الجمعة، 6 يونيو 2025

كنب رائد العساف. بنسيون قراءة

 قراءة انطباعيّة. .....

لرواية "بنسيون الشارع الخلفي"

للروائي محمد فتحي المقداد


بقلم. رائد العساف. الأردن 

حين تتحوّل الرواية إلى بيتٍ من نبض، ووجع، ونبوءة...


من بين عتمة الشوارع الخلفيّة حيث تختبئ الحكايات المهمّشة خلف جدران الزمن، تتسلّل رواية "بنسيون الشارع الخلفي" كضوءٍ خافت في آخر النفق، لتصير أكثر من نصّ أدبي، بل وثيقة حسيّة، حيّة، نابضة، تكتنز في تضاعيفها أرواح الشخصيات التي تنتمي إلى الهامش، لا إلى العناوين الرئيسة. بين دفّتي هذا العمل الأدبي المتفرّد، ينتصب البنسيون كمكانٍ رمزيّ، أشبه بصندوق خشبيّ قديم، لا يفتح بيده، بل بحسّه، ومن يفتحه يجد فيه وطناً مصغّراً، حزيناً، موجوعاً، لكنه حيّ... يصدر أنيناً يشبه أنين الشعوب المنسيّة في الخلف، تلك التي تقف خارج مرمى الضوء، لكنها تخلق المعنى الأعمق للحياة.


أعمق من السرد... أوسع من المكان...


الكاتب محمد فتحي المقداد لا يقدّم في "بنسيون الشارع الخلفي" رواية بمفهومها النمطي، بل ينحت مجازاً مكثفاً لتجربة إنسانيّة ممتدة، يضع القارئ أمام مشهد مركّب من التهجير، الحنين، الفقد، والأمل المرتبك. يشكّل البنسيون بؤرة روحيّة، سردية، تاريخية، ومكانية، فيها تتقاطع مصائر اللاجئين، العابرين، المهمشين، والمقهورين، الذين فقدوا بوصلة الوطن، لكنّهم لم يفقدوا البوصلة الداخليّة التي ما زالت تشير، رغم الانكسار، إلى جهات الضوء.


الشخصيات ليست نماذج سردية، بل كائنات حقيقية تنبض في الهامش. "هبهان"، تلك الطفلة التي تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى رمزٍ جامع، إلى مرآة تعكس الطفولة المسحوقة تحت أقدام الحروب، والأنوثة المقتولة تحت أنقاض القذائف، والوطن المختبئ في عيني فتاة لا تعرف تماماً لماذا غادرها كل شيء... ولماذا لا تعود الأشياء أبدًا كما كانت.


لغة تتنفس، وصور تحفر في الروح


يتميّز النصّ بلغة آسرة، مركّبة، مترعة بالإيقاع الداخلي الذي يجعل القارئ يعيش كلّ جملة كما لو كانت نبضًا. لا يكتب المقداد جملاً، بل يسكب أحاسيس في قوالب لغوية جديدة، مُطعّمة بصور فريدة، وتشبيهات لم تُستهلك، ومجازات طازجة. إنه لا يكتفي بأن يُصوّر الألم، بل يجعل القارئ يتذوّقه، يُلامسه، يتذمّره، ثم يبتلعه مرغماً، فيجد فيه طعم الحياة الذي لا يُنسى.


يقول عن الحنين:

"الحنين في البنسيون ليس كذكرى عابرة، بل كطفل يتدلّى من شرفة الغياب، يُلقي حجراً على نافذة القلب كلّ مساء، فيوقظه من سباته على صوت مَن رحلوا..."

أو حين يصف الغربة:

"الغربة هنا ليست مكاناً بعيداً ، بل شعورٌ ضيّق يسكن تحت جلدك، كلما حاولت نسيانه، نبض فيك كمسمار صدئ في الخريطة."


إنها لغة تكتب بالوجع، وتشبه في تدفّقها نهراً داخليّاً لا نرى من سطحه إلا بضع كلمات، بينما الأعماق تعجّ بعوالم كاملة من الرموز والدلالات والقصص.


البنسيون: مسرحُ الوجدان والمأساة الإنسانية


كل غرفة في هذا البنسيون تُخبّئ سرديّة مختلفة، وكل نزيلٍ فيه يمثّل فصلاً من فصول المنفى، من التاريخ المعذّب لشعوبٍ أُجبرت على أن تُهاجر داخل ذواتها قبل أن تُهاجر من جغرافيتها. نرى في هذه الرواية كيف يمكن للمكان الصغير أن يتحوّل إلى وطن بديل، إلى حكاية كبيرة، إلى قارة من الندوب، وإلى نُقطة في الذاكرة لا يمكن محوها.


ولا يغيب البعد السياسي عن النص، بل يتسلّل من بين الكلمات كأنفاس ساخنة بين البرد، يصرخ دون ضجيج، ويؤنّب الواقع دون خطابية. الكاتب لا يتكلّم عن القضايا الكبرى، لكنه يجعلنا نراها مجسّدة في أنثى، في دمعة عجوز، في لوحة على الجدار، أو في رغيف مكسور. هناك فلسطين وسوريا والعراق ولبنان، هناك القضية، الحصار، النكبة، الشتات، كلها متجسّدة دون أن تُعلن عن نفسها، بل تحضر كما يحضر الوجع في جسد مجروح لا يحتاج إلى تفسير.


هبهان: أنثى الحكاية، ومجاز الوطن


تتقدّم "هبهان" لتكون قوس الرواية، قلبها، وصرختها الخفيّة. إنّها ليست فقط طفلة، بل نصّ رمزيّ بامتياز، تمتزج فيه ملامح الطفولة والأنوثة، المدينة والخيمة، الأمل والانكسار. تكبر هبهان بين السطور كما تكبر الشجرة في أرضٍ مليئة بالحجارة، تصمد، رغم الجفاف، وتورق، رغم السخام.


الكاتب يعاملها كشخصيّة حقيقية تنمو على مرأى من القارئ، يرافقها في نشأتها، انهياراتها، هواجسها، وحتى في تلك اللحظات التي يُخيّل إليه أنّها تحاوره وتقول له ما لم يستطع قوله:

"أنا الذاكرة، حين يشيخ الجميع، وأنا الرصاصة التي لم تُطلق، أنا الصوت في الحنجرة المختنقة، والوطن حين يغادر الجميع..."


 البنسيون ليس آخر الطريق، بل بدايته


"بنسيون الشارع الخلفي" ليس عملاً يقرأ ثم يُنسى، بل هو عمل يُبقي فيك أثراً، تماماً كما تبقى الرائحة في ثيابٍ كانت معلّقة في بيتٍ سكنته الحرب. هو شهادة شعورية على عصرٍ من الألم، وشرفٌ أدبيّ على بوّابة الكتابة الصادقة، العميقة، التي لا تسعى للتجميل بقدر ما تسعى للتأمل، ولا تهدف إلى إثارة الشفقة بل إلى بعث الحياة من رماد الحطام.


هذه الرواية ليست مجرّد سطور، بل وطنٌ بملامح أنثى، بلهفة لاجئ، بصرخة قهر، وبحلمٍ لم يكتمل. رواية تأخذك من يدك إلى داخل الأزقة، ثم تتركك أمام ذاتك، بعيداً عن كلّ زيف، مشبعاً بأسئلةٍ لا إجابات لها... لكنها أسئلة تُذكّرك بأنك ما زلت حيّاً، وأن الحكاية... لم تنتهِ بعد.


كتبتُ هذه القراءة، لا بوصفها تحليلاً أدبيّاً فحسب، بل مشاركة وجدانية عميقة، وشهادة حبّ لهذا العمل الذي حفر عميقاً في وجداني، وأيقظ في قلبي يقيناً: أن الأدب، حين يُكتب بالدمع، يُخلّد في الذاكرة إلى الأبد.