الأحد، 20 أكتوبر 2024

رواية حسن أبو هنية

 محطَّات سلوكيَّة في رواية

"السّجينة والسجّان". للروائيّ "حسن أبو هنية"

بقلم الروائي. محمد فتحي المقداد

مقدمة:

إن الدراسات السلوكية تستهدف البشر عمومًا، فتذهب بعيدًا لسّبر نشاطاتهم الحياتية التفاعلية، أسبابها ومُسبّباتها، والتأثيرات والمؤثّرات، والنتائج المُترتّبة على جميع الحالات المُتشابهة، والمقارنة بين بين الأقوال والأفعال، وذلك بهدف تسليط الضوء على الانحرافات الخارجة عن الأنساق العامّة للمجتمعات الإنسانية ذات المُشتركات بأعرافها وتقاليدها وقِيَمها الدينيّة الأخلاقية، وكذلك تذهب لدراسة خصوصيّة كل مجتمع على حِدة.

وتعتبر الأعمال الروائية منحى جديدًا ليس لدراسة السّلوكات البشرية فقط، إنما لمعالجتها دراميًّا، والإشارة والتنبيه لموطن الخلل في الزوايا السّوداء والمُعتِمة، والإشارة للسّلوكات القويمة بهدف تنميتها، والكاتب الروائيّ مثله عالم النفسيّ يسعى للإصلاح، وفي الجهة المُقابلة من الممكن أين يكون معول هدم وتدمير لقيم وأخلاق المجتمعات.

ورواية "السّجينة والسجّان" مُفردة اجتماعيّة غنيّة بالتفاصيل والتشابكات والتعالقات المُبرّرة سرديًّا. وبمجرّد التوقّف عند كلمة "السّجينة"؛ تحيلنا لتساؤل: ولماذا سجينة، وما الذي فعلته حتى صارت سجينة؟. بلا شكٍّ تأتي قضيّة الانحرافات العديدة، والفلتان الاجتماعيّ ومُسبباته من الفقر والجوع المؤدّي بدوره للتفّتت الأسريّ المُفضي لانحراف الأبناء النّاشئين إلى دروب المهاوي والضّياع في مُستنقَعات الجريمة المُنظّمة.

محطة العنوان:

سهولة العنوان أشرعت الأبواب والنوافذ التي أضاءت دواخل الرواية؛ فكشفت وفضحت مكنونات ومسارات الرّواية، فلا يحتاج القارئ لكثير من البحث عن تأويلات ودلالات العنوان المُنسحبة على سرديّة العمل الروائيّ، ومن الوهلة الأولى يتبادر إلى السّجان الذي وقع في حبّ سجينة محكومة بالإعدام، لارتكابها جريمة قتل بحق زوجها عندما تحققت من خيانته الزوجية. ومن جانب آخر كان عتبة صالحة للدّخول إلى عوالم السّجون بتفاصيلها المكانيّة والزمانيّة، وما يدور فيها من توتُّرات وعوامل نفسيّة.

(هل باستطاعة الكلمات أن تكون أشدّ قسوة من الموت؟)ص45. وبدوري كقارئ فهل بالكلمات تُحلّ المشاكل والمُعضلات بالكلمات وحدها؟. بشكل طبيعي الرواية تؤشّر بكلماتها لمواطن الجمال والخلل بكافّة أشكاله في المجتمع. رواية "السّجينة والسجّان" من المدرسة الواقعية للأدب، وبتتبع بسيط لمسار الأحداث تتبيّن ثيمة الرواية ذات الطّابع الاجتماعي ببعدها الإصلاحي من خلال أفكار ناقشتها، على محمل أدبيّ بمساحة ثقافيّة حاملة للأثقال والأعباء المثقلة لدواخل الكاتب "حسن أبو هنية"، ويظهر عمق درايته الثقافيّة من خلال التعابير المفتاحيّة بدلالات مفتوحة على عوالم التأويل المُتعدّد الرُّؤى والأفكار.

*محطّ سلوكيّة. (جريمة قتل بسبب الخيانة الزوجية);

الزوجة (وداد) بنت العائلة الثريّة تقتل زوجها (عمر)، حينما ضطبته في حالة تلبّس أثناء قيامه بخيانة زوجية مع امرأة أخرى في بيت الزوجيّة، وقبص عليها، وعليها مواجهة حكم الإعدام. وبررت ارتكابها جريمة قتل زوجها بأنه كسر كبريائها.

