الأحد، 19 يوليو 2020

رمزية السّماء والتناصّ القرآني في مجموعة (خطيئة الظلّ) للشاعرة أماني المبارك

 

رمزية السّماء والتناصّ القرآني

في مجموعة (خطيئة الظلّ) للشاعرة أماني المبارك

 

بقلم الروائي – محمد فتحي المقداد

   جدّي الأوّل ابن آدم فكّر كثيرًا في ملاحظة، ومتابعة ظلّه على مدار زمان طويل؛ فحفظ مؤشّراته، ودلالاته على وقت ابتكره لنفسه، تبعًا لحركة الشّمس التي هي أمُّ الظلّ، وضياؤها أبوه. أعتقدُ جازمًا أنّ مغامرة جدّي انطوت إصرارًا للّحاق بالزّمن، ومحاولة القبض عليه. لتنتهي حكايته الزمانيّة بالموت الذي لم يكن مُصادفة، لأنّ وجوده أصبح سلبيًّا بالنسبة للأحياء بتناقضه معهم، وكل اتّصال ينتظره انفصال حتمًا. بينما الطّيور التي تولد في الأقفاص تعتقد أنّ الطّيران جريمة. وربّما الجهات تبثُّ خبرًا صادمًا: "أن لا عيون للبوصلة".

   وما الفائدة من مخاطبتي لظلّي، إذا بدا لي، وساءلته عن حالي..!!. يبدو أنّ الظلّ هو النسخة المُزيّفة عن ذوات حقيقتنا، وبسواده لم يعط عنّا إلّا الجانب السّوداويّ، ولولا النّور لما خُلقّ الظلّ، وهو آية من آيات الله.

   يتّضح المعنى هذا بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) (45\سورة الفرقان). ومدّ الظلّ يبتدئ مع أوّل خيوط الفجر إلى غياب الشّمس، ولو شاء لجعله دائمًا لا يزول, ممدودًا لا تُذهِبه الشّمس, ولا تُنقصه ولا تُزيله. )ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا( أي أنّها أخرجت ذلك الظل فذهبت به، وقوله تعالى:  (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) ثم قبضنا ذلك الدّليل من الشمس على الظلّ إلينا قبضًا خفيًّا سريعًا بالفيْء الذي نأتي به بالعشيّ.

   بعد هذه المقدّمة أعود لموضوع دراستي، مجموعة (خطيئة الظلّ)، فالعنوان عتبة المجموعة بدلالاته الخفيّة، وبإشكاليّة دلالته، الخطيئة إذا كانت جريمة مُقترفة بحق كائن؛ فصاحبها مُجرم، وإذا كانت ذنبًا بطريق الخطأ بحق الله مثلًا؛ سيغفره الله لعبده إذا تاب بنيّة عدم العودة إليه، إذا كان بحق شخص لابدّ له من الاستسماح، وطلب الصّفح.

   بينما في حالتنا فمن اقترف الخطيئة هو (الظلّ) الوهم الذي نتوهّمه أنّه شكل جديد لنا، رغم أنّه شيءٌ آخر تمامًا، لأنّه وهْمٌ وزيفٌ، وهو صورة مُشوّهة عن الحقيقة المُنعكِس عنها، ولا يمتً لها بصلة أبدًا.

   فلماذا لجأت الكاتبة للظلّ، وقرنته بالخطيئة؟. تساؤل جدير بالتوقّف عليه، حينما نعلم أن المجتمع المُحافظ يعتبر المرأة المُتعلّمة جريئة وخطيئة، فما بالك إذا كتبت كلمات تُعبّر فيها عن أشياء خفيّة في نفسها، وتُفصح فيها ذاتها. أعتقدُ هنا أنّها لجأت للظلّ لتقترف خطيئة الكتابة بمفهوم يضيق ذرعًا بمفهوم المرأة الشّاعرة، رغم تناسي (الخنساء، وليلى الأخيليّة، وليلى العامريّة، وعائشة التيموريّة، فدوى طوقان، نازك الملائكة) هذا على سبيل المثال لا الحصر. قلم تكنّ الأديبة (أماني المبارك) بدعًا عن هذه الطّائفة من النسويّة التي فاقت كثيرًا من الرّجال.

   

رمزيّة السّماء:

*(في فضاء الأنوثة مجهر قلبي) ص15، وبشكل عام فإن الفضاء دالٌّ على السماء لاتّساعها، الذي شبّهت به فضاء الأنوثة بالسّماء.  

