بتوقيت بُصرى محمد
فتحي المقداد أقصوصات
بتوقيتِ بُصرى
إلّا أقصوصة
تأليف
محمد
فتحي المقداد
الطبعة
الأولى
2020
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
§
تصميم الغلاف : الأستاذ معمر موسى السويدان.
§
التنسيق والإخراج: محمد فتحي المقداد.
قراءة في المجموعة (بتوقيت بصرى)
بقلم- القاص أحمد أبو حليوة
بتوقيت بصرى عمل قصصيّ ثريّ بمجموعة
من القصص، التي تصبّ في موضوع واحد، الذي يغدو المركز الذي تأتيه من كلّ صوب وحدب،
كي تكتشف حجم ظلم الحاكم وفساد بطانته، وما يترتّب على ذلك من ظلم، ألحق بالشّعب الويلات
التي غيّرت مصائر حياة بعض أفراده، وتركتهم نهباً للقتل، أو السجن، أو الفرار، وكذلك
الفقر والحزن والأسى.
هنا يرصد القاص محمد فتحي المقداد بعض
الظواهر القصصيّة، ويعبّر عنها من خلال أبطاله الذين يعكسون أحد الوجوه المظلمة لذاك
المجتمع، الذي عاش فيه، ولمَسَ بأمّ عينيْه نكباته؛ فكانت هذه القصص المنحازة للمكان
الأول بداية (بُصرى)، حيث مسقط الرأس، ومهد الحكايات، ومن ثمّ المكان عامّة، وهو سوريّة
المكلومة.
ورغم أنّ الكاتب روائيّ، إلّا أنّه أجاد
في هذه المجموعة القصصيّة عنصر التكثيف، وكذلك تحقيق الإدهاش في القفلة، واضعاً إيّانا
مراراً وتكراراً أمام خاتمات واخزة ونهايات مؤلمة، تعكس ما انتهى إليه واقع الحال.
وفي هذه المجموعة القصصيّة الفريدة في طريقة
سبكها، ذات العنوان الواحد، المعتمد على البنية الفكريّة الواحدة، أو لنقل الدلالة
المضمونيّة المشتركة، حتّى أنّها تتّخذ ذات الرّمز في كذا قصّة لحفر الرّمز عميقاً
في ذهن المتلقّي، ونقشه في صفحة الأثر، إذ نرى أنّ هذا الرّمز يقسم إلى قسمين ينال
(العقيد أبو شهاب) النصيب الأكبر منه، في حين يتولّى (أبو لهب) ما تبقّى من الجزء الثاني.
فباب الحارة.. المسلسل السّوريّ الرمضانيّ
الشهير حاضر بقوّة في هذه المجموعة القصصيّة من خلال شخصيّة (العقيد أبو شهاب)، وذلك
بعد أن غدت سوريّة بِرُمّتها مُسلسلاً واقعيّاً دمويّاً في عصر الرّبيع العربيّ، الذي
أتت عليه رياح الخريف، وجفّفت الكثير من ينابيعه نيران أشّعة شمس الصّيف الحارقة في
مواسم صراع القوى.
واللّافت هنا في هذا الموضوع؛ هو جعل
هذه الشخصيّة (العقيد أبو شهاب) رمزاً للطغيان والتَجبّر في حيثيّات القصّ، لا رمزاً
للشهامة والشجاعة وإحقاق الحقّ، كما هو مقتضى الحال في العقليّة العربيّة التي عرفت
هذه الشخصيّة بهذه الصّفات، وفي هذا مخاطرة أقدم عليها المؤلّف، وتخطّاها بجدارة، من
خلال حسن التوظيف القصصيّ، لهذه الشخصيّة الشّهيرة، وإعادة إنتاجها من جديد بطريقة
مغايرة بل معاكسة؛ أقنعنا بها أكثر من مرّة من خلال ورودها بالشكل الذي أراده لها المؤلّف،
لا كما هي على الواقع الدراميّ المعروف، والذي رسخ لسنوات طويلة في ذهن جيل عربي.
الرمز الآخر (أبو لهب) وهذا لا خلاف
على حجم ما فيه من شر، وبالتالي يبدو أمر إسقاط الشخصيّة الواقعيّة المعاصرة على هذه
الشخصيّة التاريخيّة أمراً منطقيّاً، في ظل انسجام ذلك مع رؤى المؤلّف، وقناعاته السياسية،
التي يعبّر عنها قصصيّاً على لسان أبطاله، أو إن صحّ التعبير وفق وقائع ضحايا (أبو
لهب).
بقي أن أقول لكم أنّكم (بتوقيت بصرى)
ستقرؤون للأديب محمد فتحي المقداد مجموعة قصصيّة مُجمّعة له، أو رواية مفكّكة منه،
وفي كلا الحالتين تصلون إلى ذات الغاية من الإبداع، والمتعة المحفوفة بمرارة الألم
على مصائر أبطاله، الذين كان معظمهم وقود حرب أو ضحايا نظام قمعيٍّ مُستبّد.
مع هذا وختاماً، يذكر أنّ المؤلف أشار
بداية إلى نهاية درب الآلام هذه يوماً ما، وذلك من خلال التلميح عن ذلك لا التصريح
به، وهو يقول في مُستهلّ المجموعة بتفاؤل واستشراف: "طريق الزعتري عبّدته الدموع
بآهات مقطوعة الأنفاس... سيعود الربيع وأزاهيره تحتفل بخطاي الراجعة".
الزرقاء – الأردن ــــــــــا 16 \ 4 \ 2020
شهادة
إبداعية
بقلم -
الشاعر محمد الحراكي
من أيّ ضياء يستقي
الروائي (محمد فتحي المقداد) ثقافته؛
فالثقافة هي الوجه اللاماديّ للحضارة، وكلّ ما يُصوّر تجارب
الإنسان (من الشكل- إلى الصورة -الشعر - النثر- النغمة - القصّة - الرواية)،
والأصحّ أنّ كلّ تعبير أيًّا كان شكله ونمطه ونوعه، وكلّ ما من شأنه ان يأخذ
القارئ إلى مساحات التذوّق، والفاعليّة، والإدراك.
حين نتوقّف عند الأديب
والروائيّ (محمد فتحي المقداد) وأعماله الأدبية؛ فقد تخطّت العشرين كتابًا
ما بين منشور ومخطوط. نتساءل بدهشة عن هذا الكاتب الروائيّ المُتعدّد المواهب من
أيّ ضياء ينهل.
وبأيّ مداد يخطّ كلماته، ويرسم جمالها، أمن
علاقته مع الطبيعة؟. الأمّ الحنون التي ولدنا منها. والتي هي في الوقت نفسه. عدّو
لدود يُهدّد حياتنا إذا ما جَرَتِ الصّراعات على نهب مواردها، واستعباد إنسانها،
وهي نادرًا ما تُقدّم الخير جاهزًا. ولابدّ من السعي، والتعب في معرفة دقائق
أمورها بجدّ ونشاط.
إنّ (محمد فتحي
المقداد) ينهل من الطبيعة الإنسانيّة التي صَبَغت موضوعاته، وتعابيره الفنيَة
بمسحتها، وتداخلت مع عوامل التأثير الأخرى، كالتراث التاريخيّ، والتراث الشعبيّ
هذا الإرث الكبير الذي حظي به، خاصّة أنّ عينيه رأتا النّور في العام 1964، حيث
وُلد عند صخب التّاريخ وعبق الحضارة، بجوار الرّاهب بحيرا، ومبرك النّاقة في (بصرى
الشام)، وعيناه تتأمّلان سرير ابنة ملك بصرى، وخياله يتتّبع خُطوات وخيال الأميرة
المُقيمة هناك في المدينة الرّابضة في جنوب سوريّة. من سهول حوران الشمّاء،
المدينة الغافية على أحلامه الممزوجة بترابها، المُتزاوجة مع أصالة ضاربة الجُذور
في أعماق التّاريخ.
أمِ اسْتقى ثقافته من
العلاقة بين الجنسيْن؛ لتمتدّ ثقافته إلى نصفيْ البشريّة. حيث تداخلت مع ينبوع
الطبيعة الإنسانيّة باعتبار أنّ كِليْهما يتضمّن الغريزة للتمكّن والبقاء.
أمْ نَهَل ثقافته من تلك
الصراعات الاجتماعيّة والطبقيّة، التي تسود مجتمعاتنا، ومن هنا اشتقّ منبعًا لثقافة
مؤثّرًا لمواضيعه في روايته الشهيرة (الطريق إلى الزعتري) وسابقتها رواية (دوّامة
الأوغاد)، وما ترافق من استبداد الطبقات الحاكمة، وقد أرّخ لهذه الفترة
الزمنيّة الحاضرة في أغلب رواياته ومقالاته وكُتُبه، من العصبيّات القوميّة
والطائفيّة والعنصريّة. وما إلى ذلك من الصراعات بين مختلف أطياف المجتمع. مُوضّحًا
ازدياد نصيب العنصر الطبقيّ في هذا الخليط من الصراعات الاجتماعيّة المُنبثقة عن
علاقات الاستغلال، والاضطهاد على كلّ المستويات.
أؤكّد أنّ الكاتب الروائي(محمد
فتحي المقداد) نهلَ من كلّ هذه الينابيع، التي شكّلت ثقافته العالية من مقاومة
لأشكال التقوقع والانطواء والانكفاء، بل استفاد من أجواء الانفتاح من خلال
تنقّلاته وأسفاره العديدة إلى الكثير من الدُّول العربيّة، مما أضاف له مخزونًا لا
ينضب من التجربة الاجتماعيّة، وحفظ الكثير من العادات والتقاليد وطرائق العيش،
واختلافاتها وتوازناتها، ولن أستطيع الإحاطة بأكثر من هذا.
ولكنّي أُسجّل شهادتي
بما رأيته، ولامستهُ، وشهدتهُ من خلال علاقتي الشخصيّة به على مدار سنوات معرفتي
به، فهو بطبعه مُتواضع هادئ معطاء يعيش حياته بين الأهل والأصدقاء دون تكلّف،
ملتزم بعمله المهنيّ (حلّاق رجاليّ) الذي يعتاش منه لتأمين حياة كريمة له
ولأسرته، وأبرز ما لفت نظري ما يُكنُّه له الأصدقاء من محبّة وودٍّ، وكلّ من يلتقي
به من احترام وتقدير.
عمّان
- الأردن
25يناير 2019
مقدّمة
المؤلّف
اضْبِطوا بوصلتكم، وعقارب ساعاتكم، وتقويمكم، ومواعيدكم ومشاعركم على
توقيتها..؛ فأنتم في بصرى..!! أليس غريبًا هذا الطلب..!!؟
ربّما يعيش أيّ فردٍ منّا مئة عام، ولا يتعرّض لمثل ذلك.
لماذا بُصرى..؟ أليست هي صخب التّاريخ
وعبق الحضارة؟. حملت اسم أمّها الشّام إكرامًا وحُبًّا.
لا غرابة إذا علمنا أنّ كلمة (بُصرى) الحصن
القويّ المنيع.
أزعمُ أنّ جدّي لأمّي بنى مضافتَه
الشّهيرة في المكان الذي وطِئته القدم الشّريفة للنبيّ محمّد صلّى اللّه عليه
وسّلم.
ذات أمسية زعم صديقي الشّاعر (عبدالرحيم جداية): "أنّ الملك
الحارث فرح لمولدي".
فيها قبر أبي وأمّي، وأجدادي وآبائهم منذ فجر
التّاريخ، شواهد قبورهم مكتوبة، كما [كتب العرب الأنباط شاهدًا لقبر ملك من
ملوك اللّخميّين يُسمّى امرؤ القيس بن عمرو، وأرّخ بشهر (كُسلول) من سنة ٢٢٣م
بتقويم بصرى، وهو يوافق شهر كانون الأول (ديسمبر) من سنة ٣٢٨م. وبُصرى بحوران في
الشّام عاصمة الأنباط الشماليّة]*.
فالتّقْوِيمُ: حساب الزمن بالسنين والشهور والأيّام، حسب التَّقْويم
الهِجْرِيّ والميلاديّ. و تَوْقِيتُ العَمَلِ وضَبْطُهُ حَسَبَ أوْقَاتٍ
مُعَيَّنَةٍ.
وبعد انهيار سدّ مأرب، جمع سيّد القوم قبائل الأزْد، وراح يُرشدهم، وكان
ذو كهانة:
[من كان
منكم يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، ويلبس الدّيباج والحرير؛ فليلحق ببصرى
والحفير* من أرض الشّام]. فكان الذين سكنوه بنو غسّان
(الغساسنة).
يقول بعض المؤرّخين العرب: (أنّ الغساسنة هجروا
من جنوب الجزيرة العربية في بداية القرن الأوّل للميلاد؛ عقب انهيار سدّ مأرب في اليمن
وبعد سيل العرم، واتّجهوا شمالًا.. حيث أقاموا فترة قرب عين ماء تسمى "غسان"
في سهل (تهامة)؛ فعُرفوا بالغساسنة، وواصلوا هجرتهم نحو الشام، حيث استقرّوا في الأردنّ،
وجنوبي سوريّة في بُصرى).
وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسّلم، في
حديث الشّفاعة الطّويل، في صفة اتّساع باب الجنّة: (والذي نفس محمد بيده، إنّ
ما بين المِصراعيْن من مصاريع الجنّة لكما بين مكّة وهَجَرٍ* أو كما بين مكّة وبُصْرى).
وللتفريق بين بُصرى في جنوب سوريّة، والبَصْرة
في جنوب العراق، أضيفت كلمة الشّام لبُصرى للتفريق بينهما، كما حصل للتفريق بين
طرابلس الشّام وطرابلس الغرب. بُصرى
الشام أو بتسميتها العثمانيّة (بصرى أسْكي شَام)، وهي مرتفعة مقارنة بمحيطها؛ فأُضيفت لها كلمة (أسكي) التركيّة لتمييزها.
ومنذ فجر التاريخ قائمة جغرافيًّا، ومأهولة مثلها مثل مدينة جرينتش الإنجليزيّة
لها توقيتها، فتَوْقِيتُ غِرِينِتْش (الاستعماريّ) تَوْقِيتُ خَطِّ الزَّوَالِ
(الظَّهِيرَة)، وَهُوَ خَطٌّ أصْلِيٌّ عَالَمِيٌّ يَمُرُّ فِي مُسْتَوى قَرْيَةِ
غرِينتْش الإنْجلِيزِيَّةِ. لهذه الأسباب وغيرها جاءت فكرة عنوان الكتاب (بتوقيت بُصرى)، وَ
كلّ ما قيل في كفّة، وذكريات طفولتي في الأخرى، وأعتقدُ جازمًا أنّها راجحة على ما
تقدّم.
وَهجُ العنوان الرّئيس أثناني عن اتّخاذ
عناوين فرعيّة لكلّ أقصوصة في الكتاب؛ فجميعها مُكتسية خوفًا وذُلًّا.. دموعًا
وحزنًا.. يأسًا وقهرًا.. ظلامًا وسِجنًا.. فهناك رقيب وعتيد يُحصي الأنفاس ويعُدّها.
