظ أدنى تغيير بوتيرة كلامهما باللُّغة
الإنكليزيَّة؛ يبدو أنَّهما صديقتان رياضيَّتان، أو عاشقتان للرِّياضة.
منذ
دُخولي في مُنعطف الطَّريق المُؤدِّي للمتحف قبل مئتيْ متر تقريبًا؛ أؤكِّدُ
اِسْتغراقهما بنفس الموضوع. خجلتُ فيما بيني وبين نفسي من اِرْتباكي، ولم أجِد
مُبرِّرًا لما حصلَ؛ فبأيِّ مُبرِّرٍ فيما لو قَرَّرتُ الاِعتذارْ منهما عن حركات
اِرْتعاشي اللَّاإراديَّة..!! وهل هُما مُهتمَّتان بمُراقبتي؟.
وما
علاقتهما بذلك؟.
وهل
بالفعل يعنيهما ما حصل لي؟.
الغُرباء
يتجاوزن أشياء كثيرة لا يهتمُّون لها، يتخفَّفون ممَّا يُثقلهم، ويُعيق حركتهم،
ويستزف وقتهم. أجزُم بأنَّ أكثر من في هذا المكان غُرباء مثلي، لا أحد يعرفُ
أحدًا. عابرون مثلي لا يعنيهم إلَّا مُخطَّطهم، وأهدافهم التي جاؤوا من أجلها من
بلادهم البعيدة.
ما
زالت خُطواتي ثابتة مُنتظمة بلا تغيير يُذكَر. أوه..! -غير معقول- إنَّه خاتَمُ
أبي المُميَّز من بين خواتم العالم جميعًا-رحمه الله- واليدُ أيضًا يدُ أبي.
اِنْحرفتُ
بجسمي لألتفتَ، ورفعتُ رأسي؛ لأصلَ لمُستوى وجهه الوسيم، وشاربه الضَّخم المفتول،
وطُربوشه الأحمر ذي الشُّربُوشَة الحريريَّة السَّوداء.
بَرُدَ
حماسِي. كأنَّما اِغْترف أحدهم دَلْوَ ماءٍ ضخمٍ من البُحيْرة؛ لِيدْلِقَه فوق
رأسي. حالة إحْباط أفسدَت عليَّ لمساتُ يد أبي الحانية.
خيبة
لا يُنافسها إلَّا رفيف أسراب النَّوارس تعلو، وتهبط على وجه الماء الرَّاكد، لتتولَّد
تموُّجات لطيفة مُتوتِّرة، طبيعة تشكُّلاتها مثل أَثْلام الأرض المحروثة حديثًا.
تتشابك
الطُّيور بأنواعها المختلفة، وتستشعر دفء الجوِّ مع بِداية شهر نيسان، واِنْفجار
ربيع الحياة بلا اِسْتئذان ينتفض الكون بأجمعه؛ لاِسْتقبال الموسم السِّياحيِّ
المُستمِرِّ حتَّى نهاية الخريف.
المرأتان
مازالتا مُحافظتان على اِنْسجام خُطواتهما المُتوافقة مع حديثهما المُستمرِّ بلا
توقُّفٍ، ولا أدنى اِهتمام بي أو بأيِّ شيء يُصادفهما، وكأنِّي لا أمشي أمامهما،
ولا تفصلني عنهما سوى عدَّة أمتار.
بدا
لي أنَّهما صديقتان إحداهما من إنكلتِّرة على أغلب الظنِّ؛ فالبشرة البيْضاء، والشَّعْر
الأشقر، والعينيْن الزَّرقاوَيْن، بلا ريْبٍ هذه المعطيات تُفصِح عن هُويَّتها.
دقَّقتُ
في شكلهما، نفسي مَالَتْ لمُكوِّنات المرأة ذات الملامح الكاريبيَّة الشَّامخة
بطولها كنخلة تَدْمُريَّة، تفيَّأتْ زنُّوبيا بظلِّها يومًا ما. طولها صالح ليجعل
منها لاعبة كُرة سَلَّة، ليتها كما أظنُّ..!.
..*..
لماذا لوزان بالذَّات؟.
بالفِعْل
لم أستطع تحديد سبب اِخْتياري للمجيء إليها. ولماذا غيَّرتُ وِجْهَتي من باريس
إليها؛ عندما اِسْتقبلتُ اِقْتراح جورج برحابة صَدْرٍ وبلا نِقَاش؟.
زُرتُ
مُدُنًا لا تُعدُّ ولا تُحصى في القارَّات الخَمْس، بتكليفٍ أو بمُهمَّةٍ رسميَّةٍ
سِريَّةٍ لم يُعلن عنها، وأغلبها كانت قبل وأثناء الاِتِّفاق على المُشاركة في
مُؤتمر مَدريد للسَّلام، ومقابلة من يقومون بعملٍ جبَّارٍ؛ للإفراج عن
الرَّهائن المُختَطَفين في لُبنان، وعقد صَفَقات سِريَّة معهم بما يتوافق مع
مصالحنا العُليا، ونُحافظ على أمْنِنا القوميِّ في سوريا، وأخرى علنيَّة؛ لمُرافقة
الوُفود لدول أخرى؛ لبحث العلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة والتَّعاون الأمنيِّ؛
لأكتب تقريري الخاصّ للسيِّد الرَّئيس بناء على تكليفي منه بشكلٍ شخصيٍّ.
ليس
من السُّهولة نَيْل ثِقَته؛ فقد كان دقيقًا بمُلاحظاته وشُكوكه بأدنى شيء يبدو له.
كثيرًا ما راجعتُ نفسي؛ لأتأكَّد من أنَّني لستُ أمام "ديكارت" الذي
أطلق مقولته، بعد دراسات وأبحاث قام بها على مدار سنوات طويلة: (أنا أشُكُّ،
وأعلمُ أنَّني أشُكُّ، وبالتالي أنا أُفكِّر، وما دُمتُ أُفكِّر؛ فأنا مَوْجود)؛
لتتوارد أسئلتي حوْل شُكوك "ديكارت" الفظيعة التي أخذها كما
يُقال عن الإمام "أبي حامد الغزالي"، وعبارته الشَّهيرة: (الشكُّ
أولى مراتب اليقين)، التي صارت قاعدة علميَّة؛ يستندُ إليها جميعُ الدَّارسين
والباحثين.
زاد
على خبرتي ما اِكْتسبته من خبرة الرَّئيس العريقة الشكَّاكة بأدنى حركة. فاقَ كلَّ
ما تعلَّمتُه في مدرسة الدَّوْلة العميقة والعريقة، ورغم أنَّني أحد أساطينها، فقد
أصبحتُ كإسفنجة توجَّب عليها اِمْتصاص فوائض شُكوك الآخرين. أظنُّ أنَّ الشكَّ
تحوَّل عندي إلى حالة مرضيَّة. كثير من الشُّكوك لا مُبرِّر لها على الإطلاق.
علمتُ
بشيء كان خافيًا عليَّ فترة طويلة، وبطريق الصُّدفة من أقرب المُقرَّبين من دائرة الرَّئيس
الخاصَّة، أثناء دردشة قصيرة بخُصوص العمل: "أنَّه لم يكُن ليدخل مكانًا،
أيَّ مكان الإطلاق قبل تفتيشه ثلاث مرَّات، حتِّى غُرفة نومه يتوجَّب (التشيِّيك)
عليها أيضًا".
سَيْطرة
الخوْف والشكِّ بأبسط الأشياء؛ الحيطة والحَذَر واجب في جميع الحالات، لكن أن
يتحوَّل ليُصبح هاجسًا دائمًا. كارثيَّة الخوف وَضْعٌ لا يُسكَت عليه. تحوُّلٌ
إجباريٌّ إلى الهوَس الاِكْتئابيِّ، الذي قلَّما ينجو منه إنسان، وإن تمتَّع بكامل
قِوَاه وقُدراته العقليَّة، لكنَّه بحاجة لطبيب مُعالج.
المرأتان
خلفي تقتربان بخطواتِهِما منِّي.
حَذَري
الزَّائد ولَّدَ شُحنة خوف مُفاجئة؛ حرَّضتني على التفكير الجدِّي بالهُروب من
أمامهما، والتَّواري خلف جُذوع الأشجار الضَّخمة القائمة على جانبَيْ الطَّريق.
هذا
ما لمَّح لي به الطَّبيب النفسيِّ في جلستنا بمقهى فُندق الشَّام، وقتها لم آخُذ
الموضوع على مَحْمَل الجدِّ، وأذكرُ أنَّه وردت كلمة "البارانويا"
على لسانه مقصودة:
-(أستاذ
سكلمة بكلِّ أسفٍ. يجب أن أُخبركَ بحقيقة مُعاناتِكَ مع "البارانويا").
اِسْتنتجتُ
وقتها من حوارنا:
-"بأنَّ
كَثْرة المحاذير والتشديد على الاِحْتياطات الوِقائيَّة؛ جاءت نتيجةً لعملي
الوظيفيِّ في دائرة صُنع القرار. الطَّبيعة السِريَّة الفائقة، والاِحْتياطات أكثر
بكثير من عَمَل فَرْع أمنيٍّ".
تجاوزتني
المرأتان بخُطواتهما الثَّابتة بِسُرعتها، مُقابل خُطواتي المُتباطئة بقصد
الاِسْتمتاع بقفاهما واِرْتجاجات رِدْفيْهِما، وكيفيَّة مَشْيهما وتمايلهما.
فشل
ظنِّي، وخابَ تمامًا؛ إذ لم أحصل على مُتعَةٍ تمنَّيْتُها، ولم يتقارب ما
تخيَّلتُه مع مشيتهما الرَّتيبة ذات النَّسق الرياضيِّ الخالص الخالي من روح
الأنوثة.
..*..
أمام بوابة المتحف
الأولمبي:
وجهًا لوجهٍ أمام بُوَّابة المُتحَف
الأولمبيِّ العظيمة بتفاصيلها المُتناسقة، تحكي سيرة المكان قبل دُخوله. أخذتُ
نَفَسًا عميقًا بعد مِشْوارٍ لطيفٍ من بوريفاج لم يتجاوز النصف ساعة، أو
أقلَّ على وَقْع مشيتي بخُطواتي البطيئة. السَّاعة تُشير إلى العاشرة صباحًا.
الهدوء
يُخيِّم على المكان، النَّسائم المُنعشة تُداعب الأغصان برفق. حفيفها اللَّطيف
يحكي سيرة الحُبِّ والحياة في صباحات باِمْتداداتٍ واسعة تشرحُ الصَّدر.
أثناء
طريق عَوْدتي مساء إلى الفُندُق، وبعد جلستي التي جاءت وليدة لحظتها، مع سعادة
السَّفير الجزائري السَّابق في دمشق؛ حاولتُ اِسْترجاع مُشاهداتي، وقبل ذلك
تذَّكرت فيما بعد اِمْتصاص صدمة الاِنْبهار غير المُتوقَّعة، لم أكُن أتخيَّله
أصلًا. بعد اِنْفصالي عن الطَّريق الرَّئيسة المُمتدَّة من بوريفاج على اِمْتداد
كورنيش البُحيْرة، إلى التفرُّع المُؤدِّي إلى المُتحَف الأولمبيِّ المُتربِّع على
أعلى تلَّة؛ يُطِلُّ من عليائه بكبرياء إلى البُحيْرة.
شلَّالٌ
صناعيٌّ فريدٌ يستقبل الزَّائرين. الأيدي الخبيرة بِصُنع الجمال؛ حفرَت بصمتها والمُثابرة
عميقًا في المكان. يَحارُ العقل واللِّسان بوصفه، ولا يدري كيف سيبدأ. ولا من أين
سيبدأ..!!. إرادة التغيِّير صانعة المعجزات. الإصرار على النَّجاح وُصولٌ واثِقٌ
آمِنٌ إلى قمَّة الإنجاز.
البِساطُ
الأخضر المُتموِّج هُبوطًا وصُعودًا مع اِنْثناءات واِنْحناءات، تُظلِّلُه الأشجار
الشَّامخة عاليًا في السَّماء.
المُجَّسمات
المُتناثرة على جانِبَيْ الطَّريق حارسة لزاويتها التي تتربَّع عليها، واللَّوحات
الكبيرة بإطاراتها الحافظة تُضفي أُلفة للعابرين من أمامها، ولا تترُك الزَّائر
نهبًا للتحليل والتأويل، بل جاءت الكتابات والتواريخ أمامها تفسيرًا ثابتًا.
صناعة
الحضارة بحاجة لمخطِّطين وأيدٍ خبيرة ماهرة. في حالات كثيرة يعجز اللِّسان عن
التعبير والوصف، ما زلتُ مأخوذًا بجمال المسافة الفاصلة قبل البدء بصعود الدَّرجات
إلى القمَّة حيت يربضُ المتحف، ببطء خُطُواتي غير المُتعجِّلة، أتاحت لي ملاحظة
الكتابات ذات اللَّون الرَّماديّ والمحفورة على حافَّة الدَّرجة الأولى، تاريخ أوُلى
دَوْرات الأولمبياد واسم البلد الذي أقيمت فيه، لم يتوقَّف الأمر بل تابعتُ قراءة
الكتابة مع كلِّ صُعود لدرجة أعلى. العناية بالتفاصيل موهبة لا يُتقنها الكثيرون.
ما
إنْ وضعتُ رِجْلي على الدَّرَجة الأخيرة، حتَّى اِرْتسم وجه أبي بجلال طلعته
البهيَّة المعهودة. هَالَني شارباه المعقوفان للأعلى بطولهما المُمتدِّ من زاوية
الواجهة اليُمنى للمُتحَف إلى اليُسرى المُقابلة لها. وعلى مدخل البُوَّابة الرَّئيسة
اِنطبعَتْ اِبْتسامتُهُ.
توقَّفتُ
لاِلْتقاط أنفاسي للحظات. الأنفاس هنا حاجة ثانية لا توصف، هواء نادر النَّقاء
مُثقَل بنكهة البُحيْرة، الإيحاء بحاجة لصفاء نفس ونقاء روح، إحساس غريب بإنزال
حُمولات الماضي عن كاهلي المُثقَل بأعباء لا جدوى منها الآن.
اِسْتبشرتُ
خيرًا، وسيبقى الأمل قائمًا يتراقص أمام الأعيُن، وتهتزُّ القلوب فَرَحًا على
إيقاعاته المُنفرِدَة. رغم الظَّلام الدَّامِس، وضياع البُوصلة والجهات، ولا من
شمعة تُرتَجى في آخِر النَّفق؛ سنبقى مُصرِّين بيقين لا يُخالطه أدنى شكٍّ بأنَّ
هناك بقايا من أمل. ها هي خطواتي تخطو بثبات نحوه.
عيناي
مُركَّزتان على الدَّوائر الخمس المُتشابكة بألوان الطَّيف. شعار ألعاب الأولمبياد
رمز القارَّات الخمس. الأعمدة الأربعة عن يمين ويسار المدخل كلُّها بلا تيجان على
رؤوسها؛ فهي مُنطلقة بلا حدود إلى السَّماء، وقواعدها تنغرِسُ داخل حَوْضَيْن مَليئَيْن
بالمياه. نُسُغ حياة بمدايات لا تذوي، ولا تموت مع تتالي الأيَّام.
أرقام
رامزة لتاريخ كلِّ دورة ألعاب؛ منذ اِنْطلاقتها الأولى 1896في أثينا محفورة
على واجهات الأعمدة تتدرَّج بالعدِّ التصاعُديِّ من الأسفل للأعلى. ومؤشِّر
للأرقام القياسيَّة في الوَثْب الأعلى من شبكة كُرَة الطَّائرة بسنتمتر واحد. ما
هذا الإبداع..!!
المقاعد
تنتشر بَيْن مسافات غير مُتباعدة. لكنَّ أكثرها كان مشغولًا بالجالسين، وقليلها
فارغ. زُوَّار يقومون بمُتابعة خطِّ سَيْرهم، وآخرون يلتقطون أنفاسهم المُتهالكة على المقاعد.
..*..
داخل المتحف:
فرادة المُتحَف بموقعه المُميَّز في وسط المدينة. وبإطلالته
السَّاحرة على بُحيْرة جنيف (ليمان)، وليس ببعيد عنه عدَّة أماكن
سياحيَّة مثل حديقة "مُنتَزه المدينة" الشَّهير، التي تحتضن (الفيلَّا)
مقرّ الاتِّحاد الدَّوْليِّ الأولمبيِّ منذ 1922، والمُتحَف من أجمل المقاصد
السِّياحيَّة ليس في لوزان وحدها، بل يكاد أن يتفرَّد من بيْن الأماكن المُميَّزة
في أوربَّا.
على
مدار أيَّام السَّنة لا تتوقَّف أفواج السُّيَّاح بالتدفُّق إلى المدينة للرِّعاية
الصِّحيَّة والاِسْتشفاء، والقاعات الفسيحة عامرة بالمُؤتمرات الرياضيَّة والثقافيَّة،
وحركة الأسواق ناشطة ومُزدهرة، مثل باقي المعالم السِّياحيِّة الشَّهيرة المُختلفة،
كالكنائس والبُحيْرات، والمتاحف العديدة؛ سِمَة لوزان العالميَّة.
بِوَضْع
قَدَمي على عَتَبة الصَّالة؛ اِسْتقبلتني أناقة المُوَظَّفين بلباسهم الأنيق المُوحَّد،
و(الباجات) تتدلَّى بخيوطها الحريريَّة ذات الألوان البهيجة على صُدورهم، وفيها
معلوماتهم الأساسيَّة، وشِعاراتٍ مُثبَّتةٍ بدبابيس بأعلى ياقات جاكيتاتهم
الكُحْليَّة.
رائحة
عطر نفَّاذة تقود الزَّائر عُنوةً إليها. على بُعد خُطوتيْن من المدخل؛ اِبْتسامة
المُوظَّفة الأنيقة اِسْتدرَجتني إليها، رحبَّت بنبرة ناعمة أشبه بزقزقة صغار
العصافير. سَرَح خيالي بمُروج بريق عينيْها الزَّرقاويْن الآسِرَتَيْن حدَّ
الذُّهول. كاد لساني أن يتلعثم. أجبتها بالإنكليزيَّة: "ثانكس".
شرَحَت
لي قائلةً:
-(المُتحَف
مكانٌ سِياحيٌّ مُناسِبٌ لمُحبِّي، وأنصار، ومُشجِّعي الرِّياضة. مجموعة مَبَانِيه
تضمُّ أكثر من مئة ألف قطعة رياضيَّة، ويُعَدَّ أكبر أرشيف للألعاب الرياضيِّة
الأولمبيَّة حول العالم).
تناولتُ تذكرة الدُّخول بعد دفع العشرين فرنكًا رسم
الدُّخول من خلال الجهاز الخاصِّ لهذه الغاية، وعلى رفٍّ أنيق فوق طاولة عليها (بروشورات)
فيها معلومات، وشروحات وافية عن جميع أقسام المُتحَف باللُّغة الإنكليزيَّة. أخذتُ
نُسَخًا من جميعها، تحتوي على كلِّ شيءٍ يخصُّ الأقسام والقاعات. ودُوِّن على غلاف
الصَّفحة الأولى من أيٍّ منها أوقات الدَّوام من التَّاسعة صباحًا ولغاية
السَّادسة مساء.
..*..
جلستُ على مقعَدٍ في طرَف صالة الاِسْتقبال؛
لمُطالعةٍ سريعةٍ للنَّشرات؛ ليستقرَّ رأيي بِدايةً بالتوقُّف عند العُروض
المرئيَّة للتعرُّف على أولويَّات زيارتي. من أين سيبدأ مِشْواري. مؤكَّدٌ أنَّها
ستحكي عن تاريخ المُتحَف والألعاب الموجودة. مشهديَّاتٌ يتزاوجُ فيها الفنُّ
الرَّاقي مع الحضارة. ليْتَ الوقت يُسعفني لمُتابعة بعضًا من الأفلام الوثائقيَّة
الخاصَّة بالألعاب الأولمبيِّة بكامل تنوُّعاتها.
تذكَّرت
عَدَم مُيولي الجارفة للرِّياضة بشكلٍ عامٍّ، ولا أستطيعُ تحديد الأسباب التي
قادتني للمكان هذا، ربَّما هو اِسْم "سامارانش"، أو معرفتي السَّابقة
به. الرَّغبات والأماني لا تُلبَّى إلَّا بِخَوْض التجربة.
حينما
قرأتُ عن الأماكن السِّياحيَّة في لوزان قبل مجيئي إلى هُنا، تحرَّكت أيضًا
هواجس الوطن المفقود في قلبي، لعلِّي أجدُ ذكره هنا، وبحثًا عن المِصْداقيَّة والحِيَاديَّة
في سويسرا البلد الحِياديِّ، الذي يفتح صدره لكلِّ بني البشر. فهل الغَرْب
لهم وحدهم..! وما الذي يُمثِّله شرقُنا الأوْسَطيِّ والعَربيِّ لهم؟ وعلى وجه
الخُصوص سوريَّا، حينما اِحْتضنتْ دورة ألعاب المُتوسِّط، وهل اِنْتهى الحَدَث
بنهاية الفعاليَّات..!؟ وصار طَيَّ مدارِجِ النِّسيان، أمْ إنَّهم وثَّقوه مع دَوْرات
الأولمبياد الشَّبيهة في الدُّوَل الأُوروبيَّة..! وغيرها. توقَّفتُ أمام عبارة
لــلصحفيَّة "راشيل كالو" بخُصوص المُتحَف: (إنَّ كِبَار السِنِّ
يُقدِّرون المُتحَف الأولمبيِّ، لأنَّهم غالبًا ما يستعيدون فيه ذكرياتهم. أمَّا
الشُّبَّان؛ فيكتشفون فيه في المُقابل أشياء جديدة، كما يبحثون فيه عن الأغراض
التي اِسْتعملها أو اِرْتداها أبطالهم، إنَّه مُتحَف لجميع الطَّبقات الاجتماعيَّة
ولكلِّ الفِئات العُمريَّة)[38].
..*..
انبعثت هِمَّةٌ جديدةٌ للبحث في صالة معروضات دَوْرات الأولمبياد،
منذ تأسيسها المُرقمَّة، والمُنَسَّقة بـإتقانٍ؛ لتسهيل مُعايَنَتها بلا مشاكل أو تعقيدات.
تحرَّك الدَّم لإثباتُ الذَّات العربيَّة أوَّلًا، وإيجاد الذَّاتُ السُّوريَّة
عندي الآن؛ هي مُهمَّة قَوْميَّة بالنِّسبة لوجودي في هذا المكان الأُسطوريِّ، الخارج
عن سياق المألوف والمعروف. لم يُعجزني البحث عن أرقام وتواريخ الدَّوْرات؛ ففي
خلال دقائق كنتُ أمامَ شعارَ دَوْرتنا.
اِنْتَشيْتُ
بِفَرحٍ غامِرٍ بَدَّد قَلَقي، وأحزاني المكتومة في ظُلُمات لا يعلم مَدَاها إلَّا
الله. اِنتفَضَتْ دواخلي بِرَعشة أنعَشَت دَوْرتي الدَّمويَّة الخامِلة منذ سنين،
ولم أشعُر بمثل ما أشعرُ به في هذه اللَّحظة الفارقة من تاريخي الطَّويل في أروقة
صناعة القرار.
آهٍ..
وألف آهٍ..!!
أتمنَّى
لو كان الرَّئيس على قَيْد الحياة، لما تردَّدتُ أبدًا من فَوْري بالاتِّصال على
الخطِّ السَّاخن؛ لأزفَّ له فرحتي التي لا توصَف؛ أعلمُ حقيقة كم ستكون فرحته
أيضًا..!!. ومن يدري. ربَّما أنَّ المعلومة كانت؛ ستفيده في لقاءاته مع السَّفير
والدُّبلوماسيِّين السويسريِّين إذا ما اِجْتمع بهم ذات يوْمٍ.
..*..
على ما أذكُر. أنَّه لمَّا وصَلتِ الاِقْتراحاتُ إلى ديوان الرِّئاسة بشأن
شِعَار الدَّورة، والمُنَسَّبة من مكتب الرِّياضة في القيادة القُطريَّة للحِزِب،
من بيْن العديد من المشاريع المُقدَّمة من الاتِّحاد الرِّياضيِّ.
تمَّتِ
المُوافقة على الشِّعار الذي صمَّمه الفنَّان "عبد القادر أرناؤوط".
وقتها جرى نقاشٌ مُوَسَّع باِسْتفاضته بتحليل لوحات الفنَّانين ورُؤاهم، وفلسفة
كلٍّ منهم للمناحي المنظورة والخفيَّة لمشروعه، وفي النِّهاية جرى تقييم جميع
الأعمال من قِبَل اللِّجان المُتخصِّصة والمُكلَّفة. وتُرِكَ أمرُ الاِخْتيار
الأخير للرَّئيس، بعدما اِطَّلع عليها جميعًا، واِسْتمع؛ باهتمامٍ بالغٍ لخبير
أكاديميِّ؛ قدِمَ من كُليَّة الفُنون الجميلة في جامعة دمشق.
جيء
به، لشرح تفسيراته ورُؤاه أمام السيِّد الرَّئيس، المعروف عنه دِقَّة المُلاحظة،
واِهْتمامه بتفاصيل التَّفاصيل، والأبعاد والأهداف القريبة والبعيدة. له حساباته
الخاصَّة به.
تكوين
الرَّأي ليس من السُّهولة بمكان، القرار الصَّائب يأتي بعد دراسة متأنِّية بكلِّ
الأحوال. وفيما قُدِّم من شُروحات؛ فسَّرت مشروع عبدالقادر ووقع عليه
الاِخْتيار، الذي اِبْتدأ بأعلاه باسم مدينة اللَّاذقيَّة باللُّغة العربيَّة
وتحتها بالإنكليزيَّة بمثابة هُويَّة الدَّورة. تركيز على الثَّوابت المُعلَنة التي
لا يُمكن تجاهلها، والمطلوب حضورها في أيَّة مُناسبة.
في
المنتصف الحلقات الثَّلاث، المُتداخلة تُمثِّل برمزيَّة للقارَّات الثلاث
المُطلَّة على البحر المُتوسِّط، المُتمثِّل بلونه الأزرق المُغَطِّي للأرضيَّة، أمَّا
السَّفينة الشِّراعيَّة فهي إشارة للحضارة الفينيقيَّة العريقة؛ الضَّاربة بجذورها
الأصيلة العميقة في أرجاء مُحيط البحر المُتوسِّط الجُغرافيِّ، والعالم القديم.