*(باشتعال ارتعاشات الدخان، تلفني حلقاتها) ص15، والدّخان لخفّة وزنه يتصاعد إلى الأعلى، وسُحُبه تتبدّد في السّماء الفسيحة.

*(إلى مجرة دمعك) ص16، والمجرّة لما فيها من الكثير من الكواكب والنّجوم، كـ(درب التبّانة) هي من لزوم السّماء، التي تحتوي على مجّرات أخرى.

*(باتت طبول تقرع في المحراب) ص17+ (كصوفيّ ردّد تراتيل الهوى)+ (أغض البصر عن المناجاة) ص23. بالتوقّف أمام كلمات (المحراب، تراتيل، المناجاة) فهذه من صفات المؤمنين والعُبّاد والزّاهدين، وبأدعيتهم هذه يتوجهون فيها لربّ السماء، بنيّة يقين الاستجابة.

*(لا ظلّ يحتويه سواها) ص27. والظلّ هو انعكاس أو الوجه الآخر السفلي للسماء.

*(أغادر باب السماء، أصيّرني قطرة لعتبة غيمة لا تهطل) ص29. بالتأمل بكلمة (قطرة، غيمة، تهطل)، هذه الكلمات إعلان عن السّماء القادمة منها.

*(يأخذك أديم الأرض، كيف خفق أرواحًا بلون الحنطة) ص30، وأديم الأرض هو الوجه السّفلي للسماء، وخفق الأرواح إلى خالقها في السماء.

*(حرف سماويٌّ.. دهشته كزرقة البتول) ص32+ (هناك حلم يلوح في أفق المواني)، والأفق كذلك جزء من السماء.

*(تذكّر أوّل طفلة حَبَتْ نحو النّور، تعانقُ جرائد السّماء) ص33. الخليقة كلّها منذ البدء، ومع بداية تفتّح وعي المولود عيونه لا تترك التطلّع إلى السّماء أبدًا، وهذه من المشاهد المخفيّة خلف التعابير الشعريّة عند (أماني المبارك).

*(تذكر آخر القصيدة التي أشرقت بلون الشمس، وتجمّلت كالبدر، تحولت إلى مجرّة تناقضات) ص34. (الشمس، القمر، المجرّة)، وهي آيات عظمي من آيات السّماء.

*(أرهقها الغياب، وأسقطها في فم المطر، على رمش القمر) ص36. ومثل ذلك (المطر، القمر).

*(على طاولة أعمارنا المثقلة بالشقوق.. لحظة غروب) ص38. والغروب والشروق من لوازم تعاقب الليل والنهار، وكل فعلهما يبتدئ وينتهي بفعل دوران الأرض حول نفسها، وظهر الشمس على أجزاء من الكرة الأرضية، وغيابها عن أجزاء أخرى.  

(في توقيت ساعتها الرملية، يقلبها القدر ثانية) ص44. والساعة الرملية لزوم الزمن وحساباته، وهي نتيجة حتمية لحركة الكون وتعاقب الليل والنهار.

  هذه  طائفة م الأمثلة جئت بها تدليلا على رمزية السماء في مجموعة (خطيئة الظلّ)، وليس على سبيل الحصر.

 

التناصّ القرآني:

كثيرًا ما يلجأ الأدباء للاستعانة ببعض المعاني اتّكاء على بعض النصوص القرآنيّة أو الأحاديث النبويّة الشريفة، أو بعضًا من أقوال العظماء والقادة في العالم القديم والحديث، بإعادة تدوير المعنى؛ لإنتاج معنى آخر جديد يتناصّ مع الأساس الذي قام عليه، بما يضفى ناحية جماليّة للقصيدة. ومقابسة بين الماضي ليكون طريقًا للنهوض إلى المستقبل. وللخروج من قوالب شعرية رتيبة.

*تقول: (لقارئة الكفّ التي تخبرني: عن امرأة بلاد الحنطة). ص32+ (هكذا تكون امرأة التعاويذ) ص27= فهذه العبارة: (كذب المنجّمون ولو صدقواليست آية ولا حديثاً، وإنما هي من العبارات الصحيحة المعنى، التي اشتهرت على ألسنة الناس، وتتوافق مع مفهوم الإسلام لعمل المنجمين بمطالعة الغيوب.