وحجارة بُصرى كالبشر تروي الكثير من الأساطير،
وتداعب خيال الزائر ومشاعره، وللشّعر أن يقول كلمته الأخيرة:
ثمَّ التَقَيْنا
فَلَا وَالله مَا سَمِعَت ... أُذني بأحْسن مِمَّا قد رأى بَصَرِي
(من)* صفائح بُصرى
(حين)*
أخلَصَتْها قُيونُها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_*المصدر كتاب (الشعر
الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص٣٥
-*ما بين القوسين كلمة
(من) و(حين) إضافة مني لبيت الشعر؛ ليتوافق سرديًّا مع محيطها الذي ذهبتُ إليه.
* - الحفير: واحة صحراويّة زراعيّة،
تبعد عن حائل مسافة 65كم إلى الشمال الغربيّ، وهي إحدى الواحات الواقعة في بداية
صحراء النّفود الكبرى.
* - هَجَر: أقصى شرق الجزيرة العربيّة،
التي هي الآن قطر والبحرين.
* صفائح: سيوف -
أخلَصتها: أتقنتها - قُيون جمع قَيْن، وهو العبد المملوك، أو العبد صانع السيوف.
***
عمّان
– الأردن
المؤلف:
محمد
فتحي المقداد
2019
بتوقيت
بُصرى
آخرُ نسمة.. وآخرُ شروق وغروب.. ورائحةُ
النعناع والرّيحان.. الأصيلُ يعانق مئذنة العمريّ، ويستقرّ خيالها في ساحة دارنا. صوتُ
جَدّي لا يَذوي.. أبتاهُ.. أسْمِعنِي خفقانَ قلبي.
أمام المِبرَك صخرةٌ ملساء، نَقَشتْ خُطاي أثرَهَا،
والرّاهب شاهد على ذلك.. طريق الزعتريّ عبّدته الدّموع بآهاتٍ مقطوعةِ الأنفاس..
سيعود الرّبيع، وأزاهيره تحتفل بخُطايَ الرّاجعة. نداء.. نداء.. مِلحَاحٌ على مدار
السّاعة.
________
*بصرى
الشام مدينة تقع شرق درعا بـ 40كم.
*مئذنة
العمري: هي مئذنة العروس في الجامع العمري في بصرى الشام. مدينتي، وهو أول مسجد
بني في سورية الطبيعية 12هجرية.
*الراهب:
هو الرّاهب بحيرا، وديره مازال قائمًا في بصرى.
*المبرك:
هو مبرك النّاقة التي حملت مصحف سيّدنا عُثمان المعروف (مصحف الشام) بَرَكَت في
هذا المكان.
***
# مازالت
ملامح البؤس الظاهرة على وجه المانيكان الطفل، القابع قسرًا أمام محلٍّ لبيع التراثيّات
و(الأنتيكا) في وسط البلد، تُعاودني نظراته حينًا بعد حين. لباسُه التراثيّ لم
يُغيّر من الواقع شيئًا.
ارتسمت
صورة وجه ابني على وجهه. تسمّرتُ أمامه طويلًا، وقلب البائع يتراقص فرحًا بتوقّفي،
هو لا يعلم بضياع محفظتي، انْعقَدتْ كُتلة بين حاجبيْه المشدوديْن، بتشكيلات خطوطٍ،
ومُنعرجاتٍ موحيةٍ بالغضب.
انسحبتُ
بهدوء، تبعني المانيكان راكضًا بعد أن تبدّلت قسماتُه. تناثرت أجزاؤه عندما تعثّرت
قدمه.
***
# كيف لي بسؤال صاحب مكتبة مشهورة في دمشق:
"أريدُ شراء صورة للعقيد أبو شهاب".
وأنا
أقف على حافّة هاوية الجنون؛ لدرء ما كان يُقال عنّي هناك من اتّهامات لا أحتمل
عواقبها.
وأنّهم
وضعوا خطًّا أحمر تحت اسمي، وكثيرًا من الإشارات.
استجمعتُ
بقايا شجاعة قديمة، عيون صاحب المكتبة اخترقتني في الصميم، ثمّ مسحتني طولًا
وعرضًا، أذهلتني نظراته. هزّ رأسه للأسفل مع رفع حاجبيْه مُتعجّبًا..!، أوْحَت لي
حركته بانتظار سؤالي: "أريد شراء العَقـ ...".
اللّعنة..!!
كيف سقطت الصورة من صيغة السؤال. بسرعة أقفل أبواب المكتبة، وغادر دون التفاتة منه
للوراء، بعد أن دفعني بكامل قوّته خارجًا. حيْرتي ما زالت تؤرّقني منذ سنوات:
"كيف عرف هذا الرجل قصدي قبل أن أكمل طلبي؟".
***
# ليته
بقي هتافات ومطالبات، قبل انتقاله إلى نقاش الرّصاص. القنّاص يتصيّد براحته من
يظنّ أنّه اقتحم مجاله، يضيقُ ذرعًا بالعابرين خوفًا من وهْج أنفاسهم، دائرة
منظاره تنفجرُ بدماء، يمسحُ آثارها عن شفتيْه؛ تجنّبًا لغَيْرة زوجته.
شكوكها
بسلوكه من أن يكون قبّلَ امرأة أخرى. بينها وبين نفسها.. لا تُصدّق أيْمانه
المغلّظة على أنّها من آثار مهنته.
عضّ
على شفتيْه. حبس أنفاسه. اعتصر زناده، ضرب رأسه بالجدار انتقامًا لنجاة طفل كان
سريعًا بركضه.
***
# أمْسَكَ
بقلمي بعد مُساومات، حاولَ كسره؛ فانحنى بين يديه رافضًا الانكسار.
هدّدني
بغمس أصابعي في إناء الأسيد المُخصّص. إشارة من يده أمام فمه إلى لسانه، مثّل بها
على شكل مقصٍّ عند انفراج شفرتيْه. استعدادًا للبدء، عيناي مدهوشتان باستهتار كأنّ
المشهد لا يعنيني.
صرخ
بأعلى صوته: «لا تشاغبني»، واصبعه ترتفع بمحاذاة رأسه في حالة تشهّد بتشنْج واضح،
مُقسِمًا بحياة القائد.
اِلتفتَ
جميع مَنْ في الصالة نحوه، وأنا أتأمّل وجوهم، لأقرأ خطوط جباههم المُتعرّجة،
وأحتفظُ بصورة لشفاههم الممطوطة للأمام مع انحناءات حواجبهم المرتفعة للأعلى، وهم
يُصفّقون بحرارة.
ويدي
تتلمّس بحذَر قَلمًا آخر أخفيتُه في مخبأ معطفي الداخليّ.
***
# تغامُزٌ
وتلامُز.. أعينُهم مُصوّبة نحوي.. ضحكاتُهم السّاخرة كادت تُفقدني الثّقة بنفسي..
انتبهتُ..!!
وجدتُ
أنّني ألبِسُ برجلي اليُمنى فردة حذاء مختلفة عن أختِها اليُسرى.
انطلقت
منّي ضَحكة مُجلجلة، وتابعتُ مسيري.
تذكّرتُ
خروجي مُسرعًا من البيت.. مُتزامنًا مع رنين الهاتف النقّال المُزعج عند الصّباح.
***
# الدّمُ
شَخَبَ من إبهامي الأيسر، إثرَ ضربةٍ طاشت عن رأس وَتَد الخيمة، يا لها من مطرقة
لا ترأف بطراوة اُصبُعي؛ فَهَرَستها.
افترشتُ
الأرضَ بعد القُرفُصاء، دوخةٌ فَتَلَت برأسي، أفقدَتني توازُني. بعد سبع سنوات..
سلطاتُ مطارِ اللّجوءِ البعيدِ، فتّشتِ الحقيبةَ الصّغيرةَ التي تحمل وطنًا تقزّم
بِوَتَدٍ، وتصادره..!!
***
# ذات سفر
بعيد، قطعتُ المسافة بين قارّتين على متن العبّارة. من ميناء العقبة إلى ميناء
نويبع على البحر الأحمر.
توقّفتِ
الحافلةُ أمام استراحة في مجاهل سيناء، نزلتُ قاصدًا الحمّام أوّلًا، هناك تذكّرتُ
النّاس النّائمين في بيوتهم، وشخير بعضهم يتعالى يصُمّ سمعي، وأنا أجلس هنا في هذا
المكان الموحش، أمام طاولة عتيقة وسخة، كأنّها صُنِعت منذ عهد الفراعنة الأوائل.
كتبتُ
على قطعة منديل ورقيّ: (لو أنّ لي وطنيْن؛ لبِعتُ الأوّل، وتاجرتُ بالثّاني).
بعد
عشرين عامًا، ما زال صدى السّؤال يتردّد:
-(ما
هذا الوطن الذي أحمله في قلبي؟).
***
# تمنّعتُ
بدايةً من قبول طلبه. تحت ضغط إلحاحِه الشديد، وبأعظم الأيْمان:
-
"أقسمَ
عليّ بقبول حبّة فيتامين (B12)".
ظنًّا
منه بضعف ووهن ذاكرتي، وتكرُّرِ حالات النسيان عندي لأبسط الأشياء. بعد ذلك..
قادني خيالي بتوهّج لاستحضار حوادث، وأشياء منذ عهدي التّكوينيّ الأوّل في بطن
أمّي، حينما كانت مع صديقاتها وجاراتِها:
-
"يا خيْتي اخفضي صوتك، فإنّ للحيطان أذان".
داهمني
الخوف، وإمدادات الحبل السريّ من الأوكسجين كانت على وشك التوقّف.
انكمشتُ
على نفسي مُتكوّرًا، وبحركة بهلوانيّة عنيفة، كاد أن ينشقّ بطن أمّي عنّي، وأخرج
قبل موعدي.
بدا
الرّعبُ على وجهها. وصرخت بأعلى صوتها:
-
"يا ساتر".
الخوف
والتوجّس والشكّ.. استوطن قلبي وروحي، منذ ذاك اليوم البعيد قبل خمسة عقود ونصف.
***
# منذ
صباه اشتُهِر بعلاقاته المشبوهة مع أجهزة الأمن حتّى مماته.
لا
أدري..!! كيف ضاقت المقبرة برحابتها، ليجاورني في مأواي الأخير. بعد لحظات من
مغادرة المُشيّعين، تفاجأتُ بفتحة تتّسع، هالني المشهد:
-
"يا إلهي من الذي اقتحم عليّ عُزلتي في بيتي الجديد، ما زال الوقت عصرًا،
زائرو اللّيل لا يأتون في مثل هذا الوقت..!!".
الفُتحةُ
انفرجت عن وجهه المُدَمْدَم، وبُثُور كحبّات الحُمّص، طالما أشَحْتُ عنه بنظراتي،
لا أطيقُ قماءته.
-
جاء صوته كما كان: "أهلًا بالجار الجديد".
تلجلج
لساني مُتلعثِمًا بكلمات، وأنا أسمعُ وقع خطوات ثقيلة قادمة نحوي.
مؤكّدٌ
أنّه وَفْدُ الملائكة، أضمرتُ في نفسي الوشاية به عند حضورهم.
***
# طيلة حياته التي وعيتُها، لم أرَ فيه نموذج
إنسان قطّ.
بل
وحشًا كاسرًا عديمَ الأحاسيس.
كنتُ
أظنُّ أنّ له مخالب تمزّقنا، وأنيابًا ينهشنا بها.
حطّم
طموحات، وأحلام، وآمال الشّباب بتقييماته الحِزبيّة.
-
"يا للغرابة..!! كيف ترحّمتُ عليه عند موته".
في
رمضان حمل صدقة الفطر إلى أرملة. عرفتُ متأخرًا أنّه كان يُمارس الصيام، وفي آخر
حياته شوهد في صلاة الجمعة.
لعنةُ
الأجيال النّاقمة، ما تَزال ثائرة، تُلاحقه في قبره.
***
# (قف
أمامك حاجز تفتيش)
يتأمّل
البطاقة الشخصيّة، ويتفحّص وجه صاحبها بدقّة.
راكبٌ
في كرسيّ مُنفرِد لم يُبرِز هُويّته. العسكريّ المُفتّش يبدو عليه القَرَفُ هذه
المرّة، بلا مبالاة مقارنة بجولاته التفتيشيّة السّابقة بفضاضتها الصّارمة. تقاطيع
وجهه وطوله الفارع يزرعان الرُّعب والخوف في النّفوس.
بصوته
الأجشّ، قال:
-
"أين
هُويّتك؟".
إجابة
غير متوقّعة، كتمتْ ضحكةً جماعيّةً كادت أن تنطلق، بينما توجّهت إليه عيون الجميع
بصمت وذهول، وهم يسمعون ردّه:
-
"أنا
نُوري".
ابتسامةٌ
يتيمةٌ شقّت طريقها بصعوبة بالغة إلى شَفَتَيْ العسكريّ.
***
# دموعُ
طفلها لا تتيحُ لها فرصةً للتفكير، فيما وصلت إليه من انحدار أخلاقيّ بعد استشهاد
زوجها قائد تشكيل حديث.
عيونُ
معاونه تنتهز كلّ سانحةٍ؛ لاستراقِ النّظرات خُفية إلى زوجة صديقه.
تبدّلتِ
الحالُ بعد تدفّق التمويلِ. ملامحُ الثّراء تُفصِحُ عن نفسها بجلاء لا شُبهة فيها.
السيّارةُ
الفخمةُ، وطاقمُ الحراسات الشخصيّة.
دموعُ
المُخلصينَ لم تُخطىء رؤية يدٍ يُظنّ فيها الخير على حقيقتها، وهي تُقدّمُ عُلبةَ
حليبٍ، وكيسَ حفّاظاتٍ لابن الشّهيد.
***
# لا
يتردّد في بثّ همومِه وشكواه في أيّ لقاءٍ يحدث لنا، وإن عَرَضًا بدون تخطيط.
حفظتُ
اسم (إصطيف)، ولا يمكن أن أنساهُ مثلما هو ملتصق في ذاكرتِه، وذِكره يتردّد
باستمرار على لسانه، كلّما جاءته ذكريات السّجن.
اسْمعني..
دعْني هذه المرّة.. أنا الذي سأحكي لكَ بكلّ بساطة عن صديقك الذي لا أعرفُه:
-"إصْطيف
رجلٌ بسيط على باب الله، ليس له في العِيرِ ولا بالنّفير، اعتُقِل أثناء مُداهمةٍ
أمنيّةٍ لحارتهِ الحلبيّة، اقتلعوا عينيْه، وكانوا يُجبرونه مع السّجناء بالهتاف (للعقيد
أبو شهاب) في رُواق القبو بين الزنازين، وما زال موته مجهولًا لم يعرف به أحد.
يؤرّقكَ ذلك..!!".
***
# ما
زالتِ القطّة تجلسُ على بقايا بطانيّةٍ تُغطّي جُزءًا من جانب البيت المُدمّر بعد
جولة قصف همجيّة.
لم
تغادر مكانها وأنياب الموت مُكشّرة.
خواء
بطنها لم يدفعها إلى النّهش من الجُثث تحت الهشيم.
أيّامٌ،
وهي مرابطة لم تغادر المكان رغم العطش والجوع.
كفّة
الجرّافة حملت الأنقاض، ورائحة القطّة، ومن كانوا تحت الرّدم تفوحُ عطرًا.
***
# "إنّ
هذا الحزب العظيم.. الذي أنجب هذا القائد العظيم.. فهو قادرٌ على إنجاب قائدٍ
عظيمٍ آخر".
عشرون
تقريرًا صدرت عن هذه الجلسة المختصرة على أصفياء المسؤول الحزبيّ العتيد الثمانية.
في
ليلة صَمّاء اقتيدَ إلى التحقيق.