تتجلَّى
في التصميم فلسفةٌ فارِهَةٌ الذَّوق جسَّدت ثقافة الفنَّان، واِعْتُمِدَ الشِّعار
من قبلنا؛ بعد توقيع السيِّد الرَّئيس عليه، ومن ثمَّ أُرسِل ثانية لللِّجنة
الأولمبيَّة لاِعْتماده، ونالت رِضَاهم وقُبولهم، وعند مُوافقة "سامارانش"
النهائيَّة؛ أصبَح الشِّعار المُعتَمد للدَّورة.
..*..
جولة داخل المتحف:
ليس في لوزان وحدها تجتمع أسرار العالم، بل إنَّ الاتِّحاد
السَّويسري بكامل كانتُوناتِه الإداريَّة حفيظة على الأسرار. موطن الهدوء
والغُموض، لا حِرْص لديهم لمتابعة خُصوصيَّات الآخرين. الغُرباء يأتون هنا
ويذهبون، لكن تبقى منهم أشياء مُهمَّة؛ فلا يخافون عليها.. أليس عجيبًا ذلك..!؟.
الصَّالة
فسيحة لا تضيق بأعداد الزَّائرين المُتزايدين بالمجيء تِباعًا خلال ساعات
النَّهار، من التَّاسعة صباحًا حتَّى السَّادسة مساء باِنْتظام بلا تقديم أو تأخير.
إدارة
المُتحَف لم تتوقَّف عند حدِّ المعروضات المُقرَّرة حَوْل تاريخ الألعاب
الأولمبيَّة، بل اِشْتغلت على تطوير المُتاح بين يديْها؛ لتكون شريكًا ثقافيًّا
بتقديم ما بين عَرْضيْن إلى ثلاثة عُروض تتشابك فيما بين العلم والفنِّ
والثَّقافة، ولم ينسوا هُواة الطَّوابع البريديَّة والنُّقود والعُمُلات؛ فقاموا بتخصيص قاعتيْن عُرضَت فيهما هذه
الأشياء.
فكرة
الاِسْتثمار، والتسويق مُتأصِّلة في طريقة فَهْمِهم المُختَلِف للعمل، وقابليَّة
عرض أيِّ شيء للبيع والشِّراء، لاِسْتدرار الأرباح. بلد مثل سويسرا بلد قاريٌّ غير
مُطِلَّة على البحر. طبيعة جُغرافيَّتها الجبليةَّ؛ كانت نعمة لهم باِعْتمادهم على
السِّياحة، وخدماتها كمصدر أساسيٍّ من مصادر الدَّخل القوميِّ.
ثباتُ
المواعيد اِسْتقرار نفسيّ نشعر به نحنُ القادمون من بلاد القلق والخوف والأحزان،
التي لا تُقيمُ وَزْنًا حقيقيًّا لقيمة الوقت والمواعيد.
المُوظَّفون
هنا لا يتركون أماكن عملهم للذَّهاب إلى السُّوق في أوقات الدَّوام الرَّسمي،
لشراء أغراض بيوتهم، ولا إلى الفُرن لشراء ربطة خُبز، ولا من يلتهي بشُرب العصائر،
أو كأس الشَّاي، أو فُنجان قهوته بعد تناول سندويشة فلافل مثل عندنا، ولا التي
تنسج الأشغال الصُّوفيَّة جالسة خلف طاولتها في المكتب. ساعات العمل الثمَّان
تُحتَرم حدَّ القداسة. الاِلْتزام ضرورة من ضرورات نجاح أيِّ مشروع.
حَيْرة
المرء من أين سيبتَدِئ جَوْلته، الشَّاشات السِّينمائيَّة التفاعليَّة تُسهِّل كلَّ
أمر يخطر ببال، واللَّوحات الكبيرة لأجمل اللَّقطات الجامدة والمُتحرِّكة بعدسات
المُصوِّرين منها القديم بالأسود والأبيض، والجديد المُلوَّن المُنتقاة من مختلف
الدَّورات بعناية خبيرة.
كما
أنَّ اللَّوحات الإرشاديَّة فيها معلومات مُهمَّة، عن حفلات الاِفْتتاح،
والشُّعْلات الأولمبيَّة بأشكالها المُختلفة، وأبرز الأحداث الرِّياضيَّة
وتواريخها، كأنَّ تخصيص الصَّالة لهذه المواضيع، وتسهيل تناولها بغاية السُّهولة،
والبحث عنها من خلال دوائر إلكترونيَّة مُغلَقَة خاصَّة بالمُتحَف فقط؛ لتُشكِّل
وثيقة تاريخيَّة للرياضيِّين والألعاب والأرقام القياسيَّة المُسجَّلة، ولم ينسوا
نصيب الحُكَّام من كلِّ لعبة، ولا المُعلِّقين، ولا المُصوِّرين أصحاب العُيون
المُختلفة برؤيتها الدَّقيقة للمَشاهِد، وتوقُّف أنفاسهم لاِلْتقاط قفزة لاعب، أو
ضربة رأس للكرة. نادرًا ما يجود الزَّمان بفُرصة ذهبيَّة على الأخصِّ؛ إذا توافقت
مع جاهزيَّة الكاميرا والمُصوِّر.
وفي
هذا القسم لاحظتُ وجود مكتبة تحتوي على أشرطة فيديو، وأرشيفات فوتوغرافيَّة، وسَمْعيَّة
هامَّة، ممَّا يُسهِّل المُهمَّة على طلبة المدارس والجامعات والباحثين
الأكاديميِّين المُتخصِّصين في الإعلام الرِّياضيِّ.
..*..
اِسْتغراقي بمُتابعة وتدقيق المُشاهدة بالتركيز على نُقاط جديدة، أجهلُ
الكثير من جوانبها، ولأكثر من
ساعة حتَّى اِسْتطعتُ الصُّعود إلى الدَّوْر الثَّاني، الذي أخذ وقْتًا أظنُّ اِقْترب
من وقت الدَّوْر الأرضيِّ، اِبْتدأتُ بالقسم الخاصِّ بالأدوات الرياضيَّة،
والأزياء خلال السِّنين الأخيرة، ومُقارنتها مع ما كان قبل مئة سنة.
وذلك
من خلال شاشات لعرض الصُّوَر والألعاب واللَّقطات المُثيرة. مع تطوُّر التقنيَّات
وبجميع اللُّغات؛ اِنْتفى دوْر الدَّليل السِّياحيِّ، في بلادنا ما زالت مهنة
مُحترمة تحظى باِهْتمام الشَّباب، والدَّارسين لِلُّغات والترجمة، لأنَّها تُدِرُّ
دَخْلًا مُمتازًا؛ سواء كانت الوظيفة مع القطَّاع الخاصِّ، أو العامِّ على حدٍّ سواء،
مُقارنة مع باقي الوظائف الحُكوميَّة بمحدوديَّة راتبها.
تابعتُ جَوْلتي للدَّوْر الثُّالث، المُثير
للمشاعر الإنسانيَّة المُتفاعلة من صُوَر حركات الرِّياضيِّين بروحهم الرِّياضيَّة
المَرِحة التي يتمتَّعون بها، الخاسر يُصافح الرَّابح باِبْتسامة، أذكُر التقارير
القادمة إلى ديوان الرِّئاسة من اللِّجنة الرِّياضيَّة في القيادة القُطريَّة
المرفوعة لهم من رئاسة الاتِّحاد الرِّياضيِّ، حوْل العِرَاكات المُتكرِّرة بعد
مُباريات كُرة القدم، وأكثرها إثارة المُترافقة مع أيَّة مُباراة لنادي الاتِّحاد الحلبِّي،
وقصَّة سكَّة القطار وحجارتها التي بحجم قبضة اليد؛ لمنع اِنْجراف وتآكُل التُربة،
كانت تملأ جيوب مُشجِّعي الاتِّحاد، وتتسرَّب إلى باقي المُشجِّعين الآخرين.
فإذا
ما خسروا، أو لم يُعجبهم التحكيم، أو لو حدث أمر ما عن طريق الخطأ، تبدأ حفلة الاِشْتباكات
بالأيدي، وبقذف السُّباب والشَّتائم؛ ليتطوَّر الأمر إلى التَّراشُق بالحجارة، العُنف
المُتبادل يخرُج عن قدرة سيْطرة دوريَّات الشُّرطة العسكريَّة والمدنيَّة
المُتواجدة لحفظ النِّظام.
كم
هم مساكين عُمال سكَّة الحديد ومُوظَّفي النَّادي من الحُرَّاس والمُستخدَمين، وهم
يقومون بإعادة جمع الحجارة من أرض الملعب، وإعادتها إلى مكانها حول الخطِّ
الحديديِّ للقطار. عُنف الملاعب ظاهرة عالميَّة لا تنجو منها أمَّة. هَوَس
المُشجِّعين يصل بهم إلى درجة مَرَضِيَّة؛ تحتاج لعلاج نفسيِّ.
واِنْتقلتُ
إلى مشاهدة طُرُق التغذية، والنِّظام الغذائيِّ، وسكن اللَّاعبين، ولوحات كبيرة
تجمع أجسام الرِّياضيِّين نساءً ورجالًا لكلِّ لعبة، وقسم آخر خاصّ بالميداليَّات
بأشكالها وتواريخها، وفئاتها الذهبيَّة والفِضيَّة والبرونزيَّة.
الشَّاشات
التفاعليَّة تعرض مُحتوياتها بلا اِنْقطاع على مدار السَّاعة، ولو طلب زائر
مُراجعة أيَّة معلومة، لا يُكلِّفه إلَّا ضغطة باُصْبعه على (الكيبورد الكمبيوتريِّ)
المُتوزِّع بجميع زوايا الصَّالات التحتانيَّة، أو الفوقانيَّة. بهذه الطَّريقة
صنعوا من المُتحَف فكرة فريدة؛ ليجعلوا منه مركزًا مرموقًا للدِّراسات الرياضيَّة
على مستوى العالم.
..*..
الاستراحة:
ساعات نسيتُ فيها تعبي وإرهاقي الجسديِّ، جولة ليست قليلة أبدًا
مقارنة بقِلَّة نشاطي، وحركتي المحدودة في الأشهُر الأخيرة، قبل مُغادرتي البلد
إلى بيروت ثمَّ لوزان.
نشاطٌ
مجهول الهُويَّة غير مسبوق دبَّ في أوصالي منذ ثلاث سنوات على الأقلِّ لم يحصل لي.
كانت أيَّام وِحدتي الشَّبيهة بالإقامة الجبريَّة المفروضة بأمر من القيادة، ليست
شبيهة بل هي إقامة جبريَّة.
العلاقات
الاِجْتماعيَّة محدودة جدًّا جدًّا، بعد موافقة جهات الرَّقابة الأمنيَّة، القراءة
أخذت نصيبًا ممتازًا من فوائض أوقات الفراغ القاتلة، قراءاتي المُؤجَّلة جاءت
فُرصتها لي على طبق من ذهب؛ فكانت فترة ذهبيَّة من فترات حياتي الأجمل، لا تُشبهها
إلَّا دِراستي في الجامعة الأمريكيَّة في بيروت، ذُروَة نشاطي النَّهِم للمُطالعة
والقراءة في اتِّجاهات بعيدة عن تخصُّصي في العلوم السياسيَّة والعلاقات
الدُّوليَّة؛ فقرأتُ الفلسفة والتَّاريخ والأديان والآداب العربيَّة والأجنبيَّة،
كنتُ مجنون قراءة.
القراءة
غذاء العقل، وفي بعض الأحيان يُخالجني شُعور عميق بِتَعفُّن مُخِّي؛ عندما تطول
فترة اِنشغالي عن الكُتُب. لا يعود لي اِستقرار روحي وقلبي إلَّا مع كتاب.
فُرصتي
للاِسْترخاء في إحدى المقاهي ذات التصميمات البديعة الموجودة في المُتحَف، لتناول
بعضًا من العصائر اللَّذيذة الطَّازجة والمنعشة والقهوة؛ لكنَّني خرجتُ إلى رحاب الحديقة الأولمبيَّة القريبة من المُتحَف؛
فمُتعة الجُلوس فيه تفوق الخيال، والاِسْتمتاع بما أراهُ على ضِفَّة البُحيْرة نقطة
اِسْتقطاب سياحيَّة غاية في الرَّوعة.
تشجَّعتُ
لشراء تذكارٍ فقط لشعار دورتنا الأولمبيَّة، مع قُرصٍ مُدمَجٍ لحفلة الاِفْتتاح،
مؤكَّدٌ أنَّه يحتوي على أُغنية الفنَّان" نعيم
حمدي": (جميلة حقًّا، مرحبًا بكم في سوريَّا)،
وترجمتها: (Truly Lovely Welcome to syria).
..*..
أخذتني الذَّاكرة إلى أيَّام تحضيرنا لدورة ألعاب المُتوسِّط العاشرة
في اللَّاذقية 1987وقبلها بسنوات خمس. كان أوَّل اِجْتماع لي مع (خُوّان
أنطونيو سامارانش) واللَّجنة المُرافقة له، للاتِّفاق على الخطوط الرَّئيسة
والفرعيَّة للأبنية والإنشاءات، وما إن اِنْتهت اللِّجان من التوقيع على مُذكَّرة
المشروع، حملتُ ملف البروتوكول بكامل حيثيَّاته إلى مكتب الرِّئاسة.
لم
يتردَّد الرَّئيس "حافظ الأسد" بالتَّوقيع والموافقة
الفوريَّة على المشروع، يبدو أنَّه كان باِنْتظاره كفرصة نادرة لإدراج سوريَّا على
خارطة الرِّياضة العالميَّة.
وأصدر
أوامره لرئاسة الوزراء والقيادة القطريَّة للحزب في اِجْتماعه الأُسبوعيِّ معهم،
لإعطاء التَّوجيهات لمسؤولي الاتِّحاد الرِّياضيِّ السُّوريِّ لبدء العمل منذ تلك
اللِّحظة.
بُوشِر
بالعمل على قَدِمٍ وسَاقٍ، بعد وضع حجر الأساس من قِبَل مُحافظ اللَّاذقيَّة،
وقصِّ الشَّريط إيذانًا بالمُباشرة، بمناسبة اِحْتفالات القُطُر بعيد
الجَلاء.
بمجرَّد
تحديد الأماكن التي قرَّرتُ زيارتها، حاولتُ أخذ فكرة عامَّة مُبسَّطة عن المُتحَف
أوَّلًا، وليس هناك من وسيلة بين يديَّ إلَّا نافذة العمّ "جوجل".
الأبُ الروحيُّ للمعرفة والحُصول على المعلومة السَّريعة لُزوم عصر السُّرعة.
أتوقَّعُ
أنَّني تأخَّرتُ كثيرًا عن لوزان. شُعوري بروح أبي العالقة فيها، دِفْء روح
المكان يتوهَّج بداخلي. تولدَّت طاقة ونشاط تآلَفَا بتوافق مع وجه "سامارانش"
إذ يُرحِّب بي من جديد، ملامحه لم تتغيَّر كثيرًا إلَّا من بعض عوامل العشرين سنة
أو يزيد، التي مَضَت على لقائنا الأوَّل في دمشق.
عظمة
هذا الرَّجُل تطبعُ بَصْمَتها في لوزان؛ تحقيقًا لحُلُم البارون الفرنسيِّ
"بيير دوكوبرتان" بإنشاء مُتحَف للرِّياضة، ولكنَّ الحرب العالميَّة الأولى ضيَّعته؛ عندها
قام بنقل مقرِّ اللِّجنة الأولمبيَّة إلى هُنا في لوزان.
كان
مُؤمنًا بخدمة البشريَّة من خلال الرِّياضة، كنشاط أساسيٍّ مُشجِّعٍ لترويج ثقافة
السَّلام، والتواصل الهادف والبنَّاء بين الأُمَم والشُّعوب.
..*..
"أبي" و"سامارانش" يستقبلاني عند بوَّابة المُتحَف
ببشاشة وَجْهَيْهما. شيءٌ عظيمٌ حقيقةً نوَّر قلبي. طَيْفُهما غَمَرني بمشاعر
عميقة لطَّفت من حِدَّة قَلَقي، وخفَّفت من آلام وحدتي، وتغيَّر مفهومي لملء
الفراغ فقط، إلى قضيَّة معرفيَّة ستُضيف معلومات جديدة لي، وأستعيدُ بها ممَّا
اِنْمحى؛ تداعياتُ ذاكرتي نشطت باِسْتدعاءات لحوادث ما تخيَّلتُ التفكير بها، وما
كانت لتطرأ على بالي.
يقولون:
(الفطنة مراجل).
أمرٌ
حضر بذهني الآن، كان غائبًا عن تفكيري لسنوات طويلة، وكيف أنَّ زملائي من
مُسْتَشاري الدِّيوان، ولا أحدًا من دهاقنة مسؤولي الاتحاد الرياضيِّ، رغم تاريخهم
الحافل في قيادة الحركة الرِّياضيَّة زمانًا طويلًا، لم يُفكَّروا بذلك؟، ولم
يُطرَح مشروع إنشاء مُتحَف خاصٍّ للرِّياضة في سوريَّا على غِرار هذا المُتحَف. ولو
أنَّ أحدَنا تقدَّم باِقْتراحٍ للرَّئيس؛ لوافق على الفوْر بلا تردُّد.
الفكرة
الرِّياديَّة بِسَبْقِها. أمَّا إذا كان لها شبيهًا في الشَّرق الأوسط؛ عندها
تُعتَبَر عاديَّة. أصحاب الأفكار الخلَّاقة اِسْتثنائيُّون في زمانهم. يسبقون
أجيالهم بمسافات لا تُدرَك بسهولة.
رَسَخ
اِعْتقاد في عقولنا بأنَّ المتاحف تُنشَأ للآثار والتراث فقط. إمكانيَّات بلدنا
الفائقة بِغِنَى مواردها؛ قادرة على تدوير الأفكار إلى واقع عمليٍّ في ظلِّ إرادة
صادقة للنُّهوض والتقدُّم.
..*..
يحدُث أن تتواءم الظُّروف، وتأتي بها الصُّدفة المحضة؛ لتسرق أو
لتُقلِّل لحظات الفرح من حياتنا على نُدرَتها، ومُحيطات من القلق والخوف والتوتُّر
نسبح بها.
شعور
الغَرَق والموت يرسُم أشباحًا تتناوشنا بمخالبها المعقوفة على شكل خُطَّافات، لا
ترحم من وَقَع في قبضتها. كلُّ المُحاولات للإفلات مؤكَّدٌ فشلها.
مساء
رجعتُ من جَوْلتي الفَارِهة في مُتحَف الأولمبياد إلى بوريفاج محلَّ إقامتي،
التي أخذت معظم ساعات النهار. كنتُ مع آخر الزُوَّار الخارجين، حين أغلقوا الأبواب
خلفنا مباشرة. بتقديس واِحْترام يبدؤون ساعات عملهم إلى حين اِنْتهائها لآخر دقيقة.
ولو
أنَّ دوام المُوظَّفين تمدَّد لساعات مُنتصَف اللَّيل؛ لتابعتُ، ولما حدَّثتني
نفسي بالمُغادرة. نشاطٌ مجهولٌ دبَّ في أوصالي على خلاف الأيَّام السَّابقة.
رغبةٌ
مُلحَّةٌ تتفلَّتُ في صدري؛ للخُروج من إسار الوِحدَة والرُّوتين. ليتنا معًا -
أنا وجورج- نتشاركُ لحظات الفرح لعلَّه يُعالج قلوبنا المُدماة بأحزانها القاتمة
الكتيمة. لمستُ أنَّه كان مُتعَبًا مثلي، عندما أظهر تماسكه، ومعنويَّاته العالية
مثلما خَبِرْته وعرفتُه في أيَّام الشَّباب، كأنَّه يتصنَّع ذلك؛ ليرفع من معنويَّاتي
المُنهارة، ولأبقى.. لا بل لنبقى معًا واقفيْن - أنا وهو؛ لكي لا نتهاوى.
التَّهاوي نذير السُّقوط.
آهٍ..!
لو كان أمامي هذه اللَّحظة؛ لاِحْتضنتُه، واِعْتصرتُه بين ذراعيَّ، وأسمع بأُذنيَّ
طَقْطَقَة عِظَامه، ولقبَّلتُه بِشَغَف، لاِخْتياره - لوزان- الذي دفعني
إليها دَفْعًا، ولم ينتظر موافقتي أو رفضي.
وقع
اِخْتياري على طاولة فارغة قريبة من النَّافذة المُطلَّة على البُحيْرة. الاِنْفتاح
للخارج اِنطلاق لتوثُّب الرُّوح، لتتأرجحَ على أُرجوحة الفرح، كي أرمي خلفها زبالة،
ومُخلَّفات حقبة اِمْتدَّت لسنوات العمل الوظيفيِّ؛ أريد التخلُّص منها للأبد، وإن
اِسْتطعتُ، أو قُدِّر لي لأثقلتُها بصخرةٍ من الحجم الكبير، ورميتُها بها في قاع
البُحيْرة، لتستقرَّ هُناك فلا أذُنٌ سمعت.. ولا عينٌ دَمَعَتْ.
..*..
شخصٌ قادم نحوي، من فَوْرِ أن وَطِئَت قدَمَه بُوَّابة (الكوفي
شوب) الرَّئيسة، تخربَطَت حساباتي، تكالَبَت الشُّكوك. شخصٌ غريب قادم باتِّجاهي، تسارعت
نبضات قلبي.
إفرازات
الأدْرينالين في حالتها القُصوى.
يا
إلهي..!!
ما
الذي يريده منِّي؟.
هل
هو عربيٌّ أم أجنبيٌّ؟.
سِحْنَتُه
فيها تواشيح عربيَّة. تهيَّأتُ لأسوأ الاِحْتمالات، لم يخطُر ببالي الآن، إلَّا
موضوع الاِغْتيال. تصوَّرت مُسدَّسه المُدجَّج بكاتم الصَّوْت؛ سيُخرِسُ كلَّ
الأصوات المُعارِضَة التي شقَّت عصا الطَّاعة بِعِناد، أو المُغرِّدة خارج السِّرب
العصِيَّة على التَّدْجين. أستبعِدُ هذا الاِحْتمال.
لم
يمض على مُغادرتي دمشق سوى الأُسبوعين تقريبًا؛ فلو كنتُ مطلوبًا لهم؛ لما
سمحُوا بمُغادرتي، وإعطائي الإذن بالسَّفر. ساختْ كلُّ شكوكي، وتطايرت مع إطلاق
تحيَّته بالعربيَّة:
-"السَّلام
عليكم أستاذ سكلمة، كيف الحال، لم تتغيَّر كثيرًا، ما زالت صورتك الماثلة
بذهني كما هي، لم يطرأ عليها تغييرات كثيرة".
فاجأني
بحرارة السَّلام، مَالَ بجسمه نَحْوي، ومدَّ رقبته للمُعانقة، ويده اليُمنى تُمسكُ
بيدي. يا إلهي يبدو أنّ الرَّجُل يعرفني حقَّ المعرفة..!!.
تنفَّستُ
باِرْتياح مع أخذي للشَّهيق، واِمْتلأت رِئَتاي بالأوكسجين المُترطِّب بأثر
البُحيْرة، وأطلقتُ زفيرًا قاتِلًا مشحونًا بثاني أوكسيد الكربون.
خانتني
ذاكرتي هذه المرَّة. خجلتُ من نفسي. لم أستطع التنكُّر له، ولم أجرؤ على سؤاله: "من
هو؟". بفِطْنَتِه اِسْتدرَكَ حَرَجي؛ كأنَّه على يقين أنَّني نَسيتُه لطول
العهد بلقائنا. ببساطة شديدة أراد تذكيري بطريقة مُهذَّبة. بصَوْت ناعم، وبِلَكْنة
مَغاربيَّة لم تتحدَّد هُويَّتها:
-"الله
.. الله على أيَّام دمشق.. إنَّها لأجملُ أيَّام حياتي في العمل الدُبلوماسيِّ على
الإطلاق. كنتُ سعيدًا بلقائِكَ في حفل اِفْتتاح دَوْرة ألعاب المُتوسِّط في
اللَّاذقَّية، جئتُ مع طاقم سفارتنا بأكمله للوقوف على شؤون فريقنا الجزائري
الأولمبيِّ المُتأهِّل للمُشاركة مع الفِرَق الثمانية عشر".
اِبْتسمتُ
له، لمُوَارَاة مُشكلتي وحَرَجي، لكنَّني والحمد لله، تذكَّرتُ أنَّه السَّفير
الجزائريِّ، الذي لا يُمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال معرفة اِسْمه، وقتها لم يكن
قد مضى على وظيفتي في ديوان الرِّئاسة السَّبع سَنَوات، أو ما يُقاربها.
بعد
سنتيْن من لقائِنا الأوَّل، حَدَث لقاء ثانٍ، حينما اِنْتهت مُهمَّته كسفير جاء
للوداع حسب ترتيبات البروتوكول، اِسْتقبلناه في وزارة الخارجيَّة، وعلى ما أذكُر
أنَّه لم يتمكَّن من مُقابلة الرَّئيس؛ لانشغاله باستقبال المبعوث الأمريكيِّ
للشَّرق الأوسط على ما أظنَّ وقتها أنَّه "فيليب حبيب"، إذا لم
تخُنِّي ذاكرتي.
تجدَّد
التَّرحيب بيننا، وعلى سجيَّته البسيطة المُحبَّبة بتلقائيَّتها؛ اِنْخرط في حديث
عن فترة إنهاء خدماته من السِّلك الدُّبلوماسيِّ، عند اِنْقلاب العسكريِّين على
الرَّئيس "الشَّاذلي بن جديد"، وإجباره على الاِسْتقالة، والتنازُل
عن رئاسة الجمهوريَّة الجزائريَّة؛ لإيقاف خيار الصَّناديق الشفَّافة، والسَّيْر
قُدُمًا بالمسار الدِّيمقراطي، بعد فَوْز الجبهة الإسلاميَّة للإنقاذ في الاِنْتخابات
البرلمانيَّة بأغلبيَّة ساحقة.
غادرتُ
الجزائر للإقامة في فرنسا في اللَّحظة القاتلة، قبل اِعْتقالي مع المجموعة
المحسوبة على تيَّار الرَّئيس الشَّاذلي، ورموز النِّظام، ومنذُ ذلك التَّاريخ ما
زلتُ هناك.
هذه
الأيَّام عُطلة الأولاد من المدارس والجامعات؛ أفسحت لنا فرصة نادرة لزيارة لوزان.
بعد تأجيل لمرَّات عدَّة، للذَّهاب مع خياراتهم التي يُحدِّدونها سلَفًا؛ فتكون
وِجهتنا لقضاء العُطلة وِفقًا لرغباتهم.
-"مرحبًا
سعادة السَّفير. أنا سعيدٌ بلقائك غير المُنتَظَر. وحدها الصُّدفة جمعتنا من غير
ميعاد، وقد سبَقْتَني بتذكيري بأوَّل لقاء بيننا، والتَّشابُه مع لقائنا الآن.