*تقول: (النساء المعتكفات في عباءة الكيد) ص22= وفي قصة نبيّ الله يوسف عليه السلام، وما حدث من كيد امرأة العزيز، بمراودته عن نفسها، فاستعصم، عندما همّت به، التّناصّ مع الآية الكريمة: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ، قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (سورة يوسف 28)

*تقول: (تكوّرت كالعرجون القديم) ص39= التّناصّ مع الآية الكريمة: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (سورة يس/39) بمعنى أن القمر إذا سار في منازله، وكان في آخرها دقّ وتقوّسَ وضاقَ، حتى صار كالعرجون القديم، وهو العرجون هو العذق اليابس المنحني من النخلة. 

*تقول: (وربّ الفجر) ص42= التّناصّ مع الآية الكريمة: (والفجر.. وليالٍ عشر) (سورة الفجر 1و2)، قسم بالفجر وعشر ليال من ذي الحجة. وإذا أقسم الله بشيء لإظهار أهميّته في الكون والحياة.

*تقول: (والقلب إذا انفطر) ص52= التّناصّ مع الآية الكريمة: (والسماء إذا انفطرت) (سورة الانفطار 1) أي انشّقت.

*تقول: (اقرأ واقترب) ص74= التّناصّ مع الآية الكريمة: (واسجد واقترب) (سورة العلق 19).

*تقول: (وأنت تقترب من صلصالي) ص80= التّناصّ مع الآية الكريمة:  (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (سورة الرحمن 14).  والصلصال هو الطين، أو الطين اليابس.

*تقول: (في ليلة مباركة ليلَكِيّة) ص91= التّناصّ مع الآية الكريمة: (إِنَّا أَنـزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) سورة الدخان آية3، أقسم جلّ ثناؤه بهذا الكتاب, أنه أنـزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر (إنّ أنزلناه في ليلة القدر).

*تقول: (كأنها السراب) ص97= التّناصّ مع الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (سورة النور39).

*تقول: (لا أنتَ تُزَمّلَني) ص106= التّناصّ مع الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) (سورة المزمل 1+2) وهو المتزمّل في ثيابه، ومثله في ذلك المعنى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (سورة المدّثر 1) يا أيها المتدثر بثيابه عند نومه. وتذكيرنا بقصة النبي مع زوجته السيدة خديجة عند عودته من الغار خائفًا، عند مجيء الوحي جبريل له بالرسالة، وأمره بالقراءة، بقوله: (اقرأ)، فردّ النبيّ: "ما أنا بقارئ".  

  وفي النهاية فإن مجموعة (خطيئة الظل) للأديبة (أماني المبارك)، مليئة بالجماليّات اللغويّة بتراكيبها، والصّور الشعريّة والتشابيه، وهناك من النصوص القويّة التي بحاجة لدراسات نقدية مستفيضة؛ للإحاطة بالجوانب المشرقة، والمضيئة؛ للتوقّف على أعتباها واستخلاص جماليّاتها، وتقديمها للقارئ. وهي مجموعة مثقفة عميقة الغور في أعماق التاريخ ودروسه، والواقع ومآسيه بعين حاذقة واعية.

عمان – الأردنّ

ــا19\ 7\ 2020

 

 

   


الخبرة تتجلّى إبداعًا إصلاحيًا عند الدكتور سلطان الخضور في كتابه (رسالة من امرأة)

الخبرة تتجلّى إبداعًا إصلاحيًا 
عند الدكتور سلطان الخضور
في كتابه (رسالة من امرأة)

