(7)
أبو فندي
من الذي شبّه الوقت بالسّيف، أظنّ
بأنّه صدَقَ لكن خارج المُخيّم، أمّا من وصفه كالقطار لا يتوقّف لانتظارك، هنا
توقُّفٌ حتميٌّ بلا أدنى شكٍّ، محطّة إجباريّة.
البحثُ عن حكايا في المخيّم عملٌ غير شاقٍّ
أبدًا، لو أنّي أمتلكُ أربع آذان أو أكثر؛ لوجَّهتُ كلَّ واحدةٍ باتَّجاهٍ خيمةٍ
لالتقاط معلومةٍ جديدةٍ، أو قصَّةٍ، أو ثرثرات البائسين، أو تشاؤمات اليائسين.
الفراغ يجب ملأه، ولا شاغل إلّا الكلام من أجل
الكلام فقط، الجميع يعلمون أنّهم فاقدوا الأهميَّة، خارج حدود الزمان والمكان.
قُبيل السَّابعة صباحًا أكملتُ اِسْتعداداتي للذّهاب
برفقة ابني إلى مقرّ توزيع
الخُبز. المفوضيّة فعَلت خيرًا، بضمان مُستلزمات البقاء على قيْد الحياة
بالحدِّ الأدنى؛ فلن أظنّ أنّه ستأتي اللَّحظة؛ لأفعل كما فعل أحد البؤساء "جان فالجان" الذي
عانى من الحرمان، عندما سرق رغيف خبز اِحْتاجه؛ لكي يُؤمِّن القُوتَ لعائلته، تَمَّ
سِجْنه بسبب هذا الرَّغيف خمس سنوات. لا أجزمُ قاطعًا فلستُ مُتأكّدًا من ذلك، بقايا
ذاكرتي المُهترئة؛ فعُهدة الرواية على ذمّة
"فيكتور هوجو".
اِمْتدَّت فترة سجنه؛ بسبب مُحاولات الهُروب
التي قام بها إلى تسع عشرة سنة. اللّعنة..!!
اِسْتعدتُ
رُشدي.. كيف لي أن أسرق..!!؟.
ومن الذي
سأسرقه رغيف خُبزِه؟.
أأسرقُ أمثالي
من اللّاجئين، وما الذي سيحصل لأطفالهم..؟.
يا لدموعهم..
يا لحُرقَةَ بُطونهم الجائعة..!!.
الجوع كافر بلا شكٍّ، وهل مقولة أبي ذرٍّ
الغفاري رضي الله عنه: )عجبتُ لِمَنْ
لم يجِدْ قوتَ يومِه، ولم يَخْرُج شاهِرًا سَيْفَهُ)، أن تكون فتوى مرجعيَّة،
بإمكاني التأرجُح عليها، والاحتجاج بها؛ لأجدَ العُذْرَ لي أمام نفسي بدايةً، قبل
الدِّفاع عنها أمام الآخرين.
أخي فطين، بكلّ المعايير أجدُ نفسي في مأزقٍ بين مِثاليَّاتي
الأخلاقيَّة، وواقعٍ يوميٍّ مأزوم، أخافُ ضعفي أمام الاحتمالات الزَّلِقَة، وما
كنتُ أعيبُه على الآخرين، فكيف لي أن أقع فيه؟. وتصدُق فِيَّ مقولة سيّدنا عليٍّ
كرّم الله وجهه: "ما شَبِعَ غَنِيٌّ إلَّا بما جاعَ به فقير".
"فكتور هوجو" عندما كتب قصّة
البُؤساء بمعطيات أيّام الثورة الفرنسيّة، تشابهت حالنا مع بؤسائه مع تثبيت فارق
الزَّمان؛ فكلّنا ندفع ضريبة الحرب القذرة المُضادَّة. لكنَّ لكلِّ ثورةٍ ثَمن،
وها نحن ندفع جُزءًا منه.
رُبع ساعة من المشي السّريع بلا توقّفٍ، تصوّراتي
تعاظمت بلا نهاية تَحُدُّها عن الطوابير الطويلة، وأكثر ما يحزّ بنفسي: مَنْ
يخترقون حُرمة الدَّوْر؛ فهُم بلا شكّ مُعتدون على الجميع، شُعوري بالحَرَج
والمهانة عندما يحصل ذلك، فهو سرقة لوقتي، كمن يسرق رغيفي، فهو سرقة حياة.. فهو
قاتل.. سارق لعمر طفل.
..*..
ربَّما تموتُ الأيَّام في عينيَّ
قَهْرًا. وحدها الحكايات تأتي بعد حين لتُحْييها، وتَرشَّ مِلْحَها على الماضي
لتُنَكِّهَهُ بجمال الذكريات، وتنشر غِلالةً صَفيقَةً من مِلاءَتَها على سواد
الحاضر.
حكايا المستقبل لم تُصنع بعْدُ. تُحييني إذا
ابتدأ مِشوارها في وقت الرّاحة.. تتواطأ مع النَّوْم للذَّهاب به بعيدًا، ترمي به
بعيدًا خلف الحُدود هُناك. تُخادعني في مُحاولة الانتصار على الواقع.
الحكايات تتزاحم مُتَوافدة بلا استئذان، ولا
اختيار وبحث منّي. تتوالدُ على مدار السَّاعة كَسَيْلٍ جارفٍ لا ينتهي، أستجهنُ..!!
كيف تتّسع لها المساحة الضئيلة؟، مؤكّد أنّ فَيِضها خارج أسواره، سيَطْمُر رمال
وأتربة الصَّحراء، اِتِّقاء غبارها المأساويّ إذا ثار. لكنّها تبقى حكايات لملأ
الوقت وتزجيته، ستذهب أدراج الرّياح. والخيام ما تزال حُبلى بحكايات لا تنتهي.
أقلّها المفيد والنّافع، وأكثرها بلا فائدة، صلّاحيّته مُنتهية من زمان موغلٍ في
القِدَم. وأبلغ وصف لها: "بأنّها من وراء الحمار.. لا تضرّ ولا تنفع".
حينما وصف أحدهم صخب الأولاد وعبثهم، وهم يركضون خلف حمار يركبه شخص أجنبيّ، وآخر
يقود به الذي ما فتئ يطرد الأولاد في كُلِّ مرّة يقتربون منهما، لكنّ شراستهم
تزداد في التصميم على ملاحقتهم. إلى أن فاض الغضب بمن يركب الحمار، فعبّر له عن
غضبه: "نحنُ نسير، والطريق مفتوحة أمامنا بلا عوائق، دعهم.. لا عليكَ منهم،
كلامهم من وراء الحمار".
..*..
حوار بين "أناي" و "ظل أناي"
الذات المتشظية . شخصية
واحدة انقسمت إلى "أناي"و "ظل أناي"
كنتُ أظنّ أنّ كثيرًا ممّا
أحفظُ، وسمعتُ من حكايا سيموت، أو سيندثر في دائرة النسيان، وعدم الاهتمام. صحوتُ
من نوم عميق.. عميق على غير عادتي، شعور مُباغتٌ بانعدام الجاذبيّة، مُحاولاتي
بمقاومة الارتفاع عن الأرض تبوء بالفشل، أثّرت على ظنّي أنّني جُننتُ.
"الأنا" في حالة توحّد
أو تحوُّلٍ "أميبيٍّ". ضجر فاقع من داخله يتجاوز حيّز الخيمّة.
أحسَّ بأنّ الخيْمة لا تحتمل كلّ هذا الضّجر. دهمته رغبة بالكلام المكبوت، ضاق
دماغه بالتداعيات. على وجه اليقين غير واثق أنّها تهدأ وتهمُد أثناء النّوم، ضاقت
مساحات الحياة حدًّا لا يُحتَمَل.
مازال
مُتماسكًا لم يظهر ضعفه أمام أسرته المُتكوِّمين حوله يتقلّبون في فِراشهم، بين
ساعة وأخرى عندما يفطن؛ يُرسل نظراته في عتمة الخيمة، ليتأكّد من نومهم. أنينُ
زوجته المكبوت يخرج مع أنفاسها الحرّى، يُحسّ بلفح حرارتها على خدّيْه، يصمت بحرص
شديد أن لا يصل صوت أنفاسه إلى أُذنيّه. من جديد يرفعُ من صوته بشخير يُقلق زوجته؛
ممّا منعه من سماع حوارهما بوضوح. الذي ابتدأه "أناي"
-"ما هذا الذي أسمع.. يا ظلّ أنايَ؟ حسب تسمية
مولانا "الأنا" لكَ.
- "غريبٌ ما يحصل له..!! أظنّ أنّ نسختنا
الأصل "الأنا" يعلمُ يقينًا الجواب، ولم ينتظر منّا توجيه
السّؤال له".
ههههههه حالة ضَحِكٍ هستيريّة ألجمت
لِسانيْنا، أجاب "أناي":
-"يبدو أنَّ
صديقنا "الأنا"، في داخل في حالة توحّدٍ اِنْطوائيَّة على نفسه،
أو في سُباتٍ شتويٍّ كَذَوات الدمِّ
البارد. ضحكاتُه كانت تحرقُ دواخلي غضبًا، مع ذلك أستمعُ إليه باهتمام. أظنّ أنّني
سمعته: "أين أنتَ من نظريَّة "الثابت والمُتحوِّل"، وجِدَالاتها
العقيمة؛ التي ما زالت أثارها بين مُؤيِّدٍ ومُعارضٍ لها، وبعد أربعين عامًا لم
يُحسَم الأمر بالاتِّفاق على شيءٍ مُعيَّنٍ بخصوصها، بل ما زال الاختلاف والتَراشُق
بالتُّهم قائمًا، أنت جِنْسُ كائنٍ حيٍّ وحيد الخليّة، تنتمي إلى مملكة الطلائِعيَّات،
وشُعبة الأنبوبيَّات. التي تعيش داخل الجسم بشكلٍ طُفَيْليٍّ أو مُتعايشٍ".
-ظِلُّ الأنايَ: "الآن تذكرتُ
كأنّك تقصد: أنّ الأميبا تنمو عن طريق زيادة حجمها، وذلك لأنّها وحيدة الخليَّة
بعكس الكائنات المُتعدِّدَة الخلايا، التي تنمو عن طريق عمليَّة الانقسام المتساوي".
أناي: "أدونيس مفهوم نوعًا ما،
رغم إغراقه في فلسفة الأمور بين الثابت والمُتحوّل، أمَّا كلام هذا المنحوس (ظلّ
أناي) مُقلق، ومن أين طرأت على باله هذه الفكرة اللّعينة. (بتشبيه أنانا
بجسم الأميبا ذات الخليَّة الواحدة فقط، التي تُعتبر كُتلة عديمة الشَّكل من
البروتوبلازم (المادَّة الحيَّة الأساسيَّة الهُلاميَّة الموجودة في خلايا كلِّ
الكائنات الحيَّة، حيثُ يُحيط بالبروتوبلازم غشاء رقيق مَرِن يحميها، ويجعلها
متماسكة.
الماء والغازات يدخلان إلى الأميبا، ويخرجان
من خلال هذا الغشاء، ما زلتُ أذكرُ هذه المعلومة من أيَّام الصفّ العاشر. أذكُرُها
جيّدًا، خاصّة نعم عندما جُنَّ جُنُون مُدرّس مادَّة الأحياء (العُلوم الطبيعيَّة)،
بأنّ أحدًا من الطُلَّاب في شُعبتنا لم يُجب على أيِّ سُؤال؛ ليتأكَّد من فهمنا
لما شرح في الأسبوع الماضي.
اضطرّ مُجبَرًا لإعادة الشَّرح السَّابق،
وتوعدَّنا في الدَّرس القادم بالوَيْل والثُّبور إذا لم نحفظ المعلومات عن ظهر قلبٍ
غيْبًا، مع تثبيت درجة الصُّفر في دفتر العلامات.
كان أغلبُ ظنّي أنّه سيُنفِّذُ تهديداته بلا
تردُّدٍ.. لا أشكُّ في ذلك أبدًا، مثلما تهديدات إسرائيل الصَّادقة، التي هي
بمثابة تنفيذ قائم بضرب أيِّ هدف في بلادنا، بلا سابق إنذار في أيَّة لحظة، حتّى،
وإن تدخَّلت السياسة من تحت الطّاولة، لِثَنْيِها عن ذلك".
..*..
السَّامع من السَّامع
.. كالوارث من الوارثِ، وناقلُ الحديثٍ عن ناقِلٍ، لاشكّ بارتكابه حماقة فَلَتَان
لِسانِه هَذْرًا بما لا يعرفُ. فواجِعُ ناكبةٌ بنتائجها الجُنونيّة؛ وكثيرًا ما تَحدُث
من عدم التأكُّد، والتثبُّت قبل إطلاق بثَّ ما اُسْتُمِع إليه آنِفًا.
لم أنسَ حديث صديقي عن اِسْتعداداته بإحضار
أدوات، وموادِّ الطَّعام؛ لتقديمه كواجب عزاءٍ لجارتهم المُتعبة والمُنهكة صِحيًّا؛
فَظَنَّ اعتقادًا منه أنَّها ماتت.
لم أتمهّل بتعزية قريبها فوْرًا.. إنّه صديقي
الآخر؛ ليُؤكِّد لي فيما بعد كذِبِ الخبر من الأساس. وقعتُ في حرَجٍ.. لعقتُ بِصِمْتٍ
فجيعة أّني أصبحتُ ببَّغاء.