وماذا ستقول عن خَبَري الطَّازج، وهو بخُصوص مِحوَر الرِّياضة، عندما قَدِمتُ قبل
أيَّام إلى لوزان، عرفتُ بمُتحَف الأولمبياد الذي سمعتُ عنه قبل ذلك بشكل عابر لم
أهتمَّ للموضوع.
قرَّرتُ
زيارته، ومنذ قليل كانت عودتي من هُناك. وجدتُ بنفسي همَّة ونشاطًا؛ فرغبتُ
بالجلوس هُنا، وكأنَّ الأقدار ترعى لقائنا وتسوقني إليكَ، وتسوقكَ إليَّ ".
-"حيَّاكَ
الله أستاذ سكلمة. وأنتَ أين صارت أيَّامكَ؟".
-"لا
أُخفيكَ يا سعادة السَّفير، بأنَّني تركتُ الوظيفة في ظُروف اِسْتثنائيَّة، وقت
عمليَّة درع الصَّحراء، لتحرير الكويت. قبلكَ تقريبًا بسنتيْن،
لأنَّني أبديْتُ رأيي المُعارض لتدخُّل سوريَّا العَسكريِّ، والتحالُف مع
الأمريكان، كنتُ أريدُ أن يكون الحلُّ عربيًّا عربيًّا".
لدقائق
خيَّم الصَّمت على جلستنا. اِشْتهيْتُ فنجان قهوة المساء المُعتاد؛ طابت لي الجلسة
والحديث.
طلبتُ
القهوة التركيَّة المشروب المُفضَّل لنا، لم يُعارض السَّفير بعد أن شاورته بأمر
القهوة، الجلسة بلا قهوة تبقى جافَّة لا روح فيها، أيضًا قهوة من غير تدخين
كالطَّعام بلا مِلْح.
على
كُلٍّ لا بأس. اِتِّفاق سريع أبْرَمه الصَّمت بيننا خلال لحظة، لتجديد عُرى
الصَّداقة، وتعميق معرفتنا ببعض، الفترة القادمة بعد لوزان ستكون في باريس محلَّ
إقامتي الدَّائم، وسنلتقي حَتْمًا. كِلَانا بحاجة هذه الجلسة من أجل المُستقبَل.
-"أستاذ
سكلمة لم يخطُر ببالي أبدًا أن نلتقي ثانية بعد كلِّ هذه السِّنين الطَّويلة.
الأقدار تسير بنا نحو مُبتغاها من غير دِرَاية ولا أدْنى تدبير منَّا، نحنُ
مُسيَّرون في قضايا كثيرة، لا نملكُ إلَّا الاِسْتسلام لجبروتها. سُبْحان الله..!
من نظرتي الأولى عَصَفَ ذِهْني مُباشرةً نحو دمشق. قادتني رغبتي وأشواقي إليكَ بلا
تردُّدٍ؛ لاِقْتحام خلوتكَ، سامحني..!".
اِنْطلقت
ضحكة سكلمة مُنخفِضَة التردُّد، وقال:
-"لا
.. لا أبدًا يا صديقي، على العكس تمامًا، سعادتي عظيمة بكَ، لقد ملأتَ وقتي
بالفَرح، ولديَّ الوقت والرَّغبة باللِّقاء والجلوس مع أيِّ شخص كان، فكيف إذا بعزيز
مثلكَ يا سعادة السَّفير".
..*..
أحْضَرتِ النَّادلة الشَّقراء ذات العينيْن النَّجلاويْن الخضراويْن
القهوة، كانت ربطة شعرها الأشقر الفاتح على شكل ذيْل الحصان، بأناقة مُميَّزة.
كلُّ شيء فيها مُتناسق، حتّى اِبْتسامتها حقيقيَّة، الشُّعور الدَّاخليّ يقول ذلك،
والذي لا يُمكن لأحد أن يُحاسَب أو يُحاسِب عليه.
تأمَّلتُ
يدها الرَّقيقة البيضاء كالثَّلج، عندما أنزَلتِ الصِّينيَّة اللَّامعة على وسط
الطَّاولة، ثمَّ تناولت الدلَّة النُّحاسيَّة الصَّفراء لتصُبَّ أوَّل فنجان لي
ووضعته أمامي، وكرَّرت ذلك مع السَّفير.
طالت
فترة الصَّمت لدقائق، كأنَّما أصاب السَّفير ما أصابني بذهاب عقلي وراءها. عينايَ
ترقُبان خُطواتها الموزونة، ولمعة ساقيْها الطَّويلتيْن ساطعة بشعاع كسهام تصيب
القُزحيَّة وتجعل الرُّؤية مُشوَّشة، تنُّورتها الخضراء مع الجاكيت بنفس اللَّون يُضفيان
مهابة على قفاها عندما اِسْتدارت مُنصرفة لمُتابعة عملها بدأبٍ وهِمَّةٍ، تنفلتُ
سيَّالة المشاعر والتصوُّرات؛ لتندلق كطبق قشطة دسمة خلف أُنوثتها الطَّاغية، جذَّابة
على عكس المرأتيْن الرِّياضيَّتيْن اللَّتيْن صادفتهما أثناء ذهابي صباحًا
للمُتحَف.
السَّفير
اِرْتشفَ أوَّل رَشْفةٍ من فُنجانه، وقال:
-"منذ
فترة اِنْتهيْتُ من قراءة مُذكَّرات (جيمس بيكر) قرأتُ النُّسخة المُترجمَة
للفرنسيَّة، لفَتَ اِنْتباهي بعبارته الشَّهيرة: (الأسد جعلني أرفعُ الرَّاية
البيضاء)، توقَّفتُ طويلًا عندها قبل متابعة القراءة، لتتبيَّن حقيقة الأمر،
بعبارته المُفسِّرة للأولى: (هكذا كانت مُباحَثاتي لمدَّة 63 ساعة مع الأسد، إنَّها
سياسة فَقْعِ المثانة).
ويسرد
حادثة غريبة غير معهودة في الأعراف الدُّبلوماسيَّة المعروفة، ولم يحدُث معي مثلما
حدث معه خلال ذلك اللِّقاء، وكان معه سفيرهم في دمشق.
الاِجْتماع
اِمْتدَّ لتسع ساعات وَسِتٍّ وأربعين دقيقة. في غُرفة خانقة لا تُطاق. هواؤها فاسد،
لا يسري فيها سِوَى النَّزْر اليسير من الهواء المُكيَّف، نوافذها مُغلَقة بستائر
سميكة زيتونيَّة اللَّون.
بعد
مُرور ستِّ ساعات على بدء الاِجْتماع، ألحَّ نداء قضاء الحاجة الطبيعيَّة على السَّفير،
وكان أن اِحْتاج لأن يذهب للضَّرورة
القُصوى إلى الحمَّام.
وَقَع
السَّفير في إحراج، كتب ورقة وناولها لجيمس بيكر، يطلب منه السَّماح له
بالخروج إلى الحمَّام، فأعطاه الإذن بالخروج من الاِجْتماع بحُجَّة إجراء مكالمة
هاتفيَّة، لم يرُق الأمر للأسد، وبَدَت على وجهه علامات التوتُّر، وأشار لوزير
خارجيَّة بالخُروج مع السَّفير، ويقول بيكر: (أخبرتُ الأسد عن سبب خُروجه؛
فاِنْفَجَر الأسدُ ضاحكًا).
بعد
ساعة اِسْتسلم أيضًا بيكر، وتابع حديثه: (بعد أكثر من ساعة، سحبتُ
منديلاً أبيض اللَّون، ولوَّحتُ به للأسد، وأعلنتُ اِسْتسلامي، وقلتُ: عليَّ أن
أذهب إلى الحَّمام…).
السَّفير
أعادني إلى مُعاناتِنا في الخدمة الوظيفيَّة. الدَّوام الطَّويل لا يعترفُ بأوقات
رسميَّة للعمل. الأمر خارج القانون، وخارج كلَّ تصوُّر. تسرَّبت مآسي المتاعب والصُّعوبات رُجوعًا، لاِقْتحام لحظة فَرَحي
الرَّاهنة؛ فقلتُ:
-"سعادة
السَّفير، ليس غريبًا مثل ما تفضَّلتَ به؛ فلو سمحتَ لي بأن أُخبركَ بأمرٍ قد حَدَث
معي بالذَّات؛ فعندما يكون الرَّئيس في المكتب، وفي أغلب الأحيان يمتدُّ دوامه
لثمان عشرة ساعة مُتواصلة، ولا يستطيعُ أحدٌ منَّا المُغادرة".
-"في
الحقيقة أمرٌ مُرهِق له، ولطاقم العمل".
-"
لا تستغرب يا سعادة السَّفير، إذا عَرَفتَ: بأنَّ زميلًا لي خَرَج من المرحاض
مذعورًا، وأكمل باقي حاجته ببنطاله المُنحَسِر للأسفل نحو رُكبَتيْه، حينما رنَّ
الجرس في مكتبه، ومن سُرعته اِرْتبكَ.. ونَسِي تشطيف نفسه. عَدَّل هندامه كيفما
اِتَّفق، وكان شكله الكراكوزيِّ باعثًا على الضَّحِك المُفتَقَد من أيَّامنا، الممنوع
علينا مُمارسته في محيطنا، كلٌّ منَّا مشغول بمهامِّ كثيرة تمنعنا من حكِّ رؤوسنا".
-"يااااه..!!
ألهذه الدَّرجة؟".
-"يعني
لا يُلام لا جيمس بيكر، ولا هنري كيسنجر".
رائحة
القهوة عابقة بمحيطنا، تختلطُ مع روائح ناعمة؛ تأتي من جميع الاتِّجاهات المُحيطة
بنا من الطَّاولات القريبة، والجَلَسات الحميمة المُنزَوية في الجهة المُقابلة لي
مُباشرة.
الرَّوائحُ
مخرَجٌ هادئ من حالة حَصْرٍ إلى فضاءات تبعث لذَّة في النَّفس، إذا اِسْتُنشِقَتْ
بعُمقٍ يتراقص القلب معها، والنَّظراتُ تبحثُ بجديَّة عن المصدر بشكل
أوتوماتيكيٍّ.
..*..
رائحة القهوة ذكَّرت سكلمة بموقف مُحرِجٍ، ولا يستطيع الكلام
به عَلَنًا أمام السَّفير، فقد أخذته رائحتها تُشبه إلى عوالم بعيدة هُناك كالتي
كانت تُدخَل لضُيوف الرَّئيس، لكنَّها لم تكن لتستطيع تلطيف الجوِّ المُنكَتِم،
ولا تلطيف رائحة الأنفاس المختلطة، لا يُحسِّ بها إلَّا الدَّاخل إلى المكان أو من يدنو
ويقترب منه.
حركة
الجرسونات دؤوبة لا تتوقَّف في جميع زوايا الكوفي شوب، أصوات احتكاك كاسات
الشَّراب والشَّاي وفناجين القهوة مستمرَّة لتلبية طلبات الزَّبائن، بين الفيْنة
والأخرى تنطلق ضحكات غانجة؛ تُرطِّب حرارة حوارات غاصَّة بمُحتويات مُثقلة
بمواضيعها السياسيَّة على الأغلب، عينا سكلمة لم تتعبا بالبحث عن مصدر رنين
ضحكة لامرأة لم ير إلَّا ظهرها بينما
وجهها عكس الاتَّجاه له، كما أن سعادة السَّفير اِلْتفَّتْ رقبته، شعر بتشجنُّج
مُفاجئ، فَرَكه بطرف يده اليُسرى لم يَطُل به الأمر ليعتدل بنظره إلى وجه سكلمة
الشَّارد في عوالم مجهولة للسَّفير الذي قال لنفسه: "دع الخلق للخالق، هو
أدرى بما يدور في دواخلهم". بينما ارتشف من فُنجانه عندما أفلتَت نقطة بحركته
غير الواعية، لتسقط على مقدِّمة صدره بجانب ياقة قميصه الأبيض. شعور مُباغِتٌ
بالحرَج، بلَّل قطعة منديل بما تبقَّى في قاع كأس الماء، حاول عبثًا مسح آثار نقطة
القهوة بقيت تواشيح لونها الغامق. بينما تفاعلات الصَّالة الواسعة هادئة نوعًا ما،
إذا ما قورنت بمقاهي
الشَّرق عُمومًا، الهمهمات والكلام معقول ومُحتَمل بلا نُفور.
اِسْتعاد
سكلمة وضعه الطَّبيعيّ، بعد أن اِنْتبه لِعَيْنيّ السَّفير تُحدِّقان في وجهه،
بادر باِعْتذاره: "أنا آسف سعادة السَّفير، حقيقة أنا آسف".
-"لا
عليكَ أستاذ سكلمة، يحدث شرود في بعض الأوقات لتزاحم ما يدور في رؤوسنا حين
استرجاع شيئًا من ماضينا".
تذكَّر
سكلمة سياق الحديث. وتابع:
الرَّئيس
دائمًا لم يكُن ليقترب من ضَيْفه أو مُحاوِرِه، يبدو أنَّ الأمر –بعد كلام القذَّافي- سبَّب له عُقدة نفسيَّة، وهذا الأمر لم
يُطرَح للعلَن أبدًا، إلَّا حينما فَجَّر الرَّئيس معمَّر القذَّافي قُنبلة
من العِيَار الثَّقيل في نَوْبة غضبٍ شديدة من نوباته المعروفة على نطاق واسع، إثْر
خلاف نشَب بينهما.
حين
نَفَد صبر القذَّافي من مُطالبة الأسد بالدُّيون البالغة مئتي مليون دولار؛
التي دفعها القذَّافي لشقيق الرَّئيس "رفعت الأسد"؛ مُقابل
خروجه من سوريَّا. بعد الخلاف الذي حصل بينهما، والذي وصفه "باتريك سيل"*
بحرب الأخويْن.
وجاءت
فُرصة اِنْعقاد مؤتمر مدريد للسَّلام*،
وكانت الفُرصة الذَّهبيَّة للقذَّافي، لضرب عُصفوريْن بحجر واحد. كلام كثير فيه اِحْتجاج
وسُخرية من المُؤتَمر، وبطريقة غير لائقة بلْ وسُوقِيَّة، بعيدة عن الأعراف،
واللَّباقة الدُّبلوماسيَّة؛ ليصُبَّ جام غضبه دُفعة واحدة على الأسد، ومُستهزئًا به، وبشكلٍّ شخصيٍّ. قال:
-(إنَّ
حافظ الأسد يُصِرُّ على إعطائنا مُحاضرات في السِّياسة، تكون طويلة جدًّا، وقد تمتدُّ
لساعات عند لقاء لنا معه. ولكن من الممكن أن نصبر عليه، ونتحمَّل كلماته الفارغة،
أمَّا رائحة فَمِه، وأنفاسه حين يتحدَّث؛ فهي المُشكلة الحقيقيَّة التي لا يُمكِن
تحمُّلها).
يبدو
أنَّ السَّاعات الطَّويلة التي يستغرقها أيَّ شخص بالجلوس خلف الطَّاولة في أيِّ
عمل، ولا يُدخِل الطَّعام أو الشَّراب إلى جَوْفه؛ يُسبِّبُ جفاف الفم، وتنتشر الرَّائحة
للخارج مع الأنفاس، وبقايا الطَّعام بين الأسنان، أو أنَّ هناك أسنان منخورة أو
مُتعفِّنة، أو مُشكلة تتعلَّق بالمريء، والدَّسَّام الرَّاجع عند فم المعدة.
وعلى
ما أذكُر أنَّ هذا يُعرَف طبيًّا: بـــ(داء عبد الملك) نسبة إلى الخليفة
الأمويِّ (عبد الملك بن مروان). المُشكلة الأفظع: أنَّ صاحب هذا المرض، لا
يَعرِفُ بإصابته لعدم تمكُّنه من شمِّ الرَّائحة التي تستوطن الأنف حدَّ الإدمان.
وقتها
تضايق الرَّئيس جدًّا من كلام القذَّافي، واِحْتَجَبَ لأيَّام لم يأت فيها
للمكتب. قيل لنا: (أنَّه مُرهَق جدًّا. والطَّبيب الخاصّ فَرَض عليه نَقَاهة
إجباريَّة، وعدم مُمارسة أيّ عمل أو بذل أدنى جُهد، كي يستطيع اِسْتعادة صحَّته).
بإضافة
غير مُتوقَّعة من السَّفير: "يا أستاذ سكلمة، أعرف أنَّ كثيرًا من البشر
يُعانون من (البَخْر) رائحة الفم الكريهة. الأمرُ عاديٌّ وفي غاية السُّهولة، وكما
أعتقد أنَّه من تفاعلات الجسد البشريَّ مع الحياة ذات الاِسْتحقاقات.
ولا
ننسى أنَّ مُحبِّي العندليب الأسمر "عبدالحليم حافظ" اِشْمأزُّوا،
وغضبوا من تصريحات "مريم فخرالدين"*: (أنَّها
كانت تضجَرُ من رائحة فم العندليب الكريهة)؛ وقت تصوير فيلمهما الشَّهير "حكاية
حُبٍّ"، كما أنَّ "نادية لطفي"*39
كانت تتناول البَصَل كي لا يُقبِّلها عبد الحليم طويلًا؛ فلا تستطيعُ اِحْتمال
رائحة الأدوية المُنبعثة من فمه؛ فكيف سيكون حال العندليب، لو سمِعَ
كلامهما عنه؟. لا أشكُّ أبدًا باِعْتزاله للنَّاس والغناء، والانطواء على أحزانه
بقيَّة حياته".
يا
سعادة السَّفير:
-إنَّ
المشاهير يفرحون ويحزنون ويضعفون كباقي البشر، وليسوا مخلوقات (سُوبَّرمانيَّة) أو
قادمة من الفضاء. ضريبة الشُّهرة يجب أن يدفعوا فاتورتها الباهظة من أعمارهم
وراحتهم وخُصوصيَّاتهم.
السَّفير
قام من مكانه، وقال ضاحكًا، وبلا حَرَج:
-"لن
أرفع الرَّاية البَيْضاء أمامكَ، كما رفعها جيمس بيكر لرئيسكم، لا أقوى على
التَحمُّل أكثر من ذلك؛ لأنَّ السُّكَّري لا يسمح لي بالصَّبر لفترة أطول، وفي بعض
الحالات نصحني الطَّبيب بكبسولات مُدِرَّة للبَوْل، المشاكل الصحيَّة تمنعنا من
مُمارسة حياتنا بشكلٍ طبيعيٍّ، كلَّما تقدَّمنا بالعمر سنة وراء سنة؛ نفقِدُ شيئًا
من المزايا الجسديَّة التي كنَّا نتمتَّع بها، ويبقى كيس الأدوية رفيقنا الدَّائم،
ونُصبِح خُبراء بأسماء الأدوية، ومُواصفتها، وعياراتها، وخوَّاصها، ولا مُتعَة
للحياة مع التوجُّع والتألُّم".
..*..
هَززتُ رأسي مُعلنًا مُوافقتي على كلامه. شيَّعته بنظراتي إلى أن اِنْعطف
نحو الحمَّامات، وغادر الصَّالة البديعة بتماثيلها، وتُحفها المُحيَّرة للعقل،
الذَّوق الرَّفيع باِخْتيارها؛ لتُناسب غالبيَّة الأذواق، وخبرة دقيقة بوضعها في
المكان المُناسب.
أوه..
يا لها من مفارقة..!!.
كثيرًا
ما تمرُّ بعض الأشياء البسيطة بسُهولة، وتتدحرجُ كالكُرَة بعيدًا من أمام عَيْنيْ
شخصٍ ذكيٍّ، ولا يلتفتُ لها ولا لدحرجتها، أو يُفكِّر بشيء من التدقيق، أو يشكُّ
في حركتها. صَدَقوا بقولهم: (لكلِّ جوادٍ كَبْوَة، ولكلِّ سيفٍ نَبْوَة)
لا
أشكُّ في أنَّ كلام "القذَّافي" كان قاسيًا جدًّا. ما أصعب تحقير
شخص علانيَّةً أمام جَمْع من النَّاس؛ ينكفِئُ المُحَقَّر مُنطويًا على نفسه؛
يحتسي مرارة غضبه المكبوت.
الكلامُ
أذيَّةٌ جرحَتْ قلب الرَّئيس، ربَّما سبَّبت له عُقدة مُزمنة، اِنْسحبَت آثارُها
على سُلوكيَّاته في بقيَّة حياته، بعدها اِشْتُهِر بعُزلته في مكتبه، والاِنْشغال
بمتابعة أدقِّ الأمور بالبلد والاِجْراءات الدَّاخليَّة، وسلَّم ملفَّ لُبنان
لنائبه "عبدالحليم خدَّام"، الذي أمسَكَ بجميع الأوراق بيده، وكان
يتصرَّف فيها كحاكم مُطلَق.
أخيرًا
ضَجَّ السَّاسَة اللُّبنانيُّون بتذمُّرهم وشكاويهم، من فَظَاظته وتعاليه بالتعامل
معهم بِفَوقيَّة، وبذاءة لسانه بألفاظ لا تليق بسياسيٍّ مثله، كان يومًا ما –وزيرًا للخارجيَّة- قائد الدُّبلوماسيَّة السُّوريَّة، وتطوَّر به الأمر لشتيمتهم في الاِجْتماعات الخاصَّة.
وفَرَض
عليهم تنفيذ الأوامر، والتعليمات التي يُمليها بلا اِعْتراض، ووصلت أصواتهم
المُتذمِّرة مَسامِع الرَّئيس؛ ليعود، ويسحب الملفَّ من خدَّام، وقد نُقِلَ: أنَّه
كان يُخاطِب، وينادي الرَّئيس "إلياس الهراوي": (أستاذ إلياس)
بنبرة تصغير وتقزيم للتقليل من شأنه.
اِحْتجابُ
الرَّئيس عن الجميع له مُبرِّرات وجيهه، تدهور وضعه الصِّحيِّ، وحاجة للرَّاحة
والاِسْتجمام، والتخفُّف من ضُغوط العمل المكتبيِّ المُرهِق.
اِزْدادتْ
عصبيَّته بشكلٍ واضحٍ في تعاملاته اليوميَّة مع المُلاصقين له مباشرة في مكتبه -أبو
سليم*
وجماعته-، وصارت بحكم العادة المألوفة على مدار سنوات، وكان يُدير الدَّولة
جميعها بالهاتف، لا رغبة عنده بلقاء أحدٍ
أيًّا كان، ما دامت الأمور ماشية روتينيًّا، بلا تعقيدات، فلا حاجة لأيِّ لقاء.
..*..
كان سكلمة خالي الفُؤاد من أيِّ شيء يستطيع التَّفكير به،
أثناء فترة غياب السَّفير في الحمَّام، إلَّا من الإعجاب بذكائه الفطريِّ،
وتلقائيَّته بالتعامل، وببساطة تجرَّأ وبلا خجل أو إحراج، اِسْتطاع الإعلان عن
رغبته بالذَهاب إلى الحمَّام.
"أظنُّ
أنَّه يهزأ بنظريَّة "فقع المثانة"، ولا يُقيم وَزْنًا لها، اِحْتباسُ
البَوْل قاتل على المدى البعيد. تخلَّى
بسهولة عن فُنجان قهوته، وطُقُوس شُربها المُقدَّسة، التي يدَّعيها البعضُ
باِفْتعالٍ جُنونيٍّ، ويُلزمون أنفسهم بما لا يلزم". يُحدِّث سكلمة نفسه.
الصحَّة
أوَّلًا، وأهمُّ ما في الحياة إطلاقًا، يبدو لي أنَّه شِعار السَّفير الذي يلتزمُ
به، ويُحافظ عليه باِنْتظام، مهما كانت الظُّروف المُحيطة به.
رغبه
مُلحَّة تولَّدت للتوِّ عند سكلمة للقيام إلى الشُّرفة المُطلَّة على البُحيْرة.
دهشةٌ
طارئةٌ، وكأنَّه للمرَّة الأولى يُشاهدها. اللَّيْل خيَّم على وجه البُحيْرة، يبدو
ساكنًا لمن يَرَاه من مسافة أبعَد عن الضِّفاف الضَّاجَّة بصَخَب المقاهي.
مُرتادوا
المكان يتحدَّثون بلا اِنْقطاع، أمَّا الجالسون وحدهم يتأمَّلون اِنْعكاسات
الضُّوء؛ يَخالُونَها تغتصِبُ سطحها باِلْتصاقها العجيب بتمازُجٍ بين الأطياف،
يصعُب التَّفريق بين أيَّة جُزئيَّةٍ صغيرةٍ كانت أم كبيرة.
الأضواء
القريبة، والبعيدة تتماوَجُ ألوانها باِهْتزازاتٍ على وَقْع معزوفة أزليَّة؛ يُؤدِّيها
"كورال الطَّبيعة" الصَّامت، إلَّا من حركات إيمائيَّة مُنسجِمَة
مع توتُّرات المياه المُتموِّجة بفعل النَّسائم اللَّطيفة.
الأضواء
جُيوشٌ مُنتصرة تَكتَسِح ساحات الظلَّام، وتمحقها؛ ترفضُ التَّهميش والاِخْتباء
وراءه. ولا تتوانى عن غَرْز ألسنتها عميقًا في باطن البُحيْرة.
يا
لها من فكرة جريئة اِقْتحمت لحظتي.. يا إلهي..!! يا لَرَوعتكَ يالفَراهيدي
بمقولتكَ: (كتَبتُ بِخَطِّي ما ترى في دفاتري عن النَّاس في عصري، وعن كُلِّ
غابرٍ، ولولا عَزائي أنَّه غير خالد على الأرض؛ لاِسْتودَعتُه في المقابر).
يالواقحتي..!!
كيف ذكرتُ الفراهيدي بكُنيته دون ذكر اِسْمه "الخليل بن أحمد
الفراهيدي" على الأقلِّ تأدُّبًا، وتوقيرًا لأُسْطونٍ من أساطينِ لُغتنا.
مقولته
مُلهمة لي، تُؤكِّد أنَّني على صَواب فيما كتبتُه عن جلستنا في بيروت أنا وجورج.
وما الذي سأنتظرُ بعد أن قطعتُ شَوْطًا من السِّنين التي تجاوزت السِتِّين. أعتقدُ
جازمًا:
-"حانَتْ
العودة للنَّفس ببطء شديد، لاِنْسجامها مع مُتغيِّرات، ومُستجدَّات حياتي
الحاليَّة، بإعادة النَّظر بما مضى الحافل بالخفايا المجهولة، وما يُقال للعُمومِ
في وادٍ، والحقائق في وادٍ آخر بعيد كلَّ البُعد عن سابقه، سأحاول الكتابة؛ لتوثيق
ما أستطيعُ البَوْح به، ليُصبحً مُتاحًا تتداوله أيدي القُرَّاء". أتوقَّعُ
أنَّ ما مررتُ به خلال مسيرتي العمليَّة؛ يُعادل عُمُر نبيِّ الله نوحٍ
-عليه السّلام- الألف إلَّا الخمسين عامًا.