عاد
من خريفه المُبكّر كشجرة جرداء.
صار
مواطنًا عاديًّا يمشي على رجليْه إذا أراد الخروج من بيته.
استفاق
على اهتزاز صورته في غرفة نومه؛ فقرأ نُكران أصدقائه، وانفضاضهم عنه في دروب
ارتقاءٍ؛ كان قد صنعها لهم، وهجروا درب بيته.
***
# مُوجّه
ثانويّة الفُنون عَنّ له زيارة صديقه أمين المستودع، أوّل ما وقعت عليه عيناه
خزانة الملفّات الحديديّة.
-:
"إذا كان الحذاء الجديد لك؛ فكيف تضعه على ظهر الخزانة..!! ألا ترى أنّه يعلو
صورة العقيد أبو شهاب؟، إهانة للوطن، و لرمزه السيّد القائد".
أدركَ
أبو سمير هول الكارثة، تبريراته، واعتذاراته عن خطئه غير المقصود، ومع إطلاقه أعظم
الأيمان المُغلّظة لم تُجد نَفعًا، قطراتُ عرقه المُتصبّب تتلألأ على جبينه رغم
برودة الطقس. أحسّ بَللًا مُنسربًا بين فخذيْه.
في
اجتماعٍ توفيقيّ بين مدير مفرزة السياسيّة، أجبرَ المُوجّه بالتنازل عن تقريره،
وعينُه على المُستودع؛ فدفع أبو سمير الثّمن غاليًا بصمتٍ، وما زال يشكر الله.
***
# زميلٌ
للمهندس في المكتب لم يتردّد لحظةً في النُّزول مُسرعًا إلى المفرزة الأمنيّة أسفل
مبنى الاتّصالات المركزيّ.
في
نهاية التقرير أثبت توقيعه:
"قام
المهندس بإنزال صورة (العقيد أبو شهاب)؛ بلا احترام من أجل تجديد طلاء الجدران،
وسوء تصرّفه إهانة لرمز الوطن".
بعد
نصف سنة خرج (المهندس)، كان هيكلًا يحتوي على حطامٍ نفسيّ وعاطفيّ، يعوفُ كلّ شيء،
مُنكفئٌ على صمته. فَرَشتُ له ساحات المستقبل بالأمل القادم، إشراقاتي لم تلقَ
صداها عنده.
أخبرني:
"فقدتُ حماسي لمتابعة الحياة، انطفأت أنوار عقلي، أرجوكَ دعني وشأني، ولا
تُحاول". لو قيل لي:
-"إنّ
عرّافًا ماهرًا على حوافّ الكونِ عنده قُدُراتٍ لمعالجته؛ لذهبتُ إليه مُخالفًا
كلّ قناعاتي الفكريّة".
***
# أجمع تجّار القرية رأيهم على الذّهاب بوفد موحّد؛ لتهنئة
مدير النّاحية بالانقلاب الجديد (الحركة التّصحيحيّة).
ولمّا آنَسُوا من أنفسهم جُلوسًا، مُطلقين التّهاني
والتّبريكات، كلّفوا (أبو عليّ) بإلقاء كلمة نيابة عنهم، ولمّا كان أبو علي يكتب
الاستدعاءات، والعرائض للزبائن؛ لتقديمها للجهات المُختصّة، فكان بإمكانه تركيب
ديباجة أدبيّة تليق بالوفد حسب اعتقادهم، وتُدخل السّرور على قلب المُدير.
طلبوا من (أبو علي):
-"شَرِّفْ سيدي.. شَرِّفْ أبو علي".
العيون مُصوّبة عليه، والآذان مُشنّفة للاستماع بكامل
استعدادها، جال بنظره في المكتب، تفرّس وجه المُدير الذي يُبدي اهتمامه بما سيقول
الرّجل.
تنحنح (أبو علي)، ويده تمتدّ لتعديل عِقَاله، رهبةُ
الموقف وتّرَتْه، فقال بلهجته الدمشقيّة الميْدانيّة، التي لم يُداخلها شيء من
الحورانيّة؛ رغم أنّه عاش ومات في بُصرى:
-"إيه سيدي..!! حِزِب مِزِب.. ما بَءَا بِدْنا".
انفجار داخليٌّ في قلب المدير، كادت أن تنفلت ضِحكته من
عِقالها، استعاد رزانته؛ بعد تَمَلْمُلِه على كُرسيّه الدوّار، وابتسامته ارتسمت
على شفتيْه.
***
# عينا
حارس باب قسم الطوارئ في المستشفى تُلاحق حذاء الشابّ المُصاب في الحادث.
فرصةٌ
سانحةٌ في غفلة من المُسعفين حتّى خلعه من قدميه. لحظات ثمينة اختفى فيها مع
الحذاء.
توقّف
أمام ثلّاجة الموتى، ووجهه الحزين مليءٌ بدموعه، صوتُه يعلو لاهِجًا بالدّعاء،
والغفران للمُتوفّى. المَشهدُ اكتملَ بِوَلْوَلَتِه:
-:
"وا أسفاه على شبابه..!!".
يدٌ
خفيّةٌ مُتصدِّقةٌ أثقلت جيبته نُقودًا عن روح الفقيد.
***
# مُدلّلٌ نام طويلًا ظنًّا منهُ بالرّاحة وطول
العمر.
جاءه
الجواب:
"فما
أطال النّوم عمُرًا".
هزّ
رأسه، ولسانه يُردّد:
-"وما
قصّر بالأعمار طولُ السّهر".
نهضَ
مُسرعًا.. وجافى النّوم إلّا قليلًا حتّى النهاية.
***
# عمله
التطوّعي مع المنظّمات الإغاثيّة فتح له أبواب العلاقات على عوالم السيّدات. هاتفه
لا يصمت إلّا في ساعات متأخّرة من اللّيل.
اهتزّت
أرضيّة الثّقة المُشتركة مع زوجته؛ على طريقتها انتقمت داخل سريرهما، ضحكاتُه من
الصّالة تُسَرّع وتيرة حركة أصابعها بالكتابة عبر (الواتساب) لشخص يبُثّها دفء
مشاعره.
بثرائه
المُحدَث اتّخذ، ولأصدقاء شقّة خاصّة؛ لاستقبال ضحايا الطّرْدِ الغذائيّ.
أمام
المحكمة خلعته زوجته.. كما تخلع حذاءها، ويدها على الكتاب أقسمت للقاضي:
-"إنّني غير نادمة عليه، ودموعي عزيزة لن
أسفحها ثانية".
***
# موت
البقرة منذ سنوات لعنةٌ لاحقتِ الطبيبَ البيطريّ إلى سجن تدمُر.
المُحقّق
رئيس المحكمة الميدانيّة هناك أمرَ بنزع الطمّاشة عن عينيّ جاره في الحارة الطّبيب
الماثل أمامه.
لقاءٌ
غير مُتوقّع من كليْهما. لحظاتُ صمتٍ رهيبٍ عبرت خلالها ذكرياتٌ سريعةٌ؛ توقّفتِ
الأنفاسُ فيها على عتبات الموت.
-:
"دارت الأيّام دورتها؛ لتكون مُتّهمًا مُتآمرًا خائنًا للوطن، الصّدفةُ وحدها
تُثير نقمتي عليكَ من جديد، لأنّك حرمتنا من حليب بقرتنا، وسأحرمُكَ الحياة؛ فلا
مجال أبدًا لأن تعيش ثانيةً واحدةً بعد الآن، صَدَر حُكم الإعدام المُبرَم عليك.
هاتِ غيرهُ يا عسكريّ".
سيقَ
إلى السّاحة، وجنباتها تضيقُ بالسّجناء، وترتجّ على وقع خَفيقِ قلوبهم. وهمس بالتّكبير.
***
# لصٌّ متوحّشٌ اخترق حُرمة باب الحارة مرّات
عديدة، تَدَاعَى العقيد والأعضاء لاجتماع طارئ، واصلوا اللّيل بالنهار على مدار
أيّام لاحقة يتدارسون الأمر، ولم يستطيعوا الخروج من المأزق بقرار بالإجماع.
على
غير العادة، وفي اليوم السابع دخل القَهوَجِيّ عليهم بلا استئذان، وهمس في أذن
العقيد الذي ابتسم، وراح يهرش فَرْوَة رأسه، وشفتاه ممطوطتان للأمام، وحاجباه
يرتفعان فوق عينيْه المُبحلقتيْن على اتّساعهما، ثم ضرب بيده على الطّاولة، انتبه
الجميع من غفلتهم، وبصوته الجَهْوريّ ونبرة واثقة، قال:
-
"أيّها الإخوة، يا أبناء حارتي، الأهل بانتظار رأيكم، ليس من المهمّ أن نردّ،
لكن الأهمّ على الإطلاق حسبما أرى، أن نحتفظ بحقّ
الردّ".
أبو
قاعود عضو المجلس، غاضب مُستنكر القرار:
-"إنّها
فرصتنا، فإذا لم نستطع الردّ الآن، متى سنردّ؟.".
العقيد
بصوت الواثق:
"ألا
تثقون برأيي؟
-مقاطعة
تصفيق حادّ.. وهتاف مُؤيّد-من المؤكّد أنّنا سنردّ، ولكنّنا ننتظر الزمان والمكان
المناسبيْن".
الأكفّ
تلتهب احمرارًا، والفرح طافح على الوجوه، وهتافات ودعوات بالنصر وبحياة العقيد.
ثم
فطنوا لتفتيل شواربهم من جديد. العقيد وعلى مدار سبعة أيّام، يعيش بنشوة عارمة،
وهو يستمع لهتافات مسيرات التأييد، وبين الفينة والأخرى يخرج إلى شرفة منزله
لتحيّة أهل الحارة، مُلوّحًا لهم بيديه.
في
اليوم التالي، استفاق الناس على أمر غير معهود، عندما شاهدوا جثّة (أبو قاعود)
مرمية أمام بوابة الحارة الخشبيّة، ورأسه معلّق على أعلاها. خرج العقيد عن صمته،
وارتجل خطبة عصماء ختمها:
-"سنحتفظ
بحقّ الردّ".
***
# - سامر:
"يُقال عن فلان أنّه يمتلكُ قميصًا من أربعين سنة، ويبوسُ الشّلنَ
ويُخبّئه".
-:
"وما يعني ذلك؟" .
-سامر:
"هل أستطيعُ إطلاق صفة المغفّل عليك؟".
-:
"لكَ الحريّة في أن تفعل ولا حَرَج..".
-
سامر: "أفشلتَ حماسي الشديد المُتوتّر حدّ الانفجار".
-:
"منذ زمن مضى أدركتُ عدم الانتباه لأشياء كثيرة، لمصلحة التركيز على اهتمامات
تأتي بنتائج باهرة في حياتي".
-
سامر: "أوه..!! يا لها من مهارة أغبطكَ عليها.. طريقةُ امتصاصكَ للصّْدمة
الأولى، وتحويل الموضوع إلى خارج دائرة الاهتمام يا هشام".
-:"وَصَفْتَني
بالمُغفّل، يقيني بنفسي يقولُ غير ذلك. بإمكانكَ الآن إخباري عن صاحب القميص
والشّلِنْ".
أخذ
سامر نفَسًا عميقًا. نظراتُه ساهمةٌ في الأفق، توقّف فجأة، مُلتفِتًا للوراء بقلقٍ
واضحٍ يتوجّسُ أمرًا.
استدرتُ..
لا شيء أبدًا.
جَذَبَني
من كَتِفي. التصقت شفتاهُ بأذُني هامسًا، فهمتُ أقلّ القليل من كلامه. تركني ومضى
صامتًا قافلًا من حيث التقيْنا أمام باب الحارة.
***
# يدهُ
طالتِ البعيدَ قبل القريب، نافَسَت يدَ الله على حَدّ ادّعاءاتِه غيرِ المُعلنةِ
للعامّة. أصابِعُه عبثت بدقائق الأشياء لم تترك الظواهرَ والبواطنَ.
فقدتُ
فِكرةً واعدةً عثرتُ عليها مؤخّرًا بين حُطامٍ عظيمٍ مَنفيٍّ خلف تلالِ ذاكرةٍ
اسْتَوحَشَت خوفًا.
ابني
مُتابعي فيما أكتب، بدهشة الغرابة تساءل:
-"منذُ
سنةٍ لم أقرأ لكَ شيئًا..!! على غير عادتك، أخشى عليك التصحّرَ".
-:
"لا أظنّ ذلك أبدًا.. إنّها العوائق فقط". أحاولُ قراءةَ ما يدورُ في
خَلَده، لن أخبره عن اليد الضخمة، وَوُسْطاها العابثة في.... أنْكَفِئُ على دواخلي
هاجسًا: "فِكرتي لي وحدي. أُتُون الجحيم مُستقرّها.. وَلْيَكُن".
***
#
بعيونِهما يُتابعان الغادِينَ والرّائحينَ كلّ مساءٍ في لقائهما شِبهِ اليوميّ.
بائعُ
العربة يُراقبٌ حتّى النّملةَ لا يفوته شيء مهما صَغُرَ. لا يتردّد في استخدام
هاتفه النقّال مرّة يكتبُ، وتارةً يلتقطُ صُورًا من فوره يُرسلها إلى إدارته.
اعتادَ
مكانَهُما الدّائم، وهما يستحوذان نظراته بين الفيْنة والأخرى. لكنّهما صامتان لا
يتكلّمان.
يجلسان
على طَرَفيْ المقعد الخشبيّ العتيق، بدايةً ظنّهما موظّفيْن مثله من إدارة أخرى.
جاءه
الردّ بأنّهما أبْكَمان.. وهذا لا يمنعُ من مُراقبتهما، وإن كانا زملاء.
أحدهُما
هزّ رأسه بقوّة، وَخَطّان عريضان قَسَما جبينَه إلى نصفيْن، وكأنّ الشّفَق انعكست
مرآتُه عليه.
لسانُه
يتحرّك بتوافق مع اُصبُعه الوُسطى إيماءً لحاجةٍ معروفة.
أشار
له صديقه بِسُبابَته اليُمنى للأعلى مُحاذيةً لرأسه، وبحركةٍ مماثلةٍ من اليُسرى
بتشنّج غاضبٍ.
بعد
لحظات من وصول صورتِهِما للإدارة، داهمتهُما سيّارة (جيب).
مقعدُهما
المعهودُ ما زال شاغرًا منذ ستّة أشهر. خبرٌ مُسرّبٌ مُتناقلٌ همسًا:
-
"أنّهما كانا يشتُمان عقيدَ باب الحارة أبو شهاب".
***
# -
"هنااااااك قصيدةٌ مجنونةٌ توقّفت مَطالِعُها منذُ زمنٍ". أشارَ الشّاعر
إلى شجرةِ الكِينا المُعمّرة والبيتِ القديم.
وتابع:
"وقتَها اعتزلتُ الشّعر بعدما قرأتُ قصيدةَ بلقيس. قصيدتي لا تفتأ عن
مُراودتي إيذانًا بالإفراج عنها. إصراري الرّافض لم ينكسر أمام
إغراءاتها..!!".
الأسى
ينهشُ قلبُ صاحبه: "ما بالُ مواسم أحزانكَ وصلت إلى حافّة عُمُرِكَ؟".
الشاعرُ
حبيسُ قُمقُمِه. تأجّجت سَوْرةُ غَضَبه. أشعلَ عُود ثَقّابٍ في كلّ ورقةٍ حملت
حرفًا واحدًا أو نقطة. تطاير الرّمادُ وبقاياه.