وفيما بعد في معمعة الأحداث؛ جاء إعلانُ بعض الصَّفحات عن موْت اِمْرأةٍ،
رغم أنّها كانت تتمتَّع بصحَّةٍ جيِّدةٍ، وبتتبُّع الخبر؛ تبيَّنَ أنَّهم أرادوه فَخًّا؛
لاصطياد ابنها المُتواري عن الأنظار. مُحاولةٌ احْتياليَّةٌ للقبض عليه، لمّا
عجزوا عنه.
الأنا، والأنايَ، وظِلُّ
الأنايَ؛ لا أظنُّهم إلَّا أنَّهم كحوض نهر اليرموك تصبُّ فيه فوائضُ
الحكايات، يستوعبون كلَّ ما يسمعون بصمتٍ ليس مُريب، بل صمت عن سابق إصرار وتصميم.
يستمعون، ولا يُسكِتُون لسان مُتكلِّمٍ أبدًا، ولا يقطعون سلسلة أفكار مُتحدِّثٍ،
يكتنزون ما يصل إلى أسماعهم بالحفاظ عليه في مأمن من التحريف والتزييف، يتركونَهُ
كما هو بلا تدخُّلٍ منهم في مسَار الكلام. ربّما يُعلّقون عليه.. لا بل يُعلِّقون
بكلّ تأكيد. ثلاثيٌّ شكّل وعاء واسعًا بحجم بُحيرة "طبريّا"؛
استوعبت جميع المياه المُتحدّرة من المُرتفعات جميعًا، وكذلك اِسفنجة الثلاثيّ
امتّصت كلّ الكلام المقذوف إلى ساحتهم.
شُعوري لا يُضاهى بمتعةٍ غامرةٍ، و"أنا"
أَسْتحْوِذُ على حكايا المُخيَّم. أنَايَ مازال قابعًا حارسًا للخيمة. و"ظِلُّ أنَايَ"
مُتمرِّدٌ على قوانين الوضع عُمومًا، لِسَانه، كأنَّه بأربَعِ شُعَب، كأفعى مُتعدَّدة
الرُّؤوس.. دؤوب الحركة بنشاط مثيرٍ للشُّبهة.
يخبرُني:
"فجأةً.. اِحْتَرَّتْ عيناي كأنَّما ذُرَّ فيهما الفُلفُل.. رائحةُ بارودٍ مُقزِّزة.
ما الذي جرى؟.. سمعتُ هُتافاتٍ مُندِّدةٍ مُترافقةٍ مع التكبيرات.. بصَوْتٍ واحدٍ
مُنغَّمٍ بتصفيقِ الأكُفِّ. هناك من يقول: إنَّ مجموعة من الشَّباب الغاضبين؛
حاولوا اِقْتحام مكاتب المُفوضيَّة احتجاجًا على موْتِ طفلةٍ في مُستشفى المُخيَّم،
تعاطُفًا مع أبيها عندما نادى بأعلى صوته في الشَّارع الرَّئيس.
توافَد الغضبُ من جميع الأرجاء. التي تُردِّدُ
مع صرخَتِه من الخِيَم القريبة والبعيدة؛ لِيِنتَشِر الخبر كمَا النَّار في الهشيم".
..*..
حوار أبو فندي (الأنا) مع (ظلّ أنايَ)
ساعة أُريقت دقائُقها وثوانيها على
مَذبَح الانتظار، في طابورٍ طويلٍ لاستلام
مُخصّصات الخُبز اليوميّة، الصّباح مازال في بداياته، الشّمس لم ترتفع إلّا
قليلًا، ونُسَيْمات تحمل في هبّاتها اللّطيفة برودة مُحبّبة، غيرُ آَبِهةٍ؛
تُلطِّف حرارة النُفوس والقُلوب.
السّادسة صباحًا. الطابور في كلّ لحظة يكتسب مُصطفِّين
جُدُدًا، كبارًا وصغارًا، مُتحدِّثٌ من أوّل الصّف، حديثُه يبدو أنّه غير موُجَّهٍ
لشخصً مُحدّدٍ، صوته مسموع بوضوح: "اُربُط بَكِّير؛ بِتْحِلْ بَكِّير".
أيقنتُ أنّه فلّاح ابن فلّاح، لهجته شبيهة بما أتكلّمُ به. فهمتُ مُراد مقولته:
بأنّه جاء مُبَكِّرًا، ليُمسِك دورًا في أوّل القادمين بعد صلاة الفجر قُبيل شروق
الشّمس.
"ظِلُّ أنايَ" ترَك أنايَ
هُناك حبيس الخيمة، ما من أحدٍ هُنا اعترض على وقوفه قُبالتي. غمز لي بعينه
اليُسرى، وارتفعت قبضته رافعة إبهامها علامة الإعجاب.. أظنّ أنّه مُعجَب باصطفاف
القادمين، لم أفطن أنّني وبعد نصف ساعة من وصولي إلى أنّ موقعي صار في المنتصف،
توافقت نظراتي للخلف مع نظرة "ظلّ أناي"، لأقُدّرَ أنّ العدد
تضاعف.
يضحك بأعلى صوته مُقهقِهًا، لكنّ من هُمْ
أمامي، وخلفي لم يضحكوا، ولم يحتجُّوا على ضَحِكِه مع الصّباح. مؤكَّدٌ أن لا شيء
يُثير رغبة أحدٍ بالضّحك في مثل هذا الوقت.
تكشيرة الوُجوه الكاشِحَة؛ مُنبِئَةً عن لوائح
الأحزان.. دفينة الصُّدُور، والعُيون المُنْتَفِخة أجفانُها، ودوائر هُيولى سوداء
حولها، كأنّهم في حفلة تَنُكرِيّة.
أثارني منظره،
وهو يضحك بهذه الصّورة، صرختُ في وجهه بأعلى صوتي:
-"ما الذي يُضحككَ..!! الموقف لا يحتمل
مثل هذه التفاهات والمُزاح".
-"صدّقني أنّني لا أضحكُ ساخرًا من أحدٍ،
وأعوذُ بالله أن أفعلَ. ما أثارني حقيقةً هو اِنْتظامكم هنا في صفٍّ واحدٍ، رغم
كلَّ التعليمات هُناك؛ اعتبارًا من الاصطفاف اليوميِّ في المدارس بالطّابور
الصباحيّ، والتأكيد عليه، ودُروس الطّلائع والتأكيد على الاصطفاف في المجموعات،
وبعدها دروس مادّة التربية العسكريّة (الفُتُوّة) في المرحلة الثانويَّة، وقبلها
الإعداديّة، لم تُفلح في إقناعِكِم بالاصطفاف، حتّى مُحاولات الاصطفاف على باب
الفُرن جميعها باءت بالفشل. وليست صُفوف صلاة الجمعة مع الفرائض الخمس بمنأى
عن الفشل أيضًا، ولم تتعلَّمُوا منها
شيئًا..!!. هل اقتنعتَ بسبب ضحكي، وقناعتي الموقف باعثٌ على البُكاء. قولًا واحدًا
لا تراجُع فيه".
-"ذكّرتني بكلامٍ كنتُ أسمعُه من صديق
مقهورٍ من التزاحم اليوميّ على باب الفُرن، والمُناوشات التي تحصل، ومقولته
استحضرتني الآن: "إذا تعلّمنا كيف نصطفُّ بالدّور على باب الفُرن، لحظتها
سنتقدّم، وسنكون في عِداد الأمم المُتحضّرة في أوروبَّا".
حقيقة لم أكُن أدركُ أنّ مقولته بهذه
الأهميّة، فهي ثقافة وسلوك نستطيع مُمارسته، لكن كيف نستطيع الالتزام بالصفّ،
ويُفتحُ باب الفُرن لمن يعرف عامِلًا في الدّاخل، والشّرطي ما إن يصِل إلّا
ويتناول خُبزاته بعيدًا عن الازدحام، ومثله من كان يضع مُسدّسه على جانبه، فقط
يُشير باِصْبَعِه".
-"أفهمُ من كلامكَ.. أن لا فائدة من
الانتظام والاصطفاف؟".
-"نعم عزيزي.. ثقافة المقموعين ناضحة
بالفوضى، لا قانون ناظم لشؤون البشر، القويّ
بقوّته يعلو فوق القانون؛ لينتَهِكَ.. بما يُحقِّق له مصالحه".
-"لم
أستطع إخفاء مشاعري حقيقةً، وأنا أرى أنّكم على أبواب نقْلَةٍ نوعيّة على الصَّعيد
التربويِّ، بإعادة تشكيل رُؤاكم بكثير من القضايا التي كُنتم تعيشونها".
-"عُمومًا
كلامك لا غُبار عليه، من المؤكّد أنَ التغيير قادم على جميع الأصعدة -صُراخٌ بين
اثنين في آخر الصفِّ، يبدو أنّهما اختلفا عن من جاء قبل الآخر- الحرب تحفر مساربها عميقًا في النُفوس؛ غالبًا
ما تتبدّل طرائق التفكير، ومنظر الحياة يتجدّد بإصرار للابتعاد عن ويلات ومُخلّفات
الحرب".
-"عن أيّ
تغيِّير تتكلّم..!!.. وها أنتم تدفعون باهظ الثّمن من حياتكم؟".
-"في كلِّ
تغيير لا بُدّ من أحدٍ سيدفع.. فلندفع لتنعم أجيالنا القادمة بحياة هادئة
هانئة".
-"وهل
أنتَ متأكِّدٌ، ومتفائل لهذه الدّرجة.. أخوَف ما أخاف أن تذهب تضحياتكم سُدًى،
وبلا مُقابل".
-"ستُثمِر..!!
ولو بعد حين.. إيماني أكيد".
-"لكن ليس
بالضرورة للأفضل..!!".
..*..
أناي ما زال على موقفه ثابتًا في الصفِّ. سيّارة الخُبز
تأخّرت. الخُبراء ببواطن الأمور. قالوا:
-"لا يُمكن أن يحدُث
مثل هذا التأخير، إلّا لأسباب قاهرة، خارجة عن إرادتهم".
المُحلّلون تضاربت وُجهات
نظرهم، مذاهب النّقاش أخذت مناحٍ لم يطرُقها الخُبراء الذين صمتوا، أمام سَيْل
الآراء المُتباعدة والمُتقارِبة. أحدهم بقَرَفٍ وتأفّف: "يا خي نحن هون
كأنّنا لسنا بشرًا". ابتسامات اِرْتسمت على وجوه البعض.
من أوّل الصفِّ، لا أدري على وجه الدِقَّة ،
فلو عَدَدتُ من كانوا قَبْله، لا أظنُّهم أكثر من تسعة أشخاص، وهو سيكون عاشرهم:
"هم يريدون إذلالنا.. قَسَمًا بالله..!! لو كان أمر العودة إلى البلد بيدي؛
فلن أتأخر لحظة واحدة، ولن ينتهي النّهار إلّا وأنا في بيتي هُناك".
مُعارضةٌ غاضبةٌ من أحدهم؛ جاءت من وسَط
الصفّ، بيني وبينه خمسة شباب بالضَّبط: "يا عمّي ما فائدة هذا الكلام، الذي
لا يُسمِنُ ولا يُطعمُ من جوع. فلننتظر..!!، مهما انتظرنا ونحن آمنين على أنفسنا
وأولادنا، أهوَنُ ألفَ مرَّةٍ من الاعتقال، أو السِّجْن.. أو الموت تحت
الرَّدْم".
مُهدِّئٍ من الخلف بصوته النّاعم، بصعوبة
بالغة فهمتُ مقولته: "يا جماعة ما بِدْها كلّ هالعصبيَّة.. وما الذي نستطيعُ
فِعلَهُ غير الانتظار".
شابٌّ مُلْتَحٍ: "يا إخواني صلُّوا على
النبيِّ، ما زال الوقتُ مُبكِّرًا، ضمن الحدِّ الطبيعيِّ، اِدْعوا الله أن تَتَيسَّر
الأمور بأسرع وقت".
سَبْعينيٌّ مظهره مُنْبئٌ عن حاله: "يا
أبنائي.. في كلِّ تأخيرةٍ خِيرَه، لَشُو العَجَلَة، حتّى لو أخذْنا الخُبْزَات..!!
سنرجعُ إلى الخيْمة.. لا شيء بانتظارنا سِوَاها، ولا عمل لدَيْنا. الانتظار قدرُنا
ولا مفرَّ منه".
الرَّجُل الذي أمامي مُباشرة، وحّدَ الله:
"لا إله إلّا الله محمدًا رسول الله"، ومَسَح وجهه بطرف غطاء رأسه،
وأتبعها بِحَوْقلةٍ: "لاحوْل ولا قوّة إلّا بالله". لا أدري هل النِّقاش
أعجبه أم لم لا، نبرة صوته كالمغلوب على أمره، ليس له من أمر نفسه شيئًا، وإعلان
عجز، لكنّه مُتفائلٌ أنَّ الحلَّ بيد الله. هذا حلّلتُ نبرته، بعد تقلبيها على
عدّة أوجه. لم يسمعه أحدٌ غيري.