..*..
ما زلتُ أزهو بفرحٍ غامرٍ؛ عندما أتذكَّر الحفاوة والاِحْترام، الذي اِسْتقبلونا
به عند وصولنا إلى مدينة اللَّاذقيَّة. وقتها، لَفَتَ اِنْتباهي العناية الفائقة
بالترتيبات الدَّقيقة. كلُّ شيءٍ كان مدروسًا جيِّدًا. المهامُّ مُوزَّعة على فريق
عمل مُتكامل مُستَعِدٍّ؛ لتلقِّي الأوامر من المسؤولين عنهم، كانوا يفهمون عليهم
بالإشارة. هكذا لاحظتُ من خلال النَّظرة العابرة.
السَّفير
مُنهمِكٌ في اِسْتعادة فَرَحَه على ملامحه هذه اللَّحظة، وأنا أُركِّزُ عينيَّ
بعينيْه، لا أقدِرْ على تحوُّلهما عنه، ولو باِسْتراق نظرةٍ خاطفةٍ، أو رَمْشة
عيْن إلى جهة أخرى.
توقُّعاتي
مُنفتِحة على اِحْتمالات بأنَّ: إيحاءات الأماكن تُضفي الطمأنينة والأمان على
النَّفس، وتوحي باِسْتدرار تدفُّق الذِّكريات على عَجَلٍ وبلا تردُّد، وتوقُّعات
ما سيتحوَّل إليه حديثه الشيِّق، ومُتهيِّئ له، وهو يُداعب خيالاتي وذكرياتي
الرَّائعة، اِسْتحضرتُ شريطها المَرْكون في زاوية من زوايا الذَّاكرة المُتوقِّدة،
ولم يتسرَّب إليها النِّسيان على الرَّغم من العوامل المُساعدة لمحوها للأبد.
عندنا كلُّ شيءٍ للأبد بمثابة ثابت من ثوابتنا الوطنيَّة، ولا مناص لنا من مقولة
الأبديَّة، وقد أصبحتْ مُصطلَحًا دَالًّا علينا بالضَّبط.
السَّفيرُ
مُسترسِلٌ بكلامه، وكم أبدى إعجابه واِحْترامه وأشواقه لدمشق، وعيتُ عبارته:
"وأكبرُ يقيني أنَّ قطعةً من قلبي باقية هناك في دمشق، ولم أشعر باِنْتمائي
الحقيقيِّ للعُروبة إلَّا فيها". لم
أردّ عليه إلَّا بِصَمْتي؛ مُوهِمًا له باِنْسجامي مع حديثه، وأستمعُ جيِّدًا وباِهْتمام.
ما زال مُتابِعًا الحديث: أدركتُ سرَّ اِخْتيار الأمير عبدالقادر لمنفاه
القَسريِّ أن يكون بدمشق. وقد عثرتُ في كثير من المراجع المُعاصرة له ممَّن
تناولوا سيرته: أنَّهم لقَّبوه هُناكَ بالأمير الشَّاميِّ؛ إكرامًا وإجلالًا له،
ولعلمه الذي بَذَله لطلبة العِلم في الجامع الأُمويِّ.
(وعند
قُدومه دمشق اِسْتقبلوه اِسْتقبال الفاتحين. دخل الأمير دمشق تتقدَّمه وحدة عسكريَّة
رمزيَّة، وفرقة موسيقيَّة، وتداولَ النَّاس وقتها: "أنَّه منذ مدخل صلاح الدِّين،
لم يدخل دمشق زعيمٌ أو قائدٌ بمثل ما دخلها الأمير عبد القادر من محبَّة وحفاوة
"، وفور وصول الأمير توجَّه إلى ضريح الشَّيخ الأكبر محيي الدِّين بن عربي)*.
سعادة
السَّفير لو سمحتَ لي بالإضافة على ما تفضَّلت به، فإنَّ أهل دمشق أكْبَرُوا مُبادَرة
الأمير؛ بإخماد الفتنة الطائفيَّة بين المسلمين والمسيحيِّين في حيِّ "باب
توما" الدِّمشقيِّ بأكثريَّته المسيحيَّة.
نعم
أستاذ سكلمة أعلمُ هذه النُّقطة، وكنتُ سأُعرِّجُ عليها، لقد قرأتُ باِهْتمام
سيرته في دمشق، وفي مرَّات قمتُ بزيارة مقام الشِّيخ الأكبر "محيي الدِّين
بن عربي" في سفح جبل قاسيون الشرقيِّ – الصَّالحيَّة
القديمة- المُطلِّ من علياء شُموخه الأبديِّ على وجه دمشق المُتورِّد بغوطتيْها
الشرقيَّة والغربيَّة، فهما يُمثِّلان خَدَّيها. تيمُّنَا بالمكان الذي اِحْتوى
على قبر الأمير؛ حينما اِخْتار أن يُدفَن فيه، وأدهشتني الصِّلة الرُّوحيَّة
بينهما في عالم الأثير؛ لأنَّه فَوْر وصوله إلى دمشق؛ قرَّر زيارة قبر الشيخ
الأكبر.
..*..
ولم تَفُتْني فضيلة زيارة "مغارة الدمِّ"*..
يا إلهي..!! حقيقة يا أستاذ سكلمة فلا أستطيعُ وصف حقيقة مشاعري لكَ في ذلك
المكان، وأنا أتخيَّل "هابيل" يتخبَّط بدمه.
يُعتَقَد
أنَّ جبل قاسيون ما زال فاغِرًا فاهُ دهشةً، ودموعه تقطرُ حُزنًا من سقف المغارة، تعزيزًا
ومشاركة لنبيِّ الله آدم -عليه السَّلام- في حُزنه على ابنه "هابيل".
السَّفير
مُنهمِكٌ بحرارة في حديثه بلا توقُّفٍ. بينما
دُموعي تُغالبني على ما سمعتُ من كلام السَّفير حُزنًا ليس على هابيل... يا لَسَذاجتي..!! كيف ضاعت كلُّ هذه السِّنين من
عُمُري، جَرْيًا وراء المناصب والشُّهرة الفارغة، وها أنا وحيد؛ أُطارح عُقَدي
النفسيَّة، ووحدتي، وغُربتي.
منذ
موت والدي –حلمي باشا- ليلة الاِنْفصال بين مصر
وسوريَّا. بموته فقدتُ عمود حياتي الذي يحتمل اِتِّكائي عليه؛ وكُتِبَ فصل الأحزان
الدَّائمة في حياة أُسْرتنا الصَّغيرة.
كُسِر
عمود بيتنا، واِنْهدَم عِزَّهُ الغابر، وتاريخه الحافل بالجلسات والاِجْتماعات واللِّقاءات.
مجلس بَيْتنا عامر على الدَّوام بالشخصيَّات المُهمِّة على الصَّعيد العامِّ
السياسيَّة والثقافيَّة، ووجهاء وشيوخ العشائر والقبائل، عرفتُ الكثيرين بأسمائهم ووجوههم
عن قُرب، وسمعتُ عن آخرين لم تُتَح لي فُرصة مُقابلتهم وجهًا لوجه.
مجلسُ
أبي كان أعظم مدرسة تعلَّمت فيها الانتباه والإنصات للآخرين، واَكْتسبتُ فضيلة الاِسْتماع
لهم حتَّى النِّهاية، الهُدوء سِمَة مُميِّزة لشخصيَّة تستطيع الإمساك بكافَّة
الخيوط. الهدوء مساحة آمنة للتفكير، لفهم مآلات الكلام، وإدراك مراميه القريبة
والبعيدة. القرار الصَّائب غالبًا ما يصدُر عن تفكير عميق هادئ.
وجاء
موت أمِّي -سعاد خانُم- بعده بأشهر قليلة؛ لأرى
فراغًا قد حلَّ بالدُّنيا خالٍ من أيِّ مفهوم مُفيدٍ على الإطلاق، ممكن الاِسْتناد
إليه؛ فصارت الحياة عَبثًا لا تحملُ معها معاني الحُبِّ والحنان، وعِبئًا ثقيلًا
أفرغ مُحتوى رغبتي بمواصلة الحياة، وسقطَتِ الدُّنيا من عيْنيَّ حتَّى رأيتُها لا
تُعادل قِشْرة بصلة.
شعورٌ
طاغٍ بالأحزان تتكالبُ عليَّ بلا رحمة. عامُ حُزنٍ مضى لم أُشفَ من ألم فراق أبي،
وإذ بالآلام تتجدَّد بفراق أمِّي.. يا لها من مأساة ثقيلة عليَّ؛ هدَّمَت دواخل نفسي، وهزَّت كياني
من الجُذور بعُمقٍ.
تساءلتُ
كثيرًا: كيف لي بمواجهة أعباء الحياة الثَّقيلة بِمُفردي، دون مُعين أو سنَد بعد
الله، وأين سأجدُ صَدْرًا بعد صَدْر أمِّي؛ أُمرِّغُ وجهي ورأسي فيه؛ لأرتوي منه
أمانًا مفقودًا؟.
وفي
حياة أبي، وقبل وفاته بخمس سنوات. كان مَوْت أخي الأكبر؛ مفاجأةٌ صحوْتُ فيها على اِنْفرادي
بِوحْدَتي؛ حينها فقدتُ جُزءًا من قلبي.
يا
مسكين يا ناجي..، نام صحيحًا بكامل عافيته، ولم يُعرَف سببًا وجيهًا لموته،
تكهَّنوا بموته على أنَّه سَكْتَة قلبيَّة حادَّة، ومع مَوْتِ أُختي وجيهة
بعده بسنتين، لم يبق إلَّا حضرتي من سُلالة حلمي باشا.
بفراقِهِما
الأبديِّ؛ لم تبق أمامي أيَّة مسؤوليَّة تجاههما، ولا غيرهما. تابعتُ حياتي بلا
حُدود مُنطَلِقًا كما يحلو لي، فلا اِلْتزام بمواعيد عائليَّة، ولا أعياد ميلادها،
ولا زيارات عائليَّة، ولا أيَّة مظاهر للحياة الاِجْتماعيَّة، سوى من أبناء عُمومة
أبي الذين لا ألتقيهم إلَّا نادرًا، وعلى فترات مُتباعدة جدًّا، وفي السَّنوات
الأخيرة؛ اِنْقطعت علاقتي بهم جميعًا، مسؤوليَّاتي الوظيفيَّة؛ اِلْتهمت وقتي، ولم
تترك لي أيَّة فُسْحةٍ لِأَحُكَّ رأسي.
تبلَّدت
أحاسيسي بالحياة من حَوْلي، فلا أقيمُ وزنًا للتواصل الاِجْتماعيِّ مع المُحيط الطَّبيعيِّ
من الأهل والجيران، وأصدقاء العائلة، وعلى الأخصِّ ممَّن تبقَّى من أصدقاء حلمي
باشا، كما كان يُحبُّ مناداته باِسْمه مُرْفَقًا بباشا، كنتُ بريقًا
مُتأجِّجًا في عيْنيْه مليئًا بالفَرَح. لا أرى سببًا وجيهًا لتدفُّق الذِّكريات
الحزينة دُفعة واحدة، عندما ذَكَر السَّفير مغارة الدمِّ، والشَّيْخ
الأكبر.
تتالي
الأحزان، في مواعيد تختارها على هَواهَا بلا اِسْتئذان. نُصبح عبيدًا لها، وتحت
رحمة سِيَاطها نتلوَّى، تجعلنا ذُواءً كَهَشيم نباتات يابسة تلعبُ بها الرِّياح
كيفما شاءت.
كم
كنتُ أفتَقِدُ رُوحانيَّات الشَّام الشَّهيرة المُميِّزة لها عن جميع مُدُن
الشَّرق، وقد سمعتُ عنها كثيرًا..!!. كنتُ قريبًا منها، وبعيدًا في آنٍ معًا.
الأيَّام لن تعود؛ لأعود إلى روحٍ اِفْتقدتُّها.
..*..
قبل أيَّامٍ لكَ أن تتخيَّلْ يا أُستاذ سكلمة. أنَّ زوجتي حدَّثتني
طويلًا عن سُرورها الكَامِن في قلبها؛ عندما رافقتني لحضور اِفتتاح دورة ألعاب
المُتوسِّط.
كنَّا
وقتها عَرُوسيْن لم يمض على زَواجِنا العام الواحد، وما زِلْنا عاشقيْن كعُصفوريْن
يتقافزان من غُصنٍ إلى آخر، ولا يتوانيان عن الصَّدْح تغزُّلًا وعِشقًا، وقتها
حجزوا لنا جناحًا فَخمًا في ميريديان اللَّاذقيَّة.
لأبقى
قريبًا من فريقنا الأولمبي المُشارك بعدد لا بأس به، المُكوَّن من أربعة وستِّين
رجلًا، مقابل عدد مُتواضع جدًّا لأربع نساء فقط، من المُهمِّ بقائي لأقف على بعض
مُعاناتهم، وتذليل بعض المصاعب، والعقبات التي ربَّما سَتُواجههم، وبالتشاور مع الإداريَّين
والمُدرِّبين.
من
الضَّروري تواجدُي معهم في هذا الظَّرف التَّاريخي، ربَّما لن تتكرَّر الفُرصة ثانية على الأغلب، والسَّفارة بمثابة
مرجعيَّة لجميع مواطني البلد، لتقديم الخدمة التي يطلبونها، وحمايتهم إذا وقع ظلم
على أحدهم، هذا فوق وظيفتها الأساسيَّة لرعاية العلاقات السياسيَّة والاِقْتصاديَّة،
ولترسيخ مبدأ التَّعاون بين الدَّولتيْن.
وأصدقُكَ
القول أستاذ سكلمة بأنَّ نتائج فريقنا مُخيِّبة للآمال، بل كانت مُتواضعة
في حدِّها الأدنى، الذي لا يُوازي الأموال التي صَرَفتها الدَّولة على النَّوادي
الرِّياضيَّة في العام الواحد، فما بالُك بميزانيَّات الرِّياضة لسنوات طويلة.
أقسمُ
بالله صادقًا. وماذا يعني الحُصول على خمس ميداليَّات ذهبية، وثلاث فضيَّات، وأربع
برونزيَّات..!؟. نتائج مُتواضعة غير مُشجِّعة على الإطلاق، لو كان الأمر بيدي،
لشكَّلتُ لجان مُحاسبة شاملة لمحاسبة كلِّ الجهاز الرِّياضيِّ، ولجان مُتخصِّصة
لعمل مُراجعة دقيقة للوُقوف على نُقاط الضَّعف، والتركيز عليها لنرتقي ونتقدَّم،
كي لا تضيع أموالنا سُدًى، وتذهب في دروب الفساد والسَّرقة والرَّشاوى. أمرٌ يطول
الحديث فيه، ولا ينتهي بجلسة أو اِثْنتيْن. هناك مراكز قوى مُستفيدة؛ تتخفَّى تحت
ستار المصلحة العامَّة ومصلحة المواطن.
وجدنا
فرصة لبعض الوقت؛ فنزلنا مدينة اللَّاذقيَّة، وتجوَّلنا في أسواقها واِلْتقيْنا
العديد من النَّاس، واِشْتريْنا بعض الذِّكريات من هُناك، وما زالت زَوْجتي تحتفظُ
بصندوق خشبيِّ صغير؛ مُخصَّص لتقديم ضِيافة الحلوى والسَّكاكر، مُصدَّف بالوَدَع
اللَّماع، والقواقع الصَّغيرة. شكله التُّراثيِّ مَثَار إعجاب زُوَّارنا وضُيوفنا
يلمسونه بأيديهم، ويُدقِّقون النَّظر بتشكيلات الأرابسيك الفنيَّة على الغطاء
والجوانب. غالبًا ما يسألون عن مصدره، ومن أين اِشْتريناه؟. يا إلهي كم تكون جَذْلى
بِفَرحها الطَّافح..!! ألمحُ الضِّياء في عَيْنيْها المُتواثِبَتيْن بمُلاحقة
الفرح، وتُردِّد:
-(هذا
من ذكريات الزَّمن الجميل التي لا تُنسى في الشَّام، حينها كان الشَّباب والصحَّة،
وهي أجمل أيَّام حياتنا على الإطلاق، لم أتجاوز في ذاك الوقت الأربعين من عُمُري
إلَّا بقليل).
لذَّة
الذِّكريات كالحلوى اللَّذيذة يدوم طعمها في الفمِّ. كُلَّما تَعتَّقَت صارت خمرًا
تُسْكِر العُمُر عندما تَرِدُ ولو عرَضًا، ولا يصحو مِنْ سَكْرتِه مَنْ إذا
اِسْتحوذته. تذوي الأيَّام في عُيوننا، تحيا وتنتشي على وَقْع الذِّكريات.
وماذا
سنقول نحن أصحاب الأولمبياد يا سعادة السَّفير، بكلِّ أسَفٍ..!!؛ فالألم يحزُّ
قلبي منذ ذاك التَّاريخ، لتواضع مُنجَزَنا؛ لنأتي بالمرتبة السَّادسة بسبع وعشرين
ميداليَّة، منها تسع ذهبيَّات فقط.
ولولا
فوز فريقنا بكُرة القدم على المُنتخب الفرنسيِّ، بنتيجة اِثْنان إلى واحد لصالحنا
في المُباراة النهائيَّة؛ ليتكلَّلَ نجاح المهاجمان
"نزار محروس" و"وليد أبو السِلِّ" في ضربات
الجزاء بعد التمديد للشَّوط الإضافيِّ الأوَّل.
على
أيَّة حالٍ؛ فإنَّ نشوة الفَوْز على الفريق الفرنسيِّ حامل لقب بطل كأس العالم،
وحده مَفخَرة تاريخيَّة؛ سنبقى نتغنَّى بها لسنوات طويلة.
..*..
اِسْتغراق السَّفير في حديثه بنبرته الحزينة، حَوْل واقع الرِّياضة
الجزائريَّة؛ عندما اِنْكشفت له الأمور، واتَّضحت من خلال النَّتائج البائسة، التي
حَصَّلوها في دورة أولمبياد ألعاب المُتوسِّط في اللَّاذقيَّة.
بكلامه
أثار شُجوني وأحزاني، ممَّا كنتُ قد رأيتُ من خلال قراءاتي واِطِّلاعي على
التقارير المُرسلة من الجهات الحِزْبيَّة والأمنيَّة؛ حَوْل عمل اللِّجان القائمة
على تنفيذ أعمال المدينة الرياضيَّة.
هُناك
معلومات لا تُحكى، ولا أجدُ رغبةً بالحديث عنها أمام صديقي السَّفير، ستبقى حبيسة
صدري. سيطول الشَّرح والنِّقاش بلا طائل، قاعدتنا الرَّاسخة بذهني: (مكانكَ
رَاوِحْ)؛ فالمُراوَحَة بنفس المكان حركةٌ مُقيَّدة، ولا تعني أيَّ تقدُّمٍ
ولو بخطوة واحدة إلى الأمام.
البَوْحُ
ضارٌّ وغير نافع بشيءٍ؛ ما دام اللِّقاء مُجرَّد أحاديث عابرة أقرب إلى المُجاملات
الدُّبلوماسيَّة، لا تفرُق كثيرًا عن الثرثرة غير ذات الفائدة، خاصَّة إذا كانت
الثرثرة من أجل الثرثرة فقط؛ تأتي بضربات قاتلة من فَلَتات الألسنة غير المُنضبطة؛
فكانت جلستنا لتمضية الوقت، وكنَّا مُنشغليْن باِسْتكشاف صلاحيَّة ذاكرتنا، في
العادة فإنَّ الذَّاكرة تتآكل مع كلِّ سنة تُضاف إلى أعمارنا.
السَّاعة
تقترب من التَّاسعة ليلًا. بعد هذه الاِسْتراحة في (الكوفي شوب) مع
السَّفير، الشُّعور بالتَّعب بدأ يتسرَّب إلى أعضاء جسمي. عرفتُ السَّاعة بدقَّة
من على شاشة الموبايل.
تثاءبتُ
بعد أن رفعتُ يديَّ لمُحاذاة كَتِفَيَّ وللأعلى على اِمْتدادهما؛ وكأنِّي أمارس
تمارين الرِّياضة الصَّباحيَّة؛ لشدِّ عضلاتي المُرهَقَة؛ بحركة أدركتُ لاحقًا
أنّها غير لائقة بحضور السَّفير، مع خُروج نَفَسي مُتقطِّعًا، مصحوبًا بتأوُّهاتٍ،
ليست بسبب وجع، أو أَلَمٍ من شيء ما لا سمح الله، بل إنَّه نَتَج عن هذه الوضعيَّة
بالحركات التي قُمت بها.
سعادة
السَّفير بَادَأَني بالإعراب عن سعادته بلقائي، وأنَّه مِثْلي يشعرُ بتعب من تجواله مع العائلة خلال معظم ساعات النَّهار،
وتابع:
-"حان
الوقت للعودة إلى البيْت.. أوه يا إلهي..! فطنتُ أنَّنا في (الأوتيل)، لا
يهمُّ ما دُمنا فيه فهو بيتنا".
-"سعيدٌ
بكَ سعادة السَّفير. بِعَوْن الله سيكون لنا ترتيب بلقاء آخر. خُذ رقمي الثُريَّا
سَجِّله عندكَ.. لو سمحتَ".
توادَعا
بحرارة على أمل تجدُّد اللِّقاء بعد تبادلهما الأرقام. دُموعُ الوَدَاع تستدعيها
لَوْعة الفِرَاق. كثيرون لا يثبُتون أمام لحظة الوَدَاع؛ يعتبرونها مَوْت مُتعَة
الفَرَح في أنفسهم؛ فتختلف الحال. ليس مثلما كانت في بداية أيِّ لقاء.
..*..
كلام السَّفير المُتدفِّق بشغف عن ذكرياته على مدار ساعتيْن اِسْتغرقتا
لقاءنا العابر، مُتأكِّدٌ من أنَّ لقائي به هيَّجها من جديد بِفُيوضات الحُبِّ
التي لم يستطع نسيانها، ولا الاِسْتغناء عنها.
تأثُّري
بلا حدود بتلقائيَّة السَّفير البسيطة، وأشدُّ ما أفرَحَ نفسي..!، دعوتي الخاصَّة على
طعام غداء، حاولتُ الاِعْتذار بلا فائدة بقبول الاِعْتذارـ
لم
يكن أمامي إلَّا القُبول محبَّة، ولستُ مُكرَهًا، لكن ليس هنا في لوزان، بل
بعد اِنْتهاء إجازته وعودته إلى باريس، وأكون قد اِنْتهيْت من رحلتي العلاجيَّة مع
الدُّكتور شنوان.
الدَّعوة
إلى البيْت مُختلفة بمعطياتها وهي دليل محبَّة، ورغبته الشَّديدة؛ بتحقُّق لقائنا
المُرتَقَب على وجبة "الكُسْكُسِي" المغاربيَّة الشَّهيرة، وعلى هذا
الأساس اِتَّفقنا قبل توادعنا، ومُغادرة كلٍّ منَّا إلى شأنه.
وَخْزُ
حديثه حول واقع بلادنا المُؤلم، والمُتشابه إلى حدٍّ كبير بمعطيات الفساد
الإداريِّ والمحسوبيَّات؛ لم يتركا لي مجالًا للاِسْتراحة بعد صُعودي لــجناحي.
خلعتُ
ملابسي، واِسْتبدلتها بالبيجامة، بعد أَخْذ دُشٍّ ساخنٍ. اِنْتعاشٌ فائضٌ عن
حاجتي، اِسْتعدتُ كامل حيويَّتي، واِنْفتحت شَهيَّتي على الأكل، تناولتُ شيئًا من
الفواكه والعصائر مع سندويشات الجُبْن والمربَّى.
هذه
المرَّة لم أطلب شيئًا من الخارج. جاءتني الهِمَّة؛ لأصنعها بنفسي، وممَّا هو
موجود في الثلّاَجة الخاصَّة بالجناح. بعد الأكل وعلى خلاف الأيَّام السَّابقة، لم
يخطُر التَّدخين على بالي، ولا داهمتني الرَّغبة الجارفة لفنجان قهوة كالمعتاد في
مثل هذا الوقت مع بداية السَّهر من كلِّ ليلة.
اِرْتميتُ
على التَّخْت بُغية الاِسْترخاء، وضرورة أخذ ساعة من الزَّمن (ريلاكس)
باِغْماضة للعينيْن لإراحة الجفنيْن والأعصاب. تبدَّدت أُمنيتي مع نشاط مُتحفِّزٍ غير
مُنتظَر لاِنْثيالات الذَّاكرة.
يحدُث
أن تتواءم الظُّروف بالصُّدفة المحضة؛ لتسرق، وبالأصحِّ لتقتُل لحظات الفَرَح
النَّاشئة في حياتنا على الرَّغم من نُدْرَتها.. حالتُنا سِبَاحة في مُحيطات القلق
والتوتُّر والخوْف، لاسيَّما وشعور الغَرَق الدَّائم خلف عتمة الجُدران، والموت
يرسُم أشباحًا تتناوشنا بأصابعها، أو بمخالبها الحديديَّة ذات الرُّؤوس
المُدبَّبة، فلا رحمة لمن يقع في قبضتها القويَّة، ولا يستطيعُ الإفلات مهما حاول.
وماذا
لو كانت كلُّ مُحاولات النَّجاة فاشلة..!؟.
"جمال
الشّريف" الحكَم
الدَّولي، أقسَمَ على النَّزاهة والشَّفافيَّة عند إدارة المُباريات، كان ذلك
بحضور "سعيد حمَّادي" عضو القيادة القُطريَّة للحزب. رئيس
اللَّجنة المُنظِّمة للدَّورة، و"رضا أصفهاني" رئيس الاتِّحاد
الأولمبي السُّوري. وبحضور "سامارانش" ولجنة الأولمبياد
الدوليَّة.
مازال
الألمُ يعتصر قلبي؛ كلَّما تذكَّرتُ المُباراة الاِفتتاحيَّة التي جمعت مُنتَخبنا مع
المنتَخب التُركيِّ، عندما قام حكم المباراة بِطَرْد اللّاَعب السُّوريِّ "سامر
درويش" على خلفيَّة خطأ تقنيٍّ غير مقصود، اِرْتكبه مع لاعب تُركيٍّ. إلى
هنا الأمر يبدو عاديًّا، لكن الذي لا يُمكن تقبُّله، هو اِسْتقبال المدير الفنيِّ
للمُنتخَب "فاروق سريَّة" لسامر بصعفة على وجهه.
تصرُّفٌّ
همجيٌّ غاية في القساوة؛ حَفَر أثرًا عميقًا مُؤلمًا بنفسي، فكيف كان وقع الصَّفعة
على نفس اللَّاعب المصفوع، ومهما كانت المُبرِّرات والأعذار، الأمر غير اِعْتياديٍّ
بالمرَّة.
