الثلاثاء، 2 مارس 2021

ملامح مشروع عبد المجيد جرادات

 

 

 

 

ملامح مشروع

عبدالمجيد جرادات بين الفكر والسّياسة

 

بقلم الروائي السُّوريِّ - محمد فتحي المقداد

 

*المقدمة: 

   الخبرات المُتراكمة من شتّى وجوه المعرفة لم تأتِ بسهولةٍ ويُسْرٍ؛ فما من أحد من البَشَر إلّا ولديْه تجربته، ومعرفته، ورُؤيته لمسارات الحياة، ربّما تتطابق أو تتقاطع في كثير أو قليل مع الآخرين.

   أقفُ الآن أمامكم في هذا المساء الرّائق؛ لنقرأ في مشروع الأستاذ (عبدالمجيد جرادات) الفكريّ، من خلال كتاباته على مدار يقرُبُ من ثلاثة عقود، لمقالاته، وأبحاثه المنشورة في الصّحافة الأردنيّة والعربية على حدّ سواء.

   بنظرة سريعة: لا يصعب على القارئ المتتبّع لكتاباته على مختلف عناوينها، وتباعدها الزمانيّ؛ يستطيع تحديد ملامح هذا المشروع الفكريّ، الذي استطال بمقاربة الكمال الذي بباله، بأبعاده الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة، ذات النهج الإصلاحيّ.

   من خلال استقراء الواقع المحلّي, والعربيّ المحيط, والعالم الخارجيّ، واشتغاله على تدوير الأفكار بخبرة عريقة بأصالتها, المُختزنة في شخصه منذ طفولته الكركيّة، وإدراكه المُبكّر لظواهر جديرة بالانتباه، من خلال ذاكرة مُتوقِّدة، إضافة لخبرات وظيفيّة مُكتسبةٍ من المدرسة العسكريّة، وُصولًا لدراسة فكر العلاقات العامّة ما بين المملكة المتّحدة، والولايات المتّحدة الأمريكيّة.

   من خلال معرفتي به خلال هذه الفترة، والجلسات العديدة، المُتقاربة زمنيًا، تعلّمتُ منه الكثير والكثير. وكأنّني أجلسُ مرهوبًا أمام شيخي في جلسة صُوفيّة بِبُعدِها الرّوحيّ، أستمعُ نَهْلًا من معينه المُتدفّق بلا نُضوب.

   بإحساسي الذي لا يخيب، أدركتُ بما لا يَدع مجالًا للشكّ، من انتمائه الوطنيّ الأصيل, غير المؤطّر بخلفيّات حزبيّة. انتماءٌ للتراب, والأهل والعشيرة. كما تلمّستُ عنده طريقة التفكير المُعمّقة، والتأنّي في الاستماع, والإنصات للآخرين بلا تَعجُّل.

   شعوري الدَّائم أنّني في مدرسة ذاتِ أبعادٍ فكريّةٍ بمضامين حداثيّةِ الرُّؤى والمفاهيم، بخبراتها العريقة المُتحصّلة على مدار أربعة عُقودٍ عاشها بالكدّ والتّعب، ودقّة الملاحظة؛ فكوّن ثقافة عصاميّة مُلتزمة بقضايا الأمّة العربيّة والإسلاميّة، ساعيًا لتوظيفها في سبيل رفعة وتقدّم الوطن، والعيش بكرامة وسلام.

   وللمُثقَّف الحقيقيّ أن يُبحر بحريّة في تسطيراته لأفكاره ورُؤاهُ، وهذا يتجلى عند (عبدالمجيد جرادات) في مجموعة مؤلّفاته السّابقة. وبتتبّع العنوانات، أستطيعُ تدوينها؛ لتتّضح الرُّؤية في مسيرته الفكريّة الإصلاحيّة.

   ومن كان بهذه المواصفات الفائقة الجودة فِكريًّا، المُتقدّم بخطوات أغْبِطُه حَسَدًا على مُحتواه, المُتحصّل عنده على مدار عُمُرٍ مديد؛ لأجيز لنفسي إذا سمح لي، أن أُطلِقَ عليه لقب: المُفكّر، إلى جانب الثُّلّة من الذين حاول تتبُّع أثرهم، (كإدوارد سعيد، ومالك بن نبي، ومحمد عابد الجابري، وقُسطنطين زُريق، وعبدالرَّحمن الكواكبيّ).