بقلم – الروائي محمد فتحي المقداد 
 

   العنوان (رسالة من امرأة) الذي صدر حديثًا، جاذب لمعرفة فحوى رسالة، خاصة إذا كانت من امرأة، وتحت العنوان مباشرة وبين قوسين، دلالة على هويّة الكتاب الذي جاء بمواده المختلفة عبارة عن نماذج من الأدب الاجتماعي. والعنوان هو أحد نصوص الكتاب، من الباب الثالث اليُشيرُ إلى (قصص من الواقع). والرسالة جاءت غير مباشرة من زوجة صديق أحدهم، أثناء زيارته، حين قدموا له واجب الضيافة، فكان أولًا كأس العصير كان ساخنًا، فأحسن الظن، بأن ثلاجتهم عاطلة ومتوقفة عن العمل، لكن لما قدموا له فنجان قهوة بماء بارد. فهم بأن صاحبة البيت لا تحب الضيوف، وهو على الأخص ضيف غير مرحب به. فقام من فوره ولم يعد لزيارة صديقه، أيضًا لم يخبره بملاحظته، كي لا يتسبب بخلافات لعائلة صديقه. 
   والالتزام بتكاليف وأعباء مفروضة على هذا الإنسان، كونه يعي ويدرك حجم المأساة في محيطه، ويتلمس دروب تحسين الأوضاع بشكل عام، والالتزام رديف الإصلاح الأساسي، فلا فائدة من غير تبنْى المثقف قضية ويدافع عنها، وكثير منهم من كان كبش فداء لذلك. والكاتب والأديب والمفكر والعالم لا بدّ أن يحمل قضايا مجتمعه، وقضايا كبرى مرتبطة بالقضايا المصيرية للأمة. 
   
*توزّع الكتاب على خمسة أبواب:
- الباب الأول: إضاءة على الأدب الاجتماعي. 
- الباب الثاني : مقالات ومواقف. 
- الباب الثالث: همسات. 
- الباب الرابع: قصص من الواقع. 
- الباب الخامس: رثائيات. 
     ومن الإنصاف لكتاب (رسالة من امرأة) تناول الفصول فصلًا فصلا، وتبيان ما انطوت عليه من عبر وعظاتٍ وجماليّات، لأنّ كلٍّ منها أخذ منحى مختلفًا عن الآخر بموضوعاته، وكان من الممكن أن يكون بعضها كتابًا مستقلًّا، إمّا عبارة عن مجموعة قصصيّة، أو مجموعة خواطر.

*الباب الأوّل: الأدب الاجتماعي:
   بحث قيّم ومفيد للقارئ، ابتدأ بتعريف موجز للأدب الاجتماعيّ من معجم المعاني الجامع للأدب: (ما أنتجه العقل الإنسانيّ من ضروب المعرفة عامّة) ص8، وعند رائد عالم الاجتماع العربيّ(ابن خلدون): "فكر الأمّة الموروث الذي يُعبّر عنه الشّاعر أو الكاتب بلغة ذات مستوى رفيع" ص8. 
   والأدب الاجتماعيّ يبحثُ في قضايا الناس جمعها، من قضايا حياتيّة يومية ومصيريّة، ومشاكل وتعقيدات، وهو جنس أدبيّ يهتمّ  بالحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، ومختلف الشّؤون المنظورة وغير ها. 
    وأهميّة الأدب الاجتماعيّ تأتي من انتمائه للمجتمع، ويساهم في بنائه القِيَمي، ومعالجة  التحدّيات، والنّظر إلى سُبُل الحلول النّاجعة في إرساء السّلم الأهلي والمجتمعي، من خلال إدراك الأديب (سلطان الخضور) المُبكّر لهذه الأشياء، ومحاولة القيام بدور توعويّ للارتقاء بمجتمعه للحالة المُثلى المنشودة في ذهنه. وهذه العلاقة التبادليّة بين الأديب ومجتمعه، تجعل من الأديب مؤشّر إنذار مُبكّر؛ لتحسسه المشاكل ولفت الانتباه لها قبل وقوعها ربّما بزمان طويل.   

*الباب الثاني: مقالات ومواقف:
   فالعنوان الأول في هذا الباب (الكرامة والأرض)، (إربد.. الوجه الصبوح، والابتسامة الدّائمة)، (بمناسبة يوم الصّحّة العالمي)، (الوحدة الوطنيّة)، (احتفال ومزامير)، (من العدل)، (أمّ النّكبات)، (تعليقات)، (نتائج الثانويّة العامّة)، (رسائل)، (حكاية شعب)، (النّظم مُعطّل). 
   هذه الطائّفة من العنوانات جئت بها على سبيل المثال لا الحصر، والمتأمّل لها، سيستخلص منها الرّابط بينها، ومثلها بقيّة العناوين في هذا الباب، فهي جميعًا مقالات ذات نهج اجتماعيٍّ إصلاحيٍّ، جاءت من خلال سرد أدبي بأسلوب رقيق قريب إلى النّفس مفهوم للقارئ مهما كانت درجة ثقافته، ومن السّهل استخلاص رسالة الكاتب التي أرادها، ودوّنها لتكون سجّلًا شاهدًا على زمن عاشه وعاين مشكلاته، وهو يتكلّم عنها بروح المُصلح والمربّي الغيور على مجتمعه وأمّته ووطنه. 

*الباب الثالث: همسات: 
   جاء على شكل خواطر تميل إلى القِصَر، وأجمل القول ما كان مُختصرًا مفيدًا، بعيدًا عن تكلّف العبارة، والتزويق الأدبي الذي ما يجنح كثير به من الكُتّاب إلى الرّمزيّة الغارقة تيهًا في سردٍ أدبيٍّ متعشّب في دلالاته، ومن الصعب الإمساك بمفاتيح أيّ نصّ منه، ليكون من المستطاع فهم مراده. 
   وللتدليل على ما ذهبت إليه، سأنقل عبارات للتأمّل في إعادة تدويرها بطريقة الكاتب سلطان الخضور: (كن حييًا وقورًا؛ لتكسب رضا الله ورضا الناس) ص108، (على من يقرأ أن لا يسأل الكاتب: لمَ كتب، أو لمن كتب) ص109، (لم يكن الانتماء يومًا شعارًا يُعبَّر عنه بالكلمات) ص109، (أدخلوني في نفق مظلم، و لمّا وصلتُ نقطة الوسط، أطفؤوا بصيص النّور الذي كان في نهايته) ص109، (حبّ الحياة سنّة الله في خلقه) ص110، (الحروف كما اللّسان.. ليس بالضرورة أن تقود إلى الخير) ص110، (النقد البنّاء: هو النقد الموضوعيّ المُجرّد الخالي من الهوى، والذي يستدف الفعل لا فاعله) ص111، (مجالسة السّفهاء، كمجادلة الحمقى) ص111، (علينا أن نُعلم أولادنا أن يُعبّروا عن دواخلهم بصدق) ص112. 
  لعلّ الاكتفاء بهذه الطّائفة من العبارات رائعة المغازي برسائلها، ذات النّزعة الإصلاحيّة، ومن خلالها تتبدّى شخصيّة الكاتب الذي عمل في سلك التربية والتعليم، من الجيل العصاميّ الذي تعلّم وأثبت وجوده رغم المصاعب والفقر. فهو يتكلّم بروح أبويّة بتوجيه النّقد غير الجارح لمشاعر الآخرين، بتقدير قيمة الآخرين واحترام خصوصيّاتهم.   

*الفصل الرابع: قصص من الواقع:
   -فيقول الكاتب: " كان محور الشّكوى من الأوضاع العامّة، واليأس وتغيّر الأحوال، والقلق والتأفّف من مصاعب الحياة، وعدم الثّقة بالمستقبل" ص155.  
-"لم يعد الأمل من مفردات لغتي. بات اليأس يقتلني؛ فأنا إن بقي الوضع كما هو سأموتُ ألف مرّة قبل أن أغادر مسرح الحياة" ص158.
-"ما هكذا قلوب المؤمنين" ص159.
- "عمرك شُفت حدا بالعالم العربيّ يلتزم بموعد؟" ص160.
   (سلطان الخضور) إنسان موجوع بهموم مجتمعه وأمّته، وهو قد عاصر النكبة والنكسة والتهجير، ومكابدة مشاقّ الحياة، فقد خبر دقائق مفاصلها ومخارجها ومداخلها؛ فكان (الرّائد الذي لا يكذب أهله). 

*الفصل الخامس: رثائيّات: 
   فتخصص بمن رحلوا عن الدّنيا إلى رحاب الله، فكان أول مرثيّة لوالده، وللشاعر يوسف أبو حميد، وللشاعر أمجد ناصر، وللدكتور محمود الحمّوري، وجاره أبو محمد الحمّوري. 
   وفي المراثي عامّة يظهر صدق العاطفة فمن رثاء لأبيه، والذي هو جزء منه، لا يمكن بتاتًا إلّا أن يكون كلام القلب للقلب، بما يحمل من دموع وآهات وغصّة في الحلق والقلب، وكذلك الأمر انسحب على أصدقائه في مجال الثّقافة، وجاره أبو محمد.   والرّثاء في الأدبيّات القديمة منذ البدايات الأدبيّة في  الشّعر الجاهليّ ممتدّا إلى الحاضر ليكون للنثر دورًا بارزًا في هذا المجال، ليتساوق مع الشعر في تخليد المناسبة، وتمجيد صاحب المرثيّة، وإبراز محاسنه وفضائله.
ختامًا: 
الكتاب (رسالة من امرأة) يعتبر سجّلًا جامعًا لزمان ومكان، وأحداث كثيرة، وانتقاد لأساليب التعامل اليوميّ على جميع الأصعدة الحياتيّة، في البيت والسّوق والمدرسة والدّائرة الرّسميّة وفي الحارة والمدينة والوطن العربيّ أجمع، ميدان هذه القصص والمقالات الهادفة النّابضة بالحياة من أجل حياة أفضل. 
عمّان – الأردن
30\ 6\ 2020