صديقُه
ضاحكًا مُلوّحًا: "تبًّا لمحرقتِكَ الجُنونيّة.. ها هي القصيدةُ نَجَتْ بعد
حُكمِكَ عليها..".
الشاعر
ضاحِكًا للمرّة الأولى في حياته: "فعلًا نسيتُها منذ ذاك اليوم، من جديدٍ سأعيدُ
قراءةَ بلقيسٍ.. لا عليكَ".
***
#
التّمثالُ ثابتٌ على قاعدته الرُّخاميّة. جامدٌ ضمن محيطه المُتحوّل المُتحرّك
بعدما شغل صاحبه الدّنيا ضجيجًا وبُكاء.
طيور
اللّيل وجدته ملاذها الآمن. وجهُه لا يرى ضياءَ القمر إلّا دقائق قُبيل الفجر.
نورُ الشّمس يُلوّحه نهارًا بحرارة لاهبةٍ.
تأمّلاتٌ
ألهبت ذاكرتي المَحشوّة خوفًا ورُعبًا انعكسَ تشويشًا وهلوَسةً هزّت دواخلي:
-
"يا إلهي لم أعُد قادرًا على التمييز؛ فالخيال يأخذُ صفة الواقع المُستحيل
وَهْمًا".
خارج
البيت لوحِظتُ أُكلّم نفسي، نومي يتحوّل مُسلسلًا تُتابِعه عائلتي، يفهمون كثيرًا
ممّا جَرى به لساني.
جاء
دور الطبيب النفسيّ النّاصح بالنّزهات والحدائق العامّة مع رفيق.
بدايةُ
ارتعاشاتِ جسدي تتحوّل إلى تشنّج عضليّ اعتاده الرّفيق المُكلّف بي، نظراته
المُتكرّرة للتمثال جاهلةً وُعورةَ قسماتِ وجههِ، وكلّ يوم يُعيدُ الحكاية:
-
"العقيد أبو شهاب في قلوبنا".
ولا
يملّ من تِعدادِ مزاياهُ الخالدة، وانتصاراته، وصموده، وقُوّته وجبروته.
سألته:
-
"هل تعتقد أنّ أبا شهابٍ في الجنّة، وسَيُحاسبُ مِثْلَنا..!!؟".
بكلّ
ثقةٍ أجابني:
-
"ومَنِ الذي يستطيعُ أن يُحاسبه أو يقفَ في وجهه؟ مُؤكّدٌ أن الجنّات كُلّها
له. انتبه.. لا تلفظ اسمه إلّا مسبوقًا بالعقيد.. مفهوم؟".
-
"مفهووووم..".
***
# قيل:
-
"إنّ مِرآةً دخلتِ السّجن".
في
لحظةٍ فارقةٍ تحسّس المساجينُ وجوهَهم الضّائعة منذ عشر سنوات. للمرّة الأولى
تذكّروها.
صديقي
أخبرني:
-
"دخلتُ السّجنَ بلا شوارب، ولمّا وصَلتِ المرآة إلى يَدِي كان عُمُري ثمانية وعشرين
عامًا خلال ثَوانٍ قليلةٍ سحبها المسؤولُ.
كانت
يَدِي الأخرى تمسحُ غُبار السّنين عن وجهي، ولم أستطع تَبَيُّن ملامحي
الحديثة".
دبيبُ
عقاربِ السّاعة تَحرّكَ من جديدٍ في أروقة السّجن. وجهُه عانقَ ضوء القمر في سماءٍ بلا أسلاكٍ خارجَ
الحدودِ.
***
# -
"في حضرة أبي لهبٍ تَهيّبتُ الكلاما
وفي
نفسي ألمٌ يُحرّقني إيلاما".
الجُندُ
والحُرّاس والأعوان..
عيونُهم
تفترسُنا
سيوفُهم
مُشهرة في وجوهنا..
سجد
العبد الآبق مربوطًا بين يديْه..
والسيّاف
ينفثُ الموت ملء رئتيْه..
الدّمُ
المسفوح هذا اليوم.. وكلّ يوم.
لا
جديد..
الجديد
أن يأتي يومٌ بلا دماء
صاحَ
بأعلى صوته:
-
"أرأيتُم هذا المتآمر..!!
قد
جازف به حظّه العاثر".
(تصفيق..
صفير.. هتافات..)
تنحنح
من على منبره.. اصطفّ الجندّ والحّراس عن يمينه وشماله، والأعوان من خلفه. الوزير
فحص صلاحيّة عمل (المايكروفون).
-
"تفضّل مولاي أبي لهبٍ العظيم".
الخطبة:
-
"أيها الشعبُ العظيم من عظمَتي..
المجبولُ
على الطّاعة في كَنَفي..
لن
تموتوا من جوع ولو أطعمتُكم من لحم كَتِفي..
انتبهوا..
انتبهوا
(الجميع
مشدودون لما سيقول)
الموتُ
لأعدائي
أعداء
الوطن..
فالمؤامرة
كونيّة..
فلن
يهزّوا شعرة واحدة من جسمي..
ولن
يفكّوا بُرغِيًّا صغيرًا من الكُرسي..
فَعلامَ..
علامَ..
أيّها
الناس لا تُضحّون من أجلي..!!
وتتقرّبون
إلى الله.. وتبوسون رِجلي..!!".
مقاطعة-
(تصفيق
حاد.. هتافات.. أصوات مبحوحة)
الوزير
المأفون:
"أيّها
البشر..
كلامُ
مولانا واضحٌ كالشمس..
هل
فهمتم..؟.
لا
أعتقدُ أنّ فيه أيّ لَبْس
ما
عانَدَ سوى العبد التّعِس
كما
تروْن..!!
دمه
المسفوح أُريق في يوم النّحس
ورأسُه
مقطوعٌ منكوسٌ نَكِسْ".
(صمت
مُريب مُنذر بالخوف)..
***
# تَثاؤُب شهرزاد بعد حفلة رقص ماجنة لم يُمهل
جفنيْها إلّا أن أُسدِلا. فركتهُما بشدّة خالط الاحمرار بياض، وحَوْلهما
دوّامة الكُحل السوداء. تراخت أعضاؤها
غَفَت قليلًا.
أبو
لهب لعبت الخمرة في رأسه، عيناه جمرتان مُلتهبتان كعينيْ ذئب أعياه الجوع أيّامًا
بلا طعام، سيلتهم أيّ شيء يصادفه.
تململ
فوق كُرسيّه المتين بعد إغفاءة.
عينا
الوزير تدوران كَلولَبٍ لا يستقرّ على حالٍ من أقلّ حركة.
ضبطُ
إيقاع السّهرة مهمّته الأساسيّة يوميًّا. لا يتركُ صغيرة ولا كبيرة إلّا ويُتابعها
لإصدار أوامره لمساعديه.
تزامن
تثاؤب مع انتصاب قامته المُترنّحة. قال:
-
"أنا سأترك وأغادر".
الوزير
مدهوشًا:
-
"ولمن ستتركنا وتُغادر..!! يا مولاي؟".
-
"سأترك لكم شهرزاد، وإلى سريري
سأغادر".
بلع
الوزير ريقه بصعوبة بالغة:
-
"اللّعنة.. أين قادتني ظنوني؟". قال لنفسه.
تابع:
"مولاي.. أتمنّى لك نومًا هادئًا، وأحلامًا سعيدة، إلى اللقاء في الليلة
القادمة".
رافق
سيّده حتّى اطمأنّ عن كافّة الترتيبات بنفسه.
عاد
للصالة. سلطان النوم سيطر عليهم مع تعالي أنغام الشّخير. أنهَضَ شهرزاد واختفيا
بين الكواليس.
***
#
المفاجأة ألجمت لسانه، ما حدَث غير مُتوقّع أبدًا. وقف حائرًا من هوْل صّدمة ألجمت لسانه. بلا وَعْيٍ انحنى من فوره يجمع بقايا التمثال النصفي
للعقيد(أبو شهاب).
ثمّ
انفجر غاضبًا مُؤنّبًا شاتمًا لقريبه الزّائر القادم من غيابة الجُبّ بعد عشرين
عامًا.
الذي
جاء من أجل التوسّط لإنهاء أوراقه واستخراج حكم براءته، قيل له هناك:
-"لا
تؤاخذنا.. أنت بريء، فقط كان تشابه أسماء".
عاصفة
جنون مفاجئة انتقلت بالزائر السّابق بالانهيال ضربًا وتهشيمًا لرمز القهر. نادى المسؤول
على المُستَخدَم برجاء وانكسار. دموعه تترقرق بين جفنيْه:
"-ما حصل غريب جدًّا.. فورًا أحضر
رمزًا غيره من المُستودَع، ومكافأتك كبيرة".
***
# هبوب
الرّياح لم يترك لي إلا خيار الرّكض وراء قطعة ورقيّة نقديّة ذات قيمة عالية.
تجاوزتُ الحدود؛ لتلتقطني أيدي حُرّاسها.
اقتادوني
من فرع أمنيّ إلى آخر، والسّياط تأخذ مداها في جسمي لسعًا لاهبًا. ضاعت بوصلتي.
سألتُ حارسًا:
-
"أين أنا الآن..؟".
الحارس:
-
"إسْكوت إوْلُوْ.. هِنت عِنّا".
في
جولة أخرى سألتُ آخر آنستُ منه أمنًا:
-
"أين أنا الآن".
أجابني:
"أنتَ في شام ٥٠٤".
-
"أعلمُ أنّني في الشّام، ولكن ما هذا الرقم". ضحك عاليًا، وقال: "يعني
أنتَ عندنا".
***
# جاء في
قديم كُتُب التّاريخ، على ألسنة الرّحالة، وما تناقلته الرّكبان من أخبار أقوام
سادوا ثمّ بادوا:
أنّه
في العام ١٩٦٣ حدث أن تفشّى الطّاعون في الشام. فَزِع النّاس وخافوا، فدخلوا كهفًا
عظيمًا واسعًا.
(ناموا ما شاء الله لهم ذلك. استفاقوا بعد أكثر من خمسة عقود.
أرسلوا رائدهم لاستطلاع الأخبار، واستجلاء الأسرار، وهل مازال أحد على وجه الأرض
بعد موجة الوباء؟).
عاد
رائدهم خطيبًا فيهم:
"- أيّها الناس.. رأيتُ سيرة الموت
على ألسنة الخلق. الكون صار أحمر.. والكواسر تنهش الجثث، ومن هو مُقيمٌ على قيد
حياة؛ فهو مُتوارٍ خلف هيكله العظميِّ يُعاني جوعًا، وسوء تغذية.
السّجون مُتخمة، والهجرة إلى بلاد الله الواسعة هي الموضة
السّائدة، لم يبق شيء في البلد يستحقّ رجوعكم.
لا
ماء ولا كهرباء ولا عمل. غلاء فاحش، ووحشٌ ناطح، وبشرٌ سُكارى وما هُم بسُكارى،
لكن تكالُب الأعداء من كلّ مكان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم،
وإنّي ناصحًا لكم؛ فانظروا ما أنتم فاعلون، والسّلام عليكم".
***
# خبرٌ
مُسرّبٌ عن وسيلة إعلامية محليّة غير رسميّة:
"-أنّ قردًا هرب من حديقة الحيوان".
مُتزامنًا
مع إحدى جولات محادثات مدريد للسّلام مع وفد العدوّ الصّهيونيّ.
انشغل
النّاس عنها بأمر القرد؛ خاصّة عندما تسلّق أعلى تمثال (العقيد أبو شهاب) أمام
بوابة الحارة الرّئيسة. تنفّس النّاس الصعداء
باستقرار القرد جالسًا على رأس التمثال.
استنفرت
السُّلطات المُختصّة لمنع الإساءة المهينة لرمز الوطن.
القردُ
مُرتعِبٌ من احتشاد الجُموع؛ فتغوّط بعد إصابته بحالة إسهال مفاجئة.
عاجَلَهُ
القنّاص برصاصةٍ أخطأته؛ لتستقرّ بين عينيّ التمثال. جيء بآخر نجح في مُهمّته بعد اختفاء زميله الأوّل مباشرة.
مسيراتٌ
مُؤيّدةٌ مُندّدةٌ بتقصير وإهمال إدارة حديقة الحيوان بواجبها. دَبَكاتُ فرحٍ بموت القرد
والقنّاص المخطئ.
***
" #يا ما هالخد إتعوّد ع اللّطُم".
مقولة الختيار التي أطلقها مِرارًا كثيرة مصحوبة بتنهيدة أليمة من عميق أعماقه.
تتناقلها الألسن وهي تترحّم عليه، وبعض ممّن عاصره يذكر محاسنه. ذات مساء ارتسمت في سماء
منطقتنا خطوط مُتعرّجة قامت بها طائرة استطلاع إسرائيليّة. بعد أيّام من اختراق
جِدار الصوت من طائرة حربيّة مُعادية فوق القصر الرئاسيّ في العاصمة. ناطق
إعلاميّ وقحٌ في كلّ مرّة يختتم البيان: "سنحتفظ بحقِّ الردّ..
الموتُ لأعدائنا والخلود لرسالتنا".
المستمعون
يهزّون رؤوسهم على وَقْع مارش البيانات العسكريّة الدّائمة، مُستعيدِين صورة
الختيار مُتقمّصين هيئته مُردّدين مقولته الخالدة. في إحدى الجولات المُتكرّرة في السّماء
والإعلام، تمرّد شابٌّ على مقولة الختيار، رجْعُ صدى صوته صَمّ الآذان:
"
-أنا لستُ المسيح لأُصَعّر خدّي الآخر". غاب
في زحمة النّسيان واستمرّ اختفاؤه تمامًا من المشاهد اللّاحقة.
***
# فكّر
ودبّر. أحلام التجارة والأرباح عشعشت في دماغ بائع الجرائد عند تقاطع طريق رئيسة
في العاصمة.
رسم
خُطّةً مُحكمةً مُتزامنةً بأسبوع سابق على موعد استلام راتبه؛ استدان المبلغ
المطلوب من جارتهم بضمان زوجته.
توجّه
إلى الوكيل المعتمد لتوزيع جريدة (الدّومري) الأسبوعيّة السياسيّة السّاخرة، عقد
اتّفاقًا مُسبقًا مع القُّرّاء المُتلهّفين بسعر مُضاعف.
المُعتمد
أخذ عشر ليرات زيادة عن السّعر النّظامي مُقابل حجز مئة نسخة. انتفخت جيبته بفارق
السّعر متناغمة مع حكاية أحلامه: "التّجارة شطارة". شقشق الفجر؛ نهض
نشيطًا مُتوجّها إلى مكتب التوزيع، كان أوّل الواصلين، استحوذته الشّكوك لمعاينة
ساعته بقلق:
-
"مازال هناك وقت لابتداء الدّوام".
ساعة
تأخّر. تلتها أخرى، بعد العاشرة جاء الخبر اليقين:
-
"الدّومري مُحتجبة إلى إشعار آخر".
ضجيج
هامسٌ وسط دوّامة الهرج والمرج والتساؤلات:
-
"صُودِر عدد الأسبوع والمقرّ والأموال، هناك تجاوزات محظورة، وكُفّنت أقفالها
بالشمع الأحمر".