استغراقي في دوّامة ممّا سمعتُ من القليل الذي
اِسْتطعتُ إدراكه، لكنّ الكثير من الآراء لم أدركها، وما تَعْدُ إلَّا أنَّها ضجيج
غير مفهوم، في صالة الخيْمة الكبيرة، أحد المُوظَّفين يجلس خلف طاولة، لم يألُ
جُهدًا في تهدئة غضب الغاضبين، بسمة مُفاٍجئة طَغَت على ملامح وجهه الأسمر، أثناء
مكالمة هاتفيَّة في شخص على الجانب الآخر، صاح: "أبشِرُوا يا جماعة الخير..
نصف ساعة، وستصلُ سيّارة الشّحن الكبيرة، والأخرى المُتوسّطة. إن شاء الله لن
تتأخَّروا بعدها أكثر من رُبع ساعة؛ إذا اِنْتظمْتُم بالصَفِّ، واِلْتزمتُم
الهُدوء، ولا يعتدي أحدٌ على دور الآخر. الكُلُّ سيأخذ.. الكميَّات وفيرة".
صفيرٌ وتصفيقٌ اِرْتجَّتْ له أرجاء الصَّالة. تجدَّد الأمل في النُّفوس، اِسْتقرائي
لما رأيتُ بعد كلام المُوظَّف، واِسْتعدادات مُساعديه.
..*..
لم أتقدَّم خُطوةً واحدةً
إلى الأمام أبدًا، يُزعجني أحيانًا انضغاطي بين ثبات من هُمْ أمامي في الصفِّ،
وبين حركة المُصطفِّين من خلفي، إحساسٌ مُقلق على الدَّوام بخللٍ ما: "يا
إلهي هنا مكان يتسّع للجميع برحابته..!!.
مُقابل ذاك الحجر المسكين أمام نافذة التوزيع (الطاقة) على باب الفرن، كم احتمل
على ظهره الأملس من ثِقَل وغلاظة البشر على مدار أكثر من نصف قرن.
باب الفُرن كان أشبه بمدرسة تعلَّمنا فيها على
مدار سنين عديدة. كما تعلَّمنا في مدارس
الحكومة الرسميّة، مبادئ القراءة والكتابة، والنّظافة والتعاون، والاجتهاد في حفظ
الدروس وكتابة الوظائف، واحترام المعلّم. التعلّم هنا مجانيّ على باب الفُرن، ومنذ
صباح كلّ يوم، تنطلق بعض الألسنة بالسبِّ والشّتم، تُكيلها لبائع البَسْطة، وعلى
الخُبر المُعجّن والمُجَعْلَك والمحروق، ترسّخت في ذهني عبارة شاعت آنذاك: "والله
هالخبز الكلاب ترفض أكله" وأحيانًا يقولون: "الحمير"، ومن يقول:
"الحيوانات". اختلفت الألفاظ، لكنّها دلالة سوء تصنيع الخبز، لكنّنا
كُنا مجبرون عليه. ولم أنس دروس العِرَاكات اليوميّة، وتسديد اللّكمات بالأيدي على
الوجه والصّدر، والشدِ بالشّعر، والشّباب منهم الأقوى يبطح الأضعف ويُرديه أرضًا،
ويجلس على بطنه ليضربه، بالطّبع يترك النّاس دورهم، لفضِّ الاشتباكات، أمّا بعض
الأشقياء ممّن كان يسحب سِكّينًا (موس كبَّاس) ويُشهره في وجه خصمِه.
ذاكرتي ما زالت
تحتفظ بأوسخ الشتائم والمسَبَّات الوَسِخة طازجة، ولو لا أنّني أمسكتُ لساني
بقوّة لانْفلَتَ بشيء منها.. الآن..!!؟
على الذين يدفعون من الخلف. بالتأكيد إنّها شتائم مُعتَّقة.. عميقة المعنى أكثر
بكثير من شتائم هذه الأيّام.. كأنّي أشعر بتفاهتها.
كلّ ذلك قبل انطلاق المخبز الآليِّ، الذي
أراحنا. لكنّ ذكريات مدرسة باب الفُرن، أعتقدُ أَنَّها كانت رديفًا لصعوبات حياتنا
التي لم توقّف، بل إنّها في ازدياد مُستمِرٍّ على الدوام".
على غير انتظار..
أو موعد مُسبق مع "أنايَ"
الذي ترَكَ مكانه الذي جعلته فيه، التحق بي.. وكأنّه استوحش وحده في الخيْمة. لم
يجد من يتكلّم معه، بل بقي مُستمعًا لمحيطه. اتّخذ مكانه بجانبي، لم يلحظهُ أحدٌ،
ليعترضَ عليّ في خَرْق نظام الدَّوْر، والتجاوز على حقِّ الآخرين.
-"ها اسمعني،
لقد فاض بي الكيْل، كاد عقلي ينفجر، انفلت حزام صبري؛ فلم أحتمل مزيدًا من
القصص".
-"هاتِ ما
عندكَ"
-"أوّلها.. امرأتان لم يَرُق لهما إلّا التوقّف جانب
الخيمة. ظنًّا منهما أنّها فارغة، بل كان الجميع ما زالوا نيامًا. أظنُّ: أنّ
واحدة منهنّ، بدا لي أنّها الأكبر سِنًّا، تشكو لصديقتها من سُلوك يعض الشباب
والبنات، وكم كانت خائفة على بناتها؛ فاسْتَشارَتها.
ما أثارني أنَّ الصَّباح مهمومٌ لا فرح فيه،
تنفيسُ أخطاء اللّيل المستورة، الفضائح لا تنتظر أن يتقادم عليها الوقت؛
لِتَسحبَها حَبائلُ النِّسيان إلى غَياهِبِها. نور النّهار بِساط تُنثَر عليه
حكايا الظلام المخبوءة في الصُّدور.
قالت المُستشارة: "الحلّ عندي، لكن بشرط تحسبي
حسابي بمبلغ من مهر ابنتكِ". -يبدو أنّها سمسارة، وليست مستشارة-.
-"تكرمي
-طفِحَت علائمُ السُّرور على وجهها-؛ فلم تَحِرْ سُؤالًا: "وكم تريدي يا خَيْتي..!!؟".
-"خَمسمِيَّتْ
دينار".
-"إذا كان
المبلغ مُجزي، أزيدك مِيَّه منّي إكراميّة. لكن بِدّي أخبرك: إنّه بنتي الكُبيرة،
ما بلغت الخمس عشرة سنة بعد، بِدْها ستّة أشهر حتّى تُكملها".
-"ما عليكِ
الشّيْخ يُدبّر الأمر بمعرفته، ودِرايته، هو خبير كبير .. لا تخافي..!!".
-"دخيلِكِ..
مين هاظ الشّيخ".
-أخبِّركِ
بَعْدَيْن".
-"لا لا..
الآن خبِّريني خلِّي قلبي يطّمَّن".
-"ما إشي
مُخَبّى عليكِ.. هو شيخ
جامع كرفان السّوق".
-"سمعتُ
عنه أنّه ساعَدَ الكثيرين. قالوا عنه: ابن حلال، الله يُقدّم إلّلي فيه
الخير".
..*..
أنايَ قال أشياء كثيرة كان قد سمعها، أظنُّ أنَّ كلام
المْرأتان طالَ، وقبل افتراقهما. السِّمْسارةُ جاءت بخبر طازج من تحت جُنْح ظلام
اللَّيلة السَّابقة: "والله يا خَيْتي مبارح من حولنا كانت غُوغَة كبيرة..
أخيرًا سمعت حديثًا دار بين اثنين راجعين على خيْمهم، أنّهم لَقَطُوا شابًّا وبنتا
مُتَخفِّيَيْن في زاوية المطبخ الجماعيّ في المربع القريب من خيمتي، ولمّا سمعوا
صوت خطوات شخص تقترب من الباب، دخلوا تحت الطاولات الإسمنيَّة. فاجأهم بتشغيل جهاز
الإنارة، وبيده الأخرى دلّة قهوة. صَرَخ فيهما حاولَا الهرب، وكان مازال قريبًا من
الباب؛ فأغلقه من فوره، أصواتُ العِراك جلبت فضيحة".
-"آه.. -
تنهيدة صديقتها أمَّ البنات اِخْترقت قلبي - عَرَفْتِ ليش أنا خايِفة ع بناتي، كل يوم مشكلة أو
ثِنْتَيْن.. نسمع العشرات.. إشي بخوّف يا خَيْتي.. نحن بآخر وقت".
غادرتا.. وما زال كثيرٌ من كلامهما لاصق
بِشَادر الخيْمة، بحاجة إلى إعادة تحليل، وإعادة تركيب. مُشكلتي تكمُنُ في جهلي
بالأسماء، وببعض مُصطلحاتٍ طَرَحنها، لم أسمع بها من قبل. بشكلٍ عامٍّ الحوادث
مُتشابهة، كأنَّها وُلدت من رحم واحد.
بعد مغادرتهما. صوت حديث غير مفهوم، يقترب بخُطوات
صاحبه، شيئًا فشيئًا؛ بدأت تتّضحُ فحواهُ. أحدهما يُخاطب صاحبه عندما وصلا جِوار
الخيْمة: "اليوم يومنا يا صديقي.. ستكون هَبْشِتْنا كبيرة".
-"ليش شو
بِدْهُم يُوزّعوا اليوم؟"
-"النيّة..
وإذا صدقوا.. حرامات (بطانيّات صوفيّة) سعوديَّة من النوعيَّة الفاخرة".
-"نحن شو
دورنا إلِّلي سنقوم به؟".
-"بعد
اجتماع العدد الأكبر من النَّاس، سنُثير فوضى في الطَّابور مع النَّاس المصطفِّين
بالدور، كَمَانْ نسَّقتُ مع مجموعة من الشَّباب؛ لإثارة بعض المشاكل في مكان
التوزيع مباشرة. وعلى الباب، لإرباك الوضع عُمومًا".
- " وبعد
ذلك؟".
-
"الفوضى؛ ستدفع باللّجنة لإيقاف التوزيع، ومع زيادة الضغط منّا، سيُغلقون
الأبواب، والشّاحنات سترجع إلى المُستودعات المُفترضة".
-"يعني
هاي الخُطّة مضمونة؟، خايف أن تتدخّل الشُّرطة".
على أطراف
المخيّم وصل صوت ضحكته المُقهقِهَة. أظنّ ذلك، بينما خفَّض صوته حدَّ الهَمْس،
سمعتُه بصعوبة، يقول لصاحبه:
-"لا
تقلق.. كلّ إشي مُتفّق عليه مع الشيْخ، وهو مُزبّط الأمور أيضًا في الخارج".
-"مين هو الشيخ؟".
-"يا زلمة
شيخ الجامع إلِلّي بالسُّوق".
كأنّي به بهزّ
رأسه، ويتساءل:
-"أكيد
سيدفع لنا؟".
-"أكيد
ميّة بالميّة، أنتَ علاقتكَ معي، في أسوأ الظروف، لو دفعتُ لكَ من جيبي الخاصِّ،
سيصلُكَ حقَّكَ، على دَايِر مَلِّيم".
-"توكّلنا
على الله".
.. *..
أحسُّ بتعب مفصل
قدمي اليُمنى، أبدِّل اتِّكائي على اليُسرى، الوقوف والثبات في حيِّزٍ محدود عُمومًا
غير مُريح أبدًا. صاح مسؤول توزيع الخبر من جديد عبر مُكبر الصوت:
-"أيّها
الأحبَّة أبشروا، ما هي إلا عشر دقائق وتصلنا شُحنة الخبز، رجاءً.. كلّ واحد يصطفُّ
في مكانه، وجهِّزُوا كوبونات هذا اليوم، انتبهوا لا تُخربِطوا برقم يومٍ
آخر".
شخصٌ واقفٌ خلفي،
بهمس في أُذُن من يقف أمامه:
-"هذا
المُحترم.. كثير من الأيَّام يأمر بتوَقيف التوزيع، ويأخذ كميَّات الخبز؛ ليبيعها
بالجملة لمُربّي الغَنَم والحلال في القُرى المُجاورة".
-"هذا
الأمر كلّ يوم يحصل؟".
-"لا..
لا؛ عندما يشعرُ بضعف الرَّقابة عليه، المؤكّد أنّ هذه العمليّة تتمّ مرّة واحدة
في الأسبوع على الأقلّ، ربَّما تصلُ إلى ثلاث. حسب الجوِّ..!!".
-"شيء غير
معقول، عقلي يكاد ينفجر من كثرة ما أسمع مثل هيك قصص".
-"المال
السَّايب؛ يُعلِّم النَّاس السّرقة".
-"لكنّها
مُخصَّصات اللَّاجئين".
-"أثرياء
الحرب وتجّارها مُفتِّحين عُيونهم بشكلٍ جيّد، مثل الفَارْ ما يَعُوفون إشي".
.. *..
أبو فندي
يستحيلُ أنْ أَعِي كلَّ ما يدور حَوْلي،
لا أدري لمن أستمع، لأنايَ، أم لظلّ أنايَ الذي اختفى، مؤكّد أنّه سيأتيني بأخبار
جديدة، لم أسمع بها من قبْلُ. لُجّة الضجيج شتَّت تركيزي على أيِّ شيء، لأنّني لم
أُدْرِك شيئًا. أنايَ لم يتوقَّف عن الكلام منذُ مجيئه، حكى كثيرًا. المشكلة لم
أحفظ منه إلَّا أقلَّ القليل.
انصرف اِنْتباهي لرجل طويل، رأيته من بعيد،
وصلتني، مقولته: "الله يفرجها، ونرجع ع بلادنا".
