السبت، 13 أبريل 2024

نص طويل لم يكتمل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلَّما حانتْ اِلتفاتة عفوَّية بطرَف عيني، أجدها مُحدِّقة في وجهي بدا لي بتركيز شديد، لَفَت اِنْتباهي؛ فتصطدم نظراتي بنظرات عينيْها الواسعتيْن ترسم خُطوطهما الكُحلة السَّوداء، والمَسْكَرة التي جعلت الأهداب منتصبة كحُرَّاس على أُهبَة الاِسْتعداد؛ للاِنْقضاض على أيِّ مُتهوِّر تُسوِّل له وساوسه اِقْتحام المكان المُحرَّم؛ فزادهتهما اتِّساعًا على اتِّساع مُشجِّعٍ؛ لتبادل النَّظرات البريئة سفيرة القُلوب والأشواق، وإيصال الرَّسائل المُشفَّرة بأمان.

طبيعة التراجُع مُتلازمتي المُحرجة في مواقف كثيرة، أقرب إلى حالة الطُّفولة الجاهلة بتحليل كلِّ نظرة على حِدَة، لا أقصد الهزيمة بذاتها المُرَّة والكريهة إلى نفسي، لا أدري على وجه الدقَّة لماذا لا أُطيق الانهزام كُليًّا، تعلَّمت التراجُع التكتيكيِّ، كالصيَّاد الماهر يحتال بوسائله العديدة، ليظفر بفريسته.

وحتَّى لا يفهمني أحد خطأً، ويلجأ لتأويله على طريقته كيفما يشاء..! بكلِّ المعايير لا أحتمل هذا، حتَّى وإن كنتُ لا أعرف ما في قرارة نفوسهم. فإذا كانت الهزيمة بهذا الهَوْل على مُواطِن فقير مثلي، فكيف بقادة الجُيوش الجرَّارة المُهيَّأة للدِّفاع عن الوطن؟.

لا أظُنُّ ذلك إلَّا من بعض الحَسَدَة، الذين يرْقُبونني؛ لتصيُّد هَفَواتي.. يا إلهي ..! كيف تركوا شؤونهم وخاصَّة حياتهم، ليصرفوا كامل طاقتهم في سبيلي، ويملؤوا ساحتي بأشباحهم المُتخفِّية كالمُخبرين المُتصيِّدين لكلِّ حركة أتحرَّكها، أو كلمة يَبْنُون عليها آمالًا، وقُصور أحلامهم المريضة، شعور بالاِضْطهاد مُسَيْطر على دَوَاخلي، لا بل ثِقَلَهم على نفسي كجيوش اِحْتلال؛ اِسْتباح ساحاتي بلا رحمة، واِسْتوطنها بشكلٍ دائم.

لا أدري على وجه الحقيقة، ولم أُحدِّد مَوْقفي منهم جميعًا، ولم أعمل فرزًا لتحييد الأصدقاء العاديِّين، من غيرهم من الأصدقاء الموثوقين، ألتقيهم بلا استثناء أثناء خُروجي ورُجوعي إلى البيت، وفي السُّوق والمقهى والحديقة، معظم ساعات نهاري أقضيها خارجًا، محاوِلًا قطع حالة الوحدة القاتلة، وفي الحركة الدَّائمة على مدار اليوم، تُيسِّر لي سبيل النَّوم، وقتل هواجس قلق اللَّيل المُخيفة، عندما تأخذني بعيدًا وُصولًا إلى حَوافِّ الكُفر، أُشفِقُ على شيْطاني الذي زهق منّي، وهو يجلسُ مُستمعًا مُنصِتًا لإمْلاءاتي الجديدة على مسامعه، وغير المعروفة لديْه سابقًا.

شكوكي لا حدَّ لها..! مُعدَّلاتها اِرْتقت حدًّا لا يُطاق أبدًا، في الواقع أنَّني لم أُخبِر أحدًا بأيِّ شيء يفتح بابًا، أو منفَذًا سيكون مدخلًا سهلًا للنَّفاذ، للحقيقة المُستقِرّة في قلبي وعقلي، فلو امتلكوا الإمكانات العلميَّة المُتقدِّمة الحاليَّة، ربَّما سيُمكِّنهم من اِستغلال ثَرْوتي ونصيبي من الخوف والقهر؛ ولبَدَوْتُ ضعيفًا أمامهم؛ يقتادونني كطفلٍ مُسالمٍ لا يُقاوم.

إذا زالت الأقنعة عن وجهي، والأغطية المُزيَّفة. جازمًا أعتقد أنَّ الاِنكشاف للآخرين لا يقلُّ درجة عن الموْت المشؤومِ بشَمَاتَةٍ. لم أُخبِر أحدًا بطبيعة مخاوفي، وشُكوكي حِيال أيَّة نظرة أو اِبْتسامة ألتقطها من أيِّ شخص يُقابلني، أو تقع عَيْني عليه، حتَّى وإن كان الأمر بطريق الصُّدفة.

الخوف ينهش قلبي يكاد يلتهمه، ويقتلني عندما أسمعُ ممَّن يُطلقون عليَّ صفة جيدة: "شكَّاك" التي ستُضاف إلى سِجِلِّي المليء بالصِّفات والألقاب. حقيقة وبدو لفٍّ ودوَران، أعجَبُ من مهارتهم في اِبْتكار هذه الأشياء عنِّي، أحسدهم على ذاكرتهم السيَّالة بمخزونات هائلة من النُّكات والهَمْبَكه على الآخرين،  ولن أُذيع سِرًّا إذا وصفتهم، ولن أبْخَل.. ولن أخجَل؛ إذا أخبرتُ جُمهوري بوصفي لهم: "بأنَّهم مُبدعون".

في مرَّات عديدة ينقُل لي أحفادي ما قيل ويُقال عنِّي في الحارة من جميع الفِئات الاجتماعيَّة بلا استثناء، ولا يتورَّعون عن قذفي كلَّ يوم بحكاية جديدة لا أساس لها من الصَحَّة، ولم أسمع بها من قبل رغم أنَّني صاحبها كما يزعمون.

ذكاء الأحفاد وقَّاد بلمحاتهم وتلميحاتهم، لم يخطُر ببالي ما يتمتّعون به من قُدرات بالتنبُّؤ؛ بحيث يتوقَّعون ما سيقالُ مُستقبَلً عنِّي، عندما تبيَّن فيما بعد صدق حدسهم، ثمَّ ينخرطون في نوبات من الفرح والمرح والقهقهة، كأنَّهم ينتظرون هذه اللَّحظة؛ لإفراغ شُحناتهم بمُداعبتي بل بمُشاكستي، لعلمهم يقينًا بسروري بهم واِحْتفائي بفرحهم.

أمَّا قصة بأنَّني كلَّ يوم أحرقُ ما كتبته بالأمس، وتعبت في التفكير بما استهلكتُ من الوقت والصحَّة والورق والأقلام، جميعها تذهب هباء منثورًا.

قاتل الله من أخبرهم بهذه الأكذوبة الحاقدة، التي اِخْتلقوها من أوهام بنات أفكارهم المريضة، ولا أساس لها على الإطلاق، ببساطة شديدة لأنَّها لم تحدُث أصلًا. برأيي أنَّ جُموح خيالاتهم الواهمة وسوء الظنِّ، لا أستبعدُ أنَّهم مُكلَّفون بمُراقبتي، وعلى الأغلب تطوُّعهم ومن دون تكليف من أيَّة جهة أمنيَّة، شعوري الغالب بكراهيَّتهم لي، وشُعورهم المُوارب على الأقلِّ بعدم الترحيب بوجودي في نفس الحارة التي تجمعنا. شعور الكراهيَّة يتخطَّى كلَّ التقييمات، لعدم اِسْتطاعة أيًّا منَّا توصيفه بشكلٍ دقيق.

لا أشكُّ إلَّا في جارتنا التي ما فتئت ترمي بسهامها إلى قلبي غير المُستجيب، ثُلوجه القطبيَّة لا تروق لها. هي في وادٍ وأنا في وادٍ، إنَّهما مُتباعدان كبُعد المشرقين، سياسة القلوب لا ضوابط لها كجموح الخيول في فضاءات الحرية في البراري الشَّاسعة.

 تذكَّرتُ أثناء تململي في جلستي على المقعد كمن يتهيَّأ للقيام، والسَّائق مُنهمك في ثرثرته بكلام لا يليقُ بتلك المرأة المسكينة. ليتها ماتت من فَوْرها..! ليتني لم أتواجد في المكان الخطأ، لأُجبَر أن أسمَع مثل هذا (الشُّوفير) يتكلَّم بحقِّها كلامًا ساقطًا ناضِحًا بالقَرَف، ولا أظنُّها إلَّا شريفةً وبريئةً ممَّا يقول. ما يحزُّ بنفسي أنَّني أضعف من الانتصار لها، ولو بكلمة واحدة أمام غضب هذا الثَّوْر الهائج. كأنَّه في مُباراة دوليَّة لأقبح وأسوأ العبارات.

البنتُ تململ تُوازن جلستها، بطرف عيني لاحظتُ حركتها، هل أُصيبت بغريزة القطيع..! أو داء التقليد لحركاتي دون فاصل زمنيٍّ، ولا حاولت إخفاء حركتها كي لا ألاحظها، شعرتُ بإحراجها؛ عندما التقطت نظرتي الخاطفة من طرف عيني.

أوه..! لا مجال لنفي شُكوكي بها، أثناء عودتي إلى البيت، وتجوالي عبر الشَّوارع التي مررتُ بها؛ بأنَّها مُكلَّفة من جهة ما بمُتابعتي، بنفسي لو أعلم ما الذي ستكبته في تقريرها، أو ما ستقوله لو كان شفاهيًّا. كنتُ مُدرِكًا لخُطواتها خلفي، عندها توقَّفتُ أمام واجهة زُجاجيَّة لامعة لأحد محلَّات الملابس، مُتكِّئًا على جذع شجرة تقف وسط رصيف المُشاة، لم أفطن إلَّا أنَّها تُسنِدُ كتفها على يمين الجذع الضَّخم الأسطوانيُّ الشَّكل. تقريبًا يُعادل حجم مُحيط برميل الماء الكبير.

تشتَّت تركيزي بمُتابعة واستعراض الملابس من خلف الزُّجاج المُتلألئ بأضواء (السُّبوتات) المُلوَّنة، وأخرى تومض دوريًّا، أصوات مولدَّات الكهرباء تصمُّ الأذان. أصوات العابرين تختلط بتمازج عجيب لارتفاع وتيرتها، هنا تصعُبُ مُهمَّة المُخبرين، ويجعلهم عاجزين عن فرز الكلام المنتقد لأداء الدولة في حالة الحرب الطَّويلة.

تنحنت كأنَّها تُنظِّف حُنجرتها من البلغم المُتجمِّع بفعل سكوتها لساعات دون أن تُكلِّم أحدًا. سمعتُها بعد أن تهيأت واستعدَّت:

-"مساء الخير أستاذ. منذ زمان أتحيَّن الفُرصة للقائك والكلام معاك، سعيدة بكَ أستاذ".

رفعتُ حاجبي الأيمن، بينما يدي اليُسرى امتدَّت لتلبية رغبة الحكِّ لفروة رأسي، كأنَّها تُعينني على تذكُّر أو استرجاع ذكرى ضائعة في مجاهل ذاكرتي. أوه.. هذا الوجه غير غريب عنِّي أبدًا أجزمُ بذلك، مُؤكَّد أنَّني رأيته ذات مرَّة. لكن أين ومتى..! هنا المُعضلة بنسيان الأسماء مع حفظ الملامح جميعها أو بعضها.