الإهانة
لا تُمحى إلَّا بإهانة أكبر منها، لهذا المُتخَلِّف الذي لم يُعاقب من الجهات
العُليا على فُحش فِعْلَته الشَّنيعة. حيث صارت (كرة القدم، تسييسًا صارمًا
قتاليًّا "نِضَاليًّا"، بخلاف البُلدان التي ما تزال في مراحل ما قبل
الدَّولة، تهربُ منها إلى "الأمَّة العربيَّة" حينًا، وإلى
"المقاومة" و"الصُّمود" و"التصدِّي" أحيانًا أخرى.
لا يُمكن قراءة صفعة سريّة لدرويش من دون ملاحظة هذه المسائل.
الأب
الذي يحبُّ ابنه. المُدرِّب الذي يحبُّ اللَّاعب. "الأب القائد" الذي
"يعطف" على "المجتمع"، ما يضطره إلى ضربه على الأقلِّ، أو سَحْله
وتعذيب بعض أبنائه؛ ليردع أبناءً آخرين عن "الاِنْحراف" والتأثُّر
بالمشاريع الخارجيَّة، أو خوْفاً على "الوطن" من أن يبدو بمظهر مُعاكِس
"لما هو عليه". "الوطن مُقدَّس" و"مُنزَّه" عن كلِّ
ما من شأنه أن يُدنِّسه، حتَّى لو كان خطأً كرويًّا وبطاقةً حمراء؛ تستدعي صفعةً
أمام الكاميرات العالميَّة النَّاقلة للمُباراة. صفعة تقول للعالم: نحن لا نرتكِبُ
الأخطاء، وإذا اِرْتكبناها.. نُصحِّحها!)*
..*..
بروتوكول الاِسْتقبال مدروس بدقَّة مُتناهية، لا مجال للخطأ مهما كان
وغير مسموح به. الفترة الماضية وعلى مدار أشهر كانت الاِسْتعدادات تجري على قَدَمٍ
وساقٍ، الوقت ضاغط في الشَّهر الأخير؛ فتكثفَّت
عمليَّات التدريب بشكلٍ شبه يوميٍّ. صرامة المُدرِّبين لم تترك أبسط حركة، حتَّى
نظرات العيون والاِبْتسامات المرسومة على الوجوه أخذت نصيبها من التعليمات.
القلبُ
الكبير الذي شكَّله شباب وشابَّات سوريَّا باِصْطفافهم جَنبًا إلى جَنْبْ؛ لاِسْتقبال
السيِّد الرَّئيس، بألبستهم المُلوَّنة الزَّاهية، وبكامل حيويَّتهم وأناقتهم.
عيونهم
مُتوثِّبة على وقع خَفَقات قلوبهم؛ تهتزُّ فَرحًا مع كلِّ خُطوة للرَّئيس عندما نزل
من سيَّارته؛ لأنَّه سيخترق تشكيلاتهم قبل دُخوله إلى ساحة الأستاد الرِّياضيِّ،
مع الوفود المحليَّة والعربيَّة والأجنبيَّة المُرافقة له، يتبعهم رجال الحراسات
الأشدَّاء ببدلاتهم الغامقة، وعيونهم تَبْرُق بجميع الاتِّجاهات، من تحت
نظَّاراتهم السَّوداء، لتغطية المساحات جميعًا.
عيون
الجماهير جميعها مُصوَّبة نحو المَوْكِب، الذي توجَّه إلى قاعة الشَّرف وبصحبته
"الشاذلي القُليبي" و"أنطونيو سامارانش" وأعضاء
من السِّلك الدُّبلوماسيِّ من العرب والأجانب، والهيئات الرَّسميَّة من كبار
الضُبَّاط والوزراء وأعضاء القِيادتيْن القَوْميَّة والقُطريَّة، والضُّيوف
المدعوِّين رسميًّا من اللِّجنة الأولمبيَّة السُّوريَّة والاتِّحاد الرِّياضيِّ.
صوتٌ
أُنثويٌّ رقيق، كَهَمْس النَّسيم المُندفع من البحر؛ سَيْطَر بقوَّته على هُتافات
الجماهير بحياة الرَّئيس، مع الكلمة "اِنْتباه" الأولى خفَّف من
حدَّة الحماس، ومع كلمة "اِنْتباه" في المرَّة الثانية، حَدَث
صمتٌ لا بُدَّ منه. جاء النِّداء:
-(اِنْتباه..
اِنْتباه.. بَقِي خمسُ دقائق لاِفْتتاح
دورة ألعاب المتوسِّط). هيجانٌ من جميع الجِهات؛ بتصفيقٍ حادٍّ مصحوبٍ بصفيرٍ
وأصواتٍ وهُتافاتٍ. اِخْتلاطاتٌ يصعُب تفسيرها أو فرزها، ولا تُترجَم إلَّا بمعنى
الفَرَح والسُّرور.
..*..
فكرة تقود إلى فكرة والأخرى تذهَبُ بعيدًا؛ فتستدرج أفكارًا جديدة،
لا هدوء في بلاد الهُدوء، مشاكل الشَّرق تُلاحقنا هنا في بلاد الغرب، نطلُب
الرَّاحة بعيدًا، ولا نَنْعمُ بها.
هكذا
هي..! فلا مَنَاص من الاِسْتسلام للتداعيات.
عيناي
تُحدِّقان في الثُريَّا السَّقْفيَّة، أَتخيَّل عشرات الآلاف من العُيون ألصَقَتْ
نظراتها بها، وها هي نظراتي لن تشُذَّ عن قاعدة الاِلْتصاق. شكلها التُّراثيُّ مَدْعاة
للتَّفكير. أين صُنعت ومتى؟. يغلُب على ظنِّي أنَّهم اِبْتاعُوها من سُوق النَّحاسِّين
في دمشق.
عند
اللَّحظة الحاسمة، ومع اِنْتهاء الخمس دقائق، قام الرَّئيس واقفًا وحَيَّا
الجماهير؛ بتلويحات يديْه المُميَّزة بحركاتٍ مَدروسةٍ مُتشابهةٍ، كما في كلِّ ظُهور
له في جميع المُناسبات، وإذا اِسْتدعى الأمر خطابًا؛ ليبدأ عزف النَّشيد الوطني، إيذانًا
باِفْتتاح الدَّورة، وألقى خِطابًا ترحيبيًّا بالدُّول المشاركة، قُوبِل
بالتَّصفيق والهُتافات يبدو أنَّهم تدرَّبوا عليها مُسبَقًا، لتبدو مُتناسقة مع
المناسبة الدوليَّة، ثمَّ ألقى
ابنه "باسل" كلمة الرِّياضيِّين في الحفل.
مَهَابة
الحدَث تفرِضُ نفسها على المكان والزَّمان، بدأت التشكيلات التي قام بها، وشارَك
فيها ما يزيد عن خمسة وعشرين ألف شخص، تمَّ اِخْتيارهم، وتنظيمهم من قبل الاتِّحاد
الرياضيِّ، وهُمْ من طُلّاَب مدارس
اللَّاذقيَّة وجامعة تشرين، وطُلَّاب الضُبَّاط من الكليَّة البحريَّة، وفعاليَّات
أخرى.
قاموا
بتشكيل أوَّل لَوْحة مصحوبة بالموسيقا العربيَّة حاملين الأعلام الزَّرقاء على شِرَاعٍ
بِلِباس البَحَّارة، ملأت أرض الملعب، وتوزَّعت بطريقة بديعة، مثَّلت تاريخ سوريَّا
الفينيقيِّ.
الشَّابَّات
يحملن الطُّبول بحركاتهنَّ الرَّشيقة؛ بصُنع تشكيلات تدرَّبْن عليها طويلًا، وصِنْف
آخر منهنَّ يحملن أبواقًا، ويَلْبَسنَ الأصفر رَمْز الفينيق.
لِتظهَر
لَوْحة اِسْتعراضيَّة لآثار حضارة "تَدمُر" بحجم كبير جدًّا على
واجهة المُدرَّجات، والخُيول على الأرض تجرُّ العربات التدمُريَّة، وكلُّ عربة تُمثِّل
دَوْلة من الدُّوَل المُشاركة، وجِرَار ماءٍ محمولةٍ على أكتاف البنات مُلِئَت من
مياه المُتوسِّط.
ثمَّ
جاء دَوْر لوْحَة مدينة حلب؛ لِتُصوِّر واجهة قلعتها الشَّهيرة، وتلتها
لوحة نواعير العاصي من مدينة حماة، وفيها تمثَّلت "منيرفا" آلهة
الينبوع.
كانت
النَّافورة الرَّئيسة في أعلى المُدرَّجات، وخلف لَوْحة تَدْمُر، والشَّمس
تُشرق من تحت قَوْس بُوابَتِها، والفَتَيات يصعَدْن تِباعًا إلى الأعلى؛ لِيَسكُبْنَ
ماء جِرَارِهن في حَوْض النَّافورة.
ثمَّ
تنزاح اللَّوحة التدمُريَّة، وتشكيل لوحة أخرى لمياه البحر، وبحركات الجماهير
صانعة اللَّوحة المُتدفِّقة باللَّوْن الأزرق، كأمواج تحمل الحياة بفعل الرِّياح،
وتدفع الأشرعة إلى وجهتها.
وفي
لَوْحة الدَّوائر الثلاث المُتشابكة؛ لتُمثِّل القارَّات المُطلَّة على المُتوسط
بحْر الصَّداقة، وهو شعار الدَّوْرة، ورمز الأولمبياد الدُّوليِّ. في هذا الخِضمِّ
تتقدَّم قوارب الأُسطول الفينيقيِّ تحملُ أعلام الدُّوَل المُشاركة، ثمَّ يكتبون
كلمة اللَّاذقيَّة على شعار الدَّوْرة.
والبنات
على الأرض يحملن الوُرود، ويقُمْن بحركات مدروسة بدقَّة ومهارة، تأخذ العقل.
وممَّا توقَّفتُ عنده بملاحظتي المُهمَّة التي لن أنساها أبدًا، حَوْل اللَّوحة
الأخيرة التي أخذَتْ باِسْتعراضها وَقتًا أطوَل من سابقاتها، وهي تشكيل لألوان قَوْس
قُزَح بأطيافه على شكل قَوْسيْن مُتناظريْن من اليمين واليسار يتوسَّطهما حرف (X).
بيقين
جازِمٍ أعلمُ أنَّها تُمثِّل شِعَار المِثْلِيِّين، كيف تسرَّبت إلى العرض بدون
ضجيج، ولا أظنُّ بأنَّ الكثيرين في بلادنا يعلمون حقيقتها وقتذاك.
ثمَّ
ظهرت لوقت قصير لوحة غوَّاصة عليها إشارة(X)
أيضًا، ثمَّ أرجعوُا بعدها قَوْس قُزَح ثانية، وآخِر لَوْحة كانت ذات الأيادي
المُمسكة ببعضها رمزًا للصَّداقة.
ولو
أردتُ التفسير لكان كلُّ شيء سياسة. الرِّياضة سِتَار للسِّياسة، والفنُّ سِتَارٌ
للسياسة، والأفظع اِتِّخاذ الأدْيان سِتارًا للسِّياسة. تداخُلاتٌ ظاهرها بريءٌ لا
يُثير الرِّيبة والشكِّ عند العُموم من البشر.
التفكير
خارج الصُّندوق على الأغلب ما يقود إلى نتائج حقيقيَّة، إذا كان تحليلها
حِياديًّا، يقوم على مُشاهدات، ومُستندات، وأدلَّة قاطعة، وظَنِيَّة، حتى يكون
الحُكم موضوعيًّا لا جِدال فيه ولا عليْه.
الرِّياضة
تخلق مُتعَة الاِسْتغراق اللَّذيذة المُشبِعة للرَّغبات؛ فَتُستَبعَدُ فكرة
السِّياسة عن غالبيَّة النَّاس المُتابعين في الملاعب، وعلى شاشات التلفزيون في
مختلف دول العالم. لم أنتبه إلى نفسي كيف غَفوْتُ، لا بل غَطَطتُّ في نومٍ عميقٍ.
بقيتُ على ظهري مُستَلقِيًا، لم أنقلب بِنَوْمي على جانبي الأيمن، أو الأيسر.
عند
الثانية عشرة صَحَوْتُ؛ لإحساسي بقُشعريرة، كان لابدَّ من الذَهاب للحمَّام لأفقع
المثانة المُمْتلِئَة. بعد إدْرار العَصائر للبَوْل رجعتُ؛ لأُعاوِد النَّوْم
حتَّى الصَّباح. النَّومُ العميقُ مُريحٌ؛ إذا كان طويلًا على دُفعة واحدة، وبلا
أحلام، أو أفكار تسْرِق النُّعاس من العُيون. منذ زَمَن طويل لم أَنَمْ مثل هذه
اللَّيلة حتَّى ظهيرة اليوم التالي.
..*..
المصحة
النفسية
(لوزان)
(4)
سكلمة.. وجها لوجه مع الطبيب شنوان:
أوَّل مرَّة سمعتُ اسم "سكلمة"، وأنا
أُغالبُ نفسي بعنادٍ بالضَّغط على دواخلي، خوفًا من اِنْفلاتٍ لضحكة مكتومة.. كانت
ستُحرِجَني بلا مُبرِّر، وربَّما تُغيِّر وِجْهة الجلسة بعد طول اِنْتظارٍ لموْعِد
مُسبَقٍ، وعلى الأخصِّ بأنَّه توصية من صديقي جورج المُشتَرَكٍ بيننا؛
حتَّى اِسْتطاع الوصول "سكلمة" إلى هذه الغرفة، وها نحن نجلسُ
وجْهًا لوجه.
سَمْتُه
الخارجيِّ مُوحٍ؛ بقوَّة خَفيَّة ساكنة خلف هذا الشَّكل؛ تُوقِع الرَّهبة والتوجُّس،
ولا يُمكن أن يكون عابرًا في الذِّهن. من المُمكن نِسْيانه بعد تحويل النَّظر عنه
إلى شيء آخر. مَهَابة الوقار تُشكِّل هالةً مغناطيسيَّة جاذبة للاِهْتمام به.
ما
إن اِنتهيتُ من سؤالي الاِعْتياديِّ لكلِّ مريض، أو زائر للمصحَّة للمرَّة الأولى،
من الضَّروريِّ بِدَاية الحُصول، بل اِقْتناص المعلومة المِفْتاحيَّة لشخصيَّته،
لجعل الحديث يجري بيننا بأريحيَّة تامَّة.
سأقومُ
بالتعريف بنفسي: "مرحبًا بكَ أُستاذ سكلمة. أنا الطَّبيب شنوان
كبير الأطبَّاء، ورئيس هذا المركز. أيُّ قادم جديد إلينا تتناوشه الوساوس والخوف
والوَجَل. لا بدَّ من الشُّعور الأكيد بالطُّمأنينة والأمان. بخبرتي الطَّويلة
المُمتدَّة على مساحة خمسة عشر عامًا، جُلُّها قضيْتُها هنا، قرَّرتُ قبل خمس
سنوات العَوْدة للبلاد لخدمة أبناء بلدنا، كانت الأشواق تتنازعني، والحنين
اِقْتادني بعد أن كبَّل عقلي وقلبي إلى البلد.
المُشكلة
أنَّ الهُوَّة لا يُمكن تجسيرها بين هُنا وهُناك، بلدنا تحتاج لسنوات ضَوْئيَّة في
ظلِّ مُعيقات تتعدَّى الوصف، وحضرتُكَ تعرفُ أكثر منِّي، ولم تُسعفني التجربة
بالبقاء هُناكَ سوى لأشهُر لم تتعدَّ الأربعة، وقفلتُ راجِعًا إلى للاِسْتقرار النِّهائيَّ
في لوزان، وعدم التَّفكير مُطلقًا بإعادة
التَّجربة".
الطَّبيب
مُرتبكٌ على غير عادته، خلال عمله الطَّويل في مجاله، كمُعالجٍ نفسيٍّ للحالات
المختلفة التي تمرُّ به، يبدو أنَّ غرابة الاِسْم أَرْبَكته. على كُلٍّ لابدَّ من
البداية.
تنحْنَح
بِنُعومة، وقبضة يده اليُمنى اِمْتدَّت بحركة آليَّة؛ لتُشكِّل سدًّا على فَمِه،
فيما يده اليُسرى حكَّ بها مُؤخِّرة رأسه، ثمَّ تحرَّكت لمُقدِّمة الرَّأس؛ لِتَرفع
غُرَّته الشَّقراء المُوشَّاة بالقليل من الخُصَل البَيْضاء المائلة لِلَّون
الفِضيِّ. أعاد تركيز نظَّارته ذات الإطار الذَّهبيِّ فوق أَنْفه، كأنَّه اِسْتعاد
توازنه بهذه الحركات. بلا مُقدَّمات اِنْطلق بسؤاله: "أَخْ سكلمة قبل
الدُّخول في صُلْب الموضوع؛ الذي جئتَ من أجله إلى هُنا، اِسْتوقفتني غرابة
اِسْمكَ، لم أستَطِع اِسْتجماع أيَّ معنًى له في ذهني، عدم المُؤاخذة في سُؤالي،
أعتقدُ أنَّكَ تتفهَّمُ قصدي".
-
"بكلِّ تأكيد يا دُكتور لسْتَ أوَّل من يُبدي اِسْتغرابه لاِسْمي، ولن
تُصدِّق..!! لو قُلتُ لكَ بأنَّني في بعض الأيَّام؛ أتعرَّضُ لأكثر من مَوْقف بهذا
الخُصوص".
ندَّت
اِبْتسامة رضا على شفَتَيِّ الطَّبيب شنوان؛ خفَّفَت اِحْمرار خدَّيْه
المُتورِّديْن كحبَّة البندورة المُشبَعة بِنُضجِها، ومَسَح على جبينه بمنديل
ورقيٍّ، كأَّنه يُريد مُواراة حَرَجِه: "الحمد لله.. طمأنتني الآن".
-
"في الحقيقة سأروي لكَ هذه النُّقطة من أوَّلها خُطوة بخُطوة، لِتَأخذَ فكرة
واضحة".
-
"بكلِّ سُرورٍ، وكُلِّي آذانٌ مُصْغِيةٌ لكَ يا أخ سكلمة".
-
"كان أبي – حلمي باشا. رحمه الله تعالى- مُفكِّرًا عظيمًا في مَصَافِّ
الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبيِّ، أراد وَضْع بَصْمَتِه المُميَّزة من خلال اِسْم
وَلَده البِكْر من زوجته الثانية، وكان يطربُ وينتشي؛ حينما يُنادَى عليه، وعلى
الأخصِّ بالفُصحى – يا أبا سكلمة-على الرَّغم من أنَّني
لستُ الولَدَ البِكْر لأبي".
الطَّبيب
يرفع حاجبيْه، ويفتح عينيْه على اِتِّساعهما مُندهشًا: "أفهمُ من كلامِكَ
أنَّ اِسمكَ هو خياره الأفضل..!!".
-
"بكلِّ تأكيد كما أخبرتُكَ يا دُكتور؛ فقد كان من يسمعُه للمرَّة الأولى، لا
يُمكن أن ينساه أبدًا".
الطَّبيب
ينسى نفسه. ينفَغِر فَمه اِنْفراجًا عن آخر اِتِّساع له؛ لَيَسمح لنُسيْمات الهواء
المُتدفِّقة عبر النُّافذة المُنفَتِحة على حديقة مليئة بالأشجار ونباتات
الزِّينة، يأخذُ نفَسًا عميقًا، وقال: "المُهمُّ.. أريدُ منكَ يا أخ سكلمة،
لو اِسْتطعتَ أن تشرح لي، ما المعنى الذي
دار بذهن والدِكَ في ذاكَ الزَّمان!؟".
سكلمة شاردٌ بنظراته بين لَوْن زُرقة السَّماء
المُتماوجة مع الأخضر المُتشكِّل من أغصان الأشجار. زقزقةُ العصافير تُضيفُ بُعدًا
آخر لجوِّ الغُرفة المُعَشْعِش بالكآبة التَّاريخيَّة، وبأمراض النَّاس الذين
جلسوا على نفس الكُرسيِّ العتيق. المكان اِعْتاده الأطبَّاء لخصوصيَّة وظيفتهم في
المصحَّات والعيادات النفسيَّة.
صَمْتُ
سكلمة المُطبِق لدقائق في جوِّ من الهدوء الرَّتيب المُسيْطر على الغُرفة؛
لم يُسمَع إلَّا أصوات أنفاس شهيقه وزفيره. ظنَّ الطَّبيب أنَّه لم يسمع سُؤاله؛ فتنَحْنَح
بطريقة مُفتَعَلة؛ لتنبيهه.
بالفعل
عاد بنظراته مُحدِّقًا بوجه الطَّبيب، الذي أحسَّ بِوَخْز خفيف على وَجْنَتيْه. بنبرة
حزينة خفيضة، كمَنْ يُكلِّم نفسه في خَلْوة، أو كمَنْ يُفشي بِسِرٍّ؛ يحرِص عليه خوْفًا من أُذُن تتنصَّت عليهم: "في
الحقيقة يا دُكتور، وما هو ثابتٌ بالدَّليل القطعيِّ، أنَّ العبارات المكتوبة على
حَوافِّ شهادة ميلادي، وبخطِّ والدي – رحمه الله - الواضح أنَّه اِخْتار حَرْف
السِّين لإضافته إلى لفظ "كلمة"، وليكون لَصيقًا بها، مُؤاخِيًا
بينهما بِحِنكَته ودِرَايته، والسِّين حَسبَ فلسفة والدي: رمزٌ للسُّؤال، وللتسويف
والتأجيل للمستقبل القريب والبعيد، ولأنَّها إحدى الأداتَيْن (سين وسَوْف)
اللَّتيْن تدخُلان على الفعل المُضارع.
لكن
الذي لم أتوقَّعه: أنَّ والدي –رحمه الله- كيف اِسْتطاع لَصْق
السِّين باِسْمٍ، وهي لا تدخُل إلَّا على الفعل المُضارع، وكأنَّه أرادنيَ أن أكون
كلمته، ورسالته للمُستقبل الكامِن بِذِهنه، ولا يعرف طبيعته ومواصفاته.
طبيعة
اِخْتياره لاِسْمي من جُملة إبداعات لا تُعَدُّ ولا تُحصى، كما أنَّه اِبْتدَع مُشكلة نحويَّة جديدة، تنضافُ
للمُعضلات العويصة، التي لا يستوْعِبَها إلَّا المُتخصِّصين المُتَبحِّرين في
عُلوم اللُّغة والنَّحو. اُنْظُر يا دُكتور..! ولا أقصد جميعهم، وإنَّما أقلَّ
القليل منهم، الذين أفنُوا أعمارهم بحثًا وتمحيصًا، ومع ذلكَ عزفوا عن ولوج أو
الاقتراب من المُعضلات، وإنَّما تركوها لا أقول عَجْزًا فيهم، ولكن كما أعتقدُ
أنَّهم لم يفعلوا خَوْفًا من اِتِّهامهم بتدمير اللُّغة، ونقض أُسُسها.
وبالتَّالي
يُساء فهمهم من الجماهير العربيَّة، وتتشَوَّه سُمعتهم الأكاديميَّة. كنتُ قد
سمعتُ من أحدهم ذات لقاء عابر،: (يجب المُحافظة على لُغَة القرآن، وصدِّ جميع
مُحاولات المُتفذلِكين باِنْتهاك قُدسيَّتها.. نعم هي لُغة القرآن ثابتة
بقوانينها). قلتُ في نفسي: ولو أخبرته بقصَّة أبي؛ مُؤكَّد أن تُهمته لن تكون
أقلَّ من الزَّندقة والهرطقة، وعمالة للاِسْتعمار، وعدوُّ للعرب ولُغتهم.
بصوْت
خفيضٍ يتهجَّى الطَّبيب أحرف كلمة (سكلمة) أثناء تسجيله المعلومات على غِلَاف
الملفِّ الأصفر المحشو بأوراق بيضاء، تحمل ترويسة اِسْم المركز وعنوانه وهاتفه
والبريد الإلكتروني.
سمع
سكلمة نُطق الطَّبيب للسِّين المُفَخَّمة فخرجت قريبة الصَّاد. اِنْتفض
جسمه باِرْتعاشةٍ لا إراديَّة، فقرَّب رأسه، ومطَّ جسمه؛ ليتأكَّد من تسجيلها
بالسِّين وليس بالصَّاد. طلبتُ منه التثبُّت: اِنْتَبه يا دُكتور إنَّها سينٌ
وليست صَادًا.
هزَّ
رأسه : نعم.. نعم حاضر يا أُستاذ سكلمة.
خرجت
السِّينُ مُرقَّقة فطابت لسكلمة، الذي تابع الشَّرح: بطبيعة الحال يا دُكتور فإنَّ
ترقيق أحرُف اِسْمي هي الأصوَب والأسلَم، وإخراجها من مخارجها الطَّبيعيَّة يتوافق
مع فلسفة الكلمة، بينما تفخيم لفظ أحرفها؛ يُلقي في ذِهْن المُستَمِع على أنَّه
اسمٌ بدويٌّ، قادم من مجاهل صحراء الرُّبع الخالي.
الطَّبيب
تتمطَّط شفتاه باِنْفراج؛ فتقتربان من تشكيل اِبْتسامة شبيهة بالسَّاخرة، وعلى
الأغلب أنَّها لحظة الدَّهشة الفاقعة من غرابة الموقف؛ ليتشكَّل في ذهنه السُّؤال
الأهمّ، ليرى تأثير الاِسْم الغريب على نفسيَّة وسُلوك الطِّفل سكلمة.
فيسأل:
يا أخ سكلمة. هل سبَّب لك هذا الاِسْم إزعاجًا، أو إحراجًا، أو إشكالًا في
صِغَركَ، منذ بداية وعيكَ مع إخوتكَ وأبناء الجيران في الحارة وأصدقائكَ، وفي
المدرسة وفيما بعد الجامعة، وحياتكَ الوظيفيَّة؟.
سكلمة
ينفلت بحالة ضحكٍ هِستيريَّة لدقائق، والطَّبيبُ جامدُ بكلِّ حواسِّه يُبدي أيَّ حَرَاكٍ،
ولو مَلْمَلَةٍ بسيطة في كُرسيِّه، وإنَّما فُوجِئ بدَلَ ردَّة الفعل غير المُتوقَّعة
من سكلمة. كان الردُّ صريحًا بغاية السُّهولة بلا مُعوِّقات أو لفِّ أو دوَرانٍ:
ببساطة
شديدة يا دُكتور، فإنَّ مُدير المدرسة في أوَّل يوم في الصفِّ الأوَّل؛ اِسْتدعاني؛
ليتأكَّد منِّي ومن حقيقة الاِسْم، ولا يُمكن أن يكون لَقَبًا. وكذلك فَعَل مثله
مُدير الإعداديَّة والثانويَّة أيضًا، حتَّى رئيس الجامعة الأمريكيَّة ببيروت فيما
بعد، لم يشذّ عن القاعدة التي اِْستوْعبتها بكامل الرِّضا بلا قلق ولا تذمُّر.