نبرتُه ناضحِةٌ بالقهر، هكذا أحسَسْتُ، ولا
أظنّ خَطئي في اِكْتشاف ضِيقِه وتبرُّمِه بالوَضُع، لكن تساؤُلي: ما الذي دعاهُ لما
قال؟.
كلّما وصلتُ لتخمينٍ ما، أجده لم يُشْفِ
غليلي، أبحثُ مرَّة أخرى عن جَوَاب آخر، حتَّى تعدَّدت خيارات الأجوبة عندي؛
فأوقعتني في حَيْرةٍ وتردُّدٍ، ولم أَرْسُ على أيٍّ منها.
أنايَ لا يمتلكُ الصّبر، مُتعجّل في جميع شؤونه، لم يتوقّف عن
الكلام، بينما هذا الرّجلُ أثار دواخلي بشكل فظيع.
-هل سمعتَ آخر خبر؟. -انخرط في نوبة ضحك،
أذهلتني عن محيطي المُتوتِّر - .
عيناي مغروستان
في وجهه بتحديق قويّ. أخافُ أن يُلاحظه من هُم ورائي حركاته، أو أن يسمعوا شيئًا
من كلامه.
أجبتُه:
-"لا
أبدًا.. لا أعرفُ بِمَ ستُخبرني به!!".
-سمعتُ كلامًا بين اثنين كانا يتكلّمان عن
ليلة البارحة أيضًا، وفي موقع آخر. ضبطوا شابّيْن في الحمّامات العامّة، وفي زاوية
مُظلمة يتلاصقان وبحركات مَشبُوهة، انكشف
أمرهما وهما أنصاف عُراة. بينما صَدَر من خيمة قريبة من هذا المكان صُراخ امرأة
تستغيث مُناديةً بأعلى صوتها: حرامي.. حرامي.
لم أستطع
مُتابعة حديثة. زامور سيّارة الخبز يقترب من مكاننا، تنبّه الجميع، من جديد تعالت
الأصوات؛ فصار المكان شبيهًا بساحات التظاهر.
ما زال مُستمرًّا
بكلامه. رغم أنّي لم أفهم شيئًا ممّا قال، ولم يتوقّف. لعلّه توقَّع أن يسمعه
أحدًا غيري، كأنّه معنيٌّ بإيصال معلومة لأحدٍ ما. هكذا يَظُنّ.. وهكذا أنا أظنُّ.
.. *..
أبو فندي
غير بعيد من خيمتي
اِنْزلقت رِجْلي اليُمنى. اختلّ توازُني، وماذا يعني السّقوط أرضًا مثلما حصل لي؟.
إنّها رِجْلي المُتورِّمة، أخبروني بعد ثلاثة أيّام من مُراجعتي لهم في خيام المستشفى
الميدانيّ المغربيِّ، المُسوّرة بأسلاك تحيطها من كلّ الجهات، إلّا من مدخل مُحاذٍ
للشّارع الرّئيس، بعرض أربعة أمتار، ومغلق ببوابة حديدية ثقيلة تتحرّك مُنزلقة بدواليبها
على سكّة مُثبّتة في الأرض، كوخ الحارس (المَحْرَس) بلونه الأخضر وعلى مرسوم إشارة
الهلال الأحمر، بينما المستشفى الألماني بجانبه ترتفع إشارة الصّليب الأحمر.
الحارس يقظّ على مدار السّاعة، بعد الظّهيرة يتثاءب بشكل ملحوظ عند منتصف النّهار،
أحيانًا تتراخى يده عن سلاحه، وربّما ركنه إلى جواره داخل الكوخ، وهو يجلسُ على
كرسيٍّ خشبيٍّ عتيق، كان كُرسيًّا أيّام زمان، من غير المعروف من أين جاؤوا به إلى
المَحْرَس. أومأت له برأسي بإشارة السّلام عليه، ردّ بكلّ احترام، ولم يطلب منّي
بطاقتي التي منحوني إيّاها ساعة وصولي إلى المُخيّم؛ فالرقم الذي تحمله يؤهّلني
للدخول بلا مُساءلة من أحد، أبرزتها في أوّل خيمة "للباشكاتب"
المُمرّض، لباسه العسكريّ الأخضر، وإشارات الجيش الملكيّ المغربيِّ على كتفيْه
وصدره، وساعد الأيسر يحمل شارة رقيب.
بشاشة ابتسامته
كسرت ملامح صرامة تقاطيع وجهه، كشفت عن نعومة كلماته المنُبعثة من صوت دافئ، شعرتُ
بطيبة منبته عندما سألني أوّل سؤال عن اسمي. هزّ رأسه بحركات أفهمتني أنّه يتألّم
من أجلي. سمعتُ احتكاك قلمه على دفتر المواعيد، لاحظتُ أنّه أحدثُ خطوطًا منحوتة
انتقل أثر لصفحات تحتها، رغبة في نفسي، لو أنّني استطعتُ التقاط الدفتر من يديْه؛
لأقرأ أثر انطباع اسمي على صفحات بيضاء، تنتظر الكتابة عليها. ليتني أستطيع
اقتطاعها للاحتفاظ بها، لا أودّ أن يكتب "الباشكاتب" أيَّ أسماء فوق اسمي،
ولا أن يُشوِّه بياض الصَّفحات بأسماء المرضى.
إجراءات
ضروريّة لكنّها روتينيّة قبل الوصول إلى خيْمة الطبيب, شرحتُ له تناوبات الآلام
المُبرحَة على مدار ساعات الأيّام الثلاثة
قبل مجيئي.
"عربة
الكارو" يجرّها حمار متوسّط الحجم، فكرة عظيمة اهتدى إليها ذلك الرّجل
الأربعينيّ قائد العربة، لتحسين وضعه المعاشي، ضخامته موحية بثقة من يركب معه بأنّه
يسيطر على مقاليد الأمور، لا أظنّ أنّ الحمار أنّه سيفكّر بارتكاب حماقة عصيان
الأوامر بالسيْر أو التوقّف، حسب أوامر صاحبه، بينما العَصَا بيده مُتوسِّطة الطُّول،
وبرأسها حبل من ليف مربوط، لا يهدأ عن الحركة اللولبيّة كأفعوان يتلوّى عطشًا في
حرارة الصّحراء.
صوت ارتطام
الحبل على جنب الحمار الأيمن، عدّل من مساره باتّجاهنا نحن، بعد أن حاول الانحراف،
وراء عربة أخرى قريبة منّا تجرّها حمارة "أتان"، أصدر شهيقًا ونهيقًا،
أذكرُ أنّهم كانوا يقولون: "شَنْهَق". مصطلح مختصر. منحوت
بدلالته بعناية الفلّاحين الذين يعتبرون الحمير جزءًا استراتيجيًا من حياتهم
قديمًا قبل ظهور الآلات الحديثة.
لسعة الحبل،
كـأنّما نزلت على جسدي، انقطعت "شَنْهَقَتُ" الحمارـ حرارة الضربة عدّلت مسارة، وأوقفت مزاجه
الغريزيّ الجامح خلف الأتان التي توقّفت، واستدارت برأسها نحونا بعيون مليئة شبقًا
وليد اللّحظة، ماتت الرّغبات أمام إصرار الحوذيّيْن.
"شَنْهَقَة"
الحمار خطفتني إلى أيّام الطّفولة والقرية، وقتها لم يكن هُناك إلّا أصوات أهلها
تتناغم مع أصوات حيواناتهم بتحابٍّ مُثير. ألم رجلي اختفى ذهب معي أيضًا لِشَقَاوات
تتآكل حوادثها من الذاكرة شيئًا فشيئًا.
بعد عودتي من
رحلة العلاج التي دفعت فيها أجارًا للنقل ذهابًا وإيَّابًا، اقتطعته من مصروفي
عائلتي، الوضع لا يحتمل مثل هذه الطوارئ. التقطّتُ أنفاسي عندما جلست على فَرْشتي
الإسفنجيّة الملتصقة بفرشات الأولاد، تمثَّل أمامي عينيّ الحمار المسكين، أنفاسه
وصلتني وهو يسير بحمله الثّقيل بين صعود وهبوط، وعثرات الناتئة والحُفَر التي يغوص
بها دولابَيْ "عربة الكارو" أو أحدُهما، لسان الحوذيَّ يستحثُّ همّة
الحمار بكلمة "حيييييه" تكاد أن بلا بديل أو مُرادف لها، لو كنتُ قادرًا
على المشي لنزلت من العربة، للتخفيف ومساعدة الحمار في إخراج الدولاب الأيمن من حفرة ليست بالعميقة، لكنّ حجرًا على
طرفها يرتفع فوق سطح الأرض، كان سببًا ليتحرّكَ السّوط اللّعين على ظهر الحمار،
لسعتُه أوجعت ظهري كما أوجعت ظهر الحمار، وعلى غير إرادة منّي اِنْطلق لساني فجأة،
من تلقاء نفسه صارخًا: "آآآآآه.. آآآآآه".
انتبه الحوذيّ
لتأوّهي.. ظنًّا منه: أنّ ذلك من وخزة ألم من قدمي، وهو يميل بوجهه إلى الجانب
الأيمن لمعاينة الحجر اللّعين، الحمار تجاوز العقبة بعد ضربة تَلَت الأولى من
السّوط بيد الحوذيّ الثّقيلة؛ انطلق صوتي ثانية: "آآآآآه".
بصوته الأجشّ
النّاشف مثل محيط المخيم الصّحراوي:
-"شو صار
لك يا زلمة".
نبرة كرهتها..
ليته لم يقُل ما سمعت أُذناي. الحمار سار بلا تردّد. وما زال الرّجل يصيح به،
والحمار يسير.
تفكّرت: لماذا
لا يُفكّر الحمار بِرَفْس الحوذِيِّ للقضاء عليه، ورفض أوامر صاحبه كما رفضنا حياة
الذُّلِّ، الحمار يدفع ثمن علفه عبوديّة مقيتة، كما نحن ندفع ثمن حريّتنا. بل
تمنَّيْتُ من أعماق قلبي؛ لو أنّ الحمار
يُنفّذ لا أنْ يُفكِّر.
أوّل ما طالعني
وجه الطبيب المُتورّد بحُمرة مُشرّبة ببياض بشرته الأقرب للأوربيّة، كأنّ روح
الشّمال تسري فيها. عند اقترابي لمسافة مِتريْن قبل باب الخيْمة، رداءه الأبيض
مختلف عن لباس الممرّضة، لوحة سوداء صغيرة مُثبَّتة فوق الجيبة العُلويّة، مكتوب
عليها اسمه بخطٍّ ذهبيٍّ، عينايَ تبحثان عن رُتبته التي تختفي تحت الرّداء الأبيض.
نهض من على
كُرسيّه خلف الطاولة المكتب الحديديّة، مشى إلى الزاوية حيث سرير الفحص, بمساعدة
الممرّضة وبصعوبة أخيرًا استطعت الاستواء جالسًا عليه، بإشارة من يد الطبيب
اليُسرى، بينما اليُمنى يحمل بها الملفّ والمعلومات التي دوّنها به "الباشكاتب"،
ناوَلَه للمُمرّضة؛ فوضعته على طاولة مُحاذية ليده اليُمنى.
بينما رفع
السمّاعة لوضعها في أذُنيْه، انزلق رداؤه عن كتفه؛ ليكشف عن تاج ونجمة ذَهَبيّان
يتلألآان، أصابتني خشية هيبة الاحترام له، وتعاظمت خشية في نفسي؛ فانبعثت ثقةٌ
تسرّبت إلى دواخلي، ولّدت ارتياحًا، تنفّستُ بعُمقٍ خفّف الألم غير المُحتمَل،
أنساني التأوّهات المسموعة للحوذيِّ وهو
يقود العربة. لكنّه لم يستمع لها، كان مشغولًا بالانتباه للطريق، ومحاكاته
المستمّرة للحمار، ولسانه يتحرّك بالأوامر كلّ دقيقة.
نظّارته الشّفافة
ذات الإطار الذهبيِّ تهيّأ لي أنّ ماركتها مشهورة، أظنّ أنّها كانت
"police". على
ما أذكر يا أخي فطين.
كنتُ أتمنّى لو أنّني أستطيع امتلاك واحدة شمسيّة مثلها من هذه الماركة، التي لا
يقدر على ثمنها إلّا الأغنياء.
شعور يتملَّكني
على الدّوام برسم صورة وَهْميَّة لي؛ تحملُ مظاهر البَرجزة (البرجوازيّة). طموحٌ لَعِينٌ
بعيد المنال، يتناقض مع الهمِّ اليوميّ بتأمين مصاريف الأسرة الأساسيّة.
الأمنيات التي
لم تتحقّق كثيرة جدًّا، فطنتُ لقلم "الباركر" و "الشّيفرز"
اللَّذيْن انقرضا من الاستخدام، ولم أكتب كلمة واحدة بأحدهما.. ولكم تمنَّيْتُ.
أقلام
"البِكْ – Bic" الجافّة
سيطرت على السّاحة لرخص ثمنها، لعنة فوران أحبارها كانت وَسْمًا على صدورنا في
جيوب القمصان، لم يبق قميص إلّا وتلوّث بالحبر.
ومضة انعكاس من
إطار النظّارة لمعت في عينيّ، عندما حرّك الطبيب رأسه نحوي، اللّمبة ذات الضوء
الفوسفوريِّ أضاءت وجهه الصّقيل ببشرته النَّاعمة بطابَعٍ أقرب للأنثويِّ. نظراتي
مُنغرِسَة بتفاصيله، عندما بدأ بسؤاله الأوّل عن مُشكلتي التي جاءت بي إليه.
