الخميس، 12 مارس 2020

مشهديّة الأصوات المتعدّدة والإسقاطات التاريخية

مشهديّة الأصوات المتعدّدة والإسقاطات التاريخية
في قصيدة (مسلات الفتي النبطيّ)
من ديوان (قلق أنا) للشاعر عبدالرحيم جداية
(دراسة قدمت في احتفالية إشهار ديوانه (قلق أنا) في جمعية إيدون في إربد – يوم الخميس ١٢\٣/٢٠٢٠)

بقلم الروائي / محمد فتحي المقداد

وجدتُ أنّ قصيدة (مسلّات الفتي النبطيّ) هي النموذج الذي تتمثل بالتاريخ المعشعش في وجدان الشاعر، اعتبارًا من العنوان الذي ندخل من عتبته إلى رحاب تاريخنا العربيّ الذي ابتدأ بالأنباط، وقوّتهم وجبروتهم، وهو ما تدلّ عليه آثارهم من بترا إلى بصرى الشام العاصمة الثانية للأنباط، وجنوبًا إلى مدائن صالح.
الثموديون: هم قوم ثمود من العرب البائدة؛ فقد ذكرهم الله بوصف دالّ على هذا، بقوله تعالى: (وثمود الذين جابوا الصّخر بالواد). أرسل الله إليهم صالحًا عليه السلام نبيًا ورسولًا منهم، يدعوهم لعبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان؛ فاستجابوا لدعوته؛ ثم ارتدّ أكثرهم عن دينهم، وعقروا الناقة التي أرسلها الله لهم آية، وتحدّوا صالحًا أن يأتيهم بالعذاب، ودبر تسعة منهم مكيدة لقتل صالح وأهله، فأهلك الله الذين ظلموا منهم. وهم قوم ورد ذكرهم في القرآن وكانوا ينحتون الجبال لتكون بيوت لهم، ويتخذون من سهولها قصورًا لهم، ودلالة هذا الكلام واضحة تمامًا في الأماكن التي ذكرناها.
بعد هذه التقدمة ندرك لماذا افتتح الشّاعر (عبدالرحيم جداية) قصيدته هذه التي نحن بصددها بعبارة: (ثموديٌّ يُغازل صخرة البتراء). ومشهديّة الغزل تستلزم المشاعر والأحاسيس واستنفار كافّة الحواس، ليكون اللّسان مترجم  الحالة بالكلام، وليس أيّ كلام.. بل الانتقاء من الأرقّ والأسلس لمحاكاة العواطف بتجليّات ربّما تنتهي بالوصال أو بلواعج الهجر والفقد.

أ‌- مشاهد الأصوات المعلنة:
- (ويزرع في يديه السحرَ، إن مالت جدائلها، يثور الكون في دمه):
- (يلامسُ في جروح الصّدر غزلانًا تُطارده إلى شِعْبٍ يموء اللّيل في وسَن):
- (ضِحكتُها رنين الفجر في وَلَهٍ):
- (تُراقص مع أصابعها صدى الصّحراء إيقاعًا):
- (ونبطيٌّ له من حكمة السّمّارِ أسمالًا):
- (يعانقُ ملء عينيه تسابيحًا وأغنية يردّدها بصوت العاشق البدويّ له نايٌ):
- (تُلاعبُ الرّيحُ إن عبرت، تُلاعبُ مع صفير الرّياح أنغامًا، يُردّدها، وبحفظها):
- (فكلّ الأرض للنبطيّ إيقاعًا، ولي في لحنه وطن):
- (وخلف الكهف ينشرُ من صهيل الخيل أمواجًا):
- (ويرسلُ مع صفير الرّيح عصفورًا، يُغرّد حُبّه الأبدي، يعانقُ صوتَهُ الأملُ):
- (عيناهُ من صدَفِ البحار، أيا رسولَ الأمنيات):
- (ألقت على الأرض السلام، ورتّلت في نظرة أرضَ الغياب):
- (وقلبُ عمّون في كفّيه فلّبها، وأنّبها):
- (يرفعون االصّوت إن  هبّت رياح الموت في لغة الرّجوع المستحيل):
- (ذريني يا بنة التّاريخ):
- (مشى والحَرُّ يلسع في محيّاه، فسَنّ الرّمحَ في وتر):
- (ضباءٌ تعزفُ الدمعات ما وجمت):
- (وخيلٌ تضبط الإيقاع في وتر، تُغنّي رحلة الصّحراء):
- (وينقش قلبُها البازلتَ ترتيلًا وأدعية):
- (كي يدعو قبائله):
- (يحمل نقشَه والقلبَ في رُجمٍ من الآهات):
- (تنذرُ مع صهيل الخيل سنبلة):
- (بباب السّيق دمعًا يُشهدُ البتراء أنّ القلب ما غنّى):
- (صبيٌّ من بني (البُدول) حاوره):
- (صبيٌّ من بني البدول أنّبه):
- (وتُنذرها لنائلة):
- (وذاك الحرف علّمنا؛ فهذا صوتنا العربيّ وصوتكَ):
- (فشريان الدّماء بكي):
- (فتى البُدول وبّخه):
- (صهيل الخيل أنشده، وردّده):
- (ويعلن في مدائنها):



