الأربعاء، 2 أكتوبر 2019

ورقو الاصفر شهر أيلول (مقالات ملفقة ٢٠/٢)

ورق الأصفر شهر أيلول
مقالات ملفقة (٢/٢٠)

بقلم/ محمد فتحي المقداد


منذ صغري اقترن في ذهني، أنّ بداية كلّ عام دراسيٍّ، تأتي متزامنة مع بداية الخريف، ترسّخ ذلك في مخيّلتي. من دروس القراءة في الصفوف الابتدائيّة الأولى، الصُّور الملوّنة التي تصوّر الأشجار وهي تتعرّى، بتساقط أوراقها الصفراء. كما تظهر البهجة والابتسامة مُرتسمة على وجوه التّلاميذ أثناء ذهابهم، ولقاء أصدقائهم من جديد، وهم يصطّفون لتحيّة العلم. ومدير المدرسة يحيّيهم، وهو يستقبلهم ببشاشة في أوّل يوم من افتتاح المدرسة لأبوابها، واستقبال الطلّاب.

هذه حكاية الصّور البهيجة، المختلفة تمامًا عن واقع المدير الصّارم بملامح وجهه الحادّة. منظره من بعيدٍ كان يُثير الرّعب في قلوب التّلاميذ، خاصّة عندما يخرج لحضور الطّابور الصباحيّ، ومعاقبة المتأخّرين بالعصا الغليظة تنزل على أيديهم بقوّة، ولا تأخذه بهم رأفة أبدًا أو يرفّ له جفنٌ، والتفتيش الأسبوعيّ على الشعر الطويل، والنظافة عامّة، والأظافر الطويلة، وكلّها مخالفات تستوجب العقوبة الصباحيّة، وأحيانًا الطّرد من أجل حلاقة الشّعر.

جاء العنوان (الورق الأصفر) برمزيّته الدّالة إلى فصل الخريف. اسم الخريف يأتي على وجهين زماني ومكاني، وهو أحد فصول السّنة الأربعة، يلي الصيف ويسبق الشتاء، ويبدأ فلكيًّا في منتصف الكرة الشّمالي من (22-23 أيلول)، وينتهي في ( 22-23 كانون أوّل).
وإذا حلّ تناثرت أوراق الأشجار في كلّ مكان، وهو أوّل ما يبدأ من المطر في أوّل الشتاء، ويقال في ذلك: (أيلول ذيله مَبلُول)، وعندما تهطل الأمطار في هذا الشّهر، يستبشر الفلّاحون خيرًا، فإذا كان المطر مُبكّرًا. يقول عنه أهل حوران: (المطر هِرْفي).

وسُمِّي الخريف خريفًا، لأن الثّمار تُخرَفُ فيه أي تُجنى، وقال أبو حنيفة: (ليس الخريف في الأصل باسم الفّصل، وإنّما اسم مطر القيظ، ثمّ سُمِّي الزّمن به). ومما جاء في الدلالة الزمنيّة على ما ذهبتُ إليه من معنى كلمة الخريف، حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنّ الرّجلُ ليتكلّم بالكلمة، وما يرى بها بأسًا، يهوي بها في سبعين خريفًا في النّار) حديث شريف. وأيضًا: (من صامَ يومًا في سبيل الله، باعدَهُ الله من النّار أربعين خريفًا أو سبعين) حديث شريف.

والدلالة المكانيّة للخريف، والقوم إذا أخرفوا أقاموا بالمكان ويسمى خريفهم، والمخْرَف موضع إقامتهم ذلك الزّمن، وحديث عمر رضي الله عنه: (إذا رأيت قومًا خَرَفُوا في حائطِهم)، أي أقاموا منه وقت اختراف الثّمار، وهو الخريف والمخرف وهو البستان، وقال أبو طلحة: (إنّ لي مَخْرَفًا، وإنّي قد جعلتُه صدقة)، والمخرف أي بُستانًا من النّخل. وفي حديث أبي قتادة: (فابْتَعتُ به مَخرفًا)، أي حائطًا يُخرَفُ منه الرّطب. وكذلك ورد في حديث شريف: (عائد المريض له خريفٌ في الجنّة)، أي مخروف من ثمرها، والمَخْرَفَة البُستان.
سمعتُ أهل الكرك في جنوب الأردن وأنا أعيش معهم من سنوات، يقولون: (تعالوا نتخرّف)، أي نتحدّث بحديث اللّهو والنكتة، وحديث خُرافة أي المُستَمْلح من الكذب، وقد يكون كلامًا وهميًّا وغير منطقيّ، يُنكره العقل السّليم.

