الثلاثاء، 19 مايو 2020

قراءة على رواية (بيروت حبٌّ و حرب ) للروائي أكرم خلف عراق

الآلام عطر الكتابة

 

قراءة على رواية (بيروت حبٌّ و حرب ) للروائي أكرم خلف عراق

بقلم - (محمد فتحي المقداد)

 

ليس من السهل نبش الذاكرة التي علاها الصدأ، بتماهيها مع عوامل الزمن، وعادياته المستجدة على مدار الساعة، من منّا ممن أن يتذكر الحرب الأهلية اللبنانية في الظروف الحالية، أمام ما يحصل في سوريا والعراق واليمن وليبيا، الأمة تنحر على مذبح الحرية، مركبها ينوء تحت سياط العسكر، وأجهزته القمعية، في مثل هذه الظروف أتساءل دوماً: عن الثقوب في ذاكرتنا العربية؟، ننفعل بسرعة وننسى بنفس الدرجة.

أكرم خلف عراق، روائي من طراز فريد، متقن في استخدام أدواته للحد الأقصى، متمكن من لغته أدبياً، حاذق في نسج الحدث بأعجوبة تثير دواخل القارئ، فقد استغرقني في لُجّة الحدث، وكأني مشارك فيه كمقاتل أو شاهد، حبكة كثيفة بلا فراغات تجعل القارئ نهباً للشعور بالانقطاع في تسلسل البناء الدرامي، فقد رصد مجريات الحرب من خلال مشاهداته، وعمله كصحافي في بيروت إبان تلك الفترة المظلمة في حياة لبنان وأهله، وأخذ مجموعة من الشخصيات المتشابهة، فالجنرال (فريد دوريل) أحد أمراء الميلشيات المتصارعة بفعالية اليد الخفية التي تحركهم على الرقعة، والصحافي هو بنفسه مع الدكتور واصف فرحان شيوعي ستاليني قديم، و رئيس التحرير في جريدة يسارية، وفرح دوريل أخت الجنرال وكانت الزوجة الثانية لأكرم عراق، وقبلها ارتبط لمدة سنتين (بنجلاء سميح)، تعرف عليها في مستشفى، أثناء إنقاذه لطفلة  اسمها (حياة) من بين الأنقاض بعد تعرض بيتهم للقصف، كانت بنتاً للدكتور (محمد طلال)،  وهو أردني الجنسية كما هو أكرم، الذي جاء من عمان 1983 للعمل في السفارة الأردنية في بيروت، وأثناء انتقاله من عمان إلى بيروت، تعرف على الدكتور (واصف فرحان) من خلال رحلتهما في التاكسي، ومنذ تلك اللحظة أصبحا صديقين في خندق واحد هو الكتابة الصحفية.

وهناك شخصيات ثانوية، جاءت بها ضرورة البناء الدرامي، الضابط المسؤول عن ملف الاستجواب (جوني فارس)،  مع عدد من المخبرين، والمحامي (إيلي نفاع)) ممثل الدفاع عن أكرم عراق، وكانت معه (حياة) محامية متدربة، وهي الطفلة التي أنقذها أكرها، وأصبحت المحامية المتدربة،  ورشا رشدي زوجة الجنرال التي قتلته انتقاماً منه لأنه ثبت أنه هو من قتل والدها، من خلال الوثائق و الصور وشهادة مؤكدة من مساعد الجنرال فريد (شكري حكمت)، و كبير الخادم وديع الذي يعمل لدى الجنرال، و المحامي روبير نهار ممثل الإدعاء في المحكمة، و(نبيل حداد) الفنان الذي صنع مجسماً خشبياً بناء على طلب أكرم لإهدائه للجنرال فريد بمناسبة قبوله للدعوة بمناسبة عيد ميلاده الستين، وهي الحفلة التي قتل فيها الجنرال فريد، ومن غريب الصدف أن يسافر نبيل حداد إلى بريطانيا وموته المتزامن مع موت الجنرال فريد، وهو شاهد الإثبات الوحيد لبراءة أكرم عراق.