ب‌- مشاهد الأصوات الخفيّة:
- (يزاولُ لكنةً حضرتْ على فوضى يمارسها):
- (تهيجُ الذكرى في عينيه في شفتيه):
- (فذكرى العابرين مضت، وقلبي صيدُه الذكرى، على ذكراه أرتحلُ):
- (ألقت على الماضي السلامَ، ورتّلت في نظرة أرض الغياب):
- (وقفت بباب السّيق ترقبُ غيبة الطّرّاقِ، هل رجعوا؟):
- (جمعٌ هنا.. جمعٌ هناك، عطرٌ يفوح وتذكريه، بأنه الإنسيّ، يا أحلى ملاك):
- (ومن صفير الريح... إذ تعبثُ في ثنايا الرّمال أعوادًا):
- (كم حنّت لعاشقها، وطارقها):
- (يزور البيتَ ميلادًا):
- (فتاهَ السّيقُ في عينيه، يحمل طعنة الماضي، ولعنته).
- (أللنبطيّ ظباءً كان يعشقها، وخيلًا عاش يطلقها؛ فيسبقها):
- (صفاويٌّ مشى، والحرُّ يلسعُ في محيّاه):
- (ويرسم سيفه العربيّ، لا شمس تُطاوله، ولا رمح):
- (وحنّت حين تلقاه):
- (علا والرّيح في صلصال من نقشوا، بذاكَ السّلع يا بترا):
- (هو النبطيّ كم تحلو شمائله):
- (أنا العربيّ.. أنا البدويّ، قافلني تجوبُ الأرض في روما):
- (فلا زمنٌ يفضّ بكارة العذراء في بترا):
- (أزاميلٌ تُداعبُ وجهها الورديّ، تقيمُ العشقَ تاريخًا):
- (رأته الخيلُ ما بسمت، وما صهلت لنبطيٍّ، أثار النقع خلف حدود حارته):
- (وكان في صبا الرعويّ يعشقُ خدّ جارته):
- (وقد زرعت بباب الكهف أشواقًا):
- (هو النبطيّ لم يعرف لبنت الدّار أطواقًا، فسافر حين قبّلها):
- (وأودع عشقه في الكهف.. قلبُ الكهف ما طاقا).
- (تنسى اللحن باب الكهف.. حين الفجر يرقُبها):


مشهديّة الإسقاطات التّاريخيّة:
القصيدة مُترعة بإسقاطاتها التّاريخيّة، اعتبارًا من العنوان (مسلّات الفتى النبطيّ)، ولا غرابة في ذلك، خاصّة عند نعلم أنّ شاعرنا عبدالرحيم يحمل شهادتي (ماجستير) إحداهما في الآثار الكلاسيكيّة، والأخرى في طريق وتدريس المناهج التربويّة.

** فالعنوان جاء طويلًا في ثلاث كلمات (مسلات)، وهي الأعمدة الشامخة ذات الرؤوس المدببة المنحوتة عليها تواريخ الانتصارات، والملوك، والقادة والحوادث الهامّة في حياة الأمم، اعتبارًا من مسلة رمسيس، ومسلة حمورابي، وميشع.
وكلمة (الفتى) من الفتوّة والقوّة والمنعة، واستدعاء ذلك في زمن انحدارنا الحضاريْ، ومسلّاتنا المنهوبة ما تزال شامخة في العواصم الأوربية، تحكي على الدوام قصة الحضارة.
الكلمة الثالثة (النبطيّ)، ولماذا النبطيّ بالذات؟. أعتقد جازمًا أن الشاعر يستنهض الهمّة من ذات المكان الذي كان يومًا مصدرًا للقوة والسيادة، ليبعث فينا الأمل بالمستقبل الأفضل لنا.

** منذ أول كلمة في القصيدة (ثموديٌّ) فهو يستدعي هؤلاء الجبارين المشهورين بقوة بنائهم الجسميّ، وصلابة شكيمتهم. وورد ذكرهم في القرآن الكريم. وبعد ذلك بكلمتين جات كلمة (البتراء) المكان العجيب، الذي ما زالت أسرار عجائبه خفيّة رغم التقدّم العلميّ، وما قيل عنها، لا يعدو موضوع دراسات قائمة على التخمينات، والتوقّعات حسب الدّارسين، وعلماء الأنتربولوجيا.

** و(نبطيٌّ له من حكمة السّمار) فالعقول التي بنت وأشادت الحضارات لها من الحكمة وضروبها ما يُستضاء به على مرّ العصور.
(سقاه الحارث الثالث معالم أرضه الكبرى، خرائطَ في ذراع مؤابَ يذرعها، وقلبُ عمّون في كفّيه قلّبها، وأنّبها) هذا الملك النبطيّ الأشهر والأقوى، يرسم بناظريه حدود دولته وامتداداتها الجغرافية، وتنافس جوارها على السيطرة والنفوذ.