وقد ورد أنّ رجلًا من (بني عُذرَة) أو من (جُهينة)، اسمه (خُرافة). يُقال: (أنّ الجّن اختطفته، ثمّ رجع إلى قومه؛ فكان يُحدّث بأحاديث مما رأى، يُعجَب النّاس بها، فكذّبوه). فجرى على ألسنة النّاس ما يُعبّر عن الحديث: (خرافة، وخُرافيّ، وخُرافات، عندما لا يكون معقولًا). وفي حديث عائشة رضي الله عنها. قال حدّثيني. قالت: (ما أحدّثكَ حديث خُرافة)، أي الخُرافات الموضوعة من أحاديث اللّيل، وقد جرى هذا المعنى، على كلّ ما يُكذّونه من الأحاديث، وعلى كلّ ما يُستملح، ويُتَعجَّب منه.

ومن خرّفَ، كان كلامه كلّه تخريف وتخريفات وتخاريف، واعتقادات فاسدة؛ كتخاريف النّائم السّكران، وإذا خَرِفَ الرّجل يكون قد فسد عقله من الكِبر، فهو يخرُفُ خرفًا.
ومن التخريفات التي صارت بمثابة العالميّة، التخريفات الصهيونيّة بشأن هيكل سليمان، وادعاءاتهم الكاذبة بأنه مكان المسجد الأقصى.

كذلك الأرض المخروفة عندما يصيبها المطر في الخريف، ومربوعة إذا أصابها مطر الرّبيع، ومصيفة إذا أصابها الصّيف. ورد في الشّعر:
(إذا كان يُؤذيك حرُّ المَصيف ... وكربُ الخريف، وبردُ الشِّتَا).

والخروف هو ولد الحَمَل، والجمع أخرفة وخِرفان، والأنثى خروفة. واشتقاق الكلمة أنّه يُخرَف من هنا وهناك أي يرتع. وفي حديث المسيح عليه السّلام: (إنّما أبعثُكُم كالكباش، تلتقطون خِرفان بني إسرائيل). المراد بالكباش، العلماء الكبار، وبالخرفان الصّغار الجُهّال. والخروف أيضًا ولد الفرس، إذا بلغ ستّة أو سبعة أشهر، وهو ما ينتج في الخريف.

وجاء كتاب (خريف الغضب) للأستاذ (محمد حسنيْن هيكل)؛ ليكون وثيقة سياسية شاهدة على بداية، ونهاية عصر الرئيس المصري السّابق (محمد أنور السّادات)، وقصّة اغتياله الشهيرة على منصّة الشّرف 1981م، أثناء استعراض عسكريّ، بمناسبة حرب اكتوبر.

وكتب الروائي المصري (محمود ماهر)، روايته الأندلسيّة (خريف شجرة الرّمان) الشّهيرة، التي يتحدّث فيها عن أحداث ومعارك، وخيانات مرّت أيّام سقوط غرناطة. ومن الأدب العالمي نأتي على ذكر رواية(خريف البطريك) للروائي الحائز على جائزة نوبل (جابريل جارسيا ماركيز). وفيه تجسيد لروح الإدانة لنمط من الحُكّام الذين يُشبهون الجنرال المُستبدّ.

ومن يطالع سيرة (جاسم الخرافي) الكويتيّ الجنسيّة، يرى فيها رجل الدّولة والسياسي بحضوره القوي في ميادين وزارة المالية والاقتصاد (1985 – 1986)، ومن ثم رئيسًا لمجلس الأمّة الكويتي (1999- 2011)، وعودته بعد صدور قرار المحكمة الدستوريّة 2012م.

أتمنى من الله إذا كتب لي الحياة ولكم، أن لا ندخل خريف أعمارنا، إلّا وأن نكون في كامل صحتنا التي هي أجمل مُتع الدنيا على الإطلاق، وأن يحفظ علينا عقولنا بلا خَرَفٍ يُقلّل من هيبتنا، وأن لا نكون أداة في أيدي أعدائنا من ترويج للخرافات، والأضاليل الضارّة بمجتمعاتنا وأوطاننا. ومنذ بداية دخولنا شهر أيلول، ولا تزال أغنية فيروز تلحّ على ذاكرتي التي تَنْشط في فصل الخريف من كلّ عام: (ورقو الأصفر شهر أيلول، تحت الشّبايبك، ذكّرني، و ورقو دهب مشغول، ذكّرني فيك..إلخ).

