ضجيج(أقصوصة)
بقلم الروائي محمد فتحي المقداد
فكرةٌ عنيدة لا تُبارحه؛ حتّى تُعاوده من جديد؛ لِتسحوذَ على نوافذ عقله، وجوامع قلبه، في كلّ مرّة عند لحظة الكتابة يتوقّف لأسباب قاهرة خارجة عن إرادته، يستسلمُ لِخَوَر عزيمته، تنهارُ مُقاومة رغبته؛ فيُعرِض صارفًا النّظر عن الكتابة، اختلاطاتٌ غاضبةٌ مُشوبةٌ بالعجز الطّارئ عن المُتابعة، لم تمنعه من تكرار تجربته التي لم يستطع سكبها للآن في ورقة.
أهمل الموضوع رغم أهميّته: "لماذا لا أصرف النّظر عنه تمامًا، وأنتقلُ إلى شيء آخر"، انتفضَ جافلًا من غفلته، ارتعشَ جسمه باهتزاز ملحوظ، اِنْدلقَ قليلًا من فنجان قهوته على طرف الورقة، كأنّ الصّوت سمعه من آخر وليس من نفسه، بحركة لا إراديّة قام عن كُرسيّه مُستعجلًا، فتح الباب ثم أغلقه، أزاح السّتارة عن زجاج النّافذة، رأى خياله كشبح أسود، اِصْكّتْ ساقاه كاد أن يسقط مكانه في أرض الغرفة، استند للحائط، وهو يتحسّس أثر بَللٍ مُنسرِب بينهما. "الحمد لله إنّه تعرّق". أخذ نفَسًا عميقًا، وراح في إغفاءة بعدما تمدّد على سرير.
ما إن وصل إلى دوامِه صباحًا في دائرته الحكوميّة، وقبل القيام بأيّ عمل، تفقّد قلمه، والورقة أمامه على طاولة المكتب جاهزة تنتظر، أوّل نقطة طُبعت عليها أخذت موقعها في أوّل سطر.
عينا صاحب السّعادة في الصورة الكبيرة المُتربّعة تُراقبانه، حانَتْ منه التفاتةٌ إليها، تذكّر شيئًا مخبوءًا بنفسه منذ زمان، بتنّشجٍ واضحٍ يضغط بأصابعه على القلم؛ لإجباره على المُتابعة، فيضان بياض الورقة رفض النّقطة بمحو أثرها.
لسانُه تحرّك مُردّدًا: "الحمد لله".
يداه تمسحان وجهه لإزاله نوبة الكسل عنه، ذهب ثانية إلى النّافذة. طمأنينة عارمة غَزَت قلبه. حركاتُ قطّة المنزل المُثيرة بمُداعبة أوراق الأشجار المُتساقطة بفرح غامر، صاح عليها لتأتي. تذكّر حاله: "أوه..!! مازال صوتي باستطاعته أن يعلو".
من كتابي (دقيقة واحدة فقط)