***
# بعد سنوات اعتقال قضاها في سجن المِزّة العتيد.
قيل وقتها:
-
"مُجرّد تباين في وجهات النّظر، فعبّر مُغرّدًا خارج السّرب، لكنّه لم يشتطّ
كثيرًا".
وللعودة
إلى المسار المرغوب، أنشد بعد الإفراج عنه؛ فسمعه جميع أهل القرية:
-
(يا بعثُ قد هيّجتَ أشجاني // ذكّرتني أهلي وأوطاني).
ابيَضّت
صحيفته.. فيما بعد استلم مهامّه كمدير لمدرسة ابتدائيّة إلى حين إحالته على
التقاعد مع بلوغه السّتين.
قبل
نهاية الألفيّة الثانية صدر مرسوم جُمهوريّ بتحويل السّجن إلى متحف، وسائل الإعلام
المحليّة والعالميّة جاءت على الخبر تفسيرًا وتحليلًا، بالمعقول واللامعقول.
واعتُبِر ذلك. وقتها:
-
"خطوة على طريق الانفتاح الدّاخليّ المأزوم والمُتشنّج".
وفودٌ
كثيرة توافدت على المكان أبهرتها ألوان قاعاته الزّاهية، وأضواؤه المُشعّة أضاءت
عتمة الزوايا المظلمة.
بعد
زيارته الطوعيّة للمتحف، انطوى على نفسه مُمعِنًا في عُزلته القهريّة، وثرثرته مع
نفسه لم تتوقّف إلّا مع لفظه لآخر أنفاسه.
***
# المُبادِر
(أبو زهير) لا تفوته مناسبة اجتماعيّة أو وطنيّة إلّا وله نصيب فيها، تتفحّصه
العيون لتتأكّد من مُشاركته، تغيّبه مُثير للّغط والتساؤلات.
ذات
موسم ربيعيّ أثاره وضعُ الرّياضة الخامل منذ أشهر. تشاور مع مُقرّبيه. تنادوا لإقامة
دَوْري بين أندية القرى المجاورة لهم. اجتماعات متواصلة ولقاءات لتنظيم البطولة.
من
فوره اشترى كأسًا، وكتب عليه:
-
"تحت رعاية الرياضيّ الأوّل (أبو زهير) تُقام بطولة دوْري الأندية".
صيّادو
الماء العَكِر التقطوا (المانشيت)؛ فكتبوا:
-
"الرياضيّ الأوّل في باب الحارة العقيد أبوشهاب، فكيف لأبي زهير الاعتداء على
هذا الحقّ الحصريّ والمُقدّس للعقيد وحده بلا منافس أبدًا؟".
أشهر
طويلة، وكلّما انتهت جهة أمنيّة من التحقيق معه استدعته الأخرى.
الخوف
والرّعب خلال هذه الفترة؛ داهمه ارتفاع الضّغط والسّكّر واضطرابات الهضم والقولون.
أخيرًا بعد اعتلال صحّته، صرّح:
-
"وهل الوطن لي وحدي؟ وهل أنا معنيٌّ بكلّ قضاياه؟ سأدَعَه لحُماته الحريصين
عليه".
قُبيل
وفاته عدَلَ عن رأيه السّابق. وقال:
-
"سأتشاركُ مع الوطن بقبري..!! وليفعلوا ما شاؤوا".
***
# ثلاثون
عامًا بانتظار عودته، لم تتوقّف يومًا مُناشدة العابرين من أمامها. لم تُغيّر
جلستها المسائيّة على الحجر البازلتيّ أمام باب بيتها.
الزّقاق
ممرّ إجباريّ مختصر، تتأمّل الوجوه المختلفة، لم تتمالك نفسها من سؤالهم:
-
"هل تعرفون سعيد؟".
شابٌّ
يرتاد الزّقاق للمرّة الأولى:
-
"ومن يكون سعيد يا أمّي؟".
-
"ابني الكبير أخذوه من زمان، على أساس نُص ساعة سؤال وجواب. رمضان القادم
سيكون الثلاثين على غيابه".
ذات
مساء تزامن مرور شابّ يرتدي بدلة عسكريّة. انتشت العجوز. تململت في مكانها،
واستوقفته:
-
"يُمّهْ باللّه عليك..!! بِدّي أسألك عن سعيد. طوّل بغيْبته، خَبّره بس
تشوفه: إذا إِجَا وما لقاني، فإنّي أنتظره هناك في قبري".
لم
يتمالك الشّاب نفسه أمام قلب الأمّ؛ فتماسك عندما أوشك الانهيار، وانطلق لسانه:
"إن
شاء الله سأخبره..!!"
انطلق
والدّموع تغالبه، ودعوات الحَجّة تلاحقه إلى أن غاب عن عينيْها.
***
# ذِكراها
نبض.. أنا ابن امرأة حورانيّة.. اسمها (خديجة) وزَوْجاها كلاهما (قاسم).
حملت
بي أيّام العطش.. وكانت أيّامها تسمّى سنة الصهاريج. جاءها المخاض بي.. فأدرّت
السّماء بحليبها ليالي وأيّاما.
لا
أعرف على وجه الحقيقة تاريخ ميلاد أمّي، سوى أنّها أخبرتني نقلًا عن جدّتي منيفة؛
أنّها ولدتها سنة (الطّوفة).. أمّي أميّة لا تقرأ ولا تكتب مثل أمّها، التي
تذكُر أنّها وُلدت سنة دخول الفرنساوي سوريّة.
أجزمُ
أن وفاة أمّي كانت في مثل هذا اليوم من السنة الماضية 25\ 9\ 2019 عند ذلك كنت
بلغت ٥٤ سنة، بتوقيت بصرى.
يعني
أنّها حملتني في قلبها أكثر من نصف قرن، يا لها من امرأة شرقيّة عظيمة.
بفقدها..
فرغت الدّنيا من آخر قلب أحبّني.. تألم لألمي طوال حياتي. مات قلب من ملايين
القلوب. هو الوحيد لأنّه قلب أمّي فقط. فقدتُ السّند الأخير عندما غابَ عن دنياي.
أوّاه..!!
يا حزنها.. وجع السنين.. يا لململة الأحلام الصغيرة تُسعدَها. نسجت منها ابتسامات
ضاجّة بالحياة. آه..!! يا فرحتها ممزوجة بالدموع.. في ذكراها بتوقيت بصرى.
***
# صراع
الأفكار على مقاعد الدّرس. مُدرّس التّاريخ المرعوب خوفًا أضاع بوصلته، في نوبة
غاضبة من حركات طلّابه. أقسم:
-
"قسَمًا بشرف حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، سأضرب بعصايَ وبلا رحمة من
يتحرّك".
وفي
سابقة مُجازِفَةٍ مُتهوّرةٍ ماهرةٍ باصِرةٍ، مُدرّس التربية الإسلاميّة طرح سؤالًا
جريئًا، بعد تشويق مُغرٍ للاستماع:
-
"هل الانتساب للـ.. (هاظ) .. حرام أم حلال؟".
وفي
حُصّة الفنون دخل شابّان من المرحلة الثانويّة (البكالوريا)، شرحوا عن عظمة الحزب
والقائد والانتصارات، وإغراءات لدخول الجامعات، والحصول على البعثات الدراسيّة
داخليّا وخارجيّا، والوظائف العامّة في دوائر الدولة المدنيّة والعسكريّة.
تبايَنت
مواقف الطلّاب، نقاشات حادّة انتهت بالاشتباك بالألسنة والأيدي.
استُدعوا
جميعًا إلى غُرفة الإدارة للتحقيق معهم من قبل عنصر أمن، ومسؤول من الفرقة
الحِزبيّة. أخذوا منهم تعهدّات كتابيّة.
محقّق
الحزب، قال:
-
"هذه المرّة أنهيناها من هنا، إذا تكرّر الأمر وبكلّ تأكيد ستُحوّلون إلى
السياسيّة. ومن لم ينتسب إلى الآن؛ فليأخذ طلبًا، وأنا سأقوم بتزكيته للترشيح
لنيْل عضويّة الحزب العظيم".
لم
يتخلّف أحد عن توقيع طلبه. وقّعتُ بِقرفٍ مُكرهًا. هاتفٌ داخليٌّ عزّز عِنادي
للانفلات:
-
"لن أنتظم معهم في الاجتماع الأسبوعيّ.. ولن أدفع رسم الاشتراك..!!، وليفعلوا
ما بدا لهم".
***
# "بالروح
بالدم نفديك يا عقيد". هتافات تصمّ الآذان، صداها يُطاول عنان
السماء مُتصاعدة من حناجر مبحوحة.
تزاحمٌ
شديدٌ على مُقدّمة المسيرة لمواجهة (الكاميرا) التلفزيونيّة. خطاب العقيد السنويّ بمناسبة احتفالات الحركة التجميليّة.
بعدها
بأيّام قليلة يأتي انتصار حرب الخريف. جماهير باب الحارة خرجت عن بكرة أبيها
تتحدّى الثلوج المُتراكمة ودرجات الحرارة المُتدنّية.
حرارة
المناسبات المُتكرّرة حاصرت حِدّة سوء الطّقس.
مُدرّسٌ مُعارضٌ قديمٌ لا يتردّد في إبداء رأيه لخواصّه وخُلصاء
أصدقائه:
"-ببّغاوات غبيّة..!! على
أيّ شيء يفتدون العقيد.. ألأنّه سلّم البُستان للعدوّ الصهيونيّ، وحافظ بأمانة على
تعهّداته للعمّ كيسنجر، بعد محادثات اتفاقيّة فصل القوّات في حرب الخريف؟".
***
# أُصغي
إليه بكامل جوارحي المُتفطّرة ألمًا وحُزنًا: "قبل سنتين سمعنا آخر أخبار البلد
عند قدوم آخر سجين جيء به إلى مهجعنا".
لا
يفصلُ بينا إلا عرض الطّاولة، وكأنّه حيِل بيني وبينه بجبال من الضباب، أو بمسافات
تصل حدود تدمر.
تابَع:
"ظِلّ حارس الشرّاقة اختفى، غبارٌ هبط علينا منها، صفير الرّياح الهائجة كسر
رتابة صمت المكان. عيوننا تعلّقت بفتحة الشرّاقة ظنننّا قيام القيامة، صفحة جريدة
حطّت رِحالها على الشّبك الحديديّ".
توقّف
لالتقاط أنفاسه من جديد. قتلني الانتظار. خِلتُه اختنق وتوقّفت نبضات قلبه.
بعصبيّة نبرتي الفائرة تنبّه رُوّاد المقهى: "تابِع يا خالد لا تقتل حبل
أفكاري".
اهتزّ
جسمه بحركة لا إراديّة واضحة، كأنّما سَرَت فيها كهرباء التحقيق. قال، وعيناه
ساهمتان في الأفق خلال نافذة قريبة من طاولتنا: "بُثّت في قلوبنا حياة دافئة.
تواثَبَت أحلامُنا شوقًا لرؤية ما تحمل هذه الورقة".
بلهجةٍ
حازمةٍ من أحدهم تشكّل هرمٌ بشريّ وصولًا بأعلى قمّته لإنزال الجريدة. ثوانٍ قليلة
ناهزت سنوات مَنَفاهُم.
صوتٌ
آخر: آمِرًا من بيده الجريدة بالدّخول إلى الحمّام لقراءتها، وإخبارهم بما فيها.
الانتظار
كان سيّد الموقف في سجن تدمر.
جَمْر
الانتظار يُحرّقُني استماعًا لحكاية صديقي خالد التي رأيتُها ترتسم موتًا على
مُحيّاه، ولم يُكملها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملاحظة- فكرة النص مقتبسة من حوار الروائيّ خالد خليفة حول روايته (القوقعة).
*
الشرّاقة فُتحة في أعلى أسقُف المهاجع. الحارس يراقب منها السجناء.
***
# -
"تتشابه المآذن والأشجار العالية.. يا إلهي..!! يستحيل تحديد المكان الذي نحن
فيه الآن".
سيّارة
(الزّيل) العسكريّة تعبر شوارع العاصمة دمشق بصندوقها الحديديّ المُصفّح. أصوات
الزّوامير وصرير الدّواليب لا تتوقّف حتّى عند الإشارات الضوئيّة الثلاث التي
مررنا بها.
عيناي
مُتعلّقتان بكُوّة تتصالب عليها قطع الحديد التي تزيد قليلًا عن مساحة كفّي؛ أتاحت
لي وزميليّ الاستمتاع بالغيوم وزُرقة السّماء، وأحيانًا ألسنة من أشعّة الشّمس
صافحت وجوهنا النُّحاسيّة؛ حينما يتوافق طريق تدمر الصّحراوي الطّويل مع اتّجاهها.
ذهب عنّا الإرهاق والتّعب وحَزّة القيد في معاصمنا والتّفكير بمصيرنا المُنتظر.
انمحى
اللّون الأزرق من ذاكرتي تمامًا مُفسِحًا المجال للأسود والرماديّ وأحمر أجسادنا
المجلودة بالكبل الرّباعيّ، والصّدم الكهربائيّ.
صبيحة
اليوم نادى السجّان على رقمي، لكزني زملائي مُذكّرين لي؛ فنهايتي حتمًا في نسيانه.
ساقني
إلى مكتب قلم السّجن الملاصق لمكتب معاون المدير. المُساعد أمسك بكفّي وطبع إبهامي
على سطح (الإسطمبة). بصّمَني على أوراق ثلاث بجانب اسمي الحقيقيّ.
أخبرني:
-
"أنتَ مطلوب إلى التحقيق".
-
"أين يا سيدي؟".
-
"لا أعرف إلى أين.. وليكن إلى جهنّم ما المشكلة؟ خُذهُ يا عسكري،
وانطلق".
هديرُ
(الزّيل) على مدار ساعات لم يتوقّف إلّا لمدّة نصف تقريبًا في الاستراحة. أصوات
المسافرين وضحكاتهم. نبرةٌ نسائيّة أخلّت بتوازني الداخليّ. أخذتني إلى سنوات
خلَت. صورٌ ومواقفٌ هطلت من سماء ذاكرتي صدّعت جُدران الحُزن السوداء في قلبي.
سَكَتَ
هدير المُحرّك. اصطفاق الباب بجانب السّائق. صوت خُطوات رئيس الدوريّة يقرع سمعي.
كلامٌ مُختلَط فهمتُ بعضه. أيقنتُ وصولنا إلى الفرع الذي طلبنا.
الكُوّة
الصغيرة أظهرت جُزءًا من بناء عالٍ.. تذكّرتُ.. تمامًا: "إنّه إدارة السجلّات
العسكريّة.. إذن النهاية فرع فلسطين.. وصدق المُساعد بكلمته: إلى جهنّم".
***
# وأنا
بكامل قِواي العقليّة دون ضغط أو إكراه؛ سأعترفُ بغبائي.
الدّهشةُ
تأكلُ ملامحَ الطّيبة والبراءة من وجهه.
شعوري
يُخبرني بما يجيشُ في صدره:
-
"مؤكّد أنّ فطين جُنّ جُنونه".
تيبّست
شفتاه إطباقًا على صمت لسانه. عيونُه أرسلت لي:
-
"ما الأمر يا صديقي، ومنذ وَعيتُ عليكَ في سنوات صِغرنا عرفتُك نبيهًا
فطينًا، ما الذي دَهاك؟".
بصوتٍ
مسموعٍ لجوارنا على الطّاولات القريبة:
-
"للمرّة الأولى في حياتي ركّبتُ ثمّ فكّكتُ شيئًا لن أُفصِح لكَ
ماهيّته..!!".