وبعد
تخرَّجي في الجامعة مُباشرة عُيِّنتُ في وزارة الخارجيَّة، من فوره اِستدعاني
الوزير، وفي الأسبوع الثَّاني طُلِبتُ إلى مكتب رئيس الوزراء.
وما
إنْ أمضيْتُ شهرًا، ومع بداية الشَّهر الثَّاني؛ فقد حضرت دوريَّة أمنيَّة للمكتب
في السَّاعة الأولى من وُصولي للدَّوام؛ لاِقْتيادي إلى جهة مجهولة، وكانوا يلبسون
البَدْلات السَّوْداء، والنظَّارات القاتمة؛ فطَمَّشُوني*..
تناهَشِتِ الهواجس قلبي ساعتئذ، تباطأت دقَّاته بِحِدِّها الأدنى، فأحسستُ بهبوط
ضغطي، أنفاسي مع الوقت تضيق في صدري، شعوري بإطباق أثقال الجبال فوق رأسي.
خيانة
الذَّاكرة واردة في مثل هذه المواقف المُشابهة. حاولتُ... وحاولتُ اِسْترجاع
تصرُّفاتي، وكلامي مُنذُ أوَّل يوم من تعييني في الوزارة، لم أعثُر على زَلَلٍ في
تصرُّفاتي أو أقوالي، ولم يحصل أنْ وَقَّعْتُ على أيَّة ورقة صغيرة أو كبيرة كانت.
لِأُفاجَأ؛
ومن غير مُقدِّمات، بأنَّني وجهًا لوجه أمام رئيس الجُمهوريَّة حافظ الأسد، وكان
جالسًا خلف مكتبه الفخم. اِسْتعاد قلبي نشاطه من جديد؛ فَخَفق بشدَّة لهول
الصَّدمة، واِرْتعدت فرائصي، لقد توقَّعت كلَّ شيء، إلَّا أن يضعوني في هذا
المكان. توقَّف عقلي عن التفكير.
-"أفهمُ
من شرحِكَ يا أخ سكلمة، أنَّ والدكَ كان مُختَلِفًا في ذاك الزَّمان السَّحيق، عن
مُحيطه وجميع أقرانه. لكن لي اِعْتراض لو سمحتَ لي: بأنَّ الكلمة غير مطروقة
أبدًا، كما تعلم أنَّني قد درستُ الطبَّ الإكلينكيِّ؛ جَنْبًا إلى جَنْب مع الطبِّ
النفسيَّ للعلاقة الوطيدة بين النَّفس، واِنعكاساتها السلبيَّة في الغالب على الجسم الإنسانيِّ
عُمومًا، وعلى ما أذكُر أنَّ كلمة "سكلمة" تُطلَق على: (الأمعاء
الغليظة ذات الشَّكل الأُفعوانيِّ) – سكلمة يفتح عينيْه على اِتِّساعهما،
وكأنَّه غير مُصدِّق لكلام الطَّبيب الذي يسمعه، وفي موضوعنا الطِّبيِّ – أيضًا على ما أذكُر- فإنَّ ما يأتي بمعنى الكلمة كذلك هو: (مُلتقى
عَظْم مُقدِّمة الرَّأس ومؤخِّرته، وما يتحرَّكُ من رأس الطِّفل. يتحرّكُ وهو فراغ)،
وهو ما يُسمَّى (اليافوخ)، وينطقه عامَّة النَّاس: (النَّافوخ)".
..*..
توقَّف الطَّبيب عن الكلام. أرسَلَ نظراته عبر النَّافذة خارج
المكتب. راح يحكُّ شَعْرَه الأشقر المختَلِط بالأشيَب مُناصَفَة؛ ليُضفي مَهَابة
على وجهه، ويُشكِّل قِناعًا كاريزميًّا؛ مُوحٍ بِهَيْكل عالِمٍ كبير.
كـأنَّما
يبحث عن شيء في ذِهْنه، أو داهمته فكرة طارئة خارج سياق الجلسة لسبر أغوار المريض
"سكلمة". ما زالت تتَّسع دوائر الدَّهشة على وجه سكلمة،
ولم يستطع مُجادلة الطَّبيب بكلمة واحدة، اِنْعقد لسانه عن الكلام، وتَبلَّمَ
تمامًا، كأنَّه صُدِمَ.
تابَع
الطَّبيب بنبرة مُنكَسِرة تحشرجت كلماتُها في فمه؛ تَشِي بحزن قديم مخبوءٍ في مجاهل ذاكرته القديمة، ولم يستطع
مُغالبة سُقوط دمعة عنيدة طَفَرت من عَيْنه اليُمنى على دفتره، ثمَّ تَلَتْها أخرى
من اليُسرى، ممَّا اِضْطرَّه لسحب عدد من المناديل الورقيَّة؛ لتجفيف دمعتَيْن لم
يُمهلهما؛ لِتَنحدِرا على وَجْنَتيْه: "ولأزيدنَّكَ بيْتًا من الشِّعر،
وزيادة الخيْر خيْر. كما يُقال: في صِغَري كنتُ أسمعُ سِتِّي أمَّ أبي: تحكي هذه
الكلمة لأُختي الصَّغيرة في أحد الأعياد، حينما اِشْترت لها أمِّي فُستانًا بلون
مُتدرِّج، أو مُتفرِّع من لَوْن الزَّهر، حاليًّا أعتقدُ أنَّهم يُطلقون على هذا
اللَّون لفظة (فوشي). ولا زلتُ أذكُر مقولة جدَّتي لأختي: (ما تِبْلَى
هَلْ الآمِهْ تِءْبِرْني لَبَّاسة السَّكْلَمة)* كلُّ
الاِحْتمالات واردة، حتَّى أنَّها كانت تحرق البخُّور في الأعياد الدِّينيَّة
والمُناسبات الاِجتماعيَّة، ولمَّا كنَّا نسألها عن اسم البخُّور، الذي يُطلق عَبَقه،
ويُنافِسَ رائحة الياسمين والنارنج. على ما أذكُر أنَّها قالت: (بخُّور مريم) . لن
أطالبكَ بأن تُصدِّق، ولا أن تُكذِّب أيَّ شيء تسمعه، ولا تنس ترحيله إلى مُستودعات
الذَّاكرة إلى حين اللُّزوم.
أعتقدُ
أنَّ الزَّمان هو الكفيل بالحكم عليه، والزَّمن هو أعظم النُقَّاد على الإطلاق،
ولا ثَبَات لأفعال البشر. التقلُّب والتبدُّل سِمَةٌ بارزة في حياتهم. فَمِن
الصَّعب تكوين رأيٍ جازمٍ قاطعٍ، إنَّما تستمرُّ العلاقات بالاِسْتحسان والمودَّة،
وبالتَّغاضي عن مساوئ ممَّن نُحبُّ".
أخيرًا
أراد الخُروج من هوْل المُفاجأة غير المُتوقَّعة؛ وليُعطي صورة للطَّبيب بعدم اِكْتراثه
لكلامه: "بطبيعة الحال يا دكتور لو سَمَحَ لكَ الوقتُ، وأسعفَتْكَ هذه الجلسة
بطولة البال، والاِسْتماع لاِسْتكمال ما سأشرحَه، ربَّما يأتي المساء، ويحلُّ
الظَّلام ولن أنتهي، ولكَ أن تُصدِّقني لو أردْتَ. بل أتمنَّى عليكَ أن تفهمني. في
أيَّام وظيفتي وقبل تقاعُدي؛ كنتُ أحظى باِهْتمامٍ واسعٍ لدى جميع الفِئَات. قَسَمًا
بالله..! هاتفي لم يكن ليهدأ لا في ليْلٍ ولا نَهارٍ.
منذ
سَنَوات صَمَتَ هاتفي نهائيًّا؛ وكأنَّه جهازُ خِلْيويٍّ فارغ لا يحمل شريحة ذات
رقم، أو أنَّ أحدًا ممَّن خدمتهم وساعدتهم لا يعرفه، ولا يذكر إلحاحه الدَّائم
برجاء تنفيذ ما يريد".
-"
أُفْ.. أُفْ، أتوقَّع أنَّكَ خلال ساعة ستحكي رواية. على كُلٍّ خُذْ راحتكَ
بالحديث، والاِسْترسال بالصُّورة التي تراها مُناسبة، ولن أُقاطعكَ يا أخ سكلمة.
الوَضْع يُحتِّم عليَّ الاِسْتماع والإنْصات لكَ، وباِهْتمام؛ المُهمَّة التي أقوم
بها صعبة جدًّا، من المُمْكن أستخلصُ من كَوْمة الكلام عبارة واحدة فقط، وذلك على
سبيل الإحاطة بالحالة من جوانب غير منظورة، وتجنُّبًا للأسئلة المُباشرة
التقليديَّة".
سكلمة يرفع رأسه ليُحدِّق بوجه الطَّبيب شنوان
يتأمَّله بعُمقٍ. نظراتُه لم تُثِر ريبةً بنفس الطَّبيب، ولم يُعِرْهَا أدْنى
اِهْتمام؛ لأنَّه لم يتوقَّع رِدَّة فعلٍ مريضه، ولأنَّه يفترض اِسْتسلامه، وعدم
قُدرته على مُعاندة الطَّبيب؛ فَحَالة المريض المُضطَرِبَة لا تسمح له بذلك. يقول
الدُّكتور بنفسه.
بينما
هو مُنشَغِل بتعبئة خانات الملفِّ الضروريَّة. الأفكار تتلاطم في رأس سكلمة:
"طيِّب.. ها هو نفسه يحمل اِسْم شَنْوان، وما شَنْوان؟، ما المعنى أنَّ
اِسْمي فقط الغريب..!! شنوان أيضًا لا يقلُّ غَرَابة عن سكلمة؛ فلماذا لا أتوجَّه
له بسؤاله نفس السُّؤال..!!، كما أنَّ ملامحه البريئة مُوحِية؛ بأنَّه غير قادر
على التعامُل مع حالتي، وفهمها بشكلٍ دقيقٍ، ومع هذا سَأُتابع معه. الثِّقة بيْن
الطَّبيب والمريض جزء مُهمٌّ من العلاج".
ترجَّل
الطَّبيب واقفًا بطوله المُتوسِّط، وأخَذَ نفَسًا عميقًا. راح ينفثُه ببطءٍ عبر
النَّافذة، أخرَجَ معه ضغطه الذي يُعانيه. جلساتُ العلاج مُرهِقة جدًّا تستهلكُ
قُدُراته الدَّاخليَّة، وتُحطِّم الحياة من حَوْله؛ فكثيرًا ما عبَّر عن ذلك:
"كلُّ ما تقعُ عَيْني عليه؛ إمَّا رماديّ أو أسود، كأنَّ قائمة الألوان
العديدة اِنْمحت من حياتي".
جلس
وراء الطَّاولة. دوَّن ملاحظة اِسْتخلصها من الحديث:
نوبات
الفرح والحُزن والشُّرود والحضور المُتناوبة، ربَّما هي الهوس الكُلِّي أو الهوس
الخفيف، وهو ما نُطلِق عليه: اِضْطراب ثُنائي القُطب؛ يُسبِّب نَوْباتٍ من الاِكْتئاب،
وأُخرى من الاِبْتهاج غير الطبيعيِّ. في حالة التَّشخيص نعتمدُ على شِدَّتها، إذْ
لم تُلحَظ أعراض الذِّهان.
للتريُّث...
بعدم اِسْتعجال النَّتائج. الفهمُ الرَّديء لأيَّة قضيَّة، وسيُعقِّد الأمر،
ويُغلق أبواب ونوافذ الحُلول المنطقيَّة والمُتاحة. وفي كلِّ حدَثٍ هناك فاعل، وهو
شخصيَّة رئيسة تصنع الحدَثَ، وتفاعلاته المُتشَعِّبة، قطعًا لستُ أمام شخصيَّة
مُنفَعِلة، تتلقَّى عن الآخرين فقط. وإنَّما شخصيَّة مُغايرة تمامًا، صانعة أو
مُشاركة في صُنع الحدث. هذه النُّقطة جديرة بالتوقُّف والاِنْتباه لها، سأُطلِق
العنان لخيالي للغَوْص في المعقول واللَّامعقول، بدأ يتسرَّب إلى قلبي شعور غير
مُلتزم وغير مُحايد، ربَّما يُلجئني الموقف؛ لاِسْتخدام أساليب خارجة عن حدود
المعقول، إذا ما اِضْطَّرني الأمر للتَّنويم المغناطيسيِّ، سواء برضاه أو بالاِحْتيال
عليه، وليكُن ما تُسْفِر عنه النَّتائج المُترتِّبة.
..*..
إصراري على عدم الاِسْتسلام لهرطقات سكلمة، وتجديفاته الغريبة الخارجة
عن نِطَاق المعقول، وفي كل ما عرفته، وتعلَّمته بالممارسة من خلال سنوات عملي العديدة
في المصحَّة، لم أستطع تبويبه في أيَّة خانة. كما ليس بمقدوري تقدير ما ستؤول إليه
النَّتائج والنِّهايات للمُشكلة حسب ما أتخيَّل.
أستاذ
سكلمة من الضَّروريِّ تسجيل مواليدَكَ، وبعض المعلومات الشَّخصيَّة المطلوبة
لتثبيتها بداية الملفِّ. اِبْتسَم سكلمة. أشَاحَ بِنظراته عبر النَّافذة. عايَن
اِهْتزاز أغصان الشَّجرة تتمايَل، قدَّر أنَّ الهواء يعبثُ بها. ملامح وجهه مع
تغضُّن خطوط جبهته العرضيَّة؛ أَوْحَت للدُّكتور بأنَّه يُعاني من صعوبة التذكُّر.
مَسَح
وجهه، وقال: بكلِّ سُرورٍ.. رغم أنَّ تاريخ ميلادي لاِرْتباطه ببدايات ميلاد
السَّرطان اليهوديِّ وتجذُّره في فلسطين؛ حاولتُ طويلًا تجاهله، وما يُهوِّن عليَّ
المُشكلة اِقْترانه بالقَسَّام.
الطَّبيب:
آسف أُستاذ. لم يكُن أقصِدُ اِسْتجلاب ما يُزعجك من ذكريات أليمة، أو من الممكن أن
يزيد النَّكد في يومكَ. لا أبَدًا يا دُكتور. لعلَّ الأقدار تختارنا، لسنا مَن
نختار أقدارنا.
فأنا
توأم ثَوْرة القسَّام*
في فلسطين تاريخ ذهبيٌّ عالميٌّ، لا يُمكن نسيانه إلى يوم القيامة..!. وللعلم يا
دُكتور؛ صديقنا المُشتَرك جورج أتشابَهُ معه أيضًا بكلِّ شيء. نُشكِّل ثُنائيًّا
كتوأميْن مُتماثِليْن. كِلانا وُلِدَ مع ثوْرة القَسَّام، ودَرَسنا بنفس الجامعة،
وأنهَيْنا أعلى مراتب الدِّراسة بدرجة الدُكتوراه، هو في الصَّحافة، وأنا في العُلوم
السياسيَّة، أمَّا النُّقطة الأهمّ بأنَّ قطار الزَّواج قد فاتَنا الاِثْنيْن
معًا، ولم تتولَّد رغبة عندنا للَّحاق به، وأصبحنا كَرَاهِبَيْن في محراب
العُزوبيَّة. وكُنَّا مُؤثِّرين في مجالِنا الوظيفيِّ كلٌّ حسْبَ مَوقعه الذي
كان...، وكأنَّ التَّاريخ فُصِّل على مقاسنا.
الطَّبيبُ
مُنهمكٌ في اِسْتخلاص النَّتيجة النِّهائيَّة لعُمُر سكلمة، ولم يُجهد نفسه
بتذكُّر مُجريات ثَوْرة القسَّام؛ بل أجرى عمليَّة حسابيَّة على قُصَاصَةٍ
خارجيَّة، وهو يُقلِّب وُرَيْقات مُذكَّرة المكتب الثابِتَة أمامه؛ ليتأكَّد من
اليوم والتَّاريخ؛ كي يُدوِّنه بالضَّبط دون زيادة أو نُقصان، ويُردِفَه بحصيلة
فارِقِ الطَّرح بين الوقت الحالي وبين عام السِتِّ والثلاثين.
أخيرًا
سَجَّل عند خانة العمر (سبعٌ وستُّون سنة). اِنْتبه للجملة الأخيرة: (وأصبحنا
رَاهِبَيْن نَتَبتَّل في محراب العزوبيَّة)، ليملأ الفراغ أمام الحالة الاِجْتماعيَّة
بكلمة (أعزب). وسجَّل أمام الحالة التعليميَّة: (دُكْتوراه علوم
سياسيَّة).
..*..
تجليَّاتٌ غير مُتوقَّعة فَرشَت غِبْطتها في قلبي؛ فَنَشرَت مساحات فَرَح
وسُرور، غطَّت على سَوابِق أيَّامٍ بل سِنين عِجَاف؛ ضاعَتْ كغُبار على مَدارِج عُمُرٍ
وراء جُدْران المكاتب.
قطعًا
لم أكُن سعيدًا به؛ تفاقَمَت التراكُمات لتُشكِّل حالة شَلَلٍ، وأقفُ عاجزًا أمام
صدمة، ممَّا سمعتُ من الدُّكتور أثناء جلستنا في فُندق الشَّام، وما زال صدى كلماته
يقرعُ طُبول الخَوْف في عقلي:
-(صديقي
أنتَ بحاجة لعلاج، يُؤسفني إخباركَ: بأنَّ حالتكَ غير مُطَمئِنَة بَتاتًا، وخوْفًا
من تدهْوُر صِحَّتكَ مُستقبَلًا، نصيحتي بالعِلاج).
رغم
أنَّني أخذتُ الأمر بتجرُّد، كأنَّني أُعالِج أمرًا بعيدًا عنِّي ولا يخُصُّني، في
النِّهاية؛ اِنْهيار غير مُتوقَّع بسبب الهواجس والأفكار السَّوداء، وعندما تتراءى
لي النَّتيجة، وأُصبِح مريضًا نفسيًّا، وبحاجة إلى علاج، وأجلسُ لِيَستجوبني طبيبٌ
نفسيٌّ، هذا ما لم يخطُر ببالي، وبوصولي لنهاية طريق مسدود، وأنا الذي كنتُ أُخطِّط
لِدَوْلة طويلة عريضة، وأضَعُ الحُلول المُبتَكَرة، والطَّريفة للمشاكل بطريقة
دُبلوماسيَّة، اِعْتدتُ ذلك أثناء فترة عملي الوظيفيِّ القصيرة في وزارة
الخارجيَّة، وتفوَّقتُ في المرحلة التالية في القَصْر الجُمهوريِّ. الفترة الأطْوِل
في وظيفتي، قبل كَفِّ يدي عن العمل بأمر من الرَّئيس.
مازالت
قِوايَ مشلولةً عن اِتِّخاذ قرار حكيم، لَوْلَا أنَّ جورج قرَّر، وبادَر بنصيحته للمجيء
إلى لوزان. الهواء هُنا فيه حيويَّة نشَّطت دواخلي المُنهكة، وجدَّد الرَّغبة
في خُرُوجي من القَوْقَعة، شُعور التخلُّص من أثقالها، ولم أعرف لماذا الحلزون
يرمي قوقعته، بينما السُّلحفاة تعيش وتموت داخل هَيْكل قَوْقعتها التي يقشعرُّ
منها البدن؛ فتبدو مثل دبَّابة صَدِئَة عتيقة، بَهُتَ لَوْنها. تباعدت إهْمالًا
بمسافات زمنيَّة طويلة عن الحرب العالميَّة.
وهل
الحَيْوانات البحريَّة، هي من ترمي قواقعها وحدها على رمال الشَّاطئ، أهُوَ الاِسْتعداد
لمرحلة حياتيَّة جديدة، أم التخَفُّف من الأثقال لِرَشاقة الحركة..!؟.
رغم
يقيني بأنَّ جورج يعرفُ ما نسيتُ إخباره به، ولا أظنُّ بصحفيٍّ حادّ
الذّكاء بِوَزْنِه المهنيِّ عميق الخبرة، ومُطَّلِع بحُكم طبيعة عمله، وعلاقاته
المُتشَّعبة، لا أشكُّ بمعرفته أسرارًا كثيرة مكتومة في صدره كالتي أحتفِظُ بها، ولا
يُمْكن طرحها بأيِّ مكان، إلَّا في نِطاقات ضيِّقة جدًّا جدًّا ومأمونة؛ لأنَّها
بمثابة مَسَاس بالأمن القَوْميِّ. كثيرون يُسفَّرون إلى قُبورهم، أو يختفون من
الحياة بظروف غامضة، ولا يبقى لهم أيّ أَثَر يُذكَر. بحُجَّة إفشاء أسرار ضارَّة
بالأمن القوميِّ لبِلادِهِم، أو إذا ما اُتُّهِموا بأنَّهم من أهل الطَّابور
الخامس، أو جواسيس للعدوِّ، أو إضعاف الشُعور القوْميِّ.
جولة
الأمس كانت طويلة نِسْبيًّا، شعور بتعب جميع عضلات جسمي، لا رغبة لي بِمُغادرة الفِرَاش
أبدًا. بعد العاشرة صباحًا صَحوْتُ، وإحساسي بأنَّ الوقت، قد تأخَّر على مَوْعِدي
مع نفسي لزيارة مُتحَف التَّاريخ، وهو الاِسْم الذي أُطْلِق رسمِيًّا على "قصر
رومين".
أعتقدُ
جازمًا بحاجتي لوقت أطول، من الوقت الذي اِسْتغرقته بزيارة متحف الأولمبياد. لاِمْتدادات
التَّاريخ الواسعة في حياة البشر.
..*..
الاِنْفتاح ميِّزة عظيمة في لوزان، ربَّما لا توجد في غيرها من
المُدُن الأخرى، مثلما آفاق البشر المُنفَتِحة. عندما تكون واعية؛ تمتلكُ إرادة
البناء والتغيير، كالذين خطَّطوا لهذه المدينة من ساسَتِها ومُهندسيها.
بأيِّ حالٍ أستطيعُ تصديق التَّاريخ وتكذيب
الجغرافيا. إنَّها التِّسعون كيلومتر ما بين دمشق وبيروت، حينما قطعتها الأسبوع
الماضي.. أذكُر اِنْهيالات واِنْثيالات الذَّاكرة المشحونة بمخزون هائل مُثقَل
بأكداس المعلومات.
وأخبرتُ
الطَّبيب شنوان عنها أثناء جلسة عِلاجيَّة من ضمن ثرثرة. لا أدري مَدَى
اِسْتفادَتِه من كلامي، ومن تقاطُع معلومات تاريخيَّة قديمة. لكنَّه فاجأني بصدمة
كلمته: (إذا لم نستطعْ فَهْم الماضي؛ فكيف يُمكننا تفسير بعض ظواهر الحاضر المُبهَمَة؟).
بهذه
العِبارة شجَّعني على نَثْر ما هو مكتومٌ بداخلي، وفي لوزان الكلام مُباح..
بلا رقابة وخوف وقلق.. كأنَّ حيطان قصر رومين صمَّاء ليس لها أذان، وإذا
كان لها أذان فإنَّها لا تسمع، وإذا سَمِعَت فهي أمينة على حفظ الأسرار. حسبما
أثبتته تجارب الأيَّام الماضية.
الطبيب
"شنوان" مُنكَبٌّ على دفتر أمامه على طاولة المكتب، يُدوِّن
معلومات خاصَّة؛ تدور حَوْل الحديث الجاري بيننا، كما فَعَل في الجلسات السَّابقة،
فاِسْترسلتُ على سَجِيَّتي بلا ضوابط.
سأحكي
لكَ يا دُكتور ملاحظتيْن نتيجة لإعادة قراءة بعض ظواهر الجُغرافيا، كمقارنة
اِسْتنتاجيَّة. الاِثْنتان نتيجة لما حصل هنا في لوزان قبل ما يقرُب من مئة
سنة. رفَعَ حاجِبَيْه علامة الدَّهشة ممَّا سأقول، وقبل معرفته بطبيعة المعلومة، عَيْناه
تركَّزَتا في وجهي، ولم تتحوَّلا إلى شيء آخر، كأنَّهما تستعجلان اِسْتخراج
الكلمات عُنوَة.
هناك
فرقٌ كبير بين بَطَل صانع للنَّصر، وبين بَطَل الذي تصنعه الهزائم والتنازلات. من
الناحية العامَّة كلاهُما بطَل، ولكنَّ الفَرْق الحقيقيِّ بينهما كبير. خُذِ مثلًا
قضيَّة الميثاق الوطني اللُّبنانيِّ، في مطلع الثَّلاثينيَّات من القرن الماضي،
حينما اِشْترطت فرنسا على الحركة الوطنيَّة السُّوريَّة؛ القبول بإنشاء الكيان
اللُّبنانيِّ؛ حتَّى تعترف باِسْتقلال سوريا أيضًا، وحدث من الصِّدامات والخلافات
بين المُؤيِّدين والمُعارضين، وظهر رأيٌ يتوسَّط هذا الخِضَمِّ، يبحثُ عن توليفة
توفيقيَّة بين وَلائِه القَوْميِّ العربيِّ، وبين اِعْترافه بالكيان اللُّبنانيِّ،
ولِتَنبثِق صيغة (رياض الصُّلح. بشارة الخوري)، وروَّجت لِتَرسيخ مفهوم
الميثاق الوطنيِّ للاِسْتقلال، القائم على مُعادلة؛ يتنازل بموجبها المسيحيُّون عن
طلب حماية فرنسا لهم، والمُسلمون كذلك عليه أن يتنازلوا عن طلب الاِنْضمام
للدَّاخل السُّوريِّ.
خرج
الطَّبيب شنوان عن صمته الذي يُغلِّفه، ويُتيح له الاِسْتماع لمُشكلتي، وتحضير
تساؤلات جديدة لمحاور ما يستجدُّ من أمور، وقال: (أُستاذ سكلمة من فضلِكَ
توقَّف.. لقد فَتَلْتَ مُخِّي بكلامكَ الذي أسمعه للمرَّة الأولى).
اِلْتقطتُّ
أنفاسي بهدوء، وفيما بيني وبين نفسي أُردَّدُ كلمة: "سيفر" كي لا
أنسى الشِقَّ الآخر من هذه المقارنة. لدقائق قليلة خيَّم الصَّمت على جلستنا،
حركات القلم أخبرتني بتدَوين شيءٍ على الورقة.