***

بيروت حبّ وحرب، رغم الموت المتمدد في شوارع وحواري بيروت، ستبقى هي مدينة الحب، وفيها متسع وافر للمشاعر بأن تنتعش وتنمو في هكذا أجواء. فآخر عبارة في الرواية: ( أريد أن أفتح نافذة القمر، ونافذة شفتيكِ كي أتجوّل مع ملائكة القلب بين كنائس السلام، ومآذن المحبة، أريد أن أكتبَ على شجرة الأرز هذه العبارة، مستذكراً قول الشهيد جبران تويني "عشتم وعاش لبنان")، وفي موضع آخر، يقول: (الأرزة هي شجرة لبنان، وهي شجرة الحرية)، و(السلاح ليس هو الحل)، و(بيروت هي شمس الكتابة، بل هي شمس الشموس)، هذه فلسفة بيروت التي استقرت في وجدان العالم والعرب، بهذه السمات خاض أكرم عراق غمار تجربته المتميزة في ترسيخ مفاهيم بيروت في ذهن القارئ، بحيث لا تتزحزح أبداً، وأن الحب سينصر، كما انتصر به اللبنانيون أخيراً بعد صراع دامٍ لسبعة عشر عاماً، حافلة بالمفاجآت، من اجتياح اسرائيل لها، والمجازر  السوداء في جبين جنرالات الحرب الطائفية التي قادوها نيابة عن أسيادهم هناك وراء الحدود.

***

(التاريخ عندما يعطس في وجه الحضارات، فهو يكون كالبركان يصرخ من رحم الأرض لحظة الولادة)، الحرب صارت من الماضي، وبقيت ذكرى في قلب من عاصرها، أجيال ما بعد الطائف لا علاقة لها بما حصل، فهي لا تتذكر هذه المآسي، إلاّ اسمها فقط، وهي تعيش على (بسكويت العولمة، الغذاء المتوازن لكل الأنظمة السياسية في العالم، وخبز الثورة أصبح لا يصلح للأكل، ربما لأن فترة صلاحيته قد انتهت)، رؤية أكرم عراق، اخترقت أعماق الواقع سبْراً وتمحيصاً، فهو مراقبٌ للتحولات بحذافيرها، راصد لحيثياتها وجرائرها الثملة باستعمار من نوع جديد، ليعود قائلاً: (كتبت عن آخر دبابة مُرضع للديمقراطية في بغداد، وهي آخر مقالة في الأسبوع الماضي، كتبتُ فيها عن قشور البطاطا العراقية، وكيف أنها تختلط يومياً بالدماء وسعال القتلى)، وبعد مرحلة توقف الحرب الأهلية اللبنانية الطائفية: (لجأ جنرالات الحرب إلى استخدام مكياج سياسي خاص، لإزالة بقع العار التي تلطخ وجوههم وحواف أحذيتهم، أما البعض الآخر، فقلد استخدم مساحيق غسيل مستوردة من الخارج، لتنظيف الطبقة الخارجية للبشرة، ولكن بالطبع بلا جدوى، وأكثرهم غباء، أولئك الذين استعاضوا عن ذلك بإجراء عمليات تجميل، لاقتلاع الطائفية من مقدمة أنوفهم، ولكن للآسف، اقتلعوا أنوفهم ولم يقتلعوا الطائفية)، و منذ البداية ركز أكرم عراق على أن(أن السلام ليس هو الحل)، بدأت الحرب بإرادة خارجية ضمن معادلة الحرب الباردة، كذلك وتوقفت بإرادة دولية ضمن توافق مصالح القطب الواحد، وبذلك كان المولد الجديد "الطائف"، مرحلة جديدة غيّرت الوجوه المنهكة، واستبدلتها بميليشيا من نوع آخر، لا تحمل السلاح، بل حملت شعار الإعمار، فقادة الميلشيات من الجنرالات، قتلوا وهدّموا، وجاء دور ميليشيا الإعمار لتسولي على ما تبقى من أمل في مستقبل لبنان الاقتصادي، فوضعته تحت وطأة الديون الخارجية، واستعمار البنك الدولي، وشروطه المجحفة في مصادرة حق الشعوب في الحياة الكريمة.