   وفي كلّ ما أنتجه من كتابات؛ توزّعت على عدّة عناوين؛ لكتب بلغت السَّبْعةَ فيما أعلم، تخصّصت في استقراء الواقع والماضي، واستشراف رُؤى مُستقبليّة، على محامل علميّة، وسطيّة النّهج، تتّسع رؤاها للحوار القائم على الرأي والرأي الآخر، وانتقاء الأصلح والأفضل. وأجزمُ بأنّ كلَّ ما كتبه، سيكون قابلًا للنّقاش، يُؤخذ منه، ويُردّ عليه، ضمن التداول السلميّ للحوار، بعيدًا عن هيمنة الحِراب والاحتراب.

   كتب ما كتب الأستاذ جرادات، مُتوخِّيًا إمكانيّة تطبيق ما كَتَبَ أوّلًا، نظر من حوله وإلى حوله، لم يتّخذ له بُرجًا عاجِيًّا، ينظرُ من خلاله بمثاليّة أفلاطونيّة، ربّما تقودُ إلى جدلٍ بيزنطيّ عقيم.

***

 

*العنوانات:

 

كتاب (مرتكزات وأفكار)

   * ففي عام ١٩٩٦صدر هذا الكتاب، وهو دراسة فكريَّةٍ وتربويَّةٍ واقتصاديَّةٍ، في مدارها العلميّ لكل أوجه الحياة الإيجابيّة، تجمعُ بين عُنصرَيْ الإبداع والتوثيق للحقائق، التي يمكن البِنَاءُ على مُخرجاتها العلميّة، في سبيل النُّهوض الفكريّ والثقافيّ والاجتماعيّ.

   فالمعرفة بحدّ ذاتها؛ تُوسّع مجال الرّؤيا، وتُنير الطّريق بما يُعزّز سَيْرَ الرّكب الحضاريّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ؛ فالوُصول للكمال أمرٌ صعبُ المنالِ، ولكنّ الفضيلة أن يسعى المرء من أجل ذلك، ولأنّ الحكمةَ ضالّةُ المؤمنِ، وليس بوُسع أحَدٍ أن يدّعي المعرفة، إلّا إذا أثبتت الشّواهد ذلك، أمّا العلاقة المثاليّة يتولّد من خلالها أسلوب تبادل الآراء البنّاءة بمعناها الحضاريّ الأسمى.  

 

 

مواضيع كتاب (مرتكزات وأفكار):-

-         مقدمة المؤلف.

-         مفهوم الذّات.

-         مفاهيم تربويّة.

-         العلاقات والمصالح.

-         في الإدارة والتخطيط.

-         اتّخاذ القرارات.

-         الشّخصيّة والذّكاء.

-         فلسفة العلاقات الاجتماعيّة.

-         الرأي العامّ وفلسفة الحوار.

-         في الأفق الاقتصاديّ.

-         العمل في أجواء الأزمات.

-         آراء وملاحظات.

***

 

كتاب (الإرادة ومعايير القوة):

   * وفى٢٠٠٢ صدر الكتاب، على شكل بحث في كيفية بناء الخطط المُعتمدة على التَنَبُّؤ الحذِر، حتّى لا تتأثّر مسيرة التنمية اجتماعيًّا وسياسيًّا. من خلال مُرتكزاتٍ فكريّة، ركّزت على المفاهيم التربويّة، ذلك أنّ التحدّي المنظور أمام واقع التَّعليم في الوطن العربيّ، وقدرة المناهج التربويّة على نقل تكنولوجيا العصر، وتوظيفها لبناء النّشئ، سيّما وأنّ فلسفة التربية الحديثة هي صناعة الإنسان.

   ومن زاوية انسجام ثقافة الإنتاج، بعد أن أُتخِمت ثقافة الذّاكرة، وتوالي الأزمات بالاتّجاهات، التي تشوّشُ على الفكر النهضويّ الجديد.

مواضيع كتاب (الإرادة ومعايير القوة):

-         مقدمة المؤلف.

-         مستجدّات الصراع العربي الإسرائيلي.

-         التنمية في ظلّ العولمة.

-         الحركة الثقافيّة والفكريّة.

-         الفكر النّهضويّ العربيّ.

-         توقّعات.