حركةُ
حاجبيْه للأعلى تزامنت مع اهتزاز رأسه يمنةً ويسرةً؛ أوحت لي بتساؤله:
-
"لم أفهم عليك..!!".
أخفضتُ
صوتي مخافة إزعاج الآخرين:
-
"وفي المرّة الثانية نسيتُ إعادة تركيبه وتركتُه مُفكّكًا.. النسيانُ
مُعضلتي".
ما
زالت عيناهُ تُرسلان لي صدمة حَيْرتِه:
-
"صديقي.. كي لا أبتعدَ عنكَ كثيرًا، وتشتطّ بك الظّنون؛ إنّها فكرةٌ راودتني
زمانًا.. أنهكتني اشتعالًا، لكنّها طارت..!! يا للأسف، وضاعت ملامحها".
نوبة
ضحكٍ مفاجئةٍ انخرط بها صديقي؛ نبّهت عابري الطّريق على الرّصيف المقابل للمقهى،
فضلًا عمّن حولنا.
انعكس
الأمر بانتقال حالة صديقي لي أثناء حديثي معه.
***
# تركّزت
نظراتُه على حافّة الكأس، تمنّى أن تُلامس شفتاه النُّقطة التي شربت منها.
توقّف
تفكيره عند لوحة الشّفاه الحمراء المُنطبعة على المكان الذي تمنّاه، وكأنّها إشارة
مرور تُلوّح بخطر التجاوز. توارد أفكار موحٍ:
"-لا أدري
ما الذي ذكّرني باليابان..!!؟ أوه..!! الله عليك يا بيكاسو.. نقطتك الحمراء في وسط
الرّاية تُرفرف هناك على ضفّة العالم المُتحضّر رمز القوّة".
سرحتُ
بعيدًا بأفكاري. كلماتُها تأتيني خافتة من عميق بئر:
"-حبيبي..
جمرُ الانتظار حرّقني.. طالت المواعيد".
كلامُ
الغزل والحُبّ يغلي في أعماقها وَلَهًا. لم أفهم كثيرًا مما قالت.
قطار
أفكاره توقّف عند إشارتها. انفصال تامّ عن محيطه في المقهى. نظرهُ مُركّز على
حافّة الكأس، صاعقة ضربت تلافيف دماغه؛ اهتزّت من شِدّتها أعصابه:
"-ياااااه..
يا لهوْل غبائي..!! وانخداعي بمظهر الوجه المرمريّ تُزيّنه الأصباغ؛ فيبدو كوجه (الجيوكندا)
الملائكيّ.
اكتنازُ
شفتيْها السّاحرتيْن تُغريني بارتشافها.. آهٍ..!! لو سنحت لي فرصة الارتواء..!!.
الخطوط
المتقاطعة والتشقّقات فضحتها الكأس؛ فأطفأت ضِرام رغبتي المكبوتة. كلامها المُشوّش
اقتحم حُلُمي، في اللَّحظة القاتلة أبعدتُ وجهَها جانبًا، وفحيحُ أنفاسها اللَّاهبة
تبدَّد خارج الإطار، وانطلقتُ".
***
# -أخبرني:
" - أنّ ألذّ
وأطيب فنجان قهوة تذوّقتُه في حياتي، من يد خطيبتي في أوّل لقاء علنيّ مشروع".
آهاتي
تشظّت على شواطئ ذكرياته، فلم أحِر ردًّا:
-"أتوقّع أنّك لم تتذوّق فيه طعم البُنّ، بل بَلَعت الطُّعْمَ
مع أوّل رشفة".
ضحكاتُنا
كسرت حاجز الصّمت المُهيْمن على جلستنا. راح توغّلًا في مآسٍ لا تُعنيني. صوته
يأتيني كمن هو في بئر. عيناي ما زلتا تغرسان نظراتهما في وجهه.
***
# خيمة
في ساحة (قصر بعبدا) أمر بِنَصبِها العقيد أبو شهاب.
جلب إليها طاولة (بينغ بونغ)، ورُقعة شطرنج.
روّاد
القصر يخضعون للتفتيش عبر البُوّابة الإلكترونية. ومن ثمّ بالطريقة المعهودة.
تمهيدًا لدخول الخيمة.
(الاصطفاف بالدّور مظهر حضاريّ) لافتة على مَدخَلَيْ الخيمة.
العسكريّ يقوم بمهمّته غير آبهٍ بكلمات مُتذمّرة تعلو بين الحين
والآخر من الطّابور الطويل الذي استنفذ وقتهم.
الوقوف
على رقعة الشطرنج إجباريّ للجميع بلا استثناء للرّئيس قبل الوزير.
أبو
شهاب لا يجلس على كُرسيّه إلّا إذا تعب من لعب الطّاولة؛ ليأخذ نفَسًا عميقًا،
ويحتسي كأس (المَتّة)؛ فيدبّ فيه النّشاط والحيويّة من جديد لمتابعة اللّعب.
عيناه
لا تتراخيان عن مُتابعة الرّقعة، وقد طال امتثال الواقفين في مُربّعاتها، إلى حين
إصدار أمره: "كِشْ مَلِك".
المبعوثُ الأمَميّ بانتظار وصول أعضاء الحكومة إلى قاعة
الاجتماعات.
امتلأت
جيوبُ العسكريّ بالهدايا الثّمينة من ساعات وخواتم ذهبيّة ودولارات؛ فسمح لهم
بالعبور السّريع.
العقيد
نائم، وشخيره يصل أذُنيّ المبعوث المُحاصر بوقته الضيّق.
***
# صدى
قصائده يُجلجِلُ في مُخيّلتي. استغراقٌ عميقٌ يَستَجِرُّني عُنوة إلى منصّة
تُبعِدُني عمّا حوْلي؛ فتتوارد الأفكار، كما تتدافع السَوَامُّ عند المغيب تِباعًا
إلى غدير الماء.
استطاع
(أحمد شطناوي) إقناعي بشاعريّته، رغم بيانه واستفاضته شرحًا؛ لكنّه استعصى
عليه إقناعي بالجهات عند دُوّار جامعة اليرموك في إربد.
-"في
الحقيقة يا صديقي فقدتُ بُوصلتي، اختلطت الجهاتُ عليّ؛ دُوَارٌ استحوذني؛ فالشمال
غرب، والعكس صحيح".
قهقه مِلْءَ مكتبه، وأنا أعاينُ ملامح استغرابه. تفاءل مدهوشًا،
وقال:
- "هل تستطيع كتابة رواية في ذلك؟".
اهتزاز
رأسي علامة الإيجاب. عيناه مغروستان في وجهي، بانتظار ردّي:
- "بكلّ تأكيد سأكتبُ، وهل تعتقد أنّ الرواية ستكتمل؟، مؤكّد
أنّني سأفقِدُ توازني، إذا لم أعثُر على بوصلتي من جديد".
أحمد ضاحكًا بعد لقاء لاحق. ويده تمتدّ لاستلام نسخته من
الرواية، بلا توقيع منّي.
***
*
رد الشاعر أحمد شطناوي على الأقصوصة:
لم يكن أوّل من قال لي أنّي أضعتُ الجهات؛
عندما أدخلُ إلى مكتبك، ولكنّها المرّة الأولى التي أحسُّ فيها أنّ الجهات استوَتْ
عند شخص ما، كلّما أشاح بوجهه إلى جهة كانت هي الغرب، عندها فقط أحسستُ فيها أنّني
أتقنُ لغة الإشارة، أدرتُ الكُرسيّ باتّجاه الجنوب، وأخذت يداي بالحديث، ولكن دون
جدوى، حتى الإشارة لم تعد تقنعه، كان مُشَتّت الصّمت والابتسامة.
أن تكون أصلعًا؛ هذا
يعني أن لا غبار على تعرّفك البديهيّ على الجهات، ربّما، ولكن أن يكون لك شعر طويل
تلعب به الرّيح يمينًا وشِمالَا؛ فهذا يعني أنّك قد تعرض لحالات من التشتّت
الشَّعري؛ فحين تطير خصلة إلى اليمين عندها تعتقد أنها ذهبت إلى الغرب، والعكس إذا
ذهبت إلى اليسار؛ فإن إحساسك بالشرق يكون عاليًا جدًّا، هذا إن كنتَ ذاهبًا إلى
الصلاة، وبذلك فإنّه من الطبيعيّ أن تفقد متعة التعرّف على الجهات في الأماكن
المغلقة.
ضحكنا وضحكت الجهات
الأربع، وضحك فنجان القهوة، الذي ما زال ينتظره منذ صلاة الظهر، ولم يعُد ليشربَه،
كانت ضحكات طازجة، ضحكات توزعت على عقارب الانتظار، الانتظار الذي يفقدك لذّة اللّقاء،
اللّقاء الذي لم يعُد يحسب معنىً لدوران عقارب السّاعة، ولكن ما دام قلبك يعمل على
توجيهك نحو من تحبّ؛ فإن فقدان إحساسك بالجهات والوقت أمر هَيّن.
نمضي ويمضي النسيان معنا
يحفر بمعوله صخر الذاكرة؛ ليفتت بعض ما علق على تضاريسه من لحظات جميلة، تذهب
أدراج الماضي، وسرعان ما تتشكّل مرّة أخرى عند أوّل لقاء آخر، كأنّنا نقول للحظة:
قفي هنا، وانتظري شرارة، أو عود ثقّاب بائس فَقَدَ نصف رأسه واحتكّ بعلبته البالية؛
ليشتعل نصف اشتعال، ثم يقاوم الريح؛ ليتقد فتيل اللّحظة.
فإن كانت الرواية لا
تحمل توقيعًا فاعْلم أنّها ثورة على المعقول، وكسر للمستحيل، ومفاجأة في زمن أصبح
يُوَسْوِس بالحكمة: لرجل أتقن فنّ الصّمود، والصّعود في آنٍ معًا.
ورغم كلّ ما يَشي بالضّجيج
واللّهفة، إلّا أنّي سأقترف الصمت، والانتظار إلى حين أن يملَّ الانتظار من وجودي.
شكرًا لك صديقي أبا هاشم لتذكُّر تلك اللحظة.
***
# بعد
سنوات الخدمة الطويلة انشقّ الجنرال انحيازًا لإنسانيّته أوّلًا، وسَعيًا لاستنشاق
نسائم الحريّة المفقودة.
كان
مختلفًا معروفًا بنظافة يده، وعفّة نفسه، مُلتزمًا بعهده للوطن.
تقرير المخبر:
- "إضافة
لما سَبَق؛ فهو مُنطوٍ قليل الاختلاط، دائم الجلوس في خيمته بعد انتهاء الدّوام.
مؤخّرًا قرأ روايتيْن (الشّراع والعاصفة - حنّا مينة) و (طواحين بيروت - توفيق
يوسف عوّاد).
برقيّة
عاجلة بإرسال الجنرال (أكرم) إلى قيادة التّشكيل العسكريّ التابع له .أُبلِغ من قائده المُباشر:
-"أنتَ
مطلوبٌ إلى قيادة الفرقة غدًا".
"-ما
الأمر سيّدي؟".
"-لم
يتّضح السبب في طيات البرقيّة".
استُنزِف
النّعاس من عينيْه احتسابًا لمصير مجهول. تكالبت الهواجس عليه من كلّ حَدَبٍ
وصَوْبٍ. كَدّه التّعب إرهاقًا فظيعًا. تطاولت ساعات ليله امتدادًا حَرِجًا على
مساحات فاقت سِني عمره بأعمار.
استرجع
شريط أقواله وأفعاله لم يعثر على خطأ ما، أعصابه ازدادت توتّرًا على وقع احتساء
القهوة المستمرّ. سحائب دخان سجائره تكاثفت غُيومًا في فضاء خيمته.
بلا
مبالاة بعدما أعيَته الحيلة، قال لنفسه مُعزّيًا:
"-ليكن
ما يكُن، سلّمتُ أمري لله، وعليه توكّلتُ".
الحاجب
الأنيق، طلب منه التريّض:
-"سيّدي.. عليكَ الانتظار لحين انتهاء المعلّم من إفطاره،
وتوقيع البريد".
حارتِ
الكلمات على لسانه تَلجلُجًا. حرّك رأسه اهتزازًا مُستجيبًا مُتّخِذا من الكنبة
الجلديّة مجلسًا.
نُعاس
مفاجئٌ قاهرٌ استولى عليه، غيّبه في دوّامة حُلُم مقابلة المعلّم الكبير؛ عندما
بادره بابتسامة عريضة فور دخوله المكتب الواسع الفخم:
- "يا
بني سمعتُ أنّك تقرأ باستمرار؛ هذا يعني أنّك مُثقّف، وقد رشّحتُك لموسم المناظرات
الحزبيّة بين فِرَق الجيش، عليك الاستعداد؛ ولن أرضى منكَ إلّا المركز الأوّل،
مفهوم..!!؟".
"-مفهوم
سيّدي".
-"أوصيتُ ضابط التوجيه السياسيّ بتزويدك
بكافّة المراجع".
- "حاضر سيّدي".
بعد
سنوات قاسية من فِراق الوطن، أخبرني الجنرال أكرم:
-"قرأتُ وحفظتُ كلّ شيء، وكَرهتُ الحزب؛ لأنّه لم يكن إلّا
سِتارًا للطائفيّة، وسُلمًا اتّخذوه لصنع آلهة الدكتاتوريّة التي أضفت الشرعيّة
على الانتهازيّين المتسلّقين نهبًا لمُقدّرات الوطن".
"-أوهامٌ لم تعْدُ أن بَقِيَت شعارات على ورق..!!
خدعت الجماهير".
رأيتُ الدّموع تترقرق في عينيه ألمًا على حياته الضائعة على
مدارج الخدمة العسكريّة المنحرفة عن مصلحة الوطن والمواطن.
***
# أنساني
التجوال بين شوارع المدينة ومتاجرها نفسي، ساعات عديدة قضيتها بحثًا بين مكتباتها
وبسطات بيع الكتب القديمة والجديدة على الأرصفة.
لا شيئًا مُحدّدًا بالضبط في ذهني
أبحثُ عنه، أقصى لحظات سعادتي لا تُضاهى إذا كانت مع الكتب وبينها.
وجهي
مألوف للباعة، تكبُرُ السّعادة في قلبي اكتمالًا؛ وهم يُرسلون إليٍّ ابتساماتهم
التي تشكّل لوحة لا مثيل لها متماوجة مع بشاشة وجوههم.
إلّا
واحدًا منهم مُختلِف، تذكّرتُ تكشيرة وجهه في زيارتي السابقة قبل شهر، وما زالت
تكشيرته في مكانها لم تتزحزح، تأمّلتُ تقاطيع وجهه الحادّة وذقنه العريضة، عيناه
العسليّتان تُخفيان خلفهما رِقّة وطيبة.
تَفرّستُه
بفُضولٍ طاغٍ على مشاعري. أحببتُه. سَابَقني إليه تَوَسُّمي فيه خيرًا قبل الحديث
معه.
بادرني
بعد أن قدّم لي كُرسيًّا خشبيًّا قديمًا: "أهلًا وسهلًا.. تفضّل أستاذ".
كأنّه
اسْتَشَفّ ملامح تعبٍ مُجهِدٍ من وجهي. فُرصةٌ جاءتني على طبق من ذهب دون سَعْيي
إلى التحدُّث معه.