"يا إلهي..!!". نُعومة صوته الخفيض؛ ربّما أضاعت عليّ فهم بعض الكلمات
منه، وشُرودي في ملامحه ساهَمَ بعدم فهمي لكثير ممّا قال.
قناعتي بالأصل:
أنّي لا أفهم كثيرًا من كلامهم، حتّى عندما مُتابعتي بعض برامج الجزيرة الوثائقيَّة،
رغم تعمُّدي الإصغاء بدقّة لفهم بعض الكلمات وتركيبها مع بعض؛ لتكوين فكرة عن
الموضوع المطروح من القناة، ولولا إضاءات التفسير من المُعلِّق الذي لم تظهر صورته
أبدًا في البرامج الوثائقيَّة، حفظت معظم نبرات أصوات من يقومون بالشّرح والتفصيل.
صوت الممُرّضة
لم يستطع سَحْبي من الاستمتاع بنبرة الدّكتور الرَّقيقة، ولا ملامح أحمر الشّفاه جَذَبَتني
إليها. نصف متر تفصل بين وجهيْهما، باعدتني عن الالتفات إليها. كان من الممكن أن أرى
طنجة، لو كُشِف عن بَصَري، تخيّلتُها أنّها بقايا مُدرّعة صدئة من بقايا الحرب
العالميّة، مازالت قابعة هُناك في "العَلَميْن" إلى جانب قبور العساكر الأجانب
من الألمان والإيطاليّين، ومن كان يُحارب معهم من الأمم الأخرى التي كانت مُستعمَرة
آنذاك.
بعد فحص
الحرارة والضغط والسُّكَّر من الممرِّضة، قرأ الطبيب النتائج، وعلى ضوء ذلك مع
معاينته باللّمس والتحريك لقدمي، اتّخذ قراره. أظنّ لأنّه صائب. نبرة هادئة مصحوبة
بابتسامة، أعادت لي الثقة بأنّني على الطّريق الصَّحيح للشِّفاء والتعافي:
-"قدمُك
مُصابة بتمزّق أربطة، وبحاجة لجبيرة؛ لضبط وضمان عدم حَركتها، لكي تتماثل للشفاء
سريعًا".
ثلاثة أنواع من
حُبوب المُسَكِّنات، ومُضَّادات حيويَّة، مع "البانادول" الصَّديق الدَّائم
المُصاحب لمعظم الأدوية.
"الحمد
لله.. إلّلي إجَتْ هيْك، ما انكسرت..!!". زوجتي تُوَجِّه كلامها لي عند عودتي
للخيمة. تابعَتْ: "أخطأتَ بانتظاركَ كلّ هاي المُدَّة، كنتُ أسمعُ تأوّهاتكَ،
أحسُّ بإطباق إِشِي ثقيل على صدري".
لم يكُن في
حسابي أنّني لم أعُد أستطيع الوقوف والمشي، كنتُ أظنُّها غير ذلك.
مُلازمة الخيمة
تفرض شروطها بقوّة... لا مَنَاص لي من الهروب بأيّ اتّجاه أبدًا.
شعورٌ قاهر بالحصار يَحُوطني، ولم يترك لي
نافذة.. ولو صغيرة أنفُذ منها، فرارًا وهروبًا مقصودًا عن سابق إصرار وتصميم،
ضاربًا عرض الحائط، حتّى لو أيقنتُ بوجود عقوبات ما.
مُتوالِيةُ الأيّام تتدحرج أمام عينيّ قريبًا
من باب الخيْمة.. تتراكم حكايات العابرين، وما يتنامى إلى سَمْعي من بعيد. قدمايَ
اِشْتاقتا حذائي المَرْكُون عند باب الخيْمة منذُ أسبوعين. طبعًا ليسَ
خارجها؛ حِرصًا عليه لأنّي لا أمتلك غيره؛
فماذا لو سُرِقَ..!!؟.
ذرّات الغُبار لم تترك مساحة فارغة على سطحه،
استوطنت ظاهره شكّلت طبقات شبيهة بتراكمات
أخطاء في حياتنا أوصلتنا إلى هنا. يا لوعتك يا قلبي المُتَفَطِّر ألمًا...!! أوَطَنٌ
تقزّم بعينيّ. كما "نزار" عندما رفض أن يكون الوطن علبة سردين أو
حبّة أسبرين.. حدود الخيمة منتهى نظري. الضوء يقتحم بفجاجة مشاعري المُحبطة، لا
أدري عدم الاستجابة لدواعيه... تكاد تتساوى عندي اللّحظات السوداويّة؛ عندما تنتصب
أمامي الآلام بكلّ مآسيها، ومقاومتي تضعف شيئًا فشيئًا، والوهن يتسرّب إلى جسمي.
دبّ الهُزال فيه. هبوط وزني انعكست صورته بضعف وجهي، زوجتي مرآتي، كلّ يوم تُخبرني
بذلك، لم تمتلِك أكثر ممّا قدّمَتْ، تكادُ أن تستنفذ جميع وسائلها الإيجابيّة؛
لإيقاف تدهور الإيجابيّات بهذا الشّكل المُريع.
حكايات تعادل
ذرّات غبار الصحراء بأكملها، تكوّمت حول خيمتي كادت تطمرها. ضاقت عليّ أنفاسي،
أريد اِسْتنشاق هواء نقيًّا، عرفتُ القليل منها، وأنكرتُ الكثير، وعيتُ النَّزْر
اليسير منها، ونسيتُ أو أُنْسِيتُ معظمها، لا أستطيعُ تخمين الحقيقة على وجهها
الأصْوَب. أنايَ أقنعني بهذه الفكرة، لم أتبيّن صدق نواياه، لعلّه يستغفلني، وما
يُدريني لعلّ الغفلة تنفع في بعض الأحيان..!!؛ فتكون منفَذًا صالحًا؛ لتجنُّب كثير
من المتاعب.
..*..
الوقتُ كائنٌ مستعجلٌ دائمًا
بطبيعته، لكنّه يتشكّل مُتكيِّفًا مع ظروف المكان، الذي يفرض شروطه بلا جدال، ولمّا
سَقَط السَّيف المثلوم من يد الوقت، لم يعُد قاطعًا، ولن أخاف مُفردة السَّيْف مع
الوقت: "الوقت كالسَّيْف، إنْ لم تقطعه قطَعَك".
فقد ضاعت هويَّتنا جميعًا هنا، عندما اِسْتحوذ
علينا المُخيّم، كما تضيع هُويّة فنجان القهوة إذا ما داهمه السُكَّر، لتبرز الاتّهامات المُتبادلة؛ بينما القهوة تَتَّهمه
بعدم الصَّبر، ويتّهمها بالمرارة؛ فَنَارُ الحربِ تحرق الجميع؛ لإنضاج رغيف خبز
ليأكله المنتصر.
تتأكّد فِكرتي
رويدًا رويدًا، على الأقلّ نظريًّا في هذه اللَّحظة: بأنّ العالم كلّه، أو ما هو أبعد من العالم
استحوذه شادِرُ خَيْمتي. فهل وطني هو الذي يسكن في المستقبل...!!؟، يا حسرتا على شيء
اقتنعتُ به، أو أقنعوني به بالقوّة: بأنّ هناك مُستقبلًا في وطني، لم يكُن أبدًا،
وما كان إلّا وَهْمًا خَدَّرُونا به سنينًا.
انتصف النّهار والحرارة تشتدُّ، بينما
الحكايات المُتراكمة حول خيْمتي تسُوخُ، وأنّ كلّ حكاية تُقاتل الأخرى؛ بُعثِتْ في
نفسي سكينة أفرزت هدوءًا؛ لتريحني من إعادة تقييمها، لن أُتعِب نفسي وأذهبَ بعيدًا
في سَبْر مجاهيلها؛ فلتذهب إلى الجحيم. لماذا؟. لأنَّني لن أهتمَّ بصوابها، أو
صحّتها، أو كذبها، بقدر ما هي إلّا مؤشِّرًا
مُؤلمًا للحقيقة التي علاها الصّدأ زمانًا؛ فكنّا هُناكَ لا نرى إلّا شَبَهَها، لا
بُدَّ البحث عن أفكار جديدة؛ لمُحاربة ما طَفَى على سطح مياه المُستنقع القَذِر
الرَّاكد.
هذه الصّحراء المحيطة بي أصحبتُ جُزءًا منها،
ولا أرى إلّا قبائل اللّاجئين تعيد سيرة معاركَ "عبس وذُبيان"،
ولماذا يترتّب عليَّ تأريخ صراعاتها، وإعادة ترتيب فوضاها القاتلة. ولا أستطيعُ
تجفيفَ غُدرانَ وبِرَكَ الخلافات والمساوئ.
وكيف لي أن أردَّ الغُزلان العطشى إلى هنا؟. فَضلًا
عن أن تُصبِح هذه البِرَكُ مرآةً تستخدمُها السّماء؛ لترى نَفْسها حَوْل خَيْمتي.
فكرتي تائهة تَسُوقني لتقمّص شخصيّة الزُّومبي،
تلك الجُثَّة المُتحرِّكة بعكس الجُثَّة الهامدة الثَّابتة، لكنّها حُرَّة بلا
قيودٍ مباشرة لحَجْر الحُريَّة هنا، اِنْفلتَت الألسنة بِسُيول حَكْيٍ يُعادل
فيضان نهر اليرموك إذا تدفّق بِهيَجانِه. الألْسنة التي سَكَتَتْ طويلًا.. أفواهها كانت مُغلقةً على الدّوام لا تُفتح إلَّا
في الحمَّام للتأوّه الإجباريّ؛ ولتجريب صوتِها لاكتشاف موهبة مخبوءة، أيضًا
يُجبرها طبيب الأسنان.
الأصوات الصَّدِئة لا تسكُت على مدار السَّاعة،
الحكايا تتدفَّق من الخيام إلى جِوَار خارجيٍّ مُتخَمٍ بالرُّغاء. التراكمات
أثقلتني.
ما لم أدركه
للتوّ نشاط ذاكرتي المُرهقة؛ فلن تستطيع اختزان كثير ممَّا ينقله لها السَّمع؛
فكيف لي توثيق كلَّ ما سمعتُ، سأراهن على ضياع جُلِّه لا محالة، ولم أستطع تحديد
وجه التشابه بيني، وبين "عبد الوهّاب البيّاتي" فيلسوف المنافي،
و أنا أتملّى مقولته:
"منذ
صرختي الأولى، وأنا في يد القَابِلة؛ شعرتُ برماح النّور تطعنُ عينيَّ، وبريحٍ صَرْصرٍ
عاتيةٍ تَهُبُّ على المدينة التي وُلدتُ فيها.. أحسستُ عند ذاك أنّني في اللّامكان
واللّازمان، أو أنّني جئتُ مثل البداية أو النهاية".
و"كلُّ
المنافي تُصبح وطنًا واحدًا، لكنّه وطنٌ خُرافيٌّ، ولربّما أسطوريّ، يجوب فيه إلى
أن يموت", و"العالم منفيٌّ في داخل منفى، والإنسان مُركَّبٌ من ذَرَّات
تنتمي إلى أمكنة متعدّدة. لعل الحضور في المكان هو المنفى الحقيقيّ للإنسان. لأنّه
لا يعرف ماذا يفعل، وكيف يتمرّد على شرطه اللّا إنسانيّ".
على ضوء فلسفة البيّاتي؛ فهل خيمتي
تجاوزت حدود آخر نقطة للمنفيِّين على وجه الأرض؛ من هُنا أطلِقُ صرختي، لتكون أشبه
بصرخة "مَلِكِ بُصرى"، وهو يلطم وجهه، ويقضم أصابعه نَدَمًا على
ما فَعَل عن غير قصد، ويلعن كل شيء حوله: الصيف والحرارة وكروم العِنَب، ويومه
وغده ومستقبله الذي انطفأت فيه أحلامه الزّاهية، بعدما سمع من العرّافين موت ابنته
بلدغة عقرب، راح فابْتَنَى لها سريرًا يعلو كل الأبنية، ليمنع عنها الفاجعة؛ لكن
أن يحمل لوحيدته الموتَ لابنته الوحيدة داخل قطف العِنَب، التي كانت سَتَرِثُ
عرشه؛ فإذا حَلَّتِ الأقدار عَمِيَت الأبصار؛ فلا نامت أعيُن الجُبناء.
شعوري بأن كلّنا هنا داخل السّياج، لا نعدو أن
نكون أكثر من رغوة هُلاميّة، تعظُم حينًا وأحيانًا تتبدّد، لن أتعِبَ نفسي في
استنتاج أو الإمساك بأدنى فائدة منها، سأبقى آكُل وأشرَب، وسأموتُ، وستبقى الأسلاك
تحوطني بأمانة بلا أسَف، ولن تَبْكيني الخيْمة، كما ستَبْكيني حِجارة بُصرى, وما
زالت.
..*..
(أبو فندي)
قبل خراب ذاكرتي ربّما أجد
الوقت الكافي؛ لأحكي لك أخي فطين،
عن حكايا كلّ واحدة تُقاتل الأخرى، وحريصة على وَأْدِها في مهدها، قبل أن تتبرعم
مع أسئلتها على حَوافِّ عقلي؛ لتنمو وتنتشي بإجابات تتردَّد على الألسنة.