***

 

كتاب (ملامح التحدّي، وأدوات التنمية):

  صدر هذا الكتاب في العام 2007، فكرة ورسالة الكتاب: عبارة عن قراءات في أهداف العولمة، والنظام العالميّ الجديد، ودورهما في التحوّلات البنيويّة، وإلى أيّ مدى يمكن تقييم تجارب الماضي، من خلال النظرة الموضوعيّة للحاضر، وأهميّة استشراف المستقبل.

   وماذا عن واقع التنمية في ظلّ التداخل غير المُنضبط بين الدّول والجماعات؟.

   وهل هناك إرادة فكريّة مُلتزمة باستحقاقات المرحلة؟.

وتبيان أهميّة السّير في ركب التطوّر التكنولوجيِّ، في حقبة تتراكم فيها الأزمات والمُعوّقاتُ، وتتقاطعُ من خلالها الأهداف السياسيّة مع المصالح الاقتصاديّة.

 

مواضيع كتاب (ملامح التحدّي، وأدوات التنمية):

-         المقدمة.

-         التراث الشعبيّ والفعل الثقافيّ.

-         الشّباب بين عناصر التحدّي، ومفهوم الرّياديّة.

-         في آفاق التنمية.

-         قراءة التّاريخ وتكنولوجيا المعلومات.

-         المفكّرون ومتطلّبات المرحلة.

-         وسائل الإعلام والرأي العامّ.

***

 

كتاب (ثقافة المعرفة والتفكير الاستراتيجيّ):

* وفي العام ٢٠١١ صدر هذا الكتاب. فحواهُ تدور حول: المعرفة تعمّق اليقين، لأنها تستمدّ قيمتها من جوهر الحقيقة التي تسود فيها الحكمة، وتتّضِح الرؤية؛ فالتفكير الاستراتيجيّ يتمثّل بالقدرة على الاستشراف الدّقيق؛ ليكون  بعد ذلك توجّهًا نحو المُواكبة، بما تستدعي من بذل الجهود، التي تُحقّق مبدأ السّير في مواكبة ركب التجدّد والتطوّر.

 

مواضيع كتاب (ثقافة المعرفة والتفكير الاستراتيجيّ):

-         قيمة المعرفة وفن الاستشراف.

-         اللغة العربيّة بين الفعل الثّقافيّ والدّور الإعلاميّ.

-         أدب الرّحلات ومفهوم التثاقف بين الشّعوب.

-         السّيميائيّة بين منهجيّة البحث ومقوّمات الاستدلال.

-         التّفكير الاستراتيجيّ والانتاج المعرفيّ.

***

 

 كتاب (العرب وفضاءات الأزمة)

* وفي ٢٠١٥ صدر أيضًا هذا الكتاب، وهو يعالج سيناريوهات مُوجّهَة، وتدخُّلات مُربكة ومرعبة خلطت الأوراق، وخلقت مُعاناةً للشُّعوب العربيّة بتحريك الفِتَن، وإذكاء الخلافات، وتغذيتها بين مُكوِّناتِها الاجتماعيّة، والتعويل على وجود إرادة عربيّة صلبة قويّة؛ للخروج من تبعات الأزمة، وذلك مع تزايد التحدّيات، للحدّ الذي تشعر به للأغلبيّة من أبناء العروبة، كأزمات: المياه، الطّاقة، وحدة الأسعار التي تؤثّر على التنمية الاقتصاديّة، وتراكم أعداد الباحثين عن العمل، وتضخّم المديونيّة في العديد من الدّول العربيّة، هذا إلى جانب ملامح الأزمات في العلاقات الدُّوليَّة، والتي تبرز بسبب تقاطع المصالح،  بين من يصنع  الفِعْل، ومن يتأثّر به.

 

مواضيع كتاب (العرب وفضاءات الأزمة)

-         المقدّمة.

-         التفكير السّياسيّ والفعل الثقافيّ.

-         مقاربات فكريّة نحو المناهج التعليميّة.

-         السّياسة والإعلام واللّغة.

-         حوار الحضارات وعناصر القوّة.

-         التنمية في ظلّ التقلّبات الاقتصاديّة.

-         العرب، وفلسفة الإصلاح.

-         المثقّفون واستحقاقات المرحلة.

-         مستقبليّات.