أعطونا ساعاتٍ ذهبيّة

أعطونا ساعاتٍ ذهبيّة
مقالات ملفقة (26\2)
بقلم – محمد فتحي المقداد

بالفعل نحن أمام ظاهرة الانشغال الدائم لدى كثير من النّاس الذين نصادفهم، أو لنا علاقات معهم بحكم القرابة أو العمل أو المصادفة، يبدأ بالتأفّف ومن ثمّ يقول بلسان عريض: "والله مُستعجل". وهذا الأمر يربكني، خاصّة أنّ عملي المهني "حلاق" يستدعي الانتظار، وطول البال.  الحقيقة أقولها بملء فمي، بعد استقصاء صادقٍ ومتأنٍّ منّي، تبيّن: "أن كلمة مستعجل صارت لهجة دارجة، أيضًا بعضهم لإظهار أهميّته لدى المستمع والمتلقّي"، والأقسى إيلامًا على نفسي، بعدما تأكّدتُ أنّ غالبيّتهم، لا شيء ولا عمل مهمٍّ يستدعي تعجّلهم، إمّا للّحاق بالشّلة ولعب الورق واللّهو ساعات طويلة في الغيبة والنميمة، فإذا كان هذا هو الذي يشغل بالهم. 
   الموضوع فتح عينيّ على فيض تساؤلات: "ما هو الشيء الذي لا يُشغلهم؟". وهل استخدامي للساعة صواب..!!، مؤكّد.. ما هو إلّا محاولتي الفاشلة للقبض على الزّمن الفارط من بين أصابع كفيّ.
   ولن يتغيّر الأمر، وإن كانت السّاعات سويسريّة أو تايوانيّة الصّناعة، رغم البَوْن الشّاسع في الجودة والقيمة ما بين الصّناعتيْن، رغم أنّ جميعها تُحاول جاهدة ضبط التوقيت بدقّة، لمساعدتي في استدراك ذاتي المُسافرة المنتظرة في محطّة الزّمن المُتسارع. 
   فهل باستطاعتها استعادة شيء مما مضى..؟. 
  فماذا لو تعطّلت السّاعة؛ فهل ستوقّف الزّمان إكرامًا لها.. لأنّها دليلُهُ إليّ؟.
  أعتقدُ جازمًا: أنّني رأيتُ عجزي الفاضح في القبض على الزّمن، المُتسرّب من صفحات حياتي الذّابلة بمغادرته لها، محاولاتي الفاشلة لا تفتأ تتكرّرُ المرّة تِلوَ المرّة.. دون تحقيق أدنى فائدة تُذكَر.. فما هي إلّا لوثة عنادٍ في رأسي المُثقَل إصرارًا كما "سيريف" سيّد المعاندين. 
  دأبي يُماثل دأب الثَريّ وساعته الذهبيّة، التي ما إن لو وُزّع ثمنها لأطعم حيًّا من أحياء المدينة، أ, قرية صغيرة لمدّة أسبوع على الأقل، إن لم يكن شهرًا بلا أدنى مُبالغة. 
   جدّي الأوّل فكّرَ في ملاحظة ومُتابعة الظلِّ كلّ يوم؛ لأنّه لم يكن مشغولًا كما نحن الآن، وعلى مدار زمان طويل، حتّى حفظ مؤشّراته على وقت ابتكره؛ تبعًا لحركة الشّمس أمُّ الظِّلِّ، وضِيَاها أباه.
   مُغامرة جدّي الإنسان الأوّل انطوت على إصراره كما إصراري؛ للّحاق بالزّمن، ثمّ بعد أن أنهكه التعب وهو يرعى أغنامه منذ الباكر من صباح كلّ يوم؛ فغرز عصاه (المزولة) التي يهشّ بها قطيعه في الرّمل، واتّكأ على جنبه، وعى لحركة ظلّ العصا عندما صار بطولها، إلى أكثر فأكثر؛ ولكي يلهو بتمرير الوقت، أعجبته اللّعبة، تابعها كلّ يوم، مقارنة النّتائج على مدار سنة وثانية وثالثة، كانت فتحًا جديدًا في عدّ الوقت، وتقسيمه إلى فئات ووحدات استغرقت اليوم والليلة. وهكذا ظهر التقويم.  
   ثمّ ابتكر بعد المزولة السّاعة الرمليّة، والحاجة أمّ الاختراع، وإعادة تدوير المواد الطبيعيّة في البيئة، وهي أوّل فائدة مُكتشفة للرّمال سِمَة الصّحاري القاحلة والجافّة والحارّة، ومن ثمّ تدرّج في ارتقاء اختراعاته إلى السّاعة البندول الرّقّاص، إلى ساعة الجيب ذات السّلسلة المعدنيّة، إلى ساعة اليدّ ذات العقارب، إلى الرقميّة منها ذات الأرقام الإلكترونيّة.
   كنتّ أعجب لصديقي (علي الشّاهين) رحمه الله: "فقد كان لا يضع السّاعة على معصمه، ولا يحمل قدّاحة لإشعال سجائره، ولا يلبس حزامًا جلديًّا على خصره". لكن عجبي زال، عندما قرأتُ جُملة للشاعر (محمد الماغوط) في احد حواراته: "أعطونا ساعات ذهبيّة.. وسرقوا منّا الوقت..!!".
عمّان – الأردن
2\ 7\ 2020