الأمُّ أوَّل المعنيِّين بإطلاقها، لأنَّها
كانت أوَّل من يُسأَل عن أيِّ شيء يخطر بِبَال طفلها، الذي كنتُه في صغري، وفي اِنْطلاق
لِسَاني في تجليَّات الكلام، لم أذكر أنَّها كانت بحاجة إلى لُغةٍ خاصَّة لأفهم
عليها، هي نسيج لُغة وحدها وأبجديّة مُتكاملة، لم أكُن لأفهم كلَّ ما تقول؛ لتتفجَّر
على لساني المزيد من التَساؤُلات، دائمًا كنتُ أتلقّى إجاباتها بلا تذمّر أو تردّد
منها، شعورها بلذّة كلماتي، تتلمَّظُ عليها كما حبَّة سُكّر تستمتعُ بمذاقها
مُنزلقًا في فَمِها.
ربّما لن أجد الوقت الكافي؛ لأروي لكَ كلَّ ما
يجولُ بخاطري، ويتردَّدُ صداه في عقلي، ولا ينطلق لِسَاني؛ لأنّني أفتقرُ إلى من
يستمع...!! ولا أجدُ السَّبيل لكتابة ما أودُّ قوله لكَ.
سيقعُ عليك كاملُ العِبْء باستخدام اللّغة
المناسبة؛ لمتابعة توثيق ما رَوَيْتُه سابقًا وتداولناه مع صديقنا فاضل،
وما سنرويه لاحقًا.
اِسْتغراقُ فطين كما تبدو صورته عبر "الزووم"،
لم أسمع منه كلمةً واحدة، بل اِهْتزازُ رأسه أكثر من مرّة باتّجاه الأسفل، كأنّي
فهمتُ منه علامة الموافقة، لم أُؤَكِّد عليه بِسِماع كلمة مُوافق، بل اِكْتفيتُ
بالإشارة؛ لِثَقَتي القديمة الرّاسخة بعمق علاقتنا، بلا تردُّد، انطلقتُ مُجدَّدًا
بمتابعة الكلام:
-تباشيرُ الفجر ببرودة مُندّاة بعبير حياة ذات
أرواح مُتَوثِّبة؛ لتتصالح الأرواح مع خالقها، وتستشعر استيقاظ الكون المُتثائِب
استعدادًا ليصحو، على زقزقة مجموعة من
الطيور تقف على الشَّريط الشَّائك للمُخيَّم،
النُّزوع للحريَّة بالانتحاء جانبًا بعيدًا عن خَيْمتي التي مَلَلْتُها على مدار
أسبوعيْن من جلوسي المُتواصل على مدار السَّاعة بداخلها، كأنّي وتدٌ مُوثَقٌ مشدود
إلى حبال الخيمة برباط متين أتحرّك في مدارها الفلكيِّ لا أخرج عنه، إلّا في حالات
الطّوارئ إلى الحمّامات العامّة، لعلّني أخبرتُكَ سابقًا أنّني أكرهُ الذّهاب
إليها لأسباب لا مجال لذكرها الآن، كي لا أنسى ما هو ضروريٌّ لتثبيته الآن.
ما أثارني حقيقة ولم أصل إلى نتيجة، أو أحصل
على إجابة لتساؤلاتي حول هذه الطّيور. هل هي سعيدة بمكانها الذي تقف عليه؟. وإلّا
لما غرّدت، ولكانت وقفت صامتة، أتخيّل أنّها تبكي حالنا نحن أسرى اللّجوء في
مخيّم.
أمِنْ سُخرية بنا؛ تقف تُعانق الحياة منذ
فجرها، وتُطلِقُ زقزقاتها غير آبهة بحالنا، أمْ إنّها تُرتِّل أحزانها على ما رأت
من حالنا، أو تُصلّي من أجلنا هنا على
أطراف المخيّم؛ لتُشعرنا أنّها مُتضامنةٌ معنا في محنتنا.
أمْ أنّها تبكينا بقصائد وأنغام حزينة على إيقاعات
الحرب والموت والدّمار، أم على مَقَام الخوف المُستوطن قلوبنا جميعًا.
من لي بِنَبيِّ الله سُليمان؛ ليُخبرني بما
تقول، ويُريحني من هَمِّ، وقَلَق الأسئلة التي تقضُّ مضجعي على مدار السّاعة. خيوط
الفجر تتلألأ خلف الأسلاك. أغراني المنظر لتوثيقه في الحال؛ فاستخرجتُ هاتفي
النقّال، وهيَّأتُ الكاميرا لالتقاط صورة للطّيور التي تركتني في حيرتي، واستشاط
الغضب في قلبي، عندما غادرتني الطيور إلى مكان آخر، لماذا هذه الجفوة بيننا.
أيقنتُ الآن من سُخريتها منّي، وكأنّها تقول:
ابْقَ مكانكَ داخل الأسلاك أسيرًا لها، في قفصِكَ الذي اعْتَدتَه من أجل حياة فقط،
لقمتها مغموسة بِذُلِّ الحَسَنة والصّدقة من العالم أجمع.
انطلقتُ
أترقَّبُها لعلَّها تعود. عيناي تتابِعُها في فضاءات الحُريّة، ضاعت معالمها التي
أصبحت كشريط أسود، لا يعدو أن يختلف كثيرًا عن السِّلْك الشَّائك، الذي هو حارِسي
وسجَّاني، وما استطاع أنْ يفعل شيئًا إزاء الطُّيور بتقييدها في سِجْنه، كما يفعل
بي وبأمثالي.
..*..
اِسْتَوَت الشَّمس عالية في السَّماء،
برودة الصباح لم تنهزم أمام حرارةٍ طاردةٍ لها بحزمٍ على الدوام، بينما أنا مُقبِلٌ
على افتتاحيّة يومٍ، بدايته كانت مُحبِطَة مع فرار الطُّيور، مُخلِّفة وَحْشة
المكان المستفزَّة للامتعاض؛ لتفرِضَ كآبتها بقسوة.
استقرّ بي المُقامُ جالسًا أمام الخيْمة على حجَرٍ كِلسيٍّ مُفلطَحٍ
مُتوسِّطِ الحجم، بعد تقليب أوجُهِه، اِسْتصلحتُ جانبًا منه أمْلسَ المظهر.
ما إن ثبَتُّ عليه مَدَدتُ رجليَ المُتورّمة
قليلًا، من أثَر إعادة تركيب الخيْمة، وقبل ذلك فَكَّها، فرشُ أرضيَّة المُخيَّم
ببقايا المقالع الكلسيَّة البيْضاء، أُجْبَرنا على هَدْر نهار آخر؛ لإعادة تأهيل
الخيْمة من جديد. قالوا: إنّ هذه المادّة الكلسيّة؛ تُخفِّف من الغُبار؛ عند ثَوَران
الرّيح الشَّديدة.
اِشتياقٌ قاتلٌ لدرجة التحشيش لفنجان قهوة
الصَّباح، على مدار سنوات مضَت؛ ترافقت القهوة بمهابة سَطوَتها على المشاعر،
والأحاسيس تتقلَّب على عَبَقِها، الذي يسبقُ حُضورها.
تهيئةٌ خَفيِّةٌ بالانتعاش، والمتعة بطقس مُتكامل.
الطربيزةُ أو الطاولةُ على البرندة، وكأسُ الماء البارد مُترافِق مع السِّيجارة، خاصّة
إذا كانت هي الأولى ذاك الصّباح بمذاقها الخاصِّ، مع دُخانها الممتزج مع بُخار
القهوة المُنطَلق؛ ليُنْبِئ حاسّة شمٍّ تلتَهِبُ سَلَفًا، لا تنطفئ جُذْوَتها إلَّا
مع أوَّل رشفة مليئة بحُبٍّ وشوق. لكن إذا رافقت الفنجان وردة جوريّة. مؤكّدٌ
بأنّه شُعور مُختَلف تمامًا لا يوصَفْ، كأنَّه مثل أيَّام زمان ما قبل الحرب.
الحِرْمان يوقظ الاشتياق؛ ليجعل لذّة الحُلُم
بطَعْم الحقيقة الأصليّة لأيِّ شيء. رائحةُ قهوةٍ اِخْترقت خُطوط دِفاعي الصّامدة
أمامَ حالةَ صيامٍ، مُغشّاةٍ بملاءة النِّسيان للقهوة، وماذا سأفعل حِيَال الوضع
الرَّاهن ومُستجدّاته؟.
رغم القهر؛ فأنا مسرور في غاية السّعادة، وقد
اِنْزاحت معظم الأثقال الجاثمة على صدري.
نفسي تُحدِّثني: بِتَتبُّع مصدر الرّائحة؛ تمهيدًا لاقتحام المكان عُنوة.
كأنّني تأكّدتُ أنَّها ليست من الخيْمة المُقابلة
لي مُباشرةً، بل من التي تَلِيها بأمتار. يا لسعادة لَحَظاتٍ ينعُمُ بها من يَحتسيها..
لا شكَّ أنَّه مُسَلْطِنٌ مع سيجارته، ويتأمّل عينيّ زوجتِهِ، وماذا لو جاءه
الإلهام وغازَلَها، ونَثَر عواطفَه في حِجْرِها، وضحكتْ من قلبها بِغَنَجٍ، ضِحْكةً
ماجِنَةً؟.
نسيتُ أنَّه
لاجئٌ مثلي، مُتساويان في التشرُّد والحِرْمان، ليتني أُحيِّيه على اِقْتناصه للحظته،
ولماذا لا أفعلُ مِثْلَه، وأرمي خلف ظهري الهموم والمشاكل، ولو للحظة!؛ أخرجُ بها
من دائرة الضِّيق إلى رِحَاب الحياة.
انتصبَ
أمامي
"أنايَ"،
لم يترك لي فُرصةً لالتقاط أنفاسي الصَّاعدة، والهابطة بِتَسارُعٍ ملحوظٍ من حركات
صَدْري الرّاجفة من تحت الجلابيّة البَيْتِيَّة.
تزامَنَ مع مرور اثنين يحُثَّان خُطاهُما، لم تُدركني الفِطنة للتعرُّف إلى
وَجْهَيْهِما، قَفاهُما امتدَّ ظلّه حتَّى تجاوزني بمسافة تَطُول مع كُلِّ خُطوة
لهُما إلى الأمام، قبل أن يختفيا خلف صفِّ الخيام المُقابلة لنا، مع ذلك ما زال
صوتُهما يقرعُ سمعي، لا أظنُّ أنَّ كلامهما اختلط عليّ.
أذكرُ أنَّ أحدَهُما كان يُحدِّث زميله:
البارحةَ في الشَّارع الرَّئيس حدثت معركة شرسة دارَتْ رَحَاها بالحجارة، يقذفُها
الجانبان المُتحاربان، وغالبِيَّتهم من الأولاد، هُما من قريتيْن مُتجاوِرَتيْن
هناك في البلد، وبينهما حساسيَّات قديمة؛ تفتَّقَتْ عن أحقادٍ قديمةٍ نائمةٍ في
طيَّات النِّسيان العتيقة.
رغبتي لم تتوقّف في دَعْكِ عينيّ منذ البارحة،
لا مِرآة بين يديّ لأُعاينهما، ولم يخطر ببالي طلبها من زوجتي، أعتقدُ أنّها تحتفظ
بواحدة صغيرة في محفظتها الخاصّة التي لا تفارقها، عندما دخلتُ للخيمة لتناول
الإفطار حوالي التاسعة، أرعبتني ملاحظتها.
ربّما لم أكُن على استعداد لأخْذ لهجتها
الخائفة من توقّد الجَمْر في عينيّ على مَحْمَل الجدّ، طالبتني بالذهاب للطبيب لعلاج
الحالة التي لا تَحتَمِل الانتظار: "كُلْشِي... ولا العين يا محمد".
رائحة الغاز الحرّاقة للأنف عشعشت في دماغي،
كأنَّها محفوظة منذ الأيّام الأولى للمظاهرات؛ حينما أطلقوه في الحارة الشرقيّة؛ اِنْتشر
على مساحات واسعة في حارات أخرى، كأنّ هُناك من ذرَّ الفُلفل الأسود في عينيّ،
سيْل الدُّموع أخافني من جفاف الغُدَد الدمعيّة التي تُفرِزه، ونَشَفَان ريقي، جاء
من بيده رأس بصل يابس، تناولتُ قطعةً منه اِسْتنشقتُها بعُمق خفّفت من حدّة الغاز،
أذكُر أنّ أحدهم كان يركض، وبيده علبة مشروب "بيبسي كولا" وناول شابًّا
مُتعبًا قطعة قماش مُبلّلة بالسائل السحريّ؛ هدأت حالته عندما جلس على حجر بجانب
حائط كان مُتّكئًا عليه، خلال رُبْع ساعة استعاد حيويّته، قام مُسرعًا حاثًّا
خُطاه؛ ليبحث عن أصدقائه الذين كانوا معه، صراخٌ وأصوات عبر مُكبّر صوت بيد أحد من
كان يهتف في مُقدّمة المُتظاهرين، ثلاثة شباب حالتهم خطيرة نقلوهم للمشفى الميدانيِّ.
صديقه مُستغربًا باستهجان: وما الذي أجَّجَها
في هذه اللَّحظة التاريخيَّة هنا؟.
