أغنيات مالحة
بقلم(محمد فتحي المقداد)*
أغنيات مالحة عنوان مجموعة شعرية من القياس المتوسط، جاءت القصائد موزعة على (94) صفحة، صدرت حديثاً، عن دار ناشرون الآن في عمّان، للشاعر صيام المواجدة، الذي صدر له سابقاً مجموعة بعنوان (نزفُ القلم)، وله مجموعة تحت الطبع، حملت عنوان (ارتحالاتُ ناي).
في أمسياتٍ حضرتها سمعتُ بعض قصائد الشاعر صيام المواجدة، فكانت تمر الكلمات سريعة على مسمعي، ولكن لما أهداني أغنياته المالحة تلك، بصراحة، توقفتُ مدهوشًا بداية من نصّه القصير جدًا، بعنوان (مدخل) صفحة 15، لأجدني متسمِّراً أمام عُمق نظرة الشاعر الثاقبة الواعية لِمَا هو ذاهبٌ إليه في نصوصه، فأنا لستُ ناقداً، بل مجرد قارئ متذوق، ولا أبالغ إن أطلقتُ على صيام المواجدة (الشاعر الفيلسوف)، خاصة في تجليّاته، فيقول: " بطعم الملح أغنيتي، فقد رشفتْ مِدادَ الحرف من عيني"، كما أن القصائد جاءت بطعم الملح غير المستساغ كثيرُهُ لمن يتذوقه، ولكن الملح لا غنى عنه في الحياة، وهو يحفظها في البر و البحر، وهو ما يعادل الأطعمة، ويُسْبِغ عليها المذاق اللذيذ، وهكذا الحال، جاءت قصائد الشاعر في أغنياته المالحة، فيقول: " بطعم الملح أسكُبُها، بكأس كافُهُ كَبْتٌ بذاكرتي، وكأس من أرَقِ الهوى ألِفٌ، وكأسٍ سينُهُ سهمٌ بخاصرتي، تُحيلُ الليلَ ليليْنِ"، كلمة أسكبها موحية بأنها في بوتقة، سيسكبها بكأس كافُهُ مكبوتةٌ في ذاكرته للوجع الذي تحمله، أو كأس أخرى على شكل أرَقٍ من الهوى، لتكون سين هذه الكأس سهمٌ مغروز في خاصرته، موجع مؤلم، وما عليه إلا أن يصدح بأغنياته المالحة رغم ألمه، مُنَبِّهًا ومُنذرًا كرسول لبني قومه.
***
و بالانتقال من المدخل إلى رحاب المجموعة، واطلاّعي، لأجد تجربة الشاعر الناضجة، متجاوزًا قشرة الواقع المنظور، وهو يغوص بقوة في أعماق مشاعره لِيبثّها فينا، ونحن نقرأها لاهبة تسوطُ أحاسيسنا المتجمدة المُتكلّسة، ترومُ تحرير سماكة الجليد في دواخلنا.
الشاعر مهجوسٌ بهموم كبيرة أرّقته في ليله ونهاره، حمل هموم أمته، و أعلنها صرخة مدويةً مالحة، علّها تخترق الصمم الماثل في آذاننا، ليسهل عليها النفاذ إلى سويداء قلبٍ واعٍ، أطلقها بقصد الإصلاح ليكون في أسباب الرقي من خلال بصمته، وهو في أغنياته تلك كان جرس إنذار، واستشرف الطريق وعوائقها.
و أمام النص الثاني(من رحم الألم) صفحة 16، لأجد الكلمات تخرج صادقة، صادمة لغفلتنا عن محيطنا، محاولة إخراجنا من قاع رواسب حالتنا إلى رحاب التفكير، و التأمل، لاستكشاف جماليات غفل الذوق عنها، لأنه أدمن رؤيتها، وهذا النص أشبه ما يكون بالهايكو الشكل الجديد للقصيدة، أي أن كل فقرة منها هي قصيدة بذاتها، لأنها استكملت جوانبها في سكب المعاني لقصة مختلفة تمامًا عما سبقها أو جاء بعدها، (العود يطربنا، من بعد ما عملتْ، في قطع أخشُبِه أسنانُ منشار)، (والكأس يُرشفُنا، من فيض لذّته، قد كان أحرقه الخزّاف بالنار)، (واللّحمُ تلقُمُهُ، طيْبًا بمأكله، من قبلُ قطّعَه سكين جزّارِ)، وهكذا جاءت كلمات (العود, الكأس، اللحم، الشّهد، الأرض، الصّخرُ، الأم، الشعر، العلم) في بداية كل مقطع بدلالات مشهديّة، أيقظت في دواخلنا تشغيل المحفزات لرؤيتها بعين يقظة جديدة.
***
وعودٌ على بدء، جاءت الخاتمة بنص (وبعد...)، أرى أن هذا النص القصير لو وضع بعد النص الأول (مدخل) لصعب التفريق بينهما، كونهما يتكاملان، هناك جاءت:
" بطعم الملح أغنيتي، بطعم الملح أسكبها"، وهنا كانت "لعلي أعود قُبيْل الغروب..، بشيء من الأغنيات.." ولعل الملوحة ذابت في نصوص الديوان لتصل إلى الخاتمة حُلْوَة مملوحة باعتدال.
تناظُرٌ ذكي من الشاعر سواء كان مقصودَا، أو غير ذلك، و الحديث ذو شجون ويطول ويطول، هذه الإطلالة استنفذت طاقتي عن متابعة الكتابة، وتتبع كل مداخلها ومخارجها، أرجو أن أكون قد وضعت نقطة مصاحبة لجماليات سِفْرِ الشاعر، وأستميحُهُ عذرًا إن أخطأت في فهمي، أو إن لم أستطع أن أوُفِيَهُ حقه.
عمّان \ الأردن
11 - 7 - 2016