وَاتَتْني
لحظة انسجام داخليّ للكلام بعد أخْذي نفَسًا عميقًا روّح ضيق صدري:
-"شكرًا على كرمك، طيبُ استقبالكَ مهّد الطريق بيننا غير آبهٍ
بتكشيرتك السّاكنة وجهك دائمًا".
كلامي
ترافق مع ابتسامتي ذات الدلالة له، بتواضعه الآسِر. قال:
-"هذه خلقتي أحاول الابتسام
قدر استطاعتي، مُستشعرًا صرامة تقاسيمي الحادّة في حالة صمتي، كثيرون أخبروني بذلك".
راح
يشكو لي بإسهاب طويل عن سوء الحال، وكساد تجارته أمام التقنيّات الإلكترونيّة، وعزوف
النّاس عن القراءة. لم أعِ إلَّا القليل منه، تفكيري ذهب بعيدًا في تحليلات علماء
النَّفس، وأقوال الحُكماء والوُعّاظ، تذكّرتُ حكمة دِمشقيّة: (إذا لم تستطع
الابتسامة.. فلا تشتغل تاجرًا).
قطعة
ورق مطويّة دحرجتها بين قدميّ نسمةُ هواء باردة. تردّدتُ في فضّ طيّاتها بعد
التقاطها. جحظت عيناي مُحاولًا فكّ طلاسم سوء خط كاتبها، وكثرة الكلمات المطموسة،
إلّا من آخر عبارة استجمعتُها بصعوبة، كأنّه نَسِيَها: )من
أبي رِغال إلى ابن العلقمي.(
داهمني
صمتٌ مُطبقٌ مفاجئ بإيحائها، كأنّ مَطْمُوسها ذو محتوى خطير، أظنّ أنّها حكاية
ثمان سنوات من الثورة السوريّة.
نسيتُ
وداع الرّجل، وشُكره على كرم ضيافته، وقد وصلتُ آخر الطريق قبل انعطافي في اتّجاه
بيتي، وصدى كلماته يُلاحقني.
***
# أعلن
رِدّته عن بَعْثِيَّتِه (العَفْلَقِيَّة) كما فعل سابقًا مع بِكداشيّته، نجا في
المرّتيْن من إقامة حكم الرِّدّة عليه.
قيل:
- "ماهرٌ في القفز من المركب..!!
والتجديف وصولًا إلى آخر سيتولّى قيادته".
لقاءاتٌ
جماهيريّةٌ تحاول سبر أغوار الحقيقة. أحدهم بلهجة واثقة:
-"انتهازيٌّ..!!".
آخر صارخًا:
-"أيّ دين جديد اعتنق..؟".
ثالثٌ
حاول تمييع الموقف، وإضحاكهم:
-"رياضة المشي على الحبال تستلزم الرّشاقة للتدرّب على القفز
عند اللّزوم".
ضحكٌ..
تعليقاتٌ غير واضحة.. همهماتٌ.
رابعٌ
حائرٌ:
-"من
أيّة طينة مجبول هذا البهلوان.. وعلى أيّ مذهب استقرّ أخيرًا؟".
بهُتت
صورته في الأعيُن.. ولمعت تألقًا مُبهرًا في التلفزيون.
***
# فساده
الإداريّ السّافر شكّل له فضيحة مُدوّية. أُنهيَت خدماته مطرودًا من وظيفته في أحد
الأجهزة الأمنيّة؛ محرومًا من كافّة حقوقه التقاعديّة، رغم خدماته الجليلة
والمُتفانية لأكثر من عشرين عامًا.
نُقل
عن لسانه:
-
"تمنّيتُ ذلك منذ زمن.. الآن ستنفتح آفاق الحياة في وجهي".
علّق
أحدهم هازئًا:
-
"ماشاء الله..!!.. من كتابة التقارير إلى كتابة الحجُب و عمل التمائم".
شامتٌ
بمصيره، بسبب أذيّة أوصلت ابنه للاعتقال:
-
"إنّ الله يُمهل ولا يُهمل.. أين ستذهب دعواتنا عليه في جوف اللّيل".
آخر
لم يستطع إلّا إظهار ما في داخله:
-
"ما الذي يُرتجى منه، وهو من كتب تقريرًا أسود مُحكمًا بابن عمّه؟، ولم يبق
بينه وبين حبل المشنقة إلّا خطوة".
خلع
بدلته الكوريّة الخضراء.. ارتدى جلباب الدراويش، وأرخى لحيته.. واعتمر عمامة بيضاء
ربط بطرفها قصاصة خضراء، واتّخذ له عودًا من شجرة رمّان لا يتعدّى طوله المتر.
بعد
سنتيْن على مشيخته ابْتَنى بيتًا فخمًا، تُزيّن بُوابته بلاطة رخاميّة بيضاء، كُتب
عليها:
-
"هذا من فضل ربّي".
والسيّارة
الخاصّة تصطفّ أمام البيت. قيل:
-
"إنّها من فضل وظيفته السّابقة".
وحدث
خلاف.. منهم من قال:
-
"أنا على يقينٍ.. أنّ البيت ليس من فضل الله..".
# في
الماضي.. لم أكنْ مُهتمّا بحفظ تاريخ ميلادي.. كانت أمّي تخبرني في بداية كلّ شتاء
من كلّ عام.. بلهجتها المُحبّبة إلى قلبي:
-"جِبتكَ (ولدتُكَ) سنة الصهاريج".
لم
يبق من يُريحني من عبء حفظ يوم ميلادي بالضبط، بعد موتها.
منذ
سنة، وأنا أردّدُ ما هو مُسجّلٌ في بطاقتي هُويّتي، بالكاد استطعتُ حفظه،
وتذكّرتُه في مثل هذا اليوم.
-
"كم أنتَ يا قلب أمّي..!! عظيمًا.. مُثقلًا بِحَملي خمسة وخمسين عامًا.. بلا
تأفّف..!!".
تبريكات
وتهاني بالكلمات الرّقيقة، ورموز خاصّة بأعياد الميلاد. رغبتي عارمة بالبكاء، علّ
الدّموع تطفىء لظى سنين عجاف.
سيّدتي..
تُكفكفُ دموعي، ووعدت:
-
"سأوقدُ لك شمعة..".
-
" سيّدتي.. أوَ تظُنّينَ لو أوقدت كلّ شموع الكون، هل تضيء زاوية معتمة في شخصٍ
مثلي..!!؟".
- "لن أدع فتيلة واحدة بلا نار".
- "سيّدتي.. الحزن يُداهمني.. وأنا لا أجد
مكانًا لإيقاد شمعة واحدة، الظلام دامس، ولا بصيص لجَذوةٍ تلوح من بعيد".
-
"يا سيّدي.. بكلّ الضوء الذي فيكَ.. لا تحتاجُ سوى أن تُغمض عينيك..!!".
أسدلتُ
جفنيّ لذاك اليوم.. ارتسمتْ صورة المسيح عليه السّلام، ونحن نولد معًا في ليلة
واحدة.. ونبراتُ أميّ تُؤطّر المشهد مُجدّدًا بتفاؤل، على وقع تراتيل روحانيّة:
-
"المجد لله في الأعالي.. وعلى الأرض السّلام.. وبالنّاس المسرّة".
***
# في وسط
البلد أثناء جولة مليئة بالحنين والشوق، طال انتظارها. كان القرار الأخطر في
حياتي؛ حينما اشتريتُ السيف البتّار من أجل تقشير الخيار.
التاجر
انخرط في نوبة ضحك هستيريّة مُعتبِرًا خُطوتي ساذجة.. تلبّسْتني ندامة الكُسَعيّ؛
لأنّه عرف بنواياي الحقيقيّة.
***
# إرضاء
لغروره الطّاغي، ابتلع جميع الحبوب الزرقاء الموجودة في أسواق الشرق الأوسط دُفعةً
واحدة؛ مارسَ فُحُولتَه في باب الحارة.
***
# أبو
لهب.. يَهُمّ بالانصراف.. أشار طالبًا (للمايكروفون).. كأنّما تذكّر شيئًا.
قال:
"وداعًا.. تصبحون على نصر جديد كلّ يوم..".
***
# صدمة
عظيمة، إثر إعلان وفاة الفارس المنهزم.
في
لحظة حاسمة قرّر الفرار على قدميْه.
خوفًا
من الفرار جاثيًا. على حدّ قوله في تصريح سابق له.
***
# حوارٌ
عاصفُ بين أبي جهلٍ وأبي لهبٍ.
وللتخفيف
من حِدّة النِّقاش.
قال
أبو جهل: «يا زلمة صلّ ع النبي».
ردّ
أبو لهب: «وهل نسيت أنّنا كفّار؟».
***
# طال
الحديث وتشعّب.. وما زلتُ أمشطُ رأسه الأصلع.. والأحاديث تتوالى بلا انقطاع منذ
أكثر من ساعة. والانسجام بادٍ على وجهه.
***
# وقفتُ
أمام محل صرافة، وبيدي ورقة نقدية كبيرة، المفاجأة أن حماري استغلّ انشغالي بسؤال
الموظّف؛ فخطفها، وابتلعها..!!
ما
الحلّ؟
***
# منذ زمن مضى.. لي رغبة جامحة بشراء حمار.. نعم
حمار حقيقيّ، وما الغرابة في ذلك؟.
ضاعت
حياتي على مدارج الفقر، على الأقلّ.. سيكون لي وسيلة للتنقّل، ولعلّه يُلهمني
بإبداع جديد، مثلما حصل لشيخ الأدباء (توفيق الحكيم)، وكتب أجمل أدبه في كتاب
(حمار الحكيم) و (قال لي حماري).
***
# ما إن تفتّح وعيُ عمر على وجه أبيه؛ حتّى اختفى.
عشرون عامًا مليئة بالحرمان، حرّقت قلبه بالسّؤال اليوميّ:
-
"أين أبي..؟". صدى صوته المخنوق بحسراته؛ يأتيه من بعيد كسراب. سيق إلى
الخدمة الإلزاميّة، زهوّ البدلة العسكريّة؛ أشعرته بالمسؤوليّة.
حكى
همومه لصديق آنس منه قُربًا، وبثّه أحزانه المكتومة؛ فأرشده إلى قلعة ضخمة ذات
أسوار عالية: "اسأل هناك".
توادعا..!!.
بعد ثلاث سنوات عاد عمر من سؤاله عن مصير والده. إلى النّقطة التي انطلق منها لإتمام
خدمته.
مُجدّدًا
سأله صديقه:
-
"هل عثرتَ على والدك؟".
فأجابه:
"نعم.. هو هناك بخير".
ما
إن انتهى من جوابه، حتّى شهق آخر أنفاسه.
***
# -
قال الشّعب:
-
".....!!"
جاء
الردّ:
-
"الآن عرفتُكم".
-
قال الشّعب: "لن أنحني.. ولن أنثني".
أحمالٌ
لا تُطاق من القتل والتشريد والدّمار أثقلت كاهله..
وتابع
الشّعب:
-
"لا عودة إلى الوراء".
جاء
الردّ:
-
"سأقطع.. ولن أرحم..!!".
قال
الشّعب:
-
"لا تَراجُع أبدًا".
الردّ
الفوريّ:
-
"سأشدُّ الحبلَ..!! يجب أن تسمعوني".
هتافاتٌ
صاخبة:
-
"ارحلْ.. ارْحلْ".
يتفتّت
صدى كلمات الخطاب في زحمة الهيجان.. ولعلعة الرّصاص، وما سمعوه.
هدوء
يلفُّ الغرفة.. الخطاب يُعاد ثانيةً عبر فضائيّة باب الحارة، وعلى مدار السّاعة:
-"أيّها
الشّعب العظيم.. لا تُتعِبوا أنفسكم.. الأمر محتوم.. عليكم الطّاعة.. حافظوا على
أوقاتكم.. أخاف أن تُبحّ أصواتكم.. فأنا سأخدمكم.. وأفكّر في مصلحتكم.. لأنّني
زعيمكم المُخلّص لكم من الإرهابيّين".
هجروه
إلى أقاصي الكون.. ولم يرحل.. وما زال خطابه يتردّد بوتيرة كسيرة لكن بحدّة نبرة
عالية.
***
# يجلسان
القرفصاء في زاوية غير بعيدة عن البوابة الرئيسيّة للحديقة، يتهامسان كلّما مرّ
زائر إزاءهما، عيونهما تُوَصْوِصان خلف نظّارتيْهما الدّاكنتيْن.
منظرهما
مثير للرّيبة والشكّ، نبّههما الحارس بصفّارته مُشيرًا لهما بحركة من يده، غادرا
المكان.
مسافة
متوسّطة تفصلهما عن هدفهما الذي هو عبارة عن شابّيْن أبكميْن، أفصحت عنهما حركات
يديْهما صعودًا للأعلى وهبوطًا، ويمينًا ويسارًا.
انتحى
جانبًا ذو نظّارة سوداء، كتب شيئًا على الواتساب، أخبر صديقه:
"
-أنّهما يشتُمان ويسبّان العقيد أبو شهاب، مؤكّد أنّهما ضدّ
الدّولة".
-"بلّغ
عنهما فورًا".
هزّ رأسه
باطمئنان، وقال:
-"لقد فعلت".
عادَةُ
الأبكمان.. أنّهما يتأمّلان الغُروب في موضعها اليوميّ المُعتاد. انسجام رهيب
يحتفيان به، والسّرور طافحٌ على وجهيْهما بِشرًا، وحركات أيديهم لا تزال مشغولة بالحركات
المُعبّرة.
بعد
ثلاث سنوات شُوهدا في مكانهما جامديْن، أيديهما مُسبلة بلا حراك. أعينهما تدور
ساهمة ببلاهة في الأفق.
***
برسم التأمل خواطر
تساؤلات لم أجد لها جواباً.. للآن
(1)
(1)
# عندما
كنت أنا وزملاء الدراسة في الصفّ العاشر العام 1980م، طلب منّا مدرّس التربية
القوميّة (الوطنيّة). قراءة وتلخيص كتاب (الجذور التاريخيّة للقوميّة العربيّة
تأليف عبدالعزيز الدّوريّ). وكان ذلك بمثابة نشاط نكسب منه علامة مشاركة، وهو ما
كنّا نطلق عليه (وظيفة شهريّة). لأن العمل فيها وإنجازها خلال مدّة شهر. أو
أسبوعين.
استعرت نسخة من أحدهم استطاع الحصول عليها من
شعبة الحزب، عندما وزّعوا الكتاب على الأعضاء العاملين. حيث أن الكتاب طبعته
القيادة القطريّة للحزب، وعمّمته على الفروع والشُّعَب في القطر.
فهمت أنّ القوميّة هم من القوم، وجاءت عربيّة
لأنها تخص أقوام العرب أجمع أينما كانوا، وفي أيّ زمان عاشوا، تجمعهم وحدة اللغة
والدين والتاريخ المشترك والجغرافيا الواحدة، ووحدة المصير، وهم مطالبون بتحقيق
الوحدة العربية التي لا مناص ولا بدّ منها، لتكوين دولة واحدة وقيادة واحدة، فتصبح
قوّة سياسية واقتصادية واجتماعيّة فاعلة في الكون، يُحسَبُ لها الحساب. والعربيّ
أخا العربيّ يساعده ويسانده مهما كانت الظروف ضد أيّ تهديد خارجيّ أو داخليّ.