ردَّ عليه: أشياءٌ تافهةٌ جدًّا، خلافاتُ
الأطفال على اللّعب، عندما ضَرَب أحدُهُم الآخر، من أجل قطعة بلاستيك مُدوّرة..!!
كما سمعتُ؟. قالوا: إنَّها غطاءُ لِعُلبة حلاوة. كلٌّ منهما اِدَّعى أنّه مُلكًا
له؛ فتدخَّل الرِّجال اِنْتصارًا لابنهم
المغلوب؛ عندما جاء إلى أبيه مُتظلّمًا بدُموعِه المُنساحة على وجهه؛ اِسْتشاط
الوالد غضبًا؛ فغضب لغضبته جميع أبناء قريته القاطنين حوله، وهكذا انتقل العِرَاكُ
للسُّوق القريب من ساحة المعركة.
الغاز المُسيل
للدّموع كان السّبيل الوحيد لمواجهة الفوضى، وتفريق الجموع المُتجمهرة، لم يكُن من
السّهل الفصلُ بين مُثيري الشّغب، وبين العابرين لقضاء حوائجهم، الشُّرطة تُحاول
معالجة الموقف على طريقتها، في سبيل المُحافظة على الاستقرار، وإنهاء المُشكلة
بفضّ الاشتباكات عندما اقتربت من مكاتب المفوضيّة القريبة من البُوابة الرّئيسة.
باِسْتفزازه لي بشكلٍ مُفاجئ. "أنايَ":
اِسْمع.. اِسْمع.. أُذناي ما زالتا مُندمجتان مع أجواء المعركة، التي أسفَرَت عن
نقل اِثْنين من الشَّباب إلى مُستشفى العَوْن، تأكّدتُ ممَّا سمعتُ من كلام
المُمرَّضِين هُناكَ في الممرّ: بأنّ حالتَهُما ليست بالخطيرة، ومن كان حولهما على
جمْر الانتظار؛ يتوعّد الطَّرَف الآخَر بغضَبٍ مُريعٍ.
لكنّي أسألُكَ: هل هُناك مبرّرٌ لما يحصل؟.
وهل وضْعُنا يسمحُ بمثل هذه التُّرَّهات
القاتلة؟.
ألا يكفينا ما حصل لنا...!
ألا نبكي حظّنا العاثر الذي أوصلنا إلى هُنا؟.
لا تتذمّر من مُقاطعتي لكلامكَ.. ها أنا كُلِّي
آذانٌ صاغيةٌ لكَ..!! هاتِ.. أكْمِل.
تابَعَ أَنايَ: مررتُ عابرًا صوْب جهة بُوابة الُمخيَّم
الرّئيسة، لفَتَ اِنْتباهي الأعداد الكبيرة من النَّاس المُصطَّفين بالدّور
بانتظار دَوْرِهم. لم أكُن لأصُدّق، لو أنّ أحدًا: حدّثني عن سيّارات الخبز والماء،
والمُؤَن والخُضار في رَتْلٍ طويل.
الأهمّ من ذلك بشكلٍ حقيقيٍّ: رأيتُ ثلاثة
أشخاص مع السّائق المحليّ، الآخران يبدو من مظهرهما أنّهما أجانب، سيّارتهم
البيضاء تتقدّم الطّابور الطويل من السيّارات والشّاحنات، كأنّهم بعثةٌ إعلاميَّةٌ،
ملامح سُتُراتهم منزوعة الأكمام بجيوبها العديدة صارت علامة مميّزة دالّة عليهم.
نزل من كان يجلس في الكُرسيِّ الأماميِّ،
بجانب السّائق من سيّارة الجِيِب ذات الدَّفْع الرُّباعيِّ، ولا تحمل أيّة إشارة تدلُّ
عليهم.
كان بنفسي معرفة لأيّة شبكة إخباريّة ينتمون.
الأمر تعسّر، إلى أن اِستدَار مندوبهم، الذي ترجّل إلى غُرفة بجانب البوابة، قرأتُ
على ظهره كلمة (CNN).
صرختُ مقاطعًا له ثانية: أووووه..!! هذه أهمّ
وسيلة إعلاميّة عالميّة، أذكرُ أنّه في حرب الخليج الثانية، جميع مُراسلي الشَّبكات
الإخباريَّة غادروا بغداد، بعد تحذيرات، وتهديدات التحالُف الدوليِّ، ولم يبق هناك
إلّا "بيتر آرنت"، وفريقه المُصغَّر، كان هو الوحيد الذي ينقل من
قلب الحدّث، وقد حقَّق سَبْقًا في العديد من المجالات، وأصبح من أبرز إعلاميّي
القرن الماضي... سامِحْني على مُقاطعتكَ.
بلا اِكْتراثٍ لكلامي هكذا أحسستُ؛ فلم تتغيَّر
ملامح أنايَ،
وتابَع، وكأنّ ما قُلتُه لا يعنيه أبدًا: مثاراتٌ من التساؤلات هيَّجَتْها خواطري
المُختزنة منذ الصّباح البّاكر، وهذه الأُمَم الغفيرة؛ جاءت تتسابق إلى هذه النُّقطة،
كنتُ أظنّ أنّنا مُعزولون على العالم بين غبار ورمال الصّحراء، هؤلاء عزّزوا
مخاوفي الهاجسة قَلَقًا على الدَّوام، إنّهم يتراكضون بهمَّةٍ عالية؛ لتحقيق مكاسب.
-ولكن أخبرني: ما المكاسب برأيكَ؟.
-أنايَ مُنهمِكٌ بكلامه: هذا الصحفيُّ القادم
من وراء البحار.
-لا تقُل لي: إنّه اِمْتثالًا لتكليف مؤسَّسته
له..!!.
-لا.. لا أبدًا..!! هو يحلمُ ببناء أمجاده
المِهنيَّة على حالنا، خلف الأسلاك الشّائكة وبين الخِيَم، ولتسويق اِسْمه، وتقديم
مادّته باجتهاد. (تسويق: بؤسنا.. تشرّدنا.. فقرنا.. خوفنا.. قلقنا). تحركّت
سيّارتهم، ودخَلَت عتبة المخيّم بعدما رجعَ ذلك الشّخص، وهو يُعيد الأوراق إلى
محفظة جلديّة، ذات حزام مُعلَّقة بِكَتِفه. تابعْتُهم داخل الُمخيَّم بِعيْنيَّ من
بعيد، حتَّى لا يشعرا بمُراقبتي لهم، وقبل أن يغيبا. كُنتُ أحُثُّ الهِمَّة خلفهم؛
لأبقى قريبًا منهم. كان ذلك بالأمس، واِستغرقني الأمر معظم ساعات النّهار، حتّى
بُعيْد الظّهيرة بقليل.
نَخْزٌ في ساقي حرَّكَ عضلة رِجْلي بحركاتٍ لا
إراديّة تُثير مواجعي الهامدة هذه اللّحظة، حاولتُ تدليكها؛ لتخفف التنميل الداخليِّ،
أغرِزُ أظافري في الجلد، تراخَتْ رِجْلي إثر ذلك. آثارُ الحكِّ الشَّديد؛ خلَّفت خُطوطًا
حمراء، لكنّ الدم لم ينزف من هذه التخرُّشات المُؤذية على المدى البعيد.
لم أودُّ تبديدَ اِنْتباهي عن حديث "أنايَ"
الشيِّق الذي يستهويني. شَهَقتُ بعُمق أنفاسي، ونفثتُها من جديد، بعدها امتلأ صدري
بالأوكسجين المُنعِش، أكّدتُ رغبتي بالاستماع للمزيد.
..*..
بحركة لا إراديّة امتدّت يدي لِتهرُش
ساقي بشدّة، رؤوس أصابعي أمسكَتْ بجزء من الجلد بطريقة عنيفة. وَخْزٌ عميقٌ مُستمرٌّ؛
ظننتُ أنّ أحدهم دقَّ مسمارًا في ساقي. اِرْتعاشةُ كفّةُ قَدَمِي واضحة، كأنّ يدَ
جانٍ أمسكت بالسّاق من أعلاها، ولوّحت بها كعصا راعٍ بوجه كلبٍ مَسْعور، ليصدّه عن
خرافه.
حركاتها اللّا إراديّة أفقدتني السّيْطرة
بمحاولة تثبيتها، شعوري بالخزي لعجزي أمام أربعة عيون تُراقبني، بينما عيناي راحتا
تُشاركهما ولكن بترقّب حذر، هذه المرّة تجاوزت مرحلة الوخز المُعتادة المُحتملة، أناي، وظلّ أناي يُحملقان، ستّة
عيون استطابت التَّحديق المُركّز في مكان واحد، مساحة ضيّقة لا أظنّ أنّها تتسع
للنظرات المُركّزة، لا أدري هل هي تتألّم لألمي، أم أنّها تتشفّى.. أو تحديق
اعتياديّ منها.
هالة من الضجيج أحاطت برأسي، وكأنّ عقال ألسنة
اللّاجئين انفلت فجأة عن أفواههم بآنٍ واحد، بسيْلٍ من الحكي، الذي أُقدِّره
بتدفّق نهر النيل قبل إقامة سدّ الوحدة الأثيوبي. ما بال الألسنة التي عاشت حبيسة
خلف الشّفاه التي لم تضحك منذ زمن طويل، ولم تنفرج عن الأفواه إلّا عند أطبّاء
الأسنان، ضرورة العلاج أجبرتهم على فتحها.
تلك الأصوات الصّدئة المُتحشرجة كصرير جنازير
دبّابة لم تتحرّك من مكانها على خُطوطنا الخلفيّة منذ عام ألف وتسعمئة وثمانية
وأربعين، إلّا عندما تحرّكت شرق خط الهُدنة تحت رقابة جنود قوّات الأمم المُتّحدة
الملوّنين، وبقيت في مكانها مُتخندقةً تَسْطَعَها الشّموس فتمدّد، وتنكمشُ في
برودة وصقيع الشتاءات. لكنّها في نظر الجيش الإسرائيليّ: كومة حديد من الخُردة،
وغنائم حرب سيُعاد تدويرها في مصانع الفولاذ.
كثرة التدفّق للصُّور أنساني وجع ساقي، بل
نشُطت ذاكرتي فأصبحت كدلّة القهوة عندما يستبيحها السُكّر بتعجّل افتضاض بكارة
مذاقها اللّاذع؛ فتتّهمه بنزق المهزوم المخذول الذي لم يسمعه أحد: بعدم الصّبر.
أشكّ أنّها فكّرت جديًّا بقول ذلك، بينما لسانه بلا تردّد: يتّهمها بالمرارة.
نار الحرب تحرق الجميع بتلذّذ مُتمّهل لانضاج الرّغيف؛
ليأكله المُنتصر، لإشباع شهوة النّصر الشّبقة للدماء. المُشكلة في ذاكرتي المرهقة،
فلا تستطيع اختزان كثيرٍ ممّا أسمع؛ فكيف لي استعادة ما حصل معي، وما سمعتُ من أشياء بإرادتي، أو جاءت عرَضًا
بلا سعيٍ لها.
آآآآه.. لو لم أتمالك نفسي لصرختُ ما استطعتُ
إلى ذلك سبيلا. نوبة ألم أخرى من غير فاصلٍ زمنيٍّ وبين سابقتها. ذاك اليوم توقّف
الصُّرصور أمام ساقي هذه، أحاول تأكيد أنّها هي أم الأخرى؟. لا أدري على وجه
الدقَّة، على الأغلب أنّها هي، سربُ نملٍ يمرّ من فراغ بسيط بينها وبين الأرض غير
عابئ بأوجاعي، مؤكّد أنّ ألمي لا يعنيه، ولا تأوّهاتي تستجلب تعاطفه معي. كأنّ
الشيء بالشيء يُذكر. هنا على باب خيمتي نملٌ ماضٍ في عمله، وهناكَ على عتبة خيمة
الاستقبال صرصور على ما أذكُر أنّه لاجئٌ مثلي.
"ظلّ
أناي"
بإشارة استفزازيّة يُشير إلى الجهة المُقابلة لظُهورنا. لم أتمالك ضجري منه، امتلأ
بطني بالشتائم القبيحة له، أنا في حالة وهو في حالة أخرى، بلادة أحاسيسه ومشاعره
تنفّرني منه، أتمنّى سرب النمل مشى على جسمه، ودخل فُتحات أذُنيْه وأنفه في طريقه
إلى دماغه، لينهشها ويُريحني منه ومن إشارته تلك.
أسناني
تضغط على شفتيّ المُتخدّرتيْن؛ ظننتُ أنّ وخْز ساقي انتقل إليهما، صُراخ وعويل
امرأة اخترق الأجواء، تبلّدُ مشاعري عن الاستجابة لآلام الآخرين، مساحات الألم
كلمّا استطالت ستشمل أكبر عدد ممّن هم أمثالي؛ فإذا تقاربت الأحوال انمحت
التفاوتات، وتقارب الأحوال وتشابهها يصبح حدّ التطابق، فالتساوي في الألم إحدى
درجات العدالة. يا إلهي.. أمنية في حياتي رؤية العدالة ولو في مثل ذلك.
تباطئي في استجابتي الفوريّة لإشارته؛ جعله
يُشير ثانية. لم أستطع الاستدارة إلى الخلف أبدًا. وتيرة الصوت القادمة واضحة
تمامًا، أصوات المحيط سكتَتْ فجأة على غير عادتها. الآذان جميعُها تُنصِتُ مثلي
باهتمام، حبُّ الاستطلاع دوافعه مغروسة في طبائع البشر.. هكذا بلا ريْب ولا شكّ.