تخيَّل
يا دكتور أنَّ البداية قبل ذلك؛ جاءت من جُنوب غَرْب باريس بعشرة كيلومترات من
ضاحية "سيفر"، وفي مصنع خزفها الشَّهير؛ اجتمعت دُوَل الحُلفاء
(1920)م، وأجبَروا الدَّوْلة العُثمانيَّة على التنازل عن أراض سُكَّانها من غير النَّاطقين
باللُّغة التُّركيَّة، وهذا هو المسمار الأخير الذي دَقُّوهُ في نعش الدَّولة
العُثمانيةَّ.
على
طبق من ذَهَبٍ جاءت حينها الفُّرصة إلى "مصطفى كمال أتاتورك"
الذي كان رئيسًا للبرلمان؛ ليقوم بنزع الجنسيَّة عن الذين وقَّعوا المُعاهدة.
اِنْتقامًا للشُّعور القَوْميِّ الذي أُهينَ بتوقيعهم، وقامت بعد ذلكَ حرب الاِسْتقلال،
التي أفرزت معاهدة لوزان (1923)، التي هيَّأت مناخًا ملائِمًا لإقامة جُمهوريَّته،
ويُصبح رئيسها الأوَّل، وأبًا مُقدَّسًا للأتراك بمرتبة آلهة.
أشكرك
أستاذ سكلمة، الآن فهمتُ شيئًا من فَحْوى حديثِكَ، ومن سِياقه تذكَّرتُ قصيدة (المُهرولون)
لـ"نزار قبَّاني"؛ حينما شبَّه الوطن بعُلْبَة السَّرْدِين،
وبقُرْصِ حَبَّة الأَسْبِرين.. ياااه..! من عبقريَّته، إذ اِخْتصر وجعنا المُمِضِّ
لقُلوبنا جميعًا في قصيدة. كثيرًا أشاروا إلى قضيَّة جَلْد الذَّات، ولم تُعْنِهم
التنازُلات؛ التي صَنَعت أوطانًا قَزَمَة. جُمهوريَّات على أنقاض اِمْبراطوريَّات.
بنفسي
لو سألتكَ بقصد طلب إجابتكَ. هل تعتقدُ يا دُكتور أنَّ حديثي هذا: يُعَدُّ هرطقة، وتجديفًا، أو طعنًا بالرُّموز
القوميَّة؟.
أبدًا..
أبدًا يا أُستاذ سكلمة. برأيي المُتواضع؛ بأنَّ ما تفضَّلتَ به، ما هو إلَّا
مُحاولة اِسْتقرائيَّة جديرة بالاِهْتمام، كَوْنَها تتَّجه بالتَّفكير خارج
الصُّندوق، يكفي أنَّها طريقة اِسْتقصائيَّة بحثًا عن الحقيقة. بعيدًا عن الغَوْغائيَّة
السَّائدة على السَّاحة؛ بكامل مُغالطاتها الفظيعة، والبعيدة عن مدارات، ومسارات
العقل السَّليم.
بَدَت
عَلائِمُ الاِرْتياح؛ مُرتَسِمَةً بِبَشاشةٍ على وجه سكلمة. سحَبَ نَفَسًا
عميقًا أنعَشَ صدره. تنحنَحَ؛ لتنظيف حُنجرته من بقايا البَلْغم العَالِق. ويُتابع:
كيف لي أن أفْهَم صناعة الأبطال من غير حُروب، واِنْتصارات تُقدَّم على طبَقٍ من
ذَهَبٍ بلا تضحيات. صيغة البُطولة في هذا المنحى باِعْتقادي أنَّها وليدة صِيَغ
التَّنازُل العديدة المُغلَّفة بغطاء التَّقَوْقُع، والتَّسَحْلُف، والتَّفَلْسُف.
أشْتَمُّ
من كلامكَ أُستاذ سكلمة، بأنَّكَ تُشير إلى نظريَّة المُؤامرة..؟.
وماذا
ستقولُ يا دُكتور، بقضيَّة قديمة؛ حينما أُقِرَّ بإنشاء دَوْلة لُبنان، عندما رفَضَ
المسيحيُّون (الموارِنَة) اللُّبنانيُّون ضمَّ المناطق المُعطاة لهم شمالًا قريبًا
من مدينة طرطوس السُّوريَّة، كمنطقة وادي النَّصارى، ومُحيطها بأغلبيَّته المسيحيَّة؛
ليُحافظوا على زعامتهم السِّياسيَّة باِمْتيازاتِها ومُكتَسباتِها.
غريب
هذا الأمر...!!. علامات الدَّهشة المُفاجئة. جمَّدت الكلمات بِفَم الدُّكتور،
بحركة لا إراديَّة؛ يحكُّ فَروِة رأسه بالقلم، إذْ توقَّف عن تسجيل ملاحظاته.
وماذا
ستقول يا دُكتور، عندما تعلم بأنَّهم أطلقُوا على رئيسنا، قائد التِّشْرينَيْن... وقائد
النَّصر والتَّحرير؛ رغم أنَّ إسرائيل في حرب تشرين، اِجْتاحت قُوَّاتها كامل
الرِّيف الغربي من مُحافظة درعا؛ وقيل أنَّها اِحْتلَّت حوالي سبع وثلاثين قرية؛ وَقْتَها
اِنْقَطَع وتوقَّف السَّفر من درعا إلى دمشق، إلَّا عبر طريق السُّويْداء دمشق.
ولم
تنسحِبْ إسرائيل من هذه القُرى، إلَّا بعد اِتِّفاقيَّة فصل القُوَّات على الجبهة
السُّوريَّة، ولكَ أن تقول ما تقول يا دُكتور، في حنكة "كيسنجر"
عندما اِسْتخدم ضُغوطه على إسرائيل للمُوافقة على خريطة قدَّمها لهم، بالتخلِّي عن
مساحة ستِّين كيلومتر من أراضي الجولان؛ ليشمل الاِنْسحاب من مدينة القُنيْطرة.
واُشتُهِرَت عبارته: (لا بدَّ من أن يرجع الأسد بنصر، ليُقنِعَ به شعبه).
بكُلِّ
تأكيد لن أقول شيئًا يا أُستاذ سكلمة. بصراحة لا أجد أيَّة كلمة مُناسبة،
فقد صدَمني كلامكَ..!!. عاد لصمته يُنصتُ باهتمام.
وما
يُدهشني حقيقة..!! أَوْسمة وزير دفاعنا السُّوريِّ، الكثيرة، والمُنحَدِرَة من
أعلى كتفه إلى أسفل رُكبته، رغم أنَّه لم يخُض أيَّ حرب، ولم يُحقِّق أيَّ
اِنْتصار خلال بقائه الطَّويل ظِلًّا للرَّئيس، ونائبًا للقائد العام للجيش
والقُوَّات المُسلَّحة، وهو الوجه الآخر لعُملة الرَّئيس. قسَمًا بالله يا دُكتور
لا أُبالغ، لو أطلقتُ على ما سمعتَ: كلمة "التَّحَلْزُن" أو
"التَّسَلحُف".
اِنْفَجَرت
ضحكة الدُّكتور من عِقالها هذه المرَّة بلا قيْد، ما هذه الدُّرَر يا أُستاذ سكلمة،
قسَمًا بالله لم أضحك منذ زمن مثل هذه الضِّحكة. هاتان الكلمتان بَصْمةُ اِمْتياز
لكَ، من المُفتَرَض تسجيلهما بدائرة الملكيَّة الفكريَّة.
لدرجة
أخذَتني بعيدًا إلى أنَّك تتكلَّم عن نظريَّة مُتكامِلة من فكرة التَّقَوقُع إلى
التَّحَلْزُن، والتَّسَلحُف، والتَّفَلْسُف، هذه الكلمات المؤدِّية بمعظم طرائِقِهنَّ
إلى قضيَّة التقزُّم والتَّقْزيم للجغرافيا، واِرْتباطهما بصناعة أبطال يُصارعون
طواحين الهواء.
سادَ
الصَّمتُ على المكان. اِبتْدأ الدُّكتور بتدوين ملاحظات جديدة في دفتره: (سكلمة
يبالغ في سرد حكايا وأحاديث كمهووس، من اِبْتداع قادم من بنات أفكاره من المُتخيَّلات
المعقولة غير المعقولة، وصلت به الأمور لجنون العظمة، والشكَّ بأيِّ شيء في محيطه
أو خارجه، ولا تخلو نظرته من نرجسيَّة طاغية، لا يمكن أن تخفى هذه النَّقاط على
المُستمع العادي، وغير المُختصِّ بالتَّحليل النفسيِّ).
..*..
ما لي وللتَّاريخ. كلَّما أحاول التَّوْبة
منه، لا أفطن إلَّا وأنا أغوصُ في لُجَّته مرَّة بعد مرَّة. بعدما سمع الدُّكتور
العبارة من سكلمة. اِنْفصلَ قليلًا عنه ليُدوِّن في دفتره: (اتَّضح بعد سماعي
لحديث سكلمة المُستفيض؛ بلا أدنى شكٍّ؛ أجزم بأنَّهُ مُصابٌ بداء هَوَسِ
التَّاريخ؛ بمعنى الهَوَسِ الاِكْتئابيِّ؛ لاِسْتغراقه في الكلام حول القضايا
التاريخيَّة).
يا
دُكتور بصراحة نحنُ الجُغرافيا والتَّاريخ..!!.
ومن
أنتم يا أُستاذ سكلمة..!؟.
اِسْمعني
جيِّدًا رجاءً يا دُكتور.. نحنُ صُنَّاع التَّاريخ؛ فقد خرج من عباءة والدي – حلمي باشا-.
مقولة والدي الخالدة المُدوَّنة في أماكن عديدة من دفاتره وأوراقه المُتناثرة:
(نحنُ الجُغرافيا والتَّاريخ)؛ تركت أثرها العميق في نفسي، ولا يُمكن تجاهلها
بأيِّ حالٍ من الأحوال. من المُهمِّ أنَّني كنتُ واعِيًا بشكل دقيق ومُلْهَم؛
لأهميَّة أوراق والدي، والقُصاصات الصَّغيرة، والتي هي وثائق اليوم.
الدُّكتور
شنوان مُنشَدٌّ بكُلِّ حواسِّه لكلام سكلمة الجديد كُليًّا على
مسامعه جُملة وتفصيلًا. لم يصدُف في حياته المهنيَّة مثل هذه الحالة التي بين
يديُه. صدمة داخليَّة على الأغلب؛ تجعله مُسْتمِعًا كتلميذ لإملاءات مُعلِّمه،
يتلقَّى معلومات تحشو ذهنه، حتّى إذا أتخمَته أغلقت أبواب تفكيره، وسدَّت منافذ مُحاكمته
العقليَّة للأمور، عندها لن يستطيع التَّفريق بين الغثِّ والسَّمين، والحقيقة
والكذب. المُهمُّ، والأهمُّ إذا ما نَسِي الموضوع الذي جلس من أجله.
والتاريخ
أصبَحَ بين يديَّ حينما جمعتُ وثائق أبي بعد وفاته التي كانت ليلة وُقوع الاِنْفصال
بين مصر وسوريَّة (1961)، وكنتُ أنوي توثيقها بإصدار ورقي يكون مُتاحًا للقُرَّاء
والدَّارسين، ومن سوء الحظِّ لم يُكتَب له رؤية النُّور، بل بقي حبيس الأدراج،
وخَطَر لي وقتها عنوان ظريف (الدُرُّ المنضود في سيرة أبي سكلمة المنكود). لكنَّها
مُوثَّقة إلكترونيًّا على قُرص صَلْب من شدَّة خَوْفي من ضياعها.
سأحكي
لكَ يا دُكتور نُتَفًا ممَّا اِسْتحضَرَتْهُ
ذاكرتي هذه السَّاعة؛ فقد أقنعَ حلمي باشا السُّلطان عبد الحميد، بمشروع
إنشاء الخطِّ الحديديِّ الحِجازيِّ، من "اِسْطنبول" إلى المدينة
المُنوَرة، ولم تكتمل فرحته بإنشاء القسم الأوَّل والثَّاني، وبقي الشِقُّ الثَّالث
غُصَّة في قلبه حتَّى مات رحمه الله.
تساءل
الدُّكتور: وما هو الأمر الذي سبَّب له الغُصَّة تلك؟.
كان
اِقْتراحه، الذي لو شاءت الأقدار بِنَفاذه، هو الأهمُّ على الإطلاق، ولَتَغيَّر
وجه التَّاريخ في الوطن العربيِّ. وقتها جَهِدَ في مُتابعة العمل أثناء تنفيذ المرحلة
الثانية من الخطِّ الحديديِّ، لقطار الشَّرق السَّريع، المُتفرِّع من حلب عبر
الموصل إلى بغداد؛ لينتهي في مدينة البصرة على الخليج.
وبقيت
غُصَّة في قلبه، إذْ لم يستطع تنفيذ حُلمه؛ لدى السُّلطان الذي اِعْتذر بمُعوِّقات
كثيرة، وكان يتمنَّى بإنفاذ المشروع لو اِسْتطاع إلى ذلك سبيلا، بمتابعة مدِّ
الخطِّ الحديديِّ عبر الكُويت، مُرورًا بالمنطقة الشرقيَّة من جزيرة العرب إلى رأس
الخَيْمة، وسواحل عُمان على الخليج، ومُتابعة سيره إلى مدينة "طنجة" عند
مضيق جبل طارق، نعم..!! من شواطئ البصرة على خُطى السُّندباد الأولى نحو العالم في
رحلته الشَّهيرة.
تخيَّل
يا دُكتور اِرْتباط أرجاء الاِمبْراطوريَّة بشبكة السِّكك الحديديَّة، كم سيكون
الحديث عن الوحدة العربيَّة سهلًا؟، حتَّى في ظلِّ مُخلَّفات "سايكس بيكو"،
والحدود والحواجز السِّياسيَّة بين بُلداننا العربيَّة.
حلمي
باشا، لم يتوقَّف عن طرح مشروعه الرَّائد
على السُّلطان عبد الحميد، بإنشاء الجامعة السُوريَّة (جامعة دمشق). الفكرة لَقِيَت
اِسْتحسانًا في نفس السُّلطان، الذي كان مُحِبًّا للعلم، ووقَّع مرسومًا
سُلطانيًّا يقضي بإنشاء الجامعة السوريَّة (1903)، وفي عام (1958) تحوَّلت تسميتها
إلى جامعة دمشق.
تزامُنًا
من توقُّف سكلمة عن الحديث؛ اِسْتشعر الدُّكتور تَعَب وإرهاق سكلمة الذي كَسَا
ملامحه. عند هذا الحدِّ، نفثَ آهاته الحرَّى من أعماقه، ليُخرجَه من مُتابعة
حديثه، وقال: أُستاذ سكلمة اِسْتمعتُ واِسْتمتعتُ. أنا سعيدٌ بكَ، وبمعرفتكَ
والجُلوس إليكَ، شَغَفي بالتَّاريخ طيَّب جلستنا، وجعلها تمتدُّ لضعف وقتها
المُخصِّص عادةً لمثل هذه الجَلْسات.
من
بعْدِ إذنكَ يا دُكتور، لو سمحتَ لي بفقرة أخيرة قبل اِنْصرافنا؛ فقد كان والدي
رجل دولة حقيقيٍّ. عالم ببواطن الأمور. عاصر السُّلطان "عبدالحميد" واِشْتغل
معه في دائرته المُقرَّبة منه جدًّا بمثابة مُستشار، وحاز على ثِقَته شِبْه
الكاملة، بإمكانك القَوْل: "أنَّه كان ساعده الأيْمَن، يعتمدُ عليه في الأمور
الصَّغيرة والكبيرة". وعندما لَمسَ فيه الإخلاص، وآنَسَ فيه الأمانة، والنيَّة
الصَّادقة.
فالخمس
سنوات الأخيرة قبل سُقوط السُّلطان، كانت الفترة الذَّهبيَّة لحلمي باشا؛ حينما
طلبه السُّلطان للعمل في ديوانه، بعد أدائه الجيِّد، والمُميَّز في خدمته
العسكريَّة، التي قضاها مُتنقِّلًا بين الولايات كضابط سابق في الجيش العُثمانيِّ،
ومن ثمَّ كَحَاكِمٍ إداريٍّ لمُتَصرِفِيَّة جبل لبنان.
اِنْصرف الدُّكتور لتسجيل مُلاحظاته. سكلمة
وجنون العظمة. شعور بالخَيْبة بعد حُزْمة الأمجاد الموروثة من والده. لم يظهر عليه
أيّ من علامات الفُصام الذي يصل به إلى درجة الـ(شيزوفرينيا).
..*..
عاد سكلمة مُرهقًا إلى الفندق (بوريفاج). عرَّج إلى (الكوفي
شوب) قبل الصُّعود إلى جناحه؛ لتناول فُنجان قهوة يريح أعصابه، كان راغبَا
بالجُلوس وحده لا يُريد لأحد اِقْتحام عُزلته هذه اللَّحظة؛ إذ تذكَّر جلسته ذاكَ
اليوم مع السَّفير الجزائريِّ، بعد رُجوعه
من جَوْلته في مُتْحَف الأولمبياد.
وضع
رأسه بين يديْه أخذ إغفاءة اِمْتدَّت لعشر دقائق، أثناء انتظاره لعودة الجرسونة
بفنجان قهوته التُركيَّة الـ(تِرْكِش كُوْفي) التي يُفضِّلها، اِنْفَصَل عن مُحيطه
لينخرط في دوَّامة قلقه الدَّاخليِّ، وليغوص في تعداد مناقب حلمي باشا، ومع كلِّ
نُقطة. كان يقول:
بِوُدِّي
لو أخبَرْتُ الدُّكتور شنوان:-
أنَّ
حلمي باشا صاحب الشَّريف حسين نقيب الأشراف؛ وأثناء وجوده في إسطنبول قيْد الإقامة
الإجباريَّة، وحين قام بثورته العربيَّة عَمِل مُستشارًا له ومُتطوِّعًا معه، وحين
دُخول الأمير فيصل بن الشَّريف حُسيْن إلى دمشق، مهَّد الظُّروف المُناسبة لقدومه،
وتهيئة الأجواء لإقامة الحكومة العربيَّة في الشَّام، إذ تقدَّم جُموع النَّاس
والقادة والوُجَهاء إلى قرية "الكُسْوَة" جُنوب دمشق، لاِسْتقبال الأمير
القادم ومن معه.
ولمَّا
غضب الأمير فيصل من الأمير "محمد سعيد الجزائريِّ"؛ عندما نصَّب
من نفسه رئيسًا للحُكومة العربيَّة في سوريا، باِسْم الشَّريف حسين قائد الثورة
العربيَّة الكُبرى، ورفع علم الثورة على السَّراي الحكوميِّ قبل وصول جيوش
الثَّورة، بُعيْد اِنْسحاب العُثمانيِّين من دمشق مع نهاية الحرب العالميَّة
الأولى 1918. لم يستمر في منصبه إلَّا أيامًا قليلة، كانت بمثابة فترة اِنْتقاليَّة؛ وعند دخول فيصل بن
الحُسين إلى دمشق قام بإلقاء القبض على الأمير
"محمد سعيد الجزائريَّ"، وإيداعه في سجن القلعة.
بنفسي
إخبار الدُكتور شنوان بأنَّ:-
حلمي
باشا لم يترك الأمير الجزائريِّ وحيدًا في السَّاحة؛ فحاول إقناع صَديقَيْه الفريق "رضا باشا الرِّكابي"،
و"شُكري باشا الأيُّوبيِّ" بالتوسُّط لدى الأمير فيصل، لتخفيف نَوْبة
غضبه، وتطييب خاطره، وأنَّ ما حَصَل لم يكُن إلَّا مُحاولةً؛ لِتَجنُّب الفراغ في
سِدَّة الحُكم، وخَوْفًا من أعمال التَّخريب، والنَّهب لممتلكات الحكومة.
أتمنَّى
أنَّ الدُكتور شنوان يعلم بأنَّه:-
وبعد
معركة ميسلون، ودخول الفرنسيِّين إلى دمشق. ركَّز والدي العمل مع كافَّة القوى
السياسيَّة، على ترشيح صديقه القديم "نسيب البكري" في الجمعيَّة
العربيّة الفتاة لعرش سوريا، بعد طرد الملك فيصل إلى العراق. بهدف الحفاظ على مُكتَسبات
الحكومة العربيَّة خلال العاميْن المُنصَرميْن.
آهٍ..
لو كان الدُّكتور شنوان يعرف: أن علاقة حلمي باشا، بنوري السَّعيد منذ أيَّام
دراسته في المدرسة الحربيَّة في إسطنبول،
وكم كان يحلو لوالدي مناداته: بـ(نوري أركان). وبقيت علاقتهما وثيقة على
الرَّغم من الجدل واللَّغط حول إشكاليَّة "نوري" الظَّاهرة
المُحيِّرة. لأنَّهما كانا عُضويْن ينتميان للجمعيَّات السريَّة المُنادية باِسْتقلال
العرب عن الأتراك، وعلى الأخصِّ الاِتِّحاد والترقِّي، إضافة لصديقهما الفريق
"عزيز علي المصري"، كما ربطته علاقة وثيقة مع "رمضان باشا
الشِّلَاشْ" بعدما ألحقه السُّلطان عبدالحميد بالمدرسة الحربيَّة،
وتمتَّنَت، وتعمَّقت؛ خاصَّة عندما أصبح "رمضان باشا" مُرافقًا شخصِيًّا
للسُّلطان.
كنتُ أتمنَّى لو أنَّ دُكتور شنوان يعرف: -
أنَّ
"حلمي باشا" كان يسيرُ جَنْبًا إلى جَنْبٍ مع "فوزي باشا
القاوقجي" سنة ميلادي، وتَرَك أُمِّي تُصارع هُموم الحمل والولادة والأُسرة
وَحْدها؛ لمساعدة ثوَّار فلسطين، وبعدها أسَّسَا جَيْش الإنقاذ.
ولم
يتوانَ والدي أيضًا بالمسير مع "القاوقجي" إلى العراق على رأس
المُتطوِّعين؛ لمُؤازرة "رشيد عالي الكيلاني" في ثورته ضدَّ
الإنكليز.
اِنْتبه
من غَفوَته. فَرَك عينيْه. مَسَّد شعر رأسه بحركة مُتباطئة. عيناه تُبَحْلِقان في
الأرض لم يرَ وجهها. بينما النَّادلة تقف بكامل أناقتها بجواره، رائحة القهوة أَنْعشَت
أنفاسه. قرَّب أنفه؛ ليَعُبَّ كامل البُخار المُتصاعد. خُيِّل إليه أنَّ وجه حلمي
بكامل هَيْئته ووسامته اِسْتَوْطَن فنحان القهوة، الذي اِسْتحال مرآة عاكسة
للصُّورة. لم يتفاجأ به، ففي حالات حَيْرته وضعفه الإنسانيِّ يظهر له، فَتَهْمَدُ
كلُّ هواجسه ومخاوفه، ويعود يقينه، ويتجدَّد إيمانه بقوَّته الكامنة فيه.
اِنْتشت
ذُبالة أنفاسه المُنهَكَة؛ فَتُنْبِئ بتعبه وإرهاقه. يغيبُ بعيدًا بتفكيره عن
(الكوفي شوب)، هائمًا في سَماوات خيالاته. يقول لنفسه: خَوْفي كلُّ خَوْفي يا حلمي
باشا؛ أن لا يُصدِّقني الدُّكتور شنوان..! أو يتَّهمني بأنَّني من ذوي الخيال
الجامح، الخصب في اِخْتراع الحكايا والحوادث، وما بيْن التكذيب والتصديق مَضيَعة
للحقيقة، ربَّما.. بل ليس رُبَّما... بل مُؤكَّد
باستغراقه في تحليلاته وتخميناته، لتأخذه في مذاهب بعيدة عن توصيف حالتي؛
ساعتها تكمُن المُصيبة بوصف علاج مُختَلِف، هو في الأساس علاج لمرض آخر غير ما أُعانيه.
كأنَّه
سَمِعَ جوابًا: (لَهُ بِأنْ يُصدِّق أو يُكذِّب... فإن كان قارِئًا مُطَّلِعًا،
لتأكَّد بنفسه من صِحَّة ودِقَّة كلامكَ، ولما تطرَّق لِنَفسه أَدْنى شَكِّ، أو تكذيب).
هزَّ سكلمة رأسه تصديقًا على كلام حلمي باشا.
بنفسي
يا باشا، لو أستطيعُ الوُلُوج إلى دواخله، أو اِخْتلاس النَّظر لأوراقه؛ التي كان
يُدوِّن فيها ملاحظاته؛ لأستطلِعَ صُورَتي المُتكَوِّنة عنِّي؛ خلال جلساتنا
العديدة الماضية، اِبْتداء من المسافة بين دمشق وبيروت، وذكريات بيروت القديمة
والحديثة بلقائي جورج، وجاذبيَّة شارع الحمرا وسط بيروت، وعبقريَّة مقهى الويمبي،
ووصولي إلى لوزان، وبهجة بوريفاج الفخمة، وإعجابي بمتحف الأولمبياد، ولقائي
بالسَّفير الجزائريِّ. حتَّى ما كان في نيَّتي زيارته كقصر رومين، والحديقة
النباتيَّة، وأماكن أخرى إذا تمكنَّت من ذلك ولم يُدركني ضيق الوقت .
اِخْتفى
خيال الباشا بلا تعليق منه؛ اِنْتبه سكلمة حوْله؛ ليتأكَّد من أنَّ أحدًا من الرُوَّاد
الذين حَوْله لا يُراقبه، أو سَمِع شيئًا من كلام الباشا له.
..*..
التقرير النِّهائي
(5)
عكَفَ الطَّبيب شنوان لمدَّة أسبوع، بعد أن أخبر سكلمة:
أحتاجُ
للمزيد من الوقت لكتابة التقرير، بعد هذه الجلسات الطَّويلة التي اِسْتَنْزفتني،
واِستَنْفَدتْ كامل طاقتي، وأنا أستَمِعُ وأدوِّن جميع ما رَويْتَهُ لي؛ فأصبح
الملفُّ مُتخَمًا بمعلومات، ومعارف مُتنوِّعة، مُتوافِقة ومُتنافِرَة، اِسْتوعبتُ
قليلها...، وربَّما فاتني كثيرها عن غير قصد، إنَّما لاِزْدحام الأفكار، وكثرة
التداخُلات الشَّخصيَّة؛ المُرتَبِطة بحبائل الماضي والحاضر، تُنبِئُ عن تشابُكات
البعيد والقريب، يصعُبُ تفكيكها بسُهولة.