*محطة سلوكيّة. (متلازمة ستوكهولم):

جاء حبّ السجّان (درويش) للسّجينة (وداد) بوّابة يدخل منها للانخراط في دروب قلبه يتلمّس عواطفه، مع غياب عقله وغافلًا عن مهنته الوظيفيّة في سلك الشّرطة ومتطلّباتها الانضباطيّة، عندما تعاطف من سجينته، وهو ما يطلق عليه: "متلازمة ستوكهولم" . وهي (ليست تشخيصًا نفسيًا، بل إنّها طريقة لفهم الاستجابة العاطفيّة لبعض الأشخاص تجاه الخاطف أو المعتدي. في بعض الأحيان قد يشعر الأشخاص المحتجزون أو الذين يتعرضون لسوء المعاملة بمشاعر التعاطف أو مشاعر إيجابية أخرى تجاه الخاطف، ويبدو أن هذا يحدث على مدار أيام أو أسابيع أو شهور أو سنوات) نقلًا عن ويكيبيديا.

*محطة سلوكية. (جريمة شرف):

(وكان بين المساجين رجل عظيم الجثة ... قاسي الملامح ... لم يميزه فقد مضى وقت طويل.... ولما استعرض أحد زملائه الأسماء كان هو ... نعم الآن عرف لماذا رعش عندما رأى ملامح ذلك الرجل.. هو مصطفى أبو الروس الشاب الذي فر منذ أكثر من عشر سنين مع أخته... وانقض عليه كالنمر... غرس مخالبه في عنقه وأسرع الرجال يأخذون درويش بعيداً... وسأل درويش عن تهمة مصطفى ... وأخبروه بأنه قتل زوجته ... وسأل عن اسمها ... وقالوا له : ساره ... وتصاعد غضب درويش... أصبح له الآن عند مصطفى ثأران... طعنه في شرفه وقتله لأخته. ولم يمض وقت طويل حتى أعدم مصطفى وبردت : نار درویش) ص٤٤.

*محطة سلوكية. (التسرب من المدرسة):

(أخوم ترك المدرسة مبكراً... وراح يعبث مع . الأخرى ..... شلة مجانين.... في القديم قبل موت أمه ... كانت هي الوحيدة التي تستطيع التعامل مع كل واحد فيهم.... ضربت الابن الفاز... وحرمته دخول الدار... ولم يدخلها ... حتى بعد موتها ... وسارت جنازة الأم بدون الابن الأول.)ص٤١.

*محطة سلوكية. (السرقة):

(طالما شعر درويش بأنه صورة عن ملاك حقيقي ... لكن حادثة السرقة الأولى في حياته ... جعلته يعيد التفكير ...) ص٤٥.

(كان درويش يخشى أمه كثيراً ... فهي تضربه بشدّة وتقسو عليه ومرة كسرت له ذراعه عندما سرق رغيف خبز من الفرن الآلي الجديد... كانت أمه هي السبب في أول سرقة ... رفضت أن تعطيه نقوداً ليشتري من الخبز الحديث... وفعلت كما تفعل القطة وهي تحمي صغارها وكانت الأرغفة التي تصنعها هي صغارها الضعيفة... يذكر درويش أنه رفض أن يأكل من خبز أمه ...) ص٤٢.

(وأتهمه بالسرقة... وأنقض على درويش يريد تفتيش جيوبه... ووجد منه فروشاً كثيرة ... وكمن وجد دليلاً قاطعاً صاح بأعلى صوت وبأحد نبرة : هو ذا سارقكم)ص٤٦.

محطة التساؤلات:

الأسئلة التساؤلات مثار الأجوبة بمداراتها المختلفة صحيحها وخاطئها. للأسئلة دوافعها الوجيهة للاستعلام واستجلاء الحقيقة والمعرفة. وكثيرًا ما تنشأ الأسئلة من القلق والخوف من القادم، وذلك بهدف أخذ الخيطة والحذر، أو لكشف وفضح المستور، وفي محطتنا بتتبع نماذج بسيطة من تساؤلات العمل الروائي "السّجينة والسجّان"، لأن هذه التساؤلات تفتح آفاق التأويل والتخمين والمقاصد الظاهرة والباطنة، وهي تستهدف الحياة والوجود:

*(هل يملك الإنسان كل هذه القوة من الشر فيحركها لأهوائه.. أم تملكه هي فتحركه؟).ص١٥.