كلمة لا بدّ منها: للصديق (نوران الحوراني)

كلمة لا بدّ منها: 
للصديق (نوران الحوراني) 

بقلم الروائيّ-  محمد فتحي المقداد
 
من محاسن لجوئنا أنّه فتح لنا أبوابًا جديدة، ونوافذ أطلننا منها إلى الآخر، وتلاقحت المعارف والثقافات، وتحفزت الأفكار للإبداع عن الكثيرين من أبناء بلدي خاصة في الأردن، البلد الذي فتح قلبه وصدره، فكان كالأم وصدرها الحنون.
ومما يجدر قوله: "الأردن يتقدم دول الجوار بخمسين سنة على الأقلّ في مجال الحريّات الشخصيّة".
وعلى الساحة الأردنية التقيت بالعديد من الفعاليات المحلية والسورية والعربية، ومنذ سنوات مجيئي في بداية العام ٢٠١٣، وفي كلّ صيف أرى عمّان خلية نحل نشطة ثقافيا على الصعيد العربي أجمع، يؤمّها الشعراء والكتاب والأدباء على مختلف جنسياتهم وانتماءاتهم ومرجعايتهم الفكرية والسياسية، وقد واعتلوا منصاتها الثقافية، وجمهور الأردن يستمع ويصفق لهم.
في عمّان كان لقائي الأول بالأستاذ (نوران الحوراني) ابن مدينة درعا، أسرني بلباقته منذ أول دردشة بيننا على المسنجر، وكان اللقاء الأهم وجهًا لوجه في وسط البلد في عمّان، وعلمت أنه يحمل بكالوريوس لغة فرنسية من جامعة دمشق، ثقافته الواسعة لم تأت من فراغ، فعمله في مكتبة (دنديس) أتاح له التعامل مع الكتب والأدباء والباحثين والأكاديميين، وفي أوقات فراغه القليلة يقرأ فيما يروق له، لا سيما اعظم كتب الأدب والعلم والدين بين يديه وفي متناول يده.
ابتسامته كانت دليله إلى قلبي، تواضعه الجمّ أسرني، حلو منطقه في الكلام استحوذ على اهتمامي لكي أستمع إليه بكل شغف.
لا يخفى طيبه ونقاؤه على من يلتقيه ولو لمرة واحدة، روحه مرحة رغم دواخله الموجوعة.. يعمل بجد ونشاط لا يكسل ولا يتأفف، ولم يمنعه تقدم العمر من مزاولة عمله بهمة عالية، واخلاص، ونصح، ومثابرة. تحياتي لك أبا رامز الغالي

عمان - الأردنّ
٦/ ٧/ ٢٠٢٠