***

 

 

 كتاب (إطلالات من شرفة الحذر):

   * وفي ٢٠١٨ صدر هذا الكتاب، وفيه عالج فكرة التعاون والتنسيق الاقتصاديّة في محيطها العربيّ، وحذَر من خطط الدُّول الصِّناعيَّة والعُظمى؛ لجعل البلاد العربيّة سوقًا لمنتجاتها. ومَنْجَمًا للمواد الأوليَّة لاستمرار صناعاتهم، وبأسلوب لا ينسجم مع طموحات المُواطن العربيّ.

   ومن بين التحدّيات المُستقبليّة أمام صُنّاع السّياسة، وحملة الأقلام، أنّ مُخرجات الصّراع الدّائر في أكثر من دولة عربيّة منذ مطلع 2011. أدّت لتفريخ حركات إرهابيّة، بدأت أفعالها تُضيِّق على دِفْء العلاقات على مُستوى الدّول والجماعات.

   الأمر الذي يحتاج إلى حالة استنفار غير مسبوقة من قبل العلماء، وأهل الفكر من أبناء هذه الأمّة في دحض الشُّبهات، التي يعتقدُ الرَّأي العامّ العالميّ، أنّها تنبت في تربة العالم الإسلاميّ، مع أنّ حقيقة الأمر: أنّها جاءت ضمن سياسات، ومخطّطات الدّول العُظمى، التي تحرص على مستقبل مصالحها خارج حدودها.

مواضيع كتاب (إطلالات من شرفة الحذر):

-         الحوار الحضاريّ والانتاج الفكريّ.

-         المناهج التعليميّة والتطور التكنولوجي.

-         مقومات الابداع ومصادر المعرفة.

-         الثقافة والفكر التنمويّ.

-         الأهميّة الاقتصاديّة للوطن العربيّ.

-         اللّغة العربيّة والهويّة.

-         الشباب بين منظومة القيم وأدوات التنمية.

-         دوافع السّياسة ومظاهر الصّراع.

-         الاستنتاجات.

***

كتاب (من شرفة الثقافة ):

* وأخيرًا وليس آخرًا، صدر هذا الكتاب في العام 2020، ويدور حول حركة الزّمن، ودور أهل الفكر. في ظلّ التداخل غير المُنضبط في أكثر من اتّجاه، هنا تبرُزُ الحاجة لتفعيل دور التفكير النقديّ، الذي يستنطق الأحداث، ويقرأ الماضي والحاضر، ثمّ يستشرف المستقبل، بمنهجيّة تُعزّز دور العلماء، وأهل الفكر، بتقديم كلِّ ما لديهم من طروحات ومقترحات، وهنا تتجلّى مُهمّة الإدارة الحصيفة في فنّ التفكّر والتدبّر، ثمّ يأتي دور المرجعيّات الموثوقة، التي تحرص على  صوْن المنجزات، وتقفُ على شُرفة الأمل، الذي يُعزّز الثّقة بالنّفوس.

 

 مواضيع كتاب (من شرفة الثقافة ):

-         إضاءة.

-         الثقافة بين منظومة القيم وأدوات الشّفافيّة.

-         ماذا تكشف لنا شرفة الثّقافة؟.

-         المسؤوليّة الفكريّة ومنهجيّة الاستشراف.

-         الشّباب بين المُحدّدات والثقافة الانتاجيّة.

-         أهداف التنمية الاقتصاديّة.

-         الإعلام بين متطلّبات المهنة ومُحدّدات السّياسة.

-         فلسطين بين حقائق التّاريخ ودور أهل الفكر.

-         التاريخ العربيّ الحديث والتحدّيات الاقتصاديّة.

-         هوية الدولة العربيّة الحديثة والتنوع الثقافيّ.

-         الحوار الحضاريّ والفعل الثقافيّ.

-         مكانة اللّغة العربيّة بين مفهوم التأويل وعلم الدلالة.

-         مستقبليّات.

***

* وقفات  لا بدّ منها:

 

    من خلال تتبّعنا لمسيرة (عبدالمجيد جرادات) الثقافيّة، ومن خلال استعراضنا لما تقدّم، يتأكّد بما لا يدع مجالًا للشكّ، بأنّنا إزاء مُثقّف عميق، ومُفكِّر، ومُخطِّط استراتيجيّ، كتاباته تستهوي النُّخبة المُفكِّرة المُخطّطة لواقع الدُّول والشُّعوب. 