*ما الذي يمنع السجان من مدح سجينته ومن التغزل؟) .ص١٥

*(هل بلغ احترامك لحقوق الآخرين تلك الدرجة البعيدة؟) .ص٢٠

*(هل تسلمني الرغبة في عدم الخضوع للموت؟) ص٢٠

*(هل يبلّغني الشعور باليأس من الحياة درجة من عدم التعقل؟) .ص٢٠.

*(هل ستظن أني سأظلّ هاربة طوال عمري؟) ص٢١

*(ما هي خطتك؟) ص٢٢.

*(لماذا يُعذَّب الإنسان وهو يرتكب جريمته؟) ص٢٥.

*(وماذا ستعملين يا وداد؟). ص٥٣.

*محطة الجمل المفتاحية:

هذه طائفة من الجمل المفتاحيّة، وهي تفتح شهيّة القراءة لأنّها تأخذ القارئ إلى عوالم السّباحة في فضاءات التأويل، وقراءة ما وراء السُطور، لعظيم دلالاتها غير العادية بكلّ المعايير، فهي وازنة بثقلها المعرفيّ المُثقل بالمعاني المُنبثقة والمُنبئة عن عمق ثقافة الكاتب ودرايته، ودليل تجربته الشخصيّة، وفيها تتجلّى رؤاه برسائله من خلال هذه التعابير:

*(نهوي ضربًا الى الأجساد الثانية، وأجسادنا أولى بالضّرب، ونفوسنا أحقّ بالتهذيب) ص٦.

*(وهل يستطيع السجّان أن يستشعر مشاعر غريبة نحو سجينة) ص٧.

*(فهو السجّان لا السّجين، وهو الحرّ الطّليق لا المأسور المُقيّد، وهو الحكومة أو هو ممثّلها، وهنّ ضدّ الحكومة، أو هن من يعملن ضدّ قوانينها) ص١١.

*(ما أجمل أن يغرس الإنسان أظافره في وجه عدوّه) ص١٣.

*(حتى في السجن توجد شمس.. أتراها تخالف شمس الخريّة شكلًا ومضمونًا) ص١٤.

*(هل تقدر شمس السّجن على إنبات النبات، وتبخير المياه، وتفتيت السُّحُب) ص١٤.

*(هل يملك الإنسان كلّ هذه القوّة من الشرّ فيُحركّها لأهوائه.. أم تملكه فتُحرّكه..!!) ص١٥.

*(ما الذي يمنع السجّان من مدح سجينه، ومن التغزُّل به..!!) ص١٥.

*(شُدّ وثاقي أيّها السجّان؛ فأنا أكثر حريّة منكَ) ص١٦.

*(من يُوفّق بين الماء والنّار؛ فيجعل الأوّل يحرق ويشتعل، ويجعل الثَّاني يُطفِئ وينساب صافيًا..!!) ص١٩.

*(درويش.. هو الشيء الوحيد الذي تغيّر، ولأنّه تغيّر؛ تغيّر معه عالم السّجن..!!) ص١٩.

*(الهروب كالموت، هذه نظريّة اكتشفتها الآن؛ إذن فالهروب والموت سيّان) ص٢١.

محطة النهاية والخاتمة:

بجولة سريعة أمكننا الإبحار إلى هذه المحطّات التربويّة الهادفة في رواية "السجينة والسجان"، بروعة تأشيرها إلى مواطن الخلل، والزوايا السوداء في الجانب الاجتماعي الآخر، المهول والمُروّع بتناقضاته المُربكة، والتي بحاجة لتظافر جهود قادة الرأي والفكر والإصلاح لما فيه مجتمعاتهم، حتّى تنعُم بالسلام والسِّلم الاجتماعيّ، وزرع الطمأنينة في النفوس من أجل حياة هادئة مليئة بالحبّ والودّ.

وسواء اختلفنا مع الكاتب "حسن أبو هنية" أو اتفقنا، سيبقى عمله الروائي مُشرعًا للقراءة والدّراسات المُنصفة، ومشروعًا بأبعاد فكريّة أخذ على عاتقه فكرة النقد الاجتماعيّ.

__ا ٢٠/ ١٠/ 2024