عمّان – الأردن
17 \ 9 \ 2018

تقديمي لكتاب(كلمات مبيتورة /للأديب محمد صوالحة)

تقديم (لكتاب/ كلمات مبتورة - للأديب محمد صوالحة)

الروائي- محمد فتحي المقداد

فكما  يُقال: (الجُنونُ فنون), لكن فهل الجنون بحاجة إلى إثبات؟ والأنكى أنّ المُتّهم به يكتبُ الإثباتَ بيده. لا أدري مقاصده ولم أكشف عن خفايا قلبه ونواياه، وما يدورُ  في خَلدِه، وهل يرومُ إقناعنا فقط؟. ويقول: (يتيمٌ أنا إلّا من بقايا قلمٍ أكلته المبراة).
يتفّق الجنون والإبداع عند محمد صوالحة في كلماته المبتورة، حدّ الاشتباه أيّهما الأسبق، رغم أنّ ما كتبه يغلب ظاهره على أنّه بوحٌ وغزل، لكنّه موجوع بالكلام الخفيّ: (والوجع يا سيّدتي أوّل الرّبيع، وآخر المطر فلسفة الجنون في هواك، وأمارس بهواك كلّ طقوس الجنون) وإذا صحا  من سكرة الإدمان، يُنادي من جديد: (من يُعيد إليّ جنوني).
ففي مؤلّفه البكر (مذّكرات مجنون في مدن مجنونة)، كانت حيرة المُتلقّي في إصراره على مفردة الجنون، وفي الرّبط تتضح الرّؤية بأنّ محمد صوالحة عاقل واعٍ لما يدور في فلكه من فواجع ومآسي الأمّة، ففي كتابه هذا (كلمات مبتورة)، عنوانٌ لافتٌ للنّظر جديرٌ بالتوقّف عنده، فكيف إذا جاءت الكلمات مبتورة وأوصلت المعنى المُراد ورسالتها؟.
بالتوقّف عند قوله: (أمارسُ طقوسَ جنوني؛ فيغيب عنّي وجه الوطن، وأصير غريبًا). وكذلك: (اضْحك لجنونكَ.. ومن جنونكَ، لا تمدُد يدك لتُصافح أو تُصالح، لا تمدُد يدك لتُساوم أو تُصالح، لا تُفقِد الوطن أغنياته.. فتموتُ وأموتُ ويفقد النهر مجراه).
الجنون والوطن، ومن أجل الوطن، وعلى الوطن خوفًا على ضياعه جزءًا جزءًا، يقضمه العدوّ، ليستحيل حُلمًا وأملًا ومآسٍ مُدمّرة للإنسان لا تنتهي إلّا بموته. وهنا لا بدّ من التنويه إلى التناصّ مع نبوءة الشاعر (أمل دُنقل)، في قصيدته الشّهيرة (لا تُصالح).
وللمتبع لعنوانات نصوص الكتاب (كلمات مبتورة) يجدها تتمحور حول الغربة والاغتراب في الوطن وعن الوطن، والجنون، والرحيل، والهلوسات. لنجد (محمد صوالحة). ينادي متسائلًا عن ذاته: (أغفو على جمر غُربتي.. وأنادي أيْنكَ)، وتأتي الإجابة للقارئ: (واقفٌ كمجنون على المفترقات.. أنتظرُ عودتي لروحي الفقيدة).
الوجعُ والأنين، الحلم والأمل، المرأة والوطن، الغربة والاغتراب، الجنون والهلوسة، الحبّ والكراهة، الذات والذات البديلة، الأب والجدّ، الموت والحياة، أنا وأنت، السُّكْرُ والصحو، البسمة والدمعة، الذكرى والنسيان، الكون والإنسان.
ثنائيّات وشّت بخيوطها وتشابكاتها نصوص محمد صوالحة، تراوحت ما بين الخاطرة والقصيدة المنثورة وبعضها الموزون، افتقدت الفرح والمرح والسرور، واستولى عليها الهمّ والحزن على الواقع الضّائع بضياع الوطن والإنسان.
ويقول: (أتعبني البحث عن أوّل الطريق يا سيّدي..!! شيخُك أوصدَ أبوابه بوجهي.. نهرَني. قال: أيها المُثخَن والمُعبّأ بالأنين والذكريات.. هناك بعيدًا عنّي.. أثّث ليلك وذاكرتك.. أعِد ترميم روحك.. رتّب يومك).
أخيرًا يعلن: (تعبتُ وتعبتُ، وما شممتُ رائحة الملح الذي أفرزته خلاياي، وكل الجهات تشابهت، وكلّ الطّرق سراب).

عمّان – الأردن
15 / 8 / 2019
ا