   سعة اِطّلاعه باهرة، على مُجريات السِّياسة العالميّة في كافّة مجالاتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. وهذه البحوث والدّراسات التي قدّمها في مسيرته الثقافيّة، أعتقدُ أنّ مكانها الحقيقيّ مراكز الدّراسات المُتخصِّصة، والنّافذة التي يُطلّ منها صاحب القرار، للاستضاءة بها أو ببعضها، لصَوْغ ما يراه مُناسبًا في الخير شعبه وبلده.

 

الوقفة الأولى: أنا أفكر؛ إذًا أنا موجود:

   هذه الوقفات لا بدّ منها؛ لاستيضاح واستقراء ملامح المشروع الفكري الاجتهاديّ للأستاذ عبدالمجيد جرادات:

   *(أنا أفكّر إذًا أنا موجود)، هذه المقولة الخالدة للمُعلّم (أرسطو)، هي مرتكزٌ أساسيّ من الممكن التأسيس للعديد من المواقف على ضوئها، (أنا أفكّر) والأنا إنسان، والإنسان هو الكائن الذي ينعمُ بالعقل، ليستطيع إدارة حياته من خلال التفكير. (إذا أنا موجود) النتيجة أنّ الإنسان أثبت وجوده في الوجود من خلال التفكير.

   وحيث أن التفكّر هو أرقى أنواع استخدام العقل، بوعي عظمة خلق هذا الوجود، وهذا ما ركّز عليه القرآن الكريم، في مواضع كثيرة من سُوَرِه. واقترن ذلك بصفات إنسانيّة باعثةٍ تعقّل دروب الإيمان، بيقين غيرِ قابلٍ لأدنى شكٍّ مُتسرّبٍ للنّفس؛ ليشوب رسوخ اليقين. وقد اعتبَرَ الأستاذ عباس محمود العقّاد رحمه الله أنّ: (التفكير فريضة إسلاميّة)، هذه العبارة جعلها عنوانًا عريضًا لأحد كتبه، كما أنّ المُفكّر الجزائريّ (مالك بن نبي) رحمه الله، جعل عبارة (مشكلة الأفكار) أيضًا عنوانًا لكتاب مُهمٍّ له.

   أمّا مبدأ التفكير فإنّه: تجسيد للتفاعل الإيجابيّ أو السلبيّ، وما بين أيدينا ممّا كتبّ الأستاذ جرادات؛ فهو بمنحاه الطبيعيّ إيجابًا؛ لتأكيد النّزعة الإنسانيّة في سبيل الحفاظ على البقاء والارتقاء، وحفظ الذَّات وصونها. من خلال محاولة تذليل المُعوّقات البشريّة والطبيعيّة. وهذا مدعاةٌ؛ لتعميق الدّراسات والعلوم الاجتماعيّة، برؤىً علميَّةٍ وعمليَّةٍ، حيث باتت الحياة الاجتماعيّة مَحكومة سياسيًّا واقتصاديًّا.

   في منجزه الأوّل (مرتكزاتٌ وأفكار) تناول قضايا الذّات الإنسانيّة بمفاهيم تربويّة، ذات علاقات مُتشابكةٍ تربويًّا، مرُتبطةٍ مع الإدارة والتخطيط، في سبيل اتّخاذ قرارات ذكيّةٍ؛ لبسط آفاق المجتمع الترفيهيَّةِ والحياتية، بإحلال الطمأنينة والاستقرار، من خلال تكوينات الرَّأي العامّ، بتشجيع فلسفة الحوار القائم على الرَّأي والرَّأيِ الآخر، بطريقة سلميَّة وحضاريّة لرُقِيّ الإنسان أوّلًا.

 

الوقفة الثانية: جرس إنذار  من الشُّرُفات :

   ولمّا يكون المُفكّر حاملًا لقضيّةٍ، ومُنتميًا لطريقٍ ومنهجٍ، فلا بدّ أن يقرع طبولًا، لما يرى فيه من الخطر القادم، وهو بمثابة جهازِ إنذارٍ مُبكّرٍ، قبل ما يتوقّعه بزمان، نتيجة استقرائه لمعطيات محليّة وعالميّة، بمقارنة المواقف بالمقدّمات والنتائج، وتحليلها ومطابقتها مع واقعٍ قابلٍ للتأثر والانفعال بما يحدث على الأطراف والجوار.

   وهذا ما تبدّى لي في كتاب (إطلالات من شرفة الحذر)، وبعد انجلاءِ الغَبَشِ عن المشهدِ، واتّضاحِ الرُّؤيةِ؛ جاء مشروع الكتاب الآخر تحت عنوان (من شرفة الثقافة).

   إذ تبلورت فكرة هذه الإطلالات من منظور، التحوّلات والمُتغيّرات العالميّة المُتسارعة والمُربكة، أثَّرَت في مجملها على شروط الوجود الإنسانيّ، بسيادة نُظم العولمة، واتّساع الهُوّة الاقتصاديّة بين شمالٍ رأسماليٍّ جَشِعٍ؛ يقوم بنهب خيرات الجنوب، وإفقاره.

   كما أنّ هُناك رؤيةً واقعيّةً لحجم جوانب التقدّم العلميِّ والتكنولوجيِّ؛ السّاعي للاستحواذ على مصادر الدَّخل القوميّ في الدّول النَّامية، ونزع كافّة وسائل القوّة من أيدي أبنائها. وإشاعة القلق بإثارة النَّعراتِ والحروبِ الدِّينيةِ والطَّائفيّةِ والقوميّةِ، وهذا الوضع من نتائج تقاطع مصالح، وسياسات الدّول الكبرى.

   هذه التحدّيات الداخليّة والخارجيّة لا يمكن أن يراها الإنسانُ العاديُّ المشغولُ بقوت يومه، ضمن معطياتٍ معيشيّةٍ مُنخفضةِ المُستوى؛ من هنا تأتي أهميّة المُفكّر، عندما ينهض فَزِعًا على مصير أمّته ووطنه؛ ليقرع أجراس الإنذار، ويرفعَ صوتَه صارخًا مُستصرخًا؛ لإسماع صوته المبحوح من كثرة صُراخه الذي لا يهدأ لفترة، حتّى يبدأ من جديد.

   ويتجدّدُ أمل الأستاذ جرادات بعد أن أطلَّ من شُرُفاتِه، بإدراكِ الباحثِ الواعي لأسباب القُوّة الكامنةِ في مجتمعه العربيّ، القائمةِ على الإرادة والتصميم القويّ على البقاء، واستكناهِ أسبابِ القوةِ الذاتيّة، مُحاولًا لفْتَ الانتباه لها، وتشجيع تنميتها على كافّة الأصعدة والمُستويات. والتنبيه لملامح التحدّي، التي يرى فيها خطرًا قائمًا، يُتوقَّعُ وصوله في أيّة لحظة.

 

الوقفة الثالثة: العرب وفضاءات الأزمة:

   هذه الوقفة، ستكون في رحاب كتاب عبدالمجيد جرادات، ذي العنوان الذي خصَّ به العرب، وهو (العرب وفضاءات الأزمة)، وفي الإهداء إنارة للقارئ المُستهدَف من فكرة الكتاب، حيث يقول: (إلى الذينَ يمتلكونَ الإرادة، والقدرة على تَحمُّلِ أمانةِ المسؤوليةِ في الظُّروف الحَرِجَة) ص5.

   ولتعزيز فكرة الكتاب، استشهد بمقولة من كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة الدينوري، بقوله: (أنّما الكلام أربعة: سؤالكَ الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء؛ فهذه دعائمُ المقالات، إن اِلْتمس إليها بخامس لم يوجد، وإن نَقَص منها رابعٌ لم تتمّ؛ فإن طلبتَ فسهّل وبسّط، وإن سألتَ فأوضح، وإذا أُمِّرتَ فاحْكُم، وإذا أُخبِرتَ فتَحقّق، واجْمع الكثير مما تُريد في القليل مما تقول) ص13.

   بهذه المقولة تعزّز لدى الكاتب فكرة المسؤوليّة الكبرى لما سيكتب، والأمانة التي حملها على عاتقه، في إيصال رسائلِهِ الإيجابيّةِ الخيّرةِ الواعيةِ لقارئه ومُستمعِه. وبِجَرْدةٍ بسيطةٍ لصفحة الفهرس؛ الكاشفة لمحاور الكتاب عامّة، في ساحات الفكر والثقافة، والتعليم ومناهجه، والسِّياسة والإعلام، ذهابًا إلى فضاء حوار الحضارات، والتنمية، والإصلاح على جميع المستويات، كلُّ ذلك من خلال عينٍ مُتطلّعة على المستقبل، من خلال التفكير الاستراتيجيّ؛ للاستحصال على المعرفة والثقافة.

 

الوقفة الرّابعة: جدليّة المُثقّف ومحيطه الاجتماعي:

   استحضرني سؤالٌ مُهِمٌّ: حول علاقة المُثَقَّف مع مُجتمعه وثوابته، والوُقوف في وجه التحدّيات والأخطار المُحيقة. هل المَعْنِي بذلك: هو المثقَّفُ وحده؟.

   بكلّ تأكيد، للإجابة على هذا التساؤل، لا بدّ من إدراك أنّ المثقّفَ هو فردٌ وَعَى، ونَذَر نفسه قُربانًا لقضايا مجتمعه، يدفعها ضريبةً لانتمائه، وهو حالةٌ مُتقدّمةٌ في التفكير، ضَحّى بوقته ونفسه، وكثيرًا ما كانت بالنفس؛ بما ناله من الأذى والعَنَت.

   في هذه الوقفة يرى الأستاذ جرادات: بتظافر جميع الفعاليّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسية في سياقٍ مُتّسقٍ مُتناغمٍ، يدًا بيد، حِرصًا على تقديم شيء ما، أو التخفيف من غَائِلة المخاطرِ مهما كان نوعها. وهذا ما بحثه في كتابه (ملامح التحدي وأدوات التنمية)، يرسم من خلاله دور المفكرين؛ فيقول: (ترتكز جهود المفكرين، وخبراء العلوم الاجتماعيَّة على مُستوياتٍ ثلاثة، هي: النظريَّاتُ الكبرى، والتحليلاتُ النقديَّةِ للاتجاهات والمُيولِ الاجتماعيَّةِ، والتيَّاراتِ السِّياسيَّةِ المختلفة) ص85.

   وفي موضع آخر يتلمّس المصاعب في وجه المُفكِّرين، فيقول: (تبدو مُهمَّة المُفكِّرين العرب شائكة، على ضوء علاقات التَّفَكُّكِ بين الثقافةِ والفكرِ من جهة، والواقع الاجتماعيِّ؛ الذي فرضته تحدِّياتُ العولمة، والانفتاح الاقتصاديّ بين الدُّول الغنيَّة، وشركاتها العملاقة مع الدُّوَلِ النَّامية من جهة أخرى) ص88.

    وفي استنتاجاته نتوقّف أمام رؤيته تجاه وسائل الإعلام من خلال تساؤلاتٍ مُهمَّةٍ: (هل سيكون بوسع وسائل الإعلام الالتزام بمتطلبات وثوابت مهنتها في ظلِّ ثورةِ الاتصالاتِ، والتقنيَّاتِ المُتطوِّرةِ؛ التي أزاحت الحواجزَ أمام الثقافاتِ والأفكار، وجعلت العالم المعاصر؛ يرقُبُ مُستجَدَّاتِ الأحداثِ من شُرفةِ السِّياسة. بعد أن أصبح المال والاقتصاد من أهمِّ أدوات التأثير  في الميادين الاجتماعيَّة؟) ص 111.

   وحول دور وسائل الإعلام والقائمين عليها، يتساءل: (ما هي الكيفيَّة لنقل الخطاب الفكريّ القادر على التقريب، والتوحيد بين صُفوف الرَّأي العامِّ في مرحلة؛ نلمح فيها العديد من المحاولات التي تعزفُ على موروثِ الخلافات، وقد تعود بين الحين والآخر، لمواقف تاريخيَّة، نعلم أنَّ شُعوبَ الدُّول الصناعيَّة والمتطوِّرة، تجاوزتها بحكم التَّصميم على السَّيْر  في ركب الحضارة) ص111.

 

الوقفة الخامسة: المفكر عبدالمجيد جرادات بين الواقع العربي ونظرية المؤامرة:

   في المحطة الأخيرة لا بدّ من التوقّف، أمام معضلة الرُّؤية العامّةِ المقتنعةِ بنظريّة المؤامرة؛ فلو انحبس عنّا المطر، لمال البعضُ منّا إلى لصق الموضوع بالاستعمار.

   كما رأينا أنّ ذلك المشجب يُستَعمَل؛ لتعليق الأخطاء والتقصير في الأداء الإداريِّ، تبريره لذلك: يذهبُ إلى طبيعة المرحلة التاريخيّةِ الصَّعبةِ التي تمرّ بها الأمَّة، ومؤامرات الاستعمار والصهيونيَّة والرجعيَّة.

   بسؤال شفاهيٍّ للأستاذ عبدالمجيد جرادات، بخصوص هذا المنحى المأزوم، المحاول لتصريف أزمته في ساقية المؤامرة الخارجية، فقال: (المجتمعُ الذي ينعمُ بالوعي الثقافيِّ، والتحصّنِ الفكريِّ؛ يكونُ عَصِيًا على المؤامراتِ الخارجيَّةِ، والدَّسائسِ الدَّاخليَّة). وذكر مقولة المفكر "مالك بن نبي": (مُشكلة كلّ شعب في ثقافته الداخليَّة، والطريقةِ التي ينشأ عليها، لكنّ المُعضلة لأبناء العروبة تكمن في فكرة: القابليّة للاستعمار)، ويقول "مالك بن نبي" أيضًا: (إنّ الاستعمارّ، ليس مُجرَّد عارضٍ، بل هو نتيجةٌ حتميَّةٌ لانحطاطنا)

       فهذا النوع من المفكر ين يتعامل مع أيَّةِ قضيَّةٍ، كعالم الرياضيَّات يُفسِّر محتوى معادلاته الرياضيَّة، القائمة على نظريَّات وافتراضات، تقود إلى تحليلٍ سليمِ المُقدِّمات، التي ستقود حتمًا إلى نتيجةٍ صحيحةٍ مئة في المئة.  

   وفي هذا الصدد يقول "مالك بن بني": (أيُّ إخفاقٍ يُسجِّله مجتمع في إحدى محاولاته، إنَّما هو التعبيرُ الصَّادقُ عن درجة أزمتِه الثقافيَّة).

 

***

* الخاتمة:

   أخيرًا وليس آخِرًا؛ بقي الأستاذ "عبدالمجيد جرادات" وفيًّا لمبدئه، قائمًا على إيمانه بإصرارٍ وعنادٍ، لا يضرّه من خالفه، ولا من سمع به، ولم يؤمن معه بما آمَنَ هو به؛ فبإيمانه هذا؛ يكون مثل إيمان الأنبياء الرّاسخ بصوابيّة موقِفِهم، وأنّهم مُتمسّكون بما كُلّفُوا به، يقينًا لا يخالطه أدنى شكٍّ أبدًا، بأنّهم يحملون الحقَّ والخير من الله؛ مُكلَّفون بتبليغه لأقوامهم المبعوثين لها.

   بقي على يقينه قائمًا، لم يُغيّر ولم يُبدّل، مُركِّزًا على فنون الكتابة الأدبيّة، والسياسيَّة، كما شاعرٍ مُحترفِ الشّعر، واشتُهر به من خلال المنابر، ومُتَمَوْضِعًا على شُرفات البحث عن صوابيّة الفكرة، وطُهر معانيها.

   للمُراقب لمسيرة "عبدالمجيد جرادات" يرى: أنّها حافلةٌ حدَّ الإتْخام، بقضايا وتحدِّيات ومخاطر؛ وَهَبَ لها قلبه الواعي المُفكِّر، ونَذَر أيضًا قلمه؛ ليُدوّن عُصارة فكره وخبرته، التي اكتسبها أكاديميًّا بالدِّراسة والقراءة والمطالعة والمخالطة والتجربة، في سبيل نُصرة قضايا الوطن والأمَّة، بعيدًا عن المُزايدات الخطابيَّة، والغايات الشَّخصيَّة.

   ويبقى عبدالمجيد الإنسانُ إنسانًا.. يُصيبُ ويُخطِئ.. يفرحُ ويحزن.. يغضبُ ويَحلُم صَفْحًا، والأجمل من كلّ هذا:  خُلُق التواضع الجمّ الآسِر؛ سجِيَّتُه.

والسلام ختام، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

عمّان – الأردنّ

ــــــا 4/ 3/ 2021