السّابعة صباحًا
قصة قصيرة
بقلم. محمد فتحي المقداد
المفاجأة ألجمت لسانه عن الشُّكر لله. شدَّ من هِمَّته بلا تَوانٍ لمُلاحقة حبَّات البندورة المُتدحرجَة بحريَّة مُطلَقة من أعلى المُنعطَف المُنحَدِر إلى قاع المدينة. اِمْتلأ كِيسُه. حدّثته نفسه برضا كامل. سيطرت عليه بُشرى الفرح منذ ساعات يومه الأولى مع تسرّب خُيوط الشَّمس: "الحمد لله الذي رزقني من غامِضِ علمه، وساق لي مؤونة بيتي ليوميْن قادميْن".
هناك، عندما اِنْفتح الباب الخلفيّ لسيَّارة تنقلُ الخضار والفواكه. ما إنْ اِسْتطاع السَّائق التوقُّف على يمين الطَّريق عند رأس الطُّلوع القاسي، اِصْطفاف درَّاجة شُرطيّ المُرور أمامه عكّر مزاجه زيادة على ما بداخله من صراعات. ترجَّل الشّرطيُّ وبيده دفتر المُخالفات والقلم بداخله، بلا سُؤال ولا جواب. ناول "ناجح" إشعارًا بمخالفة أنظمة الأمان على الطُّرقات، وعرقلة وإعاقة حركة المرور في شارع رئيس. على مَضَض اِبْتلع غَيْظه، بهمَّةٍ مصحوبةٍ بلُهاثِ أنفاسه الحرَّى لَملَم ما تناثر من الصَّناديق، وأغلق الباب عليها بعد أن أحكم تنظيمها وترتيبها بتراصٍّ مُتقن.
اِمْتلأت رِئتاه بالأوكسجين بعد أن سحَبَ نفَسًا عميقًا، ثمَّ طرح زفيرًا مصحوبًا بتأوُّهٍ عميق. بدَت حركات صدره الصَّاعدة والهابطة قد هدأت قليلًا. اِطْمأنّ لمُعاودة رحلته الطَّويلة آمِلًا بالوصول إلى قريته، وعينه على السَّاعة المُثبَّتة ذات الأرقام الإلكترونيَّة بلونها الأحمر المُستفِزِّ. الأمل بقطع مسافة الخمسين كيلومتر قبل السّابعة صباحًا. اِسْتغراقه بتفكيره وهو يضرب أسداسًا بأخماس بقيمة المخالفة، حدّث نفسه: "الله لا يوجِّه الخير للشرطيِّ، ضربتان بالرأس موجعتان. خسَّرني وحرمني من أيِّ ربح في هذه المرّة... بل لا بدَّ أن أزيد عليه من جَيْبتي". هدير المُحرِّك تباطَأ عندما رفع رجله عن دوَّاسة السُّرعة مع بداية نُزولٍ قاسٍ إلى الوادي السَّحيق. اِهْتزاز المركبة وماجَت قليلًا يمينًا ويسار؛ اِنْتشله في اللَّحظة الأخيرة من اِسْتغراقه في لُجَّة أفكاره الهائمة؛ ليُبادر بإحكام سيطرته، مع اِنْتقال رِجْله للضغط على المكابح برفق وحَذَر، أخيرًا اِسْتطاع التوقُّف على يمين الطّريق، ووضع حجرًا أمام الدُّولاب الأماميِّ، وآخَر أمام الخلفيِّ؛ لضمان عدم حدوث اِنْزلاق ولو بسيط. أحضر عدّة تبديل الدُولاب الخَرِب، ليتمكّن من قطع العشرين كيلو متر الباقية.
عادت إلى مُخيِّلَته صورة وجه جاره "أبو صبري" أثناء خروجه إلى مسجد الحيِّ الصَّغير قُبيل صلاة الفجر بأقلّ من ساعة، وتلاقت نظراتهما تحت اللَّمبة التي تُنير عتمة الزَّاوية أمام بُوّابتَيّ بيتهما.
تُحدّثه نفسه: "أعوذ بالله من شرّ عَيْنه، الآن أدركتُ سبب تصرُّفات أهل الحارة بتجنُّبه وتحاشيه إلَّا للضرورة القُصوى. أُخطِّئ نفسي على تلويمي الدّائم على من كان يلوكُ سيرته بأيَّة كلمة". اِنْهمكَ في تلاوة آية الكُرسيِّ والمُعوَّذات لِطَرد شرّ شَبَح عين الجار. شُرودٌ ذهنيٌّ اِسْتحضر حكايا قديمة عن حوادث. اِمْتدَّت يده إلى مفتاح الرَّاديو. وكأنّ السَّماء اِنْشقّتْ عن صوت الشّيخ "عبد الباسط" بتلاوة قصار السُّوَر. هدأت حِدَّة الهواجس، وطردت أكوام القلق، وفاض جوُّ السيَّارة بروحانيَّة عبَّقتْ لدقائق في رأسه.
عادتْ كلمة أحد الجيران بحضورها قويَّة تُزاحم الشَّيخ "عبد الباسط"؛ فجعلته يغفل ويغيب عن وعيه: (والله لَئِن مات "أبو صبري" لن أكون مع مَنْ يُصلُّون على جنازته). اِنْتفضَ مذعورًا من تداعيات ذكرياته، واِهْتزّ جسده بارتجافٍ عنيف: "يا إلهي عندما توفّي ذلك الرَّجل في اليوم الثّاني لمقولته بحقِّ جارنا. وصلَّيْنا عليه معًا".
تخايل له صورة ملك الموْت يطرُق عليه الزُّجاج الأماميّ. توقَّف من جديد، ولا نيّة بمتابعة طريقه، ونسي موعد اِفتتاح محلّه في السّاعة السّابعة التي ستحلّ بعد عشرين دقيقة.