توقّف بي قطار الدّهشة هنا، في محطّة كانت
الأخيرة لي، ولم أخرج منها بتفكير يُرضي قناعتي التي تشّربتها في صغري، خاصّة
عندما قامت الحرب الإيرانيّة العراقيّة في العام 1980م. ووقوف الجمهوريّة العربيّة
السوريّة مع جمهوريّة إيران الإسلاميّة.
النّقطة المهمّة أنّ سوريّة عربيّة، يحكمها
الحزب ذو التوجّهات القوميّة، تصطفّ إلى جانب قوميّة فارسيّة. كما أنّ سوريّة ذات
النهج العلمانيّ الذي يَصِف الدين بالرجعيّة، تتحالف مع نظام إيرانيّ بصبغة دينيّة.
***
(2)
# اصطفاف سوريّة مع
الأمريكان، عندما أرسلت الجنود السوريّين إلى صحراء حفر الباطن في المملكة العربية
السعودية. لمحاربة العراق وإخراجه من الكويت.
المثقّفون ذوو التوجّهات القوميّة لم أعلم، ولم أقرأ لهم تبريرًا
لمعضلتي التي أربكتني على مدى سنوات، أحدثت فجوة واسعة في تفكيري.
***
(3)
# أذكر
حينما كنت طالبًا في الصف السّابع 1977، أن كتاب التربية الوطنيّة كان يحتوي من
دروس لكل القضايا العربيّة والقوميّة، فالقضيّة الفلسطينيّة هي القضيّة العربيّة
المركزيّة، إضافة لقضايا سوريّة لواء إسكندرون السليب، وهضبة الجولان، وعلى نفس
النّسق قضيّة عربستان الأهواز وأرتيريا لا تقلّ أهميّة عن قضيّتيْ سورية.
بعد قيام الثورة الخميني
الإيرانيّة العام 1979، وبعد فترة قصيرة قامت وزارة التربية بحذف فصل قضيّة
عربستان من كتاب التربية الوطنيّة.
***
(4)
# بعد
الخلاف الذي حصل بين سوريّة وتركيّا 1998، على إثر قضيّة عبدالله أوجلان رئيس حزب
العمّال الكردستاني، ودعم الذي تقدمه سوريّة له.
حشدت تركيّا جيوشها على
حدودها الجنوبيّة، وهدّدت بالحرب، بعد فترة وجيزة فوجئنا وعلى شاشة التلفزيون
السوريّ، عند عرض خارطة سوريّة أثناء النشرة الجويّة التي تتبع مباشرة نشرات
الأخبار، بأنّ خارطة سوريّة فيها شيئًا ناقص، وبأنّ الحدود المعروفة تبدأ من وسط
خليج إسكندرون، بينما الخارطة بعد التعديل لوحظ أنّ نُقاط الحدود بجانب اسم مدينة
اللّاذقيّة مباشرة.
للآن لم أجد له تفسيرًا، وحيرة قاتلة تنهشُ قلبي..!!
***
# لا أدري
سبب اهتمامي بتعداد سِني عمري..!!؟.
ألأنّي مُستعجل الرّحيل.. أم أصابني الملل؟.
أتفهّم بكلّ أريحيّة:
"الصّغير يستعجل الشباب والرّجولة مُبكّرًا،
والازدياد من العمر..!!".
باعتقادي:
"العمر هو المقصود للامتلاء منه أو به..!!".
وقيل:
"لا تصبّ العمر في كأسيَ المكسور".
***
# كلّما مررتُ بذاك الزّقاق .. المُشبع اعوجاجًا
وضيقًا في معظم مراحله، واتّساعًا في أقلّها. المؤدّي إلى بيتنا القديم.. لا تنفكّ
ذاكرتي إلحاحها للاستجابة لأوامرها، عطر الياسمين المُعتّق من غابر أيّامي.. مازال
عابقًا في أنفي بلا منافسة.. ألمس بحنان حجارة الجدران العتيقة الوفيّة؛ فتثير
الأشواق الكامنة.. وكأنّ الياسمين يستعيد طزاجته للتوّ..
يا
لها من أيّام..!!
***
# تتمازج رغوتها مع بخارها بتحابّ العُشاق.. تماوجت
شهيّة الصباح بما وصلني من رائحتها على أثير بخارها.
عيناي
مغروستان في فقاعات رغوتها.. هدأ روع الفنجان. انتحرت الفقاعات جماعيًّا على عتبات
الصفاء.
وفقاعات
الحياة لا تفتأ اندثارًا بانتهاء صلاحيّتها. اختفاء أثر الفقاقيع مع أوّل رشفة لي.
لساني يتذوّق مرارة قهوة الصباح فداء لمرارة شهر قادم.
***
# منذ زمن مضى.. وأنا لي رغبة جامحة بشراء حمار.. نعم
حمارٌ حقيقيّ.
-
"وما الغرابة في ذلك!!؟".
فقد
ضاعت حياتي على مدارج الفقر.. على الأقلّ، سيكون لي وسيلة للتنقّل، ولعلّه يُلهمني
بإبداع جديد، مثلما فعل شيخ الأدباء توفيق الحكيم، وكتب أجمل كتبه (حمار الحكيم)
و(قال لي حماري).
***
# حين
أرشّ النّدى بلون عينيك..
يعود
الكونُ فجرًا بهيًّا..
تتجرّع
العتمة عطر أنفاسك..
بلسمًا..
***
# ما
بالُ الظلّ يتفلّت من إسار صاحبه.. ولا يستطيع. دائم النّزوع للحريّة.. يلامس حدود
الدّائرة وهو يهمّ بالمغادرة. يقفل عائدًا أدراجه طوعًا أو كرهًا مُتطابقًا مع
أصله، ومرّة أخرى يبرز عنها لأمر ما.. ما زال مجهولًا.
***
# المعصم يتباهى بالسّوار رغم أنّه قيدٌ.
السّوار
لم تتغيّر وظيفته وإن كان ذهبيًّا؛ فهو قيدٌ إن علا أو دنا. وهو مقيمٌ على وحدته
حُزنًا إذا افتقَدَ المعصم.
***
# اللَّوحة
والإطار صِنوان لا يفترقان.
الإطار
تأطير فيه جمالٌ وكمال، وهو حدٌّ وتحديدٌ.
ويأبى
إلّا البقاء قيدًا بطبيعة تكوينه ووظيفته، حاجزًا في وجه الانطلاق لآفاق رحبة من
الحريّة.
ضجيج
الألوان يحكي بلا توقّف، وتنكسر أنفته عند حدود الإطار، وتتقزّم امتداداته ضمن ذلك
استكانة لذوق البشر.
***
# وحدي أتقلّبُ على جَمْري. أكابدُ قلقي، وآلامي،
وأحزاني.
سأقصّرُ
من اندفاع خطواتي للأمام.
ربْما
يكونُ التّباطؤُ مفيدًا، وفيه فسحة للاستقرار على شيء واضح تمامًا.
***
# الغروب
لا يحول دون الشّروق. يتناوبان بانتظام بلا خَلَل أو كَلَل مَلَل، ففي كلّ دورتهما
اليومية الدائمة، نفرح ونحزن.. نكدّ ونتعب.. نصحو وننام.. نمارس الحياة بأقصى
طاقاتنا استزادة وتكثُّرًا، كأنّنا ننتقم منها لأنها تنقص من أعمارنا في كل دورة
لها. بلا تخطيط منا.
ونرجع
لإحصاء أعمارنا بعدد سنين محفوفين بقلق عليها خوفًا من نقصانها. فهل نحن معنيّون
حقيقة بإحصاء أنفاسنا؟.
نفرح
ونُهلّل لدخول عام جديد علينا، برأي هو البكاء عام انقضى منّا ولن نحصل على تعويض
بديل عنه. حياتنا تسير بين نقطتين.. الانطلاق وخط النهاية.. فلا مزيد وفوائد و
أرباح نجنيها بدخول عام جديد.
الأطفال
يحلمون بالشباب والرجولة.. والكهولة مكروهة على كل المستويات باستحقاقاتها وَهْنًا
وضعفًا. لا أدري أيّهما أجدى الفرح أمِ البكاء..
أأباركُ لك أم أستنكفُ!!؟..
***
# ما
المبرّر من تحوّل إنسان بعواطفه وأحاسيسه ومشاعره إلى صنمٍ جامدٍ مُتكلّسٍ مُنطوٍ
على ذاته، يُنظر إليه كتُحفةٍ أثريّةٍ قادمةٍ من عهودٍ بائدةٍ فاقدةٍ لمبرّرات هُروبها
من ماضيها إلى مستقبل الآخرين، ومزاحمتهم عليه.
قلق
الحاضر، والخوف من الخروج من إطار اللّوحة، دافعُ السّعيِ إلى الخلود.
فالمرحلة
الصنميّة معنىً للاستمرار والبقاء بصيغة أخرى، في الحياة المُتخفِيّة الرّتيبة حيث
توقّف الزمن، وتراكم الغُبار، وربّما أحدهم يلتقط صورة وعرضها للآخرين لأخذ العبرة
أو على سبيل التفاخر.
***
# سقط
الجواب من بين شفتي
مجروحًا
يقطرُ دمًا
نعم
تحجّرنا .. كأصنام الوثنيّة
والخلاء
من حولنا ضبابٌ كثيفٌ
والزمن
ماض كالسّكين يجتَثّ في أجسادنا الميتة
يبدو
أننا نحتاجها لنعلن للعالم صَمتنا المسكونِ بالظِّلال
وحُزننا
الغيبيّ في تعداد الجمادات.
***
عندما كنت ..!!
v
عندما كنتُ..
أخبروني أنّ للحيطان أذان.
v
عندما كنتُ..
خوّفوني بالشرطيّ.
v
عندما كنتُ..
علّموني أن العرب أمّة واحدة من المحيط إلى الخليج.
v
عندما كنتُ..
حفظت نشيد حُماة الدّيار.
v
عندما كنتُ
تهجّأتُ كلمة الوطن في أناشيد الشاعر سليمان العيسى.
v
عندما كنتُ..
أنشدتُ بأعلى صوتي: سوريّة يا حبيبتي.
v
عندما كنتُ..
كانت بلاد العُرب أوطاني من الشّام لبغدان.
v
عندما كنتُ..
علّموني أن ما
أُخِذ بالقوّة لا يُستردّ إلّا بالقوّة.
v
عندما كنتُ..
حفظتُ أنّ المسلم أخو المسلم، والعربيّ أخو العربي.
v
عندما كنتُ..
كان هناك باكستان الشرقيّة، وباكستان الغربيّة، رغم
تباعدهما جغرافيًّا.
v
عندما كنتُ..
أفهموني أنّ مصلحة الوطن هي العليا، وفوق كلّ المصالح.
v
عندما كنتُ..
أفهموني أنّ مصلحة المواطن واجب تحقيقها.
v
عندما كنتُ..
قالوا: أنّ الرّجل المناسب في المكان المناسب.
v
عندما كنتُ..
لا أعرف شيئًا، تطاولتُ بأحلامي خارج حدود الكون.
v
عندما كنتُ..
تمنيتُ أنّني لم أكن.
v
عندما كنتُ..
حفظتّ أنّ لكلّ داء.. دواءٌ يُستطبّ به، إلّا الغباوة
أعيَت من يُداويها.
v
عندما كنتُ..
تعلّمتُ أنّ حُبّ الوطن من الإيمان.
v
عندما كنتُ..
تعلّمت احترام مُعلّمي.. كاحترام أبي.
v
عندما كنتُ..
شاركتُ في عيد الشّجرة من كلّ عام، وفي كلّ سنة غرستُ
شجرة.
v
عندما كنتُ..
تعلّمتُ احترام الكبير.. والعطف على الصّغير.
v
عندما كنتُ..
تعلّمت إماطة الأذى عن الطّريق.
v
عندما كنتُ..
تعلّمتُ معاني الصّداقة.. وحافظتُ عليها.
v
عندما كنتُ..
هدرتُ وقتًا كبيرًا في اللّعب.
***
بارانويا
# ** بدأتُ
أدْرِك: أنّما للصداقة حدود، لا يجوز أن تتعدّى المُجاملات بالثناء والمدح.
**
كلّ نقدٍ لخطأٍ أو زَلَلٍ، أو مالا يروق
للصديق، أو حتّى المشاعر الخفيّة، خارج هذا السّياق مُؤكّد أنّ كلّ ذلك مرفوضٌ
قطعًا.
**
أتمنّى أن تكون مُلاحظتي خاطئة.. خاصّة عندما قيّمتُ تجربتي.. يبدو أنّني ذهبت
بعيدًا أكثر من اللّازم.
**
سأقطعُ لساني بعد ذلك.. في المرحلة القادمة.. وسأنحازُ للغباء؛ احترامًا للمُجاملات.
**
ورحم الله الإمام الشّافعيّ، حينما قال: (كلمةُ الحقّ لم تترك لي صديقًا).
***
# كنتُ
خائفًا على نفسي عندما انتابتني حالة صراع داخليٍّ لأسباب كثيرة لا مجال لذكر
تفاصيلها، ترافقت مع تقلّبات مِزاجيّةٍ. ربّما تحوّل بي الأمر إلى حالة جُنون
العظمة.
ببركة
العمّ جوجل، اطمأنَنْتُ على حالي، ووفّر عليّ الذهاب إلى الطبيب النفسي.. وتبعاته
الماديّة.
#
أجابني العمّ المحترم جوجل بكلّ تواضع:
**
كثيرًا ما نسمع لفظ «بارانويا» وغالبًا ما يكون مقترنًا بكلمة «جنون»، وهو حقًّا
كذلك؛ ولكن ليس بالمعنى الشائع للجنون.
**
فالبارانويا تعني «جنون الارتياب» أو «جنون العظمة».
**
ويعاني من هذا المرض الكثيرون حول العالم، وربما مجتمعات بأكملها. وللبارانويا عدة
صور وأنواع تختلف من حيث الأعراض وطرق العلاج.
**
البارانويا مرض نفسي يعاني من يصاب به من سيطرة أفكار ومعتقدات لها منطق خاص من
اختراعه. ويتسم سلوك مريض البارانويا بالشكِّ والريبة، والعناد المبالغ فيه لإثبات
صحّة معتقداته وأفكاره.
وتكون
ردود أفعال المريض مبالغًا فيها تجاه أيّ تصرف، وإن كان طبيعيًّا من الأشخاص
الآخرين؛ حيث يعتقد أنّهم يضطهدونه بشكل أو بآخر، أو أنّهم يتآمرون عليه ويسخرون
منه، حتّى إنّهم يُفكّرون في قتله.
كل
الشكر جوجل.. (منقول)
***
المؤلف في سطور
●
محمد فتحي بن قاسم المقداد.
●
تولّد 1964 بصرى الشام - محافظة درعا - سوريّة.
●
حاصل على شهادة الثانويّة العامّة، الفرع الأدبي 1982.
●
العمل في مهنة حلّاق رجّالي.
● الأعمال
المطبوعة:
- كتاب (شاهد على العتمة) طبع في بغداد، عام 2015.
- رواية (دوّامة الأوغاد) طبعت في عمّان ، عام 2016.
- كتاب (مقالات ملفّقة – ج1) طبع في عمّان ،عام 2017.
- رواية (الطريق إلى الزعتري) طبعت في عمّان، عام 2018
- رواية (فوق الأرض) طبعت في عمّان،
عام 2019
- مجموعة قصصيّة (بتوقيت بُصرى)
عام 2020
تمّ بعون الله توفيقه
كتاب
(بتوقيت بُصرى)