***

 

و في محاور السرد الروائي، فإن أكرم عراق كما يقول، فقد وقع في حب ممرضة شقراء(نجلاء سميح)، تزوجها وعاشا لمدة سنتين، إلى انتهت حياتهما عندما أصيبت بمرض نفسي، وبقي ضميره يعذبه عليها، ومن بعد ذلك إلى (فرح دوريل) أخت الجنرال فريد دوريل، الذي فرض عليها بقوته وسطوته فيما بعد بالانفصال عن أكرم عراق، وهو الصحفي الذي كان يهاجم الجنرال بكل شراسة، ودون هوادة، ولم يأبه بتهديدات الجنرال المتكررة، فيقول أكرم: (إني روائي بمرتبة الملائكة، أنني لن أكون يوماً في يوم من الأيام في زمرة القتلة، ممن صلّوا للشيطان، وليس للرب، فاختاروا أن يصلّوا داخل أحذيتهم العسكرية، في الوقت الذي كنتُ أصلّي للرب وليس للشيطان، إن قادة الميليشيات أطلقوا النار على لبنان، وتمادوا بأن تركوه قتيلاً، وفقاً لما كانت تمليه عليهم شرعية خفافيش الليل، ولذلك هم في نظري بحق هم أبناء الشيطان، وليسوا أبناء لبنان).

جاءت مرحلة ما بعد الطائف، وكان دور مساحيق التجميل، فأراد الجنرال تغيير صورته، بإنشاء "مؤسسه فكرية اجتماعية سياسية تعنى بمحارب الطائفية"، ومن خلال مناسبة احتفال الجنرال بعيد ميلاده الستين، اراد إطلاق هذا المشروع، وأن يعهد للصحفي أكرم عراق برئاستها، عيد الميلاد هذا جمع أعداء الجنرال جميعاً، وكانت نهايته على يد زوجت رشا رشدي، التي تأكدت أن زوجها هو قاتل والدها، استخدمت سماً قاتلاً بتركيز عالٍ، دهنت به باردة كانت على طاولة الصالة، وتلمسها كثيراً أثناء حديثه مع أكرم، وظن الجنرال أنه زيت سلاح، وجاءت لائحة الاتهام لتوجه الاتهام إلى أكرم رغم أن البارودة التي قدمها للجنرال مجسم خشبي، وكذلك نجلاء سميح الخادمة في قصر الجنرال، وزوجة أكرم السابقة دسّت السُم للجنرال في كأس لم يستخدمها في شرب الخمر، وأكرم عدوه الشرس، فالجنرال هو سبب تعاسته في حياته الزوجية في المرتين. وكثير من السياسيين امتهنوا(مزاولة مهمة العمل السري في مراحيض الطائفية)، (خاصة في موسم التزاوج من الكرسي المسحور، و الذي يجب أن يُصَمّمَ  بمقاييس معين تناسب مؤخرة الأمين العام، وهو الرجل الذي سوف يجلس على ذلك الكرسي ليشغل هذا المنصب).

أخيراً، وليس آخراً، رواية "بيروت حبُّ وحرب" أيقونة تميس في ضمير الأمة، و علامة فارقة في مرحلة مظلمة من حياة لبنان، و تنير درب المستقبل، من خلال فضح الطائفية المقيتة وويلاتها على البلاد و العباد، والوطن للجميع. هذه قراءتي، ولكل مجتهد نصيب.

 

عمّان – الأردن

12 \ 4 \ 2016

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق