الثلاثاء، 19 مايو 2020

صالون البرج /بقلم محمذ الغانم ابو غانم

*صالون البُرج*
خربشات ابو غانم 
______________

*ها قد بدأنا نتعافى ونستفيق من حلم كورونا رويدا ً رويداً ؛ وبتنا ننتظر عند كل مساء التقرير اليومي وما  سيصدر عنه من تعليمات لليوم الذي يليه ...*

*لقد عشنا الأزمة بكل تفاصيلها في بلد شهد له الجميع بسلاسة وحسن الأداء ...* 

*البارحة ومع بوادر الانفراج وبعد غياب  تجاوز الشهرين ؛ زرت صديقي الروائي والناقد الأديب محمد فتحي المقداد أبا هاشم في صالونه الخاص بالحلاقة الرجّالية وهو الذي أبدع في الأسابيع العشرة المنقضية وبأسلوبه المبتكر ؛ ومن خلال قصصه الكورانية الجذّابة شبه اليومية والتي تحاكي الواقع بأسلوب نقدي فريد امتص الواقع بدعابة ربطه بالماضي مع ولادة الفكرة المتجددة لتخرج بثوب جديد ...*

*التقيته البارحة في برجه المتواضع والذي بات مهوى أفئدة عشّاق الكلمة الواعية والهادفة في محيطه من لاجئين وأردنيين ؛ ذاك المكان الذي لايعكس إلّا اليسير من قدرة صاحبة الهائلة وفطنته وإبداعه في فنون أدبية عدة ؛ وهو القامة الأدبية الفذّة القادمة مع فلول الهاربين اللاجئين من حروب الرِدّة وجحيم الموت الزؤام وفوضى الحياة وانسداد الأفق ؛ بعد أن أدار ظهره مُكرهاً لمسقط رأسه فوق أوابد بصرى الشام النفيسة بأعمدتها العملاقة ومدرجها الساحر وشوارعها الطويلة وميادينها وساحاتها الجميلة المرصوفة جميعها بالحجارة البازلتية السوداء ، ومساجدها الموغلة بالقدم كمبرك الناقة والعمري والحمامات وبٍرك الماء ؛ تلك المدينة التي توالت عليها حضارات وأقوام ووطأ ثراها قبل نبوته سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ويبقى أديبنا المقدام من مكان لجوئه يُيمّم وجهه نحو العرين الذي غادره مع كل صلاة وفي كل دعاء ؛ لا بل مع كل صباح ومساء ؛ وتجده يستنهض الهمم ويحاول بالوعي والإيمان وكلماته الصادقة أن يكفكف مابقي من دموع على أمل ذرفها في لحظات الفرح والعودة واللقاء القريب إن شاء الله ...*

*إن برج صديقنا وإن بدا صالوناً للحلاقة يكسب - من خلال أصابعه الذهبية وحسّه المُرهف ومباضعه وأدواته البسيطة - القليل من المال - يساعده على نوائب الدهر وقهر اللجوء ودفع الأجور والفواتير ؛ إلّا أن هذا الصالون يحاكي شيئاً ما وبصورة مُصغّرة صالونات الأدب الشهيرة كصالون عباس محمود العقّاد وصالون ميّ زيادة و صالون ثُريّا الحافظ وما أن تَدخل إليه حتى تواجهك عشرات وربما مئات الكتب المعلقة بالجدران ؛ تلامس السقف وعلى الطاولات والطربيزات وجميعها تُعنى بالفكر والفنون  والأدب ...*

*البارحة وعلى حين غِرّة دفعني فضولي الخروج الفوري من برج صديقي لأتابع بنظراتي ما لفت انتباهي وأثار فضولي حيث مرَّ من أمامنا رجلان وامرأة؛ وكان عليَّ أن أوثق في ذاكرتي قصة هؤلاء والتي مرّ بي خبرها من أيام سبقت أيام  كورونا ...*

*لِمَ نعجب من كورونا وبين ظهرانينا من البشر من هو أخطر وأسوأ آلاف المرات من كورونا ...؟؟*

*نعود للرجلين والمرأة وليتهم كذلك فهما ذكران و أنثى !!!!* 

*لقد كانت تتقدمهما بالمسير بفارق أمتار  يتبعها زوجها الحالي ؛ وأما من كان في ذيل الرتل فهو طليقها الأول ويبدو أن هناك حالة من التوأمة والتوافق وإن تفرقوا بعض الشيء أثناء المسير ؛ وها هم استقلوا سيارة أجرة واحدة إلى وجهة أجهلها والأغرب أن سكنهما متلاصق ...*

*لم أعد أفهم طبيعة بعض البشر وكيف لهم الاستمرار والعيش معاً مع غياب الغيرة؟! وتذكرت غيرة الجمّل الشديدة والذئب وبعض الحيوانات الأخرى لكني عدت وتذكرت الخنزير ...*

*يبدو أن برج صديقي العاجيّ يستفزني ويعيد لذاكرتي بعض ملفاتي العتيقة بالمحاماة ؛ ومنها تلك المماثلة لِمَن هم مرّوا من أمامنا البارحة ، وكيف لي أن أنسى من قام وأوصى زميله بالسجن لحظة خروجه بأن يزور زوجته وأولاده ويطمئن على أحوالهم؟! وكيف كان المُفرج عنه وفيّاً وقام بالزيّارة لا بل أتبعها بزيارات تحوّلت إلى إقامة؟! وما أن خرج صاحب البيت من سجنه حتى وجد أمامه زيادة طارئة في تعداد أفراد أسرته ؛ وكذلك كيف لي أن أنسى حادثة الغانية وطفلتها التي تجهل نسبها وما أن أوقعت خليلها الأخير في شِركها حتى اشترطت للاقتران به أن يقوم بتسجيل ابنتها البالغة ست سنوات على اسمه وكان لها ذلك ؛ وما بين ليلة وضحاها فاق المُغفَّل ووجد ابنة جديدة تحمل اسمه ونسبه وتنضم لقائمة أولاده من زوجته الأولى ؛ وما أن وقع الفأس بالرأس -وراحت السكرة وجاءت الفكرة- حتى بدأت معارك نفي النسب القضائية والتي استمرت لسنوات ؛ ولا أنسى حينها مسيرة تحليل الدم الخاص والمُكْلِف مادياً والذي تعذر القيام به أنذاك إلّا بمخابر خاصة في الهند ؛ وهذه حادثة أخرى من حوادث مرّت خلال مسيرتنا الطويلة بالمحاماة ...*

*شكراً لكورونا لأنها علّمتنا بأن الفوضى طريق للرذيلة وإضعاف للشعور بالغيرة ...*

*شكرا لصديقي صاحب صالون البرج في إربد- عروس الشمال - وندعو الله أن يكون صالونه الأدبي الجديد في أم المدائن دمشق الجريحة بعد تحريرها أو على أحد أبراج مدرج بصرى الشام الشهير - مسقط رأسه ومهوى فؤاده وما على الله بعزيز ...*

*#خربشات_أبو_غانم*

قراءة في زمكاريات د. حسين المحادين

زمكاريات .د- حسين محادين

بقلم – محمد فتحي المقداد

إنها جدليّة الحياة ( المكان + الزمان + الإنسان).

أولا- «غلال الزمن»

النص الأوّل:

)أيها الماضي الأثير عليهم.. كيف استطعت أن تُفتتنا حاضرًا رغم موتك من قرون..؟).

النص الثاني:

(الحياة ثلاثة أبعاد – ماض وحاضر ومستقبل -نحن العرب المسلمين، «وتحديدً بعد وفاة الرسول عليه السلام»، نعيش واحدًا ونصفًا من الأبعاد الثلاثة:

- الأول: ماضٍ مختلفين عليه ونتقاتل باسمه للآن.

- ثانيًا : ونهيش نصف الحاضر لأننا من الدول النامية فقط مقارنة بالأمم المتقدمة.

- الثالث: بُعد المستقبل. غائب عنّا تمامًا أفرادًا ومؤسسات .. باجتهادي.

ويردف قائلًا: "أشدّ شعر الليل نحو وهج الصباح يوميًّا .. صباحاتكم أطيار ضوء وغابات تفاؤل وعطاء".

ثانيا- «دالية المكان»

النص الأول:

(هو الأفق .. البحر الحي في الأغوار، وتحديدا من على حِرام الألوان المتفائلة ب "يمان" وعلى مقربة من النار التي تدفئ حواس الجسد، و أنقتس مدينة الكرك القابعة على المرتفع حيث الاحتفاء بالطفولة الموهوبة حضورًا، شقاوات وبراءة تعابير).ص16

ويردف متابعا: "الأبواب مفتتح النصوص و التوقيع..، تمامًا مثل الانطباع الأول عن الأشخاص". ص 16

النص الثاني:

(بالأخضر و الزهر تتخلى النوافذ عن صمتها..، وتُعبّر بلغة الضوء عن عمق مشاعرها). ص17

ويتابع بقوله: "للأبواب المؤصدة على ما خلفها من، حب.. فضول ذكريات .. شيطنات أو حتى مؤامرات.. أوليست متواطئة معنا بصمتها؟". ص29

ثالثا - «دالية الفكرة»

• «أيها القابعون في أسئلة عمري هلّا نهضتم ..، كي تنطلق أنفاسي؟». ص46

• «ما أصدق الآه..، تمامًا كبكاء الربابة وجعًا من عازفها..، تُرى كيف نُمزّك آهاتنا معًا هذه الأيام». ص47

• «أعلن أمامكم: من حقّ الألوان أن تغترّ.. كل منها حسب قدرته على إدهاشنا.. ولكل منا حسب ذوقه». ص50

• »كلما ذبل موعد..أينعت بروحي غابة مواعيد..، لذا لن أحزن عليك بعد». ص 53

• «أنا الإنسان لي شموسي في مطلع كل نهار، ولكم ما شئتم من الظلمات أيها الأعداء..، وصباحاتنا النهوض». ص57

• «أنا بالضدّ من دكتاتورية الأبيض، أنا منحاز لقيم الحياة بكل ألوانها، أي إليك يا دنياي». ص68

• "قالت وقلت.. ومالم نقله هو المشتهى، برأيكم ما هوالمسكوت عنه».ص 81

وأختم بقوله: «في التفاصيل يكمن الضياع..، وفي الاختصار تتجلى الغناة». ص80


كتب إبراهيم محسن المقداد

كنّا عايشين..!! 

بقلم - إبراهيم محسن المقداد


ناهز عمره الخمسين وهو يتابع عمله في صالون الحلاقة.. ويكتب ويقرأ ما تيسّر له وقت خلوّ كرسي الحلاقة من الزبون.. موهبة أدبية مدفونة في تراب سورية المغتصبة.. شأنه شأن الآلاف من شباب هذا الوطن المخطوف..
و ما إن اضطر إلى اللجوء خارج المجال الجوي لطائرات البراميل، و خلال ثلاث سنوات، أو أقل .. أصبح ذلك الروائي الأديب..وبدأت أعماله تٌطبع و تنتشر...هو مثال ...محمد فتحي المقداد
وذلك الفنان الشامل الرسام المبدع الشاعر...نفس القصة ونفس الوجع..عماد الرسام فنان تشكيلي
و ذاك الشاب الذكي المجتهد الذي أجزم أنه مشروع عالم فيزياء بدأ يُشار إليه بالبنان..والذي تتزاحم وتتنافس جامعات وأحزاب ألمانيا على كسبه من خلال منح دراسية غاية في الإغراء Mohamad Ahmad Alissa
هؤلاء بعض من شباب بصرى و مبدعيها الذين اضطروا للجوء خارج أسوار الوطن السجن..فأبدعوا.
و غيرهم كثير.
هؤلاء من نفخر بهم...و نتألم لغيرهم لأنهم لم يحظوا بفرصة في الوطن المختطف منذ عقود.


إضاءة على لوحة (النجمة) للفنان التشكيلي عماد المقداد

 

 

إضاءة على لوحة (النجمة)

للفنان التشكيلي عماد المقداد

 

 

بقلم الروائي – محمد فتحي المقداد

 

 

للألوان واستخداماتها فلسفتها الخاصّة عند معظم الفنّانين التشيكليّين، لتشكيل ثقافة بصريّة لدى المتلقّي، ولإحداث صدمة الدّاهشة من النظرة الأولى، آخِذةً به إلى عوالم بعيدة عن الواقع ساحرة بأفكارها؛ في محاولة لجرّه إلى رحاب اللّوحة؛ ليكون جزءًا من نسيجها وبُنيتها، وهي تكتسب شرعيّتها وألقها من فرط إعجابه، فتتكرّس في ذهنه بأنّها باهرة خالدة.

وعند عماد المقداد يتخّذ اللّون البنّي وتدرّجاته الترابيّة رؤية عميقة لبدء الخلق ونهايتهم، فمن أديم هذه الأرض نبتت هذه الأجساد، وإليها تعود لتفنى ملامحها الماديّة وهي تتّحلّل وتتفسّخ لتعود ترابًا وفق ترتيباته ذرّات صغيرة لا تكاد بعضها تُرى بالعين المجرّدة.

فكانت لوحة (النّجمة) مُتدرّجة بألوانها تقاربًا ما بين البُنيّ العديدة والأسود والأبيض. يتجلى الكون هنا بليله ونهاره، وهما يتعاقبان على أرضه العامرة بالإنسان ضمن نواميس أزليّة لا تحيد عن مُهمّتها التي خُلقت من أجلها لاستدامة الحياة عليها.

وتشكيلات خطوطها الأبرز هي: دائرة تتوسّط أعلى اللّوحة وفيها يتجلّى وجه كالقمر في ليلة بدره, لون العينان الأزرق بصغر حجم العين فقد احتلّ مساحة أزرق الكون أجمع (السماء و البحر)، وكأن الفنّان يرسم تشابيه علم البديع باللّون؛ فلم يكن للسماء والبحر وجود في اللوحة، بل استعاض عنهما بلون العينيّن.. ونُقاط بلا حروف كمرتكزات بنائيّة لفكرة الهجائية باحتوائها العلوم كافّة.. يا لها من ذاكرة مُستوطنة دواخل الفنّان عماد في لا وعيه..!!

والدائرة تَشِي في الأذن بأنها قرص الشمس، والقمر، بل الأشمل والأوضح بأنّها الكرة الأرضيّة تسبح في مداراتها من الأشكال الهندسيّة المربّعات والمستطيلات والمثلثات وخطوط مستقيمة ومتوازية، وهناك أشكال موميائيّة متحجّرة على ذاتها، كأنّها مهمومة بوجودها القسري على وجه التراب أو تحته، والحالة الأوضح هي ما يتّضح في أماكن من اللّوحة على أنّها خلايا النحل المعروف بجديّته في الحياة ضمن تجمّعات تكوينيّة دالّة على الجد والأمل والتفاؤل. وهي صفات الروائية عنان محروس المتأرجحة بين الجد والبساطة في حياتها.

فضاءات اللوحة كثيرة ربّما وصل للمتأمّل مثلي بعض ما أرادت أن يصل لي، وخفي عن إدراكي ما استعصى فيما تخفّى وراء فكرتها، أدركتُ بعضًا من فضاء، وضاعت منّي عدّة فضاءات.

 

ملاحظة : (لوحة النجمة قدمها الفنان عماد المقداد للروائيّة عنان محروس في حفل إشهار روايتها خُلق إنسانًا في مركز الحسين الثقافي في مدينة عمّان ــا 30/3/ 2019)

 

عمّان – الأردن

31\3\2019

 


لقاء الروائي محمد فتحي المقداد مع جريدة الجزيرة السعودية

 

 

 

 

لقاء الروائي محمد فتحي المقداد / جريدة الجزيرة السعودية

1-   تلقي القضايا بردائها أمام القاصين والروائيين في سعادة وحبور على شكل دمقسٍ مطرزٍ بألوان مشكلة فتتردد أصوات فرح وإيقاع راقص وحينا تلقي القضايا نفسها على هيئة أسمال بالية وشفاه يابسة ومدية حادة وجروح وخيبات جريمة وفقر وبؤس. وفي المقابل ينصهر حد الامتزاج القاص والروائي بنفسه وأداوته على بلاطها بحروريته سالكًا طرقها وفجاجها بكل برود لينسج عوالمها الخيالية غازيًا بأخيلته مبشرًا بميلاد ورقة مخصبة هنا وهناك فما شكل هذا المولود وأين يجب أن يعيش وينحاز هذا الجنس المخلَّق؟

 

ج1- لا كتابة بلا فكرة تتكئ على قضية، وربما تتخذ منها عكازًا لبلوغ مُرادها إن تعسّرت طريقها.

وكلّ نص أدبيّ يحمل رسالة كاتبه، كما أنه رسالة بحدّ ذاته للقرّاء والمتابعين المتفاوتين في فهم ما وراء المقروء؛ من هنا يأتي تقييمهم لجودة أو رداءة النصّ، وهم على هذه الحالة فقد دخلوا في شراكة معلنة في كثير من جوانبها مع الكاتب بالدفاع أو معاداة المادة المقروءة.

فالفكرة عندما تراود ذهن الكاتب، وتحتلّ فضاء مكانيّا وزمانيّا تبدأ تنشر أذرعتها وأشرعتها بإلحاح وتحريق مستمرّ للخروج من رحم دماغه إلى فضاء رحب يتجسّد في أحاديث ومسامرات المجالس، وتستوطن صفحات الورق إلى الأبد ما دامت هناك حياة.

 

2-   يلقي القاصون والروائيون اللوم على النقاد بعدم خلق مشهد سردي  تشرئب له الأعناق دهشة وعلى منابر الصحافة الثقافية لعدم إفساح المساحات الرحبة لإتمام موائد أعراسهم وأتراحهم القصصية .. ومتى يتسنى لها التشريح تكون مصبوغة غالبًا برؤية انطباعية يتحكم بشكلها مزاجية الناقد ومدى علاقته بخالق النص ما جعل بوصلة المشهد متذبذبة بتحريك مؤشر الاتهام نحو المبدع الذي يشدها بدوره لتؤشر من جديد على الناقد ورأيه الهامد الذي لم يجاريه والذي بدوره هو أيضًا يحرك إصبع الاتهام على منابر الصّحافة الثقافية والمبدع نفسه. هنا نقول من المتهم ومن الضحية؟ وهل هناك فرصه لخلق مناخ صحو دائم تسوقه رياح المواسم القصصية وتتحد معه سحابة المبدع وومضة الناقد البراقة الراعدة لتنبت النصوص المحملة بالطلوع النظرة فوق أرضية صحافية خصبة؟ وفي المقابل هل ثمة نصوص تجاوزت حس الناقد وغلبة مكانته النقدية؟

 

ج2- إبداع بلا حدود.. بحاجة لنقد بلا حدود، في بعض الأحيان تتّسع الهوّة بين الأدب والنّاقد، إذا كانا على طرفي نقيض، فالمزاج والأديولوجيا يُعزى لهما حدوث الفجوة الواسعة، الأمر الذي تنعكس آثاره على مسيرة الأدب بشكل عام، حينما يُقصّر النّقاد عن الاضطلاع بواجبهم عن مواكبة الحالة الأدبية، قطار الأدب يسير والنقد ما زال في محطّة الانطلاق ينتظر.

النقد الحقيقي يفتح آفاق الإبداع على فضاءات رحبة من التأمّل والتفكير، لتنتج نصوصًا راقية بذائقتها الفكرية المستندة إلى تراث ومخزون فكريّ ضارب بأطنابه في أعماق ووجدان الكاتب.

وبكلّ تأكيد أن جميع الإبداعات فهي بشرية الصبغة، تصيب وتخطئ، تسمو وتهبط، تتلألآ وتخفت. هذه حال كل مدارات التفكير البشري، والأديب والناقد تنسحب عليهم مؤثّرات يوميّاتهم المعاشيّة؛ فتصطبغ مخرجات تفكيرهم بملوّنات معايشاتهم، فليس هناك إنسان مبدع في جميع شؤونه الفكرية، الأمور تتقلب ما بين صعود وهبوط.

 

 

3-   تلويح المنصات المنبرية في الأندية الأدبية والمراكز الثقافية أو الصوالين للمبدعين بدعوة إحياء أماسي سردية وموافقات رؤسائها على تبني طباعة الإصدارات وما يوزع من جوائز للمبدعين أهذه الفرص الثلاث هي كل ما يغري القاص إن كان لا فما النعم؟ وإن كان نعم فما أكثر ما يغريه ويعمل على ضمان استمرارية تسييل لعابات المحبرة وتشجعه على مزيدٍ من اندفاق الحرف؟ أم أن تسنُّم تلكم الثلاث لإكليلية نصوصه مجرد صدفة ألقت بها جداول دسر مرساته الأبجدية؟

 

ج3- كل فكرة تحمل رسالتها، وبحاجة لمنبر لإيصال رسالتها وتبليغها، وهنا تتبدّى العلاقة الجدليّة المعقّدة ما بين المثقف وبين رئيس المنصة والمنتدى والمسرح، فهو بحاجة حقيقيّة للمثقف الذي هو مادة فعالياته ليرتقي للأمام، وبين الانطلاق والشهرة يسعى كل طرف للآخر، لتحقيق المصالح المتشابكة المتداخلة بخيوط متشابكة يصعب تفكيكها لفهم كُنهها.

 

 

4-   في القصة ظل لهذا الجنس غالبية القاصين  حانين رقاب الوفاء بكل صبر الشهور والسنين ملبين وطائفين واقفين وسائرين فرادًى وجماعات أمام أبواب سردهم يطرقون الأبواب والشبابيك والأرصفة لمصافحة واحتضان من في الدار من بشر وما يعونه ويعينهم في مآلهم ومعاشهم دون أن يرددون بيتًا شعريًا حتى ينسجون من ملكات مشاعرهم قصيدة وديوانًا أو دون أن يدلفون من أبواب الرواية والسرد الأكثر جدلًا. أكل هذا الوفاء مهرًا لعيني حبيبتهم وعزيزتهم القصة أم عزَّ عليهم الشعر وصعبت عليهم الرواية ولم تسعفهم قراءاتهم التي يقرؤونها؟ ولا ذاكرتهم الشاعرية والسردية للدنوف من هذين البابين؟

 

ج4- كثيرًا ما تحول ظروف الحياة اليوميّة وما يكتنفها من هموم ومُنغّصات بين الكاتب وبين تفكيره، الانطلاق في التفكير الإبداعي والتأمّلي بحاجة لمساحات واسعة من التفرّغ للفكرة حتى تنضج، وتكون ضمن دائرة الانصباب على بياض الصفحات.

وبأيّ صيغة جاءت الكتابة فالأهم فيها التعبير عن روح الفكرة وأبعادها بجلاء تام، وما رافقها من اعتلاجات النّفس وإرهاصات صاحبت البداية والميلاد.

 

 

5-   لاشك بأن ذائقة القاصين أوالروائيين حوت على قائمة آسرة تضم أسماء عديدة من القاصين والقاصات والروائيين والروائيات سواء على المستوى العالمي أو العربي أو المحلي وعناوين براقة لإصدارات تركت بصمة شكلت هذه الذائقة وأثرت تجربة مبدعتنا وغيره، فمن كان صاحب الكعب المعلى ومعينه الزاخر الساحر الذين بدأت معهم ومضوا معك؟ وما هي رسالتك لطلائع القاصين والروائيين أوقدي قبس ضوئك شاعلاً للقوم الحالمين من بعدك وأنت تعبدين لهم الطريق وتقتلعين الحجارة والأحجار أمام مشوارهم الذي نواته بدأت تتشكل وأخذت بالنمو؟

 

ج5- حنين القراءة يستعر في قلبي إذا ما انقطعت عن الكتاب لفترة حتى ولو كانت فصيرة، فالقراءة لديّ ليست هواية أو ترفًا، بل حاجة أساسية كالهواء والماء والطعام، غذاء العقل ومستقرّ لروحي تطمئن في رحاب كتاب، تهفو نفسي لقراءته، فتتوسع مداركي لأمور ربّما تكون غائبة عن ذهني أو حاضرة في جانب من جوانبها.

فالكتابة تنطلق من مخزونات قرائيْة مختزنة في مستودعات الذاكرة، تستحضرها حين يستدعي الأمر، والعمل على الاستعانة بها كشاهد أو دليل آو العمل على تطويرها بقالب جديد تمام.

وفي تجربتي كان لقصص جدتي الأثر الكبير في حبّي للقصص. وأول كتاب اشتريته في حياتي. كان كتاب (دليلة والزيبق) وفيه من التشويق بمغامرات علي الزيبق. وأول رواية قرأتها في حياتي (عيادة في الريف) للدكتور عبدالسلام العجيلي، إلى وصلت ساحات نحيب محفوظ، وغسان كنفاني وحنا مينة، وفي الصف التاسع كان مقررا دراسيًّا رواية، (الموسيقي الأعمى) لديستوفسكي. وفي الصف العاشر رواية (تاجر البندقية) لوليم شكسبير. وهكذا وصولا إلى ماركيز وكافكا وخيميائي باولو كويلو.. والكثير من الروايات العربية والعالمية المترجمة.

 

6-   الجميع يكتب للقرّاء نصًا قصصيًا قصيرًا ومن بينهم من يكتب ومضة بعدما ازدحم شارع الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي بمن يظن نفسه قاصًا فسطر باقتدار وبدون اقتدار وصمم صورة روحها تنطق حياة بحروفه لكن هذا السطر والصورة والروح خديج وخليع فيظن أنه صاحب إمضاء مدهش ويرتدي عباءة القصة القصيرة جدًا أنحن قاسون إن قلنا لهؤلاء ليتهم ما نطقوا وكتبوا أم أن الأرض أرضهم والفضاء فضاءهم ولهم حق ما خلقوا وحري به أن يحبو ويسير ويهرول ويركض مكتمل النمو رافعًا يافطاته ناشرًا عبيره وأريجه في شارع الإعلام الجديد؟  كاسرا التنيط القوقعي لزمرة باء عهدهم وكهل ولم تخضوضر أناملهم عن فسحة دربة للنشء أو للمواهب ذات الجدة واليفعة؟

 

ج6- ربما إذا جاز مخالفة هذا الطرح، فالتطورات غيرت من بنية الحياة بشكل عام، ولم يقتصر تأثيرها على الجانب التقني، بل انتقل إلى الحياة السياسية والاقتصادية، والجانب الاجتماعي وتفرعاته الثقافية بل هو المتأثر الأكبر بما جرى. وهذا ما يجعل اللغة متطورة متوالدة في جوانب عديدة منها ال (ق. ق. ج) و(الومضة) و(قصيدة النثر).. هذه الأنواع فرضت نفسها بقوة على الساحة الأدبية الحائرة في استيعاب مثل ذلك. ولم تتواكب حركة النقد لتقعيد هذه الألوان وإضفاء الشرعية عليها.

 

 

7-   لعل لكاتبتنا من رأي تدلي به حول المشهد الحركي للقصة السعودية والإبداعي بشكل عام ... بحكم قربك من كثير من القاصين فيها وكذلك الروائيين من خلال مشاركاتك في الملتقيات أمؤازرة يشد من سواعد هذا الحراك ويرى فيه المضي بالوجهة الصحيحة أم أنها مع من يرى أنه لا تزال ثمة عراقيل وعقبات لم تفتلذ حتى الآن غير الخداج من أطروحاتها ؟ ولنفترض جدلا بأن فن القصة قد هجرها أطيارها في السعودية أو غيرها .. وأتخم عشها وأنذرت شمسها بالأفول، وكذلك من قبلها الشعر (كمن يقول بأن هذا زمن الرواية) وأخيرًا أمن مندوحة يرجع البصر فتيًا مورقًا في سويداء دهاليز الحراك هنا وهناك ؟

 

ج7- الساحة الثقافية السعودية ليست بيداء معزولة عن ساحتها وواقعها العربي فلها خصوصيتها المحلية، ولا تستطيع التفلّت من همّها العربي، وهذا ما رأيته في رواية (شقة الحرية) و(العصفورية) و (أبو شلاخ البرمائي) للدكتور غازي القصيبيي،  وكذلك في روايات تركي الحمد، وكذلك تجربة الجيل الثاني في ميادين القصة القصيرة والرواية. وهناك أسماء لامعة أذكر منها على سبيل المثال.

*د/ محمد الحضيف له عدة روايات ومجموعات قصصية(نقطة تفتيش)، (رماد عادت به سارة)، (موضي)، (غوانتانامو).

*د/ إبراهيم الخضير (العودة إلى الأيام الأولى) ، (رحيل اليمامة)

*يوسف المحيميد (الحمام لا يطير في بريدة)، (القارورة) ،

*عبدالله بن بخيت (شارع العطايف)

*عبدالله ثابت  (الإرهابي 20)

*فالح الصغير(يمرون بالظهران). وللمتأمل في هذه العناوين تثبت آن تشابكاتها مع محيطها العربي والعالمي. جميعها تشكل مشهدًا ثقافيا وضيئًا يتكامل ويتفاعل مع مثيله خارج الجزيرة العربية. وعذرا لم تحضرني أسماءهم.

 

 

8-   بين الخيال والواقع بؤر بونية وتماسية أين يلعب إلهام المبدع في وشج تلكم السيرورة بين بعضيهما وهل الهروب للخيال مخرج لدحض الفلوت الإسقاطية أم هو التسيّد والارتكاز في رؤية القصة كما هي تخلصًا من دوامة الانفعال فيكون تدخله كالأس يشرحن بمبضعه الجرح والمكمن ببصيرة نافذة ذات حكمة ومنهجية؟

ج8- الواقع هو المناخ الخصب الذي يستقي منه أي كاتب أفكاره، والخيال يأتي من فنيات وتقنيات الكاتب لعمل مزاوجة وملافحة بينهما، ليكون منتجه الأدبي مقبولا لذائقة القراء. وفي بعض الحالات ما كان خيالا يتحول إلى واقع، كفكرة الصعود إلى القمر وهذا ما نعرفه في مجال الخيال العلمي.

 

9-   حول تجربتك القصصية وإصداراتك.. التي قدمتها للمكتبة العربية بودنا أن تحدثينا عن تلك الإصدارات منذ مخطوطك لمسوداتها لحين خروجها من دور النشر وما الجديد المتطلعة لإنتاجه هل سيحمل نفس الصفة والصيغة والميلاد وما هو حال اصداراتك الجديدة هل ستكون على نفس الوجهة أم ستسلكين الطريق إلى الرواية ؟

 

ج9- بيئتي القرائية الحثيثة أتاحت لي نوافذ شتى في مجالات الأدب، وتزامن عندي كتابة القصة قصيرة والقصيرة جدا، مع المقالة والرواية.

بداية نشر لي في بغداد كتاب (شاهد على العتمة) وهو مولودي الأدبي البكر، وهو مزيج ما بين الخاطرة والقصة القصيرة بأسلوب أدبي ممتع.

ومن ثم نشرت روايتي الأولى (دوامة الأوغاد) وبعدها كان (الطريق إلى الزعتري) وما صاحبها من مخاض عسير على مدار ثلاث سنوات. وكتاب (مقالات ملفقة) وهو عبارة عن مقالات أدبية أجمع الكتاب والنقاد على أنها أسلوب أدبي جديد غير مسبوق بهذا الشكل.

ومؤخرا انتهيت من إنجاز روايتي (فوق الأرض). وما زالت مخطوطة إلى جانب ثلاث روايات كانت بداياتي الروائية وهن على التوالي (بين بوابتين) و(تراجانا) و(دع الأزهار تتفتح).

وفي مجال القصة القصيرة أنجزت مجموعتين (زوايا دائرية) و (رؤوس مدببة). وفي مجال القصة القصيرة جدا (ق. ق. ج) أنجزت مجموعتين هما (سراب الشاخصات) و (قيل و قال).. كما في مجال الخواطر أنجزت كتابين (أقوال غير مأثورة) و (بلا مقدمات) ومجموعة أبحاث تراثية (رقص السنابل) و (الوجيز في الأمثال الحورانية) و(الكلمات المنقرضة من اللهجة الحورانية). وكتاب (جدي المقداد) حياة الصحابي الجليل المقداد بن عمر رضي الله عنه. وهناك الإعداد لمشاريع روائية قادمة ما زالت في طور البدايات.

 

 

 

10-                     هناك أشياء وقضايا ورؤى تودين التحدث عنها مبدعتنا لعل من أهمها..

 

ج 10- هموم الثقافة والمثقفين متقاربة على الساحة العربية متقاربة، الشلليّة التي تتصدر المشهد الثقافي الحكومي الرسمي المستندة إلى أديولوجيا واحدة آو مصالح مشتركة، تحاول إبعاد وتهميش المخالفين لتوجهاتها.

ضعف دعم وزارات الثقافة المعنية لدعم ابداعات الكتاب على صعيد واسع، كما أن معظم دور النشر العربية هدفها الأول والأخير المادي تسعى إليه وكثيرا مل تغمط حق الكاتب. وتضييع جهوده مما يسبب إحباطه والانكفاء على نفسه.

 

تناول من الأسئلة ماتراه مناسب .. وسنضيف أخرى متخصصة في أعمالك تتركز حول اصداراتك .. تركتها للتناول والبحث حولها معك ..

 

تكون الاجابات بحدود 1000 كلمة , ستستل الأسئلة وتحول المادة لتصريح في اجابات الضيف

 

 

 

كشف الروائي محمد المقداد ...

 

وقال .. وأوضح .. وأضاف .... الخ


كتب عن رواية الطريق إلى الزعتري (اربع دراسات)



 أربع دراسات 
عن رواية الطريق الى الزعتري
كتبها الأديب الناقد/ رائد السراحين

-        صور الحياة الاجتماعية في رواية الطريق الى الزعتري
-        الجنديان السوري والأردني دراسة مقارنة في روايةِ الطريق إلى الزعتري.
-        المثل ودلالاته غي رواية الطريق الى الزعتري.
-        دراسة فنية. في رواية الطريق الى الزعتري.

____________

(1) 
صورةُ الحياةِ الاجتماعيّةِ
في روايةِ " الطّريقِ إلى الزّعتري"


    تعتبرُ روايةُ " الطّريق إلى الزعتري" وثيقةً اجتماعيّةً لإرهاصاتِ الثّورةِ السّوريّةِ ، وشاهدًا على تخاذلِ  وتآمرِ  جيشٍ  على  ثورةِ شعبٍ  ووطنٍ ذاق ويلاتِ  القتلِ  والتّشريدِ  والتّفقيرِ منذُ سنينِ خلتْ ، فأصبحوا له أعداءً وليس أهلًا وبُناةً.

   ضمّتِ الرّوايةُ بينَ دفتَيها مشاهدَ سياسيّةَ ومُخابراتيّة وأمنيّةً عديدةً، ولستُ هنا بصددِ مناقشتِها ؛ فالحديثُ يطولُ في هذا البابِ،كما أنّه واضحٌ  للعيانِ لايختلفُ فيه اثنان ،وأنّما أردتُ أنْ أنقلَ  صورًا  اجتماعيّةً  من  حياةٍ ريفيةٍ وادعةٍ،لمْ تبقِ لها يدُ الظّلمِ والقهرِ شيئًا من عفويّتِها وبساطتِها.

    تختلفُ البيئةُ القرويّةُ الريفيّةُ  عن المدنيّةِ في نمطِ الحياةِ والعيشِ ، فمعظمُ سكّانِ هذه البيئةِ هم من  طبقةِ  الفلاحين ، الذين يهتمون بالأرضِ  وفلاحتِها وتربيةِ المواشي والحيواناتِ الأليفةِ ، ويتوزعون في  قرًى وبلداتٍ  صغيرة على مقربةٍ من المدنِ الكبيرةِ.

 ومن أنماطِ الحياةِ الرّيفيّةِ كما أوردَها المقدادُ:
- الاهتمامُ بالارضِ وزراعتِها .
  يولي هؤلاء الفلاحون الأرضَ عنايةً فائقةً ، وهي مصدرٌ لرزقِهم وأمانِهم فضّلوها على وظائفِ الدّولةِ ، وزروعها بالبطيخِ والشّمامِ  والقثّاءِ  والبامياءِ وعبّادِ الشّمسِ والزّيتونِ،وامتلأتْ  سهولُها  بجبالٍ من بيادرِ القمحِ  والشّعيرِ على  وقع  أنغامِ  أغنياتٍ  ردّدوها  بألحانٍ  مختلفةٍ  ملء  حناجرِهم ،  وهم يصافحون  السّنابلَ، وكانوا يحرسونها  ليلًا ونهارًا ، و يضعون  الفزّاعاتِ على  أطرافِها  لإيهامِ الطيورِ  والوحوشِ  بأنّها  محروسةٌ ،استغلوا كلَّ شبرٍ منها،فزرعوا حواكيرَ منازلِهم  فأصبحتْ  حدائقَ  غنّاءَ ،  وشمختْ  أشجارُ  "الكينا" في  قراهم  ، فأصبحتْ  مناراتٍ يُهتدى بها.

               
                                           
- الفقرُ .
    عانى الفلاحون  منِ الفقرِ والتّهميشِ الذي  وصلَ  لذروتِه ؛  فالوظائفُ الحكوميّةً  ورواتبُها لا تلبّي حاجيّاتِ  العيشِ  الأساسيّةِ ،  فهي  تتبخّرُ  منذُ الأسبوعِ الأوّلِ  منِ الشّهرِ ؛ لذلكَ  بحثوا عن أسبابِ  حياةٍ  أخرى ،  فقاموا بتربيةِ الحيواناتِ الأليفةِ التي يستفادُ منها كالحَمَامِ والزّغاليلِ التي تُباعُ وقتَ الحاجة ،وما أكثرُها!وبعضُهم عملَ في المهنِ اليدويّةِ كالجبصينِ ومقاولاتِ البناءِ، وورشاتِ إصلاحِ السّيّاراتِ والدّراجاتِ .


التّكافلُ الاجتماعيُّ.

  هؤلاءِ الفلاحونَ اقتسموا الظّروفَ الحياتيّةَ المريرةَ ؛ فالهمُّ  واحدٌ،والفرحُ واحدٌ، والمصيرُ واحدٌ،ومن صور هذا النّمط  الاجتماعيّ في  تلكَ القرى : التّعزيةُ بالفراقِ ، والتّهنئةُ بالّلقاء، والمواساةُ عندَ الشّعورِ بالضّيقِ ، والتآخي المنقطعُ النّظيرٍ، تناصفوا كأسَ الماءِ  ونورَ الكهرباءِ ، لبّوا نداءاتِ بعضِهم دونَ تذمّرٍ ومماطلةٍ ، بلْ بابتسامةٍ نخويّةٍ .

التّقاليدُ والعاداتُ.

   لكلِّ مجتمع ٍ تقاليدُه وعاداتُه ، قرويًّا  كانَ أم مدنيًّا ، ورثوها  من  آبائهم وأجدادِهم ، وسينقلونها إلى أحفادِهم ، ومنها إكرامُ  الضّيوفِ  بتقديمِ القهوةِ (المُرّةُ) ،وهي القهوةُ العربيّةُ الأصيلةُ التي لم تخلُ منها مضافاتُ حورانَ ،والقيامُ  بواجبِ العزاءِ  عندَ  الفقدِ ؛ إذْ  يجتمعُ  المعزّون في  خيمةِ  العزاءِ ويقومون بقراءةِ القرآنِ والتّسابيحِ في أجواءِ مودةٍ  وتراحمٍ ،  ومن  مراسمِ التّعزيةِ أيضًا الدعاءِ ، وتقديمِ الضّيافةِ لهم ،وهي عبارة عن فواكهٍ وهرائسَ لمن يرغبُ منهم تتبعُها القهوةُ ، وهناكَ أيضًا طقوسٌ خاصّةٌ  بأهلِ  الرّيفِ الدّرعاويّ ؛ إذْ يتناولون وجبةً  منِ الفولِ  صباحَ  كلِّ  جمعةٍ ، وهو روتين اعتاد عليه معظمُ فلاحي حورانَ.
   ويملأ الوشمُ وجوهَ العجائزِ ، حيثُ اتّخذنه زينةً لهنَّ أيامَ صباهنّ ،  فذهبَ الصّبا وبقي الوشمَ كما خُلقَ،كما يستخدمْنَ الأسنانَ الصّناعيّةَ (الطّقم)، وهي حاجةٌ صحيّةٌ تُعينهنَّ على أمورِالحياةِ،وتبدو علاقتُهنَّ  مع  (كنّاتهنَّ) مغايرةً للمألوفِ؛إذْ يحظينَ باحترامٍ يصلُ حدَّ التقديسِ ،  حاجاتُهنَّ  مُلبّاةٌ ، أوامرهنَّ مُطاعةٌ ، وهنَّ بدورهنَّ لا يبخلْنَ بعطفِهنَّ وحنانهنَّ وخبراتهنَّ على زوجاتِ فلذّاتِ أكبادهنَّ.

   ومن تلكَ التّقاليدِ والعاداتِ ما يُسمّى (بطاسةِ الرّوعةِ) ؛فيعتقدون أن سكْبَ الماءِ داخلَها ثمَّ  شُربه مع قراءةِ  آيةِ الكرسيّ والمعوّذاتِ ، ينجي من  ومكروهٍ  وبراثنَ قد  تحلُّ ، فهي طاسةٌ  نُحاسيّةٌ  صفراءُ  ذاتَ  شناشيلَ  ناعمةٍ  تُحدثُ خرخشةٍ إذا حُرّكتْ،وكذلكَ الأغاني والمواويلُ التي يردّدونها أثناء حصيدِهم القمحِ  والشّعيرِ، وأيضًا  كانَ منهم  مدخنون كثرٌ ، سجائرُهم  بعددِ  نبضاتِ قلوبِهم ، ينفثونها من أفواهِهم كما ينطقون الكلماتِ،ولعلّ ذلك يعودُ للظّروفِ القاسيةِ التي تحيطُ بهم.



المسكنُ.

   كانَ الفلاحون قديمًا  يسكنون في  بيوتٍ  كبيرةٍ ، منِ  الاسمنتِ  والحديدِ المُبطّنَ تتسعُ  لهم  ولأبنائهم  مع عائلاتِهم ، وكانَ الجدُّ هو الآمرُ الناهي ، وهو من يسيّرُ الحياةَ في هذا البيتِ  وفقَ آرائه وفكرِه ،من غير اعتراضِ، ولكن عندما تطورتِ الحياةُ، واختلفتْ ظروفُها،بدأتِ الأسرُ بالاستقلالِ في بيوتٍ محاطةٍ  بقطعةِ أرضِ  مزروعةٍ بأشجارٍ مُثمرةٍ  وأشجارِ زينةٍ ،كما  أنّهم كانوا لا يتقبّلون  َ فكرةَ  العماراتِ  والبناياتِ  ذاتِ الطّوابقِ ، والشّققِ السّكنيّةِ  ضيّقةِ الحيّزِ، ويشبّهوننها بالسِّجنِ الذي يكبّلُ الحريّةَ ، ولكنّهم مع  مرورِ الأيامِ تقبّلوها على مضضِ ، إذْ أصبحتْ مقصدًا  للشّبابِ ، وخاصّةُ المُقبلين على الزّواجِ وبناءِ أسرٍ جديدة.



وسائلُ النقلِ.

  اعتمد الفلاحون في ريفِ درعا على الدّراجاتِ النّاريّةِ اعتمادًا كبيرًا في قضاءِ أشغالِهم ومصالحِهم ، وربّما  أكثروا من هذه الدّراجاتِ لأنّها  قليلةُ التّكلفةِ وتحتاجُ إلى كمّيةٍ بسيطةٍ من البترولِ،وتفي بأغراضِهم،دون حاجةٍ إلى السّيّاراتِ ، وبعضُهم استخدم السّيّارةَ لأنّها تتناسبُ وأعمالَه .

الثّقافةُ.

   لمْ تقتصرِ الثّقافةُ على المجتمعِ المدنيّ فحسبْ ، بل كانَ الفلاحونَ أيضًا على قدرٍ كبيرٍ منِ الثّقافةِ ،انعكسَ على أقولِهم وحياتِهم،فكانوا على إطلاعٍ ووعي بما  يدورُ  حولّهم، وساروا  في  ركبِ الحضارةِ  ،  فكان  منهم المهندسون والمحامون والمعلمون والأطبّاءُ والشّعراءُ ،وحفظوا أقوالَ القدماءِ من شعِّرٍوحكمٍ وأمثالٍ ، استعملوها في جوانبِ حياتِهم المُختلفةِ 

الوفاء
   إنَّ الفلاحين أهلُ وفاءٍ وإخلاصٍ ، يوفون بعهودِهم إذا أوعدوا ، وللأمانةِ عندَهم شأنٌ كبيرٌ يحافظون عليها ولو كلّفهم ذلك أرواحَهم ، منِ أمرٍ صغيرِ كخاتمٍ عائليِّ إلى أمرٍ كبيرٍ بحجمِ وطنٍ.
 _______________________
                (٢)
الجنديان : السّوريّ والأردنيّ
في روايةِ " الطّريق إلى الزّعترّيّ"
" دراسةٌ مُقارِنة"


  الجنودُ هم حماةُ الدّيارِ ، وهم مَن يذودون عن حياضِه، ويبذلون أرواحَهم فداءً له، سحنتُهم  المغبرّةُ  تحكي قصصَ نضالٍ  وغُربةٍ ، كما أنّهم أصبحوا رفاقَ الشّمسِ من مشرقِها حتّى مغربِها،وقد أنستهم الصّحراءُ بفصولِها الأربعةِ .


  طالعتنا روايةُ "الطّريق إلى الزّعتريّ"  بصورتَين  متناقضتَين  للجنديَين الشّاميَين : السّوريّ والأردنيّ،ورسمتْ لكلِّ منهما صورةً تنمُّ عن حقيقتِهما وفقَ ما رواه الكاتبُ على ألسنةِ أبطال روايِته ،إبّانَ الثّورةِ وبداياتِها في درعا ،ومن ثمّ التّهجيرِ القسريّ إلى الأردنِ وتحديدًا " مُخيّم الرّعتريّ"


  الصّورةُ الأولى للجندِ السّوريين،وأستثني من ذلكَ الجنودَ الأحرارَ الذين لمْ يشهروا سلاحَهم في وجوه أهلِهم  وجيرانِهم  وأبناءِ  جلدتِهم ، بلْ شدوا على أيدِهم ووقفوا بجانبِهم ، فهؤلاءِ الجندُ مرتشون ، باعوا ضمائرِهم مقابل ثمنٍ بخسِ ، وإنْ  كان  هذا يصبُّ  في  مصلحةِ  المواطنين  العزّلِ، كأبي  رستم المساعدِ في جيشِ النّظامِ  الذي  كانّ  يخبرُ أبا محمدٍ الفهريّ بما ينوي القيامَ به ؛ لياخذَ حذرَه مقابلَ" تنكةِ زيتٍ"،ويستغلُّ الفرصَ لطلبِها،  "عندَما وصلَ دورُه بمصافحةِ أبي فندي أخذه بالأحضانِ،وراح يقبّلُه ،وهمسَ في أذنِه :لقد وصلتني قائمةٌ بالمطلوبينِ ،واسمُك على رأسِها ، دبّر حالك"

   كما كانَ هؤلاء يتلفّظون بألفاظٍ تخدشُ الحياءَ العام ، يقولونها على  مرأىً منَ الملأ، دون  خوفٍ  واحترامٍ ؛ لأنّهم  ربّما اعتادوا على  مثلِ هذا الأمرِ وأصبحَ جرءًا من ثقافتِهم الحياتيّةِ،وطالما استفزّوا الموقوفينَ والمعتقلينَ بها، وهي كلماتٌ تمسُّ العِرضِ والشّرفِ والكرامةِ،لا يقبلُها شريفٌ،يقولُ الكاتب على لسانِ أبي رستم :" هناك ابن شرموطةِ ،اتصل بنا قبل قليل، أخبرنا بأنّ في حارتِكم مظاهرةٌ وهتافاتٌ مناؤئةٌ للدولة".
                                        

   وكانوا أيضًا قتلةٌ وظلمةُ ، لمْ يسلمْ من أذاهم وشرورِهم شيءٌ ، لا مكانَ للشّفقةِ والرّحمةِ  في صدورِهم ، قتلوا الإنسانَ  بدمٍ  باردٍ ، وقتلوا  الكلابَ والحميرَ والحمائمَ، حتّى الجرذُ أصبحَ ضحيّةُ لرصاصِهم ، فهم يرون أنَّ  الكائناتِ الحيّةَ مجرّدَ أرقامٍ لا تقدّمُ ولا تؤخّر،ُيقول:" انخرطَ العساكرُ بنوبةِ ضحكٍ هستيريّةٍ ، آذانُهم غيرُ مصدقةٍ مما سمعوه من السّيدةِ الموظّفةِ،... إلّا أنْ أحدَهم أدخلَ الحربةَ الموصولةَ برأسِ البندقيّةِ ، في فتحةٍ صغيرةٍ تحتَ كرسيّ السّائقِ ، فهربَ الجِرذُ مذعورًا..صوّبَ أحدُهم رصاصةً لتخترقَ الجِرذَ ،وتستقرُّ في دولابِ الباصِ الأماميّ".

    بالإضافةِ أنّهم مُستعبدون إلى حدِّ القداسةِ ،البسطارُ والبندقيّةٌ مِنبرُهم ومحرابُهم،يحلفونَ بشرفِ قائدِهم تعبيرًاعن صدقِهم،بلْ هومعتقدُهم وآلهتُهم، أعماهم الحقدُ الدّفينُ عنْ إبصارِ  حقيقةٍ واضحةٍ كشمسٍ  في رابعةِ  النّهارِ ، يقول المقدادُ في وصفِ هذا :" قسمًا بشرفِ القائد ، لنلعن أباكم وأبا  أبيكم ، ونحرقكم يا كلاب.. يا حقراء" ، ويرفعون شعارَ " الأسد أو نحرق البلد".
  هم سارقون ومعفّشون ،انتهكوا حُرماتِ المنازلِ ، يكسّرون ويحطّمون كلَّ ما يجدوه في طريقِهم أثناءِ اقتحامِهم البيوتِ ، يأخذون كلَّ شيءٍ ، وعودُهم كاذبةٌ ،ينسون كلَّ معروفٍ أُسدي إليهم "مجموعةٌ منِ العساكرِ دخلوا البيت للتّفتيش ، أمُّ حمدانَ تتوكّأ على عكازتِها ، ... اصطدمت بهم،رفعتْ رأسَها، وركّزتْ نظارتَها حتّى تستطيعَ مشاهدتَهم بشكلٍ جيّدِ : على وين يا يمّة الله ينصركم ، ما في حدا هون غير النّسوان ، برضا قلبي وربّي عليكم لا تخوفوهن.."و" تعالوا شوفوا هالخيرات .. كأنّما أعدّوا هذه الطولات من أجلِنا ، وخصيصًا لنا، كلوا، واشربوا هنيًا".

 أمّا الصّورةُ الثّانيةُ فكانتْ تختلفُ عن الأولى كليًّا،إذْ أبدى الجنودُ الأردنيون كاملَ تعاطفِهم مع المهجّرين،على اختلافِ رُتبِهم،فرّحبوابهم أجملَ ترحيبٍ، وأعطوهم  الأمانَ ، هدّأوا من روعِهم وطمأنوهم، وقاموا بواجبِ ضيافتِهم ،كما أنّهم نذروا أنفسَهم لخدمتِهم ،وأخذوا على عاتقِهم حمايتّهم، ونقلوهم  إلى  المُخيّمِ  بعدَ  التحقّقِ من وثائقِهم وتسجيلِ بياناتِهم"رحّبَ الضّابطَ به، أعطاه الأمانَ وقال:أنتَ الآنَ في حوزتِنا في أمانٍ،لا تخشَ شيئًا،إن شاء الله ستكون في غايةِ الرّاحة والسّرور... حضر عسكري شاب صغير ، وطلب إحضار فنجان قهوة للأستاذ..."                           
  هؤلاءِ  الجنودِ  كانوا مؤدبينَ  في تعاملِهم مع اللآجئين ، فلمْ  يقسوا عليهم بكلماتٍ جارحةٍ عندَ مخالفتِهم للأوامرِ، فهم لا يريدون زيادةَ قلوبِهم جراحًا، ففيها ما يكفي ، اهتمّوا بالمرضى وكبارِ السّنِ ، وجهّزوا سيّاراتِ الإسعافِ لنقلِ الجرحى والمُصابينَ،كما قاموا بإعدادِ (الكرفانات)لاستقبال المهاجرين رجالًا  ونساءً ، وسهّلوا مهامَ عودتِهم لاستعادةِ وثائقِهم،" اجتازوا السّاترَ التّرابيّ ... سيّارتا  إسعافٍ  عسكريّةٍ  أردنيّةٍ   ؛ لاستقبالِ جميع  الجرحى والمصابين ، أو تحسّبًا لأي حالةٍ طارئةٍ،...قاموا بفصلِ الرّجالِ في (كرفان)  وحدَهم ، والنّساءِ في (كرفان) آخر".

   لقدْ عكسَ هؤلاءِ الجندُ صورةً عن فكرِهم واعتقادِهم،تخلّى فيها سوريو النّظام عن منظمومةِ القادةِ الشّاميين القدامى،الذين كانوا يحمون البشرَ قبلَ الحجرِ،بل أصبح هؤلاء أثافي القتل والنهب، بينَما تمسّكَ الأردنيّون بخلالِ هؤلاءِ الأشاوسِ. 
 __________________

 (٣)

المثل ودلالاته
في روايةِ " الطّريق إلى الزّعتريّ"


  عادةً ما يحشدُ الأدباءُ في نصوصِهم الإبداعيّة كمًّا هائلًا منِ التّراثِ الثّقافيّ، وهذا يدلُّ على سعةِ إطلاعِهم، وتأثّرُهم بنهجِ سابقِيهم منِ الكتّابِ والشّعراءِ، وتختلفُ هذه المعارفُ المحشودةُ من نصٍّ إلى آخرَ ، فبعضُها موروثٌ دينيٌّ وآخرُ أدبيٌّ بالإضافةِ إلى الموروثِ الشّعبيّ.


   وروايةُ  " الطّريق إلى  الزّعتريّ"  لمْ تخرجْ  عن  هذا  النّمطِ  ،  فالمُقلّبُ لصفحاتِها يجدُ هذا الإرثَ جليًّا من أولى ورقاتِها حتّى  آخرِها ، وتنوّع  هذا الإرثُ بينَ الإرثِ الشّعبيّ كالحِكَمِ والأمثالِ والمقولاتِ المشهورةِ واللهجاتِ وبين الأرثَ الأدبيّ كالشّعرِ ومقتطفاتٍ من نصوصِ نثريّةٍ،كما أنَّ الموروثَ الدينيَّ كانَ حاضرًا بينَ طياتِها، ونحنُ هنا بصددِ منافشةِ التّراثِ الشعبيّ.


     أكثرُ المقدادُ من الأمثالِ الشّعبيّةِ في روايتِه التي بُدئتْ بمقولةِ لشاعرِالهندِ الكبيرِ ، وأنهيتْ بمقولةِ لشاعرِ فلسطينَ الأكبرِ، وقد استخدمَ  ما  ينوفُ على أربعينَ  مثلُا ، وهذه  الأمثالُ  شائعةٌ  في بلادِ الشّامِ ، بلْ في الوطنِ العربيّ قاطبةُ، وبعضُها خاصٌّ بالرّيفِ الدّرعاويّ ،توارثوه جيلَا بعدَ جيلٍ .


    ولكلَّ مَثَلٍ دلالةٌ رمى إليها الكاتبُ ،بقصدِ التّوضيحِ ووصفِ الحالِ ، ومن هذه الدّلالاتِ ،الإصرارُ على الشّيءِ حتّى  تحقيقِه  ولو بعدَ  حينٍ، فذكرَ في سبيلِ ذلكَ قولَهم: " وراك وراك ، والزّمن  طويل" و "لايضيع  حق  وراه مُطالب " و" الاكلة اللي تتواعد بيها ، أحسن من اللي بتوكلها"منها أيضًا ، قولُ الحقِّ بدونِ تلميحٍ فيقولون:" قل للأعورِ أعور بعينه" و" انطح وصلّ على النّبي" ، وفي جانبِ عدمِ المُخاطرةِ  والمُغامرةِ  يُقالُ:" ابعد عن الشّر وغنِّ له " و" لا تنم بينَ القبور ولا  تشوف  منامات وحشة"،وممّا يدلُّ على الغفلةِ  والجهلِ " عليهم عليهم ، معاهم  معاهم"و"العصفور يتفلّى والصّياد يتقلّى"و"مطبلين بالدنيا،مزمرين بالآخرة".
-39-
   وفي وصفِ الحالةِ السّيئةِ بأدقِّ تفاصيلِها ، والتي تشي بضيقِ العيشِ  ذكرُ لنا الكاتبُ ثلاثةَ أمثالٍ:"طلع من تحت الدّلِف إلى تحت المزراب" و"الحمّام المقطوعة مياهه" و" المستجير من النّار بالرّمضاءِ " ، وفي بابِ   الصّدفةِ يُقالُ" ربّ صدفةٍ خيرُ من ألفِ ميعادِ " و" ربَّ ضارةٍ نافعةِ" و" ربَّ رميةٍ من غيرِ رامٍ" ،أمّا من ناحيةَ الإكرامِ لأجلِ منفعةٍ أو غضِّ البصرِ  يقولون : "اطعم  الفم  تستحي  العين" و" اللّقم  تردّ  النّقم" ، ويقالُ  عن عدمِ  الفائدةِ والجدوى : " دجاجة حفرتْ على رأسها عفرت" .

  وثمّة مَثَلانِ في تغيُّرِ الحالِ كعدمِ مناسبةِ سنِّ الشّخصِ لفعلِه ،أو عدمِ قدرتِه هما : " بعد  هالكَبرة  جُبة حمرا" و" زمان أوّل حوّل" ، ويُقال  في  صددِ التّعارفِ والمُعاشرةِ:" من عاشر القومَ أربعين يومًا صار منهم" و" في كلِّ عرس له قرص" ، وفي عدمِ احتقارِ الشّيء قالوا " بحصة بتسند جرّة " ،وفي الاطمئنانِ قالوا: " حط إيدك  ورجلك في  ميه باردة " ، كما  وصفوا الكلامَ في غيرِ موضعِه بقولِهم:" جتْ لتكحّلها فعمتها"

   وفي موضعِ الفخرِ  والاعتمادِ على النّفسِ قالتِ العربُ:" أعلى ما  بخيلِهم يركبوه "و" تدرسُ وتردّدُ وحدها" ، وقالتْ أيضًا في بذلِ الجهدِ والاجتهادِ :" ما في اشي بلاش، غير العمى والطّراش" و" من جدَّ وجد ومن سار على الدّربِ وصل" ، وفي وصفِ سرعةِ الاختفاءِ قالتْ : " فص  ملح  وذاب" ، وفي حالِ التوافقِ قالتْ : " القلوب عند بعضها" ، أمّا في حالة عدم  الخشيةِ من شيء ٍ قالتْ :   " المبلول ما يخشى من رشق الماء " و" إذا وصلت الميه فلتتدحرج" .

   وقيلَ في معرضِ الحديثِ عنِ الشّجاعةِ :" اللي تعرف ديته اقتله " ، وقيلَ أيضًا في التّصرفِ بعدَ صبرٍ طويلٍ وكانَ مُخالفًا  للمُتوقَّعِ : " صمتَ  دهرًا ونطقَ كفرًا" ، كما  قالوا في الإرغامِ على شيءٍ : "مكره  أخاك  لا بطل " و"شو اللي  جابرك  على المرِّ، قال : اللي  أمرّ منو " ولحسنِ  حظِ طرفٍ وتعاسةِ طرفٍ آخرَ  قالوا:" إي بحظي ، وحظ مرت خيّي" و"موت الكلاب فرج للحراميّة".

   أمّا معرفتُهم بحتميّةِ الموتِ وأسبابِه ، والحذرِ منها قالوا :" الحذرلا ينجي منِ القدرِ" وفي مجالِ زيادةِ الأمرِ سوءًا ، وحدوثِ ما لم يكنْ بالحسبانِ أو ما يُكره حصوله ،قالوا:"زادَ بالطّنبورِ نغمًا"ووصفًا لحالةِ الإهمالِ :"شرق الذّراياتِ " ، ولحالةِ المُماطلةِ :" مواعيد عرقوب" .

   إنَّ تخصيبَ النّصِ الأدبيّ  بالموروثِ،سواءَ كان  دينيًّا أو أدبيًّا أو شعبيَّا ، يجعلُه أكثرَ متانة ورصانة ، ويثبّتُ المَشاهدَ والصّورَ في ذهنِ القارئ بأبهى حُللِها ،ويجعله مُتشوقًا لنهايتِه دونَ مللٍ وضجرِ،ويلتهمُ فِقراتِه سطرًا سطرًا،كما يعكسُ سعةَ إطلاع كاتبِه وعمقَ ثقافتِه ، وامتلاكَه  لهذا الكمِ  الهائل  منِ المعارفِ  الإنسانيّةِ  التي  يحشدُها  ويضمّنُها  بينَ  ثنايا  نصّهِ  بكلِّ  رتابةٍ وسلاسةٍ، وبالتّالي يفتحُ أمامَ قارئه آفاقَ التأملِ والفَهمِ دون عسرةٍ.

  الحقيقةٌ ،أنَّ هذه الرّوايةَ فيها منِ أقوالِ الشّعراءِ،وحكمِ العظماءِ،ومأثوراتِ القدماءِ ، ما يروي النّفسَ المُتعطّشةَ للثقافةِ والثراثِ ، فضلًا عن كونِها قاعدةَ بياناتٍ لكبرى مآسي الشّرقِ ، بلْ العالمِ أجمعَ.
 _____________________

(٤)
رواية " الطريق إلى الزعتريّ"
دراسة فنيّة


    تصنّف رواية "الطريق إلى الزعتريّ" للروائيّ السوريّ محمد فتحي المقداد ضمن خانة أدب اللجوء ، وهي ذات بُعد إنسانيّ في المقام الأوّل ، فهي تسلّط الضوء على هموم وقضايا لم تلتفت إليها الفضائيّات التي انشغلت بإحصاء عدد الموتى والجرحى، فجاءت الرواية لتكون شاهدًا على مأساة إحدى قرى درعا عاصمة سهل حوران التليد.

  وجاءت هذه الدراسة لتلقي الضوء على الجانب الفنيّ لهذا الرواية في عدّة محاور، نوردها كالآتي:

العنوان:

  جاء العنوان مركّبًا من ثلاث مفردات"الطريق إلى الزعتري" وهي ألفاظ ذات مدلول مكانيّ ، فالطريق هو الحيز الجغرافيّ الذي نسير عليه للانتقال من مكان إلى  آخر، ثمّ يأتي حرف الجر (إلى) والذي يدل على انتهاء الغاية المكانيّة ،ثمّ تأتي لفظة "الزعتري" وهي منطقة في شمال الأردن على مقربة من حدود سوريا ، أقيم عليها أكبر مخيّمات الشرق الأوسط ، فهؤلاء اللاجئون هربوا من قريتهم"موج" إلى مخيّم الزعتريّ الذي مع دخوله تنتهي أحداث الرواية، وتنتهي معها إحدى مراحل اللجوء القسريّ لتبدأ مرحلة أخرى داخل أسوار المخيّم. 

    كما أنّ ألفاظ العنوان بعدد مراحل العذاب الذي ذاقه المهاجرون  ، فالمرحلة الأولى الخوف من القصف والموت  في القرية،والمرحلة الثانية اتخاذ القرار بالهجرة وما فيه من صراع نفسيّ كبير ، والمرحلة الثالثة ،  آليّة الهجرة وقسوتها حتى الوصول إلى المخيّم.


صورة الغلاف:

  تشكّلت صورة الغلاف من صورة للاجئة مع طفلها، وهي تحمل متاعها، بالإضافة إلى سلك شائك وهلال في الأفق في فضاءٍ أزرق ،فاجتماع هذه الصور مع بعضها يوحي للوهلة الأولى إلى مسير بخوف وحذر، وهذا حال من هاجروا ،إذ كان يخشون من القتل والاعتقال ، كما أنّ السير في الليل والذي أوحى به القمر في الأفق ما كان ليحدث إلّا ليتوارى هؤلاء عن عيون القتلة،وقد كتب العنوان على الغلاف بلون أسود؛ ليدلّ على أنّ سوادًا سيلفّ حياتهم في قادم الأيام.



الشخصيّات : 

   تعددت شخصيّات هذه القصة ، بعضها رئيسيَ وبعضها هامشيّ ذكر لعارض ما، فلم يكن في هذا الرواية بطل أوحد تدور حوله القصّة ، بل كانت البطوله هنا جماعيّة؛ ليسقطها الكاتب على واقع الثورة، فهي لم تجتمع تحت قائد واحد ، وكأنّه يقول إنّ الثورة هي ثورة شعب ،هو عمادها وهو قائدها ،اشترك فيها بجميع أطيافه ، رجالٌ ونساءٌ ،شيوخٌ وأطفالٌ، مثقّفون وفلّاحون،وغيرهم من شرائح المجتمع.
  وقد جاءت هذه الرواية هنا على خلاف الروايات الأخرى من حيث البطولة ، فمعظم الروايات العربيّة والعالميّة تركّز في الحدث على بطل واحد، يعبّر الكاتب من خلاله عن مبتغاه.

الرمز :

  غلب الطابع الرمزيّ على الرواية ، فأسماء الشخصيّات هي أسماء مستوحاة وليست أسماء حقيقيَة ،لكنها تشي بالمقصود بطريقة غير مباشرة ، وهذا أسلوب اتّبعه المعاصرون شعراءَ وكتابًا ؛ وذلك خوفًا من الملاحقة والعقوبات.

   كما أنّ الفضاء المكانيّ كان رمزيًّا ، فالقرية "موج" ليس هذا اسمها الحقيقيّ ، وإنّما هو اسم رمزي أضفاه المقداد على مسرح الأحداث ، فلفظة"موج" لها من الدلالات الكثير ، فهي مرتبطة بالبحر ، والموج يعني الاضطراب وعدم الاستقرار للمياه ، وكذلك كانت أحوال البلاد إبّان كتابة الرواية غير مستقرّة ، والسبب كما أسلفنا الخشية من السلطة السياسيّة .


التكرار:

     تكرّر  في هذه الرواية عدد من المعاني والألفاظ والصور ، ومثال ذلك : "مطّ شفتيه" و" ينفث دخانه" و " شكّل الدخان سحبًا فوق رأسه" وكما نعلم أنّ التكرار يفيد التوكيد ، أي تثبيت الصورة في ذهن القارىء، و"مط الشفاه" يدلّ على الامتعاض من شيء ما ، فالظروف التي عايشوها في القرية جعلتهم يمطون شفاههم مرارًا مرغمين.

   وفي " نفث الدخان" دلالة على كثرة التدخين ، فالدخان طاردٌ للهمّ وجالبٌ للراحة في اعتقاد المدخنين، وما تعرّضوا له من مواقف هو من جعلهم يدخنون بشراهة للتخفيف من وطأة الظرف القاسي.

   أمّا السحب المتكوّنة فوق رأس المدخّن ،فتدل على كثرة ما أصابهم من أحزان وهموم، فهي كالسحابة التي ستمرّ باعتقاد الكاتب مع الأيام.

الصراع:

  الصراع هنا صراع عنيف ، فهو صراع النفس مع ذاتها ،وتجلّى هذا الصراع بين عدم الرغبة في ترك القرية واللجوء وبين الموت الأعمى القادم ،فإذا هاجرسيذوق الويلات في المهجر وأقساها عدم العودة ،وإذا بقي سينضمّ إلى قوافل الموتى هو وأطفاله الذين يشغلون خلده، بالإضافة إلى الصراع العسكريّ.

الراوي:
  الرّاوي في هذه القصّة هو الرّاوي "المُشارِك"،فهومَن سرد أحداث القصّة نيابة عن الكاتب، حيث  كان المحامي هو المؤلّف الضّمني للنّص ، والنائب عن الكاتب في تحريك الحدث من البداية إلى النّهاية،فالرواية كانت عبارة عن مذكرات لذلك المحامي ، كما ناب الأبطال الآخرون في سرد الأحداث عن الكاتب.

اللغة:

   كانت لغة الرواية لغة بسيطة سلسة واضحة لا رطانة فيها ؛لأنها تحكي مشاعر أناسٍ بسطاء ، وهي واضحة لا لبس فيها ،كوضوح حقّهم المسلوب ، ووضوح الظلم الواقع عليهم، وزاد من وضوحها أنَها جاءت في قوالب نصيّة من الثرات العربيّ  ليكون الوصف في منتهى الدقّة.

ثقافة النص:

  في هذا النص من المعارف المحشودة ما يروي عطش التائق للثقافة المتنوّعة، ففيه من الأشعار والحكم والمأثورات والمقولات والأمثال الكثير ، ممّا يلبس النص ثوبًا من الحسن والبهاء ، ويقدّم المعنى بأسهل الطرق ، كما أنّه يعكس ثقافة صاحبه، فهي ثقافة غزيرة متنوّعة ، نستشفّ منها أنّ المقداد موسوعة أدبيّة تمشي على الأرض.

البداية والنهاية :

  البداية كانت مع مقولة لشاعر الهند الكبير" طاغور" والذي قال بأنّ الزمن هو الناقد الحقيقيّ المنصف ، وفي ذلك إشارة إلى أنّ المقداد أراد أن يكون حياديًّا قدر الإمكان، عندما انقسم السوريون بين معارض ومؤيّد، كما أنّه أراد أن يترك الأمر للزمان في كشف حقيقة الجدال.
 أمّا النهاية فكانت بمقولة لشاعر فلسطين الأكبر" محمود درويش" والذي حكم بأنّ لا شيء أجمل من الوطن إلّا الطريق الذي يؤدي إليه، وهذا يوحي بشوق وحنين المقداد الكبيرين  إلى مسقط رأسه سوريا ببصرى شامها.