** وينتقل الشاعر، ليقول: (وُشوم من بني قيدارْ، أكانوا يعقرون القلبَ يا صالح) وهي القصة القرآنية الشهيرة، مع قوم نبي الله صالح. ومملكة قيدار العربيّة القديمة، نسبة إلى (قيدار) الابن الثاني للنبي إسماعيل بن إيراهيم عليهما السّلام. ويعتقد أنّ مركزها في (دومة الجندل).

** (أدومٌ، يرفعون الصوت إن هبّت رياح الموت في لغة الرّجوع المستحيل). وأدوم اسم قديم للمنطقة الواقعة في جنوب فلسطين، وخليج العقبة سكنها الآدوميّون، وهم فبائل بدويّة يُنسبون إلى (عيسو) بن اسحاق بن إبراهيم عليهما السّلام.

** (صفاويّ، مشى والحرُّ يلسع في محيّاه؛ فسنَّ الرّمح في وترٍ، وألقاه) والصّفاة جزء من صحراء بادية الحماد. والصّفاوي مكان يقع في الشمال الغربي من الشرقيّ من البادية الأردنيّة، في منطقة الطريق المؤدّية إلى العراق، وقريبة من الحدود السّوريّة، وفي محيطها العديد من الأديرة القديمة، ومن ضمنها صومعة للرّاهب بحيرا.

** (أنا العربيّ.. أنا البدويّ،، قافلتي تجوب الأرض في روما) من هنا تأتي أهميّة التاريخ، وإعادة قراءته ليكون جسر عبور بدروسه وعِبره.

** (صبيّ من بني البدول حاوره: تُراك نسيتنا موسى، أتذكرُ معبد الكُتبيّ؟ أعشتَ ملامح الأنباط في مكابّ مع روما؟).
المكابيّون: هي مجموعة عسكرية يهودية. اشتهر المكابيون بعصبيّتهم الدينية حيث ركّزوا على دور الديانة اليهوديّة في الحياة اليوميّة، وحدّوا من انتشار اللّغة والثقافة اليونانيّة في المنطقة.
والمكابيّ: هو اللقب الذي اشتهر به يهوذا أحد الأنبياء الخمسة عندهم، وهناك من يقولون: إن هذا اللّقب مشتقّ من الكلمة العبريّة "مكبة" التي تعني "مطرقة" وصفًا لبطولة وشجاعة يهوذا الذي كان كالمطرقة على أعدائه.

** (فشريان الدّماء بكى.. تلوّثُ كفّك الأسمر، فكفُّك ليس بالوطنيّ، أرحنا من رزاياهم.. وخلّ النفط آبارًا، فلا ترجو عطاياهم)، موجعة هذه الرؤية التي عكست بمرآتها مرارة التفتت والتشظّي في العلاقات العربية العربية. وفي مقل هذه الحالات فإنّ رأى بحسّه المرهف هذه القضيّة، ليخلدّها في خريدة ستخلد في سجل المستقبل لقادم الأجيال.

** تنتهي القصيدة بالتأكيد على أسطورة الحكاية الشعبية، بذلك النبطي.. فتي البدول وريث المكان والزمان للملك الحارث، فيقول الشاعر: (مسلّات الفتى النبطيّ.. تشهد أنّه المطويّ في عرف الهوى الأبديّ) عُرف العطاء والحب، ولكن إذا وقعت الواقعة ف (تشهد كلّ معركة، بأنّ العابر الآتي هو المنسيّ) الأماكن تعيش بأهلها وحُماتها، وكل عابر غاصب مهما طال الزمان، سيُطوى ويُنسى ذكره).
ويعلنها صريحة، بقوله: (وأشهدُ أيّها الغاوي.. مذ غادرتَ أرضَ الله في بترا: سأشهدُ أنّك الوثنيّ).
وبهذا الاستعراض التاريخيّ الموجز لحقب حافلة مليئة بالأحداث، أتوقّف عند كلمات دلالية (ثموديٌّ، نبطيّ، البدول، بترا، البدويّ، العربيّ، بني قيدار، الصّفاويّ، آدوم، مكاب، مؤاب، عمّون، السّلع، معبد الكتبيّ، الحماد، ووادي راجل). لعلّ الشّاعر يؤّكد على منبته في بقعة حغرافيّة، كانت مسرحًا تعاقب عليه ممثّلوا الحضارات وبُناتها، والعابرين لها احتلالًا واستعمارًا، ذهبوا جميعًا، وبقي الأردن.. فهي قصيدة جاءت من رحم الوطن العزيز المنيع بقيمه وثوابته العربيّة والإسلاميّة.
وذاكرة القصيدة استنهضت ذاكرة المكان من جديد، بعد أن كاد يتقادم عليها الزّمان بغوائل النسيان، استنهضها الشاعر لتشكيل رؤية تزاوجيّة ما بين الماضي والحاضر؛ للخروج من مأزق هبوطنا الحضاري.

إربد – الأردن
١٠ / ٣ / ٢٠٢٠