كما
أنَّني أمام شخصيَّة مُركَّبة، أي أنَّها شخصيَّة غير عاديَّة؛ فهي تحتاج
لإعادة قراءة واعية لاِسْتنتاج تحليل
دقيق؛ يخدُم التَّشخيص السَّليم للحالة التي نحن بِصَدَدِها.
أميلُ
لإطلاق عليها صفة "شخصيَّة المُستشار"، التي حَظِيَت بدراسات
أفرد لها علماء النَّفس والمُهتمِّين الصَّفحات، واِسْتدرجَت نقاشاتهم الطَّويلة،
حتَّى اِسْتطاعُوا تطوير مفاهيمهم؛ لتأطير مُستوياتها النظريَّة والعمليَّة، وبالتَّالي
أصبحت مُصْطَلحًا دالًّا على هذه الشَّخصيَّة، وهي المعروفة بطرائق مُمارستها
الحياة والعمل، والعلاقات مع الآخر.
أي
الآخر القريب ذي الصِّلة بالقربى والصَّداقة، والفَرْق بين الآخر-الأنا الأعلى-
المُتمثِّل بالرَّئيس، ومجتمع الموظَّفين بِتَراتُباتِهم الوظيفيَّة، والآخر بحكم
طبيعة العمل الدُّبلوماسيِّ.
عينا
سكلمة لم تَرِفَّا بحركاتهما شِبْه الاِعْتياديَّة، يستمعُ، ويَعِي كلَّ كلمة
قالها الدُّكتور. وقَفَ في مكانه؛ ليُزيح عن ساقه اليُسرى أثَر الخَدَرُ لوضعهما
فوق بعضهما باِلْتواء لفترة طويلة، فقد نَسِي نفسه على هذه الوضعيَّة، وقال: خُذْ
وقتكَ يا دُكتور، لعلَّك مَنَحَتَني الفُرصة الحقيقيَّة من جديد، بالعودة لِتَغيير
مناظيري للحياة من حَوْلي، واِسْتقراء نفسي برُؤية مُختلفة، إذا اِسْتطعتُ
التجرُّد من عواطفي. إن شاء الله سنلتقي في الأسبوع القادم.
الدُكتور:
بعونه تعالى... سيكون لقاؤنا صباح الثُّلاثاء في مثل هذا اليوم. وداعًا.
..*..
§
بطاقة شخصيَّة:
سكلمة بن حلمي باشا. العمر 67 سنة. أعزب. دُكتوراه علوم
سياسيَّة. خرِّيج الجامعة الأمريكيَّة في بيروت. مُستشار بديوان رئاسة الجمهوريَّة
السُّورية. في عهد الرَّئيس حافظ الأسد.
..*..
§
شخصية المُستشار:
شخصيَّة "سكلمة" قياديَّة. واثقة.
هادئة؛ وكمُستشار مُجبَر على التأقلُم والتكيُّف مع أيِّ وضعٍ اِجْتماعيِّ، لما
يتمتَّع بالفَهْم المُركَّب والمُعقَّد لدوافع أيِّ فَرْد كائنًا من كان. اِنْعكسَت
هذه الصِّفات بمزاياها الفريدة على ظاهر سَمْتِ شخصيَّته، لتُشكِّل شخصيَّة
المُستشار النَّادرة التي تتَّصِف بالذّكاء، والخِبرة، والمِثَاليَّة العالية.
والرّؤى بأبعادها الدّقيقة بحساباتها الواعية والمُتوازِنَة؛ فالمُستشار عادة يمتلكُ
ضمير باحث عن المعاني الإيجابيَّة في العلاقات العامَّة من خلال طروحاته الأفكار،
ومن خلال رُؤاه الواضحة الواثقة؛ المُتوالدة من مهاراته ومن حدسه المُتوقَّع الذي
يصلُح لمواقف طارئة. يمتلكُ عَقلًا مُدبِّرًا ينمو على مشاكل تُطرَح عليه؛ لتأتي
له بفُرصة لاِبْتكار حلولٍ جديدةٍ معقولةٍ، قابلة للتنفيذ بيُسرٍ وسُهولة.
اِسْتنتجتُ
من أحاديثي الطَّويلة مع سكلمة؛ بأنَّه حسَّاس واِنْطوائيّ حقيقيّ. يُفضِّل أن لا
يكون في الواجهة المنظورة من الآخرين، وممارسة تأثيره خَلْف الكواليس. مساره
مُستَقِلٌّ جدًّا. لكنَّه حسَّاس ومُعقد، وماهر في فَهْم المشاكل المُعقَّدة، ظاهره
يُنبئ عن كاريزما تتَّسم بحياة داخلية مُتماسكة. يحذرُ التعبير عن مشاعره الخاصَّة
للآخرين. بطيء بتكوين علاقات وثيقة مع أحد.
..*..
§
أحلام اليقظة:
بمحاولة جادَّة بعد هذه الجولات الطَّويلة، والجلسات وجَرَى ما جَرَى
فيها من أحاديث وحكايا مُتنوِّعة، بِتَناوُباتٍ زمنيَّة مُتقارِبة ومُتباعِدة؛
أفصحت بجلاء عن صفحات من حياة سكلمة البيضاء والسَّوداء، وقد اتَّضحت أمامي
مُعظَم القضايا التي حاولتُ استنطاقه بها، ومنها نَثَرها بيْن يديَّ بلا طلب منِّي
وهي الأهمّ برأيي.
كانت
مُهمَّة اِستخلاصي لمعلومة بعيْنِها تُصبِح شبه مُستحيلة أحيانًا، إذا شَعَر بِمُراوغتي
مرَّات بأسئلة مُلغَّمَة لاِنْتزاع اِعْترافٍ منه عُنوَة، فهو ماهرٌ بتعاطيه
الدَّقيق مع أيَّة نقطة. ذكاؤه مُحيِّر لي ومُرْبِك؛ جعلني أقومُ بعمليَّات اِلْتفاف
مُعقَّدَة؛ لأصِلَ إلى هَدَفٍ يَحومُ في رأسي.
وسأتوقَّفُ
عند مجموعة من النُّقاط كنتُ قد أشرتُ باللَّون الأحمر جانبها، وعلى ضوء تحليلي
لها؛ فمن السُّهولة بمكان تكوين فكرة واضحة، حول المشاكل النفسيَّة التي يُعاني
منها:
أ- (وَقَفَ أمام صورة والده "حلمي
باشا" ذات الطَّابع العُثمانيِّ، ومن ثمَّ الوطنيِّ؛ المهيبة بدقَّة ألوانها
بتدرُّجات الأسود وظلاله، وتفاصيلها العميقة؛ التي تبعث رهبةً مُؤثِّرةً في نفس من
يتأملَّها، ولم ينْسَ النَّظَر بطَرَف عَيْنِه، وبلا مُبالاة لصورته الوحيدة مع
الرَّئيس الرَّاحل. ذات الحجم المُوازي لصورة الوالد).
..*.*..
ب-
قُبَيْل وصوله طريق الدِّيماس (طريق بيروت القديم) بعد نهاية طريق خُروجه من
الصَبُّورة. نوْبة عُطاسٍ اِجْتاحت سكلمة بشكلٍ مُفاجئ؛ لِتَتطوَّر إلى سُعال أدْمَع
عَيْنيْه. السَّائق يتساءل باِستغرابٍ: "ما الذي حَدَث لكَ أُستاذنا؟".
-"لا
شيء إنَّه غُبار المعركة".
..*.*..
ج- اِنْشقَّ الأُفق أمام عَيْنيْه، لِيَتكَشَّف عن لوْحَة
بديعة مُحاكاة لخيال "حلمي باشا"؛ مُمتدَّة على كامل صفحة مُنحَدَرات
الجبل، وأعلى طُربوشه يُطاول أعالي القِمَّة بشُموخ مُتوائم وطبيعة الجُغرافيا.
القمر
على غير عادته؛ فَقَدْ تمرَّد على إطار قانونه الأزليِّ، بظُهوره المُفاجئ وفي
النَّهار؛ عزَّز في ذهن سكلمة التساؤلات: "لم أتخيَّل يومًا حُدوث ما أراه في
هذا التوقيت، بظُهور القمر مع حلمي باشا.. يا إلهي..!!؟ لا أدري هل لاحظ (الكابتن)
نضال ذلكَ أم لا..!! أأنا في حلْم أمْ عِلْم").
..*.*..
§
تعليق الدكتور شنوان:
ما رَواهُ سكلمة حَكاهُ بكلِّ ثِقَة، وكأنَّه رآه للتَوِّ بمشهد حيٍّ
على شاشة التلفزيون؛ فقد كان صادقًا واضحًا. لمستُ ذلك بِحَدسي. باِعْتقادي أنَّ
هذه التهيُّؤات؛ تأخذُني للحكم على أنَّها نوعٌ من:
هلوساتُ
أحلام اليقظة العادية الطَّبيعيَّة ذات مواضيع، تتضمَّن مُحادثات، أو أفكار إنتاجيَّة
أو تخيُّلات لأحداث مُحبَّبة؛ تستنزفُ بعضًا من الوقت، قد يستمرَّ لدقائق أو لِثَوانٍ.
إنَّه
يُعاني من (الاِضْطِراب الوَهَامِيِّ. المرض النَّفسيِّ غير المألوف، بأعراضه التقييديَّة
بأوهام غير غريبة، ولكن مع عدم وجود هلوسة واضحة، وبدون اضطراب في التفكير، أو
اضطراب في المِزَاج، أو أي تأثير تسطيحي واضح. ولكي تُشَخَّص الإصابة بهذا
الاضطراب، لا يمكن أن تكون الهلوسات بارزة، رغم احتمالية وجود الهلوسات الشمية أو
اللمسية المتعلقة بمحتوى الأوهام)*.
أمَّا
أحلام اليقظة المُفرِطة غير القادرة التكيُّف، الُمنغَمِسَة بأحلامه المُتمازجة مع
حديثه الدَّاخليِّ. وهو ما نُطلِق عليه (متلازمة جوسكا)*.
المُؤدِّية
للعُزلة، والتوقٌّف عن ممارسة فعاليَّات الحياة، وتستغرق وقتًا ربَّما يمتدُّ
لساعات. هذه الاِضْطرابات العقليَّة مُزمنة وشديدة لدى سكلمة، ولها الأثر الشديدة
على طريقة تفكيره، وشعوره، وسُلوكه. هذه أعراض مرض العباقرة.
المُصابون
به قد يسمعون أصواتًا غير موجودة. أو يعتقدون بأنَّ في مُحيطهم المرئيِّ والمَخْفِيِّ،
وبأنَّ هُناك من يتربَّص بهم، ويريد بهم شرًّا، ويسعى لإيذائهم بكُلِّ الوسائل
المُتاحة. توصف هذه الحالة بالذُّهانيَّة، إذا لم يعُد بقدرة الشَّخص ويعجز عن
تمييز أفكاره الخاصَّة عن الأفكار التي تحدُث حقيقة في مُحيطه.
§
وبتحليل الموقفيْن السَّابقيْن:
ولمَّا
تساءل الكابتن نضال: (ما الذي حدث لكَ أستاذنا؟). أجاب سكلمة: (لا شيء. إنَّه
غُبار المعركة). وعندما
تعزَّزت التساؤلات في ذِهْن سكلمة. بقوله: (لم أتخيَّل يومًا حدوث ما أراه في
هذا التَّوقيت، بظهور القمر مع حلمي باشا. يا إلهي..!! لا أدري هل لاحَظ الكابتن
نضال ذلك أم لا. أأنا في حلم أم علم..!!).
يُرجَّح
أنَّ حالة سكلمة تندرج تحت أحلام اليقظة العاديَّة الطبيعيَّة، وتتداخل بعض الأمور
باختلاطات لتتقارب من (مُتلازمة جوسكا) أحيانًا.
..*..
§
العزلة وأضرارها:
العُزلة الإجباريَّة التي فُرِضت على سكلمة، بعد إيقافه، وكَفِّ يده
عن العمل، عزَّزت فكرة حدوث اِعْتلال نفسيِّ، بسبب قلَّة الاِنْتباه للعِناية بنفسه،
وشعوره المُفرِط باليأس، ربَّما ذَهَب لتعاطي المشروبات الكُحوليَّة، وأستبعد أن رَاوَدَته
فِكْرة الاِنْتحار قطعًا.
طبيعيُّ
جدًّا توتُّره الدَّائم بمستويات مُتفاوتة.
فُقدانه لأفراد أسرته واحدًا تِلْوَ
الآخر. وأنَّ اِبْتعاده واِبْتعاد الأصدقاء عُمومًا، كذلك لم يكُن اِخْتيارًا مُتعمَّدًا،
بل الظُّروف حَكَمَت عليه بهذا الخيار، ممَّا ساهم بِنُشوء اِضْطرابات نفسيَّة، وعصبيَّة،
وعُضويَّة طارئة، وهذه العُزلة السلبيَّة نشأت بسبب تراكم الضُّغوطات النفسيَّة،
وعمَّقت النُّدوب التي لم تندمِل عنده، ومع مرور الأيام تعاظمت آثارها لعدم
التنبُّه لها في حينه.
فكما
هي الآثار السيِّئة للعُزلة، كانت الأهميَّة المُتوقَّعة للعُزلة القصيرة المدى، مثلًا
في العمل، أو بالتفكير، أو الرَّاحة بهدوء دون ضجيج مُزعِج، لتحقيق قدَرٍ معقول من الخُصوصيَّة.
لِتَحدُث
الطُّمأنينة، وتطرُد القلق والخوف. أستطيعُ التفريق بين العُزلة المُشيرة
للسَّعادة. والوحدة الباعِثَة على الألم كَوْنه بمفرده ولا أحد حوله، وإذا ما
توافرت الظُّروف المُناسبة، قد يكون لهها فوائد نفسيَّة هائلة؛ لأنَّها تُحرِّر
الشَّخص من القلق، وعلى رأي من قال: (أخيراً
أصبح لدي وقت فراغ)*. من
أجل التأمُّل والتفكُّر، وهي حال الفلاسفة والنُسَّاك.
..*..
§
الحساسيَّة المُفرطة:
-(شعورٌ بالضِّيق جَثَم على صدري فجأةً، يبدو أنَّ كلامه
صَدَمني، وأصابتني حالة من الإرباكِ، أُحرِجتُ جدًّا جدًّا. قبل ذلكَ لم يكُن
ليمرَّ مثل هذا الموقف التَّافه بهذه السُّهولة.
عندما ظننتُ خُروجه عن سِيَاق لَبَاقته المعهودة، واِنْفلتَتِ
اللَّحظة المُتفجِّرة من بين يديْه؛ لم أَسْتطع مُجاراتِه بالحِوار ولا بالردِّ
عليه، غادَرْتني الرَّغبة بالمُتابعة؛ قرَّرتُ الاِسْتئذان منه. بل اِنْتهزتُ
فُرصة اِنْشغاله مع فنَّانة مشهورة جدًّا ذات شخصيَّة جذَّابة).
..*.*..
§ تعليق
الدكتور شنوان:
بلا شكٍّ أنَّ سكلمة ذو شخصيَّة حسَّاسة جدًا، تجاه أشياء وأمور كثيرة
في حياته. مثله مثل الآخرين من شديدي الحساسيَّة؛ فهذا النَّوع أكثر عُرضة للاِضْطرابات
النفسيَّة كالقَلَق والاِكْتِئاب.
خاصَّة عند تواجده في المعرض الفنِّي
وبدعوة رسميَّة، فهو في بيئة غير مُناسبة بعدم تجانُسها؛ فشكَّلت مزيدًا من الضَّغط
عليه بالقَوْل والفِعْل، وعدم التَّقدير لحضوره ولمشاعره. ولشعوره بالاِنْزعاج؛ بسبب التوتُّر أو
الشُّعور بالإرهاق. ولم يحتمل قساوة الموقف حسب تقديره؛ فغادر المكان من غير اِسْتئذان،
أو وَدَاع لصديقه الفنَّان الذي وجَّه له دعوة خاصَّة.
..*..
§ الآباء
لا يموتون في أنفسنا:
أ.(يدٌ
خفيَّةٌ هزَّتني بِرفْق؛ اِنْتبهتُ للخاتم ذي الخَرَزة العسليَّة كبيرة الحجم
المُوشَّحة بالبياض، قلَّ نظيرها لا تتشابه مع أيِّ فَصٍّ مُركَّب على خاتمٍ
فِضِيٍّ أبدًا، لم تقع عيني على شكلها الهرميِّ الأشْبَه بقُبَّة تكيَّة مملوكيَّة
مُفلطحة. اِقْشعرَّ جسدي).
..*.*..
ب.(ما
إنْ وضعتُ رِجْلي على الدَّرَجة الأخيرة، حتَّى اِرْتسم وجه أبي بجلال طلعته
البهيَّة المعهودة. هَالَني شارباه المعقوفان للأعلى بطولهما المُمتدِّ من زاوية
الواجهة اليُمنى للمُتحَف إلى اليُسرى المُقابلة لها. وعلى مدخل البُوَّابة
الرَّئيسة اِنطبعَتْ اِبْتسامتُهُ).
..*.*..
§
تعليق الدكتور شنوان:
في هذين الموقفيْن
المُتقاربيْن زمنيًّا لم يفصل بينهما سوى أقل من ربع ساعة. فقد حدثا هنا في لوزان.
وفي فضاء متحف الأولمبياد. أثناء مرور سكلمة بامرأتين رياضيَّتيْن، وعلى بوابة
المتحف الرَّئيسة.
لم يكُن بوسعي إلَّا الذَّهاب إلى فكرة: أرواح الآباء التي
تسكن أرواح الأبناء، أو المكان ولا تُغادره. من الممكن أن تنشط الذَّاكرة في أوقات
كثيرة، وتَخْمُل في أخرى, الأمر الذي اِسْترعى اِنْتباهي، أنَّ تكرار مُشاهدات
أتَتْ من مخزن الذَّاكرة.
وأذكُر أنَّني كتبتُ حول هذه النُّقطة، حينما وقف سكلمة أمام
صورة والده حلمي باشا، لحظة مغادرته بيته الدِّمَشقيِّ إلى بيروت:
الآباءُ
لا يموتون... تنتشي أنساغهم باِمْتداداتهم في حَيَوات أبنائهم. تتوارى أجسادهم تحت
الأرض؛ بينما تتشبَّث خيالاتهم بعقول وقلوب أولادهم وزوجاتهم وأصدقائهم، ترفض
المُغادرة إلى القُبور معهم.
وأخبرني
سكلمة. سُئلتُ مرَّةً: (أماتَ أَبوك؟. بلا تردُّدٍ أجبتُ: ضَلالٌ..
أنا لا يموتُ أبي\\ ففي البَيْت منه... روائحُ رَبٍّ.. وذِكْرى نَبيٍّ\\ هُنَا
رُكْنُهُ.. تلكَ أشياؤهُ\\ تَفَتَّقُ عن أَلْفِ غُصْنٍ صَبِيٌّ\\ جريدتُه..
تِبغُه.. مُتَّكَأهُ\\ كأنَّ أبي –
بَعْدُ – لم يذْهَب)*.
وأضاف
فيما بعد: لن أعيشَ في جِلْباب أبي، ولكنَّني أحتفظُ به كَجُزء مِنِّي، وسأتلفَّع
به وقت اللُّزوم. ولن أستغنيَ عنه، أحتاجه دومًا معي لإحساسي العجيب بالطُّمأنينة،
واِنْشراح صدري.
وأقول
بأنَّ: روح أبيه
مُرتحِلَة فيه، لا يُطيقُ تركها وحيدة هُناك، إذا حاول مُغادرتها لا تُغادره...
تتشبَّث بروحه... تصير قرينتها، شعوره عميق بالأمان، عندما تُدركه ذكرى
والده.
..*..
§ الخوف
والشكُّ:
(شخصٌ قادم نحوي، من
فَوْرِ أن وَطِئَت قدَمَه بُوَّابة (الكوفي شوب) الرَّئيسة، تخربَطَت حساباتي،
تكالَبَت الشُّكوك. شخصٌ غريب قادم باتِّجاهي، تسارعت نبضات قلبي.
إفرازات الأدْرينالين في حالتها القُصوى.
يا إلهي..!! ما الذي يريده منِّي؟.
هل هو عربيٌّ أم أجنبيٌّ؟.
سِحْنَتُه فيها تواشيح عربيَّة. تهيَّأتُ لأسوأ الاِحْتمالات،
لم يخطُر ببالي الآن، إلَّا موضوع الاِغْتيال. تصوَّرت مُسدَّسه المُدجَّج بكاتم
الصَّوْت؛ سيُخرِسُ كلَّ الأصوات المُعارِضَة التي شقَّت عصا الطَّاعة بِعِناد، أو
المُغرِّدة خارج السِّرب العصِيَّة على التَّدْجين. أستبعِدُ هذا الاِحْتمال).
..*.*..
§
تعليق الدكتور شنوان:
مخاوف
بلا حُدود اِسْتعمرت دواخل سكلمة المُنهكة أصلًا، ومع ذلك فهي المُشبَعة حدَّ
التُّخمة بالشكِّ والخوف حتَّى من نسمة
الهواء، أو خربشة صرصور في زاوية ما، فهو معذور كلَّ العُذر، وأُبرِّر له ذلك.
لأسباب كثيرة كان قد حدََّثني بها خلال جلساتنا.
فالخوف من الآخرين والشكِّ فيهم، أمران مُعقَّدان لكثرة
تداخلاتهما المُتشابكة، بأبعاد ومؤثِّرات، وفي النتيجة الحتميَّة تنشأ حالة من
العُزلة، وصعوبة التواصل مع الآخرين، والحدّ من العلاقات الاجتماعيَّة المُوسَّعة.
إذا اِستطعتُ تلمُّس، وفَهْم الأسباب الكامنة وراء هذه المشاعر و الأحاسيس، وعلى
الأغلب أنَّني أدركتُ مُعظمها.
عند
النُّقطة والنتيجة التي تحصَّلُ عليها، يُمكنُني وصف العلاج المُناسب له، من خلال
التمارين، والتغيير ببعض سُلوكيَّاته الحياتيَّة، مع بعض المُهدِّئات مؤقَّتًا.
وإلى جانب الخوف والشكِّ، فقط لاحظتُ وجود هلوسة
واضحة، لكنَّها لم تُؤدِّ إلى اِضْطرابات في التفكير أو في المزاج، أو أيِّ تأثير
تسطيحي واضح.
كونه
لم تظهر عنده أعراض تقييديَّة بأوهام غير غريبة. وترجَّح لديَّ بأنَّه مصابٌ بالفِصَام البارانويدي (البارانويا).
لاعتقاده
بأنَّ الآخرين، يُحاولون التسبُّبَ بأذى له، دون سبَبٍ منطقيٍّ لهذا الاعتقاد .والشَكِّ
في ولاء الآخرين، وعدم الرَّغبة في الثِّقة بالآخرين؛ خوفًا من اِسْتخدامها ضِدَّه، وهو
في حالة أقرب لإصابته بالذُّهان، للخَلَل
في عمليَّة التفكير المنطقي، والإدراك الحسِّي. لأنَّه يتعرَّض لِنَوْبات هَلْوَسة،
وتعلُّق بمعتقدات توهميَّة. وسأُصادق على نصيحة صديقه الطَّبيب الذي اِلْتقاه في
دمشق، عندما أخبره بمعاناته من أعراض البارانويا، وضرورة العلاج.
..*..
الخاتمة
(6)
(ربَّما كتابة النِّهاية أصْعَب من البِداية
بدرجات، على الرَّغم مِنْ أنَّ النِّهاية وليدة البداية). كانت آخر عبارة كتبها سكلمة
في دفتره، وبعدها مُباشرة: (فكما تعانَق الفَرَح والحُزن في حياتي. على الإطلاق
لم يتغيَّر شيء، ما زالت الأمور صامدة على ما هي عليه... شاهدة على اِنهياري...!!
وداعًا دُكتور شنوان... وداعًا لوزان).
مع
تباشير الصَّباح. تواشيحُ الضُّوء تخترق الفراغات الضَّئيلة بين السَّتائر؛ لِتُبدِّد
ظلام الغُرفة بِعِنَاد، وتُخفِّف من نَوْبة توتُّرٍ مجهولة السَّبب داهَمَته منذ
ساعات صباح الثُّلاثاء الأولى.
تقلَّب
في فراشه لنصف ساعة بعد السَّابعة والنَّصف. رنين الهاتف على غَيْر عادته جاء
مُبكِّرًا؛ حَمَل معه صوت سُكرتيرة المصحَّة: (سيِّد سكلمة؟. -تأكَّدت منه قبل أن تُتابع كلامها- قبل
قليل وَرَدَنا اِتِّصالٌ من المُستشفى المركزيِّ: بأنَّ الدُّكتور شنوان،
قد قَضَى بحادث سيَّارة على الطَّريق السَّريع ليلًا، أثناء عودته إلى البيْت. إذ
اِصْطدمت سيَّارته بقاعدة الجسر الضَّخمة، واِنْحَرفَت عن مسارها).
وقعت
سمَّاعة الهاتف من يَدِه. اِنْهارت قِوَاه المُنهكة أصلًا. هَبَط بِقُوَّة على
حافَّة السَّرير. "يا للخسارة". قالها صارخًا بِلِكْنَتِه
الدِمَشقيَّة. بِنَبرة جريحة؛ بِوتيرةٍ عالية عَبَّأت جناحه في بوريفاج.
سَمِعْتها
السُّكرتيرة في مكتبها، وهي تُحاول الاِسْتفهام منه. ظنَّت أنَّه سألها عن معلومة
ما. أغلقَتِ السمَّاعة، والحيْرة تملأ رأسها، ولم تحصل على ردٍّ.
..*..
بعون
الله وتوفيقه
تمَّت رواية
(سكلمة)
ملاحظة: هاتان الفقرتان من صنع مؤلف الرواية، ضرورة السَّرد على
لسان البطل "سكلمة" هو ما استدعى وضعها داخل قوسين
ملحوظة: إنَّ مقرَّ مقهى الويمبي في شارع الحمرا في بيروت، الذي شهد
على هذه الواقعة التاريخية المسماة باسمه، غير موجود حاليًا، ويقال أن أحدهم اشتراه،
وحوَّله لمحلًّ لبيع الأحذية، فيما افتتح مقهى آخر في نفس الشَّارع باسم الويمبي. كما العمارة بأكملها هُدمت وأنشئت مكانها عمارةLOFT) ). كما أنَّ بلدية بيروت اعتمدت تسمية
السّاحة الصَّغيرة أمام موقع مقهى الويمبي القديم، باسم "خالد علوان"،
وعلَّقت لوحة إيضاحيَّة لذلك. (من مصادر الأنترنت، وبتوثُّق من المتابعة مع الروائي
محمد إقبال حرب. البيروتي الإقامة).
منقول عن موقع سائح الإلكتروني، من مقالة حول تعريفية بمتحف
لوزان للألعاب الأولمبية.