هل عليّ تخمينُ عدد الذين يستمعون معي هذه اللّحظة. أوه.. يا إلهي..!! حتّى الأولاد
لم أسمعهم.. عجيب.!!.
بحِسبَةٍ بسيطةٍ لو افترضتُ: أنّ ألفَ أذُنِ
تستمع، مقابل خمسمئة لسان ستنطلقً لاحقًا روايات متناقضة مليئة بثرثرة، وتأويلات
تستنهض ذوي الخيال الواسع، لاختراع قصص مُتفاوتة بدِقّة الصياغة، على العُموم نحن
بحاجة سماع مشاكل الآخرين لننسى أنفسنا مُؤقّتًا.
أوّل جملة
تناهتْ إلى سمعي جيّدًا، وتيقّنتُها:
-"الله لا
يوجه ليك الخير يا بن الحرام".
لغطٌ هناكَ،
اختلفت نبرة الصوت؛ فتسألُها:
-"مين هاظ
إللي سوّى بكِ كلّ هذا".
-"يا ريت
يكون الضرر لحق بي أنا، اتّصلت بنتي قبل شوي من عمّان، وعجزتُ أن أفهم عليها، وما حصل لها، أخيرًا بعد تهدئتها، بصعوبة
تخرج الكلمات مع نشيجها بعد أن توقّفت عن البكاء، ما زالت أنفاسها تعلو وتهبط في
صدرها، وأنا نفد صبري، ونبض قلبي على وشك التوقّف، وأنفاسي انحبست في صدري".
المرأة الأخرى
تستمع، وأتشاركُ مع "أناي" و"ظلّ أناي" ما يرشح
من كلامهما، مؤكّد أنّ مُحيط الخيام في المُربّع الذي نحن فيه، أيضًا تشارك معنا،
ولا أدري إن كان سُكّان الخيم في المُربّعات الأخرى المُتاخمة لموقعنا، الذي صار
نقطة مركزيّة توجّهت الاهتمامات والآذان والعيون إليه، من المُتوقّع سمعوا ما
سمعنا، من غير المعلوم ما إذا كان وضوح الصوت عندهم ما عندنا؛ أخيرًا انفجرت بصراخ
في وجه الأمّ، عرفنا جميعًا أنّ الأمّ سكتت، تبدّلت نغمة الصّوت المجروح المبحوح
إلى نغمة أقلُّ حِدَّة.. لكننا فهمنا سؤالها:
-"إلى
الآن لم أفهم ما حصل لبنتَكِ..!".
كأنّ الأمّ
هدأت قليلًا، وانخرطت في سرد القصّة:
-"الساعة
العاشرة هذا الصباح، فتحت البنت باب شُقّتها في أحد ضواحي عمّان، رنين جرس الباب
المُتواصل أجبرها على الصحو من نومها؛ لتنصدم بمنظر اثنين من أفراد الشّرطة، حينما
سألاها: "عن اسمها، واسم زوجها السّعوديّ".
-أجابتهم:
"خرج من البارحة الصّباح ليشتري لنا
فطورًا وإلى الآن لم يعُد، طمِّنوني. عسى ما صار معه حادث، أو مشكلة ما".
كأنّي بها انخرطت في نوبة بُكاء، اختلطت
دموعها ببقايا كُحل من اليوم السابق، تشكّلت وِشَاحاتٌ وهالاتٌ سوداء حول
عيْنيْها، ومسارب الدّموع المُنزلقة على خدّيها المتورّديْن، تشكّلت لوحة طبيعيّة
بلا تدخّل من ريشة فنّان، لا تقلّ بهاء وروعة عن لوحة الطّفل الباكي العالميّة. أصابعها
تمسح ما يتقطّر من عينيْها، جفنيْها تلوّنا بهالة من اِسْوداد خفيف أحاط بهما؛
فصارتا كما عيون المها.
رقّ لحالها قلب الشُّرطيّ الذي يحمل مُصنّفًا
مليئًا بالأوراق. مُحرجٌ من صدمة الموقف غير المُتوقّع في مثل هذا الصباح، مع أوّل
ورقة تبليغ، ما زال النّهار في بدايته، شعوره بجفاف ريقه، يحاول الضغط لتحليب
لُعابه، لم يستطع طلب كأس ماء من البنت، ظنًّا منه أنّها لا تستطيع تلبية طلبه، أو
أنّها تنتظر عبوات الماء منذ ذهاب زوجها.
أغلبُ ظنّي أنّه نسي نفسه، ولم يفطن لطلب كأس
الماء. أخيرًا بعد تردّدٍ أشفق على حالها، بحسّه المهنيّ، أدركَ أنّها ضحيّة نصب
واحتيال، عندها تذكّر عددًا من الحالات المُشابهة لحالتها خلال الأشهر الثلاثة
الماضية، وكأنّ القصّة تتكرّر بحذافيرها.
أظنّ أنّه فكّر بالموقف، واستنتج، وهو يتذكّر
بأنّ ذلك:
-"مسرحيّة
مُتشابهة، أكيد أنّ كاتب السيناريو والمُخرج واحد، ولا أستبعدُ أن يكون وراء ذلك
عصابة مُنظّمة، ولها سلسلة داخل المُخيّم حصرًا، ومعها من يُساعدها هنا، البشر عند
هؤلاء سلعة قابلة للبيع والشّراء. نخّاسون قاتلهم الله".
اِسْتَلَّ
القلم من جيبة سُترته ذات اللّون الكُحلي، وسجّل كلمات مُرمّزة على وجه المغلّف
الذي يحتوي على أوراق التبليغات بداخله. صديقه
الآخر ما زال واقفًا على رأس الدّرج بعيدًا عدّة أمتار عنه، يتأفّف ضجرًا، ولم
يتدخّل أبدًا أو شارك ولو بكلمة واحدة، أراد التنفيس عن قَهْره بإشعال سيجارة،
استخرجها من علبة "مارلبورو" بيضاء، أعادها مع الولّاعة إلى جيب سُترته
العلويّة.
لا أدري هل خطر له أو خمّن ما طبيعة الملاحظة
التي كتبها زميله، ليس من عادته أن يكتب ملاحظات، تحرّضت رغبة لديه لمعرفة ما كتب،
أظنّ أنّه أيقن أنّ زميله، سيكتب تقريرًا مُفصّلًا عن مثل الحالات التي مرّت به
خلال الفترة الماضية.
بعد وضع نقطة في نهاية الكلمات على المُغلّف
الذي ناوله لصديقه، وضع القلم خلف أذنه اليُمنى، ثمّ رفع رأسه بحركة بطيئة، لا
يبدو أنّها غير مبالية، بل على العكس كانت حزينة حائرة، ولا يدري ما هو فاعل إزاء
الموقف. أجابها بكلّ هدوء وإشفاق عليها:
-"يا
أختي. حقيقة أنّني لا أدري عن زوجك أيّ شيء أبدًا، إنّما أنا مُكلّف بتبليغك عن
دعوى مقامة عليكِ أنتِ".
-"أنا؟".
-"نعم. مو
حضرتك فلانة بنت فلان وأمّك فلانة؟".
-"ولكن
ماذا فعلتُ حتى يشتكي عليّ مالك الشّقة؟".
-"حضرتُكِ
مُتخلّفة عن دفع إيجار الشّقة منذ ثلاثة أشهر، والآن نحن علينا إخبارك بأمر
التنفيذ، معاك خمسة عشر يومًا للدفع، أو الحبس".
-"يا أخوي
ربّي يُطوّل بعمرك.. زوجي خبرني أنّه هو مالك الشُقّة، وأنّه اشتراها من أجلي،
وكنّا ننتظر مُعقّب المعاملات لاستكمال الأوراق، لتسجيلها باسمي".
-"لكنّ
الحقيقة غير ذلك تمامًا يا أختي، مالك الشّقّة قدّم للمحكمة عقد إيجار باسمك أنتِ,
مُدّتُه ستّة أشهر، مدفوع القسط الأوّل الأشهُر الثلاثة الأولى، والدفعة الثانية
لم تُدفع".
انفلتَ لسانُ
الأمّ بالشتائم، تعاقبت الأمور مجيئًا عليها دُفعة واحدة، ولم تدُم الفرحة طويلًا.
-"الله
يلعن هذيك السّاعة إلّلي جمعتني بالمستشارة اللّعينة، يا ريتني لا شفتها ولا
شافتني.. هاي السمسارة الشيطانة ورّطتنا..!".
أووووه..!!..
امتدّت يدي لحكّ رأسي، رجلي كأنّه لم يكن بها ألم قبل قليل، صرف انتباهي عن
التركيز على أوجاعي. كأن "أناي" تستهويه مُشاكستي لدرجة إغاظتي، عندما أعطاها
ضحكة، أظنّ أنّها غطّت على أصوات المرأتين. ببساطة لا مبالية، استشففتُ من نبرته
شماتة مُغلّفة بتأوّه هازئٍ، راودتني نفسي بِرَمْي فَرْدةَ نعلي في وجهه، إذ انصرف
تفكيري لوجهة أخرى؛ شككتُ أنه يسخرُ منّي.
هدأت فورة
غضبي، عندما قال:
-"أمّ البنت امرأة كذّابة لا تستحقّ الاحترام، ولا
تحترم نفسها، أتذكُر يا أبا
فندي قبل فترة،
عندما طلبت من السّمسارة إيجاد عريس لبنتها، مُقابل عمولة. يومها طلبت منها خمسمئة
دينار، ومن شدّة فرح الأمّ، وَعَدَتْها بإعطائها بقشيش مئة دينار من نفس خالصة،
إذا كان المبلغ مُجْزٍ..!!".
"ظلّ أناي" عيناه تدوران في رأسه، تتنقلان
ما بين وجهيْنا مرّة تلْوَ المرّة، ثمّ يوجههُما إلى مصدر الكلام الذي نسمعه
ثلاثتنا، بالطبع الجميع حولنا يسمع ما نسمع، يعني أن الحادثة صارت مُتواترة، وكلّ
سامع سيَرْويها على طريقته.
البنتُ
المسكينة لم يتبيّن لي مصيرها، هل تتهيّأ للعودة إلى أمّها وإخوتها، أم أنّها ما
زالت تبكي في شُقّتها. وتلطم وجهها على مصيرها القاتم، مؤكّد أنّها تحاول إجراء
مكالمة دوليّة لتتأكّد من كلام الشُّرطيّ، يبدو أنّها لم تصدّقه، وراحت تنسج من
حبال أوهامها بأنّ حادثًا ما حصل لزوجها، والشُّرطي يُخفي عنها الحقيقة، لكي لا
يصدمها، فابتكر حجّة عقد الإيجار وشكوى مالك الشقَّة الأصليّ.
لم يخطر ببالها
أن تذهب للمركز الأمنيّ، للتبليغ عن اختفاء زوجها، لا أتوقّع أنّها تعرف شيئًا عن
الناحية القانونيّة، لكنّ القانون ليس في مصلحتها، هي ما زالت دون السنّ القانونيّ
للزواج، كأنّ "ظلّ
أناي" بصمته المُطبق أوحى لي بهذه الافتراضات.
كأنّه يقول هكذا أتوقّع أنّه يشاركني نفس
اتّجاه التّفكير:
-"هذه
البنت المسكينة ضحيّة".
تفكيري ذهب
أبعد من ذلك بجراءة مُتهوّرة بالذّهاب بعيدًا:
-"كأنّه
من نسل شهريار، مزواج بشكل دوريّ كلما أُتيحت له الفُرصة، بفلوسه يشتري البنات من
أهاليهن المُحتاجين، ولا أستطيع تبرير جريمتهم ببيع بناتهم، مهما كانت الأسباب..!!.
لو كنتُ مسؤولًا.. فلن أتردّد في اتّهامهم،
وأجعل منهم شُركاء في الجريمة. بودّي لو أستطيع القيام من مكاني، والوصول لخيمة
الأمّ. تذكّرتُ رجلي وآلامها التي سكنت وصمتت؛ لتشاركني الحالة، يا لها من حالة
تآلُفٍ حنون تُراعي الظروف..!!".
السّتارة لم تُسدل هنا، حتى تُفتُضُّ بكاراتٌ
العذارى الصّغيرات في عَتَمات الليالي، على يد كبار السنِّ غالبيّتهم يريدون
بالحلال، اعتقادًا منهم: أنّ الله حلّل لهم ما طاب من النّساء مثنى وثُلاث ورُباع،
متى شاؤوا إذا واتتهم الفُرصة في سفر للخارج، يدفعون المهور والهدايا بسخاء من أجل
إشباع غرائزهم. لا تكافؤ أبدًا في الأعمار، هو في خريف عمره تتطاير أوراقه إلى
ساحة طفلة من جيل حفيداته، جاهلة غريرة بمصيرها.
انتهت هُدنة ألم ساقي. الوخز كان هيّنًا أمام
التشنّج الطارئ، برودة الجوّ أظنُّ أنّها السبب أو ساهمت.
تحاملتُ على
نفسي مُكرهًا حتّى استويْتُ واقفًا. "أناي" و"ظلّ أناي" جالسان بمكانهما
كأنّهما مُتجمّدان، لم تُفلح صرخات دواخلي بمساعدتي، ولا اِسْتطعتُ إقناعهما
بمرافقتي إلى داخل الخيمة.
..*..